فصل: فصل: يجمع أحكام الجناية في العبد المغصوب بأصولها وفروعها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يجمع أحكام الجناية في العبد المغصوب بأصولها وفروعها:

4599- فنذكر التفصيل في جناية العبد المغصوب، ثم نذكر الجناية عليه.
فإن جنى العبد المغصوب، نُظر: فإن كانت جنايته قتلاً موجباً للقصاص، فإذا قُتل قصاصاً، غرِم الغاصب للمالك أقصى القيم من الغصب إلى يوم الاقتصاص.
وإن كانت الجناية على طرفٍ، وكانت موجبة للقصاص، فإذا قطعت يده قصاصاً، وكان قطع يداً، فنجعل ذلك بمثابة ما لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. ولو كان كذلك، نظر: فإن كان ما نقص من قيمته نصفُ قيمته، فهو الواجب على الغاصب.
وإن كان أكثرَ من النصف، وجب ما نقص، وإن زاد على أرش اليد. وإن كان
النقصان دون نصف القيمة، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب فيه، والأظهر أنه لا يجب إلا ما نقص؛ فإن أرش الطرف إنما يتقدر على الجاني، والغاصب ليس جانياً.
ومن أصحابنا من ألزمه المقدَّر، وإن زاد على ما نقص من القيمة، وأحله محل الجاني.
ولو كانت جناية العبد موجبة للمال، فالأرش متعلق برقبته، ثم يجب على الغاصب تخليصه بالفداء. ثم ذكر الأئمة فيما يفديه الغاصب به القولين المشهورين:
أحدهما: أنه يفديه بأقل الأمرين: من الأرش والقيمة.
والثاني: أنه يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ. والقولان يجريان في الغاصب جريانهما في المالك إذا أراد أن يفدي عبده الجاني.
فإن قيل: قول الأرش إنما يتجه في حق المالك؛ من جهة امتناعه عن بيع العبد، مع التمكن منه، وكنا نجوز أن يعرض على البيع، فيشترى بمبلغ الأرش، فكان المنع من البيع سبباً في التزام الأرش، والغاصب لا يتمكن من البيع، فكيف يقدر مانعاً؟ قلنا: هو بغصبه مانعٌ مولاه من بيعه، فصار ذلك سبباً في تضمينه، ونُزِّل لأجله منزلة المالك، ثم إذا ثبت وجوب الفداء عليه، ابتنى عليه توجه الطَّلِبة على الغاصب، من جهة المجني عليه، وسيزداد هذا وضوحاً في تفاصيل المسائل.
هذا بيان قاعدة الحكم في جناية العبد المغصوب.
4600- فأمّا الجناية عليه، فلا يخلو الجاني إما أن يكون هو الغاصب أو أجنبي، فإن كان هو الغاصب، نُظر: فإن قَتلَ العبدَ المغصوبَ فعليه القيمة، كما تقدم تفصيل قيمة المغصوب.
وإن جنى على طرفه، فقطع يده، والتفريع على أن أرش أطراف العبد تنتسب إلى قيمته، نسبة أروش أطراف الحر إلى ديته، فقد اجتمع موجِبان للضّمان: أحدهما: اليد.
والثاني: الجناية؛ فينتظم من اجتماعهما أن نوجب أكثر الأمرين: من النقصان، والأرش المقدر. فإن كانت قيمة العبد ألفاً، وقد قطع الغاصب يده، نُظر، فإن نقص من قيمته أربعمائة، فيلتزم الغاصب خمسمائة، لكونه جانياً. وإن نقص خمسمائة، فقد وافق النقصانُ المقدَّر، فيلزمه خمسمائة. وإن نقص ستمائة، ألزمناه ستمائة، لمكان اليد. وهو ضامنٌ بسببين، فننظر إلى أكثر الموجَبين.
وإن كان الجاني أجنبياًَ، وكانت الجناية نفساً، فعليه القيمة، والمالك بالخيار إن شاء ضمّن الغاصب، وإن شاء ضمّن القاتل، فإن ضمّن القاتل، لم يرجع على الغاصب، واستقر الضمان عليه. وإن ضمن الغاصب، رجع بما ضمنه على الجاني؛ فإن منتهى الغرامات الإتلافُ، واليد سببٌ، فإحالة قرار الضمان على ما يحقق التفويت، وهو الإتلاف.
وإن جنى الأجنبي على طرف العبد، فقطع يده، نظر: فإن كان ما نقص مثلَ المقدَّر، فإن كانت قيمته ألفاً، فنقص بقطع إحدى اليدين خمسمائةٍ، وجبت خمسمائة، والمالك في التضمين بالخيار، كما قدمنا، وقرار الضمان على الجاني.
وإن كان ما نقص أقل، بأن كان أربعمائة، فإن اختار تضمين الجاني غرَّمه خمسمائةٍ، ولا مرجع له على الغاصب. وإن أراد تضمين الغاصب، فقد قدمنا أن يد العبد المغصوب، إذا سقطت بآفةٍ، أو قُطعت قصاصاً، أو في سرقة، وكان النقصان أقلَّ من المقدّر، ففي المسألة وجهان: أشهرهما- أنه لا يجب على الغاصب إلا النقصان. وفيه وجه آخر.
وقال المحققون في المسألة التي نحن فيها، وهي إذا جنى أجنبي على العبد، فقطع يده، وغرّمناه نصفَ القيمة، خمسمائة: لو أراد المالك تغريمَ الغاصب، غرّمه خمسمائةٍ؛ فإن اليد قُطعت بجهةٍ تُضمن فيها بخمسمائةٍ، وجرى هذا في يد الغاصب، فتوجَّه عليه خمسمائةٍ اعتباراً بما يلتزمه الجاني، وليس كذلك لو قطعت في حدِّ؛ فإنها لم تقابل بمالٍ، وكذلك إذا سقطت بآفةٍ سماوية، وهذا حسن فقيه.
ومن أصحابنا من خرّج وجهاًً مثلَ ما ذكرناه في قطع اليد في السرقة، وقال: ليس الغاصب جانياً حتى يتقدّر عليه الأرش. وإنما ضمانه باليد الغاصبة. والأصل في ضمان اليد اعتبارُ النقصان: نَقَص من المقدّر، أو زاد عليه. ولا خلاف أنه لو نقص من القيمة ستمائة، فالغاصب مطالبٌ بها، لمكان يده. ثم إن طالب المغصوبُ منه الغاصبَ، طالبه بستمائة، وهو يرجع على الجاني بخمسمائة، ويستقر الضّمان عليه في المائة الزائدة، فلا نجد بها مرجعاً. وإن طالب الجاني، لم يطالبه إلا بخمسمائةٍ، ويطالب الغاصب بالمائة الزائدة.
4651- ولو غصب عبداً، وسرق في يده، وقُطِع، غرِم الغاصب للمالك ما نقص في ظاهر المذهب.
وكذا لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. وهذا تقدم ذكره. وقيل: يضمن الغاصب أكثر الأمرين من المقدّر وما نقص، تغليظاً للأمر عليه.
ولو غصب عبداً سارقاً، استوجب القطع بالسرقة قبل الغصب، فقُطع في يد الغاصب، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يضمن شيئاًً؛ لأن القطع وقع بسببٍ متقدم على الغصب، والثاني: يضمن؛ لأن القطع جرى في يده، فلا نظر إلى ما تقدم.
وهكذا لو غصب مرتداً، فقتل بالردة، وقد سبقت الغصب، ففي وجوب الضّمان وجهان. وهذا ينبني على نظائرِ ذلك في الشراء.
ولو اشترى عبداً مرتداً أو سارقاً، فقتل في يده، أو قُطع، فما جرى محسوب على البائع، لتقدم سببه على قبض المشتري، أو هو محسوب على المشتري لوقوع الهلاك أو النقصان في يده؟ فيه الخلاف المشهور.
وهذا الذي ذكرناه قاعدة الجناية على العبد المغصوب.
4602- وقد ذكر ابنُ الحدّاد فروعاً، وراء تمهيد الأصول، ونحن نأتي بها فرعاً فرعاً، إن شاء الله تعالى.
فمنها: أن قال: إذا غصب الرجل عبداً، فجنى العبدُ في يد الغاصب جنايةً تستغرق قيمتَه، فيتعلق الأرش برقبته، كما قدمناه. فلو مات العبد في يد الغاصب بعد ذلك، فالمالك يطالبه بقيمة العبد، وهو ألف مثلاً، لا يطالبه بأكثرَ منه. ثم إذا أخذ الألفَ، فللمجني عليه أن يتعلق به، ويقول: كان حقي متعلقاً برقبة العبد، وقد مات مضموناً، فيتعلق بقيمته، كما كان متعلقاً برقبته. وهو بمثابة ما لو أتلف متلفٌ العينَ المرهونة، والتزم القيمة، فحق المرتهن يتعلق بها، كما كان متعلقاً بالعين المرهونة.
ثم إذا أخذ المجني عليه من المالك الألفَ، فالمالك يرجع على الغاصب، ويقول: لم تَسْلَم لي القيمة، وأُخذت مني بسبب جناية حدثت في يدك، فيغرَم له الغاصب القيمة مرة أخرى، وتخلص له القيمة هذه المرة.
ولو قال المالكُ للغاصب أولاً: اغرم لي قيمتين؛ فإن إحداهما مستحقة، فليس له ذلك أصلاً، ولكن يطالبه أولاً بقيمته، كما رتبناها، فإن أُخذت منه عن جهة الجناية، رجع على الغاصب بقيمةٍ أخرى. فلو أبرأه الجاني وأسقط حقه بالكلية، فلا مرجع له على الغاصب؛ إذ قد سلمت له القيمة التي أخذها.
ولو كانت قيمة العبد ألفَ درهم، والجناية خمسمائةٍ، والمسألة بعد ذلك كما صورناها، فيغرم الغاصب ألفاً، ثم إذا أُخذت منه خمسمائة، رجع بخمسمائةٍ، وهو القَدْر الذي لم يسلم للمالك، وهذا بيّن.
ثم ظاهر كلام المشايخ أن المجني عليه لو لم يطالب المالكَ، وفي يده القيمة، وأراد مطالبة الغاصب بأرشِ الجناية، فله ذلك. وهو بالخيار إن شاء طالب الغاصب، ولم يتعرض للمالك، وإن شاء اتّبع القيمة التي أخذها المالكُ من الغاصب، ثم المالك يرجع على الغاصب، كما سبق التفصيل فيه.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن المجني عليه لا يطالِب المالكَ، وإن قبض
القيمة، فليطالب بحقه الغاصبَ، ولا يتبع القيمة التي أخذها المالك، حتى قال هذا القائل فيما حَكى: لو قبض المالك القيمةَ، وعسر على المجني عليه الرجوعُ على الغاصب لإعساره، أو بسبب آخر، لم يكن له أن يتعلق بالمالك، وإن أخذ القيمة.
وهذا بعيدٌ مزيف؛ فإن القيمة في كونها متعلقاً للأرش، تنزل منزلة العبد، كما لو بقي، كما ذكرناه في قيمة المرهون.
ولا نعرف خلافاًً أن العبد الذي يساوي ألفاً، لو جنى في يد الغاصب جناية أرشُها
ألف درهم، ثم لم يمت العبد واسترده مالكه، فالمجني عليه يتبع العبد إن أراد، ثم إذا رجع إلى حقه، فحينئذٍ يرجع المالك على الغاصب، على الترتيب الذي ذكرناه.
4603- ومما فرّعه أنه إذا جنى عبدٌ في يد سيده جناية أرشُها ألف، وقيمة العبد ألف، فغصبه غاصب، ثم استرده المالك، فلا شيء على الغاصب بسبب الجناية، فإنها لم تجر في يده، وقد رد العبد كما أخذه.
فإذا جنى العبد في يد السيد، كما صورناه، فلما غصبه الغاصب جنى في يده أيضاً جناية أرشُها ألف، ثم استرده المالك من الغاصب، وباعه في الجناية بألفٍ، فإنه يقسم هذا الألفَ بين المجني عليه الأول وبين الثاني نصفين: لكل واحد منهما خمسمائةٍ، ثم يقول للغاصب: قد سلمتُ إلى المجني عليه في يدك خمسمائة، فاغرمها لي فيغرم له خمسمائة، فإذا أخذها سلمها بكمالها إلى المجني عليه الأوّل، لا يساهم فيها المجني عليه الثاني، وقد انقطعت الطَّلِبَات، فلا طَلِبة للمجني عليه الثاني على أحد، ولا طَلِبة للسيد على الغاصب في هذه الكرّة؛ فإنه سلم هذه الخمسمائة الأخيرة إلى جهة الجناية الأولى، وقد اتفقت تلك الجناية في يده.
هذا ما صار إليه الأصحاب.
فإن قيل: لم خصَّصتم بالخمسمائة الثانية المجني عليه الأوّل، وقسمتم الألفَ الأولَ عليهما؟ وقد أجمع العلماء على أن الألف الأوّل مقسومٌ على الجنايتين: لا يختص الأول منهما بشيء دون الثاني، فهلا قسمتم الخمسمائة الثانية بينهما، كما قسمتم الألفَ؟
قلنا: لا سبيل إلى ذلك: أمّا الألف، فمقسومٌ بينهما؛ فإنه قيمةُ العبد، ولا فرق في القيمة بين المجني عليه الأوّل، وبين المجني عليهِ الثاني؛ فإن التقدم والتأخر لا يوجب تقديماً ولا تأخيراً في الازدحام على القيمة. وإنما اختص المجني عليه أولاً بالخمسمائة الثانية؛ لأن سببَ وجوب هذه الخمسمائة الغصبُ، وهو متقدم على الجناية الثانية، متأخرٌ عن الأولى. فإذا كان سببُ ضمان الخمسمائة بعد بذل القيمة الغصبَ المتقدّم على الجناية الثانية، كان ذلك بمثابة ما لو جنى عبدٌ قيمته ألفٌ جنايةً أرشُها ألفٌ، ثم قطعت يد العبد، ووجب أرشها، ثم جنى العبد، بعد ما قطعت يدُه جنايةً أخرى، أرشها ألف، فيتخصص المجني عليه الأوّل بأرش اليد التي قُطعت من العبد الجاني، فجعل الأصحاب تقدم الغصب على الجناية الثانية، بمثابة تقدم قطع اليد على الجناية الثانية.
هذا ما ذكره الأئمة.
4604- ونحن نوجّه عليه سؤالاً ونجيب عنه.
فإن قيل: ليس الغصبُ المتخلل بين الجنايتين بمثابة قطع يد الجاني المتخلل بين الجنايتين؛ فإن العبد إذا جنى، فقطعت يده، فقد صادف القطعُ متعلَّق الجناية الأولى، ثم إنه بعد قطع يده أقدم على الجناية الثانية، فلم تصادف الجنايةُ الثانيةُ اليدَ من العبد الجاني، فيستحيل أن يكون لها تعلق بأرش اليد، وليس كذلك تخلل الغصب بين الجنايتين.
وربما عضد السائل السؤال بأن قال: جنى العبد الجناية الأولى، وقيمته ألفٌ، وجنى الجناية الثانية، وقيمته ألفٌ، ولا أثر للتقدم والتأخر في ازدحام الجنايات، ثم الألف المقسوم على الجنايتين لم يوفِّر حقَّ الجنايتين بكمالهما، فاختصاصُ المجني عليه الأول بالخمسمائة الأخيرة، كيف يتجه؟
وهذا السؤال فيه إشكال. والوجه الممكن في الانفصال عنه أن يقال: إن المجني عليه الأول يقول: كان حقي مستغرقاً لرقبة العبد، فلمّا غصبه الغاصب تعرض بغصبه لضمان حقي، وهو الألف، فلما جنى جنايةً في يد الغاصب وأُخذ الألفُ، وقُسّم بيننا، فالخمسمائة التي توجهت بها الطَّلِبة، إنما تثبت لأن المجني عليه الثاني أخذ من الألف الأول نصفه، فلم تسلم الألفُ الداخل في ضمان الغاصب، فإذا غرِم الخمسمائة، كانت تتمة الألف الداخل في ضمانه لما غصب، وذلك الألف مستحق للمجني عليه الأول، فليصرف إليه.
هذا منتهى الإمكان في الانفصال.
وفي الإشكال بقية، وذلك أنا نقول: لا مطمع في فضّ الخمسمائة عليهما؛ فإن هذا يجر محالاً لا يستأصل، ولا سبيل إلى قطعه، وذلك أنا لو قسمناها، لرجع المالك بما يخص المجني عليه في حالة الغصب، ثم كان يفضّ ذلك ثالثاً، ويقتضي رجوعاً، ويدور الأمر إلى غير منقطعٍ.
وربّما توجه الإشكال من وجهٍ آخر، وهو أن يقال للمجني عليه الأوّل: كنتَ على استحقاق ألفِ لو انفردتَ، فإذا جرت الجناية الثانية، فقد زوحمتَ في الألف، بناءً على أن المستأخر من الجناية كالمتقدم. وإذا ازدحمتما في الألف، فالخمسمائة إنما وجبت على الغاصب لمكان الجناية الثانية، الجارية في يد الغاصب، فاكتفيا بالألف، ولتسلم الخمسمائة للمالك.
وهذا له اتجاه من طريق الاحتمال من غير نقل.
والذي نقله الشيخ عن وفاق الأصحاب ما قدمناه. ثم ذكر الشيخ وجهاً آخر هو في التحقيق عَضُدُ المسلك الأول، على مبالغة، وذلك أنه قال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الألف الذي يأخذه أول مرة يصرفه بكماله إلى المجني عليه الأول، لا مساهمةَ فيه للمجني عليه الثاني، ولا طلبة للمجني عليه الثاني على السيد، ولكنه يطالِب الغاصبَ بخمسمائة؛ تحقيقاً لما ذكرناه من أن الغاصب ضمن قيمة العبد بكمالها للمجني عليه الأول.
وهذا بعيد جداً. وقال الشيخ في إتمام حكاية هذا الوجه: لو جرت الجنايتان على الترتيب الذي ذكرناه، ولم يمت العبد، واسترده المالك، وباعه بألفٍ، صرف الألف إلى المجني عليه الأوّل، ولا تعلق للثاني إلا بالغاصب. وهذا لا يُشك في بطلانه؛ فإن رقبة العبد متعلَّقُ الجنايتين، فكيف يخص بثمنه الأولَ. هذا منتهى الكلام.
4605- صورة أخرى: لو جنى العبدُ في يد الغاصب أولاً، وما كان جنى قبل ذلك، والأرش ألفٌ، فاسترده السيد، وجنى ثانياً جناية أرشها ألف. قال الشيخ: يباع العبد بألفٍ، ويدفع إلى الذي جنى عليه في يد الغاصب خمسمائة، وإلى الثاني الذي جنى عليه في يد السيد بعد الاسترداد خمسمائة. ثم يرجع المالك بخمسمائةٍ على الغاصب؛ فإنه غرِمها بسبب الجناية التي صدرت في يده، ثم يسلم هذه الخمسمائة إلى المجني عليه في يد الغاصب؛ فإنه السابق في هذه الصُورة بالاستحقاق، ثم يقول للغاصب: قد أُخذت مني الخمسمائة الثانية بسبب الجناية التي حصلت في يدك، فيغرِّمه خمسمائة أخرى، ويستبد بهذه الخمسمائة، ولا طَلِبة عليه فيها. هذا ما حكاه.
قال: وراجعت القفال في هذه المسألة، فقال: إذا استرد العبدَ وباعه في الجنايتين، ودفع إلى كل واحد خمسمائة، فيغرَم الغاصب خمسمائة أخرى، ويستبد بها المالك من غير مشاركة، وقد انقطعت الطَّلِبات. وعلل بأن قال: لما غُصب العبدُ، فقد ثبت للسيد حق القيمة أولاً، ثم لما جنى العبد في يد الغاصب، ثبت له الأرش ثانياً، ثم لما جنى في يد السيد ثبت ذلك ثالثاً، فلما بعنا العبدَ، قسمنا الألف بين المجني عليهما، وما يغرَمه الغاصب ينفرد به المغصوبُ منه؛ لأن حقه أسبق.
قال الشيخ: حق المالك وإن كان أسبق، فيقدم حقُّ المجني عليه على حقه، كما يقدم حق المجني عليه على ملك المالك في العبد.
ثم قال: ناظرت فيه القفال، فرجع إلى قولي.
والذي يحقق ما ذكره الشيخ، ويفصل بين هذه الصُّورة وهي إذا سبقت جنايةٌ في يد الغاصب، ولحقت جنايةٌ بعد الاسترداد في يد المالك، فنعلم علماً كلياً أن العبد لمّا غصبه، وكان بريئاً، فجرت جنايةٌ أرشها ألف في يد الغاصب، وطرأت الجنايةُ في يد الغاصب من عبد كان غصبه، ولا جناية في رقبته، فلابد وأن يغرَم مع العبد ألفاً، ثم الكلام في مصرف الألف، كما فصله الشيخ، والغصب جرى في الصُّورة الأولى في عبد جانٍ مستحَق القيمة، فلا يلزم الغاصبَ بذلُ الألف، لتخلص الرقبة للمالك، والزحمة ثابتة في الجناية. ولا يستريب الناظر على الجملة أن الغاصب في المسألة الأخيرة لا يتخلص ما لم يغرَم ألفاً، ثم تفصيل القسمة وسلامة الخمسمائة كما تقدم.
والإشكال الدائر في المسألتين أن ازدحام الجنايتين يوجب حصرَ حقَّي الجنايتين في ألف واحد. وهذا هو الذي ذكره في المسألة الأولى، وأشار إليه القفال في المسألة الثانية، فإذا انحصر حقاهما في الألف، وجب من ذلك في المسألة الأولى استبدادُ المالك بالخمسمائة، ووجب في المسألة الثانية ألا يغرَم الغاصب إلا خمسمائة، كما قال القفال، ثم يستبد بها، ولا ننظر إلى سابق ولا حق في الجنايتين؛ فإنهما لو ازدحما على ملك واحد في صورة التقدم والتأخر، وأرش كل جناية قيمةٌ، فليس لهما إلا قيمةٌ واحدة، فطريان الغصبِ لا يكثِّر حقهما؛ بل إنما يرد الغصبَ على حق المالكِ من الرقبة.
وهذا نهاية الكشف في ذلك، فليتأمل الناظر، والله الموفق.
4606- ومما فرعه: أن قال: إذا غصب الرجلُ عبداً، فجاء عبدٌ لإنسان، وقتل ذلك العبدَ المغصُوبَ، قَتْلَ قِصاص، فللسيد طلبُ القصاص، فإذا اقتص من ذلك العبد القاتل، فقد سقطت الطَّلِبة عن الغاصب؛ فإن القصاص نازل منزلة استرداد العبد، ولا ننظر إلى قيمة العبد القاتل المقتصِّ منه، فلو كانت قيمته خمسمائة، وقيمة المغصوب المقتول ألف، فإذا استوفى القصاصَ، فليس له أن يقول للغاصب: قد استوفيتُ ما قيمته خمسمائة، فأرجع عليك بخمسمائةٍ؛ فإن القصاص لا يراعى فيه تفاوت الأبدال، ولذلك تقتل المرأة بالرّجل، ويحسم باب الطَّلبة مع تفاوت الدّيتين. وهذا سديدٌ لا يشك فيه.
