فصل: كتاب عتق أمهات الأولاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب عتق أمهات الأولاد:

قال الشافعي: "وإذا وطىء أمته، فولدت ما يبين أنه من خلق الآدمي... إلى آخره".
12655- معظم مسائل هذا الباب مكرر في الكتب من غير إحالة، ونحن لا نعيد مما جرى ذكره مستقصى شيئاً، ونقتصر على ما يليق بتمهيد القاعدة، ونذكر من المسائل ما لم يسبق ذكره، أو لم نستقصِ جوانبَه.
فإذا أولدَ الرجل جاريتَه، وانتسب الولدُ إليه، كما تمهد وجه انتساب أولاد الإماء إلى السادة، فالمذهب الذي يجب القطع به ثبوتُ حرمة العَتاقة استحقاقاً على وجه لا يفرض زوالُها، ثم حُكْمُ الاستيلاد على الجملة أنه يمتنع بيع المستولدة، وإذا مات مولاها، عتقت عتقاً مستحقاً، مقدماً على حقوق الغرماء، فضلاً عن الوصايا، وحقوق الورثة، وهذه الحرمة المتأكدة تنزل منزلة الاستهلاك الحكمي الذي لا يفرض له مستدرك.
ولو استولد المريض جاريته في مرض الموت، تأكدت الحرمة غيرَ محتسبة من الثلث، وكان استيلاده كاستيلاد الصحيح المطلق، وهذا يحقق كون الاستيلاد استهلاكاً حكمياً.
هذا هو الأصل، وبه الفتوى، واتفق عليه علماء الصحابة في زمن عمرَ وعثمانَ، ثم رأى عليُّ في زمانه بيعَ المستولدة، وقال: "اتفق رأي ورأي عمر على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا الآن أرى أن يُبَعْن". فقال عبيدةُ السلماني: "يا أمير المؤمنين: رأيك في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة".
واشتهر من نقل الأثبات إضافُة قولٍ إلى الشافعي في جواز بيع أمهات الأولاد، نص عليه في القديم، وهو في حكم المرجوع عنه، فلا عمل به، ولا فتوى عليه.
وسنذكر في خاتمة الباب اختلافاً في الأخبار والآثار، ونعلِّق بها سببَ اختلاف القول، وإنما لم نقدمها ليكون اختتام الكتاب بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن رُمنا التفريع على القول القديم؛ فللأئمة طريقان: قال صاحب التقريب، والشيخ أبو علي، وطوائف من أئمة المذهب: من جوّز بيع أم الولد، قضى بأنها رقيقة، ولا حكم للاستيلاد فيها، ولكنها اشتملت على الولد، ثم نَفَضَتْه، وقالوا: إذا مات المولى، لم تعتِق، ولا يفيدها الولدُ استحقاقَ العَتاقة في الحياة، ولا حصولَها عند الممات، وليست كالمدبرة؛ فإن عتقها معلق بالموت، والشرع صحح ذلك التعليق.
و قال شيخي والصيدلاني ومعظم حملة المذهب: المستولدة تعتِق بموت المولى، ولكن لا يمتنع بيعُها في حياة المولى.
ثم لعلّ هؤلاء يقولون: تحصيل العَتاقة من رأس المال، ولا يمتنع أن يكون كعتق المدبر، ولا ثَبَتَ عندنا في هذا الطرف من طريق النقل.
12656- ومما نذكره في تمهيد القول في الاستيلاد أنا إذا منعنا بيعَ المستولدة، فلو قضى قاضٍ ببيعها، فقد ذكر الأئمة اختلافاً في أن قضاءه هل ينفذ، أم هو منقوض؟
وهذا التردد بناه الشيخ أبو علي على مسألة أصولية في الإجماع، وذلك أن العلماء اعتقدوا حصولَ إجماع الصحابة في مَنْع بيع المستولدة، ولكن كان خلافُ عليٍّ قبل انقراض العصر، وقد اختلف الأصوليون في أنا هل نشترط في تحقق الإجماع انقراض العصر؟ فمن لم يشترطه، نقَضَ القضاءَ بالبيع، وقدره حائداً عن مسلك القطع، ومن شَرَطَ في انعقاد الإجماع انقراضَ العصر رأى المسألةَ مظنونةً، والقضاء لا ينتقض في مظان الظنون.
