فصل: باب: ما يقع وما لا يقع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يقع وما لا يقع:

قال: "ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاًً، في كل سنة تطليقة... إلى آخره".
8714- نقدم على مقصود هذا الباب تفصيلَ القول في عَوْد الحِنث.
فإذا علق الرجل طلاق امرأته بصفةٍ، ثم بانت عنه بسبب من الأسباب، فسخٍ أو طلاقٍ مُبين، ثم عادت إليه، فلا يخلو: إما أن تبين من غير استيفاء عدد، ثم تعود.
وإما أن يطلقها ثلاثاًً، وتعود إليه بعد التحليل؛ فإن لم تقع الحرمة الكبرى وبانت، ثم جدد عليها نكاحاً، فوُجدت الصفة التي علّق الطلاق عليها في النكاح الأول في النكاح الثاني؛ فالمنصوص عليه في القديم: القطعُ بوقوع الطلاق. وفي الجديد قولان:
أحدهما: يقع، وهو القول المعروف بعَوْد الحِنث. والقول الثاني- لا يقع.
توجيه القولين: من قال: يقع، احتج بأن التعليق جرى في نكاح، والصفة تحققت في نكاح، والنكاحُ الثاني مبني على النكاح الأول في عدد الطلقات؛ فإنه لو طلق طلقة واحدة، فبانت المرأة، ثم جدّد النكاح عليها؛ فهي تعود إليه بطلقتين؟ فإذا انبنى النكاح على النكاح في العدد، وجب أن ينبني عليه في اليمين بالطلاق.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن التعليق جرى في النكاح الأول، وقد تصرّم ذلك النكاح، فلينقضِ بما فيه؛ إذ لو نفذنا في النكاح الثاني يمينه السابقة في النكاح الأول، لكنّا منفذين تصرفه في النكاح الثاني قبله، وهذا ينافي مذهب الشافعي.
هذا إذا كان النكاح الثاني قبل وقوع الحرمة الكبرى.
8715- فإن علّق طلاق امرأته، ثم طلقها ثلاثاً تنجيزاً، ثم نكحت زوجاً آخر، وعادت إلى الأول على شرط الشرع، ثم وُجدت الصفة التي علق الطلاق بها في النكاح الأول؛ فالمنصوص عليه في الجديد: القطع بأن الطلاق لا يقع، والحِنث لا يعود.
وفي القديم قولان.
وإذا جمعنا الصور وضممنا أجوبة القديم إلى الجديد، انتظم في عود الحِنث ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يعود أصلاً إذا تخللت البينونة، وتجدد النكاح.
والثاني: أنه يعود كيف فرض الأمر نظراً إلى حالة التعليق ووجود الصفة، وهما واقعان في النكاح.
والقول الثالث: إن الحِنث يعود إذا لم تتخلل الحرمة الكبرى، فإن تخللت، لم يعد.
والمصير إلى عود الحنث بعد وقوع الثلاث على نهاية البعد، حتى لا يكاد ينتظم تعبير فيه عن توجيه؛ فإن الرجل إذا علق ثلاث طلقات بوجود صفة، فإنما علّق ما يملك تنجيزه من الطلقات، فإذا أنجز ما علّق، فقد انحلّ ملكه المعلق، وكان التنجيز بمثابة الاستيفاء، فلا يبقى للتعليق متعَلّقٌ، ويستحيل بقاء تعليق لا متعلقَ له.
8716- وأبو حنيفة فصّل في عَوْد الحنث بين أن يقع النكاح الثاني بعد تخلل الحُرمة الكبرى وبين أن يقع قبل تخللها، وهذا الفصل حسن في جانب نفي الطلاق عند استيفاء الطلقات الثلاث، ولكنه أفسد على نفسه، حيث قال: إذا طلق الرجل امرأته، فبانت ونكحت زوجاً وأصابها، ثم عادت إلى الأول على شرط الشرع؛ فمذهبه: أنها تعود إلى الأول بثلاث طلقات. ثم بنى على هذا المذهب مسألةً في التعليق، فقال: إذا علّق ثلاث طلقات بصفة في النكاح الأول، ثم نجّز طلقتين، فبانت وأونكحتصيبت، وعادت إلى الأول، فوُجدت الصفة؛ قال: تطلق ثلاثاًَ، ومعلوم أنه لما نجّز طلقتين في النكاح الأول، فقد نجّز مما علق طلقتين، فإدامة التعلق بما نجّز محال.