قال الشيخ: فلو غصب عبداً قيمته ألف، فنقص في يده بعيب، ورجع إلى خمسمائة؛ فقتله العبد كما صورنا، واقتص منه السَّيد، فللسيد تغريم الغَاصِبِ الخمسمائة الناقصة بالعيب؛ فإن القصاص كاسترداد العبدِ، فلو استرد ذلك العبدَ المغصوبَ، وقد نَقَصه العيبُ، لكان يغرَم الغاصبُ أرش العيب، مع استرداد العبد.
نعم لو غصب عبداً قيمته ألف، فتراجعت قيمته بالسوق إلى خمسمائة من غير عيب، ثم طرأ القتلُ والاقتصاصُ، فلا تتوجه الغرامة على الغاصب، ويجعل الاقتصاص بمثابة ما لو غصب عبداً، فانحطت قيمته، ثم استرده المالك، فإنه لا يغرَم حطيطةَ السوق.
والجملة فيما ذكرناه تنزيلُ الاقتصاص منزلةَ استرداد العبد.
4607- ولو غصب عبداً، فقتل العبدُ المغصوبُ حراً، واستوجب القصاصَ، ثم جاء عبد وقتل هذا العبدَ، ولزمه القصاص، فلسيد العبد الاقتصاصُ من قاتل عبده، وليس لأولياء الحر أن يقولوا: لا تقتص من قاتله، ليتعلق حقنا بالأرْش.
ثم إذا اقتص السيد، فقد بطل حقُّ أولياء الحر؛ فإن العبد الذي قَتَل قد فات، ولما قُتل وفات، تبعته المالية، لما اقتص السيد من قاتله، وكان الأرش متعلقاً برقبة قاتل الحر، وقد فات من غير تقصير من السيد، فيبرأ السيد، ويبرأ الغاصب أيضاً؛ لأن الاقتصاص بمثابة الاسترداد، كما قدمناه.
وهذا لا يتضح إلا بسؤال وجواب عنه. فإن قيل: قد قدمتم أن الغاصب في عهدة جناية العبد المغصوب، وذكرتم أنّ العبد إذا جنى في يد الغاصب، فللمجني عليه مطالبةُ الغاصب بفداء العبد في غيبة السيد، فيلزم من هذا المساق أن تقولوا: لما قتل العبد حراً قَتْل قصاص، فالقتل وإن كان موجباً للقصاص، فهو مضمّن بمالية، وتلك المالية تثبت بفوات محل القصاص. فإن قلنا: موجَبُ العمد القودُ المحض، فاجعلوا اقتصاص السَّيد من قاتل العبد القاتل بمثابة فوات محل القصاص، ثم علِّقوا عُهدة المال بالغاصِب؛ بناء على ما تقدم من تعلق عهدة الجناية به؟
قلنا: هذا لا يصفو إلا بتقديم صورة، فنقول: لو قَتل العبدُ في يد السّيد قَتْل قصاصٍ، ثم قُتل هذا العبد قتل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فلا حق لولي مقتول هذا العبد على السيد، والسبب فيه أن عهدة الجناية لا تتعلق بذمة السيد، بل تتعلق بذمة العبد ورقبته.
ثم للسيد تخليص الرقبة بالفداء، إذا كانت الجناية مالية، وليس للمجني عليه إلا التعلّق بالرقبة، وتعلّقه بالرقبة لا يزيد على تعلق حق المرتهن برقبة العبد المرهون، ولو قُتِل العبد المرهون قَتْل قصاص، فللراهن أن يقتص من قاتله. وإذا اقتص، حبط حق المرتهن من التعلق. فاقتصاص السيد من العبد القاتل يُبطل حقَّ أولياء القتيل، وليس في ذمة السيد شيء.
فإذا ثبت هذا، عدنا إلى الجواب عن السؤال وقلنا: إذا قتل العبدُ المغصوب حراً قَتْل قصاصٍ، فلا يتصور طلب المال مع بقاء القصاص إلا من جهة فوات المحل، والمحلُّ إذا فات بالاقتصاص لم يُعقب تبعةً أصلاً، فانقطعت الطَّلِبة بالكلية من الغاصب، لما مهدناه.
4608- ولو أتلف العبدُ المغصوبُ مالاً، ثم قُتِل قَتْلَ قصاص، واقتص السيد من قاتله، فالجواب في ذلك يستدعي تقديم صورةٍ، تناظر هذه في المسائل، فنقول: إذا أتلف العبد في يد السيد مالاً، وتعلق قيمتُه برقبته، ثم قتل قتْل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فهل يضمن لصاحب المال المتلَف عليه ما كان تعلق برقبة العبد؟
التفصيل فيه أنه إن سبق من السيد منعٌ، ثم جرى بعد ذلك القتلُ، فيضمن للمنع السَّابق، وإن لم يجر منعٌ قبل قتل العبد، فلا ضمان، وقتله كموته، ثم القول في موته يتفصّل كما ذكرناه.
نعود بعد هذا إلى الغاصب وحكمه، فنقول: نفس الغصب منه يورّطه في العهدة، فإذا أتلف العبدُ المغصوب في يدهِ مالاً، ثم قُتل العبدُ قتْل قصاصٍ، فاقتص السيد من قاتله، أما السّيد، فلا طلبة عليه، وللمتلَف مالُه أن يطالب الغاصب، كما يطالَب السيدُ المانعُ قبل قتل العبد.
ثم نختتم هذا بأن العبد لو قَتَل في يد السيد قتلاً استوجب القصاص به، فطلب وليُّ القتيل القصاصَ، فامتنع السيد من الاقتصاص، ثم مات العبد، فلا تبعة على السيد، ولا طَلِبة؛ فإن القصاص ليس أمراً يُضمن، فلا جرم لو قُتِل العبدُ قتل قصاصٍ بعد استيجابه القصاصَ، وفرضِ الممانعةِ من السيد، فإذا اقتصّ، كان اقتصاصه كموت العبد نفسه بعد المدافعة في الاقتصاص.
فنقول على هذا: نجعل الغاصب كأنه مماطل في القصاص، ولا حكم للمطل فيه، فلهذا افترق ما يوجب القصاص، وما يوجب المال.
وقد يخطر للفقيه وراء هذا كله أن السيد لو مطل، ولم يقتص، ونحن نقول: القصاص يتضمن المالية، فيكون بمطله ومدافعته ملتزماً لتبعة فوات المحل. وليس الأمر كذلك؛ فإن عُلقة المال لا تثبت مع طلب القصاص، وفي هذا المنتهى أدنى احتمالٍ، فإن ثبت، انعكس على تثبيت مطالبة الغاصب.
هذا منتهى النظر، والله المستعان.
وقد نجز غرضنا من جنايات العبد المغصوب والجنايات عليه.
فصل:
قال: "فإن كان ثوباً، فأبلاه المشتري... إلى آخره".
4609- إذا غصب الرجل ثوباً، ولم ينتقص في يده، وأمسكه مدة، فعليه أداء الثوب، وأجرُ مثل المنفعة، استعملَ أو لم يَستعمل؛ فإن المنافع مضمونة باليد العادِيَة عندنا.
وإن انتقص الثوب بآفةٍ، لا بسبب الاستعمال، فعليه أرش ما نقص، وأجر مثل المنفعة، استعملَ أو لم يستعمِل.
وإن انتقص الثوبُ بالاستعمال، وبلي بعضَ البلى، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يضمن أكثر الأمرين من أرش النقص، أو أجر مثل المنفعة؛ لأن النقصَ جاء من جهة الاستعمال، ووقع بسببه، فدخل الأقل من المضمونَيْن تحت الأكثر.
والوجه الثاني- وهو الأصح أنه يضمن أرش النقص على حياله، وأجر المنفعة على حياله؛ فإنه يضمن كل واحدٍ منهما عند الانفراد، فإذا ثبت الموجبان، ثبت الضمانان.
4610- ولو اشترى إنسان من الغاصب الثوبَ المغصوب على جهلٍ بحقيقة الحال، فاستعمله، وأبلاه بالاستعمال، فتوتجُهُ الطَّلِبة عليه من جهة المالك يُخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في الغاصب نفسه: فإن فرعنا على الأصح، وهو أنه يُضمّنه أرش النقص على حياله وأجر مثل المنفعة على حياله
فنقول: أما الرجوع بأجر المنفعة، فيخرّج على قولي الغرور؛ فإنه استوفاها مغروراً، وأما أرش النقص، ففي الرجوع به ما ذكرناه في أرش العيوب الحادثة في يد المشتري من الغاصب. وفيها النص، وتخريجُ المزني، وكلام ابن سُريج.
4611- ثم ذكر الشافعي مسألة ضمان المنافع بالغصب، وقد ذكرناها فيما تقدّم، وأوضحنا أن المنافع تضمن باليد وتضمن بالإتلاف، وأبو حنيفة لا يثبت ضمانها بواحد منهما، وإنما يثبت ضمانها بالعقد الفاسد، أو الصحيح. وقد ذكر الشافعي أن المستكرهة على الوطء يثبت مهرها على المستكرِه الزاني، رداً على أبي حنيفة، فمنفعةُ البضع تضمن بالإتلاف إذا كانت المرأة مستكرهة، ولم تكن بغيّة، ولا مهر للحرة البغية. وفي الأمة المطاوعة البغيةِ الخلافُ الذي ذكرناهُ. ولا تُضمن منافِع البضع باليد، وأبو حنيفة فيما زعم لا يضمّنها إلا في عقدٍ صحيح، أو في شبهة عقد.
فصل:
قال: "ولو غصب أرضاً، فغرسها... إلى آخره".
4612- الغصب يتصور عندنا في العقار، فإذا ثبت تصوره، ابتنى الضّمانُ عليه.
وأبو حنيفة منع تصور الغصب في العقار، وترددت الرواية عنه في الغُرف المغلقة، وهذا كتردده في منع بيعها قبل القبض من البائع، مع قطعه بجواز بيع العقار الثابت قبل القبض.
والذي يجب الاعتناء به في هذا الفصل التعرّض لصورٍ يتردد النظر في تصوير الغصب فيها، فنقول أولاً: حقيقةُ الغصب في المنقول والعقار جميعاً استيلاء الغاصب بيده، وإنما يُعرف استيلاؤه بموجب العرف. هذا هو الأصل، والصور تهذبه.
فنقول: من أزعج مالك الدار عنها لم يكن بنفس الإزعاج غاصباً، وكان ذلك كما لو أقطع المالك عن حفظ ملكه، وحال بينه وبينه.
ولو أزعج المالك، ولم يصادفه في الدار، فدخل الدار بصبيته وأهله، وماله، واستولى استيلاء المنتفع، وأغلق الأبواب بأغلاقها، فهذا استيلاء محقق على الدار صورةً، من غير حاجةٍ إلى فرض قصد، وعليه نقول في الجندي إذا نزل داراً كما صورناه وأزعج مالكها، فقد استولى غاصباً، وصارت الدار مضمونة، ثم لا ينقطع الضّمان بأن يرحل عنها إلا أن يعود المالك، ويرد الدار إلى يده، فيكون هذا بمثابة استرداد المغصوب.
ولو دخل داراً ناظراً إليها، لم يصر بذلك غاصباً، فإنه لا يعدّ مستولياً، وكذلك لو اجتاز بأرضٍ مملوكة لإنسانٍ، لم يصر ذا يدٍ في الأرض لاجتيازه؛ فإن ذلك لا يعد في العرف استيلاءً، وقد ذكرنا أن الاستيلاء هو المقصود المطلوب، والرجوع فيه إلى العرف.
ولو دخل داراً خالية، وزعم أنه قصد الاستيلاء، وكان ما ذكره ممكناً، فيصير بقصده غاصباً، ولو زعم أنه لم يقصد الغصبَ والاستيلاءَ، لم يصر غاصباً، فالأمر يختلف بالقصد في هذه الصورة.
4613- والضابط بعد الإيناس بالصور أنه قد يجري في الدور وما في معانيها أحوالٌ وأفعالٌ هي على صورها غصبٌ، كما ذكرنا في نقل الصبية ودخُول الدُّور. وقد يجري ما لا يكون استيلاءً، وإن زعم صاحب الواقعة أنه قصد استيلاء، وهو كدخول الضعيف دار القوي بنفسه، مع القطع بأنه لا يستمكن من الاستيلاء، وصاحب الدار في الدار، فهذا خارج عن قَبِيل الاستيلاء، غيرُ مختلف بالقصد.
وإذا دخل داراً، وكان لا يمتنع تصوّر الاستيلاء منه، فدخوله متردد بين النظر، وبين الاستيلاء، فيختلف الحكم باختلاف القصد.
فلا بد من تخيل هذه المراتب على وجوهها.
وقد يفرض في المنقول ما يناظر المرتبة الأخيرة، فإذا كان بين يدي الرجل كتابٌ مملوك له، فرفعه رافع، وقصد الغصب، فنجعله غاصباً، فإن قصد النظر فيه وردَّه، لم نجعله غاصباً، على المذهب الظّاهر. وسنضرب لذلك أمثلةً في مرور الدنانير المغصوبة بأيدي النقاد. وإنما غرضنا التمهيد الآن.
وقد يعترض في انعقار أمرٌ، وهو أن من دخل داراً، فدخل بيتاً، فقد يختص استيلاؤه بذلك البيت، فيقدّر غاصباً له دون غيره، وهذا يتضح بألاّ يغلق بابَ الدار على نفسه، ويقطع العرصة عابراً.
على هذا الوجه يُفرض الغصب في بيتٍ من خانٍ، ويمكن أن يقال: إن ظهر الانتفاع بالدار، فهو استيلاء عليها، وإن لم يظهر، ولم يكن استيلاءٌ، فالدخول ليس استيلاء. وإن لم يظهر، وحصل الدخول وأمكن الاستيلاء، اختلف الأمر بالقصد.
والرجوع بعد ذلك كله إلى العرف، فإذا ثبت أهلية الاستيلاء، ثبت الغصب وحكمه. وإن نَفَوْه من كل وجهٍ، فلا غصب. وإن ترددوا، رجعنا إلى قصد صاحب الواقعة.
4614- ومما نذكره في ذلك أنا إذا قلنا: لا يثبت القبض في المنقولاتِ في أحكام العقود إلا بنقلها فإذا فرض الاستيلاء على شيء منها اعتداءً، فظاهر المذهب أنه غصب، لما ذكرناه من تصور الاستيلاء.
وحكى شيخي وجهاًً آخر: أنه لا يثبت حكم الغصب، إلا بما يثبت به قبضُ الرّهن والهبة، والقبض الناقل للضمان في البيع. وهذا غير صحيح، وصورة المسألة أن يزعج رجلاً عن بساطه المملوك، ويجلس عليه، أو يركبَ دابته، ولا يسيرها.
وممّا نذكره في تصوير الاستيلاء: أن من دخل داراً، وفيها ربها، فلم يزعج المالك، ولكنه استولى مع استيلاء المالك، وصارا على صورة ساكِنَيْن للدار، فنجعل المعتدي غاصباً لنصف الدار. ولو دخل رجل ضعيف دار محتشم في حال غيبته عنها، ووُجِد منه فيها صورةُ اليد في الظاهر، فالأصح أنا نجعله غاصباً، وإن كان يُخرَج ويُزعج على قرب؛ فإنه ليس من شرط الغصب انتهاءُ يد الغاصِب إلى حالة تعسر إزالتها.
وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن هذا لا يكون غاصباً؛ فإنه لا يعد في العرف مستولياً، والذي جاء به لا يسمى استيلاءً، بل هو في حكم الهزء والعبث، في مطرد العادة.
وهذا غير سديد لما قدمناه من وجود صورة اليد. وليس كما لو دخل هذا الضّعيف الدارَ، وفيها ربها؛ فإنه لا تظهر له يد، مع استيلاء يد المالك، واستمكانه من إزعاجه بزجره، وأَخْذه، وصعقه. والتعويل في الجملة والتفصيل على العرف وما يعلمه أهله في معنى اليد والاستيلاء.
هذا عقد المذهب في تصوير الغصب في العقار.
4615- ثم وصل الشافعي بتصوير غصب العقار ذكْرَ تصرفاتٍ من الغاصب ونحن نستوعبها ونأتي عليها واحداً واحداً، إن شاء الله تعالى.
فلو غصب الرّجُل أرضاً، واحتفر فيها بئراً، فهو معتدٍ بحفر البئر، ولو تردّى فيها متردٍ، وجب عليه الضّمان، كما لو احتفر بئراً في مضيقٍ من الشارع. فإذا ثبت ذلك، ابتنى عليه، أنه يجب عليه طمُّ البئر وكبسُها، ليخرج عن هذا الضرب من العدوان، فإذا استرد المغصوب منه الأرضَ، وأمر بكبس البئر، فقد تأكد ما ذكرناه من وجوب ذلك، وكان واجباً دون أمره؛ لعلةِ الخروج عن العدوان. وهو الآن واجب لعلتين: إحداهما- ما ذكرناه. والأخرى امتثال أمر المالك، على ما سنوضح في سياق الفصل تحقيقَ الفقه فيه.
ولو قال المالك: أمنعك من الكبس، لم يكن له ذلك؛ فإن في منعه إدامةُ سبب العدوان، وبقاءُ التعرض للضمان. ولو قال: رضيت بالبئر، فاتركها، فهل له أن يطمّ مع الرضا؟ فعلى وجهين مشهورين، ترجع حقيقتهما إلى أن رضا المالك بإدامة البئر هل تنزل منزلة رضاه بحفر البئر ابتداءً؟ ولا شك أن المالك لو رضي بحفر بئر في ملكه، وأذن فيه، أو أمر به، فلو تردّى متردٍّ فيها، لم يضمن المالكُ، ولا الذي تولى حفره. وهذا مختلف فيه: فإن قضينا بأن الرضا بالدوام كالإذن ابتداءً بالحفر، فقد يمنع الغاصِب من الكبس. وإن قلنا: لا يكون الرضا بالدوام بمثابة الإذن بالحفر ابتداء، حتى لو قدر تردي متردٍّ، وجب الضمان، فعلى هذا يطم الغاصب البئر قطعاً لسبب العدوان، وخروجاً عن الضمان.
وهذه الصورة التي ذكرنا الخلاف فيها تمتاز عما قدمناه عليه من أن المالك لو منعه من الطمّ، لم يمتنع؛ فإن ذلك فيه إذا لم يتعرض للإذن، واحتفر على المنع. فأما إذا صرح بالرضا، فهو صورة الخلاف.
وذكر كثير من أئمتنا في الإذن الذي ذكرناه تقييداً، نحن نورده، فقالوا: لو رضي بالدوام، وأبرأه عن ضمان من يتردّى، ففي المسألة الوجهان. وذهب ذاهبون إلى اشتراط التعرض للإبراء عن ضمان العدوان، حتى تخرّجَ المسألة على الخلاف.
وهذا عندي زلل، فليس إلية الإبراء. فإن كان الرضا بالدوام قاطعاً سبب الضمان، نازلاً منزلة الإذن في الابتداء، فذاك. وإن كان الرضا بالدوام لا يتضمن انقطاع سبب العدوان، فالإبراء عن الضمان لا معنى له؛ فإن الضمان قد يجب بسبب تردي من ليس من مالك الأرض بسبب، والإبراء عن حق الغير قبل ثبوته محال تخيله؛ فإنه بعد الثبوت لا ينفذ، فما الظن بتصحيح مطلَقه قبل الوقوع.
وهذه المسألة لا تصفو عن شوائب الفكر إلا بذكر تمام الغرض فيه، فنقول: مهما قلنا: يكبس الغاصب، ويطم، فحق عليه أن يطم؛ فإن هذا إزالةُ سبب العدوان، ولا أثر فيه على هذا الوجه للرضا، ولا خِيرةَ في إزالة سبب العدوان. وإن بعد نظر الفقيه عن هذا، فسببه ضعفُ هذا الوجه؛ فإن الظاهر أن دوام الرضا من المالك ينزل منزلة الابتداء.
4616- ونحن نستتم الآن تفصيل القول في ذلك بذكر مقدمة مقصودة في الفصل، ثم نعود بعدها إلى إكمال البيان، فنقول: لو نقل الغاصب مقداراً من التراب، من الأرض المغصوبة، من غير فرض احتفارٍ، فالتراب مملوك. وإذا كان متشابه الأجزاء، فهو من ذوات الأمثال، فإن بقي عينه، فللمغصوب منه تكليفُه ردَّ عينه إلى المكان الذي أخذ منه.
ولو قال للغاصب الناقل: رضيت بأن تتركه، ولا تعيدَه، نظر: فإن كان الغاصب نقله إلى ملك نفسه، أو نقله إلى ملك غيره متعدياً، أو نقله إلى شارع المسلمين وضيق به على الطارقين، وقد يكون نصبه منضَّداً في الشارع سبباً لضمان من يتعثر به، ففي هذه المواضع ينقل التراب إلى الأرض المغصوبة؛ فإن له أغراضاً صحيحة في النقل، فإنه بين أن يفرّغ ملك نفسه، وبين أن يفرغ الشارع، أو يفرغ ملك غيره، وقد كان اعتدى بالنقل إليه.
فأمّا إذا كان نقل التراب إلى موات، أو إلى الشارع على وجهٍ لا يضر بالمارة، فإذا قال المغصوب منه: لا تنقله إلى الأرض، لم يكن له نقله؛ فإنه لا غرض له في النقل، ومالك التراب راضٍ بتبقيته في المكان الذي هو فيه.
ولا يخفى على الفقيه أنه لو كان نقله إلى الشارع على وجهٍ يفرض لأجله الضمان والعدوان، فإذْن المالك وإبراؤه عن الضّمان لا معنى له؛ فإنه ليس إليه هذا.
ولو أراد المالك بتبقيته أن يضيق مسلك المارة، أو يأذن فيه، لكان ممنوعاً منه.
ومن تمام ذلك أنه إذا كان للغَاصب غرض، فلو ردَّ التراب إلى الأرض، وأراد أن يبسطه لتعود إلى هيئتها التي كانت عليها، ويعود التراب إلى المكان الذي أخذه منه، فقال المالك: اتركه على طرف الأرض، ولا تبسط، فحق عليه أن يترك البسط، ويقتصر على ما رسمه المالك؛ فإنه لا غرض له في البسط. والمسألة مفروضة فيه إذا لم يكن لنقل التراب حفيرة يفرض التردي فيها، فلا غرض إذن للغاصب في البسط، ولا معنى لمخالفة المالك.
وهذا الذي ذكرناه مشروط بشرط، وهو أن نقل التراب، ورفعَه عن وجه الأرض إن لم يكن أحدث في الأرض نقصاً-وقد انتهى الكلام إلى المنتهى الذي ذكرناه- فالأمر على ما وصفناه، وإن كان رفعُ التراب أحدث نقصاً في الأرض، فإن أبرأ المالكُ عن أرش النقص، ورسم ألا يبسط التراب، لزم امتثال أمره. وإن كان يطلب أرش النقص، ولو ردّ الغاصبُ التراب إلى المكان الذي أُخذ منه، لكان ذلك جبراً لما وقع، وردّاً للأرض إلى ما عهدت عليه، فإنه يبسط التراب لغرض إبراء الذمة عن ضمان النقصان؛ فإن هذا من الأغراض الظاهرة.
4617- وما ذكرناه استفتاح أصل آخر، وهو أن من أحدث نقصاً في أرض غيره، بسبب نقل التراب منه، واستمكن من إزالة ذلك النقص برد التراب؛ فإنه يفعل ذلك، ويتحتم عليه إن طلبه المالك. ويجوز له أن يفعله إن لم يطلبه المالك. وإن قال المالك: دعه، فلست أطالبك بأرش النقص، لم يكن ذلك إبراء منه عن الضّمان، بل هو عِدةٌ، لا يجب الوفاء بها، فلا يثق الغاصب، ويرد التراب، ويسوي الحفائر.
