فصل: فصل: يجمع قواعد القول في نذر الضحايا، وتعيين البهائم لها، وما يتعلق بأحكام التعيين والنذر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يجمع قواعد القول في نذر الضحايا، وتعيين البهائم لها، وما يتعلق بأحكام التعيين والنذر:

11610- فنقول أولاً: الضحيةُ ملتزَمة بالنذر، والقول فيها كالقول في كل منذور ملتزم، فإن جرى النذر فيه تبرّراً، ثبت، ولزم، وإن كان النذر مطلقاً غيرَ معلق بطلب نعمة، أو دفع مضرة، ففي المسألة قولان، كما سيأتي ذكرهما في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
ثم أول ما نصدر الفصل به أن نقول: إذا ابتدر الرجل، وقال: جعلت هذه الشاة ضحية، صارت ضحية بهذه الصيغة التي تضمنت تعييناً محضاً، وما أشعرت بالتزام في الذمة. وهذا متفق عليه. ثم ليس تعيينها مما يتصور الانفكاك عنه، حتى يسوغ للمعيِّن أن يخرجها عن قضية الضحية، وشبه الأئمة تعيين الشاة للتضحية بتوجيه العتق تنجيزاً على العبد، وتشبيه التعيين للتضحية بتعيين الشيء للحبس والوقفِ أقرب؛ فإن الضحية لا تخرج عن المالية-وإن تعيّنت- كالعين المحبسة، والعبد الذي وجّه مالكُه العتقَ عليه يخرج عن المالية بالكلية.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بشاة، فالتزم في الذمة، لزمه الوفاء بالنذر، على التفصيل الذي أشرنا إليه، فلو قال: عيّنتُ هذه الشاة لنذري، أو جعلتها عن نذري، فهل تتعيّن للانصراف إلى جهة النذر؟ فعلى وجهين هما قاعدة الفصل:
أحدهما: أنها تتعين؛ فإن التعيين إذا كان يلزم الوفاء بمقتضاه من غير التزام، فكذلك إذا جرى التعيين صَرفاً إلى جهة الالتزام يجب الوفاء به.
والوجه الثاني- أن التّعيين لا يعمل عملاً بعد تقدم الالتزام؛ فإن الملتَزَم في الذمة دَينٌ، وتعيين شاة للدَّين بمثابة جعل الدَّين عيناً، وهذا متناقض، والدَّيْن لا يتعيّن إلاّ بالإيفاء، وليس التعيين إيفاءً.
ولو كان نذر الرجل أن يعتق عبداً، ثم قال: عيّنت هذا العبدَ لنذري، ففي المسألة وجهان كالوجهين في الضحية.
ولو قال الرجل مبتدئاً: لله علي أن أضحي بهذه الشاة، فالتضحية تلزمه، ولكن هل تتعين الشاة؟ فعلى وجهين مرتبين على ما إذا قدم النذر التزاماً، ثم ابتدأ بعده التعيين، والصورة الأخيرة أولى بثبوت حكم التعيين لها؛ فإنه لم يجرد الالتزام، بل قرنه بالتعيين، فرجع الالتزام إلى الإخبار عن لزوم التعيين، والتعيينُ مما يثبت لو تجرّد.
ولو قال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد، فيلزمه العتقُ على الجملة، ولكن هل يتعين العبد المعيّن للوفاء؟ فعلى وجهين، قال المحققون: العتق أولى بالتّعيين؛ من جهة أن للعبد حقاً، وحظاً في العتق؛ فإذا عيّنه للاستحقاق، ظهر وجوب الوفاء، والضحية لا حق لها في تعيينها.
ولو عيّن دراهم فقال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها وجهان مرتبان على الأضحية، وهي أولى بألا تتعين؛ فإنه لا فائدة في تعيينها، والشاة قد يفرض في تعيينها فائدة، من حسنٍ، وكبرٍ، وسمن، فيجوز أن يؤثر التّعيين فيها، ولسنا نذكر هذه الأسباب حتّى يظنّ الظان أنا نشترطها لتعيّن الشاة، ولكنا ذكرناها ليتبيّن المتبيّن أن للتعيين مساغاً ومساقاً على الجملة.
ولو كان على الرجل دراهم مطلقة عن جهة من جهات القربة، فقال: عيّنت هذه الدراهم لما عليَّ، فقد وجدت الطرق متفقة على أن التّعيين يلغو في هذه الحالة.
11611- فإذا ثبت ما أرسلناه من المسائل، فلابد من ضبطها، وفي التضحية ثلاث صور: إحداها- التعيين المجرد من غير التزام مقترن أو سابق، وهو موجبٌ ملزم على ما سيأتي أحكام التعيين.
والصورة الثانية- أن يتقدم التزام مطلق غيرُ متعلِّق بعينٍ ثم يُفرض تعيين ضحية عن جهة النذر، ففي حصول التعيين وجهان، ولو فرض مثل هذا في العتق ففي التعيين وجهان أيضاً، والعتق أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه من استحقاق العبد حق العتاقة.
والصورة الثالثة- الجمع بين صيغة الالتزام والتعيين، وفي التعيين في هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الثانية، والأخيرة أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه. والخلاف يجري في نظير هذه الصورة من العتق، ولكن العتق يترتب على التضحية، وهو بالتعيين أولى.
