فصل: باب: الشهادة على الشهادة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشهادة على الشهادة:

12151- الكلام في الباب يتعلق بفصول:
أحدها: فيما تجري فيه الشهادة على الشهادة.
والثاني: في كيفية تحمل الشهادة على الشهادة.
والثالث: في الطوارىء التي تطرأ على الأصول بعد تحمل الشهادة.
والرابع- في عدد الفروع.
والخامس- في الأعذار التي يُكتفى عندها بشهادة الفروع. فأما
الفصل الأول
12152- فكل حق مالي لله وللآدميين، فإنه يثبت بالشهادة على الشهادة، وأما ما يتعلق بالعقوبات، فحاصل المذهب ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يثبت شيء من العقوبات بالشهادة على الشهادة؛ فإن مبناها على الدراء، وتضييق جهات الإثبات، باشتراط احتياطٍ فيها قد يعسر مراعاتُه، فيترتب على عُسْره اندفاعُها، وعلى هذا القول يمتنع التوكيلُ باستيفاء القصاص في غيبة مستحقه؛ لأن الاستنابة في حكم البدل عن التعاطي، كما أن شهادة الفرع في حكم البدل عن شهادة الأصل.
والقول الثاني- إن العقوبات بجملتها تثبت بالشهادة على الشهادة، وهذا قول منقاس.
والقول الثالث: إن القصاص يثبت بالشهادة على الشهادة، دون العقوبات التي تثبت لله. وهذا الفرقُ بين الحقّين في اختصاص حق الله المتعرض للسقوط، ولذلك يقبل فيها الرجوع عن الإقرار، بخلاف القصاص. والمنصوص عليه للشافعي في القصاص أنه يثبت بالشهادة على الشهادة. ومن أجرى فيه قولاً كما ذكرناه، فهو مُخَرّج. وحد القذف في مقصود الفصل جارٍ مجرى القصاص.
ثم كتاب القاضي إلى القاضي في معنى الشهادة على الشهادة، سواء فرض تحمل الشهادة وإحالة القضاء على المكتوب إليه، أو فُرض القضاء من الكاتب وإحالة الاستيفاء إلى المكتوب إليه، فالأقوال خارجة، ولكن وجه خروجها أنا إن منعنا الشهادة على الشهادة، فلا معنى لسماع القاضي الشهادة على غائب، وإن فرضنا في القضاء. فلا شك أنه لا يفرض نفوذه؛ فإنه فرع سماع الشهادة، وإذا امتنع سماع الشهادة على الغائب، لم يتصور فصل القضاء.
هذا قولنا فيما يجري فيه الشهادة على الشهادة. فأما
الفصل الثاني
12153- فقد قال الشاقعي رضي الله عنه:"وإذا سمع الرجلان الرجل يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم... إلى آخره".
فنقول: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: أشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يصر هذا السامع شاهداً على شهادته بهذا المقدار؛ فإن الإنسان قد يقول: أشهد على أن لفلان على فلان كذا، وهو يشير إلى عِدَةِ في منحةٍ يتعلق الوفاء بها بمكارم الأخلاق، وليس قوله هذا في مَفْصل القضاء، حتى يُحمل على تأدية الشهادة، وصرفِ القول إليها، ولا يُحمل إلا بثَبَتٍ، وهذا مما اتفق الأصحاب عليه.
فإن قيل: إذا سمع الشاهد رجلاً يقول في غير مجلس القضاء: لفلان عليّ ألفُ درهم، فله أن يتحمل الشهادة على إقراره بالمبلغ المذكور، ومن الممكن أن يقال: أراد المقِر بقوله إشارة إلى عِدَةٍ سبقت منه في عطية، وهو على مقتضى الوفاء بالمكارم ملتَزِم بتوفيتها وتصديقها، كما ذكرنا مثله في لفظ الشهادة، وهذا السؤال فيه إشكال، وفي الفرق بين الإقرار ولفظ الشهادة عُسْرٌ.
وقد حكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا يجوز التحمل في الإقرار لاحتمال العِدَة، كما لا يجوز التحمل في الشهادة، فلا فرق عنده بينهما، ولابد من قرينة تنضمّ إلى الإقرار، وتتضمن صرفَه نصّاً إلى الإخبار عن الاستحقاق، مثل أن يقول:"لفلان عليّ ألفٌ عن ضمانٍ أو ثمنٍ أو قيمةِ مُتْلَف"، كما لابد من قرينة مع لفظ الشهادة حتى يصحَّ تحملُها.