وهذا يخالف ما لو شق ثوباً لإنسان وطلب أن يرفوَه؛ فإنه لا يجاب إلى ذلك، باتفاق الأصحاب. ولا فرق بين أن يحتاج في الرَّفْو إلى الإتيان بأجزاءَ لم تكن في الثوب، وبين أن يستمكن من الرَّفْو من غير الإتيان بشيء من غير الثوب. والسبب فيه أن الرَّفْو لا يرد الثوب إلى ما كان عليه قبل الشق، وإن تناهى الرافي في المهارة.
والأرض يمكن ردُّها إلى ما كانت عليه قبلُ. فهذا هو الفرق.
4618- ومن تمام البيان في ذلك: أن عين التراب المنقول إن كان باقياً، فالجواب ما ذكرناه، وإن تلف ذلك التراب وانمحق في مدارج الرياح، أو جرفه سيل، غشيه وبدَّده، فقد نقول: التراب مضمون بالمثل، فلو أراد ردّ مثل ذلك التراب إلى المكان لتسوية الحَفِيرة، فقال المغصوب منه: لا أمكنك من رد مثل ذلك التراب إلى الحفر، وألزمك تركَ ما تضمنه على طرف من الأرض، وأطالبك بأرش النقص، الذي أحدثته في الأرض بسبب نقل التراب منها، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن للمالك ذلك، بخلاف ما لو كان عينُ التراب باقياً؛ فإنه إذا رده وسوى به الأرض، فقد رد ما أخذه كما أخذ، وإذا ابتغى ردَّ المثل، فليس معيداً لعين ما أخذه. والمسألة محتملة.
ولا خلاف أنه لو كان لا يتمكن من رد الأرض إلى ما كانت عليه إلا بزيادة تراب يأتي به، فلا يمكن من هذا.
4619- وممَّا يتصل ببيان الكشف، أنه لو كان نقل التراب، وما أحدث في الأرض نقصاً يوجب الضّمان، ولكن نقله إلى ملك نفسه، أو اعتدى بنقله إلى ملك غيره، أو إلى الشارع، على الوجه الذي وصفناه، فقد أوضحنا أنه يرد الترابَ إلى الأرض، فلو كان يستمكن من طرح ذلك الترابِ-الذي يُفرِّغ عنه ملكَه، أو ملكَ غيره، أو الشارع- في مواتٍ، هو في طريقه التي يقطعها في رد التراب، فقال المالك: اطرحه في الموات، فهو أهون عليك، ولست أبغي أن تشتغل به أرضي، وما أحدثت بنقلك نقصاً، وفعلُك في الطرح في ذلك الموات، كفعلك في الطرح على أرضي، لو رددتَ إليها، والأمر أهون عليك؛ من جهة قِصَر المسافة، فقد يعترض في ذلك أن الغاصب يبغي ردّ التراب إلى يد المغصوب منه؛ فإنه مضمونٌ في نفسه. فإن فرض للمغصوب منه ملكٌ في الطريق، فإذا نقل التراب إليه، كان عائداً إلى حكم يد المالك، فالذي نراه القطعُ بأن الغاصِب يلزمه أن يمتثل أمرَه؛ إذ لا ضرر عليه، ولا غرض له في النقل إلى المكان الذي أخذ التراب منه.
ولو قال المغصوب منه: انقل التراب إلى مواتٍ بالقرب منك، أو إلى ملكٍ لي بالقرب منك، وليس على صوْب مجيئه لو طلب الردّ إلى المكان الذي أخذ منه، ففي هذا تردد، يُشعر به كلام الأئمة، وقد يظهر أنه يلزمه موافقةُ المالك، إذا لم يكن عليه مزيدُ مشقة، على الشرائط التي قدمناها.
ويظهر أنه لا يفعل هذا؛ فإنه استخدامٌ، وليس كما لو طلب منه الطرحَ في الطريق؛ فإنه اختصار على بعض ما كان يفعله.
فانتظم ممَّا ذكرناه فصولٌ في ردِّ التراب، وملكِ الغاصب ذلك، وتفصيلِ القول في رد الأرض إلى ما كانت عليه، إذا حصل فيها نقص، وبان أن الغاصب قد يلزمه ذلك إذا طلبه المالك، وقال: رُد ترابي وسوِّ الحفر، وقد يكون له ذلك وإن لم يطلبه المالك، لأغراضٍ، من جملتها أن يكفي نفسَه ضمان النقصان، ولاح الفرق بين ذلك، وبين رفْو الثوب.
ومما يلتحق بالرفو معالجة العبد الذي جنى عليه الغاصب جنايةً تنقصه، فإنه لو قال: مكِّني من مداواته؛ فإني أعيده بها إلى حالة صحته، فلا يمكَّن من هذا.
والمنع من المداواة أظهرُ من المنع من الرَّفْو، والثقةُ بحصول الغرض بها أقلُّ.
4620- فإذا تمهدت هذه الأصول فيما على الغاصب وله؛ فنستتم بعدَ بيانِ ذلك القولَ في طم البئر، ونقول: إن لم نجعل الرضا بالدوام مسقطاً للضّمان، فله الطم، بل عليه ذلك. وإن جعلناه مسقطاً للضمان، اعترض فيه جواز رد التراب إلى موضعه أخذاً من الفصول التي قدمناها، فليتنبه الفقيه للقواعد، ولْيبن الأمرَ على مقتضاها.
وممَّا نذكره أن الغاصب لو كان نقل تراباً من أرضٍ مُقلّبة مُكرَّبة مثارةِ التراب، مهيأةٍ للغراس، فردُّ التراب إلى ما عهد سهلٌ. وإن كانت الأرض صلبة، ففُرِض نقلُ التراب، ثم طلب إعادته إلى موضعه، فعلى الراد أن يتكلف تنضيده، وهو سهل أيضاً. وإنما ذكرنا ذلك، فإن الأرض الصلبة قد تصلح للبناء عليها، فلو لم ينضد التراب المنقول، فلا يحصل الغرض الذي كان، وفي التنضيد تُردّ أجزاء التراب إلى مقارها الحقيقية. هذا منتهى ما أردناه في ذلك.
وقد يتعلق بالفصل ما إذا غصب أرضاً، وغرس فيها غراساً أو بنى بناءً، وهذا سنذكره في فصل الصبغ بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو غصب جارية، فهلكت... إلى آخره".
4621- مضمون الفصل الكلامُ في طرفٍ من اختلاف الغاصب والمغصوب منه، وهو يتعلق بنوعين: أحدهما: الاختلاف في صفات المغصوب. والثاني: الاختلاف في قيمته بعد تلفه.
فأما الخلاف في صفات المغصوب، فإذا ادّعى المغصوب منه سلامة المغصوب عن العيوب، وطلب بذلك وفور القيمة، والعين فائتة. وقال الغاصب: بل كان مئوفاً، ووقع التعرض لعيبٍ مثلاً، نُظر فإن قال الغاصب: كان العبد المغصوب أَكْمه، أو كان عديم اليد في أصل الفطرة، وادّعى المالك أنّه كان بصيراً سليم اليد، فقد قال الأصحاب: القول قول الغاصب، وعلى المالك إقامة البينة؛ فإن الغاصب أنكر وجودَ عضو، ولا يمتنع أن يقال: الأصل عدمها، وينضم إلى ذلك أن الأصل براءة ذمته عن المقدار الزائد المدعى عليه.
وإن اعترف الغاصب بأن العبد كان كامل الخلقة، وادعى طريان العمى والقطع قبل الغصب، وزعم أن يده صادفته معيباً بالعيب الذي وصفه، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن القول قول المالك؛ فإن الأصل دوام سلامة العبد عما ادعى الغاصب طريانَه عليه من قطعٍ، أو عمى.
والقول الثاني- أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءةُ ذمته عن المزيد المتنازع فيه، وهذا يلتحق بالأصل الذي يسميه الفقهاء: "تقابل الأصلين".
وذكر بعض أصحابنا أن الغاصب لو ادعى عيباً خِلْقياً، كما قدمنا وصفه، وكان ذلك العيب يفرض نادراً، في آحادٍ من الناس، كما ذكرناه من ادعائه كونَه أَكْمهَ، أو عديمَ اليد، ففيه خلاف؛ من جهة ادعائه نادراً، فقد يغلب على الظن كذبُه فيه، ومحاولتُه الغضَّ مما يلزمه من القيمة، والأصلُ في الناس السلامة، وعليه ابتنى ثبوتُ حق الرد بالعيب؛ فإن المشتري يبني العقدَ المطلقَ على معهود السلامة، فينزل ذلك منزلةَ شرط السلامة.
ثم هذه الطبقة من الأصحاب ذكروا أوجهاًً: أحدها: أن المصدَّقَ المالكُ، بناء على السلامة.
والثاني: أن المصدَّقَ الغاصبُ، لما سبق تمهيده قبلُ. والثالث: أنه يفصل بين العيوب النادرة، وبين ما لا يندر.
وكل هذا خبطٌ، لا أعده من المذهب. والذي يجب القطع به، أن الغاصب إذا لم يعترف بأصل السلامة، فهو مصدَّق مع يمينه في ادعاء انعدام عضو أو صفةٍ في أصل الخلقة، وإنما محل الخلاف فيه إذا اعترف بأصل السلامة، ثم ادّعى طريان آفة، كما بيناه.
4622- ومما يلتحق بذلك أن المالك لو ادّعى أن العبد المغصوب الفائت كان يحسن صناعةً من الصناعات، وأنكرها الغاصب، فالذي قطع به المراوزة أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم الصناعة التي يدعيها المالك.
وذكر العراقيون وجهاًً غريباً: أن القول قولُ المالكِ، ووجهوه عندهم بأن صفات العبيد قد لايطلع عليها إلا السَّادة، ويعسر إثباتها من غير تصديقهم، فلو لم نصدقهم، لأدّى إلى تعطيل كثير من الصفات في محل النزاع. ونحن قد نصدق في إثبات شيء والأصل عدمُه إنساناً، إذ كان لا يتلقى ثبوته إلا من جهته، ومنه تصديقنا المرأةَ في الحيض، إذا كان الزوج علّق طلاقَها على أن تحيض، وإن كان الأصل بقاءَ النكاح وعدمَ الطلاق.
وهذا تخليط غيرُ معدودٍ من المذهب، والوجه القطع ببناء الأمر على عدم الصناعات، وعلى من يدّعيها البيّنة.
هذا في اختلاف الغاصب والمغصوب منه في صفةِ المغصوب.
4623- فأما إذا وقع الاختلاف في مبلغ قيمة العبد مطلقاً، من غير تعرض لصفاته، فإذا قال المالك: كانت قيمة العبد ألفين، وقال الغاصب: كانت ألفاً، فالقول قول الغاصب مع يمينه، لا خلاف فيه؛ بناء على ما قدمناه من براءة ذمته عن المزيد المدَّعى.
ولو ادعى المالك بقاء العين المغصوبة في يد الغاصب، وادعى الغاصب تلفَها، والتزم ضمانَ قيمتها، فقد اختلف الأصحاب في ذلك، فالذي ذهب إليه المحققون، وهو اختيار القفال، فيما حكاه شيخي عنه أن القول قولُ الغاصب، فإنا لو لم نصدقه مع يمينه، لأوجب ذلك تضييقاً عليه، لا نجد عنه مخرجاً، وقد يخلّد حبسه فيه، والتلف يجري بحيث لا يشعر به غيرُ الغاصب، سيما في الجواهر والأعيان الخفية.
ومن أصحابنا من اكتفى بظاهر الحال، وقال: الأصل بقاء العين حتى تقوم البينة على تلفها. وهذا القائل يحلِّف المالك، والصحيح ما اختاره القفال، والثاني مزيف.
4624- ومما يتم به غرض الفصل: أن العبد المغصوب إذا مات فإن كان رآه المقومون، فلا شك أنهم يعتمدون عِيانهم في الشهادة على قيمته، وإن لم يره المقوّمون، فأراد مالك العبد أن يقيم شهوداً على صفاته، وحِلْيته، وصورته، ورام أن يعتمد المقومون تلك الصفات، ويبنوا التقويم عليها، فليس له ذلك، وليس للمقومين اعتمادُ الصفات التي يشهد بها العدول. والسبب فيه أن ما يعتمده التقويم لا يدخل تحت ضبط الواصفين؛ فإن المعتبر الأظهر الذي تختلف القيم به لا يدخل تحت الوصف؛ فإن القيمة تختلف بالملاحة، ولطف الشمائل، وغيرها، ممَّا يدِق مُدركُه.
فإن قيل: ألستم صححتم السلم في الحيوان اعتماداً على الوصف، ثم استقصاء الأوصاف مقصود في السلم؟ قلنا: قد ذكرنا في كتاب السلم أن الإسلام في الحيوان يضاهي أبواب الرخص، ولا يشترط فيه من استقصاء الصّفات، ما يشترط في سائر الأجناس. وقد مهدت في ذلك أصولاً في كتاب السلم، والقدر الذي يقع الاكتفاء به هاهنا أن مبنى السلم على تنزيل المسلم فيه على أقل مراتب الصفات، والاكتفاء بأول المنازل، ولا يتصور بناء التقويم على هذا؛ فإن المقوّم يحتاج إلى الاطلاع على النهايات ليبني ظنه عليها في التقويم. وهذا واضحٌ، لا خفاء به.
وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن التقويم يقع بأوصافٍ، تنزيلاً على الأقل كالسلم. وهذا بعيدٌ غير معتدٍ به.
وإن ذكر الغاصب في إقراره بالغصب أوصافاً للمغصوب، وقال: كان المغصوب مورّدَ الخدين، أزجَّ الحاجبين، نجلاءَ العينين، أكحلهما، مستدقَّ الأنف، وارد الأَرْنبة، رقيق الشفتين، مديدَ القامة، حسن الهامة، مكلثمَ الوجه، مستطيلَ الجيد، عريض الكتف، مخصّر الوسط، نادر الرِّدْفِ، خديجَ الساقين، غائص الكعبين إلى غير ذلك. فهذه الصفات لا يعتمدها التقويم، ولكنها تفيد من جهة أنه لو ادّعى قيمةً لا تليق بهذه الصفات، مثل أن يذكر شيئاًً نزراً دراهم معدودة، فلا يقبل منه ما ذكره؛ فإنا وإن كنا لا نعتمد الصفاتِ في التقويم، فنستفيد مناقضةَ ما ادّعاه من القيمة، لما اعترف به من الأوصاف. فإذا قال ذلك، قلنا: ارتَقِ، وزِدْ، فإن زاد زيادةً لا تليق أيضاً بالأوصاف، كلفناه الرقي، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى مبلغٍ، قد يُظن أنه يليق بالأوصاف التي ذكرها.
ولو أقام المالك بينةً على الأوصاف، فقد ذكرنا أن القيمة لا تعتمدها، ولكن المالك يستفيد إبطالَ دعوى الغاصب مقداراً حقيراً، فلا فرق بين أن تثبت الأوصاف بقول الغاصب وبين أن تثبت بتحلية الشهود ووصفهم.
4625- وإن قال المالك: قيمة العبد ألف، وقال الغاصبُ: بل خمسمائةٍ، فأقام المالك بينة أن القيمة كانت أكثر من خمسمائةٍ، ولم تتعرض البينة لضبطٍ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة تُسمع على هذا الوجه، وفائدة السماع أن يكلَّف الغاصبُ أن يزيد على الخمسمائة، ويرقَى، كما ذكرناه في الأوصاف، فإن زاد، فقالت البينة: كانت القيمة أكثر من هذا، فنكلفه الزيادة إلى أن ينتهي إلى موقف لا يقطع الشهود أقوالهم بالزيادة عليه.
وقال بعض أصحابنا: لا تقبل البينة على هذا الوجه. وهذا ساقط غيرُ معتد به، وذهولٌ عن الحقيقة؛ فإن الجهالة إنما تقدح إذا كنا نبغي معها إثباتَ مقدّرٍ؛ ولسنا نبغي في هذا المقام إثبات مقدَّرٍ، وإنما نطلب إبطالَ قول الغاصب، وذلك ممّا يمكن التوصل إليه على تحقيقٍ. والعلم بالمشهود به إنما يشترط إذا كان المطلوب معلوماً، فإذاً الغرض يحصل في تكذيب المدعى عليه بالجهة التي ذكرناها؛ فالوجه قبول البينة، مع الإبهام.
ولا يختص ما صورناه بالغصب. فلو ادّعى رجل على رجل ألف درهم، فاعترف المدعى عليه بخمسمائةٍ، فأقام المدعي بينةً على أن له عليه أكثرَ من خمسمائة، فالأمر فيه على التفصيل الذي ذكرناه.
فصل:
قال: "ولو كان ثوباً، فصبغه... إلى آخره".
4626- الغاصب إذا غير المغصوب نوعاً من التغيير، وأحدث فيه صِفةً، فلا يخلو إما أن يكون ما أحدثه أثراً، أو عيناً، فإن كان أثراً، مثل أنه كان غصب حِنطةً، فطحنها، أو دقيقاً، فعجنه، وخبزه، أو شاة، فذبحها، أو لحماً، فطبخه، أو قطناً، فغزله، أو غزلاً، فنسجه، أو نُقرةً، فطبعها، أو تراباً، فضربه لَبِناً، أو ثوباً، فقَصَره، فهذه، وما في معانيها آثارٌ؛ فإنها تثبت من غير مزيدِ عين، والقول في جميعها على نسق واحد.
فنقول: إن اقتضت هذه الآثار نقصاناً، فالحكم فيها أنه يجب ردُّ العين على ما هي عليها، مع أرش النقص.
وإن اقتضت الآثار زيادةً، فالعين مردودة على مالكها على ما هي عليها، ولا حق للغاصب في الزيادة التي حدثت بسبب فعله. ولا خلاف أن هذه المعاني لا تلتحق في حق الغصب بالأعيان الزائدة، وقد ذكرنا في كتاب التفليس قولين في أن القِصارة، وما في معناها إذا صدرت من المشتري، ثم أفلس بالثمن، فتيك الزيادة أثرٌ أوْ عين.
وقد مضى القولُ مفصلاً في كتاب التفليس.
وغرضنا الآن الإشارة إلى الفرق بين البابين. فنقول: المفلس أحدث ما أحدث بحقٍّ في محل ملكه وحقه، فيجوز ألا يضيع سعيُه في تحصيل تلك الزيادة. والغاصب المعتدي ظالم بما أحدثه، فلا نقيم لسعيه وزناً، ونخيّب عملَه وظنَّه.
وممَّا ذكرناه في التفليس أن المشتري لو استأجر قصاراً، فقَصَر الثوبَ المشترى، فقد نقول: إذا أفلس المشتري، فللقصار تعلُّقٌ بالثوب، لأجل ما حصّله من القِصارة، ولا سبيل إلى تخيّل مثل ذلك في الغصب، فالآثار التي تضمنت مزيداً انقلبت إلى المالك لا محالة، لا حظ فيها للغاصب، ولا تعلق بها للعامل.
ولو أحدث الغاصب أثراً، واقتضى زيادةً: مثل أن يغصب نُقرة فيطبعها دراهم، وازدادت قيمتُها لذلك، أو غصب تراباً، فضربه لَبِناً، فلو أراد المغصوب منه أن يكلفه ردَّ الدراهم تبراً بالإذابة والسبك، وردَّ اللبن تراباً بالدق، فالذي قطع به الأئمة أن له أن يكلفه ذلك، ولا نظر إلى تتبع الأغراض؛ فإنها على الجملة ممكنة. وإذا أمكن غرضٌ، لم تَجْرِ مطالبة المالك بإظهاره. وهذا مقطوع به في الطرق. وفيه تنبيهٌ على أصلٍ، وهو أن من غصب شيئاً على صفةٍ وغير صفتها، فهو على حكم هذه القاعدة مطالبٌ بردّ صفتها إذا كان ردُّها ممكناً. وهذا غائص يتعيّن حفظه.
ويقرب منه ردُّ التراب إلى الحفائر، وتسويتُها به، وهو يستند إلى أصلٍ آخر، وهو رد المغصوب إلى المكان الذي غصبه منه. والذي ذكرناه الآن إعادةُ الصفات لأعيانها.
ولو هدم رجلٌ جدار إنسانٍ، فلا يكلف إعادتَه؛ فإنه لا يتأتى إعادتُه على النعت الذي كان عليه إلا أن يكون منضداً من غير ملاطٍ، فتكليف تنضيد أحجارٍ من غير استعمال ملاط يلتحق برد التراب المنقول إلى موضعه.
ولو رضي المغصوب منه بالدراهم، فقال الغاصب: أردها سبائك، لم يكن له ذلك؛ فإنّه لا غرض له في ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بملابسة ملكِ غيره، والتصرفِ فيه، فلا يجاب إلى هذا. وطم البئر إنما ساغ للغاصب على التفصيل المقدَّم بسبب ما فيه من تعرضه للضّمان والعدوان.
وعند هذا المنتهى سر، وهو أنا لا نجوّز لحافر البئر طمَّها ليبرأ عن الضّمان؛ إذ لو كان المعنى هذا، لما بالينا بتورطه في الضّمان، ولقلنا: أنت الذي ورطت نفسك في هذا الضمان، ولكن المعتبر أن قطع العدوان واجب، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه من لطيف الكلام.
ولو كان قَصَر الغاصب الثوبَ، فليس من الممكن أن يكلفه المغصوبُ منه رده إلى البت، فلا تكليف في هذا، وما يناظره.
4627- وذكر الأئمة في قسم الآثار مسائلَ تستفاد ذكرنا بعضها فيما سبق، ونحن نجمعها الآن: لو غصب عصيراً، فانتهى في آخر أمره إلى حموضة الخل؛ فإنه يرد الخلَّ، وهل يضمن العصير؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يضمن؛ فإنه ردَّ عين ما غصب، ولكن صفته حائلة، فينظر في نقصان القيمة على التفصيل المقدم.
والثاني: يضمن العصير؛ فإن الذي رده خل، وقد صار العصير خمراً في يده، ثم صارت الخمر خلاً، ولما انقلب العصير خمراً، وجب إذ ذاك مثلُ العصير؛ فإنه باشتداده خرج من أن يكون مالاً، فما أوجبناه من المثل لا يزيله، والخل رزقٌ ساقه الله إلى المغصوب منه.
ومن هذا الجنس ما لو غصب بيضة فأحضنها دجاجة، ففرخت، فيجب ردّ الفرخ على مالك البيضة، وهل يجبُ على الغاصب قيمةُ البيضة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يجب؛ لأنها تصير مَذِرَة، ثم تنقلب فرخاً، والمذِرة لا قيمة لها كالخمر.
والثاني: لا يجب ضمان البيضة، كما تقدّم في العصير.
ولو غصب بَذراً، فَزَرَعَه فنبت وتَسَنْبل، وأَدْرَك، فلا شك أن الزرع لمالك البذر، وهل يغرَم الغاصب مثلَ البذر للمغصوب منه؟ فعلى وجهين؛ لأن البذر يتعفن، ويخرج عن المالية، ثم يُنبت.
4628- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو غصب خمراً، فصارت في يده خلاً، أو غصب جلد ميتة، فدبغها، فهل يلزم رد المدبوغ والخل؟ حاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها: أنه يجب الرد؛ فإن المملوك آخراً فرعُ المغصوب، وإن لم يكن مالاً لمَّا غُصب، فيجب رد الفرع إلى من كان مختصاً بالأصل. وهذا أصح الوجوه.
