فصل: باب: الشرط في الرقيق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشرط في الرقيق:

قال: "ولا بأس أن يشترط المساقى على رب النخيل غلماناً يعملون معه...
إلى آخره".
5012- أراد بالمساقي-والقاف مكسورة- العاملَ، ولو قال المساقَى- بفتح القاف- لكان أظهر في تفاوض الفقهاء، غير أن ما ذكرناه صحيح في اللغة؛ فإن المساقاة مفاعلة، فيجوز أن يعبَّر عن كل واحد منهما باسم الفاعل والمفعول، وهو يضاهي كلمة المصادفة والموافاة، وما في معناهما، فيجوز أن تقول إذا التقيت بزيد: صادفتُ زيداً، ويجوز أن تقول صادفني زيد، ووافيتُ زيداً، ووافاني زيد، ولاقيتُ زيداً، ولاقاني زيدٌ.
وغرض الباب أنه لو كان في البستان الذي جرت المعاملة فيه غلمانٌ مرتبون للعمل فجرت المساقاة مطلقة بين ربُّ البستان وبين العامل، فالعبيد لا يدخلون في موجَب العقد المطلق.
وقال مالك: الغلمان الذين هم من عَمَلة الحائط يدخلون تبعاً، والعامل يستعملهم، وهذا الذي ذكره وهمٌ، وغلطٌ؛ لأن المالك ربما لم يرضَ بالمساقاة إلا لقطع غلمانه عن العمل، حتى يتفرغوا، وهو يستعملهم في أمورٍ سواه، فيجب حملُ المساقاةِ على مقتضاها. وخروج العبيد.
هذا إذا كان العقد مطلقاً، فإن قُيّد، فشرَط العاملُ دخولَهم في العقد، ليعملوا معه، فظاهر النص أن الشرط صحيح، وإذا وقع التوافق عليه، لزم الوفاء به. ثم لو جرى هذا الشرط لعبيدٍ مرتّبين معروفين بالعمل في هذا البستان، أو جرى في عبيد آخرين، لم يُشْهَروا بالعمل في هذا البستان، فلا فرق، والكل على وتيرة.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يشترط عملَهم معه؛ فإن المعاملة تقتضي استحقاق صنوفٍ من الأعمال على العامل، فإذا اشترط أن يعمل العبيد معه، اقتضى ذلك الحطَّ من تلك الأعمال، وقد يتعاطى العبدُ معظمها وهذا تغييرٌ لوضع العقد.
وسنذكر أن المالك لو شرط أن يعمل مع العامل، لم يجز.
وعمل العبد كعمل المالك، ويدُ العبد إذا كان يتصرف بإذن المالك كيد المالك، فإذا امتنع شرطُ عمل المالك، وجب أن يمتنع شرطُ عمل العبد.
5013- فيخرج من هذا الترتيب أن المالك لو شرط أنه يعمل، لم يجز على ما سنذكره. وفي شرط عمل العبيد الخلاف الذي ذكرناه: ظاهر النص الجوازُ، وفيه الوجه المخرّج المشهور.
ومَنْ نصر النصَّ، انفصل عن عمل المالك بأن قال: المالك إذا كان يعمل، ففي عمله إفساد تدبير العامل، وشرطُ عمله أن يكون صادراً عن استقلاله بنفسه، واستبدادِه برأيه؛ وهذا لا يتحقق في العبد؛ فإنه مع العامل في حكم المصرَّف المستخدم، حتى لو وقع الشرطُ على أن يستقلَّ العبدُ بالعمل، ولا يتبعَ استعمال العامل إياه، فذلك فاسدٌ مفسدٌ، نازلٌ منزلة اشتراط عمل المالك، فإذاً العبيد إذا ذكروا، وقعوا عوناً للعامل على سبيل التبع.
ولو شرط رب النخيل أن يُعينَ العاملَ بثيرانٍ عوامل، أو ما في معناها من الآلات
التي يحتاج إليها العامل، لم يضرّ شرطُ ذلك، اتفق الأئمة عليه في الطرق، والفرق أنها ليست عواملَ بأنفسها، وإنما هي كالآلات، والعملُ مضافٌ إلى مستعملها، ولا يُتوقع منها مزاحمةٌ، بخلاف عبيد رب النخيل. وإنما يتّضح هذا الفصل بآخره.
5014- وقد ذكر المزني في آخر مسائل التحري شيئاً، وأنا أرى في طريق البيان أن أذكره الآن: فلو شرط العامل أن يستأجر في الأعمال الأجراءَ، أو في بعضها، وشرط أن تكون أجرتُهم على المالك، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: أنه يسوغ.
والثاني: لا يسوغ.
توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز شرطُ ذلك، احتج بأن الأعمال إذا تولاها الأجراء واستحق المساقَى جزءاً من الثمار، لم يكن استحقاقه في مقابلة عمل و رب المال كان متمكناً من تحصيل تفاصيل هذه الأعمال بالأجراء، فإذا حصلت بهذه الجهة، والتزم المالك الأجرة، لم يبق للعامل مع ذلك معنىً.
ومن قال بالجواز، احتج بأن قال: إذا وقع التشارط كذلك، فالمطلوب من العامل استعمالُ الأجراء في الوجوه التي يستصوبها، وتخيّر الأوقات للأعمال، وانتصابه قهرماناً عليهم، وهذا جارٍ في العرف.
فإن قيل: هلا وقع القطعُ بجواز ذلك اعتباراً بمؤنة الحمال والكيال والدلال في مال القراض؛ فإن مؤنهم محسوبة من عُرض المال، فليكن الأُجراء بهذه المثابة؟
قلنا: لا سواء؛ فإنّ الأعمال التي يتولاّها هؤلاء في القراض لا يتولاها التاجر بنفسه، ويستحيل أن نكلف مرموقاً في التجارة أن يتعاطاها، فتلك الأعمالُ خارجةٌ عن كونها ثابتةً على المقارض، والأعمال التي يقع استئجار الأجراء عليها في مسألتنا مستحقةٌ على العامل في وضع المعاملة. نعم، قد ذكرنا أن عرض الثياب، ونشرَها، وردَّها إلى ظروفها من عمل المقارَض، فلو شرط الاستئجارَ على هذه الصنوف، جرى الخلاف الذي ذكرناه في الاستئجار على أعمال المساقاة.
5015- ولو شرط العامل في المساقاة أن يصرف إلى أجرة الأجراء أجزاء من الثمار، فهذا الشرط يُفسد؛ فإنه لا يجوز إضافةُ الثمار إلا إلى العامل والمالك.
وإذا قال: أصرف إليهم من الثمار أجرتهم والباقي بيننا، فهذا يجر جهالةً في المشروط بين العامل وبين رب النخيل، وإذا وقع الشرط على أن يبذل المالك أجرة الأجراء، لم تصِرْ جزئيةُ الثمار مجهولةً، وسنقرر هذا الفصل، وهو إضافة مؤن الأجراء إلى الثمار في آخر المسائل.
وكان قَدْرُ غرضنا التردّدُ الذي ذكرناه إذا كانت الأجرة مشروطةً على المالك.
ثم مَنْ صحح ذلك، فلا خلاف أنه يجب أن يبقى متعلَّقٌ من عمل العامل، وأوْلى أعمالِه استعمالُه الأجراء في وجوه الاستصواب، فإذا وقع الشرط على ألا يعملَ، ولا يستعملَ، فلا شك أن المعاملةَ فاسدةٌ.
ولو ذكر أنه يَعُدُّ الأجراء، أو يضبط حسابَهم، فالذي أراه أن هذا لا يكتفى به، إذا لم يكن يهتدى إلى الدهقنة، وجهات الاستصواب، ولم يقع الشرط على الاستقلال بالاستعمال، فإنّ عدّ الأجراء، أَوْ ضبطَ حسابهم عملُ أجيرٍ، آخر لا يختص بالدهقنة المطلوبة.
5016- فإذا تمهد ما ذكرناه، التحق اشتراط عمل العبيد باشتراط الأجراء. وفي عمل العبيد مزيد أمرٍ يشير إلى فساد الشرط، وهو أنّ أيديهم تضاهي يدَ المالك بخلاف أيدي الأجراء، فالوجه ترتيب اشتراطهم على اشتراط الأجراء، والمصيرُ إلى أن اشتراطهم أولى باقتضاء الفساد من طريق القياس، والنصُّ على الصحة، فليقع التفريع عليه.
5017- فنقول: إذا شُرطوا وتعينوا بالشرط، فالكلام بعد ذلك في نفقاتهم ومؤنهم، وقد أجمع الأئمة على أنه لو لم يقع التعرض لنفقتهم، فنفقاتُهم على المالك؛ فإن النفقة تتعلق بالمالك إذا لم يقطعها قاطع عنه، ولو وقع الشرط على أن ينفق المالك، فقد تطابق الشرطُ ومقتضى الشرع.
ولو وقع الشرط على أن تكون النفقة على العامل، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: هذا فاسدٌ؛ لأنه قطعٌ لمقتضى الشرع في اقتضاء الملك نفقةَ المملوك.
ومنهم من قال: يصح شرطُ النفقة على العامل؛ فإن العمل في وضع العقد مستحَقٌّ عليه، فلا يمتنع شرط مؤنة العملة عليه، وهذا ظاهرُ النص؛ فإنه قال: رضي الله عنه: ونفقة الرقيق على ما يتشارطان.
وذهب مالك إلى أن مطبق العقد يقتضي أن تكون النفقة على العامل، وإياه قصد الشافعيُّ بالرد حيث قال: والنفقة على ما يتشارطان، فهذا هو الترتيب في الأصل.
وذكر شيخي عن بعض الأصحاب وجهاً أن شرطهم لو كان مطلقاً، ولم يقع التعرض لذكر نفقاتهم، فالعقد يفسد بهذا الإطلاق؛ فإنه يجرّ جهالة في المقصود.
وهذا مزيف ضعيفٌ.