ولو قال الرجل: لله عليَّ أن أتصدق بدراهم على هذا الشخص، فلا يبعد أن ينزل هذا منزلة ما لو قال: لله عليَّ أن أعتق هذا العبد، وهذه الصور الثلاث التي أجريناها في التضحية والعتق نجريها في الدراهم وغيرها، فلو قال مالك الدراهم: جعلت هذه الدراهم صدقة، فالتضحية في مثل هذه الصورة تتعيّن وجهاً واحداً، وفي تعيين الدراهم خلافٌ للأصحاب إذا جرى التعيين المحض على الصيغة التي ذكرناها.
ولو قال: عيّنت هذه الدراهم لزكاتي أو نذري، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا يلغو؛ لأن التعيين ضعيف في الدراهم، والتعيين ضعيف في معنى الصرف إلى الملتزِم المطلق، فإذا جمع الأمران، اقتضيا إلغاء التعيين، وهذه الصورة ليست خالية عن احتمال بعيد؛ من جهة أن الدراهم قابلة للتعيين على الجملة عند بعض الأصحاب.
ولو قال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها الخلاف المشهور، وهو مرتّب على تعيين الضحية في مثل هذه الصورة، فالعتق أولى بالتعيين، والضحيةُ تليه، والدراهم تلي الضحية، والفروق واضحة. فهذه قواعد كلية فيما يتعلق بالتعيين، والكلام بعد هذا يختص بتعيين الضحايا.
ونحن بعد ذلك نذكر أنواعاً تتعلق مقتضياتها بالتعيين وعدم التعيين، ونُعيد فيها الصورة الثالثة التي ذكرناها في التعيين، ونذكر في كل صورة ما يليق بها من ذلك المقتضى.
11612- النوع الأول في النية، فنقول: إذا لم يجب التعيين، فعماد التضحية التقرب إلى الله بالنية، ولذلك لو جرى نذر مطلق، ثم أراد الناذر تأدية المنذور بالذبح، فلابد من النية. ثم النية في التضحية كالنية في تأدية الزكاة، وقد مضى القول فيها، وفي جواز تقديمها، وفي الاستنابة فيها مفصلاً، ولا فرق بين البابين.
فأما الصور الثلاث في التعيين، فإن قال: جعلت هذه الشاة ضحيّة، فالمذهب أنه لا حاجة إلى النية، كما إذا قال لعبده: أعتقتك، ومن أصحابنا من شرط النية عند الذبح أو قبله. ولو نذر مطلقاً ثم قال: هذه الشاة عن نذري، فهذا يتفرع على الوجهين في أن الشاة هل تتعين؟ فإن قلنا: لا تتعين، فلابد من النية إن أراد انصراف الذكيّة إلى نذره، وإن قلنا: بتعيين الشاة، فحكم النية على هذا كحكمها إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية. ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه الشاة، فالنية تخرج على الوجهين في التعيين وعدم التعيين كما ذكرنا.
11613- النوع الثاني-في التلف والإتلاف- نذكر حكمها في الصور الثلاث: فإن قال: جعلتها ضحية، فلو تلفت، فلا ضمان؛ فإنه لا مستند لهذا القسم إلى التزامٍ في الذمة، بل تعلق بالمعيّنة حقٌّ، وقد فات بفواتها. ولو أتلفها المضحي أو غيره، التزم القيم، ثم إن كان المتلف أجنبيّاً، لم يلتزم إلا القيمة، وإن كنا لا نجد بها ضحية-ولا يخفى تصوير ذلك على من أراده- ولا نقول: فوّت الجاني ضحيةً، فعليه تحصيل ضحية، لأن الجناية لا تَرِد إلا على محل التقويم، وكونها ضحية يتعلق بالقُربة والقُربة لا تُضمن، ولو كان المتلِف صاحبَ الضحية، فإن وجدنا بالقيمة ضحية من غير زيادة ولا نقصان، فذاك، وإن قصرت القيمة عن ثمن ضحية، فهل على صاحب الضحية أن يبلّغها ثمن ضحية؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يلزمه كالأجنبي.
والثاني: يلزمه؛ لأنه التزم التضحية، فعليه الوفاء بها، وقد فوّتها، فعليه تحصيل ضحية.
ونستتم القول في القيمة إذا انتهى الكلام إليها، فإن كانت القيمة ثمن ضحية، فلا كلام، وإن زادت على ثمن ضحية، ولم يجد ضحيَّةً كريمةً بها، فيشتري ضحية، وفي الفاضل وجهان:
أحدهما: أنه يُشترى بها شقصٌ من شاة؛ فإن الشاة وإن كانت لا تتبعض في التضحية ابتداءً، فإذا أفضت الحاجة إلى التبعيض فيها، احتمل التبعيض، ثم البعيدُ إثباتُ بعضٍ في الضحية ابتداء. والوجه الثاني- أن الفاضل نصرفه مصرف الضحايا، حتى إن أراد أن يتخذ منه خاتماً يقتنيه ولا يبيعه، فله ذلك، فأما ابتياع بعض ضحية به، فلا، وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في بعض الصور في الزكاة، حيث تجتمع الحِقاق، وبنات اللبون، فقد تُفضي التقاسيم إلى تقدير صرف فضلٍ من القيمة إلى جزء من الحقاق، أو بنات اللبون، ثم فيه الاختلاف على حسب ما يليق بقاعدة الزكاة.