ومما نستكمل به، ما ذكرناه في تأكد حرمة الاستيلاد على القول الصحيح أنه لو شهد على إقرار السيد بالاستيلاد شاهدان، وجرى القضاء بشهادتهما، ثم رجعا؛ قال الشيخ أبو علي: لا يغرمان شيئاً؛ فإنهما لم يُفسدا المالية، ولم يحققا العتق في الحال، وإنما امتنع البيع بشهادتهما، هكذا قال، وقطع بذلك قوله، ولست أدري ماذا يقول إذا مات المولى، وفات الملك بسبب الشهادة؟
والذي نراه أن الغرم يجب في هذه الحالة، ثم يغرم الشهود للذين كانت الرقبة تصرف إليهم لولا الاستيلاد، إذا كانت تلك الجهة في الاستلحاق قائمة بعد الموت؛ إذ الشهادة على الاستيلاد لا تنحط عن الشهادة على تعليق العتق. ولو شهد شاهدان عليه، ووجدت الصفة، وجرى القضاء بالشهادة، فعلى شهود التعليق الغرم، ثم لا يُغَرَّمون قبل وجود الصفة.
ولو فرق فارق بين التعليق وبين الاستيلاد، وقال: لا يمتنع بالتعليق المجرد قبل وجود الصفة شيء من التصرفات، ويمتنع بالاستيلاد البيعُ، والرهنُ، والتمكنُ من الاعتياض، وهذا إيقاع حيلولة بين المالك وبين التصرفات، فينبغي أن يتضمن التغريمَ، كما لو أبق العبد من يد الغاصب؛ فإن الغرم يجب، وإن كان لا يمتنع على المغصوب منه ضروب من التصرفات في الآبق كالعتق، وقد يتوصل بإعتاقه إلى إبراء ذمته عن الكفارة.
قلنا: لا اغترار بهذا، والمستولدة على حقيقة الملك، وامتناع البيع لا يتقوّم، والغاصب يغرم، لأنه في عهدة ضمان يده إلى عَوْد الملك إلى مستحقه.
12657- وقد نجز ما أردنا ذكره في تأسيس الاستيلاد، ثم الكلام بعد هذا يقع في فصولٍ: منها- انتساب الولد، وقد مضى، ومنها- صفة الولد، فإن كان تَخَلَّقَ، حصل الاستيلاد بانفصاله، وإن لم يتخلق، فقد مضى القول فيه مستقصى، ونقلنا النصوص في انقضاء العدة، ولزوم الغُرّة، وحصول أمية الولد. وذكرنا اختلاف الطرق، فلا عود ولا إعادة.
ومنها- التفصيل في الجهات التي يحصل العلوق بها، فنقول: من نكح أمة، فعلقت منه في النكاح، فالولد رقيق، فلو ملك الأمَّ، لم تصر أمَّ ولدٍ عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة، وعماد المذهب أن أمية الولد تتبع حريةَ المولود، فإذا كان علوق المولود على الرق، فلا تتعلق به حرمة الاستيلاد.
ولو وطىء جاريةً بشبهة: حسبها مملوكته، فالولد حر، ولا شك أن الاستيلاد لا يثبت في الحال لمصادفته ملكَ الغير، فلو ملكها الواطىء، ففي حصول الاستيلاد عند ملكها قولان مشهوران للشافعي رضي الله عنه:
أحدهما: أنها لا تصير مستولدة لوقوع العلوق في ملك الغير، ولو كان هذا العلوق يثبت أمية الولد، لما بَعُد أن يقتضيها على الفور إذا كان المولِّد موسراً، وكنا ننقل الملك إليه، كصنيعنا في تسرية العتاقة على القول الأصح، إذا فرعنا على التعجيل، فإذا لم نفعل ذلك، فلا أثر للعلوق فيها في المآل، كما لا أثر له في الحال.