فإذا حكمنا بأن النفقة على المالك في التفاصيل التي ذكرناها، فإنه ينفق عليهم إنفاقه قبل ذلك. فإن قلنا: النفقة على العامل عند الشرط، فهل يُشترط إعلامها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يجب الإعلام، وهو الأقيس، ولا يخفى وجهه.
والثاني: لا يشترط الإعلام ويتسامح في ذلك، ويُرد الأمر إلى الأمر القَصْد الوسط في الإنفاق، ومثل ذلك محتمل في عرف المعاملات.
ومما أجراه الشافعي في محاجّة مالك لما نقل عنه أن نفقة العبيد على العامل من غير شرط، فقال رضي الله عنه: كما ألزمته النفقة، فألزمه أجرة العبيد؛ فإن أجرة أعمالهم تزيد على نفقاتهم. وهذا الكلام ينشىء في المذهب نظراً على الفقيه.
5018- وقد ذكرنا في اشتراط أجرة الأجراء على المالك تفصيلاً، فإذا جَرَيْنا على أن حقَّ العمل أن يكون مستحقاًً على العامل، فاشتراط أجرة العبيد عليه لا يمتنع ليكون هو الموفي عملَ المساقاة.
ويرجع النظر إلى تعيين العبيد وأن أيديهم هل تنزل منزلةَ يد المالك، فليتبيّن الناظرُ ذلك، ثم ليعلم أن الأصح جوازُ اشتراط أجرة الأجراء على المالك، وردّ الأمر إلى أن جملة الأعمال لو قوبلت بجزءٍ من الثمار، جاز. ولو قوبل بعضها على شرط الاستقلال بجزءٍ من الثمار، فالأصح الجواز.
ولو لم يكن للعامل استقلالٌ، وإنما كان يصرّفه المالك في عملٍ يريده، وذكر له جزءاً من الثمار، لم يجز ذلك بلا خلاف، فإن هذا خارج عن المساقاة المعهودة، وهو على الحقيقة استئجارٌ بجزءٍ من الثمار. والاستئجار على هذا الوجه فاسد.
فهذا بيان أطراف الكلام في الفصل.

.باب:

قال المزني: "هذه مسائل أجبتُ فيها على معنى قوله وقياسه... إلى آخره".
5019- فمن ذلك لو ساقاه على نخيلٍ سنين معلومة، على أن يعملا فيها جميعاً، لم يجز في معنى قوله.
فقال الأئمة: أصاب فيما قال؛ لأن المالك إذا شرط أن يعمل معه في البستان مَنَع انفراده بالرأي والاجتهاد، وغيَّر وضْعَ المعاملة، وردَّ مرتبة العامل إلى محلّ مستعمَل محتكمٍ عليه، وهذا صفة الأجير الذي يستعمله مستأجِره، ووجدت الطرقَ متفقةً على ما ذكرت، وقد قدمتُ في القراض أن المالك لو شرط أن يعمل مع المقارَض، أفسد القراضَ بهذا الشرط.
وهذا في القراض أظهر؛ من جهة أن صاحب المال إذا كان يزاحِم في العمل عليه فأهل العرف لا يعاملون العامل، ولا يقيمون له وزناً والغرض من نصبه أن يظهر أثره في التجارة، وهذا قبضٌ على يده.
وهذا التعليل على هذا الوجه قد لا يظهر في المساقاة إلا على وجه التكلف، في أن العامل لو لم يكن مستبداً، فقد يؤدي ذلك إلى فوات وجوهٍ من العمل، وأعمال الدهقنة في أحيانها كالفُرص في أوانها. وقد ذكرنا في القراض أن المالك لو لم يشترط أن يعمل مع المقارض، ولكن شرط أن يكون له يدٌ في المال، فهذا الشرط مفسدٌ وفاقاً.
5520- ولو شرط ربُّ النخيل أن يكون البستان تحت يده، نُظر: فإن لم يكن للعامل يدٌ، وكان يحتاج إلى مراجعة المالك، مهما أراد الدخول والعمل في البستان، فهذا التضييق مفسدٌ للعمل إجماعاً؛ فإنه يؤثر أثراً بيِّناً في عين مقصود المعاملة، إذ قد يَرْهَق عملٌ في الدهقنة لا يقبل التأخير.
وإن كانت اليد ثابتةً للعامل، وكان متمكناً من الوصول إلى العمل متى شاء، فهذا مما رأيت كلامَ الأصحاب فيه على التردّد، فرأى بعضُهم أن تُلحَقَ المساقاة بالقراض، حتى تكون مشاركةُ المالك في اليد مُفسدةً كالقراض.
وهذا غير سديد؛ فإن المالك إذا كان لا يزاحِمُ في العمل، فلا أثر ليده، والحالة كما وصفنا، بخلاف اليد في القراض؛ فإن نفسَ مخالطة المالك للمال تصرف وجوهَ الطالبين والراغبين عن العامل، وتتضمن قبضاً على يده، وهذا لا يتحقق في عمل المساقاة أصلاً.
وتمام البيان في ذلك: أنا إذا لم نجعل مجردَ يد المالك مؤثراً، فلو شرط أن يعمل مع العامل على حسب استعمال العامل إياه، من غير أن يستبد بنفسه، أو يزاحمه في التدبير والاستقلال، فهذا فيه احتمالٌ ظاهر، ولكن مقتضى قول الأصحاب أنه إذا كان يشارك في العمل، وجرى شرطُ ذلك، كان فاسداً مفسداً. وهذا فيه نظر، ولا يبعد حمل كلام الأصحاب على اشتراط العمل، على وجهٍ يزاحم تدبير العامل.
هذا منتهى الكلام في هذا.
فصل:
قال: "ولو ساقاه على النصف، على أن يُساقِيَه في حائط آخر على الثلث، لم يجز... إلى آخره".
5021- وهذا كما قال: وعلّة الفساد أنه شرط عقداً في عقد، وكان كما لو قال:
بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تشتريَ داري بألفين.
وكذلك لو قال: ساقيتك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا- لا يجوز، كما لو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تبيعني دارَك.
ثم المساقاة الثانيةُ صحيحة، إذا جرت مطلقةً؛ فإنها خليّةٌ عما يُفسدها، وإنما فسدت المساقاةُ الأولى بشرط هذه فيها، فإذا لم يقع في العقد المتأخر شرطٌ، وجرى على موجب الشرع، صحَّ.
وكذلك القول في البيعين، فالبيع الأخير المطلق صحيحٌ.
فإن جرى ما يتضمن تعليقاً في العقدين، مثل أن يقول: ساقيتُك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا على الثلث، فإذا وجب لك هذا، وجب لي هذا، فإذا رأيا ذلك إنشاءً للعقدين، لم يصح واحدٌ منهما؛ فإنَّ كلَّ واحد معلّقٌ بالآخر، والتعليق ممنوعٌ في ذلك.
ولو جرى هذا على هذه الصيغة، ثم استفتحا المساقاةَ الثانيةَ، أو البيعَ الثاني، وقد جرى قبلُ صيغةُ التعليق، فلا أثر لما تقدم، ويصح العقد الثاني إذا استقل بشرائط الصحة، ولا يؤثر إضمارُهما أن ذلك وفاءٌ بالتعليق المقدّم، إذا لم يَجْرِ تعليقٌ عند استفتاح هذا العقد.
5022- ثم مهما فسدت المساقاة، فللعامل أجر مثل عمله، والثمار، بجملتها لرب النخيل. فلو فسدت المساقاة، وعمل العامل، واجتاح الثمارَ الجوائح، ولم يحصل شيء منها، فهل يستحق العامل على الفساد أجرةَ المثل؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يستحق بعمله، ولا تعويل على الثمار في حقه، كانت أو لم تكن.
والثاني: أنه لا يستحق شيئاً، لأن العقد لو كان صحيحاً، لما استحق شيئاً، فإذا عمل على الفساد، فقد صدر منه العمل على وجهٍ لا يعتقدُ استحقاق شيء بعمله، مع اعتقاد الصحة، فليكن الفاسدُ كالصحيح، حتى لا يختلفا إلا في المستحق، فالواجب في الصحيح جزءٌ من الثمار، وفي الفاسد أجرة المثل. وقد ذكرنا نظير ذلك في القراض.
فصل:
قال: "فإن ساقاه أحدهما نصيبه على النصف، والآخر نصيبه على الثلث... إلى آخره".
5023- البستان إذا كان مشتركاً بين شريكين فساقيا عاملاً على نخيلهما، وشرط أحدُهما له نصفَ الثمار من نصيبه، وشرط الثاني له الثلثَ، وكان العامل عالماً بنصيب كل واحد منهما من النخيل، فهذه المعاملة صحيحةٌ، والجاري في حكم عقدين، كلُّ واحد منهما منفردٌ عن الثاني، وإن كان العامل جاهلاً، ولم يدر أن نصيب مَن شرط الثلث كم، ونصيبَ من شرط النصف كم، فالمعاملة فاسدةٌ؛ فإنه لا يدري كم يخصه من النصيبين؛ فإنَّ نصيبَ من شرط الثلث إذا كان أقل، كثُر نصيبُ العامل، وإذا كان على العكس قلّ نصيبه، فلا تنعقدُ المعاملة على الجهالة.
ولو جهل مقدارَ ملك كل واحد منهما من النخيل، ولكنهما شرطا له النصف من نصيبهما، فالمذهب الصحيح تصحيحُ المعاملة؛ إذْ لا جهالة فيما يستحقه، ولا أثر لتفاوت ملكيهما.
ولو ساقى واحد رجلين، وشرط لأحدهما النصفَ، وللآخر الثلثَ، جاز.
5024- ولو ساقى رجلان رجلين، وشرطا النصفَ للعاملين، جاز، وإن لم يُبيّنا قدْرَ ما يستحق كل واحدٍ من العاملين من النصف الذي سمَّيا لهما، جاز؛ لأن الإطلاق يقتضي كونَ المسمى لهما بينهما، ثم الباقي يقسّم بين المالكين على قدر الملكين.
