فصل: كتاب الحجر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الحجر:

4065- الحجر هو المنع، وكل تحريمٍ حجرٌ في الشرع. والحجر في اصطلاح الفقهاء ما يتضمن المنعَ من التصرف.
والأسبابُ المقتضية للحجر: الجنون، والصبا، والرق، والسفه، والفلس.
فأما المجنون، فلا استقلال له، وأمره مفوضٌ إلى القوّام عليه. والجنون يسلب حكمَ أقوال المجنون بجملتها. والصبا يضاهي الجنونَ في سلب الأقوال الملزمة، وعليه بنينا منعَ إسلام الصبي على المذهب الظاهر، والصلاة تنعقد منه؛ لأنها ليست لازمة. وفي إحرامه احتياط في المذهب بيَنَّاه في المناسك. والفرق بين الإسلام والإحرام عسر.
4066- وأمّا الحجر بالرق، فثابت. وقد أنكر بعضُ أصحابنا عدَّ الرقيق من المحجورين، وقال: إنه لا يملك شيئاًً، فلم يتصرف. وهذا لا أصل له. ووجه منعه بيّنٌ، والقول في ذلك لا يشير إلى فقهٍ.
وتصاريف أحوال العبيد تنقسم ثلاثة أقسام: قسمٌ- لا ينفذ منه، وإن أذن المولى فيه كالولايات والشهادات. وقسم- يستفيده دون إذن المولى كالعبادات، والتصرفاتِ في النكاح المأذون فيه. وقسم- يتوقف نفوذه على إذن السيد وهو كابتداء النكاح، والبيع والشراء، على الأصح وغيرهما.
4067- وأمَّا المحجور عليه بالفلس، فقد انقضى حكمه في كتابه، وأمَّا المحجور عليه بالسفه، فتفصيل القول في اطراد الحجر عليه، وفيما ينفذ منه وما لا ينفذ، سيأتي على الاتصالِ، إن شاء الله تعالى، وهو مقصود الكتاب.
4068- ثم ذكر الأصحاب في صدر الكتاب تفصيلَ القول في البلوغ وسببه.
والغرض التعرض للسَّفَه والتبذير والرشد المناقض لهما، ولكنّ نظمَ الكلام يقتضي ذكرَ زوال الصبا، والنظرُ بعد زواله في الرشد والسفه. والصّبي في الإطلاق غيرُ مكلَّف، وكأن الشرعَ لم يُلزم الصبيَّ قضايا التكليف بسببين:
أحدهما: أنه في مظنة الغباوة وضعف القصد، فلا يستقل بأعباء التكليف.
والثاني: أنه عري عن البلية العظمى وهي الشهوة. ثم ربط الشرعُ التزام التكليف بأمدٍ، أو تركّب الشهوة، أمّا الأمد فيُشير إلى التهذب بالتجارب، وأما تركب الشهوة؛ فإنه تعرض للبلايا العظام، فرأى الشرع تثبيت التكليف معه زاجراً، وإن اتفق ذلك دون الأمد المعتبر في البلوغ.
4069- فأما الأمد، فمذهب الشافعي أن بلوغ الغلام والجارية يحصل باستكمال خمسَ عشرةَ سنة. هذا هو المذهب.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في أن البلوغَ يحصل بالطعن في السنة الخامسة عشرة، من غير استكمال. وهذا لا أصلَ له. هذا قولنا فيما يتعلق بالزمان.
4070- فأمّا تركب الشهوةِ، فلا مُطَّلعَ عليه إلا من جهة العلامة، حتى نذكر العلامة في الغلام والجارية والخنثى.
فأمّا الغلام فعلامة تركّب الشهوة فيه انفصالُ المني، وقد وصفناه في كتاب الطّهارة. ثم اختلف أصحابنا في أقلّ السّن الذي يُفرض بلوغ الغلام بالاحتلام فيه، فقال قائلون: إنه يحتلم إذا استكمل العاشرة. ولو فرض انفصال ما نراه على صفة المني في التاسعة، فهذا نادرٌ.
وقد مضى القول في كتاب الحيض فيما يُفرض ندورُه في الحيض، وأقلِّه وأكثرِه.
