فصل: كتاب الصلح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الصلح:

4101- صدّر الشافعي رضي الله عنه الكتاب تيمناً بقول عمر رضي الله عنه؛ إذ قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً".
فالمحلِّل للحرام هو الصلح المورَد على عوضٍ محرم، كالخمر والخنزير، والمغصوب، وغيرها.
والصلح المحرِّم للحلال هو المشتمل على شرط يتضمن المنعَ من تصرفٍ مباح شرعاً، كشرط المنع من المبيع والهبة في العوض المذكور في الصلح.
4102- والوجه أن يصدَّر الكتابُ بتقسيمٍ حاوٍ يجمع صحيح الصلح وفاسدَه، ومحلَّ الوفاق والخلاف جمعاً كلياً، فإن شذّ عن التقاسيم شيء، تداركناه بفرض المسائل، ورسم الفروع.
والصلح في البحث الأوّلي ينقسم إلى ما يجري بين المدعي والمدعى عليه. وإلى ما يجري بين أجنبي وبين المدّعي.
فأما الصلح الذي بين المدّعي والمدعى عليه قسمان: صلح مع الإقرار، وصلح مع الإنكار. فأما الصلح مع الإقرار، فإمَّا أن يكون عن عين، وإما أن يكون عن دينٍ. فأمَّا الصلح الواقع عن عينٍ، فينقسم إلى صلح معاوضة، وإلى صلح حطيطة.
فأمّا صلح المعاوضة الذي يشتمل على عوض سوى العين المدعاة المعترف بها.
وذلك إذا ادّعى رجل على رجل داراً أو عبداً أو ثوباًً، فاعترف به، وصدق المدعي، ثمِ قال للمدعي: صالحني عن هذه العين على هذا، وعين عوضاً، أو وصفه وصفاً
يُقنعُ به في المعاوضات. فإذا أسعفه المدعي، وقال: صالحتك من ثوبي الذي في
يدك على كذا، فقال المدعى عليه: قبلتُ، صحت المعاملة. وهي بيعٌ على
الحقيقة، معقودة بلفظ الصلح.
وإذا قال الفقيه: حكمه حكم البيع، كانت عبارته مختلّة؛ فإنه بيعٌ بنفسه، ويتعلق به جميعُ أحكام البيع وقضايا الربا، إن اشتمل على الربويات. والعُهَدُ المألوفة في البيع، وأحكام الضّمان، والردود، ولا مزيد؛ فقد قطعنا بأنه بيع.
قال صاحبُ التلخيص: الصلح في المقام الذي نحن فيه بيع عُقد بلفظ الصلح.
4103- ويجوز عقد الصلح بلفظ البيع إلا في شيء واحد، وهو الصلح عن الجنايات؛ فإن الصلح جائز عن الإبل، وإن لم تكن على الصفات الضابطة في السلم، ولو فرض عقد تلك المعاملة بلفظ البيع، لم يصح.
4104- قال الشيخ أبو علي: هذا الذي ذكره غير صحيح. والتفصيل فيه أن الأرش إن كان مجهولاً، كالحكومة التي لم تقدَّر، فلا يصح الصلح عنه، ولا يجوز تقدير بيعه، وإن كان الأرش معلوماً على التحقيق، كما إذا كان دراهم أو دنانير، صحَّ الصلح عنه، ويصح التصرف فيه بلفظ البيع. وإن كان الأرش مقدراً، ولكن كان من الإبل، والأوصافُ المرعية في الديات لا يقع الاكتفاء بها في السلم، ففي جواز الصلح عنها وجهان، اختار صاحبُ التلخيص أحدهما. فإن نحن صحَّحْنا الصلحَ، لم يمتنع تصحيح المعاملة بلفظ البيع أيضاًً، وإذا لم نصحح الصلح، فلا شك في امتناع البيع أيضاًً. ثم قال الشيخ: إذا قلنا: موجب العمدِ القودُ المحض، فالصلح من القصاص جائز، ولا يجوز استعمال لفظ البيع فيه.
ثم هذا القسم الذي نحن فيه من الصلح يجوز أن يكون العِوضُ فيه عيناً، ويجوز أن يكون ديناً إذا لم يكن الذي عنه الصلح مالَ رباً يقتضي العقد عليه التقابضَ في المجلس. ولا معنى للإطناب بعد البيان.
هذا صلح المعاوضة.