فإن وقع الشرطُ على أن الباقي يقسم بعد نصيب العاملين بين المالكين، لا على قدر الملْكين وذلك بأن يستشرطا الاستواء في الباقي، وملكهما متفاوت أو يشترطا التفاوت وملكهما متساوٍ، فلا شك في فساد هذا الشرط، وأنه غير متبع.
ثم قال قائلون من أئمتنا: هذا يفسد العقد إذا جرى شرطاً فيه. وقد ذكرتُ نظير ذلك في القراض، وحكيت الوفاق فيه عن الأصحاب، وتكلُّفَ تعليلِه على وجهٍ يلوح من خَلَله احتمالٌ في أن القراض لا يفسد؛ من جهة أن هذا الشرط يتعلق بالمالكَيْن، ولا تعلق له بالعامل والمعاملة، وهذا أظهر في المساقاة؛ لأن تشارط المالكَيْن في الثمار لا أثر له في المشروط للعامل، وليس استحقاقهما الثمار بحكم عقدٍ حتى يظهر في العقد أثرُ تشارطهما، فيظهر جداً أن نقول: يفسد هذا الشرط، وتصح المساقاة، ويقسم الفاضل من نصيب العاملين بينهما على نسبة المِلْكين.
وإنما رأينا ذلك في المساقاة، وأشرنا إلى فرقٍ بينها وبين القراض؛ من جهة أن الربح كأنه جزءٌ من عمل المقارَض، ولو لم يصرف الدراهمَ إلى العُروض، لما ثبت ربحٌ أصلاً. والثمار قد لا تكون كذلك؛ فإن حصولَها بالخَلْق والفطرة وتعهدها لتحسُنَ وتنمو بعمل العامل.
فصل:
قال: "ولو ساقاه على حائطٍ فيها أصنافٌ... إلى آخره".
5025- إذا كان في الحائط أجناس من النخيل كالدَّقَل، والعجوة والصَّيحاني وغيرها. فذا عامل المالك عاملاً على أن له من العجوة النصف، ومن الدَّقَل الثلث، ومن الصَّيْحاني الربع، نُظر فإن علما مقدار كل نوع بالعِيان، جاز العقد، كما لو كانت الأصناف الثلاثة في حدائق مفرَّقة. وإن جهلا، أو أحدهما، لم يجز.
فإن شَرط له النصفَ من كل صنفٍ، جاز، ولا يضر الجهل بأقدار الأصناف، وهذا بيّن.
قال الأصحاب: لو اشترى عبداً من رجلين مطلقاً، يصح الشراء، وإن جهل
نصيب كل واحد منهما، فإن قال: اشتريت نصيب زيد بألف، ونصيب عمرو بألفين، نُظر: فإن كان عارفاً بنصيب كلِّ واحدٍ منهما، صح، ولو جهل نصيبَ كلِّ واحد منهما، لم يصح؛ فإن الغرض يتفاوت في ذلك تفاوتاً بيِّناً، كما ذكرناه في المساقاة.
فصل:
قال: "ولو كانت النخيل بين رجلين، فساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل ثلثي الثمر... إلى آخره".
5026- صورة المسالة نخيلٌ بين رجلين نصفان، ساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل فيها الثلثين، وله الثلث، فهو جائزٌ، وكأنه ساقاه في نصف نصيبه على ثلث الثمرة، وهو سدس الجملة، ولا يكاد يخفى أن المساقاة إنما تنعقد على النصف الذي ليس للعامل، وإجراء ذكر العمل على جملة البستان غير ضائر.
وإن ساقاه على أن يعمل في الجميع بالنصف، فهذا فاسد؛ لأنه لم يشترط له شيئاً، واستعمله في نصيب نفسه، ولم يقابل عمله في نصيبه بشيء؛ فإنه يستحق النصف بأصل الملك.
ولو ساقاه والنخيل نصفان على أن يعمل في الجميع بثلث الثمرة، فلا شك في الفساد؛ فإنه استعمله، وحط من حصته من الملك شيئاً.
5027- ثم إذا عمل العمل في هاتين الصورتين، فهل يستحق أجرةَ المثل لعمله في نصيب مستعمِله؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: وهو ظاهر اختيار المزني أنه لا يستحق؛ لأنه تبرع بالعمل، حيث دخل في العقد على ألاّ يأخذ من الثمار إلا النصف أو الثلث، ولم يكن عمله على قصد استحقاق عوض.
والوجه الثاني- أنه يستحق أجر مثل عمله على نصيب صاحبه، وهو اختيار ابن سُريج، لوجود لفظ المساقاة، وفيها اقتضاء معنى المعاوضة.
وقد تعترض مسألة في أجرة المثل تخالف هذه، وفيها الخلاف، وذلك أن يشترط المالكُ الثمارَ بجملتها للعامل، فالمعاملة فاسدة، فإذا عمل، فهل يستحق أجر مثل عمله؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يستحق؛ لأنه عمل ليستحقَّ الثمرة، فإذا لم تسلّم له بحكم الفساد، استحق أجرةَ المثل. والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً، لأنه عمل لنفسه في الثمار، إذا اعتقد أنها بجملتها له، ومن عمل على هذا القصد لم يستحق أجر المثل.
وهذا الخلاف يناظر مسائلَ: منها أن من استأجر رجلاً حتى يعمل على معدنٍ للمستأجِر، وشرط له ما يستفيده من نيلٍ في مدة عمله، فالنَّيْل لا يُصرف إليه، وهل يستحق أجر المثل. إذا عمل، فعلى وجهين، وسبب الاختلاف أنه كان يعمل لنفسه في ابتغاء النيْل.
ومن ذلك أن يستأجر الرجل أجيراً على أن يحجْ على وجهٍ يصح، فإذا أحرم ذلك الأجير عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، فالإحرام يقع عن مستأجِره، وفي استحقاق اجرة خلافٌ مشهور.
وعندي أن هذه الضروب من المسائل شرطُها أن يكون العامل جاهلاً، فإن علم المساقَى. وقد شرط له جميع الثمار أن المساقاة فاسدة، فالظاهر أنه يستحق أجرة المئل؛ لأنه خاض في العمل على علمٍ بأنه لا يستحق الثمار، فلم يكن عاملاً لنفسه. والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو ساقى أحدهما صاحبه نخلاً بينهما... إلى آخره".
5028- إذا كان بين رجلين نخيلٌ نصفين، فإذا تساقيا فيها على أن يعملا معاً، ولأحدهما ثلثُ الثمرة، وللآخر ثلثاها، فلا شك في فساد المعاملة؛ لأنهما استويا في العمل والمِلك، فلا معنى للتفاوت في الاقتسام، بل الوجهُ القسمةُ على نسبة الملك، وكأن الذي رضي بالثلث وهب من صاحبه ثلث ثمرة نصيبه، وهي معدومة، لم تخلق.
ولو كانت الثمرةُ موجودةً، لم تصح الهبة أيضاًً؛ فإن الذي جرى ليست صيغةَ الهبة.
ولو شرطا أن يعمل أحدهما ثلث العمل، ويأخذ ثلث الثمرة، ويعمل صاحبه ثلثي العمل، ويأخذ ثلثي الثمرة، فالمعاملة فاسدةٌ على كل حال، ولو لم يكن فيها إلا اشتراكهما في العمل، وقد مهدنا أن اشتراك المالك. والعامل في العمل-إذا جرى شرطاً- فاسدٌ مفسدٌ. ثم الثمار مقسومةٌ نصفين على نسبة الملك، وصاحب العمل الكثير يرجع على شريكه بأجر مثل زيادة عمله.
وينتظم في ذلك عبارتان: إحداهما- أنه يرجع عليه بنصف أجر مثل ما زاد من عمله؛ لأن عمله مِثلا عمل شريكه فيُحطّ مثلُ عمل الشريك، وهو الثلث فيكون قد زاد عليه بسدس العمل.
والعبارة الثانية- أنه يرجع عليه بأجر مثل ما زاد من عمله على ملكه، وكلاهما يرجعان إلي معنى واحد.
ولو شرطا على أحدهما زيادةَ العمل وشرطا له الاقتصار على نصف الثمار أو على أقلَّ من النصف، فهل يرجع بأجر مثل ما زاد من عمله جملى ملكه، على شريكه؟ فيه الوجهان المقدمان في نظائر هذه المسألة.
فصل:
قال: "ولو ساقى رجلاً نخلاً مساقاة صحيحة، فأثمرت، ثم هرب العامل... إلى آخره".
5029- هذه المسألة تداني مسألة هرب الجمال على ما سيأتي مشروحاً في كتاب الإجارة، إن شاء الله وحده. ولكنا نذكر مساق المذهب هاهنا، ونوضح ما في المساقاة من خواص، فنقول: إذا عمل العامل في المساقاة بعضَ العمل، وظهرت الثمار، فهرب، ولم يستتم العمل، فإن كان للعامل مالٌ، وكانت يد الحاكم ممتدةً إليه، وسهل الاستئجار عليه، فالحاكم يفعل ذلك إذا التمس منه مالكُ النخيل، والسبب فيه أن المعاملة لازمةٌ، والعملُ ديْن في ذمة المساقَى، ومهما امتنع مَنْ عليه الدينُ عن توفيته، وتمكن الحاكم من أدائه من ماله أداه.
ثم إذا تيسر ذلك، لم يملك ربُّ النخيل فسخَ المعاملة، ونزل التمكن مما ذكرناه منزلة استمرار العامل على العمل.
وإن رأى السلطانُ أن يستقرض عليه من بيت المال، أو من واحدٍ من عُرض الناس، فهذا يلتحق بما ذكرناه، فيقضي العملَ، وللعامل ما شُرط له من الثمرة، وعليه ما استقرض الحاكم عليه.
5030- وإن تعذّر ذلك، فلم يكن له مال، ولم يرَ الحاكم الاستقراض من بيت المال، أو لم يكن في بيت المال مالٌ، فإذا تحقق التعذّر، فأول ما نذكره أن المألك لو أراد فسخ المعاملة، كان له ذلك؛ فإن تعذر العوض في المعاملات يثبت سلطانَ الفسخ.