وهذه المسألة لا تتصور على أصلنا؛ فإن النكاح الثاني عندنا مبني على النكاح الأول في عدد الطلاق، كما سيأتي القول في هذا في الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
8717- وذكر الأئمة في تعليق العتق وعَوْد اليمين ما ذكروه في الطلاق. فإذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم زال ملكه عن الرقبة زوالاً لازماً، ثم عادت إليه، فوُجدت الصفة في الملك الثاني؛ ففي وقوع العتق القولان المذكوران في عود الحنث في اليمين المعقودة بالطلاق إذا تخللت البينونة من غير استيفاء عدد، فإنه تخلل في الموضعين حالةٌ لو فرض فيها وجود الصفة، لما وقع الطلاق ولا العتاق.
وذكر الأئمة لتنجيز الطلقات الثلاث بعد التعليق نظيراً من العتاق، فقالوا: إذا علق عتقَ عبد، ثم نجّز إعتاقه، ثم التحق بدار الحرب، وكان كافراً فسبي، وأُرقّ، ورأينا إرقاقه-على تفصيل في السِّير، سيأتي إن شاء الله عز وجل- فإذا عاد ملكاً لمن علّق عتقه، فوُجدت الصفة، ففي وقوع العتق-والحالة هذه- ما في وقوع الطلاق إذا عَلَّق به، ثم نجَّز الطلقات الثلاث، ثم عادت إليه.
ووجه التشبيه لائح، فإنه إذا علقَ الطلاق، ثم طلق ثلاثاً، فقد نجز ما علق؛ وإذا علّق عتق عبده، ثم أعتقه تنجيزاً، فقد نجّز ما علّق؛ فإن العتق ليس مما يتعدد.
8718- ومما يتعلق بأطراف المسألة: أنا إذا رأينا عَوْد الحنث، فلو علق الطلاق في النكاح الأول، ثم أبان زوجته، فوُجدت الصفة في زمان البينونة، فلا شك أن الطلاق لا يقع لمصادفة الصفة حالةً لو أنشأ الطلاق فيها تنجيزاً لَمَا وقع.
وإذا عادت، ثم وجدت تلك الصفة في النكاح الثاني؛ فالذي صار إليه أئمة المذهب: أن الطلاق لا يقع وإن فرعنا على عَوْد الحنث، واعتلّوا بأن الصفة لما وجدت في زمن البينونة، انحلت اليمين انحلالاً لم تصادف إمكان إعمال، فانحلّت بلا عمل، فإذا انحلت، استحال أن يقع في النكاح الثاني شيء. ووجه ذلك أن اليمين لا تنعقد إلا مرة واحدة. فإذا وجدت بعد المرة، فقد زال متعلَّق اليمين، وعسر الحكم بالصفة، فكان موجب ذلك أن تنحل اليمين بلا خلاف.
وحكى العراقيون عن أبي سعيد الإصطخري وجهاً أن اليمين لا تنحل، لأن يمين الزوج معقودة على طلاق يُمْلَك في زمان يُتصور من فيه التنجيز والتنفيذ، ويستحيل عقد اليمين بالطلاق على زمان البينونة، وإذا لم تنعقد على زمان البينونة، لم تنحل بما يقع في زمان البينونة. وهذا متجه على مذهب الشافعي، ولكنه بعيد في النقل، غيرُ معتد به.
ومما يتعلق بهذا الأصل؛ أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها قبل الغد، فانقضى الغد في البينونة، ثم عادت، فلا شك أن ذلك الطلاق المؤقت لا يقع. ولا يخرّج في هذه الصورة وأمثالها مذهب الأصطخري؛ فإن الوقت الذي علق الطلاق به، قد انقضى قبل النكاح الثاني، فلا يتصور وجوده في النكاح الثاني، حتى نتكلم في وقوع الطلاق وعدم وقوعه، وأما مذهب الأصطخري فيه إذا كان متعلق الطلاق صفةً يتصور وجودها في النكاح الثاني.