والمتبع في هذه الأبواب الوجودُ، واتباع الأولين، وقد أشبعنا القول في ذلك على أقصى الإمكان.
وإنما الذي نُجريه الآن ذكرُ كلام الأصحاب، خلافاً ووفاقاً، على ما تقرّر عندهم في حكم العادة. هذا قولنا في سبب بلوغ الغلام.
4071- فأمّا سبب بلوغ الجارية، فاعتبار السن فيها كاعتبار السن في الغلام.
وقد روى الدارقطني بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استكمل المولود خمسَ عشرةَ سنةً، كتب ما له وما عليهِ وأقيمت عليه الحدود» ولفظ المولود يعم الغلام والجارية، فلا فرق بينهما فيما يتعلق بالسن باتفاق الأصحاب.
وأمّا الخارجُ الدال على البلوغ فيها، فالحيض لا شك أَنَّه يدل على البلوغ.
والقول في أقل سن الحيض استقصيناه في كتاب الحيض.
والمرأة إذا احتلمت وخرج منها ما يُعتقد أنه أصل فطرة المولود من جانبها، فقد ذكرنا في كتاب الطّهارة أن المرأة تغتسل إذا رأت ذلك، واستشهدنا عليه بحديث المرأة التي سألته صلى الله عليه وسلم وقالت: ما على المرأة إذا هي احتلمت؟ فقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "إذا رأت ذلك، فلتغتسل"، فإذا رأت الصبية ما وصفناه، فهل يكون ذلك بلوغاً منها إذا رأت ذلك على سن إمكان البلوغ؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب:
أحدهما: أنه يكون بلوغاً منها، بمثابة احتلام الغلام.
والثاني: لا يكون بلوغا؛ لأن ذلك نادر في جنسهن، وحق البلوغ أن يُناط بالعلامات الظّاهرة. وللنَّظر وراء ذلك مضطرَبٌ.
فإذا قلنا: يحصل البلوغ، وهو الأصح، فلا إشكال. وإن قلنا: لا يحصل البلوغ، فالذي يتّجه عندي أن هذه لا يلزمها الغسل في هذا المقام؛ فإنا لو ألزمناها ذلك، لكان حكماً بأن المنفصل منيٌّ والجمع بين الحكم بأنه منيٌّ يوجب خروجُه الغسلَ وبين الحكم بأن البلوغ لا يحصل به، فيه تناقض. فعلى هذا يُقطع بوجوب الغسل بخروج المني من المرأة التي لا نشك في بلوغها. وإذا رأت الصبيةُ ذلك في مظنة البلوغ، ففي وجوب الغسل ما ذَكرته. هذا ما رأيته.
وظاهر كلام الأصحاب ثبوتُ الغسل وجهاً واحداً، والتردُّدُ في حصول البلوغ من جهة ندور الشيء. وهذا غير سديد. وظاهر المذهب حصول البلوغ، فقد اجتمع للمرأة أسبابٌ ثلاثة إلى أن يلحق بها بعد ذلك ما ينبغي، فالأسباب الثلاثة: السن، والحيض، وانفصال ماء الفطرة.
4072- فأما الإنباتُ- يعني إنباتَ العانة- فإنه يعم الغلامَ والجارية، ولم يختلف الأصحاب في أنه تعلّقَ به الحكمُ بالبلوغ في حق أولاد الكفار، والشاهد له ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، لما حكم سعدٌ بقتل مقاتلتهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجالهم، فضربت أعناقهم، وكان يأمر بالكشف عن مؤتزر الغلام، فكل من أنبت منهم، كان يقدّم وتضربُ رقبته.
4073- ثم الترتيب الجامع المرضي في ذلك، أن الأصحاب اختلفوا في أن الإنبات عينُ البلوغ، أو علامةُ البلوغ. هكذا قال الأصحاب. فإن جعلنا الإنبات عينَ البلوغ، وجب الحكمُ بالبلوغ عنده في أولاد المسلمين، كما يجب ذلك في أولاد الكفار.
