فصل: باب: كتاب القاضي إلى القاضي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: كتاب القاضي إلى القاضي:

11926- مضمون الباب ومقصودُه بيانُ القضاء على الغائب وسماعِ الشهادة عليه، ثم يتصل بأطراف الكلام قواعدُ في القضاء على الحاضر، ويتعلق الكلام لا محالة بكيفية الدعوى، وأصولُ الدعاوى مستقصاةٌ في كتابها، ولكن القدر الذي يتصل الكلام به لو لم يُوفّر حقه من البيان، لاستبهم غرضُ الباب.
والذي أراه من الترتيب أن أذكر الدعوى على الغائب والقضاءَ عليه وإقامةَ البيّنة، ثم أذكر طرفاً يقتضي البابُ ذكرَه من القضاء على الحاضر.
فأما الكلام في القضاء على الغائب، فالدعوى عليه تنقسم قسمين:
أحدهما: في دعوى شيء في الذمة، والأخر- دعوى عين من الأعيان.
فأما إذا تعلقت الدعوى بموصوفٍ في الذمة كالنقدين، وذوات الأمثال، فالدعوى مسموعة، وشرطها أن تكون معلومة. والعبارة الوجيزةُ عن إعلام الدعوة المتعلقة بما في الذمة أن يشتمل على الإعلام المرْعي في السلم.
وقد وضح طرق الإعلام في المسلَم فيه، والدراهمُ المطلقة في العقود محمولة على النقد الغالب، ولا يقع الاكتفاء في الدعوى بإطلاقها؛ كما لا يقع بإطلاقها لو كانت مسلماً فيها، وصححنا السلم في الدراهم، وليس يبعد الاكتفاء بالإطلاق في الدراهم إذا كانت مُسْلماً فيها؛ فإنها تثبت عوضاً، والمعاوضات منزلة على العادات.
وقد رأيت في كلام الأصحاب أن إطلاق الدراهم رأسَ مال،-والدراهم غالبةٌ- جائزٌ، ثم تُعيّن بالتسليم في المجلس. وإطلاق الدراهم، وهي مسلم فيها إن صح ذلك على وجهين، والدعوى لا تنزل على العادة، كما أن الإقرار بالدراهم لا ينزل على العادة؛ فإذاً المعتمد ما ذكرناه.
ثم قال العراقيون: لو شهد الشاهد بمجهول لا تقبل الشهادة بمثله، فالقاضي لا يرشده إلى الإعلام بالمساءلة والبحث؛ فإن هذا تلقينُ الحجة، ولو شبب المدعَى عليه بما يكاد أن يكون إقراراً لم ينبّهه القاضي، ولم ينهه، بل يتركه يسترسل في كلامه، ثم يقضي بموجَب قوله.
11927- والمدعي إذا ذكر دعوى مجهولة لا يصح مثلها، فهل للقاضي أن يستفصل الصفات حتى يأتي بدعوى معلومة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يعرض له، بل يترك المدعي وشأنَه، فإن استتم الكلام مشتملاً على دعوى صحيحة، بنى عليها حكمها، وإن لم تصح دعواه، لم يقبلها.
ومن أصحابنا من قال: له أن يستفسر، وإن كان الاستفسار يؤدي إلى إرشاده إلى إعلام الدعوى- فإذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، وقال يلزمه تسليمها إليّ، فالقاضي يقول: أي الدنانير؟ نَيْسابورية، هَرَوية، عتيقة، مكسرة، صحاح، أم البعض مكسر والبعض صحاح، فلا يزال كذلك حتى يأتي المدعي بتمام الإعلام، أو يقول: لا أدري.
وظاهر النص يميل إلى هذا الوجه، ووجهه أن الدعوى ليس بحجة، فالإرشاد فيها على صيغة الاستعلام غيرُ ضائر، ولا ينبغي أن يقول له القاضي: قل كذا وكذا، وكيف يقول ذلك، ولا علم عنده بصفة الدعوى، فإن انتهى الاستفصال إلى إزالة الإشكال، قرّت الدعوى، وإن وقف المدعي قبل تمام الإعلام، فالدعوى مجهولة مردودة.
هذا قولنا في إعلام الدعوى، فإذا أعلمها المدعي، فلا تُسمع دعواه ما لم يجعلها خصاماً.
وبيانه أنه لو قال: لي على فلان كذا، فهذا خبر، وليس بمخاصمة، وإنما تصير الدعوى مخاصمة، إذا قال: عليه كذا ويلزمه تسليمها إليّ، ثم تبيّن للقاضي أنه يبغي استيداءَها منه، ولو اقتصر على هذا القدر، ففيه نظر للفطن، يوضحه ما نذكره.
فلو قال بعد الإعلام: يلزمه أداؤه، وأنا أبغي أن يؤديه الآن، فهذا تمام الخصام بعد الإعلام، ولو لم يقل: إني طالب مطالِب، وقوله " يلزمه " فيه تردد، وقد اكتفى الأصحاب بقوله: "يلزمه أداؤه "؛ فإن الأداء لا يلزم إلا مع الطلب، وقد يقول الفقيه: من عليه دَين حالٌّ يلزمه أداؤه، وإن لم يطلبه صاحبه، وإنما يسقط وجوبُ الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره، فينشأ من مجموع ما نبّهنا عليه ترددٌ بيّن في أنا هل نشترط التصريح بالطلب، وهذا محتمل جداً.
11928- فإذا وضح الغرض من الدعوى، وهي متعلقة بالغائب، فإنّا في هذا القسم نتكلم: فالدعوى المجردة على الغائب، لا خير فيها إذا لم يكن للمدعي بينة، وإنما تفرض الدعاوى على الغُيّب ممن يبغي إقامةَ البيّنة.
فإذا فهمت الدعوى، فلا استقلال بعدُ، ولا استمكان من إقامة البينة حتى يدعي جحودَ الغائب، أو معنىً يَحِلّ محلّ الجحود، كما سنصفه، إن شاء الله.
فإذا ادعى على الغائب، وزعم أنه جاحد، فلا حاجة به إلى إثبات جحوده، ولكن يكفيه ذكر الجحود متصلاً بالدعوى. هذا ما ذكره الصيدلاني وأئمة المذهب.
ولو قال: لي على فلان الغائب ألفٌ، وهو معترفٌ به، ولكني أبغي أن أقيم بيّنةً استظهاراً بها وأنتجزُ كتاباً، فعساه ينكر إذا أتيتُه، قالوا: لا تقبل البينة كذلك، فقد شرطوا دعوى الجحود، واتفقوا على أنه لا يكلف إثبات الجحود بالبيّنة. وكأنهم شرطوه لانتظام الدعوى والبيّنة؛ فإن الدعوى لا ترتبط بالبيّنة إلاّ على تقدير الجحود.
وهذا من مشكلات الباب؛ فإنه إن ادعى جحودَه في الحال، فهذا محال؛ وكيف يدعي جحودَ من لا يعلم حياته، وإن كان يدعي جحوده لمَّا كان حاضراً، وقد مضت سنة، فالبينة في المآل لا ترتبط بجحودٍ ماضٍ، وعن هذا قال قائلون من الأصحاب: لا تشترط دعوى الجحود، ويكفي أن يدعي ويُعلِم ويبغي إقامةَ البيّنة، ولا يتعرض للجحود ولا لنقيضه.
وهذا متجه؛ فإنه إن كان مقراً، فلا مضادة، وإن كان منكراً، فالبينة قائمة في محلها، والقضاء على الغائب هُيّىء شرعاً لإثبات الحقوق على غررٍ، لا على تحقيق.
والذي حكيته عن الأصحاب مبناه على دعوى جحود سابق، والبقاء على إصرار عليه؛ فإنه الظاهر ما لم يثبت نقيضه. وهذا وإن كان كذلك، فهو جحود منقضٍ، والذي عليه دوران المذهب أن المدعى عليه إذا كان حاضراً، فلا يشترط في إقامة البيّنة عليه إنكاره، بل يشترط عدم إقراره؛ فإنه لو سكت أقيمت البيّنة عليه.
وقولنا: شرط قيام البيّنة عدمُ الإقرار فيه طرفٌ من التوسع؛ فإن الإقرار يُغني عن البينة، فإذا بان الحقُّ بالإقرار، فلا معنى للتشاغل بالبينة، وحق على القاضي أن يراجع المدعى عليه عند صحة الدعوى، وسببه طلبُ إقراره؛ فإن ذلك إن أمكن، فهو أقرب، وحق على القاضي أن يسلك أقربَ الطرق في إيصال الحق إلى المستحِق، فإذاً البينة تقام عند عدم الإقرار، فإذا غاب الخصم، فعدم الوصول إلى إقراره بمثابة سكوت الخصم في الحضور. هذا قياس المذهب. وإن كان ميل الأصحاب إلى اشتراط دعوى الجحود. هذا معنى ذكر الجحود.
فأما ما يحلّ محله، فهو بمثابة ما لو اشترى الرجل من رجل شيئاً، ووفّى الثمن، وغاب البائع، ثم استُحِقّت العين المبيعة، وأُخذت، فللمشتري أن يقيم البينة على الغائب بقبض الثمن، ولا حاجة به إلى فرض الجحود؛ فإن إقدامه على بيع ما لا يملك كافٍ في معنى الجحود، وهذا الطرف لا مراء فيه، وإنما التردد في الطرف الأول.
فإذا ترتبت الدعوى، ولاح الخصام، وظهر الغرض من التعرض للجحود، فإذا أراد المدعي أن يقيم بينة على الغائب أقامها، ثم يستفرغ القاضي الوسع في الاستزكاء، والبحث الأكمل. حتى يغلب على ظنه أنه لم يبق للخصم الغائب مضطرباً، فإذا فعل ذلك، انقسم النظر بعده، فإن طلب المدعي القضاء بالبينة على الغائب، فلابد من الإسعاف به، والقضاء على الغائب نافذ على شرائط سنصفها الآن، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه.
وحكى صاحب التقريب في مواضعَ من كتابه قولاً غريباً للشافعي في منع القضاء على الغائب، قال: رواه حرملة عنه. وهذا حكيناه ولا عَوْدَ إليه.
11929- فإذا أراد القضاءَ على الغائب بالحق، فلابد من تحليف المدعي، ثم يستظهر بالاحتياط التام في تحليفه: فيحلّفه: ما أبرأ عن حقه، ولا عن شيء منه، ولا أحد بأمره، ولا استوفاه ولا شيئاً منه، ولا أحدٌ بأمره، ولا اعتاض عنه، ولا عن شيء منه، ولا أحدٌ بأمره. ولا أحال به ولا بشيء منه، ولا أحدٌ بأمره، وأنه يلزمه تسليمُ المدعَى إليه وأن شهوده شهدوا بالحق.
فال القاضي رضي الله عنه: اختلف أصحابنا في أن هذه اليمين احتياط أم وجوب، فمنهم من قال: هي احتياط، فليقع القضاء بالوجوب تعويلاً على البينة، ثم إن ادعى الخصم عند الانتهاء إليه شيئاً مما تحالف المدعي عليه، فهو خصومة مستفتحة، وهذا حسن منقاس؛ فإن القضاء، وإن نفذ على الغائب، فليس المراد به أنه إذا بلغ كتاب القاضي إليه يُؤخذ بتلبيبه، ويُستأدى الحق منه من غير أن يُستنطق، بل القاضي المكتوبُ إليه يُحضره ويراجعه ولا يسد عليه بابَ الدعوى، كما سنصف إذا انتهينا إليه، هذا أحد الوجهين.
والثاني: أن الاستحلاف حق، وهو ركن القضاء على الغائب؛ فإن القاضي يتمسك بكل ممكن يقدِّر تمسُّكَ الغائب به لو كان حاضراً. هذا وضع القضاء، وفيه فقه، وهو أن القضاء ينفذ بوجوبٍ ناجز، وكيف يصح هذا مع إمكان الإبراء، غير أنا لم نتعرض لهذا والمدعى عليه حاضر؛ فإنه منطلق اللسان بالدعوى، فليدّع.