فإن قيل: إذا كان لا يبعد صرف القيمة مصرف الضحايا، فالبعض من الشاة أقرب إلى الضحية من الدراهم، وليس ذلك كالزكاة؛ فإن للدراهم مدخلاً فيها على الجملة، ويشهد لذلك بَذْلُ الدراهم في الجبران. قلنا: هذا سؤال متجه يقتضي ترتيب الخلاف فيما نحن فيه على الخلاف في الزكاة. ومقتضى الترتيب أن التبعيض أَوْجهُ في التضحية منه في الزكاة، ثم إذا فاتت الضحية، ولم ينقطع الحق، صارت القيمة التي يتعذر صرفها إلى الضحية بمثابة الضحية نفسها. هذا إذا فضل من القيمة فاضل، وتعذر ابتياع ضحية كريمة بجملة القيمة.
ولو قصرت القيمة عن الضحية وملتزمُها أجنبي، فالقول فيها كالقول في الفاضل من القيمة.
وما ذكرناه من الإتلاف أردنا به إهلاكاً بإحراق أو غيره، فأما إذا ذبح الأجنبي الضحية في وقت التضحية، فهذا يخرج على أن النية هل تُشترط في التضحية بالشاة المعينة، التي قال صاحبها: جعلتها ضحية؟ فإن قلنا: لا يشترط النية، فالضحية تقع موقعها، وإن قلنا: لابد من النية، فالضحية لا تقع موقعها؛ فإن صاحب الضحية لم يستنب هذا الأجنبي في التضحية، فقد فاتت النية، وفات بفواتها القُربة.
التفريع:
11614- إن حكمنا بأن التضحية تقع موقعها، فنفرض فيه إذا لم يفرق اللحم على مستحقيها، ونقول: هل يجب على هذا الذابح ما بين هذه الشاة حية وبينها مذبوحة؟ في المسألة قولان:
أحدهما: يجب؛ لأنه اعتدى بالذبح.
والثاني: لم يجب، وهو الأقيس، لأن الذبح وقع مستحقاً، ولم يتعلق به تفويت، والقيمة تلزم على مقابلة التفويت.
ولو ذبح الأجنبي الضحية، وفرق لحمها، فالتفريق لا يقع موقع الاعتداد، واللحم محرّمٌ على آخذه؛ فإن تعيين الآخذ إلى صاحب الضحية.
ويخرج من ذلك أنه بتفرقة اللحم يكون مفوّتاً للحم، فيلتزم بسبب تفريق اللحم العوضَ لا محالة.
ثم إذا كنا نفرع على أن الأجنبي الذابح لا يُغرّم بالذبح لوقوع الذبح مستحقاً، فإذا انضم إلى الذبح تفريق اللحم، فالذي رأيته للأصحاب القطع بأنه يُغرَّم في هذه الحالة النقصَ الذي يقتضيه الذبح، وإنما القولان فيه إذا اقتصر على الذبح، وترك تفرقة اللحم على صاحب الضحية.
هذا ما وجدته، وليس يبعد عن القياس طرد القولين في صورة تفريق اللحم؛ فإن الضحية بالذبح وقعت موقعها، وتفرقة اللحم جناية على ضحية قد بلغت محلها.
ثم إذا قلنا: يجب الضمان بسبب تفرقة اللحم وبسبب الذبح، فكيف السبيل في الجمع بين الغرمين؟ فعلى قولين حكاهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنا نغرمه الشاة حيةً؛ فإنه بالذبح والتفريق فَوَّتها. والقول الثاني- أنّا نغرمه ما نقصه الذبح، ثم نغرمه قيمة اللحم، فإن الذبح والتفريق فعلان مختلفان، فيتعلق بكل واحد منهما غرم على حياله، والمسألة محتملة حسنة.
والوجه عندي طرد القولين فيه إذا ذبح رجل شاة إنسان، ثم أتلف لحمها من غير فرض في الضحية؛ فإنا لا نرى لجريان القولين اختصاصاً بمقتضى الضحية، والمسألة محتملة، لطيفة.
وكل ما ذكرناه تفريع على الأصح وهو أن الشاة تقع ضحيةً إذا ذبحها الأجنبي.
فإن قلنا: لا تقع ضحية، فاللحم كيف حكمه؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الضحية انفكت، واللحم مملوك لصاحب الشاة، فعلى هذا يتوجه على الذابح ما نقصه الذبح. والوجه الثاني- أن اللحم مستحق لجهة الضحية؛ فإن قول صاحب الشاة: جعلتها ضحيّةً لا يغير استحقاق جهة الضحية،-وإن لم يقع الاعتداد- فمصرف اللحم إذاً مصرف الضحية المستحقة، كما سنصفه إن شاء الله، ثم لا يجب على الذابح إلا ما نقصه الذبح، وإن فوّت الاعتداد بالضحية، فإن تفويت الضحية لا يغرمه الأجنبي كما قررناه.
فإذا ثبت ما ذكرناه فيه إذا قال: جعلتها ضحية، فلو نذر ضحية، ثم قال: عيّنت هذه الشاة لنذري، ثم فُرض تلف أو إتلاف، فهذا يتفرع على أنَّ الشاة هل تتعيّن؟ فإن قلنا: إنها لا تتعيّن، فالتعيين لغوٌ، فإن تلفت الشاة، فالشاة مملوكة تلفت أو أتلفت، ولا يخفى الحكم، والذمةُ مشتغلة بالنذر، وإن قلنا: الشاة متعينة لجهة النذر، فلو تلفت، فهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: تبرأ كما لو قال ابتداء: جعلت هذه الشاة ضحية.