8719- ومما يتعلق بأصل عَوْد الحنث؛ أن الرجل إذا قال لامرأته: إذا بِنْتِ ونكحتكِ ودخلتِ الدار في النكاح الثاني، فأنتِ طالق، ثم بانت ونكحها، فدخلت الدار؛ فالذي ذهب إليه أئمة المذهب أن الطلاق لا يقع أصلاً. وإن فرّعنا على عَوْد الحِنث؛ فإنه صرح بتعليق الطلاق في نكاح قبل انعقاده، وهذا لا يراه الشافعي ولا يسوّغه.
ومن أصحابنا من قال: يخرّج هذا على قول عَوْد الحِنث؛ فإن النظر إلى وقوع المعلَّق في النكاح مع وقوع الصفة في النكاح، وهذا بعيدٌ مع التصريح بإضافة الوقوع إلى النكاح الثاني، حتى لا يفرضَ انحلال اليمين في النكاح الأول هكذا أجروه.
والوجه أخْذه من عود الحنث بعد استيفاء الثلاث؛ فإن الحنث ينطبق على ما يتجدد بالنكاح الثاني من مِلْك.
8720- ومما كان يفرعه شيخي في هذا الأصل: أن الرجل إذا علق طلقة واحدة بصفة-وهو يملك الثلاث- ثم قال: نجّزتُ تلك الطلقة التي علّقتها، فتنتجز الطلقة لا محالة. وهل ينحل التعليق؟ هذا ينبني على أنه إذا نجز الثلاث، فهل ينحل التعليق حتى لا يعود في النكاح الثاني؟ فإن قلنا: لا ينحل التعليق، فلا معنى لحَلِّ التعليق بالجهة التي ذكرناها.
فإن قلنا: ينحلّ التعليق لو استوفى الطلقات، فإذا علق واحدةً، ثم نجز واحدة، وزعم أنها التي علقها، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن التعليق ينحلّ، ووجهه بين.
والثاني: أنه لا ينحلّ، ويبقى التعليق مرتبطاً بما بقي من الطلقات؛ فإنه ما كان متعلقاً بطلقة معينة. ولا خلاف أنه لو علق طلقة، ثم نجّز طلقة مُطْلَقة، فالتعليق لا ينحلّ؛ فقوله: نجزت ما علّقت تصرّفٌ منه في فكّ التعليق، وليس ذلك إلى المعلِّق.
هذا تمام البيان في تمهيد أصل عَوْد الحنث، ولهذا الأصل تكرُّرٌ في الكتب على ما يليق بمقاصدها، وفيما ذكرناه الآن مَقْنع.
8721- وقد عاد بنا الكلام إلى مضمون الباب. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً: في كل سنة واحدةٌ، رجعنا إليه، فإن زعم: أنه أراد مُدَد السنين وتنكيرَها، ولم يرد السنة المعروفة العربية المستفتحة بالمحرم، فالجواب-ومراده ما وصفناه- أنه يقع في الحال طلقة؛ لأنه يكون في سنةٍ لا محالة، وقد أوقع الطلقات الثلاث في ثلاث سنين، فلتقع كلُّ طلقة في سنة، وموجب ذلك وقوعُ طلقة في الحال؛ لأنه في سنة، ولم يعلّق الطلقات الثلاث بانقضاء ثلاث سنين.
ثم إذا حكمنا بوقوع طلقة في الِحال؛ لأنه في سنة، فلو راجعها، وامتدّت عدة الرجعة بتباعد الحيضة، أو امتداد زمان الحمل، حتى مضت اثنا عشر شهراً؛ فتقع عليها الطلقة الثانية فإن راجعها، وطالت العدة إلى اثني عشر شهراً أخرى، فيقع عليها الطلقة الثالثة، فتلحقها الثلاث في أربعة وعشرين شهراً ولحظةٍ، وهذه اللحظة الزائدة: وقتُ وقوع الطلقة الثالثة. والوقتُ الذي وقع فيه الطلقة الأولى محسوب من السنة الأولى. وهذا بيّن لا يخفى دَرْكُ مثله على الفطن.