وهذا الذي ذكره المروزي في الإقرار بعيد جداً، وإن كان في التسوية بينه وبين الشهادة اتجاه في القياس. وما زال الناس يتحملون الشهادات على الأقارير المطلقة في الديون والأعيان، فالوجه الفرق، وهو أن نقول: إذا قال القائل: أشهد أن لفلان على فلان كذا، فقد يُطِلق هذا وليس هو على حد التثبت التام والتحقيق الجازم.
وإذا آل الأمر إلى إقامة الشهادة في مفصل القضاء، فإذ ذاك قد يتثبت، ولا يطلق ما كان يذكره في غير مفصل القضاء. فأما الإقرار الجازم، فلا يطلقه المرء إلا وهو على بصيرة فيه. هذا حكم العادة.
فالوجه إذا أردنا الفرق، أن نُضرب عن التعرض للعِدَة، وتقدير الوفاء بها؛ فإن ذلك بعيد، لا يحمل على مثله كلامٌ مطلق. ونردّ الفرق إلى ما ذكرناه من إمكان التوسع في قول الشاهد، وإحالة التثبت إلى مَفْصل القضاء، والإقرارُ لا يخرجه المرء على نفسه إلا وهو على نهاية التثبت فيه.
هذا وجه الفرق.
12154- ونعود فنقول: لو قال الشاهد: أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم، وأنا أشهدك على شهادتي هذه، أو أنت يا سامع، فاشهد على شهادتي هذه، فالشاهد يتحمل الشهادة على الشهادة.
وإذا وقع التقييد الذي وصفناه، فهذا يسمى الاسترعاء، وهذا الذي أطلق الفقهاء أقوالهم بأن الاسترعاء لابد منه في تحمل الشهادة على الشهادة، والاسترعاء استفعال من الرعاية، كأنه يقول للمتحمل: أقبل على رعاية شهادتي وتحمّلْها، وهذا المعنى يتأدى بألفاظ لا نحصرها، منها أن يقول:"أشهدك على شهادتي " ومنها أن يقول:"اشهد على شهادتي"، أو يقول:"إذا استُشْهدت على شهادتي، فقد أذنت لك في أن تشهد عليها".
ثم أجمع أصحابنا على أن الاسترعاء في عينه ليس شرطاً، بل إذا جرى لفظ الشهادة من شاهد الأصل على وجهٍ لا يحتمل إلا الشهادة، فيصير السامع فرعاً له، وإن لم يصدر من جهته أمر أو إذنٌ في تحمل الشهادة.
وبيان ذلك أن من شهد عند القاضي، وكان بالحضرة سامعٌ لشهادته، ولم يتفق من القاضي القضاء بشهادته، فلمن سمعها أن يشهد على شهادته؛ فإنه أقامها في مكان يُجرَّد فيها قصدُ الشهادة، ولا يُفرَضُ فيها تردد، وهذا هو المطلوب.
ولو أشهد شاهدُ الأصل زيداً على شهادته، وأجرى الاسترعاءَ على حسب ما قدمناه، وكان عمرو بالحضرة، فلعمرو أن يتحمل الشهادة، كما لزيد المسترعى أن يتحملها؛ فإنه لما استرعى زيداً، فقد تبين تجريدَه القصدَ في الشهادة، وهو المطلوب، فيتحملها عمرو وإن لم يتعلق الاسترعاءُ به؛ فإن الإشهاد على الشهادة ليس استنابةً من شاهد الأصل ولا توكيلاً، وإنما الغرض منه الحصول على الشهادة في حقها مقصودة مجردة مرقّاة عن احتمال الكلام الذي قد يجريه الإنسان من غير تثبت.
حتى قال الأصحاب: لو جرى تحكيم، وكان شاهد الأصل شهد في مجلس الحكم، فسمع شهادتَه من حضر، فله أن يشهد على شهادته، وللمحكَّم نفسِه أن يشهد على شهادته.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن المطلوب تجريدُ الشهادة، وإيرادُها خارجةً عن توهّم التوسّع والتجوز، ثم هي متحمَّلة كسائر الأقوال والأفعال التي يتحملها الشهود إذا رأوا أو سمعوا.