والثاني: لا تبرأ لتقدم النذر، فكأن فائدة التعيين وجوب صرف الشاة المعينة إلى جهة النذر، فإن فاتت، فالنذر قائم، فهذا هو الذي زدناه في هذه الصورة. فإن قلنا: الذمة تبرأ بالتلف، فلو فُرض الإتلاف، فتفريع الإتلاف على هذا كتفريع الإتلاف إذا قال: جعلتها ضحية، وقد مضى.
فأما إذا قال: لله عليَّ أن أضحيّ بهذه الشاة، فهذه الصورة أولى بالتعيين وحكمه كما إذا قال: لله عليّ ضحية، ثم ابتدأ فَعيّن شاة عن نذره، وهذا القدر الذي نريد.
ثم التفريع في التعيين وعدم التعيين ما ذكرناه.
11615- النوع الثالث: في تعيّب الضحية، وهذا يدور على الصور الثلاث، فإن قال: جعلتُ هذه الشاة ضحية، ثم عابت عيباً يمنع مثله الإجزاء ابتداء، فالشاة مستحقة كما كانت، ولا ينفك التضحية عنها، وليس على صاحبها شيء بسبب طريان العيب؛ فإن التعيب لا يزيد على التلف، ولو تلفت في هذه الصورة، لم يجب على صاحبها شيء، فالتعيب لا يُلزم شيئاً.
ولو نذر، ثم عيّن عن النذر، فإن قلنا: التعيين باطل، فلا أثر له، وإن قلنا: التعيين صحيح، فإذا عابت تيك الشاة، فهل يجب الإتيان بسليمة؟ فعلى وجهين، وهذا الاختلاف يناظر ما ذكرناه في التلف في هذه الصورة، ثم إن لم نُوجب الإبدال، فهذه المعيبة مجزئة، وإن أوجبنا الإتيان بسليمة، فهذه المعيبة هل ينفك الاستحقاق عنها؟ فعلى وجهين: وسنذكر لهما نظيراً في ضلال المعيّنة من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
ونستتم القول في التعيب الطارىء. قال الأصحاب: إذا شدّ الرجل قوائم الشاة، ونوى التضحية بها، فاضطربت وانكسرت رجلها، فهل يجزىء التضحية بها والحالة هذه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يجزىء؟ فإنها كالمسلّمة إذا اتصل به الذبح، ومنهم من قال: لا تجزىء؛ فإن التضحية إنما تحصل بالذبح ولا تضحية قبله.
وكان شيخي أبو محمد يقول: هذا التردد قبل قطع شيء من الحلقوم، وكان القفال يقول: إذا ساق الرجل هدياً، فتعيّب قبل الانتهاء إلى الحرم، أثر في الإجزاء، وإن دخل الحرم، ثم تعيب أجزأ؛ فإن الهدي قد بلغ محِله، وهذا مما اختصّ به القفال، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن التعيب في الحرم كالتعيب قبل البلوغ إليه، والدليل عليه أن من أراد أن يهدي هدياً في الحرم نفسه، فتعيب، فهذا هدي في المحل، ويجب القطع بأن التعيب يؤثر، ولا نرى للسَّوْق من الحل إلى الحرم أثراً في الإجزاء، ومَنْعه.
وما ذكره الأصحاب من التعيب بعد شد القوائم إذا اتّصل الذبح به. وما ذكره القفال من التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم مبهم بعْدُ، فإن كان الكلام مفروضاً في المتطوَّع به من غير نذر ولا تعيين، فالذي أراه أن التعيُّب قبل الذبح يخرجه عن الإجزاء، وهذا في التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم أظهر؛ فإن النية المجردة لا أثر لها، والدليل عليه أنه لو نوى وانتهى الهدي إلى الحرم، أو نوى بعد شد القوائم، ثم أراد بيع ما انتهى إلى الحرم وبيع الشاة بعد شد القوائم، فهو جائز، والتعيب إذا جرى في وقت يجوز البيع فيه يستحيل أن يقع التضحية بعده مع قيام العيب، فالوجه فرض ما ذكره الأصحاب فيه إذا عين الضحية والهديَ عن نذر سابق، وقلنا: التعيب بعد التعيين والحكم بالتعيين يمنع الإجزاء، فلو فرض التعيب بعد الوصول إلى الحرم، أو بعد شدّ القوائم، فعلى هذا الوجه تردد الأصحاب.
11616- وقد نجز القول في التعيب الطارىء، ونحن نُلحق بهذا المنتهى توجيهَ التعيين على شاة معيبة، وهذا نذكره في الصور الثلاث، فإن قال: جعلتها ضحية، ومثلها لا يجزىء، فالذي أطلقه الأصحاب أنه يلزمه إجراؤها مجرى الضحايا، وإن كان بها عيب، وهو بمثابة ما لو قال لعبدٍ لا يجزىء إعتاقه عن الكفارة: أنت حر عن كفارتي، فالعتق ينفذ، والذمة لا تبرأ عن واجب الكفارة، ولو أشار إلى ظبية وقال: جعلتها ضحية، لغا لفظه، ولم يلزمه صرفها إلى حكم التضحية. ولو أشار إلى حُوارٍ أو فصيل، وقال: جعلته ضحية؛ ففي المسألة وجهان، هكذا رتب الأئمة، ونقصان السّنّ مردّد بين العيب وبين الجنس المخالف للنَّعم، ورأيت للأصحاب رمزاً في تعيين المعيبة إلى خلافٍ، من حيث إنها لا تُجزىء، كما أن الفصيل لا يُجزىء، ثم إذا جرينا على الأصح، فلا يلزمه في المعيبة المعينة غيرها؛ فإنه لم يلتزم شيئاً، بل عين، وتعيينه بين أن يصح، وبين أن يلغو.