4105- فأما صلح الحطيطة في هذا القسم، فتصويره أن يدعي رجلٌ على رجلٍ عيناً من الأعيان، فيعترف المدعى عليه بالملك للمدّعي، ثم يقول: صالحني منهُ على نصفه. فإذا قال: صالحتك، كان تقدير هذا راجعاً إلى هبة بعض العين من المدعى عليه، فإذا جرت المعاملة كذلك، فقال المدعي: صالحتك من ثوبي هذا على نصفه، وقال المدعى عليه: قبلت. ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص:
أحدهما:وهو الظاهر الذي قطع به مَنْ سِواه- أن ذلك يصح، ويتضمن هبةَ النصف من المدعى عليه، ويثبت له أحكام الهبات في جملة المعاني، والقضايا.
والوجه الثاني- أن هذا باطل؛ فإن الصلح متضمنه المعاوضة، وبيع الرجل ملكه من عينٍ بنصف العين باطلٌ متناقض.
والقائل الأوَّل يقول: الصلح عبارة صالحة للمعاوضة في أوانها، وهو مشعر بالهبة في هذا المقام. والدليل عليه أَنَّ إطلاق هذا اللفظ شَائعٌ في الاستعمالِ، ولا معنى له إلا ما ذكرناه. والمطلوب من الألفاظ معانيها، وما يفهم من وضعها.
هذا كله فيه إذا كان الصلح دائراً بين المدعي والمدّعى عليه من عينٍ.
4106- فأمَّا إذا كان الصلح عن دين، فتصويره أن يدعي رجل على رجلٍ ديناً، فيعترف به، ثم يقع الصّلح فيه.
والصلح في هذا القسم ينقسم إلى صلح معاوضة، وإلى صلح حطيطة: فأمَّا صلح المعاوضة، فهو أن يذكر أعواضاً عن الدين المعترف به. ثم إن كان ذلك العوض عيناً، وسُلّمت العين في مجلس المعاوضة، صح الصلح على شرط الشرع، ومتضمن الصلح مقابلة عينٍ بدين.
وإن لم يتفق تسليمُ العين في مجلس الصلح، فهل يبطل الصلح بالتفرق؟ فعلى وجهين مشهورين: أقيسهما أنه لا يبطل؛ لأنه لم يَجُرّ ما يتضمن الإقباض من أصل الربا. وليس الصلح الموصوف بيعَ دين بدين، حتى يدخل تحت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " بيع الكالىء بالكالىء".
والوجه الثاني- أن الصلح يفسد بالتفرق قبل إقباض العين المجعولة عوضاً؛ وكان ذلك نوعاً من الإنساء المضاهي للدينية.
وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فالأصح الأول.
ولو كان العوض المذكور عن الدين المعترف به ديناً، ثم فرضت المفارقة قبل الإقباض، فلا شك في بطلان الصلح؛ فإنه اشتمل على مقابلةِ الدين بالدين، وهو المنهي عنه نصّاً. ولو ذكر العِوض موصوفاً ديناً، ثم أُحضر في المجلس وسُلّم، جاز؛ فإن هذا لا يمتنع في عقد الصرف، فكيف يمتنع في غيره.
هذا كله في صلح المعاوضة عن الدينِ.
4107- فأمّا صلح الحطيطة في الدين، فصورته أن يقول المدّعى عليه المعترف بالألف للمدّعي: صالحني عن الألف الذي لك على خمسمائة، فإذا قال: صالحتك، وقبل المستدعي، أو جعلنا الاستدعاء كافياً، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أن ذلك يصحُّ، ومتضمنه الإبراء عن خمسمائة.
والوجه الثاني- حكاه الشيخ أبو علي أن ذلك باطل، والألف باقٍ بكماله؛ فإن صيغة اللفظ المعاوضة، وهي مناقضة لمعنى الإبراء.
4108- فإن فرعنا على الأصح، وهو أن ذلك إبراء، فلو ابتدأ المدعي، وقال: صالحتك من الألف على خمسمائة، فهل يكفي ذلك في حصول البراءة؟ أم لابد من القبول يقدّم عليه. إن الإبراء إذا استعمل لفظه، نفذ، ولا حاجة إلى قبول المبرأ عنه، على الأصح.
وفي المسألة وجه بعيد أنه لابد من القبول.
فإن فرعنا على الأصحّ وهو أنه لا حاجة إلى القبول إذا استعمل لفظ الإبراء، فهل يشترط القبول إذا كان المستعمل لفظ الصلح؟ فعلى وجهين. وهذا يناظر ما لو قال مستحق الدين لمن عليه دين: وهبت مالي من الدين منك، فهذا إذا نفذ، معناهُ الإبراء. وفي اشتراط لفظ القبول وجهان:
أحدهما: لا يشترط كلفظ الإبراء0
والثاني: يشترط؛ لأن اللفظ معناه التمليك، فيستدعي في وضعه القبول.