وإن قلنا: إنه علامةُ البلوغ، ففي أولاد المسلمين وجهان:
أحدهما: يحكم بالبلوغ فيهم قياساً على أولاد الكفار.
والثاني: لا يُحكم؛ فإنا نطلع على تواريخ ولادة أولاد المسلمين؛ فلا نتعلق بالأمر الخفي، وقد لا نطلع على التواريخ في أولاد المشركين، فنكتفي بهذه العلامة.
وهذا الذي ذكره الأصحاب فيه بعضُ النّظر، فلا وجه عندنا للحكم بأن الإنبات عينُ البلوغ، ولا طريق إلا القطعُ بأنه علامةٌ. ثم ينتظم عليه مراد الأصحاب في القطع بأنه علامة في أولاد الكفار، والتردد في أولاد المسلمين.
والمعنيُّ بالإنبات ظهورُ الشعر الخشن الذي يتميز عن الزغب.
وحكى بعض الأثبات عن القاضي أنه نزَّل نبات اللحية، والشارب، والإبط، منزلة نبات العانة، وهذا حسن متّجه. وإنبات العانة يقع في مفتتح تحريك الطبيعة، في تركب الشهوة.
ونباتُ اللحية، والشاربِ والإبط لا يتراخى في الغالب عن البلوغ، فكان أولى بالدلالة على البلوغ من إنبات شعر العانة.
فأمَّا انفراق الأرنبة، ونتوء غضروفة الحلقوم، وثقل الصوت، ونهودُ الثدي، فشيء منها لا يكون علامةً في البلوغ.
هذا منتهى ما أردناه في بلوغ الغلام والجارية، وما يختص به كل واحد منهما، وما يشتركان فيه.
4074- فأمّا الخنثى، فالسن في حقه كالسن في حق الجنسين، وأمَّا انفصال ما هو على نعت المني، وخروجُ ما هو على صفة الحيض، فهل يتعلق البلوغ به؟ ذكر الشيخ أبو علي، والعراقيون طريقةً، نحن طاردوها، ثم ننبه على وجه التحقيق.
قالوا: إذا انفصل منه ما هو على صفة المني، فلا نحكم بالبلوغ، لجواز أن يعارضه خروجُ ما هو على صفة الحيض، وكذلك إذا سبق خروج المني من فرج النساء، لم نحكم بالبلوغ لما ذكرناه من احتمال خروج الدم بعده. ولو خرج المني من الذكر، والدمُ من الفرج، ففي الحكم بالبلوغ وجهان:
أحدهما: أنه يحكم به؛ فإنه إن كان رجلاً، فقد أمنى، وإن كانت امرأةً، فقد حاضت.
والوجه الثاني- أنه لا يُحكم بالبلوغ لتعارض الخارجَيْن، وليس أحدهما بأن يحال عليه البلوغ أولى من الثاني.
قال الشيخ أبو علي: نصُّ الشافعي يدل على هذا الوجهِ الأخير، وهو أن البلوغ لا يحصل عند التعارض.
4075- وهذا الذي ذكروه كلام مختلط، لا يستند إلى تحصيل. وقد ذكر الأصحابُ في الطرق في علامات الذكورة والأنوثة، أن الخنثى إن كان يبول بمبالِ الرجل، فهو رجل، وإن كان يبول بمبال النساء، فهو امرأة، وإن كان يبول بهما، فالأمر مشكل، فيتعلق بخروج المني والحيض أوان البلوغ، فإن أمنى بفرج الرجال، فهو رجل، وإن حاض بفرج النساء، فهو امرأة، فإن كان خروج ما هو على نعت المني دالاًّ على الذكورة، فيجب القطع بكونه منيَّاً دالاًّ على البلوغ، وإن لم نحكم بالبلوغ، وجب ألا نحكم بالذكورة، وهذا لا شك فيه.
والقول في الحيض إذا انفرد، ولم يعارضه المني كالقول في المني إذا لم يعارضه الحيض.
4076- وأنا أذكر مسلكين:
أحدهما: الحق عندي.