وقد قال الأئمة: من ادعى على صبي أو مجنون، أو ميت، ولا نائب لهم، فإذا أقام البينة، فلابد من التحليف، كما ذكرناه في القضاء على الغائب.
والذي أراه أن التردد الذي ذكره القاضي في أن اليمين احتياط أم وجوب، لا يجري في هذه المنازل؛ فإنا نتوقع من المدعى عليه إذا انتهى كتاب القاضي إلى موضعه أن يدعي بنفسه، وهذا لا يتحقق في الصبي والمجنون والميت، وحكم نفوذ القضاء إيصال الحق إلى مستحقه.
فإن فرّعنا في الغائب على الأصح-وهو اشتراط اليمين- فالتعرض لتصديق الشهود فيه بُعد عندنا، نعم قد نشترط على المدعي إذا كان يحلف مع شاهد واحدٍ أن يصدّق شاهده-على مذهبٍ- في يمينه؛ وذاك سببه أن الشاهد الواحد ليس ببيّنة. والبيّنة في مسألتنا كاملة.
فقد يعترض في التفريع على هذا الوجه الاكتفاءُ بتحليفه على أنه مستحق الحق الآن من غير بسط في ذكر الجهات.
11930- ومما نرى وَصْلَه بهذا المنتهى من أمر التحليف أن مستحق الحق لو وكّل وكيلاً، فأتى موضع الخصم الغائب، وأثبت الوكالة بالخصومة وأقام البينة، فلو قال المدعى عليه: إن موكِّلك برأني، أو استوفى منه، فلا يلزمني تسليمُ ما أقمتَ البينةَ عليه ما لم يحلف موكلُك، والوكيل لا يتصور أن ينوب عن موكله بالحلف.
قال القاضي رضي الله عنه: وقعت هذه الصورة بمرو في كتاب ورد من قاضي بخارى على قاضي مَرْو في إثبات وكالة بالخصومة، ثم انتهى الأمر إلى المسألة التي ذكرناها، فقال المدعى عليه ما وصفناه، وتوقف فقهاء مَرْو من الفريقين، فاستدرك عليهم الشيخ القفال، وقال: يقضى على المدعى عليه بموجب البينة. ثم إن كانت دعوى فلْيَسْعَ في توجيهها على الموكِّل.
وهذا لا يستدرك بمبادىء النظر؛ فإن صاحب الحق لو كان حاضراً، وقد أقام البينة، وقضى القاضي بها، فلما أراد إلزام المدعى عليه قال: لقد أبرأني عن حقه، فلا يلزمه ما لم يفصل هذه الخصومة؛ فإن نكوله عن اليمين ممكن، فالوجه فصل هذه الخصومة الثانية، ثم النظر بعدها في مقتضى الحال، فإذا كان كذلك، فصِدْقُ المدعى عليه في مسألة الوكيل ممكن.
ولو حضر مستحِق الحق، لَمَا كُلِّف توفيةَ الحق حتى يحلف المدعي أنه ما أبرأ، فكيف سبيل إلزام المدعى عليه توفية الحق في مسألة الوكيل، وهلا توقفنا؟
وسبيل الجواب أنا لو سلكنا هذا المسلك، لانقطعت الوسائل والذرائع إلى استيفاء الحقوق بطريق التوكيل والاستنابة، والوكيل لا يتمكن من الحلف ولا حكم ليمينه، فاستوفينا الحق في الحال، والمدعى عليه على دعواه في الإبراء. هذا منتهى الإمكان في ذلك.
وفيه فضلة للناظر.
11931- ونعود إلى ترتيب الخصومة بعد الفراغ عما اعترَضَ. فإذا قامت البينة، وحلف المدعي، واستدعى من القاضي الذي أقام البينة عنده أن يقضي له، فلابد وأن يسعفه، ثم إذا قضى له، فيكتب كتاباً إلى القاضي الذي هو في المكان الذي به الخصم.
والكلام الآن يتعلق بصورة الكتاب، ولابد فيه من ذكر المراسم، ثم إن اشتمل الكلام على ما يُحْوِج إلى البحث، جرينا على عادتنا في الانعطاف.
فإذا كان القاضي يكتب بقضاء مبرم، فإنه يكتب بعد تصدير الكتاب: "حضرني فلانُ بنُ فلانِ بنِ فلان " فيرفع في نسبه، ويذكر اسمه، واسم أبيه وجده، ويذكر حِلْيتَه، وصفاتِه، ومسكنَه وصنعتَه، وما يشتهر به، واليومَ الذي ادعى فيه من الشهر والسنة، ويقول: "وادعى على فلانِ بنِ فلانِ بنِ فلان "-فيجري في إعلامه على نهاية الإمكان- كذا. وكذا، فيذكر الجنسَ المدّعَى والقدرَ، فأَصْغيتُ إلى دعواه، وأقام بينةً عادلةً، يجوز القضاء بمثلها، وحلّفته مع بينته، وطلب القضاء، فقضيت له بحقه، وطلب أن أكتب إليك هذا الكتاب؛ لتُحضر خصمه، وتلزمه الخروج عن حقه، فأجبته إلى ملتَمسه على موجَب الشرع، وُيعَنْوِن الكتابَ، ويختم عليه، ويَشهدُ عليه شاهدان، ويقرأ الكتاب على الشاهدين، ويكون قضاؤه بمرأى منهما ومسمع، ويعلمهما مضمونَ الكتاب، ويدفع إليهما نسخة ليطالعاها في الطريق؛ حتى لا يزلّ عن ذكرهما مقصودُ الكتاب.
ثم مذهب كافة أصحابنا أن التعويل على ما شهد به الشاهدان والكتاب رسمٌ أو استظهار، فلو لم يكن عندهما علم بمضمون الكتاب، فالكتاب ضائع لا منفعة فيه.
ولو قال القاضي الكاتب للشاهدين: هذا كتابي، ومضمونه قضائي، والختم ختمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يطلعهما على تفصيل القضاء، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن ذلك لا يُجدي ولا يفيد، فليقع التعويل على تحمل الشاهدين لتفصيل القضاء.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا وقع الإشهاد مجملاً كما وصفناه، عمل المكتوب إليه بمضمون الكتاب؛ فإن الثقة تتم بماجمال الشهادة، والتفصيل يُتلقَّى من الكتاب. وهذا متروك عليه غيرُ معدود من المذهب.
وإذا تحمل الشاهدان تفصيل القضاء، ثم ضل الكتاب، أو انمحى فلا تعويل عليه، والمكتوب إليه يعتمد شهادة الشاهدين، حتى قال الأصحاب: لو شهد الشاهدان على تفصيل في القضاء، ففكَّ المكتوبُ إليه الكتابَ، فوجد بين مضمون الكتاب وبين شهادة الشاهدين تفاوتاً واختلافاً، فلا مبالاة بالكتاب، وليقع الحكم بشهادة الشاهدين.
ومما ذكره الأصحاب على هذا النسق، أن المكتوب إليه لابد وأن تثبت عنده عدالة شاهدي الكتاب، فإن كان يعرفهما عدلين، وإلا استزكاهما.
ولو كان كتب القاضي في الكتاب: إن الشاهدين حاملي كتابي عدلان من أهل الشهادة، فهذا لغو، لا فائدة فيه، فإن التعويل على الكتاب لا سبيل إليه؛ فالمعتمد قولُ الشاهدين، فإن نقلا عن القاضي تعديلهما، فكأنهما في التحقيق يشهدان على عدالة أنفسهما، أو على تعديل الغير إياهما، وهذا محال غير منتظم.
وقال الققال الشاشي: تثبت عدالة حاملَيْ الكتاب بتعديل القاضي الكاتب في كتابه، وهذا غلط باتفاق الأصحاب؛ فإن الإصطخري وإن عوّل على الكتاب، فمستند الكتاب شهادة عدلين على أن هذا الكتاب للقاضي، فإذا توقفنا في عدالة الشاهدين، فكيف يثبتُ الكتاب حتى يعوَّل على مضمونه؛ فإذاً هذا معدود من هفوات هذا الإمام.
11932- وليس ما ذكرناه تمامَ الغرض، واستيفاءَ المقصود في بيان حقيقة القضاء المبرم على الغائب، لكن قد اعترضت مراسم وأوفينا على المسائل بعدها، فننعطف بالبحث على ما تقدم، ثم نفتتح المسائل، فأصل الكتاب رسمٌ، ولو ترك، فلا بأس. والتعويل على ما يتحمله الشاهدان، ثم إن اطلع شاهدان على تفصيل القضاء عند الإنشاء، فذاك، وإن جرى القضاء ثم أشهدهما القاضي على اعترافه بالقضاء المفصل، جاز ذلك، وهو واضح.
وأما مذهب الإصطخري ومخالفة الأصحاب إياه، فالكلام فيه ليس بالهيّن، وأنا أقول: إن قال القاضي: هذا كتابي وختمي وقد أشهدتكما على ذلك؛ فإن كان الإصطخري يقول في هذا المقام: يُعوِّل المكتوبُ إليه على الكتاب، فهذا غلط لا شك فيه؛ فإن الكتاب لا يعوَّلُ عليه، والخط لا معتبر به.
ولو قال القاضي: مشيراً إلى خط نفسه في سجلّ: هذا خطّي، وكان مضمونه تسجيلاً، فلا يكون هذا خطيّ اعترافاً منه بالقضاء، وإن كان الإصطخري لا يجيز هذا، بل يشترط أن يقول القاضي للشاهدين: مضمون هذا الكتاب قضائي وحكمي، وقد أشهدتكما على ذلك، ولم يتعرض لتفصيل القضاء، فهذا موضع النظر.
ومذهب الإصطخري يتجه بعضَ الاتجاه إذا كانت الحالة هذه؛ لأن القاضي أقر بالقضاء؛ ولكنه لم يفصّله للشاهدين، وأحال تفصيلَه على الكتاب، والإقرارُ يثبت مع الإجمال، كيف وبيان مجمله محالٌ على كتابٍ أشار إليه القاضي.
ولو كتب كاتب إقراراً، أو كُتب عنه بإذنه، فأشار إلى مجموعه وقال: الإقرار المثبت في هذا الذِّكر إقراري وأنا معترف بجميع ما أُثبت في هذه الأسطر، فالوجه عندنا ثبوت الإقرار وجواز تحمل الشهادة، ثم إذا أشار الشهود إلى الذِّكر، كان المشهود مؤاخذاً بتفصيل المكتوب فيه. فإذا قال القاضي أشهدتكما على قضائي وحكمي المكتوب في هذا الكتاب، فالوجه جواز ذلك. والذي حكاه معظم الأصحاب خلافه.
فهذا مواقع البحث من المراسم التي ذكرناها.
11933- ونحن بعد ذلك نخوض في المسائل وتفاصيلِ الأمر، بعد تمهيد قاعدةٍ: وهي أن القاضي إذا قضى بالبينة واليمين، وأبرم القضاء، فقد تم الأمر، ولا يتعلق بالمكتوب إليه إذا ثبت القضاء عنده عُلقة من الحكم، وإنما هو مستعان في إيصال حق ثابت إلى مستحقِه؛ وإذا بان أنه ليس إلى المكتوب إليه من الحكم الأول شيء، فيترتب على هذا أمور: منها- أن القاضي الكاتب لا يلزمه أن يفصّل البينةَ القائمةَ في أصل الخصومة، وليس عليه أن يرفع أسماءهم ويتشوَّفَ إلى إعلامهم، بل يكفيه أن يقول: قضيت لفلان بحجة شرعيةٍ تقتضي القضاء.
ولو قال قائل: المكتوب إليه-إذا كانت البينة مبهمة- مقلِّد. قلنا: ليس مقلداً في الحكم؛ إذ ليس إليه من الحكم شيء، ولا بيان بعد الوضوح.