والثاني: أنه لا يرد ويفوز بالخل والجلد المدبوغ؛ لأن الملك حصل في يده، وما غصب ملكاًً، فاستبدّ بما جرى الملك فيه، ولو تلفت الخمر خمراً، والجلد قبل الدباغ، لما كان يضمن شيئاً؛ فهذا إذن فائدةٌ مستجدة، حصلت في يد الغاصب.
والوجه الثالث: أنه يمسك الخل، ويفوز به، ويردّ الجلدَ، والفرق أن الخمر لا يحل اقتناؤها لتُعالج، وجلود الميتات تُقتنى للمعالجة.
والأصح الوجه الأول.
ويمكن أن يقال: الخلاف في الخمر مفروض في الخمرة المحترمة حتى تناظرَ الجلدَ قبل الدِّباغ.
ولو أخذ خمراً مستحقة الإراقة، ولم يتفق منه إراقتُها حتى انقلبت في يده خلاً، فالظاهر عندنا القطع بأنه يفوز بالخل؛ فإن تيك الخمر، لم تكن مستحقة، ولم يكن فيها اختصاصٌ، بل كانت مضيّعة في حكم التالفة التي لا حق فيها ولا اختصاص، فمن استفاد منها خلاً، كان ذاك رزقاً مبتدأً في حقه.
وليس تخلو هذه الصورة عن احتمالٍ أيضاً.
وكل ما ذكرناه آثار مجرَّدة، ليس فيها إحداث عين.
4629- فأما إذا أحدث في العين المغصوبة عينَ مالٍ، مثل: إن غصب ثوباً، فصبغه.
في هذا الفصل اضطراب في الطرق، وتباينٌ بيّن، ونحن نرى أن نسوق ترتيباً هو الأصل عندنا في المذهب، ونُلحق ما يليق به من الوجوه الغريبة، ثم إذا نجز، ذكرنا بعد نجازه ما نراه خارجاً عن قاعدة المذهب، مما نقله الأئمة، فنبتدىء ونقول:
إذا صبغ الغاصب الثوب بصِبغٍ، لم يخلُ إما أن يكون الصِّبغ للغاصب، وإما أن يكون لمالك الثوب، وقد غصبه مع الثوب، وإما أن يكون لأجنبي، وقد كان غصبه منه.
فأمّا إذا كان الصِّبغ ملكَ الغاصب، فيتصور الثوب والصِّبغ على صور، ونحن نأتي عليها، ونذكر في كل صورة ما يليق بها.
ونقول: قد يزداد الثوب بسبب الصبغ، وقد ينقص، وقد يبقى على القيمة الأولى: من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ. فإن لم يزدد، ولم ينتقص، وتصويره أن قيمة الثوب لو كانت عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وكان الثوب بعد الصبغ يساوي عشرين، فهذا هو الذي عنيناه. فالثوبُ على قيمته، والصبغ على قيمته.
والقول في ذلك ينقسم، فلا يخلو: إمَّا أن يكون الصبغ معقوداً لا يتأتى فصله، وإمّا أن يكون غير معقود، وكان فصله ممكناً. فإن كان الصبغ معقوداً، فالثوب المصبوغ مشترك بين مالك الثوب والغاصب، وليس ذلك كالقِصارة وما في معناها؛ فإن الصبغ عينٌ قائمة؛ فلا سبيل إلى إحباطها، وإبطالِ ملك مالكها فيها، ولا وجه لتمييز الصبغ عن الثوب؛ فإنا فرضنا الكلام في الصبغ المعقود، الذي لا يتميز. ثم لا يملك صاحبُ الثوب إجبارَ الغاصب على البيع، والغاصب لا يُجبر صاحبَ الثوب على البيع، فإن اتفقا على البيع وباعا الثوب المصبوغَ بما يساوي، وهو عشرون، فالثمن مقسوم بينهما، وإن وجدا زبوناً، واشترى الثوب بثلاثين، فالمبلغ مقسوم نصفين بينهما.
وإنّما لم يُجبر أحدُهما على مساعدة صاحبه في البيع؛ تنزيلاً للثوب مع الصبغ منزلةَ ملكٍ مشترك بين شريكين، لا يقبل القسمة؛ فإن واحداً منهما لا يُجبر صاحبه على البيع، وإن كانت القسمة متعذرة، فلكل واحدٍ من الشريكين أن يبيع حصته من الملك المشترك.
وهل يملك كلُّ واحدٍ من صاحب الثوب والصبغ أن يبيع ملكه على حياله؟ القياس أنه يملك اعتباراً بالملك المشترك بين شريكين الذي لا يقبل القسمة.
ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع؛ فإنه لا يتأتى الانتفاع بالثوب وحده، ولا بالصبغ. والبيعُ فيما يعسر الانتفاع به قد يفسد. والملك المشترك يفرض التوصل إلى الانتفاع به بالمهايأة.
وهذا الذي ذكرناه يشبه بيعَ دارٍ لا ممر لها، وقد ذكرنا في صحة بيعها خلافاًً.
هذا تفصيل القول فيه إذا لم تزد قيمةُ الثوب والصبغ، ولم تنقص.
4635- فأمّا إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، فصبغَ الغاصب الثوبَ بصبغه، وعقده، فإذا الثوبُ المغصوب يساوي عشرة، فقد سقطت إحدى القيمتين، واتفق أئمتنا على أن النقصان محسوب من الصِّبغ، فلم يبق إلا قيمةُ الثوب، فالثوب المصبوغ مسلمٌ لصاحب الثوب، لا حظَّ فيه لصاحب الصِّبغ؛ فإن الأصل الثوبُ، والصبغ وإن كان عيناً فهو في حُكم الصفة للثوب، فكأن الصِّبغ قد انمحق، وما ذكرناه في الغاصب وصبغه، ليس بدعاً، إذ قد ذكرنا في كتاب التفليس أن من اشترى ثوباً قيمتُه عشرة، وصبغه بصبغٍ من عنده قيمتُه عشرة، فإذا الثوب المصبوغ يساوي عشرة، فإذا أفلس المشتري بالثمن، وحُجر عليه، فبائع الثوب يرجع في عين الثوب المصبوغ، ويستبدّ به، وإن كان فيه عينُ الصبغ، فإذا كنا نقول ذلك، وقد حصل استعمال الصبغ من المشتري المالك، فالغاصب المعتدي باستعمال الصِّبغ بأن يسقط حقه أولى.
وعلى حسب هذا نقول: إذا طيرت الريح ثوباً لإنسان وألقته في إجّانةِ صباغ، فانصبغ، وما ازدادت قيمةُ الثوب، وتعلق بالثوب من الصِّبغ ما قيمته خمسة، ولم ترتفع قيمةُ الثوب، وكان الصبغُ معقوداً، فقد حبط حق مالك الصِّبغ.
وإن قال قائل: لم يَعْتدِ مالكُ الصبغ، فلِمَ يحبط حقُّه؟ قلنا: لم يظهر للصِّبغ أثر في الثوب، فصار كما لو طيرت الريح جِرمَ الصِّبغ. ومن تعجب من ذلك، رددناه إلى مسألة المفلس؛ فإن المشتري المفلس تصرف في ملك نفسه، واستعمل في الثوب المملوكِ الصِّبغَ المملوكَ، ثم أحبطناه في الصورة التي نحن فيها.
هذا كله إذا سقط مقدار قيمةِ الصِّبغ بالكلية.
4631- فأمّا إذا لم تسقط، ولكن نقصت فكان الثوب يساوي عشرة، والصِّبغ يساوي عشرة، وكان الثوب المصبوغ يساوي خمسةَ عشرَ، فالنقصان محسوبٌ من قيمة الصِّبغ، وقيمةُ الثوب نقدرها عشرة، كما كانت. وإذا بعنا الثوب برضاهما، فالثمن مقسوم بينهما أثلاثاً. ولو زادت قيمة الثوب المصبوغ على قيمة الثوب وحده، وعلى قيمة الصِّبغ وحده، فإذا وفت القيمتان، حسبنا الزيادة منسوبة إليهما على مقدارهما.
وبيان ذلك: أنا قدَّرنا الثوب عشرة والصبغ عشرة، ثم وجدنا الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين، فالقيمتان متساويتان، والزيادة مفضوضةٌ عليهما بالسوِيَّة. فإذا بيع الثوب، فلمالك الثوب خمسة عشر، ولصاحب الصِّبغ خمسةَ عشرَ. فهذا قياس الباب.
والضابطُ فيه. من طريق الحساب أنا إذا لم نجد بعد الصِّبغ إلا مقدارَ قيمة الثوب غيرَ مصبوغ، فقد انمحق الصِّبغ، فالمصبوغ لصاحب الثوب. وإن وجد الثوب المصبوغ ناقصاً عن القيمتين، احتسب الثوبُ على كمال قيمته قبل الصبغ، واحتسب النقصان كله من الصِّبغ. وإن وفت القيمتان، اعتبرناهما جميعاً. وإن زادت قيمة المصبوغ على قيمة الثوب والصبغ مفردين، فالزيادة على القيمتين مفضوضةٌ عليهما.
ولو وجدنا المصبوغ أقلَّ قيمةً من الثوب قبل الصبغ، فقد انتقص الثوب بذلك المقدار، فعلى الغاصب ردُّ الثوب، وأرشُ ما نقص. وهو كما لو كان الثوب وحده عشرة، والصِّبغ عشرة، والثوب المصبوغ ثمانية، فالغاصب يرد الثوب، ودرهمين.
وقد انمحق الصبغ.
وكل ما ذكرناه في الصبغ المعقود الذي لا يتأتى فصله أصلاً.
4632- فأمّا إذا كان فصل الصبغ ممكناً، فالذي ذهب إليه المراوزة أن للغاصب أن يفصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ثم لم يفرقوا بين أن يكون للصِّبغ المفصول قيمةً، وبين ألا يكون لها قيمة، وبين أن تكون قيمتها نَزْرةً بالإضافة إلى ما كان الصِّبغ عليه قبل الاستعمال، واعتمدوا فيه أنه عينُ مال الغاصب، فهو أولى به من غير التفاتٍ إلى أصل القيمة ومقدارِها.
ثم قالوا: لو لم يطلب الغاصبُ فصلَ الصِّبغ، فلصاحب الثوب أن يجبره على الفصل، مَصيراً إلى تفريغ الثوب عنه، ثم لا نظر إلى القيمة، كما ذكرناه.
ثم قالوا: إذا فصل الغاصب الصّبغ، بإرادته واختياره، أو فصله بإجبار مالك الثوب إياه، فإن كانت قيمة الثوب بعد فصل الصبغ كقيمته قبل استعمال الصِّبغ، فلا كلام، والثوب مردود على مالكه، وإن نقصت قيمة الثوب بعد فصل الصِّبغ، عن قيمته قبل استعمال الصبغ، فعلى الغاصب أرشُ النقصان؛ لانتسابه إلى العدوان في استعمال الصبغ ابتداءً. هذا والأمر مفروض في فصل الصبغ.
فإن تراضيا على بيع الثوب مصبوغاً، فالقول في الثمن والحالة هذه، كالقول فيه إذا كان الصبغ معقوداً.
هذا طريق المراوزة.
وقال العراقيون: إن أمكن فصلُ الصبغ من غير نقصانٍ في قيمة الصبغ، فللغاصب الفصل، ولمالك الثوب الإجبارُ عليه.
وإن كان الصبغ المنفصل لا يساوي شيئاًً، أو كان يساوي مقداراً نزراً، بالإضافة إلى قيمة الصبغ قبل الاستعمال، وكان الغاصب الذي هو صاحب الصبغ يبغي أن يُبقي الصبغ، ولا يزيله؛ حتى لا يحبطَ ملكُه، أو لا يخسر خسراناً مبيناً، وليقع التصوير فيه إذا كان الثوبُ المصبوغ يساوي عشرين، فصاعداً، والصبغ لو فصل، لما كانت له قيمة، أو كانت نزرة. فإذا أراد الغاصب ألا يفصل، وأراد صاحب الثوب أن يُلزمه الفصلَ، وإن كان الفصل يؤدي إلى تخسيره، قال العراقيون: في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يُجبَر الغاصبُ على إزالته، بل يُجبر مالكُ الثوب على تبقيته، ويكونان شريكين في الثوب. قالوا: وهذا اختيار ابن سريج، ووجهه أن صاحب الثوب متعنت، في تكليف الغاصب إزالة الصبغ؛ وليس يتعلق بهذا غرض صحيح.
والوجه الثاني- أنه يُجبر على الإزالة إذا طلب مالك الثوب. قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي، وابنِ خَيْران، وتعليلُه ما ذكرناه في طريق المراوزة.
هذا إذا طلب مالك الثوب فصلَ الصبغ، ولم يرض به الغاصب. فأما إذا رضي صاحب الثوب بتبقية الصبغ، وأبى الغاصب، وطلب أن يفصل صِبغه، فإن كان لا ينتقص الثوب بفصله، فهو مجابٌ إلى ما يريد من فصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ولا ضرر على صاحب الثوب بفصله، ثم لا نظر إلى قيمة الصبغ، سقطت أو نقصت.
فإن كان فصل الصبغ يؤدي إلى إلحاق نقصٍ بالثوب، بأن كان يرده إلى تسعةٍ، أو ثمانية، ولو ترك الصبغ، اشتري بالعشرين مثلاً، فيعود في هذه الصورة الخلاف الذي حكاه العراقيون: ففي وجهٍ لا يمكَّن الغاصبُ من فصل الصبغ؛ لأنه ليس له في فصله غرض صحيح، وفيه تنقيص الثوب في الحال، إلى أن نفرض جُبران النقصان بالضّمان، وفي وجهٍ يجاب الغاصب إلى ما يريده، ثم إن كان نقصٌ جَبَره. وهذا قياس المراوزة.
ولا يخفى على النّاظر في قياس القواعد أن الوجه ما قطع به المراوزة، وما عداه خبط وتخليط، لا ينضبط فيه رأي، وإنما هو استصلاحٌ محض، لا معوّل عندنا على مثله.
ثم قد أَدَرْنا في تفصيل الكلام تصويرَ نقصان الصبغ إذا فُصل، وتصوير سقوط قيمته على رأي العراقيين في تخريج الوجهين، فالذي يقتضيه فحوى كلامهم أن الخلاف يختص بسقوط قيمة الصبغ، أو سقوط معظمها عند تقدير الفصل. فالذي يقتضيه القياس مع التزام أصلهم أنه إذا كان الصبغ المفصول يسقط من قيمته ما لا يتغابن الناس في مثله بالإضافة والنسبة إلى ترك الصّبغ في الثوب، فيطّرد الخلاف، حتى لو كان الثوب المصبوغ يساوي عشرين، وحصة الصبغ منها عشرة، وكان الصبغ لو فصل يساوي تسعة، فالدرهم الناقص مما لا يتغابن الناس في مثله، فيظهر من فصل الصبغ تخسير معتبر، ويلزم منه طرد الخلاف الذي ذكروه.
4633- ونحن الآن نُلْحِق بطريق المراوزة وهي اختيار أبي إسحاق المروزي-فيما حكاه العراقيون- تفريعَ حكم آخر، فنقول: إذا كان مالك الثوب يملك إجبار الغاصب على فصل صبغه، وكان الغاصب يتعب بفصله مثلاً، فقد ذكرنا أنه مجبر عليه، فلو قال: تركت الصبغ على مالك الثوب نِحْلة وهبةً، فلا تطالبوني بتكليف فصله، فكيف السبيل في ذلك؟ ذكر الأئمة وجهين:
أحدهما: أن صاحب الصبغ يجاب إلى ملتمسه، فيدخل الصبغ في ملك صاحب الثوب قهراً وإن لم يُرِدْه.
والوجه الثاني- أنّه لا يجاب صاحب الصبغ إلى ذلك، بل يجبر على فصل الصبغ وإن لاقاه من الكلفة ما لاقى.
توجيه الوجهين: من قال لا يجاب الغاصب، فهو متمسك بالقياس الكلي؛ فإن إجبارَ مالك الثوب على الملك في الصِّبغ خارج عن القانون، وتكليف الغاصب ما يتعبه محمولٌ على نتيجة عدوانه.
ومن قال: يجاب الغاصب، اعتقد الصِّبغ في حكم الصفة التابعة، وقال للمالك: إذا كنت لا تخسر شيئاًً، وقد صار الصبغ صفةَ ثوبك، فاحتمله.
وظاهرُ المذهب أن من اشترى فرساً وأنعله، لما قبضه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، ولو كلفناه قلعَ النعل، لعاب الفرس عيباً حادثاً، ولامتنع ردُّه بالعيب القديم لمكان العيب الجديد الذي يحدثه قلعُ النعل، فللمشتري رد الفرس منعلاً، ثم النعل يدخل في ملك المردود عليه. هذا ظاهر المذهب، وقد فصلتُه في كتاب البيع، في فصول الرد بالعيب.
وهذا يفارق الخلاف الظّاهر الذي ذكرناه بين الغاصب والمغصوب منه في الصبغ، والفرق أن المشتري ليس متعدِّياً؛ فإنه أنعل الفرس الذي ملكه بالشراء، ثم فُرض الاطلاعُ على العيب، فلم يكن المشتري منتسباً إلى التقصير. وبناءُ أمر الغاصب على العدوان، فهو بألا يجاب إلى ملتمسه أوْلى.
هذا بيان قاعدة الكلام في ذكر الخلاف.
4634- ثم اختلف أئمتنا في محل الوجهين المذكورين في الغاصب وصِبغه.
وحاصل ما فهمنا من نقل الأئمة وفحوى كلامهم ثلاثُ طرقٍ في محل الوجهين: إحداها للعراقيين، وهي: أنا لا ننظر إلى ضررٍ ينال الغاصب، ولكنّا نطلق الوجهين، مهما أراد ترك الصبغ على مالك الثوب، والمتبع عندهم اتصال الصبغ بالثوب، وقيامُه فيه مقامَ الصفة، قالوا: سواء كان ينتقص الصبغ لو فصل، أو لا ينتقص، وسواء كان ينتقص الثوب، و يُلزم انتقاصُه الغاصبَ الضّمانَ، أو كان لا ينتقص، فمهما ترك الغاصب الصبغ على مالك الثوب، فالوجهان جاريان، ومعتمد جريانهما الاتصال، وقيام الصبغ مقام الصفة. وطرد هؤلاء الوجهين في الصبغ المعقود الذي لا يفرض فصله، فقالوا: لو تركه الغاصب، وأراد أن يُملِّكه صاحبَ الثوب، فالوجهان يجريان.
وهذه طريقة بعيدة.
ومن أصحابنا، من قال: إذا كان على الغاصب تعبٌ في فَصْل الصِّبغ، فإذ ذاك يجري الوجهان: إذا أراد تَرْكَ الصبغِ على مالك الثوب، وكذلك إذا كان لا ينتفع به لو فصله، أو كان يثبت له قيمةٌ نزرة، فيجري الوجهان في هذه الصورة.
فأمّا إذا تيسر الفصلُ وللصبغ المفصول قيمةٌ معتبرة، يطلب مثلُها، أو كان الصبغ معقوداً، فإذا سَمَح صاحب الصبغ في هذه المنازل، فأراد أن يتركه ملكاً على صاحب الثوب، فلا يجاب إلى ملتمسه، بل إذا كان معقوداً، فالشركة قائمة، وإن لم يكن معقوداً، أجبر على فصله إذا لم يكن تعبٌ ولا سقوطُ معظم القيمة. ولعل هذا القائل يقيس التعب بما يبقى من القيمة، فإن كان ما يبقى من القيمة لا يفي بالتعب الذي يلقاه المزيل، فهو من صور الوجهين. وإن كان يفي بالتعب ويزيد، فلا إجبار على التمليك. وإن كان يفي بالتعب، ولا يزيد، فلا فائدة إذاً ويجري الوجهان.
هذا بيان الطريقة الثانية في محل الوجهين.
ومن أصحابنا من قال: الغاصب مجبر على إزالة الصِّبغ إذا كان لا يؤثر فصلُه في تنقيص قيمة الثوب، كيف فُرض الأمر في الصبغ، ولا نظر إلى التعب، ولا إلى سقوط قيمة الصبغ. وإن كان فصلُ الصبغ ينقُص قيمةَ الثوب، فأراد الغاصب ترك الصبغ؛ حتى لا يحتاج إلى غرامة أرش النقص الذي يلحق الثوبَ، فإذ ذاك يخرّج الوجهان في أنه هل يجاب إلى ملتمسه. وصاحب هذه الطريقة يقابل أرش النقص بقيمة الصِّبغ المفصول، فإن كانت قيمةُ الصبغ تفي بأرش النقص، أُجبر الغاصب على الفصل، وإن كانت قيمةُ الصبغ لا تفي بأرش النقص، فإذ ذاك نُجري الوجهين.
هذا بيان أصل الوجهين. وذُكر الاختلاف في محلها.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إجابة الغاصب في الصبغ المعقود، إلا ما ذكرناه من طريقة العراقيين.
4635- ومما تتم به هذه التفاريع: أنا حيث لا نوافق الغاصبَ، ولا نجيبه إلى ما يبغيه، فإذا أراد هبة الصبغ، فلابد من رعاية شرائط الهبات: من فرض الهبةِ من صاحب الصِّبغ، وقبوله من صاحب الثوب.
وحيث قلنا: يجاب الغاصبُ إلى ما يلتمسه، فلا حاجة إلى قبول صاحب الثوب، ولابد من لفظ يصدر من صاحب الصِّبغ، ويجوز أن يقال: يكفي أن يقول: تركت الصبغ على صاحب الثوب، ولا حاجة إلى لفظ الهبة، وما يقوم مقامه؛ فإنا إذا كنا لا نشترط القبولَ، فمجرد لفظ الهبة لا معنى لاشتراطه، ولكن لابد من لفظة تشعر بقطع حق الغاصب، كقوله: أعرضت، أو تركت، أو أبرأت عن حقي، أو أسقطت، ولا شكّ أنه لا يقع الاكتفاء بلفظ متردد بين الإعراض وبين التَّوقف. ويجوز أن يقالَ: لابد من لفظ يشعر بالتمليك والتبرع، وإن كنا لا نشترط القبول، فينزل لفظ التبرع مع سقوط القبول منزلةَ لفظ الأب إذا وهبَ من طفله شيئاًً، ولم نشترط القبول.
ثم إذا جرى لفظٌ نقنعُ به، والتفريع على أنه يجاب، فلو أراد أن يرجع، فهو رجوع في هبة تامةٍ. والكلامُ مفروض فيه إذا كان الثوب في يد مالكه.
فليتأمّل الناظر ما نلقيه من أعواص الكلام في هذه التفاصيل.
ومما يبقى علينا بعد هذا الإيضاح فروعٌ نرسمها نستدرك ما يُقَدَّر شذوذه عن ضبط الأصول.