والثاني: يفيد تقريب كلام الأصحاب من وجهٍ، على بعده. فأمّا الحق الذي يجب اتباعُه، فهو أن نقول: المني إذا انفرد خروجه، كان بلوغاً. وكذلك القول في الحيض إذا انفرد. فإن قيل: إذا سبق المني، لم يبعد توقعُ الحيض بعده، فكيف يقع به الحكم بالبلوغ؟ قلنا: هذا يتوجه في الحكم بالذكورة والأنوثة. وإن شبب مشبب بخلافٍ في الذكورة والأنوثة في الحيض والمني، أُلزم خروجَ البول من أحد المبالين؛ فإنه يبيّن الذكورة والأنوثة، وإن كنا لا نأمن خروجَه من المبال الثاني بعد خروجه من المبال الأوَّل. ثم لا خلاف أنا نعلق الحكم بالمبال إذاً سبق، فإن تأخّر عنه الخروج من المبال الثاني، نقضنا ما حكمنا به، فالوجه إذاً القطع بحصول الذكورة بالمني إذا انفرد، وحصول البلوغ. وكذلك القول في الحيض إذا انفرد.
وإن خرج المني والحيض، فلا شك أنا لا نحكم بالذكورة والأنوثة، لتعارض الأمرين. وهل يُحكم بالبلوغ؟ هذا محتمل جدّاً. يجوز أن يقال: يحصل البلوغ؛ فإنه إن التبس الذكورة والأنوثة، فقد حصلت العلامتان المعتبرتان في البلوغ، فإن كانت امرأة، فقد حاضت، وإن كان رجلاً، فقد أمنى. ويجوز أن يقال: لا يحصل البلوغ بناء على أن الخارجَيْن ليسا منياً ولا حيضاً؛ فإن تعارضهما قد يثير هذا الإشكال، فإنَّ الجبلّة التي تنشىء المني، لا تنشىء الحيض من مغيضه، والطبيعة التي تنشىء الحيض لا تنشىء المني، فلا يمتنع ألاّ نحكم على الواحد من الخارجَيْن تحقيقه، وبهذا نوجه نصّ الشافعي-إن كان له نص- فهذه الطريقة التي أرتضيها.
فأما تقريب قول الأصحاب، وحملُه على وجهٍ يقرب بعض القرب، فهو أن يقال: إن سبقَ المني، حكمنا حكماً ظاهراً بالبلوغ، وكذلك إن سبق الحيض؛ فإن سبق أحدُهما، ولحقه الثاني، فحُكْمنا بالبلوغ، ربطاً بالسابق منقوضٌ لا محالة. فهذا هو المعنيّ بقول الأصحاب: لا نحكم بالبلوغ. فإذا اعتقبا، فهل نحكم الآن، وقد نقضنا حكمنا الأول بالبلوغ؟ فعلى التردد. وهذا مع بذل الجهد فيه مُثبَّجٌ.
فصل:
4077- قد ذكرنا ما يحصل البلوغ به، ونحن نذكر الآن الرشدَ ومعناه، ونقيضه، وهو السفه؛ فإن الربَّ تعالى علق زوال الحجر في حق الصبي بالبلوغ، وإيناس الرشد، فقال تعالى: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فنذكر معنى الرشد، فنقول: الرشيد هو الصالح في دينه، المصلح لمالهِ، فلو بلغ الصبي مبذراً، وهو الذي يصرف ماله في جهةٍ لا يستفيد به أجراً في الآجل، ولا حمداً ممّن يُعتبر حمدُه في العاجل. هذا معنى التبذير.
4078- فإن بلغ الصبي فاسقاً، وكان يعدُّه أهل المعاملات مصلحاً لماله، مقتِّراً ضابطاً، فهو في معنى المبذر؛ والسَّبب فيه أن الفاسقَ قد يصرف أمواله إلى اتخاذ الخمور، وأجرة القَيْنات وأبناءُ جنسه يعدّونه مقتصداً في نوعه، وصرفُ المال إلى هذه الجهات تبذيرٌ في الشرع، وإفسادٌ للمال.
4079- ولو كان يتعدى طوره في اتخاذ الأطعمة الفائقة الكثيرة القيمة والمؤنة، وكان لا يليق ما يفعله بمنصبه ومرتبته في اليسار، فهذا منه تبذير. ويختلف ما أشرنا إليه باختلاف المنازل والرتب.