11934- ومما يتعلق بما ذكرناه أن الكاتب لو مات قبل انتهاء الكتاب، لم يضرّ موته؛ فإن الحكم منفَّذ، وهو مقيَّدٌ مؤزَّرٌ بتحمل شهادة الشهود، فإذاً كتاب القاضي وأقضيته تثبت بعد موته، وكذلك لو عُزل القاضي الكاتبُ، فالقضاء المبرَمُ باقٍ كما كان.
ولو مات المكتوب إليه، فلا أثر لموته، ولكن إذا شهد الشاهد على قضاء القاضي الكاتب عند قاضٍ من قضاة المسلمين، فهذا قضاء ثابت من قاضٍ أُثبت عند قاضٍ آخر، فهل يلزمه إمضاؤه على موجَب الشرع، سواء كان إلى القاضي الثاني كتاب أو لم يكن؟ فقد ذكر صاحب التقريب عند ذلك أصلاً مقصوداً في نفسه، وبه يتهذب ما مهدناه، ونحن نذكره على وجهه، فنقول:
11935- لو كان في جانبي بغداد قاضيان، وقد خُصت ولاية كل شِقٍّ بقاضٍ، فهذا جائز لا إشكال فيه. فلو دخل أحدهما الجانبَ الثاني، فأخبره قاضي الجانبِ الثاني المنتقَلِ إليه بأني حكمت على فلان بكذا بحجةٍ قامت، فإذا رجعت إلى جانبك، فاستوفِ منه ما حكمتُ به عليه، فإذا رجع إلى جانبه، فقد قال الأصحاب: له أن يستوفي الحقَّ منه.
وعندنا أن هذا مبني على أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ فإن جوزنا له ذلك، استوفى ذلك إذا رجع إلى جانبه، وإذا منعنا القضاء بالعلم، فليس له أن يستوفيَ؛ فإنه وإن تحقق من قول القاضي في ولايته، فهو في نفسه لم يكن في محل الولاية، فكان سماعه من القاضي في محل ولايته مفيداً له علماً.
ولو دخل ذلك القاضي الذي هو المبرِمُ للحكم الجانب الآخر، وأخبر القاضي الذي في هذا الجانب بأني قضيتُ على فلانٍ، فلا يعوِّل قاضي هذا الجانب على ما سمع؛ فإنه قولٌ صدر من قاضٍ في غير محل ولايته، فلم يكن له حكم.
ولو عَبَرَ هذا القاضي إلى الجانب الآخر، فسمع من قاضي الجانب الآخر-وهو في محل ولايته- إني سمعت بينةً على فلان، ووصفها، فإذا رجَعتَ إلى جانبك، فاقض بها عليه، فإنه لم أُبقِّ إلا القضاء؛ فإذا رجع السامع إلى جانب نفسه، لم يقض بتلك البينة؛ وذلك أن تنفيذ القضاء متعلق به، وقد سمع قولَ القاضي في مكانٍ لا ولاية له فيه، فلا حكم لذلك السماع، وهو بمثابة ما لو شهد عنده شهود في ذلك الجانب، ولا ولاية له فيه، فلا حكم لسماعه؛ فإن السماع في البينات إنما يصح من والٍ، وقول القاضي: سمعت على فلان بينة بمثابة بينة تقام.
ومما يتعلق بذلك أن القاضي في الجانب الشرقي لو كتب إلى قاضي الجانب الغربي، وهما قارّان في ولايتيهما بأني سمعت بينة على فلان، ووصفها على شرطها، فاقض بها، فإن كان ذلك بعد ما غاب الشهود أو ماتوا، فيقضي المكتوب إليه إذا شهد شاهدان على موجب الكتاب كما ذكرناه، وإن كانوا حضوراً بعدُ في البلدة-أعني شهود الخصومة- فالمكتوب إليه لا يقضي أصلاً، بالكتاب والشهادةِ على مضمونه؛ فإن استحضار الشهود سهل، وهم الأصل، وقول القاضي في حُكم شهادة الفرع على الأصل، فيستحضرهم القاضي، ويستعيد الشهادةَ، بأن تقام الخصومة في مجلسه من ابتدائها على شرطها، فهذا معنى الاستعادة.
وكذلك لو كان سمع شهادةَ قوم، ولم يخض القضاءَ، وكتب إلى قاضٍ في بلدة أخرى، فاتفق أن الشهود كانوا صحبوا الكتاب، أو سبقوه، أو أتَوْا بعده على القرب قبل أن يُمضي المكتوبُ إليه القضاءَ؛ فإن المكتوب إليه يبتدىء الخصومة، ويستعيد الشهادة؛ لتمكنه من الوصول إلى قول الأصول، وسماعُ القاضي وكتابُه في حكم الفرع.
ولو كان في جانبي بغداد قاضيان، كما صوّرنا، فسمع أحدُهما في جانبه بينة، وغاب الشهود أو ماتوا، ثم وقف كل واحد من القاضيين على طرف ولايته، لم ينفصل عنها، ونادى من سمع البينة الآخر: بأني سمعت شهادة فلان، وفلان، على فلان، وحلّفته على موجَب الشرع، فاقض بالبينة في جانبك، فيقضي ذلك القاضي؛ فإن كل واحد منهما كان في محل ولايته لما تناديا، فصحّ ذلك، ووقع الموقع.
فإن قيل: إذا كان التنادي والإعلامُ في طرفي الولايتين ممكناً-على ما صورتموه- فإذا كتب أحدهما، وأشهد على كتابه، وكان قادراً على أن يشافه القاضي ويناديه، فهلاّ كان هذا ممنوعاً؛ لأن كتاب القاضي وشهادةَ الشهود على سماعه بمثابة الفرع للقاضي؟ وقوله في نفسه أصل، فكيف يقع القضاء بالفرع مع التمكن من الوصول إلى الأصل.
ويخرج من موجَب هذا السؤال أن يتعين أن يُعلم أحدُ القاضيين الآخرَ بسبيل التنادي في طرفي الولايتين. وهذا وجه بيّن في القياس.
ولكن الذي دل عليه كلام الأصحاب أنا لا نشترط ذلك؛ فإن فيه الغض من منصب القاضي وتكليفه ما لو تكلفه، لكان قريباً من خَرْم المروءة وحطها.
وقد نقول: إذا مرض شهود الأصل قبِل القاضي شهادة الفروع، مع قدرته على أن يدور على مساكن الشهود المرضى، ويسمع منهم أصل الشهادة، ولكن لا نكلفه ذلك على تفصيلٍ سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
فهذا ما أردنا ذكره من أحكام القاضيين في الجانبين.
11936- والغرض الأظهر التنبيه على ما جعلناه معتمد الكلام في أن القاضي إذا نفذ قضاؤه، فقد تم الأمر، ولم يبق على المكتوب إليه من القضاء عُلقة، وإنما بقي إعانة الخصم المستحِق على استيفاء الحق.
فإن قيل: إن كان كذلك، فليكتب القاضي بعد إبرام القضاء إلى واحدٍ من عُرض الناس في البلدة التي فيها الخصم، وليأمره باستيفاء حق المستحق.
قلنا: هذا الآن غفلة عن القواعد؛ فإن هذا لا يتأتى إلا بسماع شهادة شهود الكتاب، وهذا لا يصح إلا من قائمٍ بالقضاء، حتى لو كان ذا ولاية وليس إليه القضاء، فلا يملك أيضاً استيفاء الحق؛ من حيث إنه لا يتوصل إلى سماع الشهادة، فلو وقف القاضي في شرقيّ بغداد على طرفِ ولايته، ونادى واليَ الغربي-وليس قاضياً- بأني قضيت على فلان ببينة أو إقرار، فاستوف ذلك الحق منه، فالوجه عندنا أن لا يستوفي أيضاً؛ فإنه ليس إليه سماع قول القاضي، كما ليس له سماع شهادة الشهود.
ويتجه أن يستوفيَه؛ من جهة أن القضاة قد يستعينون بالولاة المرتبين باستيفاء الحقوق من الممتنعين. ولا خلاف أن القاضي في محل ولايته لو استعان بالوالي في ذلك المحل، لأعانه الوالي تعويلاً على قوله، وينقدح في ذلك فرقٌ؛ فإن القاضي إذا استعان بالوالي في محل ولايته، فحتم على الوالي أن يطيعه ويتبعه، فحكمه نافذ على الوالي، فإذا كان الوالي في غير ولايته، فلا حكم له عليه، وإنما هو إسماع وإبلاغ، وذلك الوالي ليس من أهل السماع، والمسألة على الجملة محتملة.
وقد بان أن القضاء المبرم لم يبق منه إلا القيام بالاستيفاء ممن يتصور منه الوصول إليه كما أوضحناه.
11937- ومما يتعلق بهذا القسم وهو قسم إبرام القضاء أن الخصم إذا ارتفع إلى مجلس القاضي، وادعى على زيدِ بنِ عمرو بنِ بكر حقاً، وذكر حِلْيَته، وصِفَتَه، وصناعتَه، ومسكنَه من بلد آخر، وأتى باقصى الإمكان في الإعلام والبيان، وأراد أن يقيم عليه بينة ليقضي القاضي بها على موجَب الشرع، وكان القاضي الذي رُفع الأمر إلى مجلسه لا يعرف ذلك الشخصَ مع الإطناب في الجهات التي ذكرناها، فكيف السبيل في هذا؟ ولو قضى القاضي على المسمَّى الموصوفِ، لكان قاضياً على من لم يعرفه.
هذا من أصول الباب؛ فيجب الاهتمام بدرك معانيه، والإحاطة بما فيه، فنقول أولاً: القضاء نافذ على الوجه الذي صورناه، وإن كان القاضي لا يعلم المقضيَّ عليه؛ إذ لو شرطنا أن يكون القاضي عالماً به، لانحسم مسلك القضاء، على معظم الغُيّب، ولاختص بأقوام معدودين يعرفهم القاضي، وربما كان القاضي لا يعرف من أهل بلدته إلا أقواماً محصورين.
فإذا حصل التنبه لهذا، فالوجه أن يكتب القاضي ما يحصل الإعلام به في المحل الذي الخصم به، وذلك في أوساط الناس بذكر الاسم والارتفاع في النسب، والاعتماد على الحِلْية، وتعيين المسكن والصناعة، وذلك يُتلقَّى من قول الشهود، فينبغي أن ينتهي الإعلام إلى حدٍّ يغلب على الظن أن من وُصف بهذه الجهات لا يلتبس بغيره، ولو فرض مساوٍ مع ما ذكرناه من المبالغة، لكان من النوادر، فهذا ما يجب رعايته.
ثم فائدة هذا الإبلاع أن يتوصل المكتوب إليه إلى تمييز المقضيّ عليه؛ فإن الحاجة تظهر ثَمَّ، وعدمُ علم القاضي الكاتب لا أثر له، نعم لو قصّر في الإعلام والضبط بالصفات التي ذكرناها، مثل أن يقول: قضيت على محمدِ بنِ أحمدَ-فهذا لغوٌ؛ فإن التمييز لا يحصل به، وإذا لم يحصل التمييز به، فليس القضاء معتمداً، فكان لغواً مطَّرحاً. وسيكون لنا انعطاف على هذا بعد بيان ما هو الأصل.
فنقول: إذا سمى وارتفع في النسب، وأبلغ في الإعلام وأبرم القضاء، ونقل كتابه مع شهود الكتاب، فإن رُفعَ الخَصمُ صاحبه إلى مجلس القضاء، واعترف بأني أنا المعيّن المسمّى الموصوف، فيقول له القاضي: فما قولك؟ فإن أقر بالحق، كلفه الإيفاء، وإن أنكر سُمِّعَ بيّنة الكتاب والشهودِ عليه، وألزمه الإيفاء. ولو قال: لست مسمّىً بهذا الاسم، ولا معيّناً بالكتاب، وليست الأسماء المذكورة أسماءَ آبائي وأجدادي، فعلى حامل الكتاب أن يثبت أنه مسمّىً بهذه الأسماء ببيّنة يقيمها، فإن فعل، اطرد القضاء عليه، وإن لم يجد بينة يقيمها على ما أنكره من الأسماء، تعطّل الأمر. فلو قال: أحلِّفُكَ على ما أنكرت، فله ذلك، فإن حلف انصرف القضاء عنه، وإن نكل، رُدت اليمين على حامل الكتاب، فإن حلف ثبت غرضُه، واطرد القضاء على المرفوع إلى مجلس القاضي المكتوب إليه.