12155- ولو قال شاهد الأصل" أشهد أن لفلان على فلان ألفَ درهم من ثمن شراء أو أجرة إجارة أو جهةٍ أخرى من جهات اللزوم"، فهل للسامع أن يشهد على شهادته؟ من غير استرعاءٍ من جهته، ولا إقامةٍ منه لشهادته في مجلس قاضٍ أو محكّم. اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز تحمل الشهادة على شهادته لمجرد ما وصفناه، ومنهم من قال: يجوز تحمل الشهادة.
توجيه الوجهين: من جوّز التحمل، احتج بأن شاهد الأصل لما نص على جهة اللزوم، فقد صرح، وأخرج كلامَه عن احتمال العِدَة. فينبغي أن يجوز التحملُ.
ومن منع-وهو الأظهر- قال: إن زال احتمال الوفاء بالعِدَة بقي إمكان التجوز والتوسع، فإن الإنسان إنما يتثبت في مجلس القضاء أو في مجلس الاسترعاء.
ومما ذكره الأصحاب أنه لو قال: أشهد أن لفلان على فلان كذا، وهذه شهادة أبتّها ولا أتمارى فيها، فهل يجوز التحمل بهذا المقدار؟ فيه وجهان قريبان مما قدمنا الآن، لأنه وإن قال: هذه شهادة مبتوتة عندي، فقد يتثبت في إقامتها عند مسيس الحاجة إليها.
12156- ولم يختلف أصحابنا في أنه لابد وأن يذكر لفظ الشهادة، حتى لو قال: أستيقن أن لفلان على فلان كذا، فاشهدوا على قولي، لم تجز الشهادة على شهادته، وهذا، كما أنا نشترط لفظ الشهادة في مفصل القضاء ولا نقيم غيرَه من الألفاظ مقامه. حتى لو قال الشاهد في مجلس القضاء: أتيقن، أو أقطع، أو أعلم أن لفلان على فلان كذا، فلا يقبل القاضي شيئاً من ذلك حتى يأتي بلفظ الشهادة، ولا محمل لهذا إلا التعبد، وهو كالعدد، فإنه مرعي تعبداً.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فأقام اللفظ الصريح الذي لا تردد فيه مقام لفظ الشهادة، وهذا بعيد غيرُ معتد به. والمعنى الكلي في تعيين لفظٍ أنه إذا تبيّن تعيّنُه، لاح للناس أنه لا يؤتى به إلا إذا أريد غايةُ التثبت، فكأنه مخصوص بتحصيل هذا المقصود، ولو قام غيرُه مقامَه، لرجع الأمر إلى التلقّي من صيغ الألفاظ، وهي متعرضة للاحتمالات، وهذا وإن كان" يستدّ"، فليس فيه إشعار بما يقتضي تعيينَ لفظ الشهادة، فلا محمل لتعيين ذلك اللفظ دون غيره إلا التعبد.
12157- ثم لما ذكر الأصحاب وجه تحمل الشهادة على الشهادة، ذكروا كيفية إقامة الفرع الشهادةَ، وقالوا: الوجه أن يقول:"أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وأذن لي أن أشهد إذا استشهدت، وأنا الآن أشهد على شهادته " فيحكي ما جرى على هذا الوجه.
ولو كان تَحمَّلَ الشهادةَ لجريانها في مجلس القضاء، فالأولى أن يذكر ما جرى له على وجهه، وإنما رأينا حكايةَ الحال لما يتطرق إلى ذلك من الإشكال، فقد يتحمل الإنسانُ الشهادة على شهادة الأصل، حيث لا يجوز له تحملها، كما سبق التفصيل في كيفية التحمل، وإذا تطرق رَيْبٌ، لم يدفعه إلا التفصيل الذي مهدناه.
وإن قال الفرع: أشهد على شهادة فلان، ووصف شهادة فلان، وكان عالماً بكيفية تحمل الشهادة، ووثق القاضي به، ورآه مستقلاً في مثل ذلك، فلو أراد أن يكتفي، جاز له ذلك، والغالب على الناس الجهلُ بتفاصيلِ التحملِ، وبحسب ذلك يتطرق الريبُ ويتحتم طلب التفصيل في معظم الناس. نعم، فيما ذكرناه طرف من الإطناب يحصل الاستقلال دونه؛ فإنه إذا قال:"أشهدني فلان على شهادته"، أو قال لي:"اشهد على شهادتي " كفى هذا مع تفصيل شهادة الأصل، فإنها المقصودة.