4109- وإذا كان المدعَى المعترف به عيناً، وفرضنا صلح الحطيطة فيه، بأن يقول المدّعي: صالحتك من ثوبي هذا على نصفه، فإذا صححنا ذلك على معنى الهبة، فلا شك في اشتراط القبول؛ فإن الهبة في معناها تفتقر إلى القبول، بخلاف الإبراء. وهذا واضح.
4110- ولو كان الصلح عن دين وهو ألف مثلاً، فأحضر المدعى عليه خمسمائة، فقال المدعي: صالحتك من الألف على هذه الخمسمائة. والتفريع على أنه لو قال: صالحتك عن الألف على خمسمائة من غير تعيين، كان إبراءً عن الخمسمائة، فعلى هذا إذا أشار إلى الخمسمائة المعينة، وقال: صالحتك من الألف الذي لي عليك على هذه الخمسمائة، فالأصح أن هذه المعاملة فاسدة؛ والألفُ باقٍ؛ فإن اللفظ الذي جاء به مع التعيين صريح في عرض المعاوضة، وبيعُ الألف بخمسمائة باطل.
وقيل: يجوز. والمقصود الإبراء عن خمسمائة، ثم تيك الخمسمائة المعينة لا تتعين عند هذا الإنسان إلا باتفاق تسليمها إليه؛ إذ لو تعينت، لكان عوضاً.
ولا خلاف أنه لو قال: بعتك الألفَ الذي لي عليك بهذه الخمسمائة، فالبيع باطل، والألف باقٍ بكماله.
وكل ما ذكرناه فيه في الصلح الواقع من المدير والمدعى عليه، مع الإقرار.
4111- وأمَّا الصلح بينهما مع إنكار المدّعى عليه، فلا يخلو إما أن يكون على عوضٍ غير المدعى، وإما أن يكون على بعض المدعى.
فإن كان الصلح بشيء غيرِ المدعى مع الإصرار على الإنكار، فالصلح باطل عندنا، خلافاً لأبي حنيفة. ولابد من تصوير محل الخلاف، والتنبيه على تمام البيان.
فإن قال المدعى عليه، والمدعَى ثوب، أو ألفُ درهم للمدعي: صالحني عن دعواك بكذا من الدراهم، أو بهذا الثوب، فهذا هو الصلح على الإنكار في حقيقته. وهو باطل عندنا.
ولو قال المدعى عليه بعد الإنكار: صالحني بكذا، أو بهذا، فقال المدعي: صالحتك، فهو باطل، وهو من صور الصلح على الإنكار.
ولو قال المدعى عليه بعد الإنكار السابق: صالحني عن هذه الدار على كذا، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن هذا صلح على الإنكار، وهو باطل.
والثاني: أنّه إذا أضاف الصلح إلى العين المدعاة، كان ذلك إقراراً منه بالملك فيها للمدّعي؛ فإن الصلح-حيث يصح- كالبيع، وإضافة البيع إلى تلك العين إقرار بها، فليكن إضافة الصلح إليها بهذه المثابة. والقائل الأول يقول: البيع صريح في اقتضاء إثبات الملك لمن هو في منزلة البائع، ولفظ الصلح قد يستعمل في اللَّبس والاختلاط، ومحاولة الخلاص.
وما ذكرناه فيه إذا جرى الصلح مع الإنكار على غير العين المدعاة.
4112- وأمَّا إذا جرى الصلح على بعض المدعى، مع تصوير الإمكان، فلا يخلو المدعَى إمّا أن يكون عيناً، وإما أن يكون ديناً، فإن كان عيناً، كأن كان المدعى ثوباً، فأنكر، ثم قال: صالحني على نصفه، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما- لا يجوز ذلك ويلغو، والصلح صلحُ إنكار، فيُقضَى بفساده.
والوجه الثاني- يجوز، ويجعل كأنه وهب منه نصف المدّعى.
وفي الحقيقة إذا صالحه على النصف وسلمه إليه، فقد اتفقا على استحقاقه فيه، غير أنهما اختلفا في جهة الاستحقاق: فالمدعي يزعم أنه يستحقه بحكم الملك، والمدعى عليه يقول: بل بحكم الهبة.