فرع:
4636- إذا كان الصبغ معقوداً، وأثبتنا صاحبَ الثوب والغاصبَ شريكين، فلو قال صاحب الثوب: أنا آخذ الصِّبغ بقيمته، وهو معقود، أو كان الصبغ بحيث يتصوّر أن يزال على يسر أو عسرٍ، فإذا أراد أن يأخذ الصبغ بقيمته، لم يُجب إلى ذلك. وهكذا إذا غرس الغاصب في الأرض المغصوبة، فقال المالك: أنا آخذ الغراس بالقيمة، لم يكن له ذلك. هكذا ذكره القاضي. وليس كما لو أعار أرضاً، فغرسه المستعير، ثم رجع المعير في العاريّة، وطلب أخذ الغراس بالقيمة، فقد يجاب إلى هذا في تفاصيلَ قدمنا ذكرها، والفرق بين القاعدتين أن المعير لا يتمكن من قلع ملك المستعير أو إجباره على القلع مجّاناً؛ فكان فيه حاجة إلى الأخذ بالقيمة في بعض مجاري الكلام. والمغصوب منهُ متمكن من إلزام الغاصب إزالة ملكه مجاناً، وهذا واضح لا شكّ فيه.
فرع:
4637- إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، والثوب المصبوغ يساوي ثلاثين.
وقد ذكرنا أنهما إذا رضيا ببيع الثوب، فالثمن مقسوم بينهما نصفين. فلو كان الصبغ بحيث يمكن إزالته، فإن أراد الغاصبُ فصله، فله ذلك. ولكن إن بقي الثوب بعد فصله مساوياً خمسةَ عشرَ، فذاك. وإن نقص الثوب عن خمسةَ عشرَ، فعلى الغاصب ضمان النقصان. والظاهر أنه ينقص إذا فصل الصبغ، إلا أن يفرض في الثوب تغيير سوى استعمالِ الصبغ. والغرض أن الخمسة عشر محسوبة على الغاصب إذا اختار فصلَ الصبغ.
فإن قيل: لم قلتم ذلك؟ وهلا اعتبرتم قيمةَ الثوب في الأصل وهي عشرة، فاعتبروا النقصان منها، ولا تحسبوا على الغاصب غيرها؟ قلنا: الخمسة الزائدة في قيمة الثوب زيادةٌ حصلت في الثوب في يد الغاصب-وإن كانت بفعله- فهي محسوبة عليه، ومحمولةٌ على الزيادة التي تحصل بالآثار التي ليست أعياناً، كالقِصارة وما في معناها، فشابهت الزيادةُ التي ذكرناها ما لو غصب الرجل جوهرَ الزجاج، وقيمتُه درهم، ثم اتخذ منه قدحاً قيمتُه عشرة، فلو انكسر القدح، فكان الزجاج المنكسر يساوِي درهماً، فعلى الغاصب التسعةُ الناقصة بسبب الكسر.
هذا إذا أراد الغاصِب فصْل الصّبغ.
ولو لم يرده، ولكن أجبره مالك الثوب على فصله، فإن رجعت قيمةُ الثوب إلى عشرة، فلا يغرَم الغاصب بسبب نقصانِ الخمسة التي كانت زادت شيئاًً؛ فإن المالك أجبره على الإزالة. وإن نقص من العشرة شيء، فيلزم الغاصب حينئذ ما ينقص من العشرة؛ فإن هذا محمول على عدوان الغاصب باستعمال الصبغ ابتداء. وهذا بمثابة ما لو غصب نُقرةً قيمتها دينار، فصاغ منها حلياً قيمتُه دينار وسدس، فأجبره المغصوب منه على رد الحلي تبراً. فإن كان التبر يساوي ديناراً، فلا شيء على الغاصب. وإن نقص التبر عن الدينار، فعلى الغاصب ذلك النقصان المنسوب إلى الدينار. وهذا بيّنٌ لا إشكال فيه.
فرع:
4638- إذا كان الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين كما صوّرناه، ثم انحط السعر، فصار ذلك الثوب يساوي عشرة، فهذه الحطيطة محمولةٌ على نقصان الثوب والصبغ جميعاً، فيقدر كأن سعر الثوب دون الصبغ خمسة، وقد كان عشرة، وسعر الصبغ دون الثوب خمسة، وقد كان عشرة، وإنما يحسن وقعُ هذا التصوير إذا وجدنا الأمر كذلك في الثوب والصبغ مفردين.
فلو رد الثوب، فهو شريكٌ فيه؛ فإن العين المغصوبة إذا لم تنتقص بآفة، فنقصان السوق غيرُ معتبر مع رده، وقد ردّ الثوبَ، فترتب عليه كونُ مالك الثوب ومالك الصبغ شريكين. وإن كانت قيمتهما الآن مثلَ قيمة الثوب وحده لمّا غصب، فإن هذا التفاوت راجع إلى السوق، وقد أوضحنا أنَّ تفاوت السوق غيرُ معتبر مع رد العين.
فإذا تصورت المسألة على هذا الوجه، فلو نزع الغاصب الصبغ بإذن المالك بعد أن عادت القيمة بالسوق إلى عشرة، فصار الثوب يساوي أربعاً، وقيمة ثوبٍ غيرِ مصبوغ الآن خمسة، فإذا انتقص خُمسُ قيمة الثوب، فلا نقول: يلزمه درهم، بل يلزمه النقصان بحساب العشرة؛ فإن ما ينتقص في يد الغاصِب يحسب عليه نقصانه من أكثر القيم، وكانت قيمة الثوب دون الصبغ عشرة، فليقع الاحتساب منها؛ فيلزمه خُمسُ العشرة وهو درهمان.
وقد انتهى غرضنا في ترتيب المذهب في قسمٍ واحدٍ من الأقسام الثلاثة التي صدّرنا بها أول فصل الصبغ، وهو إذا كان الصبغُ ملكَ الغاصب.
4639- والآن نلحق بعد نجاز ترتيب المذهب شيئاًً حكاه صاحب التقريب أخّرناه، ولم نر ذكره في سياق الترتيب. وذلك أنه قال: إذا غصب ثوباً، وصبغه بصبغ من عنده، وكان الصبغ معقوداً لا يُزالُ، فللشّافعي قولان:
أحدهما: وهو المنصوص عليه في الجديد أن الغاصب يكون شريكاً في الثّوب إذا كانت قيمة الثوب المصبوغ زائدة على قيمة الثوب من غير صبغ، وهذا هو الذي قطعنا به وبنينا عليه ترتيبَ الطرق.
والقول الثاني-حكاه عن القديم- أن الصبغ المعقود لصاحب الثوب، وهو بمثابة سمن العبد المغصوب في يد الغاصب، وهذا غريبٌ جداً، لم أره لغير صاحب التقريب.
وقال أيضاً: لو كان الصبغ بحيث يمكن فصله، ولكن لو فصل، لما كانت له قيمة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك الصبغ معتبر في حق الغاصب، ثم يُفصِّله ما ذكره الأصحاب، إذ رتبوا المذهب كما قد بيّناه.
والقول الثاني- وهو فيما زعم منصوص عليه في القديم: أن الصبغ بمثابة زيادة متصلة، كالسمن ونحوه، فهو ملك صاحب الثوب وهذا الذي ذكره في الصبغ الذي يمكن إزالته في نهاية البعد؛ فإنه إن تخيل متخيل مشابهة الصبغ المعقود السمن؛ من حيث لا يتعلق فصله بالاختيار، فهو فيما يمكن فصله بعيد؛ فإن صاحب العين أولى بها، وإن كانت ساقطةَ القيمة.
وكلّ هذا في قسمٍ واحدٍ.
4640- فأمَّا إذا كان الصبغ ملكَ مالك الثوب، وكان غَصَبَ الثوبَ والصبغَ من شخصٍ واحدٍ، ثم استعمل الصبغ في الثوب. فإن كان الثوب عشرة، والصبغ عشرة، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرين، فلا نقصان إذاً؛ فإن كان الصبغ معقوداً، فلا ضمان على الغاصب، وإن كان بحيث يمكن إزالته، فإن رضي المالكُ به، فلا كلام. وإن أراد أن يكلفه إزالة الصبغ، فله ذلك، كما له أن يكلفه إبطال الصَّنعة المجردة التي أثبتها في العين المغصوبة، وهي إذا طبع من النُّقرة دراهمَ، ثم كلف الغاصب ردها نُقرة، فله ذلك.
فلو أزال الصبغ، فانمحق، أو نقصت قيمته، أو نقص الثوب، فلا يلتزم الغاصب بسبب النقصان شيئاً؛ فإنّ كل نقصان يثبت بسبب فك الصنعة بإذن المالك، فلا يكون مضموناً. وقد ذكرنا أن المغصوب منه إذا كلف الغاصبَ ردّ الدراهم نقرة، فابتنى عليه نقصانٌ لابد منه، فلا ضمان على الغاصب.
4641- ويتعين في هذا المقام التنبيه لسرٍّ لطيف في المذهب، وهو أن الصّفات إذا فاتت في يد الغاصب لصنعة أحدثها، وقد ازدادت القيمةُ بالصنعة، ولكن خرج التبر عن كونه تبراً، فالمالك يجبر الغاصبَ إن أراد على إبطال صنعته. وليس الغرض من ذلك اعتقاد استحقاق الصّفةِ التي كان التبرُ عليها قبل أن صِيغت أو طبعت؛ إذ لو كنا نعتقد ذلك، لألزمنا الغاصبَ النقصان إذا سبك الدراهم نُقرةً بأمر المالك. ولكنَّا نثبت هذا الحق للمالك على الغاصبِ؛ من جهة أنا نبني الأمر على غرضٍ له في النقرة، فالمرعي في ذلك الأغراضُ، لا المالية. فليفهم الناظر ذلك. وهذا إذا لم يفسد صنعة متقومة.
فأمَّا إذا غصب حلياً لصنعته قيمةٌ، فاتخذ منه حلياً آخرَ، قيمةُ صنعته تضاهي قيمة صنعة الحلي المغصوب، فقد نقول: لا جبران؛ فإنه يكسر الحلي الأوّل ثم يصوغه مرة أخرى، فليلتزم بالكسر أرش النقص، ثم الصيغة الجديدة التي يحدثها لا تجبر ما تقدم من النقصان. وقد مهدنا ذلك.
ولو غصب حلياً وكسره، واتخذ منه صنفاً آخر من الحليّ، فالمغصوب منه لا يكلفه رده إلى الصنعة الأولى؛ فإن ذلك لا يمكن الوفاء به. وقد ذكرت ذلك فيما تقدم.
فإذا تجدد العهد بهذا، ابتنى عليه أن المغصوب منه لو كلف الغاصبَ إزالة الصبغ، فله ذلك، ولكن لو فرض نقصانٌ، لم يلزمه أرش النقصان.
ومما لا يخفى أنه لو غصب ثوباً قيمته عشرة، وغصب من مالك الثوب أيضاً صبغاً قيمته عشرة، ثم صبغ الثوب، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرة. فقد أتلف الغاصب الصبغَ، فيلزمه بدلُه: المثلُ إن كان من ذوات الأمثال، أو القيمةُ إن كان من ذوات القيم. وإن كان الثوب يساوي خمسةَ عشرَ، يلزمه ما يقابل النقصان، ويحتسب النقصانُ من الصبغ. هذا منتهى القول في هذا الأصل.
4642- فأمَّا إذا غصب ثوباً من زيدٍ، وغصب صبغاً من عمرو، فإن كان الصبغ معقوداً ولم يفرض نقصان، فلا ضمان على الغاصب الصابغ، وقد صار مالك الثوب ومالك الصبغ شريكين.
فإن فرض نقصان والصبغ معقود، نظر: فإن انمحق الصبغ، وكان الثوب يساوي عشرةً، فالغاصب يغرَم بدل الصبغ للمغصوب منه. وإن كان الثوب يساوي خمسة عشر، فصاحب الصبغ شريك، وحقه الثلث من الثوب المصبوغ، وملكه على الحقيقة عين الصبغ، ولكنه يقع ثلثاً مع الإضافة إلى الثوب، ويغرَم في هذه الحالة الغاصبُ نصفَ قيمة الصبغ إذا كان متقوماً. وكل ذلك إذا كان الصبغ معقوداً.
فأمّا إذا كان يمكن إزالته، فليقع الفرْض فيه إذا لم تتفق زيادة ولا نقصان في الثوب والصبغ. فإن رضيا، فهما شريكان، وإن أرادا أن يُكلفا الغاصِبَ استخراج الصبغ، وتمييزه عن الثوب، فلهما ذلك. ثم إذا فصل، وحدث نقص غرِم الغاصب أرش النقص لا محالة. وليس هذا من باب فك الصنعة المجرّدة عند اتحاد المالك؛ فإن في هذه الصورة نوعاً من الاعتداء، وهو وصل ملك زيد بملك عمرو، فيلتزم النقصانَ.
وهذا يتضح بصورة: وهي أن الصبغ والثوبَ لو زادا، فصار الثوب يساوي ثلاثين، فإن أزال الغاصبُ بنفسه، التزم نقصان الثوب من حساب خمسةَ عشر، والتزم نقصان الصبغ أيضاً من حساب خمسة عشر.
وفي القلب من هذا شيء؛ من جهة أن الملك لم يتحد، حتى يقال: حصلت هذه الزيادة بالصنعة في ملكٍ واحدٍ في يد الغاصب، ثم ترتب عليه نقصان، بل حصل ما حصل من الزيادة بسبب ضم ملك زيد إلى ملكِ عمروٍ، فكان لا يمتنع في القياس أن يقال: هذه الزيادة غير معتبرة ولا محسوبة على الغاصب. وهذا دقيق لطيف.
والأصل ما قدمناه للأصحاب، وهو المذهب.
ولو كلفناه الإزالة والثوب ثلاثون ففُرض نقصان، فالنقصان محسوب عليه من حساب العشرة في كل جانب؛ فإن الزيادة حصلت بالصنعة، وقد أفسدها بإذنهما.
وفيما ذكرناه أن الصنعة إذا أفسدها الغاصبُ بإذن المغصوب منه، لم يضمن نقصانها.
وإن أمره أحدهما بالفصل دون الثاني، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أن النقصان في حق الآمر محسوب من العشرة، وفي حق من لم يأمر من خمسة عشر.
ويظهر من هاهنا الاحتمال الذي ذكرناه قبل هذا؛ فإن الغاصب يقول للذي لم يأمره بالفصل: كيف أغرَم لك من حساب الخمسة عشر، وإنما تمت الصنعة في صبغك بأن وصلته بثوب غيرك وقد أجبرني مالك الثوب على فصله، ويقتضي هذا حَسْبَ النقصان في حق من لم يأمر منهما من العشرة أيضاً.
هذا نجازُ القولِ في فصل الصبغ.
ولو غصب أرضاً وغرس فيها، أو بنى، فتفصيل القول في الغراس مع الأرض والبناء عليها كتفصيل القول في صِبغٍ يستعمله الغاصب في ثوب مغصوب، والصبغ يمكن إزالته. وقد مضى ذلك مفصلاً مقسماً.
فصل:
قال: "ولو كان زيتاً فخلطه بمثله... إلى آخره".
4643- الرأي أن نذكر في صدر الفصل نص الشافعي رضي الله عنه على وجهه، ونبين معناه، ثم ننشىء بعده ترتيبَ المذهب. قال رضي الله عنه: إذا خلط الزيت المغصوب بزيت له، وزيته أجود من الزيت المغصوب، فالغاصب بالخيار بين أن يعطيه من المخلوط مثلَ مكيلته، وبين أن يعطيه من موضع آخر مثل زيته.
وإن خلط الزيتَ المغصوب بمثله، فظاهرُ النص أنه يتخير أيضاً: إن شاء أعطاه من المخلوط مثلَ مكيلته، وإن شاء أعطاه من غيره.
وإن خلطه بزيتٍ أردأَ من زيته، فالمالك بالخيار، إن لم يرض بالمخلوط، فله ذلك، فيطلب من الغاصبِ مثلَ زيته، وإن رضي بذلك المخلوط،. فالغاصبُ بالخيارِ، إن شاء أعطاه من ذلك المخلوط مكيلة زيته، وإن شاء أعطاه من موضع آخر.
هذا نص الشافعي رضي الله عنه. وهو مصرح بأن الخلط يتنزل منزلة عدم العين المغصوب؛ فإنه خيّر الغاصبَ في الأقسام الثلاثة بين أن يعطي حقَّ المغصوب منه من المخلوط، وبين أن يعطيه من موضع آخر، فإذا كان يتخيّر على هذا الوجه، فهذا يدل على أن حق المغصوب منه زائل في التعلق بعين ماله. وعلى الغاصب أن يوفيه حقه، فإن أتاه بمثل زيته من أي موضع شاء، قبِله المغصوبُ منه، وإن أتاه بمثل مكيلته من هذا المخلوط، فلا خيار للمغصوب منه؛ فإنه أعطاه أجود من حقه، ولكن الغاصب لا يتعين عليه البذلُ من هذا المخلوط.
وإن كان الخلط بالأردأ، فإن أعطاه مثل زيته من موضعٍ آخر، قبله. وإن أعطاه من المخلوط، فالخيار إلى المغصوب منه.
هذا معنى النص. ونحن نبتدىء بعد هذا تفصيل المذهبِ، فنقول:
4644- حاصل ما ذكره الأئمة في تأسيس المذهب ثلاث طرق: أشهرها، وأظهرها- إجراء القولين في الأحوال الثلاثة أحدهما- أن عين مال المالك في حكم المفقود. وقد قال الشافعي في التعبير عن هذا: "الذائب: إذا اختلط بالذائب، انقلب". والقول الثاني- أن عين المال قائمةٌ، وهذا هو الحق في مسلك القياس؛ فإنا نقطع بقيامها حِساً، فبعُد إلحاقها بالمعدومات، مع تحقق وجودها.
فإذا طردنا الطرق بتفريعاتها، نبهنا بعدها على مشكلة عظيمةٍ، وغائلةٍ صعبة الموقع، فما ذكرناه من طرد القولين طريقة واحدة.
الطريقة الثانية: قطعُ القول بموجب النص، وهو أن الزيت إذا خلط بزيتٍ، كان كالمعدوم. وقد أوضحنا شهادةَ النص على هذا.
والطريقة الثالثة: أن الخلط بالمثل لا يُلحق الزيت بالمعدوم، وفي الخلط بالأردأ والأجود القولان؛ فإن التسليم من المخلوط المتشابه الأجزاء ممكن، بلا مراجعة.
وفي التسليم من المخلوط المختلف رداءةً وجودة عسر، كما سنصفه في التفريع.
4645- هذا بيان الطرق الثلاث.
والرأي بعدها أن نختار طريقة القولين، ونجريهما في الأقسام الثلاثة، ونفرعُ عليهما. ثم في التفريع عليهما بيانُ المذهب في جميع الطرق.
فإن حكمنا بأن العين المغصوبة كالمفقود، فأصل المذهب أن يُلْحَق الخلط بإتلاف الزيت. ولو غصب زيتاً، فأتلفه، وكان يملك مثله، وأجود منه، وأردأ منه. فإن أعطى المالك مثل حقه، قبله لا محالة، ولا خِيَرة. وإن أعطاه أجود من حقه، تعيّن على المالك قبوله. ولم يكن له أن يقول أبغي مثل حقي ولا أتقلّد منة البذل في مزية الجودة؛ فإن هذا محتمل في الصّفة بلا خلاف، فلا حكم للمنة فيها. ولو أتاه بأردأ من حقّه، فله أن يمتنع من قبوله؛ فإن قبله، وقع الموقع. فالمخلوط بالأجود ملك الغاصب، فإذا أعطى منه، كان ما جاء به أجود ممّا غصب، والمخلوط بالأردأ ملك الغاصب أيضاً، فإذا جاء به تخير المغصوب: إن شاء قبله، وإن شاء رده. هذا بيان هذا القول.
فأما إذا فرعنا على القول الآخر: وهو أن العين المغصوبة قائمةٌ حكماً، كما لو أنها قائمة حساً، فينظر: فإن كان وقع خلط الزيت المغصوب بمثله، فحق المالك مختص بهذا المخلوط، ولا يتعداه، وسبيل الوصول إليه أن يسلم إليه مثل مكيلة زيته من هذا المخلوط. ثم نحن نعلم أن ما رجع إليه ليس خالصَ حقه، وفيه من ملك الغاصب. وفيما خلفناه على الغاصب ملكُ المغصوب منه. ولكن القسمة توجب التفاصل في الحقوق. وسنشرح هذا في آخر الفصل.
وإن وقع الخلط بالأجود، فليس للمغصوب منه أن يقول للغاصب: أعطني مثل مكيلتي من هذا المخلوط؛ فإنا لو كلفنا الغاصب ذلك، كنا مجحفين به. والذي ذكره الأصحاب أن الغاصب والمغصوب منه شريكان في المخلوط. والوجه أن يبيعاه ويقتسما الثمن على مقدار القيمتين. فإذا كان الزيت المغصوبُ يساوي درهماً، وزيت الغاصب يساوي درهمين، والمخلوط يساوي ثلاثة دراهم، فنبيع المخلوط ونقسم الثمن أثلاثاً بينهما.
ولو أرادا أن يقتسما عين الزيت المخلوط على نسبة الثلث والثلثين، على أن يكون للمغصوب منه ثلثُ الجملة. والمسألة مفروضة فيه إذا كان مقدارُ المغصوب مثلَ مقدار زيت الغاصِب، فلو أراد المالك أن يأخذ ثلثي مكيلته، ويترك الباقي على الغاصب، بناء للقسمة على نسبة القيمتين، فقد قال الشافعي: لا يجوز هذا، فإنه ربا، وإجراءٌ للتفاضل، فيما تُعبدنا فيه بالتماثل. ونقل البويطي عن الشافعي جوازَ القسمة على هذا الوجه. وتكلف أصحابنا، فخرّجوا قوله على أن القسمة إفرازُ حق، وتفاصلٌ فيه، وليس على أحكامِ البيوع، والتفاصُل في الحقوق محمول على القيم ورعاية القسط، في المالية في هذا القسم.
هذا بيان هذا القول في الخلط بالأجود.
وينقدح عندنا مسلك ثالث في هذا، وفي كلام العراقيين رمز إليه، وهو أنا نكلف الغاصب أن يعطي المغصوب منه مثلَ مكيلته من هذا المخلوط؛ فإنا نقول له:
إذا اختلط المالان، صارت الجودة في حكم صفة شائعةٍ في جميع الزيت، فكأنَّ المغصوب زاد زيادة متصلة في يد الغاصب، وهذا متجه وإن لم يثبت عندنا فيه نقل صريح.
4646- فأمّا إذا وقع الخلط بالأردأ، فنقول للمغصوب منه: خذ مكيلتك من هذا المخلوط، وغرِّم الغاصبَ أرشَ النقص، هذا طريق وصولك إلى حقك. وقد ذكرنا في مسائل التفليس أن المشتري إذا خلط الزيت المشترى بأردأ منه، وجعلنا البائع واجداً عين ماله، فنقول له: إمَّا أن تقنع بمقدار حقك من هذا المخلوط، وليس لك أرش النقص، وإما أن تُضارب الغرماء بالثمن، والسببُ فيه أن العيوب في أمثال هذه المسائل من البيع لا تقابل بالأروش، والنقيصةُ مقابلةٌ بالأرش في الغصوب، ومسائل العدوان.
فلو قال المغصوبُ منه للغاصب: نحن مشتركان في هذا المخلوط، فنبيعه ونقسم الثمن على نسبة قيمتي الملكين، فإن رضيا بذلك، جاز، ونفذ.
وإن أرادا أن يقتسما الزيت متفاضلاً على نسبة القيمتين، فقد قال قائلون من أصحابنا: الترتيب في ذلك كالترتيب فيه إذا وقع الخلط بالأجود، حتى يخرّج فيه القولُ الذي حكاه البويطي. وهذا رديءٌ، لا أصل له؛ فإن الرجوع إلى مقدار الحق من هذا المخلوط ممكن، مع غرامة أرش النقص. وهذا أقرب؛ فلا حاجة إلى التزام صورة التفاضل مع الاستغناء عنها.