11938- ولو أنكر الخصم المرفوعُ الاسمَ، ولم يجد ناقلُ الكتاب بينةً، فطلب اليمين، فقال الخصم المرفوع: لا أحلف على نفي الاسم، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليمُ شيء إليك، فقد قال الصيدلاني: تقبل اليمين منه على هذا الوجه، ويُدْفَع القضاء، ويشهد لهذا الأصلُ المعروف في ذلك، وهو أن الرجل إذا ادعى جهةً في الاستحقاًق على شخص، فلم يتعرض المدعَى عليه لها، واقتصر على قوله لا يلزمني تسليمُ شيء إليك. فهذا مقبول، واليمين بِحَسَبه مسموعةٌ، وهذا كالرجل يقول: أقرضتك ألفاً، وكان المدعى عليه اقترض الألف ولكن أداه، ولو اعترف بالأصل لا يقبل قوله في دعوى الأداء.
وقد يستحلفه المدعي، فيحلف، فللمدعى عليه ألا يتعرضَ للجهة، وسيأتي هذا ونظائره في الدعاوي، إن شاء الله، فبنى الصيدلاني على ذلك، وجوّز للخصم المرفوع أن يسلك هذا المسلك، ويحلف على نفي الحق.
وهذا عندي خطأ؛ فإنه إنما يمتنع عن اليمين على نفي الاسم والنسب لثبوتهما، ولو ثبتا، فالحجة قائمة عليه، والقضاء مبرم، وليس كالدعوى المحضة في الإقراض؛ فإن الدعوى ليست حجةً، فأثبت الشرع للمدعَى عليه مسلكاً في الخصومة يوافق الحق عنده، ويضادّ مقصودَ المدعي، والمسألة محتملة مع ما ذكرناه.
11939- ولو قال الخصم المرفوع: كل مذكور في هذا الكتاب فأنا موصوف به من الاسم والنسب وغيرهما، ولكن لست معنياً بالكتاب. ففي هذه البلدة من تجتمع فيه هذه الصفات- هذا محل الكلام.
فإن كان القاضي الكاتب قد أبلغ في الإعلام إبلاغاً لائقاً بالمقصود-وحدُّه ما ذكرناه من ندور التوافق فيه- فنقول للخصم: أثبت ذلك موافقاً، فإن فعل، وُقف القضاء، وقال المكتوب إليه للخصم: ارجع، وميّز خصمك؛ وأزِل اللبس، وإن لم يأت الخصم المرفوع بمن يساويه في جهات الإعلام، نفذ القضاء عليه.
ومن هذا المنتهى ننعطف على ما قدّمناه: فلو كان القاضي أخلّ بما ينبغي أن يُرعى في الإعلام، مثل أن كان قضى على محمدِ بنِ أحمدَ-فقال الخصم المرفوع آخراً: أنا محمدُ بنُ أحمدَ، ولست معنياً بالكتاب، والبلاد مفعمة بمن يساويني في اسمي واسم أبي؛ فيقال للخصم: ارجع وميّز، ولا تُجشِّم الخصمَ المرفوعَ أن يُثبت هذا. ولو قال الخصم المرفوع: أنا المعنيُّ بالكتاب، وقد كذب الشهود عليّ، أو تحيّف القاضي في قضائه، فلم يبحث حق البحث، فالقضاء لا ينفذ على هذا الخصم؛ فإن الدعوى من غير إعلام لا ثَبَت لها، والشهادة من غير إعلام المشهود عليه لا صحة لها، ثم القضاء بعدها هذيان، وهو بمثابة القضاء على رجل تعويلاً على معرفة الخصم، وهذا ظاهر.
ولكن إنما ذكرته لما صدّرتُ الفصلَ به من أن القاضي لو لم يكن عالماً بالمقضي عليه مع التناهي في الإعلام من الشهود، لجاز، فقد يظن الظان أن الإعلام إذا لم يحصل واعترف الخصم المرفوع بأنه المعني كفى، وليس الأمر كذلك؛ فإن القضاء ليس إنشاءَ أمر، وإنما هو إظهارُ أمرٍ على ترتيب الشرع، فإذا لم يكن على الترتيب المرعيّ، فهو لغو، لا مبالاة به، وقد اتضح هذا الأصل، وهو الإعلام، ووجهه وفائدته.
ولو أقام الخصم المرفوعُ بعد تمام الإعلام بيّنة على مساواة ميت إياه في الصفات التي وصف بها، كفاه ذلك في صرف القضاء عن نفسه.
وقد تم مقصودنا في قسم من قسم في الدعوى على الغائب- وهو ادعاءُ دَيْن على غائب، ووضعُ نفوذ القضاء به.
11940- فأما إذا سمع القاضي البينة على الغائب، ولم يقض بها، وكتب إلى قاضي الناحية التي بها الخصم المشهود عليه: إني سمعت البينة، ووكلت القضاء إليك، فقد قال الأصحاب: يجوز ذلك، واتفقوا عليه في الطرق، وأبو حنيفة رضي الله عنه وإن منع القضاء على الغائب جوّز هذا.
وفيه إشكال نبيّنه. وهو أن سماع البينة تعلق من القاضي بركنٍ من أركان القضاء وعليه بعده نظرٌ، فإذا لم يقض، وأراد نقلَ البينة، فسبيل الواقعة كسبيل الشهادة على الشهادة، فكان يجب أن يَشْهدَ على شهادة الأصول شهودٌ يكونون فروعاً، على الشرط الذي سيأتي مشروحاً في الشهادة على الشهادة، إن شاء الله. ثم كان القاضي على ذلك شاهداً على شهادة الأصول، ولا تثبت بالشاهد الواحد شهادة الأصول، وهذا بيّن من هذا الوجه.
قال القاضي: هذا الطرف غير منصوص عليه للشافعي، والقياس ألا يثبت بقول القاضي وحد شهادة شاهدين؛ إذ الشهادة على الشهادة لا تثبت بواحد.
وهذا الذي ذكره القاضي ليس مذهباً ولا وجهاً مخرجاً، وإنما هو إبداء الإشكال وإيضاح وجهٍ في الاحتمال، والذي أجمع عليه الأصحاب ما قدمناه.
ثم ما اعتمده الأصحاب أن قالوا: سماع البينة من القاضي حكم منه بقيام البينة، والحكم على مذهبنا ليس افتتاحَ أمر أو إنشاءَ شأن، وإنما هو إظهار ما تقرر ممن هو مطاع متبع إذا لم حد عما أُثبت وشرح- فإذا حكم لزيد على عمرو، فمعناه: ظهر وجوبُ حقٌّ لأحدهما على الثاني، والشرع ألزم اتباعه، كذلك إذا ظهرت البينة وأظهرها، كان ذلك حكماً منه في هذا الحكم.
وفي هذا الوجه تمسك الأصحاب على أبي حنيفة رضي الله عنه بسماع الشهادة على الغائب، وردوا عليه قولَه: أن سبيل ذلك سبيل نقل الشهادة، وقالوا: لو كان كذلك، لكان القاضي فرعاً، والشهود أصول، ولا تثبت شهادة الأصول بقول فرع واحد.
ثم فيما أجراه الأصحاب من التفريعات ما يدل على أن سماع القاضي- وكتابُه على موجَب السماع- في حكم النقل، وفي التفريعات ما يدل على أنه حكم مبتوت.
ونحن نفضّ المسائل على هذا التردد، ونستجيز إطلاق القول باختلاف الأصحاب في أن هذا حكم أو نقل؟ فإذا اقتضى هذان الأصلان حكمين، وصادفنا المسائل مختلفة في التفرع، ساغ الإطلاق الذي ذكرناه.
وإن أحببنا، قلنا: قضاءٌ مشوب بالنقل، أو نقلٌ فيه شَوْبُ القضاء.
وأسدّ العبارات في ذلك أن نقول: هو قضاء بالنقل، وهذا يضاهي تردُّدَ الأصحاب في أن القاضي إذا زوّج المرأة في غيبة الولي القريب، وحضور البعيد، فهذا التزويج من القاضي نيابة عن القريب، أو هو على حكم الولاية؟ فيه تردد.
والأصح أنه نيابة اقتضتها الولاية.
وإذا تمهّد هذا قلنا: الاكتفاء بالقاضي وحده في البيّنة يوضِّح شَوْب الولاية، وهذا متفق عليه.
11941- وأجمع الأصحاب على أن القاضي إذا لم يقضِ، وضمَّن كتابه سماع الشهادة، فلابد من ذكر الشهود وتعريفِهم. ولا يكفي أن يقول: سمعت بينة توجب الحكم. ولو كان هذا حكماً باتاً، لأوشك أن يجوز هذا، فلما قلنا: يجب ذكرُ تفصيلِ البينة وأسماءِ الشهودِ، على نهاية الإمكان والإعلام، فالسبب فيه نقل البينة إلى المكتوب إليه ليرى فيها رأيه، فإذاً هذان حكمان متعارضان: اتحاد القاضي، ووجوب نقل تفصيل البيّنة، ولمن يغلّب النقل أن يجيب عن الاتحاد ويقول: أقام الشرع القاضي-وهو شخص واحد- مقام شاهدين لرتبة الولاية، وهذا كإقامة الرجل مقام امرأتين لفضيلة الذكورة. ومن يغلّب الولاية يحمل تفصيل النقل على أمرٍ، وهو أن المكتوب إليه لا يقلِّد في مستند حكمه، وقد لا يرى القضاء ببيّنة يراها الكاتب، فامتنع الإبهام لذلك.
وتردد أئمتنا فيما يخرج على التقديرين- فقالوا: لو كان في بلدة واحدة قاضيان-إن جاز ذلك على ما سنذكره في الفروع على أثر هذا- فلو سمع أحدهما شهادة شاهدين ولم يقض، والتقى بالقاضي الثاني وأخبره، وتمكن القاضي الثاني من استعادة الشهادة فإن قلنا: ما صدر من القاضي لسامع حكم، فليس على القاضي الثاني استعادةٌ، وإن قلنا: سبيله سبيلُ النقل، فالقاضي فرعٌ إذاً، فإذا قَدَر القاضي الثاني على السماع من الأصول، لم يكتف من السماع من الفرع- وهذا هو الذي أجريناه مقطوعاً به فيما تقدم، وهو مختلَفٌ فيه كما ذكرناه الآن، وكأن القاضيين على الوجه الآخر يتعاونان على القضية الواحدة، فيسمع أحدهما البيّنة، ويقضي الثاني. فلو كان يجب على الثاني استعادة الشهادة، لبطل ما أشرنا إليه.
ومما يؤكد أصلَ النقل أن القاضي الكاتب لو سمع ولم يعدّل، جاز، وهذا يكاد أن يكون نقلاً محضاً؛ فإنه لم يظهر كون ما سمعه بيّنة؛ ليقال إن هذا حكم، بل رجع ما صدر منه إلى السماع الحِسّي، ولا مزية في هذا للقاضي.
ثم اتفق الأصحاب على أنه إن عدّل الشهودَ، وحكم بعد التهم، فهو سائغ، وإن فوّض النظر في العدالة والجرح إلى المكتوب إليه، فهو سائغ أيضاً، ولكن العادة جارية بأن يعدّل الكاتب؛ لأن الشهود قد يكونون من أهل بلدته، ولا يعرفهم المكتوب إليه، ولا المزكون المرتّبون في مجلسه، فالنقل من غير تعديل قريبٌ من التعطيل، ولكنا مع ذلك نجوّز تفويض التعديل إلى المكتوب إليه، على شرط الإبلاغ في الإعلام، بناء على أن أهلَ بلدة المكتوب إليه ربما يعرفون الشهود، ويتوصلون إلى الغرض بالسؤال والبحث.