وقد نجز الغرض في الاسترعاء. فأما
الفصل الثالث
12158- فمضمونه الكلامُ فيما يطرأ على الأصول من موانع الشهادة بعد تحمل الفروع.
فنقول أولاً: إذا تحمل الفروع الشهادة في حقها، ثم مات الأصول، قام الفروع بإقامة الشهادة، وإنما أثبت الشرع الشهادة على الشهادة؛ حتى تستمر الحجة، وإن غاب شاهد الأصل، وغابت الحجة من جهته.
وإن فسق الأصل قبل أن يقيم الفرع الشهادة، لم يُقمها الفرعُ، ولو أقامها، لم تُقبل منه؛ فإن الغرض من شهادة الفرع نقلُ شهادة الأصل، والتقدير كأن شاهد الأصل هو القائل، ولو أراد الأصل أن يقيم الشهادة على فسقه، لم يقبل منه.
وهذا يُحْوِجُ إلى مزيد معنىً، وهو أن الفسق إذا ظهر، أورث رَيْباً ظاهراً منعطِفاً على ما تقدم، ثم لا ضبط له في جهة التقدم، فيُحدِث رَيْباً منعطفاً على تحمل الشهادة، هذا هو المعتمد فيما ذكرناه.
ويلتحق بالفسق طريان العداوة على شاهد الأصل، فلو أظهر عداوة مع المشهود عليه، لم تقبل شهادة الفرع عليه، لما ذكرناه، فظهور العداوة يدلّ على غوائلَ سابقة، وضمائر مستكنَّة، وتقرير هذا في العداوة كما ذكرنا في الفسق.
12159- وألحق أئمتنا الردةَ إذا طرأت على شاهد الأصل بالفسق والعداوةِ، ووجه التحاقها بهما يقرب مما ذكرناه؛ فإن الردة إذا هي ظهرت، دلت على خُبثٍ في العقد متقدم.
وفي هذا المقام سؤال: وهو أن المقذوف إذا زنى بعد ما كان ظاهرُه الإحصانَ والعفةَ عن الزنا، فالنص أن الحد يسقط عن القاذف، إذا لم يتفق إقامته حتى جرى ما جرى، ولو ارتد المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف، فالحد مقام عليه، وقد ذكرنا ترتيب المذهب واختلافَ الأصحاب في موضعه.
ومقتضى النص الفرق بين طريان ما يناقض العفة وبين طريان الردة، وقد سوّينا بين الفسق وطريان الردة على شاهد الأصل، فما الوجه؟
قلنا: لا ننكر أن طلب الفرق بين الردة وطريان الزنا في المقذوف عسر.
ولكن الأصل ثَمَّ أنا لا نعتبر في تبرئة المقذوف طلبَ باطنه، ولا نقول: يتوقف إقامة الحد على القاذف على تزكية المزكّين للمقذوف عن الزنا، ووصفهِ بالعفةِ عنها، وأمورُ الشهادات على طلب البواطن، والتوقفُ فيها بالريب؛ فالأصل ممتاز عن الأصل، وطريان الردة في إيراث رَيْب منعطفٍ كطريان الفسق، وإذا استويا في هذا، فما ذكرناه مستدٌّ على قاعدة الشهادة، فإن كان من إشكال، ففي مسألة القذف، ولسنا ننكر أنها تزداد إشكالاً، وما نحن فيه الآن من حكم الشهادة مستدٌّ لا غموض فيه، والقياس ثَم أن طريان الزنا لا يؤثر، كما صار إليه المزني وطوائفُ من أصحابنا، لما حققناه من امتياز الأصل عن الأصل.
12160- ولو جُنّ شاهد الأصل، فقد خرج بجنونه عن الشهادة، فهل يشهد الفرع تعويلاً على التحمل السابق؟ وكذلك لو عمي، وعسُر منه إقامة الشهادة، لافتقارها إلى الإشارة إلى المشهود عليه، فالذي يجب التنبه قبل الخوض في التفصيل، أن الجنون لا ينعطف على ما تقدم، وطريانه لا يورث ريباً في العقل مستنداً إلى حالة تحمل الشهادة كالموت، والعمى بهذه المثابة.