ولمن يجري القولين أن يقول: إذا كان بناء قولي البويطي على أن القسمة ليست بيعاً بل هي مفاصلة لا يلتزم فيها رعاية المماثلة، فلا نظر-والمعتبر هذا- إلى إمكان الرجوع إلى أرش النقص. ولو كنا نلتزم ذلك، لكان الأرش ومقدار المغصوب في مقابلة مثل المغصُوب، وهذا غير سائغ فيما ترعى المماثلة فيه؛ إذ لا يجوز مقابلة صاع ودرهم بصاعٍ.
هذا حاصل التفريع.
وقد طردنا تفصيل المذهب على ما نقله الأئمة.
4647- ونحن نذكر وراء ذلك إشكالاً عظيماً، فنقول:
ظاهر النص أن المغصوب المخلوط كالمعدوم، وهذا مشكل جداً، فإنه ليس حق المغصوب منه بأن يحكم عليه بالعدم لاختلاطه بملك الغاصب بأولى من عكس ذلك، حتى يقال: انعدم ملك الغاصب باختلاطه بملك المغصوب منه، والخلط متحقق من الجانبين جميعاً. ولا خلاف أن رجلين لو اجتمعا وخلط أحدهما زيتاً له بزيت الآخر، فهما مشتركان. ومسائل الشركة مستندة إلى اختلاط مالي الشريكين.
4648- ولو انثالت حنطة لرجلٍ على حنطة لآخر من غير فرض قصد، فهما مشتركان، ثم يقع النظر في التفاصل، فإن تماثلت الأجزاء، سهل الأمر، وإن اختلفت جودة ورداءة، ففي وصولهما إلى حقهما التفصيل الذي ذكرناه في تفريع المذهب إذا عسر الفصل.
وما ذكرناه في الحنطة لو فرض في الذائب، كان كذلك. وممّا يعضد الإشكال وينهيه نهايته أن من غصب صبغاً، وصبغ به ثوباً لنفسه، أو ثوباً غصبه من الغيرِ، ولم ينمحق الصبغ، فصاحب الصبغ مع صاحب الثوب شريكان إن كان الصبغ معقوداً يتعذر فصله؛ فإذاً لا يبقى على هذا التقدير لظاهر النص توجيهٌ عليه تعويل.
وأقصى الممكن فيه أن نقول: مسألة الخلط في الغصب مأخوذة من نظير لها في البيع: وهي إذا اختلط المبيع بغير المبيع قبل القبض، فإذا جرى ذلك، ففي انفساخ العقد قولان، ذكرناهما في كتاب البيع توجيهاً وتفريعاً.
وتحقيق الشبه فيه أن من باع عيناً، التزم تسليمها مخلّصةً، فإذا عسر ذلك، ولم تكن القسمة-لو قدرت- تسليماً للعين التي اقتضى العقد تسليمها، فنقول: تعذّرُ ذلك كانعدام العين في قولٍ. كذلك الغاصب لما غصب الزيت، التزم رد عينه، فإذا عسر ذلك بالخلط، ولم تكن القسمة تسليماً للعين المغصوبة، كان هذا التعذر بمثابة انعدام العين.
وهذا غاية ما نتكلفه، وهو ركيك؛ فإن العقد عرضةُ الفسخ، والأملاك يبعد نقضُها في غير العقود.
4649- ولنا أن نقول: إنما تعلقنا بانفساخ العقد، لا بخيار فسخه، وانفساخ العقد يتبع تلف العين. وهذا غير مرضي؛ إذ يجوز أن يقال: إنه يحصل عند اليأس من إمكان تسليم المعقود عليه على ما اقتضاه العقد. وأما مسألة الصبغ، فواقعة، وهي مناقضة لما ذكرناه. غير أن الذي ذكره الأصحاب أن الصبغ متميز عن الثوب عياناً وحساً، ولكنه ملتزق به إذا كان معقوداً التزاقاً يتعذر الفصل معه، ولأجل هذا الخيال جرى القول القديم في أن الصبغ المعقود يصير بمثابة الزيادة المتصلة، على ما حكاه صاحب التقريب.
ومما يشكل في ذلك أنّا نقول: من غصب عبداً، فأبق من يد الغاصب، وغرِم الغاصب للمغصوب منه قيمةَ العبد، فإنه لا يملك الغاصب رقبةَ العبد ببذل قيمته. وقد ملكنا الغاصب على ظاهر النص زيتَ المغصوب منه، وألزمناه البدل، فكان هذا مناقضاً لأصلنا.
وسبيل الجواب عن ذلك أن الإباق لا يتضمن للغاصب ملكاً في الآبق، بلا خلاف. ولكنه يغرَم القيمة لمكان الحيلولة. ثم رأى أبو حنيفةَ أن يملك الغاصب رقبة العبد، فكان هذا تمليكاً منه بعلة التضمين.
ونحن نقول في مسألة الخلط: نفس الخلط يُملِّكُ الغاصب ما غصبه، ثم جريان الملك للغاصب في المغصوب يُلزمه الضمان، فهذا تضمين بتمليك سابق
وما قاله أبو حنيفة تمليك بتضمين.
4650- ثم قال الشافعي: "وإن خلطه بشَيْرَج، أو صبه في بانٍ... إلى آخره".
قال أصحابنا: ما قدمناه من فصول الخلط فيه إذا خلط الشيء بجنسه، فأما إذا خلطه بما لايجانسه، مثل أن يخلط زيتاً ببانٍ أو بجنسٍ آخر من الأدهانِ، فالمغصوب يلتحق بالمنعدم المفقود. هذا ما أطلقه الأصحابُ.
وخرّج القاضي فيه قولاً أن المغصوب واجدٌ لعين ماله. وألحق ذلك بالخلط بالأرْدأ والأجود، مع اتحاد الجنس. وهذا تخريج منقدح لما نبهت عليه من وجوه الإمكان.
ومن عجيب الأمر أن الأصحاب ألحقوا ما لو غصب زيتاً ولتَّه بالسويق بخلط الزيتِ بالبان، وقطعوا بأن الغاصب لا تعلق له بعين مال.
وهذا عندي على نهاية الفساد؛ فإن الزيت لا يخالط السويق مخالطة المائع المائعَ، بل هو مع السويق كالصبغ مع الثوب قطعاً، وقد مضى القول في الصبغ.
وغاية الأمر أن يجعل الزيت مع السويق كالصبغ المعقود بالثوب.
وممّا أجراه الشافعي من صور الخلط أنه لو غصب دقيقاً وخلطه بدقيقٍ. فإن قلنا: الدقيق يقبل القسمة، فهو كخلط الزيت بالزيت. وإن قلنا: إنه لا يقبل القسمة، فالوجه إن جعلنا المغصوب منه واجداً لعين ماله بيعُ الدقيق، وقسمةُ الثمن على أقدار القيمة.
فرع:
4651- إذا غصب الرجل رطلاً من الماورد وصبّه في أرطالٍ من الماء، فإن انمحق، ولم يبق له أثر، ولا قيمة، فهذا على القطع نازلٌ منزلة هلاك المغصوب، ولا نظر إلى بقاء عين الماورد بعدما تحقق سقوط القيمة، وهو كبقاء جثة العبد إذا مات. وإن بقي للماورد أثرٌ، فهذا من باب خلط الشيء بما لا يجانسه. وقد مضى القول فيه مفصلاً.
فرع:
4652- إذا خلط البر المغصوب بالشعير، فعليه أن يميزه، ولو بلقط الحبات؛ فإن التمييز ممكن على عسره وهو بمثابة ما لو غصب عبداً وأرسله إلى بلدة نائية، فعليه رده، وإن كان يحتاج في ردّه إلى بذل مؤن تزيد على قيمته.
وكذلك إذا خلط حنطةً حمراء بحنطة بيضاء.
هذا نجاز فصول الخلط. ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ الحنطة العفنة. وقد تقصيناه.
فصل:
قال: "ولو أغلاه على النار... إلى آخره".
4653- إذا غصب من الزيت دَوْرقين ثم أغلاه، ففي المسألة أقسام: أحدها: ألا تنقص القيمة، ولا المكيلة، فيردّه، ولا حكم لما جرى. القسم الثاني- أن تنقص القيمة، ولا تنقص المكيلة؛ فإن النار قد تعيب؛ فيرد ما أخذ، ويغرَم أرش النقص.
ومن أقسام المسألة: أن تنتقص المكيلة ولا تنقص القيمة، وذلك بأن يرجع الدورقان إلى دورق واحد، وقيمة ما بقي كقيمة دَوْرقين قبل الإغلاء، وذلك بأن تُحدث النارُ فيه صفةً مطلوبة وإن كان ينقص من عينه، قال الأصحاب: يردّ ما في يده، ويغرَم مثلَ ما نقص، فإن نقص دورق، غرِم له مثل زيته دورقاً؛ فإن نقصان العين في المثليات يقابل بالمثل، ونقصان الصفة مع بقاء العين يقابل بالقيمة.
ومن صور المسألة أن تنتقص المكيلة، وتزداد القيمة وذلك بأن يغصب دورقين، فيرجع بالإغلاء إلى دورق، وكان قيمة كل دورق درهمين قبل الإغلاء.
وهذا الدورق الآن يساوي أربعة دراهم، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: وهو الأصح- أنه يرد ما بقي، ويغرَم له دورقاً مثلَ زيته، والزيادة التي حدثت في الدورق المغلي زيادة صفةٍ متصلة بملك المغصوب منه.
والوجه الثاني- أنه يرد ما بقي، ولا غرم عليه؛ لأن ما بقي زاد بسبب النقصان، فإذا كان النقصان سببَ الزيادة، لم يكن سبباً للغرامة ومقتضى ذلك الجبران، وهذا ليس بشيء.
وقد ذكرت طرفاً من هذا من كلام صاحب التلخيص في مسائل التفليس.
4654- ومما يتعلق بما نحن فيه أن من غصب عصيراً ورده بالإغلاء إلى نصفه، حتى خثَر، وصار دبساً. وكانت قيمته مثلَ قيمة العصير التام. فقد قال قائلون من أصحابنا: هذا بمثابة إغلاء الزيت، فيخرّج على الخلاف الذي تقدم ذكره.
وذهب ابنُ سُريج إلى القطع بأن الباقي إذا كانت قيمته مثلَ قيمة العصير ردّه، ولم يجب جبر النقصان فيه، بخلاف الزيت. والفرق أن الزيت لا يخثُر بالإغلاء، والذاهب هو الزيت، فيتحقق نقصانُ العين فيه، والذاهب من العصير مائية لا قيمةَ لها، والباقي هو الأجزاء الحلوة المطلوبة.
فصل:
قال: "وإن كان لوحاً فأدخله في سفينة... إلى آخره".
4655- إذا غصب الرجل ساجَةً وأدرجها في بنائه، فالساجة منتزعة عندنا مردودة على مالكها، وإن أدّى انتزاعُها إلى انهدام قصرٍ، أنفق الغاصب عليه ألفاً، خلافاً لأبي حنيفة.
وضبط المذهب أن أملاك الغاصب لا تحترم إذا انتسب إلى بنائها على مغصوب.
وممّا نُجريه في هذا الفصل إدخال اللوح المغصوب في السفينة.
4656- وهذا يستدعي ذكرَ مقدمة مقصودة في نفسها، فنقول: إذا غصب الرجل خيطاً، وخاط به جرحاً-كان به- فالتحم الجرح، وكنا نخاف من انتزاع الخيط انتقاضَ الجرح، وإفضاء الأمر إلى خوف الهلاك، أو إلى الخوف من فساد عضو، فلا يُنزع الخيط والحالة هذه، بل يحرم انتزاعُه، ويجب رعاية حرمة الروح، ولو خفنا من انتزاع الخيط طولَ الضَّنا، أو بقاءَ الشَّيْن، فقد ذكرت تفصيل ذلك في كتاب الطهارة.
والقول الجامع فيه أن كل ما يجوز ترك استعمال الماء به، والتحولُ إلى التيمم من الجرح والمرض، فإذا تحقق في مسألتنا امتنع منه نزعُ الخيط. وكل ما لا يجوز التحول به من الماء إلى التراب، فلا ينتصب عذراً فيما نحن فيه، وينتزع الخيط معه ويردّ على مالكه. ومواقع الخلاف في الماء والتراب يجري فيها الخلاف هاهنا.
ولو رتب مرتب، انقدح وجهان:
أحدهما: أن ترك الخيط أولى لقيام قيمته مقامه.
والثاني: أن نزع الخيط أولى، لتعلقه بحق الآدمّي، وهو على الضيق.
والتحول من الماء إلى التراب رُخصة، والرخص لا تبنى على نهايات الضرورات.
وإذا مات المجروح، فهل ينزع الخيط بعد موته، فعلى وجهين:
أحدهما: وهو الأصح أنا ننزعه.
والثاني: لا ننزعه؛ فإنا نحاذر المثلةَ بالميت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي».
فإن قلنا: الخيط منزوع من الميت، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينزع منه، فالوجه فيه اعتبار حالة الحياة، فإن كان الخيط مستحق النزع في الحياةِ، نزعناه بعد الموت.
وإن كان لا يجوز نزعُه في الحياة، وكان نزعه بعد الموت يُظهر مُثلةً، فإنا
لا ننزعه. وإن لم ننزعه في الحياة لخوف هلاكٍ، أو لبقاء شين ظاهر إن اعتبرناه، ولم يكن في نزعه بعد الموت مُثْلةٌ ظاهرة، فهذا محتمل على الوجه الذي نفرع عليه.
4657- وكل ما ذكرناه في خيط جرح الآدمي، فأما إذا خاط جرح حيوان آخر، فإن كان حيواناً محترماً، انقسم القول إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل؛ فأما ما يؤكل لحمه من الحيوانات، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يجب ذبحه، ونزعُ الخيط منه؛ فإن الذبح مسوغ، فليكن طريقاً يتوصل به إلى رد المغصوب، ولا نظر إلى المالية التي تفوت بذبح بُختية، أو جواد الخيل.
والثاني: أنه لا يلزمه ذبح الحيوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة" وليس القصد من هذا الذبح-لو قلنا به- مأكلة.
فأما الحيوانات المحترمة التي لا تؤكل، فلا يحل نزع الخيط منها على التفصيل الذي ذكرناه في الآدمي.
وقد اعتبر بعض أصحابنا في الآدمي الشينَ، والتوقي منه، وهذا غير معتبر في البهيمة؛ فإنا لو اعتبرناه، لرجع الأمر فيه إلى المالية، وليست المالية مرعية في هذا المجال.
فأمَّا الحيوان الذي لا يحترم، فينقسم إلى ما يستحق قتله كالكلب العقور، والسبع الضاري، وإلى ما لا يستحق قتله: فأما ما يستحق قتله، فينتزع الخيط منه، وأما ما لا يستحق قتله، ولكنه ليس محترماً، فقد عد الأصحاب في هذا القسم الكلبَ والخنزير، ثم قَضَوْا بأنّ الخيط منزوع منهما. أما الخنزير، فأراه كذلك؛ فإن الذَّكَر من جنسه أعظم ضرراً من السباع كلها. والأنثى من المؤذيات في المزارع وغيرها. وأما الكلبُ، فالصَّيود منه، وكلبُ الماشية، وكل ما تصح الوصيةُ به- لا يجوز نزع الخيط منه. والكلب الذي لا منفعة فيه لا يبعد أن يلحق بالمؤذيات، حتى لا يحرم قتله، فينزع الخيط إذن.
وقد ذكر القاضي الكلبَ مطلقاً ولم يفصله، وأطلق جواز نزع الخيط منه. وهذا مفصل عندنا.
ولو جُرح مرتدٌ وخِيط جرحُه، والتحم، ففي نزع الخيط منه ترددٌ، والأَوْجَهُ المنع؛ لأن المثلة بالمرتد محرّمة، وليست كالمثلة بالميت؛ فإنا نتوقع للمرتدّ عوداً إلى الإسلام، وإن أظله السيف، وإن مات، فات.
هذا تفصيل القول في نزع الخيط وينبني عليه أنا مهما منعنا نزع الخيط، جوزنا أخذ الخيط قهراً لخياطة الجرح، إذا لم نجد غيرَه؛ فالدوام معتبر بالابتداء.
وإن كان عند المجروح خيوط، فغصب خيطاً، وخاط الجرح، والتحم، فقد أساء وظلم أولاً. ولكن لا ننزع الخيطَ لعدوانه الأول؛ فإنا لا نرعى محضَ حقّه.
وإنما نرعى ما لله من الحق في الأرواح.
4658- ونحن نعود بعد بيان ذلك إلى تفصيل المذهب في غصب الألواح وإدراجها في السفن.
فإذا غصب لوحاً وأدرجه في سفينة، نزعناه، إن كانت السفينة على اليبس، أو كانت مرساةً على الساحل، وأمكن التوصل إلى النزع من غير إتلافِ روحٍ أو مالٍ على ما سنفصل، إن شاء الله.
وإن كانت السفينة في اللُّجة، ولو انتزع اللوح، لغرقت بما فيها، ومن فيها، فإن كان فيها آدميون أو ذوات أرواحٍ محترمةٍ، فلا سبيل إلى نزعه، وإن لم يكن فيه إلا الغاصب، لم ينزع أيضاً، لما مهدناه في الخيط ونزعه.
ولو لم يكن في السفينة ذو روح، وكانت مربوطةً إلى سفينة، وهي تجري بجريها، فإن كان فيها أموال، قال الأصحاب: لم ينتزع اللوح إن كانت الأموال لغير الغاصب. وإن كانت للغاصب، فوجهان:
أحدهما: أنه ينتزع؛ فإنّ الأموال لا تحترم لأعيانها، والغاصب قد فرط فيها؛ إذ وضعها في مثل هذه السفينة، فصار كما لو زرع أرضاً مغصوبة، فزرعه مقلوعٌ، وإن كان له مدى يرتقب انقضاؤه، فليكن مال الغاصب في السفينة كذلك. هذا هو الأصح.
والوجه الثاني- أنه لا يقلع، ويتأنَّى إلى انتهاء السفينة إلى الساحل، بخلاف الزرع؛ فإن الزرع تَنْبَثُّ عروقه، ثم يظهر منه مزيدُ إفساد للأرض، بخلاف اللوح، حتى إن كان البحر يؤثر في اللوح في غالب الظن، ولو نزع، لم يتأثر، فيرتفع الخلاف عند بعض أصحابنا. ومنهم من علل منع نزع اللوح بأن إجراء السفينة إلى الشط يوصّل إلى رد اللوح، فهو أمثل من النزع، والتغريق.
ولو لم يكن في السفينة مالٌ للغاصب ولكن كانت بنفسها تغرق لو انتزع اللوح، فهو بمثابة مال الغاصب.
ولم يختلف الأئمة في أن مال الغير يمنع من نزع اللوح، وقد يخطر للفقيه أن يُضمِّن الغاصب أموال الغير ويذكرَ وجهاً في نزع اللوح. ولكن لم يصر إليه أحد؛ فإن أصل النزع متردد في السفينة نفسها و في مال الغاصِب، فإذا انضم إلى ذلك حرمةُ مال الغير، انتظم منه وفاق الأصحاب في وجوب الانتظار.
ولو زرع الرجل ببذر غيره أرضاً مغصوبة، فلا خلاف في قلع الزرع.
فليتأمل الناظر ما يلقى إليه في كل معاصٍ.
فصل:
قال: "ولو غصب طعاماً، فأطعمه من أكله... الفصل إلى آخره".
4659- إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى إنسانٍ ليأكله، فإن كان الطاعم عالماً بكون الطعام مغصوباً، لم يخف استقرار الضمان عليه. وإن كان جاهلاً، وحسب الطعام ملكاًً للغاصب، فإذا أكله، ففي استقرار الضمان قولان:
أحدهما: وهو الأقيسُ أنه يستقر على الطاعم؛ لأنه المتلف المختار، والأسباب إذا انتهت إلى حقيقة الإتلاف، فالاعتبار بالإتلاف.
والقولُ الثاني- أن قرار الضّمان على الغاصب المقدِّم؛ فإنه متمسك بأظهر أسباب التغرير، والضمان يستقر على الغارّ، ولذلك يرجع المغرور بحرية زوجته بقيمة الولد إذا غرِمها على الغارّ. وقد ذكرنا توجيه القولين، ومأخذَ الكلام في (الأساليب). ثم إن قلنا: القرار على الغاصب، فالطاعم مطالَبٌ، ثم إذا غرم، رجع. وإن قلنا: القرار على الطاعم، فالغاصِب مطالبٌ، ثم إذا غرِم رجع على من طعم.
ولو قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى المغصوب منه، فأتلفه، فإن كان على علمٍ، كان مسترداً للمغصوب. وإن كان جاهلاً، ففي المسألة قولاًن: إن قلنا: إن قرار الضّمان على الأجنبي الطاعم، فالذي جرى من المغصوب منه استرداد الطعام.
وإن قلنا: لا يستقر الضمان على الأجنبي، لم ينتقل الضمان إلى المالك. وقد رأى الأصحاب انتقالَ الضمان إلى المالك أولى من قرار الضمان على الأجنبي؛ فإنّ تصرف المالك إذا انضم إلى إتلافه، تضمّن قطعَ عُلقة الضمان من الغاصب، وسيظهر لهذا أثر في التفريع.
4660- وقد قدمنا قواعد للمراوزة في الأيدي التي تترتب على يد الغاصب.
وقد ذكرنا طريقةً للعراقيين تخالف طريقة المراوزة، ولابد الآن من إعادتهما؛ فإنهما لائقان بمضمون الفصل.
قال المراوزة: كل يد ليست يدَ ضمانٍ، فإذا ترتبت على يدِ الغاصب، وفرض التلف من غير إتلافٍ، فصاحب اليد مطالبٌ، وقرار الضمان على الغاصب. وإن كانت اليد يدَ ضمانٍ، وحصل التلف، فقرارُ الضمان على صاحب اليد الضّامنة.
وبيان ذلك في الوجهين أن المودَع من الغاصب لا يستقر الضّمان عليه، إذا تلفت الوديعة في يده. وكذلك اليد الحاصلة عن الرهن، والاستئجار، والقِراض، وكذلك يد الوكيل، فهذه الأيدي تثبت على سبيل الأمانة. فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم يحصل بها قرار الضّمان. والمطالبةُ تتوجه على أصحابها، ثم إنهم إذا غرِموا، رجعوا على الغاصب.
فأمّا الأيدي التي تقتضي الضمان إذا ترتبت على يد الغاصب، فإنها تتضمن قرار الضمان إذا ترتب التلف عليها كيد الشراء، والعاريّة، والسَّوم. هذا مسلك المراوزة.
فأمّا العراقيون، فإنهم أثبتوا قرار الضمان بالأيدي الضّامنة، كما أثبته المراوزة، وفصلوا أيدي الأمانة، وقسموها ثلاتة أقسام. وقد قدمت ذكرها فيما تقدم من كتب المعاملات. وأنا أعيدها الآن، لينتظم الكلام.