ثم الإعلام الذي كررناه مؤكّداً بالاسم، والرفع في النسب، وغيرهما من الأسباب، لم نَعْن بما ذكرناه فيه أن الأسباب مقصودة في أنفسها، بل الغرض الإعلام، فلو حصل الإعلام بالاسم المحض إذا كان الشاهد مذكوراً في البلاد بعيد الصِّيت، كفى ذلك.
فإذا تبين هذا، فصفة الكتاب في نقل البينة تصديراً وسياقاً كصفة الكتاب في القضاء المبرَم، غير أن الكاتب الناقلَ يصف الواقعة موثقة بالإعلام على الوجوه المقدمة، فإذا انتهى إلى سماع البينة، أو تعديلها بعد السماع، قال: "ثم فوّضت القضاء إليك بهذه البينة المنقولة إلى مجلسك فانظر نظرك، ورَهْ رأيك موفقاً مسدداً، إن شاء الله".
11942- فإن عيّن شخصاً، فمات المعيَّن الذي إليه الكتاب، لم يضر، ولم يؤثر في الواقعة، ورُفع الكتاب إلى غيره، كما ذكرناه في القسم الأول.
فإن قيل: إن استقام في القسم الأول ما ذكرتموه، فقولكم تمّ القضاء، ولم تبق منه عُلقة، فهذا المعنى لا يتحقق إذا فَوَّض القضاء؟
قلنا: ما فعله إن كان حكماً، فيجب على حكام الأرض متابعتُه على وفق الشرع، وإن كان ذلك نقلاً للشهادة، فالشهادة تنقل إلى كل قاضٍ، ولا معنى للتخصيص إذا كانت الحالة هذه.
وما تشتمل عليه الكتب من التخصيص إقامة الرسوم. فهي غيرُ ضائرة، ولا قادحة، والدليل عليه أن التخصيص إنما يتخيّل من تولية واستنابة، وليس لهذا القاضي أن يولّيَ أحداً في غير مكان ولايته، ولا أن يستنيب بحكم الولاية. وقد غلط أبو حنيفة-رضوان الله عليه وأرضاه- لما قال في نقل البينة إذا عيّن قاضياً، تعيّن، فلا يعرض الكتاب على غيره، ولو عُرض على غيره، لم يعمل به، وقال: إن أراد الخصم في ذلك تعميماً، فليكن في الكتاب " كتابي هذا إلى فلان القاضي، وإلى من يبلغه كتابي من قضاة المسلمين".
وهذا زلل بيّن، اقتضاه اعتقادُ الكتاب تفويضاً، أو تولية واستنابة، وذلك محال. وإذا انتجز الرجل كتاباً من حاكم مرو إلى حاكم نيسابور، فبدا لشهود الكتاب أن يقيموا بسَرَخْس، أو ينعطفوا إلى مرو، فالمدعي بالخيار: إن شاء أشهد على شهاتهم جماعة يصحبونه في الطريق إلى نيسابور، وإن شاء أوصل الكتاب إلى حاكم سرخس، واستدعى منه القضاء بالبيّنة المنقولة إليه، ثم ينتجز كتاباً منه إلى قاضي نيسابور. وهذا بعد تمهيد الأصول واضح.
وقد ذكرنا أن الكتاب لا معول عليه، وإنما التعويل على قول شاهدي الكتاب، فليقع الاعتناء بهما وبشهاتهما وذكرهما.
11943- ومما يتصل بهذا المنتهى أن المدعي إذا نقل البينة، وقد حكم القاضي الكاتب بالتعديل، فلو قال الخصم عند الانتهاء إليه: شاهدا الأصل مجروحان، قلنا: أَبِنْ جرحَهما بشاهدين، فالقاضي الكاتب عدّل بناء على ظاهر الحال، وسوّغ لكل من يطلع على جرح أن يثبته، فافعل، وإن استمهل في ذلك، فقد نمهله ثلاثة أيام. وسنذكر أصلاً لهذا في نظائر هذا.
فإن قال: أتمكن من جرح الشهود إذا وردتُ البلدةَ التي بها القاضي الكاتب، وقد يُبدي في ذلك عذراً مُخيلاً؛ فإن أهل تلك الناحية أخبرُ ببواطن شهودها. فإن قال ذلك، لم يبالَ به؛ فإن الأمر يطول لو فعلنا هذا، والظن بالقاضي أنه لم يألُ جهداً ولم يقصر، ولو أمهلنا الخصم، لبطل أثر القضاء على الغائب. نعم، يقضي عليه المكتوب إليه، ويُلزمه الخروج عن عهدة الدعوى، ثم إن أمكنه إبداء جرحٍ إذا رجع إلى بلده، فليفعل.
11944- ومن لطيف ما ينبه عليه-وهو ختام هذا الفصل- أن القاضي إذا قضى بشهادة شاهدين على حاضر، ثم تبيّن أن الشاهدين كانا فاسقين حالة القضاء، ففي نقض القضاء قولان، سيأتي شرحهما، إن شاء الله.
وإذا كان القضاء على غائب، فلو تبين كونُ الشاهدين مجروحين حالة القضاء، فلا خلاف في نقض القضاء، فإنا لو لم نقل ذلك، لجرّ هذا حَيْفاً على الغائب المقضي عليه.
وإذا كان المقضي عليه حاضراً، فهو المقصر لما لم يبحث.
وقد نجز القول في قسمٍ واحد من الدعوى المتعلقة بالغائب، وهو تفصيل القول في دعوى مالٍ في الذمة.
11945- فأما إذا ادعى عيناً غائبة على غائب، فتلك العين لا تخلو إما أن تكون عقاراً أو منقولاً، فإن كان المدعى عقاراً، فقد أجمع الأصحاب على تصحيح الدعوى، ثم شرطوا المبالغة في الوصف، وذلك هيّن في العقار، وهو بذكر المَحِلة من البلدة، وذكر السِّكّة منها، فيذكر موقعَ الدار من السِّكة، وأنها الدارُ الأولى، أو غيرها، على يمين الداخل، أو على يساره، أو في صدر السكة، إن لم تكن نافذة، ثم التعرض للحدود، وينتهي الأمر إلى غايةٍ تفيد اليقين في التعيين.
فإن ادعى داراً كذلك في يد غاصب، وزعم أنه اغتصبها منه، وأقام البينة على ما يليق بموافقة دعواه، كما سيأتي شرح ذلك كلّه في مواضعها، إن شاء الله، فإذا صحت الدعوى كذلك، وقامت البيّنة على الوصف والتحديد، فإن استدعى المدعي القضاء بالبيّنة، أسعفه القاضي إذا صحت البينة، وقضى بالعين الغائبة، وكتب الكتاب على حسب ذلك.
فإن قيل: كيف يقضي ببقعة ليست في محل ولايته؟ قلنا: هذا غفلة عن القضاء، فلئن كان يقضي على رجل ليس في ولايته، فليقض ببقعة ليست في محل ولايته.
وعن هذا قال العلماء بحقائق للقضاء، وقضاء حاكم قريةٍ ينفذ قضاؤه في دائرة الآفاق، ويقضي على أهل الدنيا، ثم إذا ساغ القضاء على غائب، فالقضاء بالدار الغائبة قضاء على الغائب، والدار مقضي بها.
ثم سرّ هذا الفصل أن الكتاب إذا انتهى إلى البلدة التي بها العقار، فالغالب أن الشهود على الدار لا يصحبون الكتابَ وإنما يصحب الكتابَ شهودُ الكتاب. فلو قال الخصم: لا تزيلوا يدي من غير إشارة إلى الدار، قلنا: يقين التعيين كالإشارة، فكأن الشهود على بُعْد الدار أشاروا إلى الدار، وهذا واضح بيّن.
1946- فأما إذا كان المدعى منقولاً، فلا يخلو: إما أن يكون مملوكاً، أو غيره من العروض، فإن كان المدعى عبداً أو أمة، ففي سماع البيّنة بالنعت والصفة والحلية قولان:
أحدهما: أنها لا تُسمع؛ فإن الضبط في ذلك عسير، ومعتمد الشهود الإشارة في المنقولات، وليس ذلك كالعقار الذي يدرك فيه يقين التعيين. والقول الثاني- أن الشهادة تسمع بناء على نهاية الإعلام، كما سنصفه، إن شاء الله؛ لأن القضاء على الغائب وبالغائب مستند إلى الحاجة، وإلى إفضاء الامتناع عن القضاء إلى تعطيل الحقوق، وهذا مما يستوي فيه المنقول والعقار.
التفريع:
11947- إن حكمنا أن البينة مسموعة، فعمادها غاية الوصف؛ فينبغي أن ينتهي الوصف إلى مبلغٍ يحصل التمييز به، ويبعُد التوافق معه، وذلك في الغالب يحصل بنهاية الوصف، وذكر الشامة والعلامة-إن كانت- عظيمُ الغَناء في ذلك.
ولم نر الاكتفاء بذكر أوصاف السَّلم والمدَّعى عينٌ، وإنما يُكتفى بأوصاف السلم إذا كان المدعى ديناً؛ فإنه لا تمييز في الديون، ومقصود التمييز في الأعيان يخالف مقصودَ الإعلام في السلم؛ فإن الإعلام في السلم إذا أَفرط وتناهى، فقد ينتهى إلى عِزّة الوجود، وذلك ممتنعٌ في السلم؛ فإن شرط الموصوف في السلم أن يكون على حدٍّ لا يعجز وجود أمثاله في العادة، ومن ضرورة ذلك تركُ الإطناب؛ فإن الوصف عند أهل المعرفة معناه التخصيص، فإذا قلت " رجل " شاع هذا في جنس الرجال، وإذا قلت " طويل " اقتضى ذلك تخصيصاً، فلا تزال تزيدُ وصفاً ليزداد الموصوف اختصاصاً، وكلما يزيد الوصف قلّ الموصوف. والغرض من وصف العبد المدعى الوصول إلى تعيين شخص من بين جنس، فالعماد إذاً الإعلام الذي أوضحناه.
ثم إذا جوزنا سماعَ البينة بالعبد على الوصف الذي ذكرناه، فهل يجوز القضاء به وهو غائب؟ فعلى قولين:
أحدهما- يجوز القضاء، اعتماداً على الوصف، كما يجوز القضاء على الغائب تعويلاً على الإعلام.
والقول الثاني-وهو الأصح- أنه لا يجوز تنفيذ القضاء به في الغَيْبة؛ فإن التمييز لا يكاد يتحقق، وليس كالمقضِيِّ عليه، فإن عماد تميزه النسبُ والارتفاعُ فيه، وهذا غير متصور في العبد، والوصف لا يبلغ مبلغاً يفيد التعيين.
التفريع:
11948- إن قلنا: لا يجوز القضاء به، والبينة مسموعة على الوصف والحلية، فكيف الطريق؟ وما وجه الوصول إلى الغرض؟ القول المشهور أن المدعي أو وكيله ينقل الكتاب مع شهود الكتاب، وهو مشتمل على أسماء شهود الأصل، والأوصاف مذكورة على الاستقصاء، فإن صادف القاضي المكتوبُ إليه عبداً على صفات الكتاب في يد المدعى عليه، جاء بذلك العبد، وقال للمدعي: أهذا العبد الذي تدعيه؟ فإذا قال: نعم، لم يقضِ به، فإنا نفرع على أن القضاء لا يعتمد إبرامُه الوصفَ. ولو جاز إسنادُ الإبرام إلى الوصف، لقضى القاضي الكاتبُ بالوصف والعبدُ غائب، فإذا لم يقض الكاتبُ ولا المكتوبُ إليه، فكيف الطريق؟
ظاهر النص، حيث انتهى التفريع إليه، أن القاضي يختم على رقبة هذا العبد ليكون أمانة من الإبدال، ويسلّمه إلى المدعي، ويأخذ منه كفيلاً ببدنه-يعني بدن المدعي- إذا صححنا كفالة الأبدان. ثم إن المدعي يرفع ذلك العبد إلى البلد الذي به شهوده، فيستعيد القاضي شهاتهم على عين ذلك العبد، فإذا شهدوا، افتتح القضاء له بالملك فيه، ثم يبرأ المتكفِّل بالبدن.