ولو كان نذر ضحية، ثم عيّن عن نذره معيبة، فلا شكّ أن الذمة لا تبرأ بهذه المعيبة، وهل تتعيّن هذه المعيبة مع بقاء اشتغال الذمة بضحية مجزية؟ فعلى وجهين.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحيّ بشاة عرجاء، أو عجفاء، لا تنقي، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يلزمه صحيحة، ومنهم من قال: لا نلزمه شيئاً؛ فإنه التزم ما لا أصل له في الشرع، ومنهم من ألزمه ما التزم، ولم يُلزمه صحيحة، وجعل الالتزام في المعيبة، والظبية، والفصيل، على الترتيب الذي ذكرناه في التعيين الذي لا التزام فيه.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه، وكانت معيبةً، فهذه الصورة الثالثة يغلب التعيين عليها، لأن الالتزام مقرون بالتعيين فيها، وقد ذكرنا التعيين المحضَ، وذكرنا الالتزام المطلق والتعيين بعده، والالتزامُ المقرون بالتعيين بينهما. ومن انتهى إلى هذا الموضع بفهم ودركٍ، لم يخف عليه كيفية الترتيب.
11617- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا التزم في الذمة صحيحةً، ثم عين معيبةً عن جهة النذر، فقد ذكرنا أن ذمته لا تبرأ عن الضحية المطلقة، وهي محمولة على السليمة عن العيوب المانعة من الإجزاء، فإذا قلنا: المعيبة تتعين لجهة التضحية وإن كانت الذمة لا تبرأ بها، فلو زال العيب قبل التضحية والذبح، فقد قال الأصحاب: لا تبرأ الذمة بها؛ فإنها تعينت وهي غير مجزئة، وطريان السلامة لا حكم له.
وهذا فيه تردد عندي؛ فإنا قلنا: إذا عين عن النذر المطلق شاةً سليمة، وقضينا بتعيينها، فلو غابت، فمن أصحابنا من يقول هي مجزئة مع العيب الطارىء؛ فإذا كان العيب الطارىء عند بعض الأصحاب يؤثر في المنع ولا يؤثر عند البعض، فلا يمتنع تخريج السلامة الطارئة على الخلاف؛ اعتباراً بالعيب الطارىء. وقد نجز القول في التعيب.
11618- النوع الرابع- في ضلال الشاة المعيّنة فنقول: لو عين من غير نذر ضحيةً، فقال: جعلتها ضحية، فَضَلَّت، فلا نُلزم المعيِّن شيئاً؛ فإنّها لو تلفت، لم نُلزمه شيئاً، وإن نذر، ثم عيّن شاةً عن نذره؛ فإن قلنا: التّعيين لاغٍ، فالشاة الضالة كانت مملوكة والنذر باقٍ، وإن قلنا: تتعيّن الشاة المضافة إلى جهة النذر، فلو ضلت، فهو كما لو تلفت، وفي وجوب البدل وجهان، فإن أوجبنا البدل وضحى بالبدل، فوجد الأصل، فهل نلزمه التضحيةَ بالأصل؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا نلزمه؛ لأن الفرض قد سقط، وانفك الاستحقاق.
والثاني: نُلزمه الأصلَ؛ لارتباط الاستحقاق به أوّلاً.
ولو عين شاة عن جهة النذر، فضلّت، والتفريع على التعيين، فعين بدلاً لمّا أوجبنا عليه البدل، فيتعيّن، فلو وجد الأصل قبل ذبح البدل، فحاصل ما ذكره الأصحاب من مجموع الأصول أربعة أوجه: أحدها: أنه يضحي بالأصل.
والثاني: يضحي بالثاني؛ لأن الوجوب انتقل إليه، وانفك عن الأول. والثالث: يضحي بهما لتعلق التعيين بهما، والرابع- يلزمه التضحية بإحداهما، والخِيَرةُ إليه، ولا معدل عنهما.
ومن لطائف المذهب أنه إذا عين عن نذره شاة، وقضينا بتعيّنها بالتعيين، فلو ضحّى بشاةٍ أخرى، ونوى صرفها إلى النذر، فهذا يخرج على أن الشاة المعينة لو ماتت هل تبرأ الذمة كما لو قال: جعلتها ضحية من غير نذر والتزام؟ فإن قلنا: تبرأ الذمة-وهو ضعيف جدّاً- فعلى هذا لا تنصرف الشاة الثانية بالنية إلى جهة النذر، فإنا نصرف النذر إلى العين، ونقطع أثره من الذمة، ونجعله كما لو قال: جعلتها ضحية.
ولو قال ذلك ابتداء، لم تكن الشاة الثانية عن تعيينه، وإن قلنا: لو ماتت الشاة المعينة عن جهة النذر، لم تبرأ الذمة، فإذا ضحّى بشاة أُخرى، ففي وقوعها عن النذر تردُّدٌ بسبب التمكن من الضحية بالشاة المعينة، وهذا محتمل، ثم إن أجزأت الشاة المنوية، وأبرأت الذمة، فهل ينفك الاستحقاق عن المعينة؟ فيه الخلاف المشهور.