فلو جاء متبرع أجنبي، وقال: أنا أعمل عنه أو أستاجر من يعمل، فلا تفسخ، فإن رضي المالك بذلك، جاز، واستمر العقد، وكان ذلك بمثابة ما لو أدى أجنبيٌّ دينَ إنسان، وقبله مستحِق الدين، فتحصل براءةُ الذمة. وإن كان الأجنبي غيرَ مأذونٍ من جهة من عليهَ الدين، فلا يجد مرجعاً عليه إذا أدى دينه.
ولو بذل الأجنبي من نفسه الاشتغال بالعمل، فامتنع عليه رب البستان، وقال لا أرضى بدخولك بستاني، فله منعه، وإذا منعه، فله حق الفسخ، كما قدمناه.
5031- ولو دخل أجنبيٌّ البستان من حيث لم يشعر المالك، وأكمل العمل المطلوب، فهذا فيه فضل نظر يبيّنه تقديمُ أصل مقصودٍ، وهو أن الأعمال المطلوبة بعقد المساقاة إذا وقع الاستغناء عن بعضها، مثل أن وقع العقد على السقي وغيره من ضروب الأعمال، فأغنت الأمطار عن السقي، فهل يستحق المساقَى تمام ما شرط له؟ أم كيف السبيل فيه؟ أولاً- إن وقع الاستغناء عن جميع أعمال المساقَى، أو عن معظمها، فلا شك أن هذا يؤثر؛ إذ لو قلنا: لا أثر لذلك، لزم أن يستحق ما شرط له من الثمر من غير عمل، وهذا محال؛ فإنّ الجزء الذي شرط له قوبل استحقاقه بالعمل، فيستحيل ثبوتُ استحقاقه دونه.
ثم يجري هذا في المعظم.
ويعترض إشكال، وهو أن التقسيم في الثمار، وإبقاء بعضها، وإسقاط بعضها، ليس بالهيّن، وليس ينقدح لي فيه وجه، إلا نسبة أُجرة المثل إلى الأعمال حتى يتبيّن أنه لو استتمها كم كان أجر مثله؟ وإذا سقط بعض الأعمال، فكم أجر مثله؟ فينسب ما سقط من أجرة المثل إلى جميعها، وتضبط الجزئية ويسقط مثل ذلك من الجزء المشروط له من الثمار، فإن كان الساقط نصفَ أجرة المثل، سقط نصف ما شرط له من الثمار.
هذا هو الوجه لا غير.
وقد يعترض في ذلك أن أعمال المساقَى خارجةٌ عن الضبط، بعضَ الخروج، والجهالة متطرقةٌ إليها على حالٍ؛ فإن من أعمالها السقيَ، وهو لا يجري على نسق واحد في كل سنة، فقد تزيد أعدادُ السّقيات، ثم لا يقام لما يزيد مزيدُ عوض، وقد تنقص أعدادُها لكثرة الأنداء، ثم لا يُحطُّ لما ينقص.
فالقدر الذي يتساهل فيه أهلُ الشأن، ويرَوْن مقابلة الزائد فيه-لو مَسّت الحاجة- بالناقص لو أغنت الأنداء؛ فذلك لا كلام فيه.
وهذا عندي قريب الشبه بما يطلقه الفقهاء فيما يتغابن الناس بمثله وقد لا يحتمل مثل هذا في الإجارة. فما يتساهل أهلُ العرف فيه، لم يؤثِّر سقوطُه في حطٍّ، وما يسقطُ من العمل على ندورٍ ولم يكن مما يُتساهل في مثله، فهو الذي فيه الكلام.
5032- ومما يعترض في ذلك أنه إذا عمل العامل بعضَ الأعمال وهرب، وامتنع باقي العمل، وأثبتنا حقَّ الفسخ، فإذا فسخ المالك لا نقول: يستحق العامل جزءاً مما شرط له ويسقط جزء، بل ينقطع حق الاستحقاق من الثمار بالكلية.
ولو جَرْينا على قياس الإجارة، ونزّلنا الثمار منزلةَ الأجرة، لأثبتنا بعضاً من الثمار؛ فإن الإجارة إذا انقضى بعضُ مدتها، وطرأ في باقيها ما يوجب الفسخَ، فإذا فسخت في البقية، لم تنفسخ الإجارة فيما مضى، على ظاهر المذهب.
فأعمال المساقَى لا تجري مجرى المنافع في الإجارة، حتى يقابَلَ المنقضي منه بقسطٍ من العوض المسمى في المعاملة.
فإذا ثبت ذلك، فلو سقط جملةٌ من أعمال المساقى، لا يُتسامح بمثله، فلست أرى إجراء هذا على قياس حالة الفسخ، حتى يقال: إذا تبعض الأمر، واستحال إثباتُ جميع المسمى من الثمن، فالرجوع إلى أجر المثل ويسقط الاستحقاق من الثمن.
والفارق فيما أظن أن نماء الثمر قد حصل، وسقط بعضُ العمل. والفسخُ مفروضٌ فيه إذا كان الثمر لا ينمو إلا بأعمالٍ تعذر صدورها من العامل، وعسُر تحصيلها من جهته، فإذا جرى الفسخُ، فالوجه ما ذكرناه.
وإن قيل: إذا حصل بعض النماء بما تقدّم من العمل، فكيف وجهُ إسقاطه، وردّ الأمر إلى أجر المثل؟ قلنا: هذه المعاملة مائلة إلى مضاهاة القراض في النظر إلى العقبى، ومنقرض العمل، فالذي تحصّل إذاً أن الفسخ يوجب إسقاط الحق من الثمار، نص عليه الأصحاب. وسقوطُ بعض الأعمال بالاستغناء عنه ما أراه كذلك.
ومظنوني فيه ما ذكرته من اعتبار نسبة الثمار بنسبة أجر المثل، وليس يبعد المصير إلى سقوط الحق من الثمار؛ فإن تبعيض الثمار عسر في وجه الرأي.
5033- وليس يصفو هذا الفصل إلا باستتمامه، فنقول: إذا عمل الأجنبي من حيث لا يشعر المالك؛ فيمكن أن يكون هذا بمثابة سقوط بعض الأعمال بغناء السنة عنه، ويمكن أن يقال: إذا أوقع الأجنبي العمل، كان كما لو أوقعه العامل، وهذا هو الظاهر، وبه يشعر كلام الأصحاب.
وتمام البيان، و جُمَام الفصل أن الأئمة أجمعوا على أن المالك لو لم يفسخ، وعمل بنفسه متبرعاًً استحق العامل تمام ما سمي له، ونزّلوا تبرعه بالعمل منزلة تبرع الأجنبي إذا رضي به المالك، وقد يخطر للفقيه أن تبرع الأجنبي بمثابة أداء الدين، وتبرع المالك ليس يضاهي هذا المسلك، ولكن النصوصَ وأقوال الأصحاب متفقةٌ على ما ذكرناه.
ولو لم يعمل العامل شيئاًً وتبرع المالك بجميع العمل، فهذا مشكلٌ، وما أرى العاملَ مستحقاً في هذا المقام-ولم يعمل شيئاً- وإن كنا ننزّل عملَ المالك متبرعاً كعمل الأجنبي، فالمسألة محتملة.
فهذا منتهى النظر، وغاية المضطرَب فيما حضرنا.
5034- ومما يتعلق بأطراف الكلام في الفصل، أن الحاكم لو أذن للمالك أن يستقرض على العامل الهارب، ينفق على قدر الحاجة في استكمال العمل، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين، وكذلك لو أذن له أن ينفق من مال نفسه بشرط الرجوع عليه، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن ذلك يجوز، ثم يرجع على العامل، إذا تمكن من الرجوع؛ لأنه مؤتمنٌ من جهة الحاكم.
والثاني: لا يجوز ذلك؛ لأنه يستحق إتمام عمل العامل، ويستحيل أن يكون الإنسان مؤتمناً فيما يستحقه لنفسه على غيره، وهذا بعينه يأتي في هرب الجمال، فلم نطنب فيه، وإنما أَغْرَقنا الكلام في خصائص المساقاة.
5035- ولو أنفق المالك بنفسه وفي البلد حاكم يمكن أن يراجَع، وقصد بما ينفقه الرجوعَ به على العامل، لم يجد مرجعاً؛ لأنه ترك الاستئذان من صاحب الأمر، مع القدرة، ولو لم يكن بتلك الناحية حاكم، وصاحب أمرٍ يراجع، فأنفق المالك، ففي رجوعه على العامل إذا وجده ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يرجع؛ لأنه لم يصدر إنفاقه عن أمر حاكم، ولا عن إذن العامل، ولم يفسخ أيضاً بل تمادى على العقد، فكان كالمتبرع، ولو قصد التبرع، لم يرجع.
والوجه الثاني- أنه يرجع؛ فإن تخسيره لا وجه له، ولا تقصير من جهته في ترك استئذانٍ ممكنٍ، فاستحقاقه، مع تحقق الضرورة يُثبت له سلطانَ الرجوع.
والوجه الثالث: أنه إن كان يُشهد على ما يُنْفق، فيرجع، ويتنزّل ذلك منزلة ما لو أذن الحاكم لو كان حاكم.
وإن لم يشهد، مع القدرة على الإشهاد، لم يجد رَجْعاً.
وفي كلام القاضي إشارة إلى أن حق العامل إنما يسقط بالفسخ إذا لم تظهر الثمرة، فأما إذا ظهرت الثمرة، ففي كلامه تردد ظاهرٌ، في أن الفسخ لو جرى، لم يتضمن إسقاطَ حق العامل من الثمرة بالكلية؛ التفاتاً على ما ذكرناه في الإجارة، ثم لابد من سقوط البعض، ولا مرجع فيه إلا ما مهدناه في صدر الفصل.
هذا منتهى مرادنا في ذلك، وبقية التقرير هو ما يشترك فيه العامل، والجَمّال وسنذكره في كتاب الإجارة. إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "وإن عُلم منه سرقةٌ، وفسادٌ، مُنع من ذلك... إلى آخره".