وحاصل القول يؤول إلى أن سماع البيّنة على الوصف في ابتداء الأمر لا يسلط القاضيَ الكاتبَ على القضاء ولا المكتوبَ إليه، ولكن يفيد إيجابَ نقلِ العبد وإحضارِه.
ثم يترتب على ذلك كلِّه القضاءُ إن أشار الشهود إلى عين العبد، فلا فائدة في سماع البينة الأولى إلا النقلَ، كما ذكرناه. وما ذكرناه من الختمِ وأخذِ الكفيل احتياطٌ في الواقعة، فلو تركه القاضي المكتوبُ إليه، فترتيب القضاء ونظْمُه لا يختلف.
ولكن اختلف أئمتنا في أن المكتوب إليه هل يكون تاركاً واجباً، أم يكون تاركاً احتياطاًً مؤكداً مأموراً به من غير إيجاب؟ وهذا الاختلاف أجرَوْه في كفالة البدن، وإيجاب كفالة البدن ضعيف. هذا قول.
وفي المسألة قول آخر، وهو أن العبد لا يسلَّم إلى المدعي حتى يبتاعَه بثمنه-على تقدير أن الملك لو لم يثبت فيه، فيكون الثمن في ذمته، وهذا بيع مستند، ووقف عظيمٌ ظاهر، ولكن أجريناه احتياطاً للمدعَى عليه، ثم نأخذ منه كفيلاً بالثمن، وينقل هو العبدَ إلى مكان الشهود على الترتيب المقدَّم، فان أشار الشهود إليه، بان فساد العقد، وظهر أنه ملك المدعي، وبرىء من الثمن، وبرىء الضامن، وإن لم يشر الشهود، جرى البيع على اللزوم، وتوجهت الطّلبة عليه وعلى الضامن عنه بالثمن، فحصل في كيفية تسليم العبد إلى المدعي قولان، وقد ذهب إليهما علماء السلف.
وما ذكرناه في العبد.
11949- وأما إذا ادعى الرجل جارية فلا تسلّم الجارية إلى المدعي وإن رأينا تسليم العبد إليه؛ احتياطاًً للفرج، وهذا محتوم لا شك فيه- ولكن إن رأينا التسليم، فالوجه تسليمها إلى أمين في الرفقة.
وإن قيل: "قد يكون المدعي أميناً"، قلنا: لكنه يدعي الملك، وهو خصم، فلا سبيل إلى ائتمانه.
وما ذكرناه من ضمان الثمن على قول البيع واجب المراعاة مذهباًً واحداً، بخلاف كفالة البدن على القول الأول؛ فإن فيها التردد المتقدم.
11950- وقد حصل مما أجريناه قولان، أولاً- في سماع البينة، فإن لم يسمعها، فالدعوى لاغية؛ فإن الدعوى على الغائب لا حاصل لها إذا عسر إقامة البيّنة. ولنا على هذا انعطاف، نوضح فيه أمراً بِدْعاً هو سرّ الباب.
والقول الثاني- أن البيّنة مسموعة، فعلى هذا قولان في أن القضاء هل يجوز تنفيذه؟ فإن نفذناه، وصادفنا على وصف الكتاب عبداً في يد المدعى عليه متميزاً، سلمناه إلى المدعي ملكاً ظاهراً، وإن أرانا المدعى عليه على وصف الكتاب عبدين أو عبيداً، وقف القضاء، وقلنا للمدعي: ارجع وميّز. كما ذكرنا مثل ذلك في المدعى عليه إذا قضى القاضي الكاتبُ عليه.
وإن قلنا: لا ينفذ القضاء عليه، والبيّنة مسموعة، ففيما يفعل قولان ذكرناهما يجمعهما التوصل إلى إحضار العبد مكان الشهود، وفي كيفية ذلك القولان المذكوران، وكل ما ذكرناه في قسم المنقول مخصوص بالعبيد والإماء.
11951- فأما إذا كان المدعى عَرْضاً من العروض ادعاه بعينه، وبالغ في وصفه، فقد يفرض فيه ما لا يتصور تمييزه بالوصف أبداً، وهو كادعاء أَذْرُع من كِرباس، فلا مطمع في انتهاء الوصف إلى مبلغ إفادة التمييز، ولا يقع القضاء قط بالعين، ولا يتصور تكليف النقل إلى مكان الشهود؛ إذ لا كرباس إلا ويساويه كرباس على شيوع الوجود، فالقضاء بالعين مأيوس منه، إذا كانت الحالة هكذا، فلا يبقى وجه إلا أن يدعيَ الكرباسَ، ويصفَه، ويذكرَ قيمتَه، ويردَّ دعواه إليها، ويقع سماع البينة بحسب ذلك، والشهود يشهدون، ومعوّلهم القيمة، وإن أطنبوا في الوصف لا يتميز المدعَى، وإن كان يستحق في علم الله كرباساً معيناً، فهذا ملتبس لا وصول إليه، ولكن لا تعطيل.
فالوجه ربط الخصومة بالمالية، ثم ينفذ القضاء بالثوب المشهود به والغرض ماليته، فإذا أُبرم القضاء ونُقل الكتاب إلى مكان الخَصم، فالمدعي لا يمكنه أن يكلفه بحكم القضاء إحضار كرباسه؛ فإن القضاء يعتمد التعيين ولكنه يُلزم قيمةَ الثوب. وقد قال الأصحاب في هذا المقام: يتعين ذكر القيمة؛ فإنها عماد القضاء كما بيّنا.
فأما إذا ادعى عبداً، وجوزنا القضاءَ بعينه، أو سماعَ البينة، كما تفصّل من قبل، فقد ذكر بعض أصحابنا قيمة العبد في الإعلام، وهذا محتمل.
والأظهر عندنا أنه لا يشترط ذلك إعلاماً؛ فان القيمة لاضبط لها في هذه المنازل، إذا كان المطلوب ربطَ القضاء بعين.
11952- وهذا أوان الوفاء بالانعطاف على العبد حيث وعدنا، فإذا لم نر للقضاء بعين العبد وجهاً؛ ولم نجوز سماع البينة،. فقد قدمنا أن الدعوى لا معنى لها- وهذا فيه إذا أراد العينَ، فإن أراد أن لا تتعطل ماليته، فليعتمد قيمة العبد، ويربط دعواه بها، وإن وصف، فلا بأس، وتسمع الدعوى والبينة، وينفذ القضاء في المالية، كما ذكرنا في الكرباس.
ثم إذا كان المطلوب الماليةَ كما ذكرناه، فالاعتماد قطعاً على القيمة، والأوصاف إنما يذكرها المدعي وشهوده لترتبط الدعوى بالقيمة، فلو قال: غصب مني ثوباًً قيمته عشرة، وليس يبغي الوصول إلى عينه، فالظاهر قبول الدعوى على هذا الوجه، فإن قيل: دعوى مجهولة بمجهول؟ قلنا: لا، بل المدَّعَى القيمة-فهي العماد- وهي معلومة، ويترتب عند ذلك القول في القيمة.
أما العقار، فلا خلاف أنه لا يشترط فيه التعرض للقيمة؛ فإن المطلوب فيه العينُ، والوصول إلى التعيين ودركِ اليقين ممكن، وحيث لا مطمع في التعيين والتمييز، فالمعتمد القيمة، وإذا أثبتنا في العبد وما في معناه إمكانَ التمييز، وعوّلنا على الوصف، طمعاً في الوصول إلى العين، ففي ذكر القيمة وصفاً وإعلاماً خلاف، والأظهر عندنا أنه لا يشترط.
ثم ما ذكرناه في العبد والأمة لا يختص بهما، بل كل ما تعذّر تميّزه بالوصف، فالتفصيل المذكور في العبد جارٍ فيه، كما لو ادعى فرساً، فإن تمييزه بالأوصاف الكلية، ثم بالشِّيات الخفية مما يُطمع فيه، وهو أبعد قليلاً من العبد، لأن التشابه في البهائم أغلب منه في الآدمي.
فإذاً الأعيان الغائبة عقار، ولا خلاف في القضاء به، وعينٌ لا يطمع في تميزها، والدعوى فيها ترجع إلى المالية، ومنقولات يطمع في تميزها بالوصف، وفيها الخبط وازدحام الخلاف، ثم إن رأينا التمييز متعذراً في هذا القسم، رددناه إلى المالية المذكورة في القسم الذي لا تميّز فيه.
وقد انتجز الكلام في الدعوى على الغائب.
وكنا ذكرنا في صدر الباب أن الكلام يقع في القضاء على الغائب وسماعِ البيّنة عليه وفي الحاضر. وقد انتجزت مجامع الكلام وأصوله في حق الغائب.
11953- ونحن نذكر الآن الدعوى على الحاضر على مقدار غرضنا، ولسنا نلتزم بيان جميعِ أحكام الدعوى على الحاضر؛ فإنا لو التزمنا ذلك، لذكرنا كتاب الدعاوي.
وقد يلزمنا الآن شيئان:
أحدهما: الكلام في حاضر في البلد غائبٍ عن مجلس القضاء، والآخر- بيان القول فيه إذا كان المدعى عليه حاضراً مجلس القضاء، ولكن المدعى عينٌ غائبة عن مجلس القضاء.
فأما التفصيل في القضاء على الغائب عن مجلس القضاء مع الحضور في البلدة-فقد قال الأصحاب إن غيّب وجهه وتوارى، أو تعزز وامتنع، وعسُر إحضاره، نفذ القضاء عليه حَسَب نفوذه على الغائب، وهذا يجب أن يكون متفقاً عليه.
فأمّا إذا لم يتعذر إحضاره، فهل يجوز سماع الدعوى عليه قبل حضوره، ثم سماع البينة؟ فعلى وجهين مشهورين ذكرهما الصيدلاني وغيره:
أحدهما: أنه لا يجوز، ويتعين إحضاره وإقامةُ الشهادة في وجهه إن أمكن؛ فإنا وإن كنا لا نرى الإنكار عماداً وركناً في سماع البينة، فالغرض من الإحضار توقع الإقرار، وحقٌّ على القاضي أن يسلك أقرب الطرق وأَقْصدَها في فصل القضاء، والسبب فيه أنه لو طوّل، فقد يكون مؤخِّراً حقَّ مستحقٍّ مع القدرة على تعجيله، وهذا لا سبيل إليه.
ثم هذا القائل يرد سماع البينة والدعوى؛ فإن كل ما يتعلق بعكس الترتيب المستحق في الخصومات آنذاك يُخرج البينة عن أن تكون مسموعة.
والوجه الثاني- أن الدعوى مسموعة، والبينة مسموعة؛ فإن المدعى عليه إذا تعين وتميز، كفى، والبينة بيان، والمدعى عليه بيْن أن يقرّ أو ينكر حضر أو غاب.
التفريع:
11954- إن رددنا الدعوى والبينة، فليس إلا الإعداءُ على الخصم عند السلطان وإحضارُه مجلسَ الحكم، ثم الخصومة تقام في وجهه.
وإن حكمنا بسماع البينة مع القدرة على الإحضار، فالمذهب الذي يجب القطع به أن القضاء عليه لا يجوز؛ فإنه قد يعرف مطعناً في البينة يمنع به نفوذَ القضاء وهو حاضر، فالهجوم على تنفيذ القضاء محال؛ فإن القضاء يقع وراء كل احتياط ممكن، وليس هذا كالقضاء على الغائب؛ فإن حضوره غيرُ حاصل، ومراجعته في مطعن إن كان يعرفه غيرُ ممكنة، والحاجة ماسة، فنفذ القضاء، والمقضي عليه على حقه في التتبع إذا وجد مطعناً. هذا ما قطع به الصيدلاني، وهو الحق عندنا.