4080- وذكر أئمتنا أنّ صرف المال في الخيرات وجهاً القربات ليس بتبذير.
ومن رشيق كلام المتقدمين قول بعضهم: لا خير في السَّرف، ولا سرف في الخير.
وكان شيخي يفصل ذلك تفصيلاً حسناً، ويقول: إذا بلغ الصبي، وكان يتشوف إلى صرف المال إلى الخيرات على سرفٍ، فهو تبذير منه، وإن بلغ مصلحاً للمال مقتصداً، وزال الحجر، ثم طرأ السَّفه، فنذكر أنه يعود الحجرُ، فلو طرأ إفراطٌ في صرف المال إلى الخيرات، فلا نُعيد عليه الحجرَ بهذا. وعند ذلك يقع الفرق بين السرف في النفقات، وبين السرف في الخيراتِ وهذا على حسنه ممَّا انفرد به.
والأئمة لم يفرقوا بين حالة البلوغ، وبين ما يطرأ من ضراوةٍ بالخيرات، والمسألة في الإطلاق والتفصيل محتملة جدّاً.
4081- وإذا بلغ الصبي سفيهاً، اطرد الحجر عليه، ووليّه بعد بلوغه سفيهاً مَنْ كان وليّه في صباه؛ فإن السَّفه اتصل بالصبا، فكان ذلك بمثابة تمادي الصّبا.
4082- وإذا زال سفهُ السفيه وبان رشدُه، فالأصح أنه ينطلق الحجر عنه من غير حاجةٍ إلى رفع القاضي وإطلاقهِ؛ فإن استمرار الحجر لم يكن بضرب القاضي، فلا يتوقف زواله على إطلاقه، وإزالته.
ومن أصحابنا من قال: لا ينطلق الحجر عنه، وإن ظهر رشدُه، ما لم يتصل الأمر بنظر القاضي وإطلاقه؛ فإنَّ زوال السَّفه مجتهدٌ فيه، فيجب ربط رفع الحجر بمن إليه النّظر العام. وهذا بعيد جداً.
4083- وممَّا يتصل بتمام القول في ذلك أن الصبيَّ لو بلغ، ولم يظهر منه ما يخالف الرشدَ، فالأصح أن الحجر يرتفع عنه، ولا حاجة إلى إطلاق القاضي.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في هذا المقام أيضاًً في أن رفع الحجر يتصل بالحكم وإطلاق الحاكم. وهذا بعيد جدّاً، وهو أبعد ممَّا حكيناه فيه إذا بلغ سفيهاً، ثم زال السفه واستمر الرشد؛ فإنه قد يظن أن الحجر ثبت بمجتهَدٍ فيه، وهو السفه، فيزيله المجتهد بنظره. وهذا يبعد كل البعد إذا لم يثبت سفَه متصل بزوال الصبا.
4084- فلو بلغ الصبيُّ رشيداً، وثبت كونُه مطلَقاً، فعاد سفيهاً، فلابد من الحجر. والمذهبُ الأصح أنه لا يعود بنفسه محجوراً عليه، بل يتوقف الحجر على ضرب القاضي؛ فإنه ثبت استقلالُه، وانقطاع الولاية عنه؛ فلا سبيل إلى عَوْد الحجر بأمرٍ مجتهد فيه، من غير أن يصدرعن نظر المجتهد.
ومن أصحابنا من قال: يعود محجوراً عليه، كما عاد السفه، ولا حاجة إلى نظر القاضي، بل عَوْدُ السفه، وطريانُه بمثابة طريان الجنون.
4085- ثم إذا كان الحجرُ يثبت بنفس السفه، أو بضرب القاضي، فلو طرأ الفسقُ مع استدامة الضبط في المال والضِّنةِ به، فهل يعاد الحجر عليه لمكان الفسق؟ المذهب أَنَّه لا يعاد؛ ولو حجر القضاةُ على الفسقة، لحُجر على معظم الخليقة. وكل ما يفعله الحُكّام نظراً، فهو محتوم. ونحن نعلم أن الأولين لم يَرَوْا الحجرَ على الفسقة، ولو رأَوْه، لأظهروه، ثم كان لا يخفى النقل فيه.