5036- إذا ادّعى المالك على العامل سرقةً وخيانةً، فالقول أولاً قولُ العامل؛ فإنه أمين، والأصل عدم ما يدّعيه المالك، فإن أثبت ذلك بالبينة، أو بإقرار العامل، لم يثبت للمالك حقُّ الفسخ، كما إذا ظهرت خيانةٌ من المرتهن في الرهن، لم يثبت للراهن حق الفسخ، بل تُزال يدُ المرتهن، ويعدّل الرهن، ويُقرّ العقدُ.
ثم إذا أثبتنا الخيانة، فقد قال المزني: يُكترى عليه من يقوم مقامه، وتزال يده عن النخيل. وذكر في موضع آخر أنهُ يضم إليه من يعمل معه، ويحفظه من الخيانة، ولا تُزال يدُه.
فقال الأئمة: إن كان لا تنحسم خيانته بمراقبة من يراقبه؛ لتهدّيه إلى سبل الخيانة، فإذا تبين ذلك، أو غلب على الظن، نُحِّي، على هذا يُحمل قول المزني، حيث قال: "يكترى عليه، وإن أمكن تمكينُه من العمل مع درء خيانته بالمراقبة، لم ينح ولم تُزل يدُه".
فالمسألة على حالتين، وليست على قولين.
ثم قد يعترض في ذلك الكلامُ في أجرة مَنْ يُشارفه، وفيها إشكالٌ، فإن الحاجة إلى بذلها نشأت من قلة الثقة بالعامل، وظهور الخيانة منه، ويبعد عندنا أن تكون هذه الأجرةُ محسوبةً عليه، وهو يزعم أنه ليس يخون في المستقبل.
وإن كان يعترف بالتمادي على الخيانة مهما وجد فرصةً، فيجب تنحيتُه، والاكتراءُ عليه، وإذْ ذاك يُستغنى عن الرقيب وأجرتِه.
ولو لم تثبت خيانةٌ من العامل، ولكن المالك اتّهمه، فلا تُزال يده عن النخيل، ولكن ينصب عليه المالك مشرفاً يطالع أحواله إن شاء، ولا يرتاب الفقيه في أن نفقة الرقيب ومؤنته على المالك في هذا المقام إذا لم يظهر من العامل خيانة.
فصل:
قال: "فإن مات قام ورثته مقامه... إلى آخره".
5037- قد ذكرنا أن المساقاةَ عقدٌ لازم، لا ينفسخ بموت العاقد، ثم ننظر، فإن مات رب المال؛ أكمل العامل ما بقي من الأعمال، واستحق المشروط له من الثمرة.
وإن مات العامل، فالذي قدمناه من لزوم المعاملة يقتضي ألاّ يحكم بانفساخ المساقاة. وهذا هو الذي ذكره المزني، وقطع به الأصحاب في طرقهم، وهو الذي صححه الشيخ أبو علي.
وحكى وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن المساقاة تنفسخ بموت العامل، وهذا وجهٌ ضعيف لا مستند له من أصل؛ فإن الحقوقَ اللازمةَ إذا أمكن تحصيلها بعد الموت، لم تنقطع بالموت، فالذي حكاه غلط إذن، غيرُ مُعتدٍّ به.
والوجه أن نقول إذا مات العامل، لم يخْلُ: إما أن يُخلّف تركةً تفي بتحصيل العمل، وإما ألاّ يُخلّف.
فإن لم يخلف شيئاًً، لم يجب على الورثة تحصيل العمل؛ فإن العمل كان ديناً في ذمته، والمديون إذا مات لم ينتقل الدين إلى ذمة وارثه. ولكن لو أراد الوارث أن يتمم العمل بنفسه، أو بمن يستأجره، جاز له ذلك، لثبوت عُلقة الاستحقاق في الثمار، فإن استتم العمل، صرفنا إليه الجزءَ المشروطَ له من الثمرة، وإن أبى أن يعمل، فللمالك حقُّ الفسخ، وقد قدمنا التفصيل فيه فيما تقدم، وفرّقنا بين أن يكون ذلك قبل بُدوّ الثمرة أو بعدها، وأوضحنا وجوه الرأي.
وإن كان خلّف تركة، فالسلطان يحصّل بقيةَ العمل من التركة، كما يؤدِّي الديون منها.
وكذلك القول فيه إذا كان التزم في ذمته خياطةً، أو صبغاً، ثم مات، فالأمر على ما ذكرناه في الفرق بين أن يخلّف تركةً وبين ألاّ يخلفها.
5038- ومما يتم به غرض الفصل، وهو أصلٌ بذاته أن المساقاةَ حيث تُفرض تصرفٌ واردٌ على الذمة، وحكمُ المعاملةِ الواردةِ على الذمة أن يكون تحصيلها على الملتزم، فإن حصَّلها بنفسه، أو استأجر من يعمل، فلا معترض عليه، ولو شرط في المساقاة تعيين العامل، حتى يعمل بنفسه، ولم يسوّغ له أن يستأجر؛ فيجوز أن يقال: لا تصح المساقاة؛ فإنّ هذا تضييق، والتضييق ينافي هذه المعاملةَ، وأمثالَها، وتركُ تعرض الأصحاب يدل على أنهم لم يعتقدوا جوازَ المساقاة متعلقةً بعين العامل، والمسألة محتملة على حال؛ فإن المالك ربما لا يعتمد الأجراء، ولا يرضى بدخولهم البستان. وليس في التعيين كبير تضييق أيضاً.
ثم لو قدرنا ورودَ المساقاةِ على عين العامل، فلو مات، انفسخت المساقاة بموته، لا محالة، فإنْ عمل غيرُه، والمعاملة واردةٌ على عينه.، لا يسدّ مسدّ عمله.
فصل:
قال: "ولو عمل فيها العامل، فأثمرت ثم استحقها ربُّها... إلى آخره".
5039- إذا استُحقت النخيلُ بعد تمام العمل، وحصولِ الثمرة، فلا يخلو إما أن تكون الثمرة قائمةً، أو هالكةً.
فإن كانت باقيةً، فهي للمستحِق؛ لأنها حدثت من عَيْن مِلكه، ولا حقّ للعامل فيها.
ثم قال الأصحاب: إذا أخذ المستحِق الأشجار والثمار، وقد عمل العامل، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرّج أمرَه على قولين؛ لأنه أتلف عمل نفسه، غير أن الغاصب هو الذي استعمله، فهل يرجع على الغاصب بأجرة مثل نفسه؟ فعلى قولين مأخوذين من أصل الغرور.
ومن أصحابنا من قطع بأنه يرجع على الغاصب؛ لأن قولٍ الغرور إنما يجريان فيه إذا رجع الحظُّ من الإتلاف إلى المغرور، فحينئذ نقول في قولٍ: لا يرجع؛ لأنه المنتفع بما أتلفه، فيبعد أن يجتمع له الانتفاع به وحق الرجوع.
وفي قول نغلّب حكمَ الغرور؛ ونثبت الرجوعَ على الغار.
فأما العامل في مسألتنا؛ فإنه لم يُتلف شيئاً له فيه حظٌّ ونصيب، ولكنه عمل، ولم يقصَّر، وإنما حمله على العمل الغاصبُ، فوجب القطع بثبوت الرجوع عليه.
هذا إذا كانت الثمار قائمةً، فردت على المستحِق.
5040- فأما إذا كانت الثمار تالفةً، فالقول في ذلك ينقسم: فإن اقتسماها، وتلف نصيب كل واحد منهما في يده، فليقع الكلام أولاً في نصيب العامل.
فالذي ذكره معظمُ الأصحاب في الطرق: الشيخ أبو محمد، وصاحب التقريب، والصيدلاني في مجموعه، وصاحب التصنيف المعروف؛ أن المستحِق إذا غرَّم العاملَ ما تلف في يده، فهل يرجع على الغاصب؟ كان ذلك خارجاً على الترتيب المشهور في الغارّ والمغرور؛ فإن العامل يدُه مترتبةٌ على يد الغاصب، والغاصب سببٌ في تحصيل يده؛ فكان في مرتبة الغارّ. وفصّل الصيدلاني ذلك، فقال: إن تلف ما خصّ العاملَ في يده من غير إتلافٍ من جهته، فطولب، ضمن، ثم رجع على الغاصب قولاً واحداً. وإن أتلفه على حكم الغرور، ففي رجوعه على الغاصب قولان، كالقولين إذا قدّم الغاصبُ الطعامَ المغصوبَ إلى ضيفه، فأكله، فجعل يده عند التلف بمثابة يد المستودَع من الغاصب، وجعل إتلافه بمثابة إتلاف الضيف للطعامِ الذي قُدِّم إليه. هذا ما ذكره هؤلاء.
وأما العراقيون، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن الضمان يستقر على العامل في حصته التي قبضها، سواء تلفت في يده، أو أتلفها؛ لأنه قبضه عوضاً، وحكم العوض في المعاوضة الصحيحة أن يضمنه مَنْ قبضه؛ فكانت يد العامل في حصته من الثمرة بمنزلة يد المشتري من الغاصب، وقد قطعنا القول في كتاب الغصوب أن قرار الضمان فيما قبضه المشتري على المشتري؛ فلا يتجه في القياس إلا ما ذكره هؤلاء، وهو الذي اختاره القاضي لنفسه، وظن أنه غير مسبوقٍ بهذا الاختيار. ولم يذكر العراقيون غيره.
هذا قولنا في حصته إذا فرض منه قبضها عند اقتسام الثمار.
ولست أرى لما ذكره أصحابنا وجهاً، إلا إخراجَ عوض المساقاة عن قياس الأعواض، وهذا غير متجه، مع كونه عوضاً عن منافعَ مستحَقة، في معاملة لازمة.
5041- ولو تلفت الثمار على الأشجار قبل قطافها بجائحة، أما الكلام في حصة العامل، فعلى ما ذكرناه، وأما الكلام في الحصة الأخرى، فقد ذكر الأئمةُ المراوزة، والعراقيون في توجه المطالبة على العامل خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من قال: لا تتوجه المطالبة على العامل، وهو ظاهر كلام المزني، ومنهم من قال: تتوجه المطالبة عليه، وهذا الخلاف في توجيه المطالبة أولاً، لا في قرار الضمان.