ومن أصحابنا من جوّز القضاء على الحاضر الغائب عن مجلس الحكم؛ طرداً لقياس ظاهر في أن من تُسمع البينة عليه يجوز القضاء عليه، وهذا غفلة عن مسالك القضاء.
ولو أحضر المدعي خصمَه مجلسَ الحكم، فهل يجوز سماع البينة عليه من غير مراجعته؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما الصيدلاني وغيره. ثم قال الأئمة: هذه الصورة أولى بامتناع سماع البينة، والفرق لائح.
قال الصيدلاني: في هذه المسألة والتي تقدمت-وهي إذا كان في البلد، ولم يحضر مجلس القضاء مع القدرة على إحضاره- ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن البينة لا تسمع ما لم يراجع الخصم؛ فإن أقر، فذاك، وإن أنكر أو سكت، قامت البينة عليه.
والوجه الثاني- أن البينةَ مسموعة من غير مراجعة في المسألتين.
والوجه الثالث: أنا نفصل بين الصورتين، كما أشرنا إليه.
ثم يبعد كل البعد إذا جوّزنا سماع البينة على الحاضر من غير مراجعته، أن يقضي عليه من حيث لا يشعر.
هذا غرضنا في الحضور والغيبة في المدعَى عليه.
11955- فأما القول في المدعى، فإن كان شيئاً في الذمة، فلا يخفى إعلامه، وإن كان يدعي على خصمه عيناً غصباً، أو وديعة، أو عارية، فهذا ينقسم إلى العقار وغيره، على حسب ما ذكرناه في أقسام الكلام في الغائب.
فإن كان المدعى عقاراً، فالدعوى مسموعة، والاعتماد على الوصف والتحديد، وقد ذكرنا إمكانه، بل انتهاءه إلى اليقين، فإذا قامت بينة على دار معلومة من سكّة معلومة، فلم يبق في الإعلام شيء، ثم ينفذ القضاء بالدار من غير إشارة إليها، إذا استمكن الشهود من البيان التام، الذي لا يبقى معه لَبْس.
وإن قال شهود المدعي: لسنا نستقلّ بحدود الدار، ولكنا نشير إليها، أو إلى الأرض-إن كان المدعى أرضاً- فلا بد-والحالة هذه- من التعيين في الشهادة.
ثم إن حضر القاضي بنفسه، سمع الشهادة مع الإشارة والتعيين، وإن استخلف خليفة ليحضر البقعة، ويسمع الشهادة، جاز.
وسأفصل القول في خلفاء القضاة، ومنازلِهم، وصفاتِهم بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
ثم من تمام البيان في ذلك أن المدعي إن وصف العقار وحدَّه في دعواه، وامتنع الشهود من ذكر الحدود، صحت الدعوى، ثم إذا وافق تعيينُ الشهود المدعى المحدود، حصل الغرض، وإن لم يستتم المدعي ذكر الحدود، وإعلام المدعى، فدعواه مجهولة، والدعوى المجهولة لا تسمع، ولا تعطيل في هذا، فليتعرف الحدود؛ فإنّ تعرُّفَها سهلٌ إذا كان المدعى حاضراً بالقرب. هذا قولنا في العقار.
11956- فأما ما عداه من الأعيان المنقولة، فهي تنقسم حسب أقسامها في الغائب، فإن ذكر عبداً حاضراً في البلد، وادعاه على الوصف، فالذي نقدمه أنا على القول البعيد في الغائب إذا جوّزنا القضاء بالعبد الغائب-وهو قول ضعيف- أو جوّزنا سماع البينة على الوصف، على قولٍ ظاهر، فإذا كان العبد حاضراً، وأمكن إحضاره، فلا يجوز سماع البينة بالوصف أصلاً، وليس كسماع البينة على الخصم الحاضر في البلد قبل أن يحضر مجلس القضاء؛ لأن سماع البينة على الشخص مرتبط بعلم وتحقق، بخلاف العبد.
وأنا أقول وراء ذلك: إنما يسمع القاضي البينة على الحاضر في البلد إذا كان يعرفه ويتعيّن له، فإن لم يكن كذلك، لم يسمع، بخلاف البينة على الغائب؛ فإن القاضي يسمع البينة على الغائب، وإن كانت نهايات التسمية والتَّحْلية لا تُعرِّفه عنده؛ لأن المعتمد الأظهر في الغائب تمييز المقضي عليه في مكانه عند إيصال الكتاب، وهذا في الحاضر في البلد لا يتحقق. نعم، لو تعيّن العبد المدعى للقاضي، فيجوز سماعُ البينةِ عليه-وإن لم يكن حاضراً في مجلس القضاء- وجهاً واحداً.
والفقه فيه أن الخصم المتعيَّن إذا لم يحضر لسماع البينة، لم يمتنع لجهالة، وإنما امتنع لترك المسلك الأقرب، وهذا لا يتحقق في العبد المعين الذي يعرفه القاضي والشهود، وليس يبعد اشتراط الحضور فيه أيضاً؛ فإن الإشارة أوجز من الوصف، وأنفى للتهمة، فإذا كنا لا نسمع البينة بالوصف على عبدٍ لم يتعين للقاضي-وغمرة الإشكال من هذا الموضع- فإن الدعوى على الوصف مسموعة لا محالة؛ إذ لو لم نسمعها، ما قامت الخصومة، ثم ينبغي أن تكون معلومة على الحد الذي يتأتى الإعلام فيه، ثم يقول القاضي للخصم: ماذا تقول؟ فإن زعم أن العبد الذي ادعاه في يدي وهو مِلكي، فالقاضي يلزمه إحضاره حتى يسمع البينة على عينه إشارة إليه، فإن قيل: هذا تكليفه تصرفاً فيما هو ملكه في الظاهر. قلنا: ليكن كذلك، فليس تكليفه إحضارَ العبد بأبعدَ من تكليفه الحضور بنفسه، وقد يكون المدعي مبطلاً.
هذا إذا قال: هذا الموصوف في يدي، ولو قال: هذا الذي وصفه ما ثبتت عليه يدي، فلا يمكننا أن نكلفه إحضاراً، فعند ذلك نقول للمدعي: إن كنت تبغي العبد، فأثبت بالحجة كون هذا الموصوف في يده.
ثم للمدعي مسلكان:
أحدهما: أن يقيم بينة على أن هذا العبد الموصوف رأيناه في يده، ثم هذا يحصل على وجهين:
أحدهما: أن يشهد شهود المدعي بذلك أيضاً، كما يشهدا بالملك له. والآخر- أن يشهد شاهدان على وجدان ذلك العبد في يده، ولا علم عندهما بملك المدعي، فإن كان كما صورناه آخراً، فيثبت كون العبد الموصوف في يد المدعى عليه على الجملة وهذا القدرُ كافٍ في أن يقال له: أحضر هذا الموصوف ليعرف أن شهود الملك هل يشيرون إليه أم لا؟ وإن تعرض شهود الملك لذلك، لم تفد شهاتهم في الحال إثبات ملك المدعي، ولكنها تفيد تكليفَه الإحضارَ.
ثم الشهادة المثبتة للملك تنشأ مقيّدةً بالإشارة. هذا مسلك واحد.
والمسلك الآخر- ألا تكون له بينة على كون عبدٍ على الصفات المذكورة في يده، ففال: أحلّف المدعى عليه أن يده لم تثبت على عبد على هذا الوصف، فإن حلف، فذاك. وإن نكل؛ حلف المدعي وألزمه القاضي أن يحضره، فإن امتنع حبسه ليُحضر العبد الموصوف.
وفي الكلام بقايا، وتمام البيان عند نجاز الفصل.
11957- هذا إذا كان المدعى مما يمكن تمييزه بالوصف.
فإن لم يكن كأذرع من كرباس- فلو قال المدعي لي في يد هذا عشرة أذرع من الكرباس، وأطنب في الوصف، فلا وصول إلى التمييز، ولا معنى لتكليف الخصم إحضارَ كرباس؛ فإنه لو قال: في يدي ألفُ ذراع من الجنس الذي ذكرتُه، فليُحضِر منها أتمها، فهذا قسم لا يتصور فيه الوصول إلى العين، ولا يكلّفُ إحضار العين، إلا أن يصادف المدعي عيناً في يد المدعى عليه فيدّعيها. هذا تفصيل بالغ.
1958- والبيان بعدُ موقوف على معرفة شيئين:
أحدهما: أنا حيث نُلزم الخصم إحضار العين، ونحبسه لو امتنع، فقد يختلج في نفس الفقيه أن تلك العين ربما كانت تالفة، والجواب عن هذا سهل؛ فإن أمثال هذه الأمور تبنى على استصحاب البقاء، وعليه يتصرف الوكيل على ألف فرسخ من موكله، إلى غير هذا، مما يتسع الكلام فيه، فإن عظم وقع دوام الحبس على المحبوس، فالبينة لا تكذَّب، فإن كانت تلفت العين، فلينجُ بدعوى تلفها؛ فإن قوله مقبول في هذا.
والفصل الثاني- أن المدعي إذا عسر عليه استحضارُ العين؛ بأن لا يجد بيّنة على كونها في يد المدعى عليه، ولما حلّفه، حلف، فسبيله أن يرد الدعوى إلى المالية إذا استشعر ذلك منه؛ فإن المالية ترجع إلى قياس ضمان الذمم، فتبقى مرتَبَطه في الحق على ما ذكرنا.
ولو كان المدعي على تردُّدٍ في أن تلك العين في يد المدعى عليه أم فاتت في يده، فلو قال: أدعي عليه عيناً صفتها كذا أو قيمتها إن فاتت في يده، فقد اختلف الأصحاب في أن الدعوى هل تُسمع كذلك؟ فقال القيّاسون لا تسمع الدعوى على هذا الوجه؛ فإنها مترددة غير مجزومة.
وقال قائلون: الدعوى تسمع كذلك؛ فإن الحالة ربما تكون كذلك. قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى ورأَوْا في سماعها مصلحة.
ثم إن سمعنا الدعوى على هذا الوجه، فلا كلام، وإن لم نسمعها، فالوجه رد الدعوى إلى المالية، كما وصفناها، ثم البيّنة لا تسمع على الوصف في هذا النوع، فإذا كانت الدعوى مالية سُمعت، فيصف الشهود ويذكرون القيمة، وتتوجه الطلبة بمالية المدعى.
وهذا أقصى ما في الوسع من بيان هذا الفصل.
11959- ومن الأمور البينة التي يجب أن لا يُغفَل عنها، أنا إذا كلفنا المدعى عليه إحضار العين، فالتزم مؤونة إحضارها، فإن ثبت استحقاق المدعي، فالمؤونة على المُحضر، وإن لم يثبت استحقاق المدعي، فقد قال الأصحاب: يُغرّم المدعي مؤونة النقل، ومؤونة الرد إلى المكان الذي كان المتاع فيه.
وهذا فيه أدنى نظر يَقْدُمُه شيء، وهو أن الخصم المستحضَر قد يناله كدٌّ في الحضور، وربما ينقطع به عملٌ مقابَلٌ بأجر، فهل نقول: إذا بان كونُ المدعي مبطلاً، يلتزم المستحضِر أجره؟ الذي نراه أنه لا يلتزم بهذا؛ فإن الغالب في استحضاره حقُّ القاضي، والدليل عليه أنه يستحضره من غير ثبوت حق عليه، هذا ما يجب القطع به؛ فإن مراتب الولايات لا تستتب إلا باحتمال أمثال هذا.