وما ذكرناه فيه إذا تمادت عدة الرجعية، وارُتجعت المرأةُ على نظمٍ يقتضي وقوع الطلقات كما صورناه.
فإن لحقها الطلقةُ الأولى، ولم يرتجعها، وانقضت عدتها قبل مضي السنة الأولى، وبانت، فإن نكحها، فتمت اثنا عشر شهراً من يوم تلفظه بالطلاق وعَقْدِه اليمين، فهل تلحقها الطلقة الثانية؟ فعلى القول الممهد في عَوْد الحنث.
وقد قدمنا فيه الأقوالَ، والترتيبَ البالغَ الكافي، والكلامُ في الطلقة الثالثة على ذلك يخرّج.
ولو لحقتها الطلقةُ الأولى، وانقضت عدتها في السنة الأولى، ولم يجدد عليها النكاحَ حتى مضت السنة الثانية، فقد انحلت اليمين في الطلقة الثانية؛ فإنه كانت نهايتها بانقضاء السنة الثانية. وليس هنا محل تخريج الإصطخري،-بل هو كما لو قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها قبل الغد، وتصرّم الغد على البينونة، ثم جدد النكاح- فلا يقع الطلاق، ثم هل يقع الطلاق الثالث لو امتدت العدة، وهل تنحل اليمين بمضي تلك اللحظة؟ قلنا: لا تنحلّ؛ فإن أمد الطلاق الثالث منتهٍ. غير أنا ابتدرنا الحكم بوقوعه لنحقق دخول الوقت، وكل طلاقٍ أضيف إلى زمانٍ ممتد إضافة الشيء إلى ظرفه الزماني، فإنه يقع في أول جزء منه. فإذا كانت المرأة بائنةً في الجزء الأول من السنة الثالثة، لم يقع الطلاق.
فإذا نكحها في أثناء السنة الثالثة، فهذا النكاح جرى في أمد الطلاق الثالث ثم إن قلنا: بعَوْد الحنث، فكما نكحها، طلقت؛ فإن هذا زمانٌ من السنة الثالثة، وهو بمثابة ما لو قال لامرأته: أنت طالق غداً، ثم أبأنها، فمضى صدرٌ من الغد، ثم جدد النكاح عليها في بقيةٍ من الغد، ورأينا عود الحنث، فالطلاق يقع كما ينكحها.
هذا كله فيه إذا قال: أردت بقولي: في كل سنة طلقة، تنكيرَ السنين، ولم أُرد تعريفها بالسنين العربية.
8722- فإن قال: أردتُ السنين العربية، طُلّقت في الحال طلقة، لأنها تقع في سنةٍ عربية. وكلما أهلّ المحرم، طُلقت طلقةً أخرى. وقد تقع الطلقة الأولى في آخر لحظة من السنة، وتقع الثانية في اللحظة الأولى من السنة؛ فتلحقها طلقتان في لحظتين. والفرق بين هذه المسألة وبين الأولى مستبين؛ فإن المسألة الأولى مقتضاها تقدير السنين من وقت نطقه، فانتظم ذلك الترتيب على ما مضى، وهذه المسألة مبنية على ما يقع من السنين العربية، لا على ما يقدره الحالف.
والغرض التام في ذلك يتّضح بذكر مسألة واستغراب، وجوابٍ عنه.
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً في كل يومٍ طلقة، فإن قال ذلك وهو في يوم، فتقع واحدة في الحال، وتقع الثانية كما طلع الفجر في اليوم الثاني، ولا يتوقف الوقوع على أن ينتهي في اليوم الثاني إلى الوقت الذي انعقد فيه اليمين في اليوم الأول. وإن قال: أردت تنكير اليوم، فالجواب كذلك. فإن قيل: هلا حسبتم بعد وقوع الطلاق زمانَ يومٍ: مثلاً يقع الطلاق في وقت الزوال، فيتربص إلى انتهاء اليوم الثاني إلى وقت الزوال. وهذا في التحقيق مضي يوم مضى شطره أمس ولم يمض مقدار يوم في اليوم الثاني؟ قلنا: سبب ذلك أنه إذا علّق الطلاق باليوم وجعله ظرفاً؛ فإذا قال: في كل يوم، فكما طلع الفجر شرعت في جزء من أجزاء اليوم، وليس كذلك السنة المنكرة؛ فإنها تطلق على اثني عشر شهراً. فإذا نظر الناظر إلى مسألة الأيام، ومسألة السنين المنكرة، ابتدر اعتقاد الفصل بينهما، ثم تعسر العبارة عن مكنون الضمير. ويُستنكر أمثالُ ذلك في مسائل الطلاق؛ فيقع الاعتناء
بتَرْصيف العبارة، وتطبيقها على المعنى.