ثم وجه الأئمة الخلاف بأن قالوا: لا تثبت اليد للعامل؛ فإنه غيرُ مستحفظٍ بخلاف المودَع؛ فإنه مستحفظٌ من جهة المودع، واستدلّوا في ذلك بأن قالوا: لو جرت المساقاة مع المالك، ثم سُرقت الثمار، وكانت على رؤوس الأشجار بتقصيرٍ من العامل في الحفظ؛ فلا ضمان عليه؛ فإنا لا نكلّفه القيامَ بالحفظ، وإنما نكلفه الأعمال المشهورة المؤثرة في تنمية الثمار.
فهذا وجهُ من لا يضمّن العامل الآخذ من جهة الغاصب.
والوجه الثاني- أنه يضمن لثبوت يده ظاهراً حساً.
قال القاضي: قد ذكرنا تردداً في أنه هل يجب على العامل القيام بحفظ الثمار، وهل يلتحق ذلك بالأعمال المشروطة عليه، وهذا الخلاف الآن دليلٌ على ذلك التردد الذي قدمناه، فيجب أن نقول: إن ألزمناه الحفظَ، توجهت عليه المطالبةُ؛ إذ ترتبت يده على يد الغاصب، وكان كالمستودَع من الغاصب، وإن لم نُلزمه الحفظَ، لم تتوجه عليه المطالبة.
وهذا عندي كلام خارج عن الضبط المعتبر في مثل ذلك، من وجهين:
أحدهما: أن اليد وثبوتَها أمرٌ محسوس، فتلقِّي ذلك من وجوب مؤنة الحفظ كلامٌ مضطرب، فالثمار مما تثبت اليدُ عليها، ويد العامل-من طريق الصورة- ثابتةٌ حسّاً، وضرورةً، ومن ثبتت يدُه على عينٍ مغصوبة فيستحيل بعد ذلك إبداءُ المراءِ في أنه هل يطالب أم لا.
وعندي أنه يجب القطع بوجوب الحفظ على العامل في الثمار، حالةَ استمرار يده؛ فإنا لا نجد صاحب يدٍ في ملكِ غيره بجهةٍ شرعيةٍ، إلا وهو مأمور برعاية حق الحفظ فيها، وهذا جارٍ في الوكيل بالبيع، وفي المستأجِر في العين المستأجرة، وفي المرتهن، وغيرهِ من أصحاب الأيدي.
نعم. إنما يظهر التردد في مؤنة الحفظ في صورة، وهي أن العامل إذا كان يعمل نهاراً، ويترك العمل ليلاً، فإذا فارق البستان، ولم يستخلف عليه ناطوراً، حتى سُرقت الثمار، ولا يد للعامل، فهذا فيه ترددٌ، قد ذكرناه، فيجوز أن يقال: يجب استخلافُ حافظٍ، ويجوز أن يقال: لا يجب عليه.
فأما ما دامت يدُه ثابتةً في زمان عمله، فكيف يستجيز المستجيز أن يسوّغ له الإغضاء على سرقة من يسرق، مع التنبّه لذلك؟ أم كيف يجوز ألا يتكلف بذلَ المجهود في الحفظ ما استمرت يدُه في مدة العمل؟ وكيف يستقيم أن يُتمارى في اليد المحسوسة، لزللٍ وخطأٍ في أن الضمان هل يجب على العامل لو قصر في الحفظ.
فيجب إذاً على القاعدة توجيه الطّلبة على العامل من جهة المستحِق المغصوب منه لتحقق اليد.
5042- ومما يتفرع عليه، أن الأشجار في أنفسها لو تلفت تحت يدِ العامل، أو تلف بعضها، فلا حظ، ولا حصةَ للعامل في رقاب الأشجار، وقد أجراها الأئمة مجرى الثمار الواقعة في حكم المعاملة حصةً للمالك، فترددوا في توجيه المطالبة حَسب ما ذكرناه، وبنَوْا الأمرَ فيه على مؤنة الحفظ، وقد أوضحنا أن ذلك كلامٌ مضطرب، ووجه ردِّه إلى سَنن التحقيق ما ذكرناه.
ومن بديع ما ذكره الأصحاب الذين لم يثبتوا للعامل في حصته من الثمار يدَ قرارِ الضمان، أنهم قالوا: الكلام في حصة العامل إذا تلفت الثمار بالجوائح قبل القطاف، يجوز أن يخرّج على ما ذكرناه في حصة المالك؛ لأن اليد غيرُ ثابتةٍ قبل القطاف، والإحراز.
وهذا في نهاية البُعد؛ فإنه فرع أصلين ضعيفين جاريين غلطاً وخطأ، أحدهما- التماري في اليد المحسوسة.
والثاني: التغافل عن ضمان العوضية في حق العامل، في مقدار حصته، فوقع الفرع بعيداً بصدَره عن هذين الأصلين.
5043- ولو جنى العامل الثمارَ، وردّها إلى المخزن، فقد رأيت الطرقَ متفقةً على ثبوت اليد على الحقيقة، وهذا صحيح، ولكن لا معنى لتخيل الفرق بين هذه الحالة، وبين حالة قيام الثمار على الأشجار.
ومن أخذ ما ذكرناه من التردد في توجيه الطَّلِبة من القول في مؤنة الحفظ، لزمه أن يتردد في مؤنة الحفظ بعد الرد إلى الجرين؛ إذ لا فصل، واليد ثابتة حساً في الموضعين، فلا وجه إلا القطعُ بقرار الضمان في حصة العامل عليه.
ثم يجب القطع بتوجيه المطالبة بما ليس حصتَه، ثم الكلام في أنه فيما ليس حصتَه إذا طولب عند الفوات يرجع على الغاصب رجوع المستودَع عليه.
وللعراقيين طريقة ذكرناها في كتاب الغصب، في أن المستودَع من الغاصب إذا ضمن ما تلف في يده للمغصوب منه، فهل يرجع على الغاصب؟ أم يستقر الضمان عليه تنزيلاً لليد منزلة الإتلاف؛ من جهة أنها تضمِّن كما يُضمِّن الإتلاف؟ هذا مختلفٌ فيه عندهم، وهو مجانب لطريقة المراوزة، ثم يجب طرد قياسهم فيما ليس حصةً للعامل إذا تلفت تحت يده.
هذا بيان حقيقة المسألة، وقد اتفقت فيها عثرات وغلطات متداركة لأصحابنا المراوزة. والتردد في اليد والثمار على الأشجار، مما استوى في الغلط فيه المراوزةُ، والعراقيون. وهذا قبيحٌ، وأخْذ ذلك من مؤنة الحفظ زللٌ آخر؛ فإنَّ الأمر مفصلٌ فيه عندنا، كما قدمناه. ولسنا على ظنٍّ في جميع ما نبهنا عليه، بل الأمر مقطوع به.
فصل:
قال: "وإن ساقاه على أنه إن سقاها بماء سماء أو نهر... إلى آخره".
5044- صورة المسألة أن يقول المالك للعامل: ساقيتك على هذه النخيل على أنك إن سقيتها بماء سماءٍ أو نهر، فلك الثلث، وإن سقيتها بالنَّضح، فلك النصف، فالمعاملة فاسدةٌ على هذا الوجه؛ لمكان التردد الذي فيها، وشرط المعاملة الجزمُ، وبتُّ القول في تقدير العوض.
وقد قال الأئمة: لو قال رب المال للمقارض: إن، اتّجرت في البز، فلك ثلث الربح، وإن اتَّجرت في الطعام، فلك نصف الربح، فالقراض فاسد على هذا الوجه، فإذا فسد القراض مع جوازه ومشابهته الجعالة باحتمال الجهالة، وإطلاق الأعمال من غير ضبطٍ بوقت، فلأن تفسد المساقاة أوْلى.
5044/م- ثم ذكر المزني تفصيلَ القول في أجرة الأجراء، وأنها على العامل أو على المالك، وقد فصلتُ القولَ في هذا في باب الشرط في الرقيق، فلا أُعيده.
ومما جدده القاضي في الأجراء صورةٌ أراها مضطربة، فأنقلها، وأبين التحقيق فيها.
قال: ولو قال المالك: ساقيتك، ولك الثلث من الثمار، والسدس فيها إلى تتمة النصف للأجراء.
قال: "هذا صحيح". وهذا مختلٌّ، والخلل من الناقل، فإن إضافة جزء من الثمار إلى الأجراء باطل؛ فإنهم ليسوا في عقد المساقاة، وإنما تضاف الثمار إلى المالك بحكم الأصل أو إلى العامل بحكم العمل. نعم، لو أضاف النصف من الثمار إلى العامل، ثم ذكر أن مؤنة الأجراء عليه، فهذا جائز.
ولو أجرى قبل العقد أو بعده في معرض المفاوضة أني زدتك سدساً، وحقُّك الثلث، لتتحمّلَ مؤنةَ الأجراء، فهذا-إذا لم يُجره شرطاً- كلامٌ لا يقدح في العقد.
وقد ذكرتُ أن إطلاق المساقاة توجب قيام العامل بالأعمال المنمِّية للثمار كلها، وإنما تنصرف مؤنة الأجراء عند بعض الأصحاب إلى المالك، بالشرط، كما قدمناه مفصلاً.
فصل:
قال: "ولو ساقاه على وديٍّ، لوقت يعلم أنها لا تثمر إليه، بم يجز... إلى آخره".
5045- مقصود هذا الفصل تحصره مسائل: منها- أن يقول المالك في وديٍّ مغروس لرجلٍ: ساقيتُك على هذا الوديّ، لتعمل عليها، ودكر مدةً يُعلم أنها لا تثمر في مثلها، وإنما يدخل أوان إثمارها وراء تلك المدة، وجرى في لفظ المساقاة شرطُ شيء من ثمارها للعامل، فهذه المساقاة فاسدة؛ فإنها مستندةٌ إلى شرط شيءٍ لا يكون للعامل.