فالذي حصّلته من كلام شيخي وكلام الصيدلاني ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الفرع لا يشهد إذا طرأ الجنون أو العمى فإنهما مانعان يتوقع زوالهما، بخلاف الموت.
والثاني-وهو المذهب- أن الفرع يشهد، كما لو مات الأصل، وإنما المحذور من الطوارىء اقتضاؤها رَيْباً منعطِفاً على حالة التحمل، وأما توقع الزوال في الطوارىء فلا خير فيه؛ فإن الفرع يشهد لغيبة الأصل ومرضه وإن كانا يزولان.
والوجه الثالث: أن الفرع لا يشهد إذا جُنّ الأصل؛ لأن شهادته سقطت بالكلية، وليس سقوطها بالجنون كانتهائها بالموت، فكأن الفرع يخلف الميت، كما يخلف الوارث الموروث، وفَرْقٌ في قاعدة الفقه بين الانتهاء وبين الانقطاع.
فأما إذا عمي الأصل، فيشهد الفرع؛ فإن العمى لم يخرجه عن كونه من أهل الشهادة على الجملة وإن لم يكن من أهل إقامة هذه الشهادة. وقد ذكر الصيدلاني هذا المعنى، ودلّ ذكره له على الفرق بين العمى والجنون. وتعلقه بهذا المعنى عُمْدَتي في إجراء هذه الوجوه.
والأصح الذي يجب القطع به، ولا يحتمل قانون المذهب غيرَه، أن طريان العمى والجنون لا يقطعان شهادة الفرع كطريان الموت، وما عدا ذلك يُخبّط المذهب ويشوّش الأصل.
فأما إذا أغمي على الأصل- وهو حاضر، فالفرع لا يشهد؛ فإن الإغماء إلى الزوال، فينتظر زواله. وإن كان غائباً، فأُخْبرنا بأنه أغمي عليه، فلا أثر له بحال، وهو بمثابة مرض يعرض ويزول.
التفريع:
12161- إن حكمنا بأن شهادة الفرع تنقطع بطريان الجنون والعمى، فلو أبصر الأصلُ بعد العمى، وأفاق عن الجنون، فالمذهب على هذا الوجه أنه لابد من إعادة تحمل الشهادة، وكأن التحملَ الأولَ لم يكن؛ فإنا قضينا بالانقطاع، فصار هذا كما لو جُنَّ الموكِّل، وجرى الحكم بانعزال الوكيل، فإذا أفاق، لم تعد الوكالة.
ومن أصحابنا من قال: لا تنقطع شهادة الفرع بل يمتنع، فإذا زال الجنون والعمى، فشهادة الفرع مستمرة، وهذا ليس بشيء. والوجه الذي قبله- وإن كان قياساً، فلست أعتد به لضعف أصله.
ولو فسق الأصل، وثبت أن الفرع لا يؤدي الشهادة قطعاً، فلو عاد الأصل إلى العدالة، واستبرأنا حاله، فهو على الشهادة الأصلية، والفرع لا يشهد تعويلاً على التحمل الأول؛ لأن الرَّيْبَ قد انعطف عليه؛ وذلك الريب لا يزول بزوال فسق الأصل؛ فإن العدالة إن كانت تقطع الفسق الطارىء، فلا تقطع الرَّيب المتقدم على الفسق؛ فالوجه أن يجدد تحملاً. وهذا هو الذي لا يجوز غيره.
وأبعد بعض الأصحاب، فاكتفى بالتحمل الأول. ولا يعتد بمثل هذا؛ فإنه غفلة عن الأصل المعتبر، وغباوةٌ عن الدَّرْك.
12162- ومما يتعلق بما نحن فيه أن الفرع لو أقام الشهادة في مجلس القضاء، ونفذ القضاء بشهادته، ثم طرأت التغايير على الأصل، فلا نظر إلى ما يطرأ بعد نفوذ القضاء.
ولو أقام الفرع الشهادة، ففسق الأصل قبل نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا يقضي القاضي بشهادة الفرع، كما لو فسق الشاهد نفسُه قبل القضاء بشهادته، وتعليل ذلك بيّن، لا إشكال فيه.
ولو شهد الفرع، فكذّبه الأصل قبل القضاء، لم يقْضِ القاضي بشهادة الفرع، وإن كان عدلاً رِضاً.