ونحن نقول: السنة تنكر، وتعرّف، فيقال: أقبلت السنة إذا قرب هلال المحرم، واليوم يعرّف وينكّر. وليس يبعد اعتقاد التبعيض فيه أيضاًًً؛ فإِن الرجل إِذا قال لامرأته وقت الزوال: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فلا تطلّقُ حتى تغرب الشمس، ويدخلَ اليومُ الثاني، وينتهي إلى وقت الزوال.
ولكن الألفاظ المطلقة في الأيام ظاهرةٌ في الأيام المعرفة. والسنين المطلقة ليست ظاهرةً في السنين العربية؛ فإنّ تعرّف الأيام أظهرُ من تعرف السنين؛ كيف؟ وطبقات الخلق على اختلافٍ في تعريف السنين، ولسنا على توقيفٍ حاقّ في تعريف السنين العربية، فكان قولُ القائل: أنت طالق ثلاثاًً في كل سنة طلقةٌ ظاهراً في احتساب السنة المنكرة من وقت القول، وقول القائل: "في كل يوم" ظاهرٌ في اليوم المعروف؛ حتى يُعدَّ احتسابُ يوم من يومين في حكم الشاذ، الذي يلتبس الفكر عليه، إذا لم يُرِد.
8723-و هذا يتبين بمسألتين: إحداهما- أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل سنة طلقة، فراجعناه في قصد التعريف والتنكير، فزعم أنه لم يكن له قصد، فهذا عندنا ملتحق بمسائلَ ستأتي في الطلاق-إن شاء الله تعالى- مستندةً إلى قاعدةٍ لا سبيل إلى الخوض فيها الآن، ولكنا ننجز الجواب والفتوى على حسبها، فنقول: إذا زعم أنه أطلق اللفظ، ولم ينو تنكيراً ولا تعريفاً، ففي المسألة وجهان أخذاً من كلام الأئمة في قواعد الطلاق:
أحدهما: لفظه يحمل على التنكير؛ فإن إطلاق الرجل قولَه سنة من غير تعريف محمول على سنة يضعها ويعتبرها من تلقاء نفسه. هذا هو الغالب
في حكم الإطلاق.
والوجه الثاني- يحمل على السنة العربية؛ فإنه لا تعريف في كلامه. وقد يترجح أحد القولين على الثاني بمصادفته التعريف الشرعي.
وإذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً في كل يوم طلقة، وزعم أنه لم ينو تعريفاً ولا تنكيراً، فهذا محمول على اليوم المعرّف بلا خلاف؛ فإنه المفهوم السابق إلى الأفهام، ومبتدأُ الأيام منفصلةٌ في الصورة بتخلل الليالي.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً في كل يوم طلقة، وزعم أنه أراد تكميل اليوم الذي كان فيه بساعات اليوم الآتي، فهو إن صدق في حكم الله تعالى محمول على حكم نيّته تديّناً. وإن قال: فاقبلوه مني ظاهراً، فهل يحمل على هذا ظاهراً ويقبل قوله؛ فعلى وجهين سيأتي أصلهما، إن شاء الله عز وجل:
أحدهما: أنه يقبل، لظهور الاحتمال مع النية، ولا مطمع في تمهيد هذه القواعدِ بعدُ، ومقدار غرضنا الآن إظهار الفرق بين السنين والأيام، وقد لاح على أبين الوجوه، والحمد لله رب العالمين.