ولو قال من عليه كفارة: عينت هذا العبدَ للإعتاق عن الكفارة، ففي تعيينه خلاف، ولو أعتق عبداً آخر عن كفارته مع التمكن من إعتاق المعين، فالظاهر أن الذمة تبرأ، ولا خلاف أنَّ العبد المعين لو مات قبل إعتاقه، فاشتغال الذمة بالكفارة باقٍ، كما كان، والفرق بين مسألة الكفارة وبين ما نحن فيه أنَّ النذر وإن كان التزاماً، فهو تبرّع بالالتزام، فإن قَبِلَ النقلَ إلى عين، كان له وجه على بُعد، والكفارة الواجبة شرعاً لا تحتمل هذا المعنى.
11619- النوع الخامس- في بيان الوقت، وقد ذكرنا وقت الضحية المتطوع بها من غير تعيين ولا التزام، وذكرنا أن دماء الجبرانات في المناسك لا وقت لها من أيام السنة، ومهما وجبت أمكن أداؤها وإقامتها.
ولو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فيتعيّن التضحية بها في يوم النحر وأيام التشريق، كما ذكرنا في المتطوع به.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحّي بشاةٍ، فهل تتأقت التضحية بالأيام الأربعة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يتعينّ لها وقت، كدماء الجبرانات ووجه المشابهة الوقوع في الذمة. ومنهم من قال: يلزمه إيقاع ما التزمه في الأيام الأربعة؛ فإنه التزم ضحية، والضحيّة مؤقتة. ثم إذا قلنا: تتأقت المنذورة المطلقة، فلا كلام، وإن قلنا: لا تتأقت فلو قال: جعلت هذه الشاةَ عن جهة نذري، وفرّعنا على أنّ التعيين يؤثر، فهل تتأقت التضحية، كما لو قال: جعلتها ضحيةً، من غير التزام. فعلى وجهين:
أحدهما: أنها لا تتأقت كالمنذورة المطلقة؛ فإنها مصروفة إلى النذر.
والثاني: تتأقت تغليباً لحكم التعيين ولا يخفى منشأ هذا.
11620- النوع السَّادس: في الأكل من لحم الضحية، ونحن نبدأ بتفصيل القول في الأكل من الضحية المتطوع بها بالنيّة، فنقول: أولاً لا خلاف أن للمضحِّي المتطوع الأكلَ من ضحيته، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]، وفي الخبر: "فكلوا وائتجروا " معناه اطلبوا الأجر بالتصرف.
ثم قاعدة المذهب أن الأئمة اختلفوا في أن المضحي لو أراد أن يأكل جميع لحم الأضحية، ولا يتصدق بشيء منها، فهل له ذلك؟ أم يلزمه التصدق بشيء؟ فمنهم من قال: يلزمه التصدّق بمقدارٍ، تعلّقاً بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، ومنهم من قال: له أكلُ الكُلّ؛ إذ لو امتنع أكل الكُلِّ، لامتنع أكل البعض، والدّعاء إلى الإطعام استحثاث على مكارم الأخلاق. فإن قلنا: يجب التصدُّق بشيء، لم يختلف أصحابنا في أن الغرض يسقط بما ينطلق عليه الاسم وإن قلَّ، ويجب التثبت في هذا؛ فإنه على ظهوره مزِلّةٌ، وما ذكرناه مقطوع به، فلتقع الثقة به.
ثم لا شكَّ أنَّه لو تصدّق بالجميع، لكان أفضل، غير أن ما يقتضيه شعار الصالحين أن يأكل من ضحيته مقداراً وإن قلَّ، وكان شيخي يرى ذلك مكرمةً وإحياءً للشعار، وقيل: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل يوم الأضحى من كبد أضحيته " وروي قريب منه عن عليٍّ رضي الله عنه: إذ قال في أثناء خطبته بالبصرة في أيام خلافته: "أما أن أميركم هذا رضي من دنياكم بطِمْريه لا يأكل اللحم في السنة إلا الفِلْذَة من كبد أُضحيته".
ثم من أئمتنا من قال: لو تصدق بالنصف، فقد أقام شعار الدين في الإطعام.
ومنهم من قال: لو تصدّق بالثلث، فقد أكمل القُربة.
فمن راعى التنصيف، تعلّق بظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28]، وتقابلُ الجهتين يُشعر بالتنصيف، ومن مال إلى الثلث، احتج بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأضحية، وكان نهى عن الأكل منها، فقال بعد نهيه:
" أما إني نهيتكم للدافّة التي دفّت إلى المدينة-وأراد طائفة من الفقراء والمحاويج كانوا دخلوا المدينة لإضاقة أصابتهم- ثم قال: ألا، فكلوا وادّخروا، وائتجروا". فذكر ثلاثَ جهات، وأشعر قوله بأن التصدق بالثلث.
ثم هذا الفصل وإن كان من الجليات، فيجب التحفظ فيه عن الزلل. ونحن نقول: لم يصر أحد من الأصحاب إلى وجوب التصدق بالثلث أو النصف، ومنهم من لم يوجب التصدق أصلاً، وجوّز أكل الكل، ومن أوجب التصدق، اكتفى بما ينطلق عليه الاسم، وإن قل، ثم تلك الصدقة التي نراها مفروضة يجب صرفها إلى المساكين، ويكفي صرفها إلى مسكين واحد، فإنَّا لا نرى في الشرع لذكر الجمع في هذا الباب أصلاً، والتردد في الثلث والنصف آيل إلى إحياء الشعار، وبيان المستحب، وذكرنا استحباب أكل شيء، ولا ينتهي القول فيما نستحبه إلى نصف ولا إلى ثلثين، ولكن كلما قَلَّ المأكول، وكثر المتصدق به، كان أحسن وأفضل.