4113- ولو كان المدعى ديناً، فأنكره المدعى عليه، ثم صالحه المدعي على خمسمائةٍ، نُظر: فإن صالح على خمسمائة في الذمة، لم يجز الصلح. وإن وقع تعيينُ الخمسمائة وإقباضُها؛ فإن المدعى عليه يزعم أنه وَهَب من المدعي خمسمائةٍ، وإيراد الهبة على الذمة باطل. ولو قال رجل لآخر وهبتُ منك ألف درهم، ثم حصله وأقبضه إياه، لم يصح ذلك.
ولو أحضر المدعى عليه خمسمائة، فقال المدعي: صالحتك على هذه الخمسمائة، فهذا يترتب على ما قدمناه فيه إذا كان المدعى عيناً، فإن حكمنا ببطلان الصلح في العين، فلأن يبطل الصلح في الصورة التي انتهينا إليها أولى، وإن حكمنا بأن الصلح من العين على بعضها صحيح محمول على الهبة، فإذا جرى الصلح من ألف على خمسمائةٍ معينة، ففي هذا الصلح وجهان:
أحدهما: أنه يصح، وهو محمول على هبة الخمسمائة الحاضرة، وما ذكرناه في تقدير هبة بعض العين إذا كان المدّعى عيناً والصلح على بعضها.
ومنهم من قال: لا يصح. والفرق أن الصلح من العين على بعضها ليس في معناه شَوْبُ معاوضة، والصلح من ألف في الذمة على خمسمائةٍ حاضرةٍ منقودةٍ فيه معنى المعاوضة، فكان حريّاً بالبطلان، مع قيام الإنكار، ومقابلة الألف بالخمسمائة.
وكل ما ذكرناه في جريان الصلح بين المدعي والمدعى عليه مع الإقرار والإنكار.
4114- فأما إذا جرى الصلح بين المدّعي والأجنبي، لا يخلو إمّا أن يكون مع إقرار المدعى عليه، وإمّا أن يكون مع إنكاره. فإن كان مع إقراره، لم يخل إما أن يكون المدعى ديناً، أو عيناً. فإن كان عيناً كأن ادّعى عليه ثوباًً، فأقر به، فتقدم أجنبي إلى المدعي ليصالح، ففي ذلك مسائل: إحداها- أن يقول: وكلني المدعى عليه لأصالحك عنه له على كذا، فيجوز هذا، والأجنبي وكيل بالشراء.
والمسألة الثانية: أن يقول: أصالحك عنه لنفسي على كذا، فأجابه المدّعي، والأجنبي كأنه يقصد الشراء لنفسه. قال الأصحاب: ذلك صحيح، وقد اشترى عيناً من مالكها.
وكان شيخي يتردَّد في ذلك تردُّداً يؤول إلى اللفظ. ويقول: أولاً في غير صور المنازعة والدعوى، إذا تقدّم رجل إلى مالك عينٍ، وقال: صالحني عن ثوبك هذا بدينارٍ، فقال: صالحتك. فهل يكونُ ذلك شراءً صحيحاً؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يصح.
والثاني: لا ينعقد البيع، فإنّ الصلح من غير تقدم منازعةٍ غيرُ مستعمل. ولو تقدمت دعوى في مفصل خصومة ترتب عليها إقرارٌ، فقال المدعى عليه: صالحني على كذا، صح، ولو قال أجنبي للمدعي: صالحني على كذا، وقصد أن يملك لنفسه، وقد ثبت ملك المدعي بإقرار المدَّعى عليه، ففي صحة ذلك وجهان مرتبان على ما لو جرى الصلح من غير نزاع أصلاً، وهذه الصورة أولى بالصحّة؛ فإن لفظ الصلح ترتب على صورة دعوى وجواب، وإن لم تتعلق الدعوى بالأجنبي المصالح.
4115- ولو تقدم الأجنبي إلى المدعي، وقال: أصالحك عن العين المدَّعى عليه بكذا، وما كان وكله المدعى عليه المقر، فأجابه المدّعي، فلا يقع الملك للمدّعى عليه المقر، تفريعاً على المذهب الظّاهر في منع وقف العقود، كما فصلناه في كتاب البيع. وإذا لم يقع الملك للمقر المدّعَى عليه، فهل يقع للأجنبي؟ في وقوعه وجهان يجريان في كل من اشترى لغيره شيئاًً من غير توكيل، فلا يقع لغيره، وفي وقوعه للعاقد وجهان، هذا إذا صرح بالإضافة، فإن أضمرها، فلا خلاف في الوقوع للعاقد، ولو قبل النكاح لمن لم يوكله، لم يقع لواحد منهما اتفاقاً.