قالوا: كل يد ثبتت لمحض غرض المالك من أيدي الأمانة، فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم تقتض قرارَ الضمان عند التلف، كيد الوديعة، وكل يدٍ تتعلق بمحض غرض صاحب اليد فإذا ترتبت على يد الغاصب، تعلق بها قرارُ الضمان، كيد الراهن. وألحقوا بيده يدَ المستأجر، والمقارض. وقد تصرفنا من قياسهم على يد المستأجر، والمقارض، والوكيل إذا قبض. قالوا: إن كان يتصرف من غير جُعلٍ، فيده كيد المودَع، وإن كان يتصرف بجُعلٍ، ففي المسألة وجهان. هذا كلامهم.
وهو يجانب طريق المراوزة بالكلية.
4661- وكان شيخي يتردد في يد واحدةٍ ليست يدَ ضمان، وهي يد المتهب، فإذا وهب الغاصبُ المغصوبَ من إنسانٍ، وأقبضه إياه، فقبض على جهلٍ منه، وتلف في يده، كان يقول: هذه اليد، وإن لم تكن يدَ ضمانٍ، فهي يد تسليط على الإطلاق، فيمكن أن يقال: يخرّج قرار الضمان إذا فرض التلف من غير إتلافٍ على قولين؛ فإن حكم الهبة إذا تمت بالإقباض انقطاع علائق الواهبِ بالكلية، فإذا فرض القبض على الهبة، كان القابض عنها في حكم المبتدىء قبضاً على الكمال. وهذه الصورة تضاهي الغصب.
وهذا الذي ذكره حسن، وكان يتردد فيه إذا أودع الغاصب العين المغصوبة من مالكها، فلم يشعر المالك بملكه فيها، حتى تلفت في يده. فيحتمل أن يقال: تلفت من ضمانه؛ فإن يد المالك إذا ثبتت، لم يقطع أثرَها الجهلُ والظنُّ.
والظاهرُ أنها تتلف من ضمان الغاصب، كما لو جرى الإيداع عند أجنبي.
4662- ولو غصب عبداً، ثم أمر إنساناً بقتله، فقتله معتقداً أن الآمرَ مالكٌ، فقد قيل: في قرار الضَّمان على القاتل قولان، كما ذكرناه في الإطعام. والصحيح أنه يستقر عليه الضّمان؛ فإن القتل ممَّا لا يستباح الإقدام عليه بالإباحة، ولا يتحقق التغرير فيه.
ولو قال غاصب العبد لمالكه: "أعتقه"، فتلفظ المالك بإعتاقه، وهو لا يشعر أنه مملوكه، بل بنى الأمر على أنه وكيلٌ في إعتاقه من جهة المالك، فقد قال بعض الأصحاب: لا ينفذ العتق؛ لأنه قدّره ملكَ الغير. وهذا غلطٌ غيرُ معتد به؛ فإن العتق لا يندفع بأمثال ذلك. ولهذا كان هزله جداً.
ولو واجه الإنسان عبد نفسه بالإعتاق ظاناً أنه عبد غيره وهو هازل بإعتاقه، نفذ العتق. وكذلك لو رآه في ظلمةٍ، فوجه العتق عليه، فإذا ثبت نفوذ العتق، فمن أصحابنا من خرّج انتقال الضمان إلى المالك، وانقطاعَه من الغاصب على قولي الإطعام. وهذا مزيفٌ لا أصل له. وإن اعتمده صاحب القفال أبو سليمان.
والصحيح أن الغاصب يبرأ على الضمان، لأن وضع العتق أن لا ينفذ في ملك الغير.
والضيف يأكل طعام المقدّم إليه مستباحاً، وهو في ملك المقدِّم على ظاهر المذهب.
ولو زوج الغاصب الجارية المغصوبة من مالكها، على جهلٍ منه بها، ثم استولدها المالك، ثبت الاستيلاد لا خلاف فيه. ويبرأ الغاصب عن الضمان بثبوت يده على مستولدته. وشبب بعض الأصحاب بالخلاف في ذلك. والأصح ما ذكرناه.
4663- ولو أطعم البائع المشتري الطعام المشترَى على جهلٍ منه بأنّه يأكل ما اشتراه، فقد قال القاضي: يجب أن يخرّج على القولين المذكورين في إطعام الغاصب المغصوبَ منه الطعامَ المغصوب. فإن حكمنا بان الغاصب يبرأ، فإذا فرض هذا من المشتري، كان أكله قبضاً للطعام المشترى. وإن حكمنا بأن الغاصب لا يبرأ عن الضمان، فتَلفُ الطعام محسوب عليه. فكذلك نقول: هذا محسوب من ضمان البائع. ثم الوجه أن نجعل ذلك كما لو أتلف البائع المبيع قبل القبض. وحكمه مفصَّل في كتاب البيع.
فصل:
قال: "ولو حل دابةً، أو فتح قفصاً عن طائرٍ... إلى آخره".
4664- إذا فتح الإنسان باب قفص، أو حل الرِّباط عن طائر، فأطلقه عن الوثاق، إن نفّره مع الحل، فطارَ، وجب الضّمان، لا خلاف فيه. وإن اختصر على حل الرباط وفَتْح باب القفص، فمذهبنا الظاهر أن الطيران إن اتصل بالحل، وجب الضّمان، وإن استأخر الطائر بعد الحل، وتخلل زمان يعدُّ فاصلاً بين الفتح والطيران، فلا ضمان.
وقال أبو حنيفة: لا يجبُ الضّمان، وإن اتصل الطيران، إذا لم يظهر مع الفتح تنفير. وقال مالكٌ: يجب الضّمان سواء اتصل الطيران بالفتح، أو انفصل عنه. وقد ذكر الأصحاب قولين مثل مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة رحمة الله عليهما. فحصل على هذا التقدير ثلاثة أقوال.
والمذهب المشهور منها الفصل كما قدمناه، وعصام المذهب أَنَّ الطيران فعلُ حيوانٍ ذي اختيارٍ، وهذا لا ننكره. وقياسه أنه إذا لم يجرِ إرهاقٌ، وحمل على الفعل، ولم يوجد من الفاتح إتلافٌ، ولا إثباتُ يدٍ، فلا يجبُ الضمان. وإذا اتصل الطيران، فالأمر محمولٌ على اقتضاء الفتح تنفيراً، والتنفير فيما لا يعقِل ينزل منزلة الإكراه، والإلجاء فيمن يعقل.
ومن حكم بوجوب الضّمان مع الاتصال والانفصال، ألحق ذلك بالأسباب المضمّنة كحفر البئرِ في محل العدوان ونحوه. ومن لم يوجب الضّمان في الاتصال والانفصال، أحال الضياع على فعل حيوانٍ ذي اختيار، يعتمد الخلاص.
والمتردي في البئر لا يعتمد التردي فيها.
وسيكون لنا كلام ضابط في كتاب الديات في الأسباب وما يتعلق بها من الضمان وما لا يتعلق، إن شاء الله عز وجل؛ فإن القول في ذلك منتشر على من لا يحيط بالمدارك.
4665- ولو فتح بابَ اصطبلٍ وخرجت بهيمةٌ، فضاعت، فالأمرُ كما ذكرناه.
وكان الشيخ أبو محمدٍ يشبب بالفصل بين حيوان نافرٍ بطبعه إذا حل رباطَه، وبين حيوان آنِسٍ لا نِفار فيه، ويقول: اتصال حركة البهيمة الإنسية، كانفصال حركة النافر من الطير والوحوش. وهذا منقاس. ولكني لم أره إلا له.
فإذا أطلق عبداً مجنوناً عن قيده، فهو في التفصيل كالبهيمة.
وإن فتح باب دارٍ، فخرج منه عبد مميز، فأبق، فلا ضمان، اتفق الأصحاب عليه. ولا فرق بين أن يتصل خروج العبدِ، أو ينفصل. واضطرب الأصحابُ في العبد المعروف بالإباق إذا اعتمد مالكه تقييدَه، أو إغلاقَ بابٍ عليه، فإذا حل إنسان قيدَه، أو فتح الباب، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجب الضمان إذا كان العبد مميزاً؛ فإن التعويل على إحالة الضياع على فعلِ مختارٍ، وهذا يتحقق من المميز. وإن كان معروفاً بالإباق.
وأبعد بعض الأصحاب، فجعل حلّ القيد عنه، كحل الرباط عن طائرٍ أو بهيمة، ثم التزم تخريجه على قياس الطائر، ففصل بين أن يتصل الإباق أو ينفصل. وهذا ساقطٌ، لا اتجاه له.
وممّا نذكره أن الطائر لو كان في بيتٍ كبير، ففتح الفاتح القفص، فابتدأ الطائر الطيران، وتخلل زمانٌ إلى اتفاق انفصاله، وربما يستدير الطائر مراراً إلى أن يصادفَ موضع الفتح، فهذا يعد من الطيران المتّصل، وإن استأخر الضياع.
4666- ولو حل الوكاءَ عن زقٍّ، وفيه مائعٌ، فإن كان الزق منبطحاً، فإن ما فيه يتدفق بحل الوكاء على هذه الهيئة؛ فلا خلاف في وجوب الضمان على من حل الوكاء. وإن كان الزق منتصباً، وكان حل وكائه على هيئة الانتصاب، لا يدفق ما فيه لو بقي منتصباً، نُظر: فإن سقط الزق متصلاً بالحل، واندفق ما فيه، فإن كان سقوطُه بسبب تحريك الوكاء وجذبه في صوب الحل، فيجب الضّمان؛ فإنّه حلَّ وأسقطَ الزقَّ.
ولو صادف زقاً منتصباً محلولاً، فأسقطهُ، وجب الضّمان؛ فإن هذا يعد من اعتماد الصب والتدفيق.
ولو حل الوكاء، وترك الزق منتصباً، فبقي كذلك، ثم هبت ريح، فأسقطته، فقد قطع الأصحاب بأن الضمان لا يجب؛ فإن السقوط كان محالاً على الريح، ولا تعويل عليها، ولا يدرى متى تهب. وإن هبَّت، فمتى تبلغ مبلغاً يُسقط الزق.
ولو حل الوكاء عن زق، وكان ما فيه جامداً، فشرقت الشمس، وأذابت مافيه، فاندفق، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الضّمان لا يجب؛ لأن الشمس هي المؤثرة، وما جرى من الضياع والفوات محال عليها، كأنها على صورة من يباشر إتلافاً. والوجه الثاني- أنه يجب؛ من قِبل أن الشمس يتيقن شروقها، وليست كالرياح التي لا يدرى متى تهب، فمن عرّض جامداً للشمس، عُدّ ساعياً في تضييعه وتدفيقه.
4667- وذكر القاضي وجهين في صورةٍ تناظر ما ذكرناه، على تقديره-رحمه الله- وهي أن من أزال أوراق كَرْمٍ وجَرَد العناقيدَ لحَمْي الشمس في الموضع الحار، فأفسدتها الشمس، فهل يجبُ الضمان، على مَنْ نجا الأوراق؟ فعلى الوجهين الذين ذكرناهما في تعريض الجامد لشروق الشمس. وهذا يعسر تصويره في البلاد المعتدلة.
ولو حل الوكاء عن زقٍّ، فاتصل بحلّه سقوطُه، ولم يظهر لنا أن سقوطَه بسبب جذب الوكاء، فقد أطلق الأئمة أن السقوطَ إذا كان على الاتصال، وجب الضّمان، إذا كان ما في الزق مائعاً، فاندفع لما سقط. وليس هذا لأثر الاتصال، وإنما هو لعلمنا بأن الزق الذي يكون منتصباً إذا سقط متصلاً بفعلٍ، فسقوطه به؛ لأن السقوط لا يكون إلا بسببٍ. فإذا قال المصور: إذا اتصل السقوط، ولم يبن لنا أن السقوط بفعل الحالّ. قيل له: هذا تلبيس؛ فإن السقوط إذا اتصل، لم يكن إلا لتأثير مؤثر.
وهذا لا خفاء به.
والغرض من هذا التنبيه ألا يؤخذ هذا من قياس الطيران وانفصاله؛ فإن ذلك يتعلّق باختيار حيوان، أو بإزعاجه.
ولو حل الوكاء عن زق فيه مائع، وكان مملوءاً، والزق منتصب، فأخذ ما فيهِ يسيل قليلاً قليلاً، ويبتلّ لأجله أسفل الزق، حتى أفضى هذا إلى سقوط الزق، واندفاق ما فيه، فيجب الضمان في هذه الحالة؛ لانتسابِ الاندفاق إلى حل الوكاء.
4668- ولو فتح المُحْرِم القفص عن صيدٍ مملوك، فطار على الاتصال، على قول التفصيل، وهو المذهب، وجب عليه الجزاءُ، لو هلك الطائر قبل أن يستقر؛ فإنا نجعل هذا تنفيراً. والمحرم إذا نفّر، واتصل التلف بالنّفار، التزم الضّمان، فيجب عليه الجزاءُ في الصورة التي ذكرناها لله تعالى، والقيمةُ للمالك.
وإذا استأخر الطيرانُ، فلا جزاء، ولا ضمان؛ فإن الأمر محالٌ على الطيران الذي اختاره الطائر، من غير تنفير.
وإذا فرعنا على قول مالكٍ، وجب الضمان للآدمي، ولم يجب الجزاء؛ فإن الضمان على قوله لا يتلقى من التنفير، والجزاء لا يثبت إلا بالتنفير.
فصل:
قال: "ولو كصبه داراً، فقال الغاصبُ: هي بالكوفة... إلى آخره".
4669- ليس في هذا الفصل أمرٌ يتعلق بأحكام الغصوب، وما فيه يتعلق بالدعوى والإقرار. وحاصل القول فيه أنّ من ادعى على رجل داراً ببلدة، فلابد وأن يتعرض في دعواه لتعيينها بالوصف، وذلك يحصل بذكر المحِلّة التي فيها الدار، ثم قد لا يكفي ذلك، حتى يعين سكةً من المحلّة، ثم إن كان فيها دور، ميّز الدار التي يدّعيها، بذكر الحدود المشتملة عليها.
ولو ادعى داراً مطلقة، كانت الدعوى مجهولةً، غيرَ مقبولة. وهذا يُفَصَّل في كتابِ الدعاوى.
ثم صور المزني دعوى دارٍ بالمدينة، وصوّر إقرار المدعى عليه بدارٍ بالكوفة، فالذي جاء به ليس جواباً عن الدعوى، وإنما هو إقرار بغير المدعى. فإن قال المدعي هذه الدار التي أقررتَ بها فهي لي، ثبتت تلك الدار، ويبقى المدعى عليه مطالَباً بجواب الدعوى.
وتفصيل أجوبة الدعاوى لا يمكن ذكره على التبعية. وما يتعلق بتفصيل الإقرار استقصيناه في كتاب الأقارير.
فصل:
قال: "ولو غصبه دابة، فضاعت من يده... إلى آخره".
4670- إذا غصب عبداً، فأبق، أو دابةً فشردت، فحكم ضمان الغصب مستدام، وإن زالت يد الغاصب، ثم للمغصوب منه مطالبة الغاصب بقيمة الآبق والشارد، فإذا غرَّمه القيمة، لم يصر الغاصب مالكاً للآبق بسبب بذل القيمة، وموجِب القيمةِ عندنا الحيلولةُ الواقعة بين المالك وملكه، بسبب الغصب، ثم المالك يتصرف في القيمة تصرفه في أملاكه، وإذا استمكن الغاصب من العبد؛ فإنه يرده ويسترد القيمةَ.
وكان شيخي يتردد في أن تلك القيمة لو كانت قائمةً في يد المغصوب منه، فإذا رد الغاصب العبدَ، فهل له أن يسترد أعيان تلك الدراهم ولا يرضى بغيرها؟ أم للمغصوب منه الخيار بين أن يردّها، وبين أن يرد أمثالها؟ وهذا التردد لا يوجب توقفاً في تسلّط المغصوب منه على التصرف. ولكن القيمة في يدِه بمثابة القرض في يد المستقرض، وقد ذكرنا اختلافَ قولٍ في أن ملك المستقرض متى يحصل.
ثم قال القاضي: إذا غرِم الغاصب القيمة، ثم رجع العبد، فللغاصب أن يستمسك بالعبد، ولا يرده حتى تُردَّ القيمةُ عليه، وهذا نقله عن نص الشافعي رضي الله عنه في غير مسائل المختصر، ونص أيضاً على أن من اشترى شيئاًً شراءً فاسداً، وأدّى ثمنه، ثم تبين له الفساد، فإنه يتمسك بما قبضه على حكم الفساد، حتى يُرَدَّ الثمنُ عليه.
وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا ذكرنا أقوالاً في أن المبيع هل يحبس في مقابلة الثمن، حتى يقال: البداية بالتسليم على المشتري؟ ولا ينبغي أن يزيد العبد الآبق إذا آب على المبيع في مقابلة الثمن، فليخرّج الأمر على الاختلاف.
ويتجه جدّاً إيجابُ البداية بالتسليم على الغاصب؛ تغليظاً عليه؛ فإن يده هذه بقيةُ يد العدوان. والذي غرِمه لأجل الحيلولة، بحقٍّ غرمه، والحيلولة قائمة إلى أن يرد، فيظهر إيجاب البداية عليه، لما نبهنا عليه.
هذا في العبد الآبق.
فأمّا إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً، ووفّر الثمن، وقبض المشترى، فالاستمساك به أبعد من استمساك الغاصب بالعبد الآيب عن الإباق؛ من جهة أن للقيمة المبذولة في مقابلة العبد الآبق بدلٌ مستحقٌّ شرعاً، والمشترى على الفساد لا يقابله عوض مستحق، فالأوجه فيه أن يطلب ماله، ويرد ما في يده، من غير ترتيب أحدهما على الثاني.
4671- وممّا يتعلق بمضمون الفصل أن العبد إذا أبق، فعلى الغاصب أن يضمن للمغصوب أجرة مثل المنافع للأيام التي تمر، وهذا مقطوع به قبل اتفاق غرامة القيمة. فإذا غرِم للمغصوب منه القيمةَ، فهل يجب عليه أجرُ المثلِ بعد ذلك إلى اتفاق الإياب والرد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يلتزم الأجر؛ فإن القيمة التي بذلها، ومكن المالكَ من التصرف فيها في الحال، تنزل منزلة ردّ المغصوب، فضمان أجر المنفعة مع ما ذكرناه يبعد.
والوجه الثاني: وهو الأصح أنه يلتزم الأجرَ، كما كان يلتزمه قبلُ؛ فإن حكم الغصب قائم. وإنما وجبت القيمة على مقابلة الحيلولة الواقعة، فليجب الأجر على مقابلة ضياع المنفعة، والقيمة على مقابلة وقوع الحيلولة.
ولو ازداد العبد الآبق زيادة متصلة، أو ولدت الجارية الآبقة، ففي وجوب ضمان الزيادة وجهان، مأخوذان مما ذكرناه. فإن قلنا: لا يجب الأجر تنزيلاً لبذل القيمة منزلةَ ردّ المغصوب، فلا يجب ضمان الزوائد، وكأَنَّ المغصوب خارج عن عهدة الغاصب.
وإن قلنا: يلتزم الأجرَ استدامةً لحكم الغصب فيثبت الضمان في الزوائد.
وهذا الخلاف الذي ذكرناه في الزوائد أبعد من الخلاف في الأجرة. والوجه القطع بضمان الزوائد؛ من جهة أنا إن قلنا: تمكُّنُ المغصوبِ منه من الانتفاع بالقيمة، بالتصرف فيها يسد مسد ما يفوت من منفعة العين، فهذا على بعده قد يُتخيل، فأما المصير إلى انقطاع عُهدة الغصب، فبعيد.
ومما يخرّج على الخلاف أحكامُ جنايات العبد في إباقه، ففي وجهٍ نُعلِّق ضمانَها بالغاصب استدامةً لحكم الغصب، وفي وجهٍ نبرئه منها لبذله القيمة.
4672- ثم قال المحققون: لو غصب عبداً وغيّبه إلى مكانٍ بعيدٍ، ولما توجهت الطَّلِبةُ عليه بردّه، عسر عليه ردُّه، وغرِم قيمته. قالوا: يجب عليه في هذه الصورة ضمانُ الأجر إلى الرد. وكذلك القولُ في ضمان الزوائد، والتزام عهدة الجنايات. وزعموا أن هذا محلُّ الوفاق، بخلاف ما قدمناه في حالة الإباق.
والفارق أن العبد المغصوب إذا كان خروجه وغَيْبتُه على حكم الغاصب وتصريفه إياه، فهو باقٍ في حقيقة يد الغاصبِ، فَقَطْعُ علائق الضّمان محالٌ بخلافِ الآبق. وهذا الفرق وإن كان له اتجاهٌ، فقد كان شيخي يطرد الخلاف في هذه الصُّورة؛ بناء على صورة بذل القيمة، ونزولها منزلة العين. والمسألة محتملة.
4673- وحكم الأجرة في اللوح المغصُوبِ المدرج في السفينة، يخرّج على الترتيب الذي ذكرناه، فإن لم يضمن الغاصب قيمة اللَّوح لمكان الحيلولة، فعليه أجر مثلها إلى التمكن من نزع اللوح ورده. وإن غرِم القيمة لوقوع الحيلولة، وتعذر الرد، فإذا كان الغاصب مع السفينة، فهذه الصورة تناظر ما لو صَرَفَ العبد إلى بعض الجهات وغيّبه. وفيه من التردد ما ذكرناه.
وحكم أجر المثل يجري في الخيط مادام جزءٌ منه باقياً في الجرح، فإذا تعفن وبلي، فقد تلف.
ومن آثار ما ذكرناه أنه إذا غرِم قيمة الآبق، وكانت ألفاً، ثم ازداد بالسُّوق، فصار مثله يساوي ألفين، فزيادة السوق في هذا المقام بمثابة زيادة الأعيانِ. فإن قطعنا علائق الضّمان ببذل القيمة الأولى، فلا نظر إلى ما يتفق من بعدُ من ارتفاع السعر. وإن استدمنا حكمَ الضمان والتغليظَ على الغاصب، فلما ارتفع السوق، وجب بذلُ مزيدٍ في القيمة.
4674- ومن دقيق المذهب ما نختم الفصل به: وهو أن ضمان القيمة عند وقوع الحيلولة، وحصول التعذّر من الرد واجبٌ، كما ذكرناه في قاعدة الفصل. فلو جاء الغاصب بالقيمة للحيلولة، فللمغصوب منه أن يمتنع منها على ظاهر المذهب؛ من جهة أنها ليست حقاً مستحقاً ملتزَماً في الذمّة، يأتي الملتزم به، فيجبر المستحِق على قبوله أو الإبراءِ عنه.
ويتصل بذلك أنه لو أبرأ مالكُ العبد عن القيمة المعلّقة بالحيلولة، فلا معنى لإبرائه عنها؛ فإن الحيلولة تتجدد حالاً على حالٍ. وهذا يضاهي نظائرَه من إسقاط امرأة المولي حقها عن الطلبِ بعد انقضاء المدّة؛ فإنه لا حكم لإسقاطها؛ من جهة تجدد حقوقها على ممرّ الزمن في المستقبل.
ونزَّل بعضُ أصحابنا قيمة الحيلولة منزلةَ الحقوق المستقرة، حتى صحح الإبراء عنها، وألزم مالك العبد قبولَها. وهذا غفلة عن حقيقة الفصل، والتعويل على ما قدمناه.
فصل:
قال: "ولو باعه عبداً، وقبضه المشتري... إلى آخره".