فخرج ممَّا ذكرناه أن طريان الفسق مع التبذير يتضمن الحجرَ، وطريان التبذير مع الصَّلاح في الدين يوجب الحجرَ أيضاً. فأمّا الفسق المجرَّد، ففيه من الخلاف ما ذكرناه.
4086- ولئن قال قائلون: طريان التبذير يوجب الحجرَ من غير ضربٍ من جهة القاضي، فلا ينبغي أن يُعتقدَ هذا الوجهُ في الفسق المجرّد مع الضِّنة بالمال، ويجب القطعُ بأن الحجر بالفسق المجرد-إن رأيناه- فلا مأخذ له إلا ضربُ القاضي واجتهادُه.
4087- ثم إن زال السفه الطارىء وظهر الرشدُ، فإن قلنا: الحجر موقوف على ضربٍ، فالانطلاق عنه موقوف على قضاء القاضي. وإن قلنا: نثُبت الحجرَ من غير ضرب من جهة القاضي، ففي زوال الحجر عند زوال السَّفه الطارىء وجهان، كما تقدّم ذكرهما في زوال السّفه الذي كان متصلاً بالصبا.
4088- وتمام الغرض في ذلك أن الصبيّ إذا بلغ سفيهاً، وكان يليه في صباه أبوه، فوليّه في السفه وليُّه في الصبا بلا خلاف. وكذلك لو بلغ مجنوناً، واتصل الجنون بالبلوغ فيليه مجنوناً من كان يليه صبياً.
ولو بلغ عاقلاً رشيداً، ثم طرأ الجنون، فلا شك في كون المجنون محجوراً عليه، واختلف أصحابنا في أن وليه القاضي، أو الأب. فمن أصحابنا من قال: وليّه الأبُ، كما كان يليه من قبل، فليَلِيَه الآن. ومن أصحابنا من قال: يليه القاضي.
ولو عاد التبذير، وقلنا: القاضي هو الضارب للحجر، فهو الولي، أو من ينصبه القاضي؟ وإن قلنا: يعود الحجر من غير ضربٍ للقاضي، ففي وليّه وجهان، مرتبان على الوجهين في الجنون الطارىء. وهذه الصورة أولى بأن يكون القاضي ولياً فيها؛ فإن التبذير وزواله مجتهَدٌ فيه بخلافِ الجنون.
فرع:
4089- إذا بلغ صبيٌّ في قُطرٍ شاغرٍ عن الولاة، وكان سفيهاً، ولم يكن له أبٌ ولا جدٌّ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه محجور عليه، لا ينفذ تصرفه على ما سنذكر تصرفَ المحجور عليه، ونصفه. وحكى الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب أن تصرفه ينفذ إلا أن يلحقه نظرُ والٍ، فيضرب عليه حجراً حينئذ. والسفهُ المتصل عند هذا القائل بالبلوغ بمثابة السفه الطارىء على الرشد، وقد ذكرنا أن المذهب أن من طرأ عليه السفه لا يصير محجوراً عليه من غير ضرب القاضي ونظرِه. وهذا بعيدٌ.
والوجه القطع بما قدمناه من اطراد الحجر عليه، ووقوعُه نبذةً من نظر الولاةِ وهو سفيه، كوقوعه كذلك وهو صبي.
فرع:
4090- إذا كان البالغ رشيداً في الوجوه، بَيْد أنه كان يغبن في بعض التصرفات على الخصوص، فهل للقاضي أن يضرب عليه حجراً خاصاً فيه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك؛ فإن الحجر والإطلاق يبعد اجتماعهما في حق شخصٍ واحدٍ.
والوجه الثاني- أنه يجوز ذلك اتباعاً للمعنى.