أما إذا قال: وكلني لأصالح له بثوبي أو عبدي، ففي وقوعه عن الموكل وجهان يجريان في التوكيل كذلك، من غير نزاع، فإن لم نوقعه للموكل، ففي وقوعه للوكيل الوجهان، وإن أوقعناه للموكل فنقول: هل الثوبُ موهوبٌ أو مقرض؟ فعلى الوجهين السابقين.
والثاني: لا يقع للمدَّعى عليه، فعلى هذا لا يقع للأجنبي المُصالح أيضاًً، تفريعاً على بُطلان شراء الدين في ذمة الغير. وهذا بخلافِ العين؛ فإن شراء العين جائز. هذا منتهى الكلام في صلح الأجنبي، مع إقرار المدعى عليه، عيناً كان المدعى، أو ديناً.
4116- فأما الصلح من الأجنبي مع إنكار المدعى عليه، فينقسم إلى العين والدين، فإن كان في العين كأن ادّعى عليه ثوباًً، وأنكر، فجاء أجنبي ليصالح، ففي ذلك مسائل: إحداها- أن يقول: أقر المدّعى عليه عندي، ووكلني لأصالحك عنه على مالٍ، فهذا جائز، لا امتناع فيه بوجهٍ.
وفي المسألة غائلة، لابد من التنبيه لها، وهي أنا لو سمعنا المدعى عليه يُعيد الإنكار بعد ما ادّعى الأجنبي أنه وكيله، فعادة الإنكار منه عزلٌ له، فتنقطع الوكالة، ولو لم يُعِدْ إنكاراً بعد الإنكار الأول، فالأمرُ على ما ذكرناه حينئذ.
4117- ومن مسائل هذا القسم أن يقول الأجنبي: قد أقر المدّعى عليه عندي بعد إنكاره، وأنا أصالحك عنه لنفسي على كذا، فقد قال طوائف من أصحابنا: يصحّ هذا العقد. فإنَّا نبني صحة العقد على الصيغة الدائرة بين المتعاقدين، وهما متقارّان، وصورة العقد مبنيّة على التقارِّ. وهؤلاء يشترطون لا محالة أن يكون المشتري قادراً على انتزاع تلك العين من يد المدعى عليه. ولو قال الأجنبي: أنا قادر على الانتزاع من يده، بُني العقدُ على حكم قوله في الظاهر، وحُكم بصحته.
وكان شيخي أبو محمّد يطلق القول بأن الصلح في هذه الصورة لا يصح على هذا الوجه؛ فإن ظاهر الشرع قاضٍ بثبوت الملك للمدعى عليه، وابتياعُ ملكه المحكومُ به من غير إذنه لا يصح.
والوجه التفصيلُ عندنا، بأن يقال: إن كان الأجنبي صادقاً بينه وبين الله تعالى، حُكم بصحة العقد باطناً قطعاً. ولكن. لو قيل: يُحكم بصحة العقد ظاهراً، على معنى أن تزال يدُ المدعى عليه، من غير ثَبتٍ، فهذا لا وجه له، ولا سبيل إليه.
وإن قيل: هل يطالِب المدّعي الأجنبيَّ المصالحَ بالثمن الذي التزمه بناء على قوله والتزامه؟ فالوجه القطع بأنه يطالبه، ويؤاخذه بحكم قوله.
وإن كان المدّعي كاذباً في علم الله تعالى، فالعقد باطل باطناً، وفي مؤاخذة الأجنبي بالظاهر بناء على قوله والتزامه- الذي ذكرناه.
وما ذكرهُ شيخي له اتجاهٌ؛ فإن انتزاع تلك العين من يَدِ المدّعى عليه ممنوع شرعاً، لا يعارضه إقرار الأجنبي بالاقتدار على الانتزاع.
هذا منتهى الكلام.
والوجه مَا ذكرناه من التعرض للظاهر والباطن.
4118- ومن المسائل أن يقول الأجنبي: لم يُقرّ المدعى عليه عندي، لكني أعلم أنك محق، فأصالحك لنفسي، فهذا بزعم هذا الأجنبي شراء المغصوب، والتفصيل فيه كالتفصيل، في المسألة المقدمة.