ثم إذا عمل العامل، فهل يستحق أجر المثل على المالك؟ قال الأئمة: إن علم العامل أنها لا تثمر في المدة المذكورة في المعاملة، ففي استحقاقه أجر المثل وجهان:
أحدهما: أنه لا يستحقه؛ لأنه شرع في العمل شروع من لا يشك أن ما شرطه له لا يكون، فكان قانعاً بإحباط عمله، غيرَ خائضٍ فيه على اعتقتاد استحقاق عوض.
والوجه الثاني- أنه يستحق أجرة المثل، وهو اختيار ابن سريج وتعلق هؤلاء بلفظ المساقاة والمعاملة؛ فإن متضمنه إلزام عملٍ في مقابلة عِوض، فلئن كان لا يثبت ذلك العوض، فهو عبارة عن استحقاق عوضٍ ممكنٍ، وهو أجر المثل.
هذا إذا كان العامل عالماً بأن الوديّ لا يثمر في تلك المدة، فإن ظن أن الوديّ يثمر في تلك المدة، فالذي ذهب إليه الأئمة أنه يستحق أجرة المثل في هذه الصورة وجهاً واحداً لمكان الظن.
ومن أصحابنا من طرد الخلاف الذي ذكرناه في استحقاق أجر المثل، والتفصيل أفقه وأحسن.
5046- ومن مسائل الفصل أن تقع المساقاة في مدة يعلم أنها تثمر في السنة الأخيرة منها، أو في سنتين في آخر المدة، فهذا مثل: أن يعامله على العمل فيها عشرَ سنين، ويعلم أنها إن بقيت، وسلمت عن الآفة، ستثمر في سنتين من آخر المدة، فقد أجمع الأصحاب على صحة المساقاة، وجعلوا هذه السنين وإن خلا معظمها عن الإثمار كالسنة الواحدة في النخيل المثمرة.
ثم إذا حصل الثمر، فليس للعامل إلا ما شُرط له.
ولو أصابت الثمار آفةٌ وجائحةٌ، فلا حق للعامل، كالمساقاة على النخيل المثمرة، فإن الجوائح إذا اجتاحت ثمارها، لم يستحق العاملُ شيئاً من أجر المثل، وكان كالعامل في القراض إذا لم يربح، فإنه لا يستحق شيئاًً.
ولو كنا نعلم أن الوديَّ يثمر في السنة الأخيرة، من المدة المضروبة، وكنا لا نقدّر أنها تثمر قبل السنة الأخيرة، فإذا اتفق الإثمار في سنة على النُّدور، وكان قد شرط للعامل جزءاً من الثمار الحاصلة في المدة، ولم يقع التخصيص بثمار السنة الأخيرة، فالعامل يستحق الجزءَ المشروطَ له من ثمار السنة النادرة، كما يستحق من السنة الأخيرة.
5047- ولو ساقى مالك النخيل رجلاً سنين، وكانت النخيل تُثمرُ إن لم تُصبها جائحة في كل سنة، فإن عُقدت المعاملة على أن يستحق العامل جزءاً من ثمرة كل سنة، جاز ذلك في السنين، جوازَه في السنة الواحدة.
وإن قال مالك النخيل المثمرة: ساقيتك ثلاث سنين على العمل فيها، وليس لك إلا ثلث الثمرة في السنة الأخيرة، وتخلُص الثمرة لي في السنة الأولى والثانية، فهذه المعاملة فاسدة، قطع بفسادها المحققون.
وسبب الفساد أنه أثبت لنفسه الاستبدادَ بثمار سنةٍ، أو سنتين، وإن كان عمل العامل جارياً فيها، وخصّص استحقاقه بسنة، وهذا بمثابة ما لو عامله، وشرط أن يعمل على جميع النخيل، ولا يستحق إلا النصف من بعض أنواع النخيل، وهذا ممتنع غيرُ سائغٍ كما تقدم.
5048- ولو ساقاه على الوديّ، على جزءٍ من الثمار في السنة الأخيرة، وإنما خصص السنةَ الأخيرة بالذكر بناءً على أن الثمرة إنما تقع فيها، فإذا اتفقت الثمرة في سنة أخرى قبلها، فالذي ذهب إليه الأئمة صحةُ المساقاة في هذه الصورة، ولم يجعلوها كالمساقاة على النخيل التي تثمر في السنين مع التخصيص بجزءٍ من ثمار بعض السنين.
وبنى الأئمة على مسألة الوديّ وجوبَ الوفاء بالشرط وتخصيصَ الاستحقاق بثمار السنة الأخيرة، على حسَب الشرط ومقتضاه، والفرق ظاهر على رأي الأئمة لا غُموضَ فيه.
ولكن في مسألة الودي ضربٌ من الاحتمال؛ من جهة أن هذه المعاملة لا تحتمل انفرادَ المالك بثمار سنة لا حظَّ للعامل فيها.
وكان يجوز أن يقال: كان من حق مالك الودِي ألا يخصص استحقاق العامل بثمار السنة الأخيرة، بل يطلق لجواز أن يتّفق إثمارٌ في سنةٍ قبل السنة الأخيرة.
5049- ومن مسائل الفصل أن يساقي مالكُ الودِي العاملَ مدةً، ويغلب على القلب إثمارها فيها، ولا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، فكيف الوجه في ذلك؟
جمع الأئمة هذه الصورة إلى الأخرى، وهي أن تكون المدة المذكورة بحيث لا يغلب على القلب إثمارُ الودِيّ فيها ولكن كان لا يبعد أن يثمر، وما نذكره يرجع إلى المدة، لا إلى تقدير السلامة من الجائحة والآفة؛ فإن الجوائح ممكنة في النخيل الباسقة.
فليفهم الفاهم أن هذا التردد محمول على قصر المدة وطولها.
ثم حاصل ما ذكره الأصحاب في الصورتين اللتين ذكرناهما طريقان: منهم من قال: إن كان لا يغلب على القلب إثمار الوديّ في تلك المدة، فالمساقاة فاسدة، وإن كان يغلب على الظن إثمارُها، ولكن لا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، ففي صحة المساقاة وجهان.
وهذه الطريقة غيرُ مرضية، والصحيح عكسها، فنقول: إن غلب على الظن الإثمار، صحت المساقاة وجهاً واحداً، وإن لم يغلب على الظن، ولكن الإثمار كان ممكناً، فعلى وجهين.
وإنما رأينا القطع بالتصحيح عند الغلبة على الظن؛ لأن الحكم للأعم الأغلب، في مثل ذلك. والدليل عليه أن من أسلم في جنسٍ يغلب على الظن وجودُه في محله، فإن السلم يصح، كما يصح الإسلامُ فيما يستيقن وجودُ جنسه حالةَ المحل.
وإذا تبين ما ذكرناه في الصحة والفساد، فنقول وراء ذلك: إن صححنا المساقاة، فإن اتفقت الثمار، فللعامل ما شُرط له منها، لا شيءَ له غيرُه. وإن لم يتفق الإثمار في تلك المدة، فقد خاب العامل، ونزل عدمُ الإثمار في المساقاة التي حكمنا بصحتها منزلة عدم الثمار بالجوائح في النخيل المثمرة.
وإذا حكمنا بفساد المساقاة فللعامل أجر المثل، أثمرت الودي، أو لم تثمر، ونقطع بأنه يستحق أجرَ المثل إذا كان على رجاء من وجود الثمار. وإنما الخلاف فيه إذا عُلم أن الثمار لا تكون وقنع بشرط جزءٍ من الثمار، ففي استحقاقه الأجرةَ الخلاف المقدم.
وللقاضي تفصيلٌ، لم أره لغيره، وذلك أنه قال: إذا استوى الاحتمالان في وجود الثمار، ففي الفساد.، والصحة وجهان، وإن ترجّح ظنُّ العدم، فالقطع بالفساد.
وهذا حسنٌ. ويُحتمل المصير إلى الصحة بمجرد الإمكان، وإن كان الغالب على الظن ألا تكون الثمار. وهذا ما ذكره الأصحاب. فليتأمل الناظر المنازلَ والمراتبَ، فقد نبهنا عليها فلا نعيد ترتيبها.
5050- ومن مسائل الفصل أن يدفع المالك ودِيَّاً إلى العامل ليغرسه وينميه مدةً، ستثمر في آخرها إن علقت، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب فسادُ المعاملة؛ فان ابتداء الغراس ليس من أعمال المساقاة، وإنما أعمالها تنميةُ أشجارٍ مغروسةٍ، والمطلوب ثمارها، وهذا يضاهي في هذه المعاملة ما لو قال المالك للمقارَض: بع هذه العروض و قد قارضتك على أثمانها إذا نضّت.
هذا مسلك الأصحاب.
وقد حكى شيخي وجهاً في تصحيح المساقاة، وهذا مزيَّفٌ، غير معتدٍّ به، ولكن ذكره صاحب التقريب، كما حكاه شيخي.
وتمام القول في ذلك أنا إن قلنا: لا تصح المساقاة، فلا كلام.
وإن قلنا: تصح المساقاة على الثمار التي ستكون في آخر المدة، فلو قال: اغرس هذا الوديّ، ونمّه، على أن لك الثلثَ من أعيان هذه الأشجار ورِقابها، فالذي قطع به الأئمة في الطرق فسادُ هذه المعاملة؛ فإن مبناها على استحقاق فوائد الأشجار، لا على استحقاق جزء من أعيانها. وذكر صاحب التقريب وجهاً في صحة المعاملة على هذا الوجه، في الودِيّ والفسيل، فإنّ تعلّق الودي هو مقصودُ المعاملة، فكانت أعيانها بمثابة الثمار، إذا كان العامل يسعى في تحصيلها.
ثم قال صاحب التقريب: لا يضر وجودُ أعيانها حالة العقد؛ فإن الثمار قد تكون موجودة حالة عقد المساقاة، كما ذكرنا ذلك في أول الكتاب.
فهذا بيان مسائل الفصل.
فصل:
قال: "وإن اختلفا بعد أن أثمرت النخيل... إلى آخره".