ولو حضر الأصلُ قبل القضاء بشهادة الفرع، فلا خلاف أن القاضي لا يقضي بشهادة الفرع، ولكن يستحضر الأصلَ ليشهد، ولا يكتفي بأن يصدِّق الأصلُ الفرعَ، بل لابد من إنشاء الشهادة من الأصل.
ولو حضر شاهد الأصل بعد نفوذ القضاء بشهادة الفرع، فلا أثر لحضوره، ولو حضر بعد القضاء، وكذب الشاهدَ على شهادته، فلا يُلتفت إلى تكذيبه بعد إبرام القضاء.
ولو قامت بيّنه على أن الأصل كذّب الفرع قبل نفوذ القضاء؛ فالقضاء منقوض؛ فإن ما أثبتته البيّنة من تقدم تكذيب الأصل للفرع بمثابة ما يسمعه القاضي من تكذيبه إياه قبل القضاء، وليس القضاء عقداً يبرم ويحلّ، والمعنيّ بالنقض تبيّن الأمر، وسقوط ما كان استناداً. وسيأتي إن شاء الله قولان في أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين، ثم قامت بينة على فسقهما حالة القضاء، فهل يُحكمُ بنقض القضاء أم لا؟
فإذا قامت بيّنة على أن الأصل كذّب الفرع قبل القضاء، فالقضاء منتقض، قولاً واحداً.
وقد يعسر الفرق في ذلك، ونحن نعيد هذا الحكم من هذا الباب عند ذكرنا ثبوت الفسق مستنداً إلى القضاء، إن شاء الله عز وجل.
وقد نجز الكلام فيما يطرأ على شهود الأصل من الطوارىء. فأما
الفصل الرابع
الكلام في العدد. ونذكر فيه الكلام في صفة الفروع.
12163- فأما العدد: فقد قال الشافعي رضي الله عنه:"ولو شهد رجلان على شهادة رجلين، فقد رأيت كثيراً من الحكام والمفتين يجيزه... إلى آخره".
فنقول: إذا كان شاهدُ الأصل اثنين، فشهد شاهدان على شهادة أحدهما، وتحملاها، فلو تحملا شهادة الشاهد الثاني؛ فهل يثبت الشقان بشهادتهما؟ فعلى قولين:
أحدهما: وهو الأقيس واختيار أبي حنيفة- أنه يثبت. وهو اختيار المزني أيضاً. ووجهه أن العدلين شهادتهم بيّنة، فنقلهما شهادتين من شاهدين في خصومة واحدة، كنقلهما شهادات في خصومات.
والقول الثاني- أنهما إذا تحملا شهادة أحد الشاهدين، لم يُنشئا غيرها، ولابد من شاهدين آخرين على شهادة الشاهد الثاني؛ فإنهما قاما مقام أحد الشاهدين، فلا ينبغي أن يتعرضا للشق الآخر، فإن من احتيج إلى شهادته في إثبات شق شهادة، لم يثبت بشهادته الشق الآخر، كما لو شهد واحد على طريق الأصل، ثم أراد أن يشهد مع شاهد آخر على طريق الفرع على شهادة الثاني، فإن ذلك ممتنع.
فإن قيل: لو شهد على شهادة أحد الشاهدين أربعة من الذكور العدول، ثم هم بأعيانهم شهدوا على شهادة الشاهد الثاني؛ فما ترون في ذلك؟
قلنا: إن فرّعنا على القول المختار للمزني، فلا إشكال في ثبوت شهادة الأصل؛ فإنا إذا أثبتنا ذلك بشاهدين، فلا امتناع في إثباته بأربعة، وإن فرّعنا على القول الآخر، وهو: أن من استقل بأحد الشقين لم ينتهض في الثاني- ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: لا تثبت شهادتهما بشهادة الأربعة على كل واحد منهما، فإنهم وإن كثروا، قائمون مقام شاهد واحد، فينبغي ألا يقوموا مقام الشاهد الآخر.
والوجه الثاني- تثبت شهادتهما، كما لو شهد اثنان على أحدهما وشهد اثنان على الآخر، وهذا هو الذي لا يجوز غيره؛ فإنه إذا شهد أربعة على الشهادتين، فقد شهد على كل شهادة شاهدان.
ولا خلاف أنه لو شهد شاهدان على إحدى الشهادتين، وشاهدان على الشهادة الأخرى، تثبت الشهادتان؛ فلا ضرر في تعرض الكل للشهادتين.