قال الشافعي رضي الله عنه في توجيه جواز ذلك: قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحَبّان، وكان يغبن في البياعات " إذا بعت، فقل لا خلابة " يشبه أن يكون حجراً عليه، في إلزام البيع، وعقدِه من غير خيارٍ. وهذا قاله في سياق الاحتجاج على مالك؛ إذ قال: الغبن يُثبت حقَّ الفسخ، فقال الشافعي: لو كان الأمر كذلك، لما أمر حَبَّانَ بشرط الخيار، ثم بنى عليه ما ذكرناه من تبعيض الحجر.
فصل:
4091- قد ذكرنا فيما تقدم السفه ومعناه، وثبوتَ الحجر وارتفاعَه، والتفصيلَ في اقتران السَّفه بالبلوغ، وطريانه بعد الرشد. ومقصود هذا الفصل تفصيلُ ما يصح منه، وما لا يصح.
قال الأئمة: يصح طلاقُه، وخلعُه وظهاره، وإقراره بالنسب استلحاقاً؛ فإن هذه الأشياء لا تدخل تحت الحجر، وليس المبذر كالصبي؛ فإن الصبي مسلوبُ العبارة بالكلية، ويصح أيضاً إقرارُه بما يوجب القصاصَ عليه.
فإن قيل: لم صححتم الخلع منه وهو تصرف مالي؟ قلنا: إذا كان يصح منه الطلاق بلا عوض، فلأن يصح منه الطلاق بعوض-وإن قلّ- أوْلى.
وذهب الأكثرون إلى أنه يصح منه قبول الهبة، بخلاف الصبي؛ فإنه لا عبارة له، وسنذكر في وصيّة الصبي، وتدبيره عبدَه قولين في كتاب الوصايا. وفي المبذر في التدبير والوصية قولان، مرتبان على الصبي، وهما بالنفوذ أوْلى من المبذر؛ فإنه من أهل العبارة.
وأمَّا بيعُه وشراؤُه ونكاحُه، فلا يصح شيء منها، إذا استقل واستبد بذاته.
4092- ولو أذن له الولي في عقدٍ، وعيّنه له، فحاصل ما قاله الأصحاب أوجهٌ:
أحدها: أنها تصح إذا صدرت عن إذن الولي؛ فإنّ عبارته صحيحة، والمحذور استقلاله.
والوجه الثاني- أنها لا تصح؛ فإن عبارته مسلوبة في العقود الملزمة.
والوجه الثالث: أن النكاح يصح بعبارته عند الإذن، بخلاف البيع والإجارة.
وفي نكاح المحجور تفاصيلُ مشروحة في كتاب النكاح، فليطلب منه.
فرع:
4093- إذا اشترى المحجور شيئاًً في ذمته، من غير إذن الولي، فالذي قطع به الأصحاب أن شراءه فاسد، لمكان الحجر.
وحكى بعض المصنفين وجهاًً في صحةِ شرائه، تخريجاً على الوجه الضعيف، الذي حكيناه في شراء العبد بغير إذن مولاه. وهذا ليس بشيء؛ فإن العبد من أهل النظر، إذا كان رشيداً، وإنما الحجر عليه بسبب المولى. فإذا كنا لا نعلِّق برقبة العبد وكسبه شيئاًً من عُهدة عقده، فلا يمتنع تصحيحُ عقده. والمبذر يُنظر له في الحجر، وحقه مرعيّ في الحال والمآل. وقد نَسب هذا الإنسان هذا الوجه إلى الشيخ أبي حامد، وقد تتبعت كتب العراقيين، وتعليق أبي حامدٍ، فلم أجد ذلك، فالتفريع إذاً على أنه إذا اشترى المحجورُ المبذّر شيئاًً، لم يصح. فلو أقبضه البائع ما باعه، فتلف في يده؛ لم يلزمه الضمان. والبائع هو الذي ضيّع حقَّ نفسه.
4094- ثم قال الأئمة: لو صار السفيه رشيداً، وانطلق الحجر عنه، فلا يطالَب أيضاًً؛ والسبب فيه ما ذكرناه من أنّا رَاعَينا حقَّ المبذر. وحقُّه مرعيٌ في الحجر والإطلاق؛ وليس كالمفلس؛ فإنّا قد نردّ بعض تصرفاته في الحجر، ثم ننفذه إذا انطلق الحجر عنه، والسبب فيه أن المرعي حقوقُ الغرماء، والحجر مضروب بسببهم. وقد زالت حقوقهم.