5051- إذا اختلف العامل ورب النخيل في المشروط من الثمار للعامل، فقال رب النخيل: شرطتُ لك الثلث، وقال العامل: بل النصفَ، فإذا لم يكن في الواقعة بيّنة، فإنهما يتحالفان، ويفسخ العقد بالتحالف، وترتدُّ الثمار بجملتها إلى مالك النخيل، ويرجع العامل بأجر المثل، وإن كان أكثرَ من قيمة نصف الثمار.
فأما إذا كان في الواقعة بيِّنةٌ، فإن انفرد أحدهما بقامة البيّنة على ما يدّعيه، قُضي له بموجبها على خصمه، وإن أقام كل واحد منهما بيِّنةً على وَفْق دعواه، وليقع الفرض فيه إذا تعرضت البيِّنتان لتعيين الوقت الذي جرى العقد فيه على وجهٍ لا يمكن حمل البينتين على عقدين، فإذا جرى العقدُ كذلك، ففي المسألة قولان مشهوران: أصحهما- الحكم بتهاتُر البيّنتين، ورَدُّ الأمر إلى خلوّ الواقعة عن البيّنة، ولو خلت عنها، كنا نحكم بتحالفهما، فالأمر إذن كذلك.
والقول الثاني- أن البينتين تستعملان، ثم في استعمال البيّنتين في غير هذه الواقعة أقوال: أحدها: القسمة.
والثاني: الوقف. والثالث: القرعة، على ما سيأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
فأما قول الوقف، فلم يُجره الأصحاب هاهنا، وفيه فضل نظرٍ، سيأتي في الدعاوى. وأجرَوْا قولَ القرعة، فمن خرجت له القرعة، فاز. وهل يحلف مع القرعة؟ فعلى وجهين.
والأصح أنه لا يجري قولُ القسمة.
ومن أصحابنا من قال: يثبت للعامل ما حصل الاتفاق عليه، وهو الثلث مثلاً، والمتنازع الزائد يقسّم بين الدعويين فيسقط نصفُه، ويثبت نصفه. وهذا بعيدٌ.
5052- ولو ساقى رجلان رجلاً، فادعى العامل أنهما شرطا له النصف، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فيثبت نصيبه على موجَب التصديق على المصدِّق، ويعود الخلاف والنزاع إلى المكذِّب والعامل؛ فيتحالفان، ويرجع عليه بنصف أجر مثل عمله.
فلو شهد المصدّقُ من المالكيْن على المكذّب للعامل، قبلت شهادتُه؛ إذ لا تهمةَ، ولا معنىً يوجب ردَّ شهادته.
ثم ذكر المزني أن رجلين لو ساقيا رجلاً، وشرط أحدهما له النصفَ من نصيبه، وشرط الثاني له الثلث، فإن تعيّن مقدار نصيب كل واحد منهما للعامل، صح ذلك.
وإن لم يبن له مقدارُ نصيب كل واحد منهما، وقد جرى الشرطُ على التفاوت، فالمعاملة فاسدة. وقد ذكرنا ذلك، ونظائره فيما سبق، وأوضحنا تعليله بما فيه مقنع، فلا حاجة إلى الإعادة.
وقد نجزت مسائل الكتاب.
فرع:
5053- قد رمزنا في صدر الكتاب إلى تردُّدِ الأصحاب في أن الخرْص هل يجري في حكم المساقاة؟ فالذي مال إليه الأكثرون أن الخرص يجري في المساقاة بين المالك والمساقَى، وهؤلاء استدلّوا بحديث عبد الله بن رواحة، لما خرص على أهل خيبر، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن خرصُه لأجل الزكاة؛ فإن أهل خيبر كانوا يهوداً، لا زكاة عليهم، فدلّ على أن الخرص كان في حكم المساقاة. ومن أصحابنا من قال: لا يتعلّقُ في المساقاة بالخرص حكمٌ، وحمل ما جرى على معاملةٍ بين المسلمين والكفار، لا يجوز فرض مثلها بين المسلمين بعضهم مع بعض.
فإن أثبتنا للخرص حكماً، فقد تقدم قولان في كتاب الزكاة، في أن الخرص عِبْرةٌ، أو تضمينٌ، وأوضحنا أنا إذا جعلنا الخرص عبرةً، فليس يتعلّق به حكمٌ محقّق. وإذا جعلناه تضميناً، فأثره قطعُ تعلّق الزكاة عن عَيْن الثمار، وردُّها إلى ذمة من عليه الزكاة، وتسليطُه على التصرف في الثمار بجملتها، حتى كأنا ننقُل حقَّ المستحقين من عين الثمار إلى الذمة.
فمن أثبت للخرص حكماً في المساقاة، فقد يعتقد أن حصة المالك بعد تقدير التَّجفيف تنقلب إلى ذمة العامل المخروص عليه، وتصير الثمار بجملتها ملكاً له؛ لضمانه حصةَ المالك.
وهذا لا يجترىء على القول به إلا جسورٌ؛ فإنّ قطعَ ملك المالك عن أعيان الثمار، وردَّه إلى ذمة العامل، من غير معاوضة يهتدي إليها محالٌ، وليس كالزكاة؛ فإن الأصل في ملك النصاب المالك، والزكواتُ حقوقٌ معترِضةٌ. وقد نقول: الأصح أنها لا تتعلق بالمال تعلق استحقاق، فردُّ الزكاة إلى الذمة على شرط الضمان، لا يبعد كلَّ البعد.
وإن قلنا في المساقاة: أثر الخرص أن يتقدر نصيب المالك على العامل، حتى لو ادعى نقصاناً مفرطاً، عما حزره الخارص تقريباً، لم يُقبل منه، إلا أن تعترض جائحة وآفةٌ، فهذا أقرب من نقل حق المالك من العين إلى الذمة، وتمليكِ العامل جميع الثمار، وهذا يضاهي تفريعَنا على قول العبرة في حق الزكاة.
فهذا ما أردناه في ذكر الخرص ومعناه.
ومن امتنع من تأثير الخرص في المساقاة فسببُ امتناعه غموضُ أثره في العِبرة، والتضمين، كما أشرنا إليه.
5054- ثم إن جعلنا للخرص أثراً، فالخرص يجري في النخيل والكرم، وجرت المساقاة فيها، وهل يجري الخرص فيما عداهما من الأشجار؟ فعلى قولين. ولذلك خرّجنا المسألة في المساقاة على سائر الأشجار على قولين.
فإذا أثبتنا الخرص وتأثيره، اعتقدناه أمراً مرعيّاً، وأصلاً معتبراً في تصحيح المساقاة. والله أعلم بالصواب.
وإن لم نثبت للخرص أثراً، فيليق بهذا القول تجويز المساقاة على جميع الأشجار، وإن افترقت في جريان صورة الخرص عادةً وإمكاناً.
5055- ومما نلحقه بآخر هذا الفصل أن الثمار إذاً وجدت، فالمشروط للعامل منها مملوكٌ له، ولا يتوقف جريان ملكه فيه على استكماله الأعمالَ المشروطةَ عليه، وليست الثمار في ذلك بمثابة الأرباح في القراض؛ إذا اختلف القول فيها، و أن العامل هل يملك حصته منها بالظهور.
وهذا الذي ذكرناه مأخوذ من فحوى كلام الأئمة في الطرف، والسبب فيه أن من منع ثبوتَ الملك للعامل في القراض تمسك بحرفين:
أحدهما: أن الربح وقايةٌ لرأس المال، وهذا المعنى لا يتحقق في الثمار، بالإضافة إلى الأشجار؛ فإن الأشجار لو عابت في أنفسها لآفةٍ أصابتها، لم يُجبر نقصانها بالثمار.
ومن أصحابنا من عوّل في الربح على تنزيله منزلة الجُعل في الجعالة؛ من حيث لا تنضبط أعمال المقارَض في معاملة جائزة وهذا لا يتحقق في المساقاة؛ فإن الأعمال فيها إلى الضبط، وهي لازمة لا يملك العامل التخلص منه اختياراً.
فرع:
5056- أجرى القاضي في أثناء المسائل كلاماً متعلقاً بالعاريّة أحببنا نقله، وإن لم يكن من مسائل المساقاة.
قال: إذا وهب الرجل نَيْلَ معدنٍ مملوكٍ له، في مدةٍ من واحدٍ، ليعمل عليه، ويكونَ له ما يستخرج منه، فالهبة فاسدة في نص الشافعي، لأنها هبةُ مجهولٍ، وليس كما لو أعار المالك من إنسانٍ عبدَه أو دارَه، وترك العين في يده من غير إعلام وضبطٍ؛ فإن المستعير يملك المنافع مدةَ اتّفاق بقاء العين المستعارة في يده، وهذا في التحقيق هبةٌ ومنحةٌ في مجهول.
ثم فرّق، فقال: المنافع في وضع الشرع جعلت كالأعيان الموجودة، وجاز إيراد المعاوضة عليها، كما يجوز إيراد ذلك في الأعيان الموجودة، فكذلك يجوز أن تكون كالأعيان الموجودة في عقد التبرع، ومثل هذا لا يتحقق في نيل المعادن. ثم ما يستفيده العاملُ على المعدن من نيلٍ يلزمه ردُّه على مالك المعدن؛ فإن الرد فيه ممكن، والرد غيرُ ممكن في المنافع المستوفاة.
وهذا كلامٌ مختلطٌ.
وكان شيخي يقول: الإعارة ليست تمليكاً، والمستعير لا يملك المنافع قط، وإنما الإعارةُ إباحةٌ وإمتاعٌ، والمستعير ينتفع بالمنافعِ انتفاع الضيف بما يأكله من الطعام، والأصح أن الضيف لا يملك ما يأكله، والإباحة لا تجري إلا في منتفعٍ به حالةَ الاستيفاء، ونيل المعدن ليس كذلك، ولو كان النَّيل مطعوماً، فأباح لمن يأكله، أو يشربه، فما جرى من ذلك، فلا معترض فيه، ولا ضمان.
تمّت المساقاة.