فأما من شهد أصلاً، وشهد مع شاهد آخر على شهادة أصل آخر، فلا تثبت شهادة ذلك الأصل بهذه الطريقة؛ فإن ذلك الأصل الشاهدَ بنفسه، والشاهدَ على شهادة صاحبه، يريد أن يقوم بثلاثة أرباع الشهادة في محل النزاع. وهذا ممتنع لا سبيل إليه.
12164- ومما يتفرع على هذه القاعدة، أنا إذا قلنا: الشهادة على الشهادة مسموعة في الزنا، فكيف السبيل إلى إثبات شهادات الشهود الأربعة على الزنا؟
هذا يبتني على أصلين:
أحدهما: أن من يثبت به شق شهادة، هل يثبت به الشق الآخر؟
والثاني: أن الإقرار بالزنا، هل يثبت بشاهدين، أم لابد من أربعة؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما.
فإن قلنا: الإقرار بالزنا يثبت باثنين، فنقول: كل شاهد بمثابة إقرار بالزنا؛ فإنه قول يتضمن الخبر عن الزنا، فإذاً، إن اكتفينا باثنين، وقلنا: من ثبت به شق شهادة، ثبت به الشق الآخر، فتثبت شهادة الأصول الأربعة بشاهدين عدلين ينقلان شهادة كل واحد من الأربعة الأصول.
وإن قلنا: من يثبت به شق شهادة، فلا يثبت به الشق الآخر، والإقرار يثبت باثنين، فلابد من ثمانية، كل اثنين منهم ينقل شهادة واحد من الأصول.
وإن قلنا: الإقرار بالزنا لا يثبت إلا بأربعة. ومن ثبت به شق يجوز أن يثبت به شق آخر، فلابد من أربعة ينقلون شهادة الأصول.
وإن قلنا: الإقرار لا يثبت إلا بأربعة، ومن ثبت به شق لا يثبت به شق آخر، فلابد من ستةَ عشرَ، كل أربعة منهم ينقلون شهادة واحد من الشهود الأربعة، فينتظم إذاً أربعة أقاويل:
أحدها: تثبت باثنين.
والثاني: بأربعة.
والثالث: بثمانية.
والرابع- بستة عشر.
فتجري الأقاويل على التضعيف الطبيعي من الأصلين المقدمين.
ولو شهد على المال رجل وامرأتان، وأردنا إثباتَ شهادةِ الأصول بالفروع؛ فعلى قولٍ: يكفي اثنان ينقلان شهادةَ كل واحد من الرجل والمرأتين، وعلى قول: لابد من ستة من العدول، ينقل كل اثنين منهم شهادة واحد من الرجل والمرأتين، ولا أحد في التفريغ على هذا القول يصير إلى الاكتفاء بأربعة؛ ذهاباً إلى أن المرأتين بمثابة رجل، ثم يكفي في رجل عدلان. هذا ما لا مصير إليه.
والنظر إلى عدد الأقوال والشهادات، وهي ثلاثة، فلينقل كلَّ قولٍ عدلان. هذا منتهى الغرض في عدد الفروع.
12165- فأما الكلام في صفة الفروع؛ فلم يختلف أصحابنا في أن الفروع يجب أن يكونوا ذكوراً وإن كان المطلوب بالشهادة إثباتَ مال؛ لأن الفروع لا يتعرضون للمال.
وإنما يتعرضون لنقل أقوال شهود الأصل، فتعين اعتبار الذكورة فيهم من كل وجه، من غير نظر إلى المطلوب بشهادة الأصول. وشهادة الأصول-فيما ذكرناه- تضاهي الوكالة على المال، فإنها لا تثبت إلا بعدلين، وإن كانت الوكالة متعلقة بالمال. فأما
الفصل الخامس
12166- فمضمونه ذكر الأعذار التي يتعذر بها الوصول إلى شهادة الأصول.
فمنها: الغَيْبة. وهي مفصلة، فإن كان الأصول على مسافة العدوى، فلا تسمع شهادة الفروع، كما لو كان الأصول حضوراً، فإن كان الأصول على مسافة القصر، سمعنا شهادة الفروع وفاقاً.
وإن كانوا فوق مسافة العدوى ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان، وقد أدرنا هذا الترتيب في أحكامٍ.
12167- وأما مرض الأصول، مع كونهم في البلدة، فقد أطلق الأصحاب القول بأن للفروع أن يشهدوا.