4095- وقال الأئمة: لو اشترى المبذر شيئاًً، وقبضه وأتلفه، كان كما لو تلف في يده، وإن كان لو أتلف مال أجنبي ابتداءً، تعلق الضّمان بماله، ولكن إذا ترتب الإتلاف على الشراء، فسببه تسليط البائع.
قال صاحب التقريب: "هو غير مطالب ظاهراً، ولكن إذا انطلق الحجر عنه، فهل نقول: إنه وإن لم يطالب ظاهراً، فالضمان واجبٌ عليه بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين".
وهو عندي هفوة؛ فإنه لو ثبتت المطالبة باطناً، فلا مانع من توجيهها ظاهراً.
والذي ذكره فيه إذا أتلف، وما أراه يطرُد ما حكاه فيه إذا تلفت العين في يده من غير إتلافٍ. والعلم عند الله.
فرع:
4096- إذا أقر المبذر أنه أتلف مالاً لأجنبي، ففي قبول إقراره قولان:
أصحهما- الرد، كما لو أقر بدين مرسل، أو أقر بأن عيناً من أعيان أمواله مغصوبةٌ من فلان؛ فإن أقاريرَه مردودةٌ في هذه الجهات.
والقول الثاني- أن إقراره مقبول؛ فإن الإتلاف يتصوّر منه، ولو جرى، لأوجب، وكل ما يتصور، فالإقرار به صحيح، ممّن تصح عبارته.
والأصح الأول؛ فإن الإقرار تعبير بإنشاء مسوّغٌ في الشرع، وإتلاف مال الغير غيرُ مسوَّغٍ. ثم كل إقرارٍ رَدَدْناه في حالة الحجر، فلا مؤاخذة به بعد الإطلاق، إلا أن يعيد بعده إقراراً جديداً.
فرع:
4097- ينبغي للولي أن يختبر الصبيَّ أوانَ البلوغ، ليعلم سفهَه ورشده، فإن كان على مرتبة السوقة والتجار، دفع إليه مالاً وأمره بالتصرف فيه بالبيع والشراء. وإن لم يكن من هؤلاء، وكان منصبه لا يقتضي البيعَ والشراء، فاختباره بأن يدفع إليه مالاً، ويأمره بإنفاقه على الخدم، ويعلم اقتصادَه وغباوتَه.
والاختبار في كل جنسٍ على ما يليق بهم. ولا حاجة إلى التطويل بالتفصيل.
4098- ثم قال الأصحاب: ينبغي أن يقع الاختبار قُبَيْل البلوغ، حتى إذا ظهر الرشد، وقع البدار إلى تسليم المال، فإن كان الاختبار بعقد بيعٍ، فالأصح أنه يأمر الصبيّ حتى يساوم، ويطلب، ويماكِس، فإذا حان العقد ورآه الوليُّ صواباً، تولى بنفسه العقدَ؛ فإنَّ عقدَ الصبي باطلٌ. وأبعد بعضُ أصحابنا، فصحّح عقدَ الاختبار من الطفل، وتعلق بظاهر قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] ولا متعلَّق فيها؛ فإن الابتلاء مجملٌ، لا تعرض فيه للعقد وأسبابه.
فرع:
4099- السفيه إذا أحرم بالحج، انعقد إحرامُه، فإن كان الحج تطوعاً، فلا يسلّم إليه الولي مالاً يتبلغ به. واختلف أصحابنا بعد ذلك، فمنهم من قال: حكمه حكمُ المحصر الذي له أن يتحلل، وقد مضى القول في الحصر. ومنهم من قال: ليس كالمحصر، ولا سبيل إلى تحليله، وحكمه حكم معسر، يُحرم، وعدمُ النفقةِ لا يكون إحصَاراً.
فرع:
4100- إذا كان السفيه مِطلاقاً، والحاجة ماسة، فالوجه أن يشتري الولي له جاريةً، فإنَّ عتقه لا ينفذ فيها. ومهما تبرم بها، باعَها الولي، واشترى غيرها.