فإذا بانت هذه المقدمة، فلست أبعد أن يكون إحضارُ المال منها؛ فإنها متعلقة بالإيالة وأسباب الولاية. وهذا الاحتمال حسن بالغ، ولا آمن أن يكون التسامح في إحضار الخصم لقرب الزمان الذي لا يكون لمثله حظٌّ من الأجرة، وإن كان، فنزرٌ لا يحتفل به، وأقصى ما عَلَيَّ البينة والآراء السديدة، تشترك في النظر، والله المستعان.
وقد كمل الغرض والبيان بعون الله وتوفيقه، وشذت مسائلُ وفصولٌ عن ضبط الأصول، ونحن نتداركها إن شاء الله، فنرسم المسائل فروعاً، ونعقد فيما يَتَفَصَّل فصولاً.
فصل:
11960- كل حق تقبل فيه الشهادة على الشهادة يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، والأموال بجملتها كذلك.
وما يختلف القول في قبول الشهادة على الشهادة فيه، فكتاب القاضي إلى القاضي يجري فيه على مثل ذلك الاختلاف، ففي القصاص قولان؛ وفي حدود الله قولان مرتبان، وسيأتي شرح ذلك في موضعه من كتاب الشهادات، إن شاء الله.
والأصحاب شبّهوا شيئاً بشيء، وعندي أن كتاب القاضي إلى القاضي ليس مشبهاً بالشهادة على الشهادة، بل هو عينها؛ فإن القضاء إذا كان مبرماً، فقول القاضي بمثابة الأصل، وشهود الكتاب فروعه. وإن سمع القاضي بينة، ولم يقض بها، فهذا بعينه نقل البيّنة.
فصل:
11961- قد ذكرنا التفصيل في نصب قاضيين في شِقَّين من البلدة، ولو فرض نصب قاضيين في جميع البلدة بحيث ينفذ قضاء كل واحد منهما في البلدة بكمالها، ففي جواز ذلك وجهان- ذكرهما الشيخ أبو علي والقاضي:
أحدهما: أن ذلك يجوز؛ فإن المحذور فيه اجتماع ولايتين وذلك متحقق في كل بلدة بها قاضي. فإن ولاية الإمام نافذة فيها مع ولايته.
والوجه الثاني- أن ذلك ممتنع، لأنه يؤدي إلى تخيُّر الخصوم والتجاذب في الارتفاع إلى المجلسين إذا دُعي خصم من جهة القاضيين، ويغلب اختلافهما في الحُكمين؛ فيجر هذا نزاعاً دائماً، والمقصود من القضاء قطع النزاع. فان جوّزنا ذلك، فإذا سبق داعٍ من أحد المجلسين، فهو المجاب. وإن توافى الداعيان، فليس أحدهما بالإجابة أولى من الثاني، فلا وإلا الإقراع، والجريان على موجب خروج القرعة.
والذي أراه أنه إذا كان الإمام قي البلدة، وبها القاضي المرتب، فالمقدم داعي الإمام.
وإذا منعنا اجتماع ولايتين-كما قدمنا- فلا يمتنع هذا، لما أشرنا إليه من تقديم الإمام عند تصور التوافي من الداعيين، وكذلك القول في القاضي وخليفته، كما سنذكر تفصيلَ الخلفاء ومنازلَهم، إن شاء الله.
وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا كان كل واحد من القاضيين نافذَ الحكم على الاستقلال.
فأما إذا نَصب من إليه الأمر قاضيين على ألا ينفرد كل واحد منهما بالقضاء ما لم يوافقه الثاني، فهذا مردود؛ فلا مساغ له؛ فإن اختلاف المجتهدَيْن مطرد غالباً؛ فإذا كان لا ينفرد أحدهما بالقضاء أدّى هذا إلى توقف الخصومات وحيرةِ الخصوم، وأيضاً فإن تكليف المجتهد بعد تمام اجتهاده أن يقف أمره على رأي غيره محال لا وجه له.
قال صاحب التقريب: إذا نصب من إليه الأمر قاضيين، ولم يصرح بأن كل واحد منهما يستقل بالقضاء أو يراجع صاحبه، فمطلق التولية يقتضي انفراد كل واحد منهما بالقضاء.
ولو نصب المريض وصيّين وأطلق نصبهما، فمطلق نصبهما يقتضي ألا ينفرد واحد منهما بأمر دون صاحبه، وفرّقَ بأن قال: نَصْبُ الوصيين كذلك مع التصريح بتوافقهما جائز، فمطلق نصبهما يقتضي ارتباط أمرِ أحدهما بالثاني، ولا يجوز التصريح بنصب قاضيين على اشتراط توافقهما، فالمطلق محمول على ما يجوز، وهو الاستقلال.
ومن أصحابنا من قال: إطلاق توصية رجلين يقتضي انفراد كل واحد منهما بالأمر، وإنما يراجع أحدهما صاحبه إذا تقيدت الوصاية باشتراط ذلك، وهذا لا أصل له، ولا اعتداد به.
ومن أصحابنا من قال: نَصْبُ قاضيين في بلدة يقتضي ارتباط أمر أحدهما بالثاني، والتوليةُ على الفساد، ما لم تُقيَّد بانفراد كل واحد منهما بالأمر.
وهذا الوجه في هذا النسق أمثل مما ذكرناه في الوصاية.
فصل:
11962- إذا استحضر الرجلُ خصماً مجلسَ القضاء، فيجوز له أن يأبى عليه إن لم يعرف له حقاًً، فإن عرف له حقاً، فعليه توْفيتُه، ولا يلزمه حضورُ المجلس. هذا إذا كان المستحضِر الخصمَ نفسَه.
وإذا استدعى الخصمُ من القاضي أن يستحضر الخصمَ له، أجابه القاضي، وأمر صاحبَه بالحضور، وإذا دعاه القاضي، وجبت عليه الإجابة، سواء كان عليه حق أو لم يكن. والقاضي يُعدي عليه ولا يُشترط في الإعداء أن يُثبت الخصمُ حقَّه، فإنا قد نقول: إذا كان حاضراً، فلا سبيل إلى إثبات الحق قبل حضوره مجلس القضاء، فلو توقف إحضاره على ثبوت الحق، وتوقف ثبوت الحق على إحضاره، فكان ذلك دائرةً سادّةً بابَ إثبات الحقوق.
ثم إنما يُعدي القاضي على الخصم إذا كان ذلك على مسافة العَدْوَى، وهي أن يكون بمكان لو انطلق الرسول إليه بُكْرة، لأمكنه الذهاب والرجوع إلى منزله قبل أن يجنّ الليل، هذه مسافة العَدْوَى.
فإن كانت المسافة أبعدَ من ذلك، فلا يخلو إما أن يكون الخصم في موضع به قاضٍ أو لا يكون في الناحية التي هو بها قاضٍ، فإن كان ثَمَّ قاضٍ فيكتب إليه بما يقتضيه الحال، على ما فصّلنا القول في كتاب القاضي إلى القاضي، وإن لم يكن ثَمَّ قاضٍ، وكان ذلك المكان من ولاية القاضي، فالقاضي لا يُعدي عليه، ولا يستحضره أصلا من غير بيّنةٍ يقيمها الخصم؛ فإن المسافة إذا بعدت، عظم الإحضار من غير ثَبَت، وإذا أقام البينةَ، فإن أراد القضاء، قضى، وإن تعذر استيفاء الحق دون حضور الخصم، استحضره بعد قيام البينة من المسافة الزائدة على مسافة العدوى، وإن بعدت تلك المسافة، وبلغت مسافة القصر وكانت من ولاية القاضي؛ فإنه يُحضره ولا يبالي به.
والغرض مما ذكرناه أن القاضي يعدي في مسافة العدوى، من غير حُجة، فإذا زادت المسافة، فلا إعداء من غير حُجّة، وما ذكرناه متفق عليه ذكره العراقيون وغيرُهم.
ومما يجب التنبه له إذا كان في جانب من ولاية القاضي ناحيةٌ آهلة، فلا يجوز له إخلاؤها عن مُستخلَف، وذلك بأن يقيم بالقرب منها حاكماً بحيث يقع بين المستخلفين أو بين المستخلَف والقاضي مسافةُ العدوى.
فرع:
11963- إذا أقام الرجل بيّنته على خصمه الغائب، وجرى القضاء بها على الشرط المقدم، ووجد القاضي للغائبِ مالا في بلد القضاء، فإذا استدعى الخصم تأدية حقه من ذلك المال، لزمه إسعافُه به. وهل يتعين عليه أن يأخذ منه كفيلاً بذلك المال؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: فَعَل ذلك لتقدير عود الخصم واستمكانه من مدفع.
والوجه الثاني- أنه يستدعي منه كفيلاً، فإن أبى، لم يلزمه؛ فإن القضاء قد نفذ، وتوقع النقض والاستدراك يتطرق إلى كل قضاء، فلا معنى لإيجاب الكفيل والضمين.
فرع:
11964- إذا أقيمت بيّنة في مجلس القاضي، فغاب القاضي قبل القضاء بها، وخرج عن مكان ولايته، ثم عاد، فهل يبني القضاءَ على البيّنة التي سمعها، أم يستعيد البينة؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه لا يستعيد؛ فإن الولاية كانت ثابتة له، وخروجه عن مكان ولايته لش بمثابة انعزاله. والوجه الثاني- أنه يستعيد، كما لو عُزل ووُلِّي ثانياً.
ولا خلاف أن الأمر لو كان كذلك، لاستعاد البينة، واستجد سماعاً جديداً، كذلك إذا خرج من مكان ولايته، فقد انتهى إلى حالة لو أراد الحكم فيها لم يتمكن، وفي المسألة احتمال على الجملة.
فرع:
11965- إذا كان في مكان ولاية القاضي مالٌ ليتيم، وكان ذلك اليتيم غائباً خارجاً عن مكان ولاية هذا القاضي، فلو أراد القاضي أن ينصب قيّماً، وهذا المال الموجود في مكان ولايته، فكيف حكمه؟ تردد القاضي في هذه المسألة، وقال: لست أبت فيها جواباً؛ فإنا لو جوّزنا نصب قيّم في هذا المال، فصار اليتيم مَوْليّاً عليه، وليس ذلك اليتيم في مكان ولاية هذا القاضي، فكيف يُدرجه ولايةَ نفسه؟ هذا وجه.
ويجوز أن يقال: يملك هذا؛ فإنه يتصرف في مال الغُيّب المُطْلَقين؛ نظراً لهم، واستصلاحاً لأموالهم، وإن كان الغائب الخارج عن محل ولاية هذا القاضي ليس موليّاً عليه من جهة هذا القاضي.
هكذا قال رضي الله عنه.
والوجه عندنا أن يقال: النوع الذي يملكه القاضي من التصرف في مال الغُيَّب يجب أن يملكه في مال اليتيم؛ فإن خروج اليتيم عن ولايته كخروج الغائب المطلق، وتصرف القاضي في مال الغائب لا يسلّطه على بيعه في طلب الغبطة، وإنما يتصرف فيه إذا أشرف على الهلاك، وقد قدّمت في ذلك كلاماً بالغاً؛ ولعلي أعيد فيه تقريراً من بعدُ، فأما نصب قيّم في مال اليتيم ليتصرفَ فيه تصرف القَوَّام في الاستصلاح وتزكيةِ المال، فهذا زائد على ما ذكرناه من التصرف في مال الغائب، وفي هذا الزائد تردَّدَ القاضي، وهو لعمري محتمل.
فرع:
11966- لصاحب الأمر أن يولّي القضاء على الخصوص، بأن ينصب قاضياً في الأموال، وقاضياً في تزويج الأيامى، وله أن ينصب قاضياً في الرجال، وقاضياًً آخر في النساء، وإذا اختصم رجل وامرأة لم يفصل واحد منهما الخصومة، ولابد من ثالث يولّى القضاء بين الرجال والنساء، وهذا مُعْترِضٌ، وموضع الاستقصاء بعد باب القسام، وعنده نذكر هذه القضايا في أحكام القضاة والمستخلَفين، والله المستعان.