8724- وإذا قال: أجرتك هذه الدار ثلاثَ سنين، فابتداء المدّة من وقت العقد، وإذا قال: أجرتكها ثلاثة أيام، وأنشأ العقد وقت الزوال، استكملنا الأيام بالتلفيق كالسنين، ولا فرق بين السنين والأيام في ذلك، والسبب فيه ارتباط الإجارة باستغراق المدة في الموضعين، والطلاق إنما يقع في أوقاتٍ من السنين والأيام.
وهذا تمام الغرض.

.باب: الطلاق قبل النكاح:

قال الشافعي رحمه الله: "ولو قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق... إلى آخره".
8725- إذا قال الرجل لأجنبية: إن نكحتك، أو إذا نكحتك، فأنت طالق. فهذا التعليق قبل النكاح لغوٌ، وإذا نكحها، لم تطلق.
وإذا قال: كل امرأة أنكحها، فهي طالق، فقوله لغو. وقاعدةُ المذهب أن التعليق تصرفٌ من مالك الطلاق في الطلاق بما يقبله الطلاق من التعليق، فإذا لم يملك الطلاقَ، كان تصرفه فيه لغواً. وقال أبو حنيفة: التعليق إذا أضيف إلى النكاح على الإطلاق أو على التعيين في مخاطبة واحدة، صح، وإذا فرض النكاح عَمِل.
وقال صاحب التقريب: تردد جواب الشافعي في القديم، ونقل من كلامه ما يدلّ على أن قوله في القديم مثلُ مذهب أبي حنيفة، وتارة ينقل قولاً بعيداً وتارة ينقل تردداً، وقد يقول: الطلاق لا يعلّق قبل النكاح في المشهور من قوله، والصحيح من مذهبه.
وهذا لم أره إلا في طريقته، فنقلته على وجهه، وتعرضت لصيغ كلامه، ولا عَوْدَ إليه، والمسألةُ خلافية مشهورة.
8726- وقد أجرى الأئمة فيها مسائلَ مذهبيةٍ، ونحن نذكرها ونستعين بالله تعالى.
فمنها أن العبدَ يملك على زوجته طلقتين، فلو علق الطلقة الثالثة مع الطلقتين، فقال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم عَتَق، ودخلت المرأة الدار بعد العتق، ففي وقوع الطلقة الثالثة وجهان: أقيسهما- أنه لا يقع، تخريجاً على القاعدة التي ذكرناها معتمداً في المذهب، وذلك أنه علق الثالثة في وقت كان لا يملكها، فلزم إلغاء تعليقه.
والوجه الثاني- أنه يقع؛ فإنه لما علّق، كان مالكاً للنكاح، فصدر تعليقه عن ملك مستقىً عن ملك الأصل، وشبه بعض الفقهاء هذا بالإجارة، فإنها تصدر عن مالك الرقبة، والمنافُع مستجدةٌ شيئاً فشيئاً.
وهذا تكلف، فإن الإجارة أُثبت أصلها للحاجة ثم المنافعُ تترتب خِلقةً ووجوداً، فجعلت كالموجود، وأما العتق، فإنه ليس مما يُقضى بوقوعه، بل هو متوقع، ولو قيل: الغالب دوام الرق، لكان سديداً.
8727- ومنها أن الرجل إذا قال لأمته: كل ولدٍ تلديه، فهو حر، وكانت حائلاً فعلقت بولدٍ بعد التعليق، فإذا ولدته، فهل ينفذ العتق فيه؛ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا ينفذ؛ لأن الولد لم يكن موجوداً حالة التعليق.
والثاني: أنه ينفذ العتقُ لصَدَره عن مالك الأصل، والعتق أولى بالنفوذ في هذه المسألة من الطلاق الثالث في مسألة العتق؛ لأن من ملك الأصلَ، فذلك يملّكه الولدَ، وملك العبد النكاحَ لا يملكه الطلاقَ الثالث.
ثم إذا نفذنا العتق والطلاقَ في المسألتين، فلا حاجة إلى إضافة الطلاق إلى حالة الملك، بل يكفي أن يقول العبد: إذا دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاً، ثم يعرضُ العتق ويكفي أن يقول لأمته: إذا ولدت ولداً، فهو حر، ولا حاجة أن يقول: إذا ولدت ولداً في ملكي.