فإن قيل: ما وجه جواز أكل الكل؟ قلنا: نحن في المتطوع به، وقد يبعد في نفس الفقيه وجوب التصدق من غير نذر.
ومن تأمل هذا، غمض عليه وجه وجوب التصدق بمقدار، ولا خلاف أن الضحية إذا ذبحت وكانت منوية غير متعيّنة لفظاً ولا منذورة، فليست هي شاةَ لحم، حتى يجوز بيعها، كما سنصف ذلك في فنٍّ مفرد، ثم ما يجوز أكله يجوز صرفه إلى الأغنياء على جهة الإطعام، ولا نحسب ما يُطعمه الأغنياء مما يُستَحَب التصدق به إذا تصرفنا في الاستحباب، وإذا أوجبنا التصدق بمقدارٍ، فالصدقة على محتاج.
11621- ثم في بقية الفصل ثلاثة أشياء ببيانها يتم الغرض: أحدها: أنه لو وَهَب من غني شيئاً من الضحية هبة تمليك حتى يتصرف فيه المتهب بالبيع، وما يراه الملاك، فالذي يظهر لنا أن ذلك ممتنع؛ فإن الهبة ليست صدقة، والضحية ينبغي أن تكون مرددة بين التطعّم والإطعام، وبين الصدقة. فكأن الأغنياء ضيفان الله على لحوم الضحايا، وللفقراء حظ من الصدقة على وجه، والضيف لا يوهب، ولكن يطعم.
ولو أتلف المضحِّي شيئاً من اللحم، وقال: إذا كان لي أن آكله، والأكل إتلافٌ، فَلِي أن أُتلفه، فالذي نراه أنَّ ذلك لا يسوغ؛ فإن المضحّي موسَّعٌ عليه في الانتفاع بالضحية، وليس مخيّراً بين الانتفاع والإتلاف. ولو جاز هذا، لكان جوازُ البيع أقربَ منه.
وأما التصدّق، فلست أعرف خلافاً أن تمليك الفقير اللَّحمَ تصدُّقاً عليه جائز، ويشهد له قصة بريرة إذ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرْمةً تفور، فقدم إليه خبز قفار، فقال عليه السلام: «ألم أر البرمة تفور باللحم؟» فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها صدقة على بريرة، فقال: «هو عليها صدقة، ولنا منها هدية».
ولو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء وأضافهم من غير تمليك، فقد تمهَّد من أصل الشافعي أن إطعام المساكين في قوله عز وجل: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، تمليك، ولكن قد يخطُِر للفقيه أن الإطعام في كتاب الله مقابل بالأكل؛ فإنه قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28]، فيظهر أن المراد كلوا ومكّنوا البائسين من أكل، وقد ورد في ماثور الأخبار: "النهي عن مأدبة يدعى إليها الأغنياء ويحرم الفقراء"، ولكن هذا ينصر قولَ من لا يوجب التصدق ويوضّحه، فإذا أوجبنا صرف شيء إلى الفقراء، لم ينقدح عندي فيه إلا التمليك.
وقد نجز الكلام في أكل من الضحية المنوية المتطوع بها.
ولا خلاف أنه لا يحل الأكل من دماء الجبرانات.
11622- والضحية المنذورة إذا أداها الناذر بالنية، ففي جواز الأكل منها وجهان:
أحدهما: المنع؛ من جهة أنها ملتزمة في الذمة، فشابهت دماءَ الجبرانات.
والثاني: أن الأكل منها كالأكل من الضحية المنوية، وهذا هو الأفقه؛ فإنه نذرَ الضحية، والضحية يجوز الأكل منها، فلا تتميز المنذورة عن المتطوع بها، إلا من جهة أن الإقدام على الوفاء بالنذر واجب، ولا يجب ذلك دونها.
ولو قال: جعلت هذه الشاةَ ضحيةً، ولم يتقدم نذر والتزام، فهل يحل الأكل منها؟ إن قلنا: يحل الأكل من المنذورة المطلقة المصروفة بالنية إلى النذر، فلأن يجوز أكل من المعينة من غير التزام أولى، وإن منعنا أكل من المنذورة، ففي الأكل من المعينة وجهان: والأصح- جواز الأكل؛ فإن اللفظ كما عين المعينة، فالذبح على نية التطوع بالتضحية يعيّن اللحم لجهة الضحية الشرعية، فلا فرق إذاً، وإذا فرضنا تعييناً بعد نذر، لم يخف التصرف بعد الترديدات التي ذكرناها في ترتيب المنازل، وقد نجز الغرض في هذا النوع.
فرع:
11623- إذا ضحى المتطوع وأوجبنا التصدق، فأكل الكل، ففي مقدار ما يغرمه لجهة التصدق وجهان ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه يلزمه ما يقع الاسم عليه، والثاني: يلزمه الثلث، أو النصف.
وهذا عندنا زلل؛ فإن هذا القبيل من الخلاف ذكره الأصحاب فيه إذا حرم المزكي واحداً من المساكين، وصرف السهم إلى مسكينين، وذلك لا يناظر ما نحن فيه؛ فإن التصدق بالكل حتم، فإذا حرم واحداً ثار منه خلاف، وفي التضحية لا يجب التصدق إلا على واحد بأقل ما يجوز التصدق به، والأصح في الزكاة أنه لا يغرم إلاَّ أقل القليل.