فنقول: أولاً- للأصل أن يتخلف عن مجلس القضاء بالمرض، ولسنا نشترط أن يكون بحيث لا يتأتى منه الحضور أصلاً، بل إذا كان يناله مشقة ظاهرة، لم يحضر.
وكيف تقريب القول فيها؟
قال قائلون من أئمتنا: المرض الذي يَسوغ التخلف عن الجمعة لأجله يجوز تخلف شاهد الأصل بسببه، ولعلنا ذكرنا في ذلك تقريباً في كتاب الجمعة، ولا ينتهي الأمر إلى اعتبار خوفٍ على النفس، أو ازدياد في المرض يُرْقَبُ إفضاؤه إلى الخوف، وهذا بمثابة قولنا في المرض الذي يجوز الإفطار به في نهار رمضان، وقد ذكرنا أنا لا نرعى فيما يجوز الإفطار به الخوفَ؛ لأنه قرينة السفر، كذلك لشاهد الأصل أن يمتنع لعذر السفر.
فالذي يجب تحصيله أن ينال المريض مشقةٌ ظاهرة، وألمٌ مُقلق يعسر الاستقلال بحمله. هذا قولنا في المرض.
وكل ما يجوز ترك الجمعة به من خوفٍ من غريم أو ما في معناه، فيجوز الامتناع عن الحضور بمثله.
فإذا تمهّد ما ذكرناه، فقد أطلق الأصحاب أن الفروع يشهدون، وكان من الممكن أن يحضر القاضي مكان شاهد الأصل، ويُصغي إلى شهادته؛ ولكن لم أر أحداً من أصحابنا يُلزم ذلك، أو يُشبّب بذكر خلافٍ فيه، وكذلك لم يوجبوا أن يستخلف من يحضر شاهدَ الأصل.
وإذا وقفت القضية على الإشارة إلى عينٍ، فعلى القاضي أن يَحْضُرَها لتمييز الشهود، أو يستخلف من يحضرها لذلك، والسبب فيه أن القضاء غير ممكن من غير تعيين، وفي ترك الحضور تعطيل الحكم. وامتناعُه عن سماع شهادة الفروع مع حضور الأصول من باب الاحتياط، وإلا إذا كان الفروع عدولاً، فتحصل الثقة بنقلهم، فلا نكلف القاضيَ الترددَ على الدورِ والمساكن، مع ما فيه من التبذل وحطّ منصب الولاية لمكان الاحتياط. ولا خلاف أن رواية الراوي مقبولةٌ، وشيخُه في البلد، وكل ما لم يثبت فيه توقيفٌ شرعي تعبدي يميّز الشهادة فيه عن الرواية، فلا يبعد في وجه الرأي التسويةُ بينهما.
والقدر الثابت أن شهادة الفروع مقيدة بحال عذرٍ يطرأ على الأصل، فهذا منتهى الغرض في ذلك، لم يتعدّه حفظي ونظري.
فرع:
12168- شهود الفرع إذا عدّلوا الأصول؛ وكانوا من أهل التعديل، تثبت عدالة الأصول بتعديلهم، وتثبت الشهادة بنقلهم، وإن لم يشهد الفروع على تعديل الأصول، جاز، فتثبت عدالة الأصول بعلم القاضي أو بشهادة شهودٍ آخرين.
وقال أبو حنيفة: لا تصح شهادة الفروع ما لم يعدّلوا أصولَهم، وهذا لا حاصل له؛ فإن عدالة الأصول ونقلَ شهادتهم أمران متغايران، لا يشترط اجتماعهما في حجة. وقد ذكرنا أن المدعي إذا كان يحلف مع شاهد، فحق عليه أن يصدق شاهده، وذاك لانتظام الشاهد واليمين، ولا يشترط ثَمَّ أيضاً أن يحلف على عدالته، بل يكفي أن يحلف على صدقه، وعدالة ذلك الشاهد تُتَلقى من تزكية المزكين، كما ذكرنا في شهادة الأصول مع شهادة الفروع، فلا فرق إذاً بين البابين فيما يتغلق بالتعديل، وإنما افتراقهما في إلزام المدعي تصديقَ شاهده، لأنه عارفٌ فيما زعم بصدقه، ويستحيل أن يُكلفَ الفروعُ تصديقَ شهود الأصل.