8728- ومنها كلامٌ في النذر، فإذا قال الرجل: إن شفى الله مريضي فلله عليّ إعتاقُ عبدٍ، فإذا شفي المريض، لزم الوفاء بالنذر وإن لم يكن في ملكه عبدٌ حالة النذر، والسبب فيه أن التعويل في هذا النذر على الالتزام المطلق في الذمة، والديون كذلك تلزم الذمم؛ فإنها لا تتعلق بالأعيان، وإذا كنا نحتمل هذا في أثمان البياعات مع بعدها عن قبول الأغرار، فلا بعد فيها في النذور القابلة للمجاهيل، وضروب الأغرار.
ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبداً إذا ملكته، فهذا صحيح؛ فإن النذر على هذا التقدير يُلتزم، وعلى هذا الوجه يُفرض الوفاء به.
ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبدَ زيدٍ هذا إن ملكتُه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: النذر يبطل؛ فإن معتمده التصرفُ في ملك الغير قبل ملكه، فيبطل، كما بطل تعليق العتق والطلاق قبل الملك.
والوجه الثاني- أنه لا يبطل؛ لأن معتمد النذر الذمة، والذمة مملوكة للملتزم، والطلاق يتمحض إيقاعاً في العين؛ فإذا لم يملك العين، لغا تصرّفُه فيه.
8729- وإذا قال: أوصيت لفلان بألف درهم، وكان لا يملك إذ ذاك حبة، ثم ملك ما يفي بالوصية، فالمذهب تصحيح الوصية، كما لو نذر نذراً مطلقاً وهو لا يملك شيئاً. وأبعد بعض أصحابنا، فأبطل الوصية بأنها ليست التزاماً في الذمة، والنذر التزامٌ، فكان المنذور ديْناً.
والذي عليه التعويلُ التسويةُ بين البابين؛ فإن الوصية تقبل من الإطلاق ما يقبله النذر، فمطلَقُها وإن لم يكن دينا كمطلَق النذر إن كان ديناً. وإذا استويا في قبول الإطلاق والمطلق لا يرتبط بالعين، فلا فرق في الغرض المقصود.
وإذا قال: لو ملكت عبد فلان، فقد أوصيت لك به، ففي الوصية وجهان:
أحدهما: أنها لا تصح، لوقوعها في عينٍ غير مملوكة، فكانت كتعليق العَتاق والطلاق قبل الملك.
والثاني: تصح، لأن الوصية مبناها على الغرر والخطر، ونفوذها في وقت زوال ملك الموصي، وكان شيخي يقول: إذا صححنا الوصية مضافة إلى العين، وصححنا النذر مضافاً إلى العين، فشرطهما أن يقيّدا بتقدير الملك، فيقول الناذر: إن ملكت هذا العبدَ، ويقول الموصي إن ملكتُ هذا العبدَ، فلو وجه الناذر على عبد الغير مطلقاًً فقال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد، ووجه الوصية كذلك على ملك الغير فالنذر والوصية باطلان.
والظاهر عندنا ما ذكره. وإذا سلم الخائضُ في المسألة الوصيةَ والنذرَ المتعلقين بالعين، ورتب عليه اشتراطَ الإضافة إلى الملك عسُر عليه الكلام في المسألة.
8730- وإذا قال: إن تزوجتُ فلانة، فقد وكلتك في طلاقها، فالوجه القطع ببطلان الوكالة؛ فإنه تصرفٌ في الطلاق قبل الملك، وقد اختُلف في أن الوكالة هل تقبل التعليق، والطلاقُ قابلٌ للتعليق، فإذا لم يجز تعليق ما يقبل التعليق قبل النكاح، فكيف تصح الوكالة؟
ولو قال: وكلتك في بيع عبد فلان أو عتقه إذا ملكتُه، وفي طلاق فلانة إذا نكحتُها، ثم ملك، ونكح، ففيما نُقل عن القاضي وجهان في هذا.
والوجه عندي القطع بالفساد؛ فإن الوكالة لا يصح تنجيزها، والتصرف غير ممكن، فلا فرق في المعنى بين هذه الصورة والصورة الأولى.