11624- النَّوع السَّابع- في جهات التصرف في الضحية المتطوع بها، وقد قدمنا القول في الأكل والإطعام والتصدق، فأمَّا البيع، فلا مساغ له في شيء من أجزاء الضحية، ومنع الأئمة أن يصرف جلد الضحية إلى أجرة القصاب؛ فإن ذلك تعويض، وهو ممتنع، وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً منصوصاً للشافعي في جواز بيع جلد الضحية، وصرف ثمنه إلى الجهة التي يصرف لحم الضحية إليه، وهذا بعيد لم أره إلاّ له. ثم ذكر في الجلد كلاماً مستفاداً، فقال: إذا أوجبنا التصدق، واكتفينا بما ينطلق الاسم عليه، فالظاهر أن التصدق بالجلد لا يكفي، وهذا حسن، وفيه احتمال كما ورد جوابه فيه.
11625- النوع الثامن- في ولد الأضحية: إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فولدت، فولدها بمثابتها، وهو تبعٌ على التحقيق؛ فإن التضحية بالحمل غير جائز على الابتداء، ولكنا قدرنا الولد جزءاً من الأم وسلكنا به مسلكها، ثم ذكر صاحب التقريب فيه كلاماً، فقال: من أئمتنا من جعله كالضحية المنفردة، وفائدة ذلك أنَّا لا نجوّز أكله كله على مذهبٍ كالأم، ومن أصحابنا من قال: هو بمثابة عضوٍ من الأم، فيجوز أكله كله، والتصدق بشيء من الأم، وهذا التردد لطيف حسن.
ولبن الشاة المعيّنة بمثابة لحمها لو ضحيت. ولعلّ الظاهر جواز اسعتيعاب اللبن بالتعاطي إذا جوزنا الأكل من لحمها، وقدّرنا أنها ضحية.
11626- ثم قال الشافعي: "ولو أن مضحيين ذبح كل واحد أضحية صاحبه... إلى آخره " وهذا مما قدمنا ذكره، إذ قلنا: لو ضحّى الإنسان بضحيةِ غيره، فكيف السبيل فيه؟ والفرْضُ في مضحيين لا يزيد حكماً، فلا نعيد ما قدمناه.
وقال الشافعي: "وأكره بيع شيء منه، والمبادلة به " وهذا كراهية تحريم، والشافعي والأئمة الماضون كثيراً ما يطلقون الكراهية، ويريدون به التحريم، وهذا من ذلك.
ثم قال: "ولا يجوز التضحية لعَبدٍ " وهذا مفرع على الجديد، وهو أن العبد لا يملك بالتمليك، فلا تقع الضحية عنه وإن فرعنا على القديم، فإذا ملكه مولاه شاة، وأذن له في التضحية بها، فيقع التضحية عنه، كما لو أذن له في التصدق.
وفي المكاتب قولان إذا أذن المولى مبنيان على تبرعاته.
ثم ذكر الشافعي: "أن البقرة تجزىء عن سبعة، وكذلك البدنة " وهو مبيّن مذكور، والشاة لا تقبل الشركة، ولو ضحَّى رجلان بشاتين، وكان لكل واحد منهما النصف من كل شاة، فهذا مختلف فيه بين الأصحاب، وله التفات على إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة.
فرع:
11627- إذا اشترى الرجل شاة ونوى التضحية بها، فهي مملوكةٌ بعدُ، ولا أثر للنية المقارنة في إزالة الملك، ثم الّذي قطع به المراوزة أنّ مجرد نية التضحية عند الذبح، أو قبله، على أحد الوجهين، يحقق الضحيّة، ويُوقع القُربة، وهذا ما صححه العراقيون، وحكَوْا وجهاً آخر أن مجرد النية لا يثبت القربة، ثم ذكروا على هذا الوجه وجهين:
أحدهما: أنه لابد من اللفظ، وهو أن يقول: جعلتها ضحيّة.
والوجه الثاني- أن اللفظ لابد منه، أو تقليد الضحية، وهذا بعيد عن مذهب الشافعي.
وظاهر كلامهم القطعُ بأن النية مع الشراء لا أثر لها، وإن جوزنا تقديم النية على الذبح، إذا قلنا: النية بمجردها كافية في إيقاع القربة، وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا: البيع لا ينقل الملك بمجرده. وإن قلنا: إنه ينقل، فيقع الكلام في الملك الجائز، فإن البيع لا يخلو عن خيار المجلس، والتنبيهُ في ذلك كافِ، ولا شكَّ أن النية بين الإيجاب والقبول لا تكفي، وإنما الذي عَنَوْه بالنية مع الشراء أن ينوى مع الفراغ عن القبول.
فرع:
11628- إذا اشترى الرجل شاة، ولزم ملكه فيها، فقال: جعلتها ضحيةً، فقد تعينت فلو وَجَدَ بها عيباً قديماً يُثبت مثلُه الردَّ، ولا يمنع الإجزاء، فلا سبيل إلى الرَّد، وهو كما لو اشترى عبداً وأعتقه، ثم وجد به عيباً، وله الرجوع بأرش العيب.
ثم قال العراقيون: إذا أخذ الأرش، صرفه في مصرف الضحايا، كالذي يفضل من قيمة الضحية. والذي يقتضيه قياس المراوزة أن ذلك الأرش يملكه ولا يلزمه صرفه إلى مصرف الضحية؛ فإن التعيين للتضحية ورد عليها، وهي معيبة؛ فلا ينعكس الاستحقاق إلى ما تقدم، ولا يصح على السبر إلاَّ هذا.