4675- مقصود الفصل غيرُ متعلقٍ بأحكام الغصوب، وإنما هو مجمع من قضايا الأقارير والدعاوى. ولكنا نذكره جرياناً على ترتيب (السَّواد) فنقول: من باع عبداً وأَلْزم في ظاهر الحالِ بيعه، ثم قال: كنتُ غصبته، فقوله مردود في انتزاع العين من يد المشتري، ولكنه هل يغرَم للمقَرّ له قيمةَ العبد؟ من أصحابنا من خرج ذلك على القولين فيه إذا قال: غصبت هذه الدارَ من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلَّمةٌ إلى الأول، وفي وجوب ضمان القيمة للثاني قولان، تمهد ذكرهما.
ومن الأصحاب من قطع في مسألة الإقرار بعد البيع بوجوب ضمان القيمة للمقَرّ له. وفرق بأنه في مسألة الإقرار لم ينشىء أمراً، وإنما صدر منه إخبارٌ مجرّد. وفي مسألة البيع أنشأ البيع في ظاهره، وهو موجب لحكم الحيلولة. وهذا الفرق مما سبق ذكره.
ولو قال البائع ما قال، فصدقه المشتري، وجب عليه تسليم العبد إلى المقَرّ له، ويرجع بالثمن على البائع.
وإن لم يقر البائع لكنّ المشتري أقرّ بأن هذا العبدَ الذي اشتريتُه مغصوب من فلان، غصبه البائع وباعه، فلا يرجع بالثمن على البائع.
وإن لم يوجد الإقرار منهما، ولكن جاء إنسانٌ وادّعى أن العبد الذي باعه ملكُه، كان غصبه منه، وباعه مغصوباً، فكذباه-أعني البائع والمشتري- فالقول قولهما. أما المشتري، فيحلف: "لا أسلم العبد إلى المدعي". ولا عليه لو قيّد يمينه-إن أراد- بكَوْن العبد ملكاً له، بناء على ظاهر الحال.
وأمّا البائع، فإنما يتجه تحليفُه إذا كنا نرى تضمينه القيمة. وينبغي أن يقع يمينه على نفي القيمة؛ فإنها المدعاة عليه في الحال. ولو تعرض لنفي الغصب للمدّعي، فلا بأس مع التعرض لنفي القيمة. ولو اقتصر في يمينه على نفي الغصب، ففيه وفي أمثاله خلافٌ يأتي في الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
4676- وفرض الأصحاب صورة طوّلوا الفصل بذكرها، فقالوا: لو اشترى عبداً وقبضه، وأعتقه، فجاء المدعي وادّعى أن البائع كان غصبه، فإن كذبوه-يعني البائعَ والمشتري والعبدَ- والتفريع على الصحيح في حق البائع، فيحلف البائع: "لا تلزمه القيمة" ويحلف المشتري: "لا يلزمه ردُّ العبد"، ولا نزاع مع العبد؛ فإنه قد أعتقه المشتري ظاهراً، ومضى حكم الشرع بنفوذ العتق فيه. وسنبين ما نبغيه في أثناء الفصل، إن شاء الله.
4677- فلو صدقه البائع، لم يقبل قوله في انتزاع العبد؛ فإنه يتضمن إبطالَ ثلاثة حقوق: حق المشتري، وحق العبد، وحق الله تعالى في العتق. وإن صدقه البائع والمشتري، لم يقبل في ردّ العتق لحق العبد، وحق الله تعالى. وعلى المشتري القيمةُ، والطلبة بها؛ من جهة إعتاقه، فلو صدقه البائع، والمشتري، والعبد، لم يبطل العتق؛ لأن فيه حقَّ الله تعالى.
ولو مات هذا العبد وكان كسب مالاً، ولم يكن له نسيبٌ وارث، فميراثه للمقَر له بالغصب؛ لأن البائع والمشتري أقرا له بالملك، وليس في قبول إقرارهما في هذا المقام-وقد نفذ العتق- مُرادّةُ حقٍّ. وهذا ظاهر؛ فإن العتيق لا يرثه إلا مولى العتاقة إذا لم يكن له من يحجب مولاه، ولا يمكن أن يُقدَّر حرَّ الأصل؛ فإن الحرية الأصلية ليست ثابتة في حساب، ولا على موجب قولٍ من أقوال هؤلاء.
4678- وهذه المسألة فيها لطفٌ؛ من جهة أن قبول قول المشتري يوجب ارتداد العتق، لو أمكن الوفاء بذلك، فكيف انتهض مثبتاً للميراث. ولكن الغرض من هذا أن الاختصاص الذي يمكن إثباته يثبت بقول المشتري، وإن لم يثبت، رُدَّ العتقُ. وليست المسألة خالية عن إمكانٍ واحتمال. وتكاد أن تكون من دواير الفقه؛ فإن في قبولِ إقرار المشتري ردَّ العتق، وفي رد العتق ردُّ التوريث، وما في يد هذا العتيق ربما حصّله من جهاتٍ لا يصح من العبيد التحصيلُ منها من غير إذن السَّادة.
وقد ينقدح في المسألة تفصيلٌ، فنقول: ما يصح من العبد اكتسابه من غير إذن المولى يجب أن يصرف إليه، فإنه بين أن يكون كسبَ عبده، أو ميراثَ عتيق ثبت أصل الملك له فيه لزوماً، وما ثبت في يده عن جهةٍ لا يصح استبداد العبد بها، فالوجه الحكم بأن المقر له لا يستحقه؛ فإنه ينكر الملك فيه، ويرد عتق المشتري. هذا ما لابد منه. وهو مستقر المسألة. والأئمة وإن لم يذكروا هذا التفصيل، فلا شك أنهم عنَوْه، ولو عرض عليهم، لم ينكروه.
فصل:
قال: "ولو كسر لنصراني صليباً... إلى آخره".
4679- آلات الملاهي تُكسَّر في أيدي المسلمين، فاختلف الأئمة في الحد الذي
ينتهي الكاسر إليه. فقال القائلون: إذا فصلها، كفى، وينبغي أن يُبقي انتفاعاً آخر به، إن أمكن الانتفاع، وهذا القائل يقول: إذا كان الكلام مفروضاً في الأوتار، فيكفي في الكسر رفعُ وجه البَرْبَط، وتركُه على شكل قصعه؛ فإنه بهذا القدر يخرج عن اللهو، والاستعمال المحرّم.
ومن أئمتنا من رأى الزيادة على الحدّ الذي ذكرناه.
ثم الضبط فيما ينتهي إليه ألا يتأتى من المنكسر اتخاذ آلةٍ كالتي كانت، أو اتخاذ آلة أخرى من المعازف. وحاصل الخلاف المذكور آيلٌ إلى أن المعتبر عند بعض الأصحاب إخراجُ الآلة عن إمكان استعمالها في الوجه المحرم. والاعتبار عند الآخرين بإخراجها عن إمكان الرد إلى الهيئة المحرّمة.
وذهب آخرون إلى مسلكٍ وسط، فقالوا: ليس من الشرط إنهاء الكسر إلى استحالة اتخاذ الآلة من الرُّضَاض؛ فإن الخُشب متهيئة لاتخاذ آلات منها، فإذا وجدنا أصولها في أيدي من يتعاطى صنعة الآلات لم نفسدها عليه.
فالمعتبر إذاً انتهاء الكسر إلى حالةٍ لو فرض محاولة صنعة الآلة من الرّضاض، لنال الصانع من التعب ما يناله في ابتداء الاتخاذ.
ولم يكتف أحد من أصحابنا بقطع الأوتار وترك الآلات. والسبب فيه أن الأوتار منفصلة عن الآلة، وهي في حكم المجاورة لها، فلا يقع الاكتفاء بإزالتها؛ فإنَّ الآلات باقية.
ووراء ما ذكرناه نظر؛ فالذي يصنع هذه الآلات إذا وجدنا في يده صفائح لم تتم الصنعة فيها، فإن كانت على حدٍ لا يتجاوزها الكسر، فلا نفسدها، وإن كانت على حدٍّ قد يتجاوزها الكسر ففي كسرها تردُّدٌ عندي؛ فإن من يبالغ في الكسر بناء على ما عهد من الآلة المحظورة قد لا يرى هذه المبالغة في الابتداء، قبل أن تثبت الهيئة.
ومن بالغ في الكسر ينبغي أن يتوقف في الصليب؛ فإن الصليب خشبة معرَّضة على خشبة، فإذا رفعت إحداهما عن الأخرى، فلا معنى للازدياد على هذا. وقد سقطت هيئة الصليب بالكلية، والعلم عند الله.
فصل:
" فإن أراق له خمراً... إلى آخره".
4680- تفصيل القول في إراقة الخمر على المسلمين بيّن، وغرض الفصل تفصيل القول في إراقة خمور أهل الذمة.
اتفق الأئمة على أنه لا يجوز أن يُتَّبعوا في مساكنهم، وتراق عليهم خمورهم. وإن كنا نعلم أنهم يتخذونها. وإذا ظهر لنا هذا من المسلم، اتّبعناه، وأرقنا عليه؛ وذلك أنا عقدنا الذمة على تقريرهم على مُوجب عقدهم، بمعنى المتاركة والإضراب، وليس اقتناؤهم للخمور بأكثر من استمرارهم على الكفر. ولا نشك أنهم إذا استخلوا بأنفسهم، أظهروا تكذيب نبينا؛ فإذا سوّغ الشرع تقريرهم على كفرهم، لم يبعد أن يسوغ تقريرهم على خمرهم. ثم هم ممنوعون من إظهار الخمور والتظاهر بشربها، بحيث يُطَّلع عليهم، وكذلك يُمنعون من إظهار المعازف، وإظهارُهم إياها استعمالُها، بحيث يسمعها من ليس في دورهم.
ثم إذا أريقت عليهم الخمورُ التي اقتنَوْها، فلا ضمان على مريقها، وإن كان ممنوعاً من اتباعهم، خلافاًً لأبي حنيفة.
وأجرى الأصحابُ في أثناء المسألة مسألة مذهبية في الحد؛ فإنهم ألزمونا سقوط الحد عن الذمي إذا شرب وارتفع إلينا راضياً بحكمنا، والذي قطع به المعتبرون من أئمة المذهب أنه لا يحد شاربهم، وإن رضي بحكمنا، إذا كانوا يعتقدون حل الخمر. وهذا وإن كان يغمض الجواب عنه في الخلاف، فهو المذهب.
وذكر أئمة الخلاف وجهاً في وجوب الحدّ وفي كلام الشيخ أبي علي رمز إليه.
وتوجيهه هيّن إن صح النقل، فإنا نستتبعهم في موجب عقدنا، ولا نتبعهم. وقد يعتضد هذا بنص الشافعي رضي الله عنه إذ قال: "لو شرب الحنفي النبيذ حددتُه، وقبلت شهادته" فإذا كان عقد الحنفي في استحلال النبيذ لا يعصمه من الحدّ، فعقد الذمي لا يمنعه من الحد، إذا رضي بحكمنا. وهذا موضع الغَرَض، والكلام.
4681- فإن قيل: ما المعتمد في المذهب الظاهر في الفصل بين إقامة الحدّ على الحنفي وبين الامتناع من إقامة الحد على الذمي؟ قلنا: لما رأى الشافعي المعنى الذي يجب الحد على شارب الخمر لأجله موجوداً في النبيذ، لم يعرّج مع وجود المقصودِ على مذهبِ ذي مذهبٍ؛ فإنا على اضطرار نعلم أن كل خبل يجره شرب الخمر يقتضيه شربُ النبيذ. وإذا كان هذا معتمدَ الحدّ، وهو مقطوع به، فلا وقع للخلاف وراءه. والحنفي مزجور بالحدّ زجرَ غيره. والذمي ليس مزجوراً بحد الشرب، مع العلم بأنه يشرب الخمر إذا استخلى. وعماد الحد الزجرُ، ولا حاصل له في حق الذمي. وهذا حدٌّ واضح.
4682- ثم لما ذكر الشافعي هذا في النبيذ، اضطرب الأصحابُ في النكاح بلا ولي، ونكاح الشغار، وما سواهما من الأنكحة المختلف فيها.
فقال أبو بكر الصيرفي: يجب الحد على من وطىء في النكاح بغير وليّ، قياساً على شرب النبيذ. وهذا مزيف لا أصل له. والمعنى الذي نبهنا عليه يُسقطه؛ فإن كل ما يُحذَر في الخمر، فهو موجود في النبيذ، والزنا من غير تعلقٍ بصورة العقد هو السِّفاح، ولا يضاهيه نكاحٌ بُني على رضاً وإشهادٍ، فليس يقتضي زاجرُ الزنا في الوطء في النكاح بلا وليّ ما يقتضيه الزاجرُ عن شرب الخمر في شرب النبيذ. ثم كان شيخي يحكي عن الصيرفي ثبوتَ الحد على الحنفي في النكاح بلا ولي طرداً لقياس النّص في شرب النبيذ.
وحكى الشيخ أبو علي عن الصيرفي مصيرَه إلى إيجاب الحد في حق من يعتقد تحريم النكاح بغير ولي، والقطع بأنه لا حد على من يعتقد تحليله.
هذا منتهى مسائل الغصب في نقل المزني. ونحن نرسم فروعاً بعدها.
فرع:
4683- سنذكر في بابٍ مخصوص بأحكام البهائم في ربع الجراح، إن شاء الله تعالى أن ما تفسده البهيمة، فالأمر في الضمان مبني على تفريط مالكها، فإذا كان المالك معها، فأتلفت شيئاً بخبْطها أو عضِّها أو رَمْحها، فعلى المالك الضمان، ولا تعلق للمضمون برقبة البهيمةِ.
فإذا كان معه طائر، فالتقط لؤلؤة، فإن لم يكن مأكولَ اللحم، فعليه القيمة للمالك؛ إذ لا يحل ذبح الطائر الذي لا يؤكل لحمه، إذا لم يكن من الفواسق. وإنما وجبت القيمة لمكان الحيلولة. ثم إن كان الطائر مأكول اللحم، ففيه الخلافُ الذي ذكرته في الذبح. وأنه هل يسوغ؟ وقد قدّمتُه في فصول الخيط. فإذا تمهد ما ذكرناه، بنينا عليه فرعاً.
فإذا باع الرجل حماراً بشعير معين، فقضم الحمار الشعير، فإن كان الشعير مُسلَّماً إلى البائع، لا ينفسخ العقد لدخوله في ضمان مستحقه، ثم الكلام في الضمان يترتب على تفصيلٍ: فإن كان سلّم الحمار إلى المشتري، وكان المشتري معه لما قضم، لزمه الضمان للبائع، ويغرَم له مثل شعيره.
وإن كان الشعير في يد المشتري بعدُ، والحمار في يد البائع، فإذا قضم الشعيرَ، نظر: فإن كان البائع مع الحمار، فما جرى يكون قبضاً للشعير المجعول ثمناً.
وهذا يوضحه أمر بيّن وهو أن من ثبتت له يد، وإن لم يكن مالكاً، فهو مؤاخذ بحفظ ما تحت يده، فلو كان الحمار وديعة في يد إنسان، وكان يستاقه ليسقيه، فما يتلفه الحمار مضمون على المودَع، والبائع إذا كان ذا يدٍ للحمار، وإن كان ملكُه للمشتري، فما يتلفه محسوب على البائع، فكأنه أتلف الشعير بنفسه و لو أتلفه، كان قابضاً له؛ فإن مستحق العوض إذا أتلفه، كان إتلافه له بمثابة قبضه إياه.
هذا مقصود الفرع.
فرع:
4684- الغاصب إذا أدخل فصيلاً في خوخة، فكبر بحيث لا يتأتى خروجه من المدخل الذي أدخل فيه، وكان لا يمكنه ردُّه إلى مالكه إلا بهدم البيت، أو فتح باب كبير، فإنا نهدم على الغاصب على قدر الحاجة، ولا ضمان؛ لأجل أنه المتعدي.
ولو دخل الفصيل البيتَ، وصادف فيه ما يأكله ويشربه، فكَبِر، ثم انتهى إلى حالةٍ لو ترك فيه لهلك، فصاحب البيت ليس غاصباً في هذه الحالة، والنظر مردود إلى تفريط مالك البهيمة، فإذا كان مفرِّطاً بترك مراعاته، حتى دخل الموضع الذي دخله، فيهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه في تخليص الحيوان، ولسنا نرعى فيه حرمةَ مالكه، وإنما نرعى حرمةَ الروح، ثم يغرَم المالك ما ينقصه الهدم؛ من جهة انتسابه إلى التفريط.
فلو أمكن تصوير صورة لا يكون المالك مفرطاً فيها في إرسال بهيمته، فلا تفريط من مالك البهيمة، ولا من رب البيت، وقد جرت الواقعة على الصورة التي ذكرناها؛ فعدم الغصب من صاحب البيت يوجب احترامَ ملكه؛ وعدم التفريط من صاحب البهيمة يوجب براءة ذمته، فكيف الوجه والحالة هذه؟ قلنا: نهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه، ثم لا ضمان؛ فإن الهدم مستحق لحرمة الرّوح ولا تفريط من أحد، فالوجه نفي الضمان.
وقد ينقدح فيه خلافٌ؛ تخريجاً على أن من أوجر مضطراً طعاماً يلزمه قيمة الطعام لرجوع المنفعة إليه، فعلى رب البهيمة على هذا التقدير ما ينقصه النقض.
والعلم عند الله تعالى.
فرع:
4685- زوج خف يساوي عشرين أخذ الغاصب منه فرداً، وكان الفرد الذي أبقاه يساوي درهماًً، فما الذي يجب على الغاصب، إذا تلف ما غصبه في يده، أو أتلفه؟ حاصل ما ذكره الأصحابُ أوجه: أحدها: أنه يجب على الغاصب تسعةَ عشرَ؛ فإنّه تسبب بأخذ فرد وإتلافه إلى رد قيمة ما أبقاه إلى درهم، فيلزمه تمامُ ما انتقصه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الغاصب إلا درهم؛ فإنه قيمة الفرد، وهو لم يأخذ غيره. ومن أصحابنا من قال: يجبُ عليه نصفُ قيمة الزوج. وهذا معتدل بين طرفي التكثير والتقليل.
فرع:
4686- إذا غصب شاةً وانتفع بدرّها، ونسلها، وصوفها؛ فإنه يرد الشاة، ويغرَم ما ثبتت يدُه عليه من الشاة. ثم منه ما هو من ذوات الأمثال، ومنه ما هو من ذوات القيم، كالنتاج. وللشافعي وقفةٌ في الصُوف، في أنه من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم. والأمر محتمل، من جهة أن الصوف من الشاة الواحدة لا يتماثل، فما الظن إذا تعددت المحال.
فرع:
4687- إذا أجج ناراً في داره، فطارت منها شرارة إلى دار جاره أو إلى كُدْسه، فجرَّت حريقاً، فهذه المسألة، ونظائرها، معروضة على العادة. فإن عُد صاحب النار مقتصداً في إيقاده، فلا ضمان عليه، وإن حدث ما حدث بسببه؛ فإن التحفظ من مثل هذا غير ممكنٍ، فمجرى الحال محمول على القدر المقدّر ولو لم نَقُل ذلك، لمنعنا الملاك من التصرف في أملاكهم. ولا يجري ما ذكرناه مجرى التعزيرات المشروطة بسلامة العاقبة؛ فإن حسم تصرف الملاك عظيم، فلا يقاس بهلاك يقع نُدرةً، مع الاقتصاد في التعزير.
وإن عُدّ صاحب النار مجاوزاً للغاية، توجه الضمان عليه.
قال الأصحاب: النار القريبةُ في اليوم ذي الريح في العرائش، وبيوت القصب، كالنار العظيمة المجاوزة للحدّ. وفقه الفرع أنا إن تحققنا المجاوزة، أثبتنا الضمان. وإن تحققنا الاقتصادَ، نفيناه. وإن ترددنا، فلا ضمان مع التردد. والمعني بالتردد تساوي العقدين. فإن غلب على الظن مجاوزةُ الحد من غير قطع، أمكن تخريج هذا على غلبة الظن في النجاسات؛ فإن البابين مستويان في إمكان التعلق بالأماراتِ.
ولو كان الإنسان يسقي الزرع فانبثق بثقٌ من أرضه إلى دار جاره، وجرّ هدماً، وفساداً، فالقول فيه خارج على ما ذكرناه. وعلى الذي يسقي أرضه أن يتعهد ما جرت العادة بتعهده. والنائم عن مثل هذا مقصّر، إذا لم يقدم احتياطاً موثوقاً به. وقد يختلف الأمر باختلاف البقاع، وصفات الأراضي، في كونها صُلبة، أو خوارة، ويختلف أيضاً بأن تكون الأرض المسقيّة مستعليةً؛ فإن الماء يسرع انحداره من العلوّ.
فهذا منتهى الضبط في ذلك.
فرع:
4688- إذا اشترى الرجل أرضاً مغصوبة على جهلٍ بحقيقة الحال، وبنى عليها، وغرِم على البناء مالاً، ثم تبين الاستحقاق، نُقض بناؤه، وألزم الأجر.
أما القول في المنافع وأنه هل يرجعُ بما غرمه، فقد مضى مفصلاً.
والذي نُحدثه الآن أنه إذا هُدم بناؤه، فهل يرجع بأرش النقصِ على البائع الذي غره؟ فيه اختلاف بين الأصحاب. ومال القاضي إلى أنه يرجع، وهذا استمساكٌ بمحض التغرير. ولا أحد يصير إلى أنه يرجع بما بذله في البناء؛ فإن ذلك يختلف، وإنما الرجوع بما ينقصه النقض.
فرع:
4689- قد ذكرنا خلافاًً في أن المستعير، والقابضَ عن الشراء الفاسد، والمسْتام، يضمنون ضمانَ الغصوب أم لا؟ فإن نفينا ضمان الغصب، فقد خَرَّج الأصحابُ ضمان الزوائد المنفصلة والمتصلة على هذا القانون، واستقر جواب المحققين على أن الاعتبار-إذا نفينا تغليظ الغصبِ- بيوم القبض، فكلّ ما يحدث بعده، لا يقع مضموناً. قال صاحب التقريب: الذي أراهُ وأختاره، أن الزوائد المتصلة مضمونة. وما ينفصل لا يضمن، كالولد، والثمار. وهذا غريب، وإن اتجه في الرأي.
فرع:
4690- إذا غصب الرجل عيناً وباعها، فأراد المالك إجازة البيع، فهو خارج على وقف العقود، وإن كثرت البياعات، وعسر تتبعها، وتفرق المتعلقون بها، فإذا فرعنا على الجديد في منع وقف العقود، ففي هذه الصورة تردد، لما في التتبع من الضرر العظيم. وللشافعي في الجديد ترديد جوابٍ في هذا. وقد أدرجت هذا في تقاسيم الوقف في كتاب البيع.
فرع:
4691- إذا باع رجل، أو أجرى البيعَ إلى حالة الإلزام، ثم قال: كنت غصبته، فقد ذكرنا في وجوب الضمان عليه للمقَر له خلافاًً.
وقد زاد صاحب التقريب وجهاًً مفصلاً، فقال: إن قال: بعته وهو ملكي، ففيه التردد في الغرم، وإن أطلق البيع، ولم يدّع الملك، لم يضمن؛ فإنَّه قد يبيع الإنسان ما لا يملكه. وهذا لا أصل له؛ فإنه ببيعه أوقع الحيلولة، وإن لم يدع الملك لنفسه. ومعتمد الضمانِ في الباب الحيلولةُ وإيقاعُها، والله أعلم.
انتهى كتاب الغصب بحمد الله.