4119- ومن المسائل أن يقول: لم يقر المدعى عليه، لكني أعلم أنك محق، فأصالحك للمدعى عليه لقطع الخصومة، وتخليص العين للمدّعى عليه، ففي المسألة وجهان مشهوران: أظهرهما- أن ذلك ممتنع؛ فإنه موقعٌ الصلحَ لمنكرٍ، والمدّعى عين من الأعيان.
والثاني: يصح العقد؛ لأن الأجنبي والمدعي متقاران بينهما، وهو يبغي تنزيه العين عن دعوى المدعي، فكان كما لو سعى في تبرئة ذمته عن دين، وهذا رديء جدّاً، ولكنه مشهورٌ في الحكاية.
4120- ومن المسائل أن يقول: أقر عندي وأنا الآن أصالحك له، وما وكلني، فلا يقع للمدعى عليه بلا خلاف؛ فإنه يزعم أنه أقر باطناً، فليس متمادياً على إنكاره، فلابد من التوكيل من جهته، ولكن إذا لم يقع عن المدّعى عليه، فهل يقع عن الأجنبي فعلى الوجهين المذكورين في نظائر هذا.
ولو قال الأجنبي: أعلمك مبطلاً، ولكني أصالح لقطع الخصومة، فهذا باطل؛ فإن الصلح على هذه الصيغة مع المدعى عليه لا يصح؛ لأنه على الإنكار، فكذلك لا يصح مع الأجنبي.
وكل ما ذكرناه والمدّعى عين.
4121- فأمَّا إذا كان المدعى ديناً، وقد أنكره المدعى عليه، فجاء أجنبي ليصالح، نُظر: فإن قال: أقر عندي، ووكلني لأصالح له، فجائز على نحو ما ذكرناه في العين، وقد تقدم.
وإن قال: أصالح لنفسي، فهو شراء الدين، وتفريعنا على الحكم ببطلانه.
وإن قال الأجنبي: أعلمك مبطلاً ولكني أصالحك لقطع الخصومة، فهذا باطل، وهو صلح على الإنكار.
وإن قال: لم يقر، وأعلمك محقاً، ولكني أصالح للمدعى عليه، فالأظهرُ أنه جائز؛ لأنه قضاء دين الغير دون إذنه، وقضاء الدين لا يقف على إذن المقضي عنه، بخلاف العين؛ لأن تملك العين بغير إذنه وقبوله غيرُ متجه، وقيل: لا يصح هذا في الدين، وهو بعيد.
4122- وفي هذا الفصل مزيد تفصيل يستدعي تقديم مقدّمةٍ، هي مقصودة في نفسها: وهي أن من عليه الدين إذا قال لإنسانٍ: أدِّ ديني، فإن أدى المأمور جنسَ الدين، جاز. وإن أدى عِوضاً، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنه يجوز كما لو أعطى جنس الحق.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يعطيه على سبيل العوض، ومبنى ما يعطيه المرء عوضاً أن يقابله تملك شيء من جهة باذل العوض، وليس الأمر كذلك.
ولو ضمن رجل مالاً، فأعطى عوضاً إلى المضمون له، وقع الموقع وجهاًً واحداً؛ لأن الضّامن من التزم المال بالضمان، فصار أصلاً في الالتزام، فما يعطيه يعطيه فيما عليه، ويُسلّم له في مقابلة براءته. فإن قلنا: بظاهر المذهب في جواز بذل العوض، أو وضعنا الكلام في الضّامن الذي يملك الرجوع على المضمون عنه، والتصوير في المأمور بأداء الدين فيه إذا كان يملك الرجوع، وإن كان العوض المبذول قيمته مثل الدين، رجع به. وإن كان أكثر من الدين، لم يرجع بالزائد. وإن كان أقلَّ من الدين، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يرجعُ بقدر قيمته اعتباراً بما غرم.
والثاني: بقدر الدين؛ اعتباراً بما سقط، وسنقرر هذا الأصل في كتاب الضمان إن شاء الله تعالى.
4123- فإذا ثبتت هذه المقدمة، فإذا جاء الأجنبي في صورة الصلح، وقال للمدعي: أعلمك محقاً، وأريد أن أصالح المدعى عليه، وما أقر عندي، وما وكلني، فإن بذل الأجنبي جنس الدين، فالظاهر الصحة، وفيه الوجه الضعيف.
وإن بذل عوضاً، والتفريع على أن بذل جنس الدين صحيح، ففي بذل العوض وصحته من الخلاف ما ذكرناه فيه إذا قال من عليهِ الدين: "أدّ ديني"، فبذل المأمور عوضاً.