والقول الثاني- أن الحرمة تثبت إذا ملكها، لحرمة الحرية في الولد، وهذه العُلقة تتشبّه باقتضاء البعضيةِ العتقَ عند حصول الملك، فالأب يعتِق على ابنه، والابن يعتِق على أبيه.
12658- وإذا أردنا ضبطَ المذهب، أثبتنا ثلاث رتب: إحداها- حصولُ العلوق في الملك، وهذا يستعقب حرمةَ الاستيلاد. والثانيةُ- حصول العلوق على الرق، وهذا لا يثبت الاستيلاد ولا يُفضي إليه، ولو اشترى ولده وأمّه، عَتَقَ الولد، والأم رقيقة، أجمع الأصحاب عليه.
وإن حصل العلوق على الحرية، ولم يصادف الإعلاقُ الملكَ، فهذه المرتبة الثالثة. وفيها القولان، وهذا لا يتم إلا بذكر صورة:
فإذا غُرّ الرجل بحرية أمةٍ، وعلقت منه على الغرور بولدٍ حر، فلو ملك الأم: فهذا موضع التردد، فلا يمتنع طرد القولين بحصول العلوق في الولد على الحرية، والأفقه عندنا القطع بأنه أمية الولد لا تثبت بحصول العلوق في النكاح، ومقتضاه لولا الظن، رق الولد، فالغرور مقصور على المولود في نكاح الغرور. فإذا وطىء جارية الغير، وحسبها جاريَته، فالظن شامل للأم والولد.
ومن أحاط بمسالك الكلام، استبان ضعفَ القول بحصول الاستيلاد في وطء الشبهة، فلا ينبغي أن يلحق به صورة الغرور.
12659- ومما يتعلق بأصول الباب الكلامُ في أولاد المستولدة، فنقول: إذا أتت أم الولد بولدٍ من سفاح أو نكاح-إن صححناه- فولدها بمثابتها: لا يباع، ولا يرهن، ويَعتِق بموت السيد، كما تعتق الأم، ولو أُعتقت الأم، لم يعتِق الولد، فإن ولدها يعتق بما تعتِق به، ولا يعتِق بعتقها، فالمستولدة وولدها كمستولدتين وليس هذا كحكمنا بعتق ولد المكاتب إذا عتق المكاتب؛ فإنه تبع المكاتب تبعية الأكساب.
ولو ماتت المستولدة، فقد فات العتق فيها، وهو منتظر في ولدها، بناء على ما قدمناه من أن الولد يعتِق بما تعتِق الأم به.
وإذا فرّعنا على أن الموطوءة بالشبهة إذا ملكها الواطىء، صارت أمَّ ولد، فلو كانت أتت بأولاد على الرق قبل أن ملكها، ثم إن الواطىء اشتراها، واشترى أولادها، وقلنا: إنها أم ولد، فلا خلاف أن أولادها، لا تثبت لهم حرمة الاستيلاد؛ فإن حرمة الاستيلاد تثبت بعد الملك، ولا تنعطف، والأولاد حصلوا على الرق المحقق، قبل ملك الأم.
فلو اشتراها، وهي حامل بولد رقيق، فهذا وضع النظر: يجوز أن يقال: تَعدِّي الحرمة إلى الولد يخرّج على القولين في تعدي حرمة التدبير إلى الولد.
وفي كلام الصيدلاني رمز إلى ذلك، ووجهه أن هذا ولد لم يحصل العلوق به بعد الاستيلاد، ويتجه عندنا القطع بتعدية حرمة الاستيلاد لوجهين:
أحدهما: أن الحرمة تأكدت فيها تأكداً لا يرفع، والولد متصل، والتدبير عرضة الارتفاع. ثم قد ذكرنا-في التدبير- ترتيب المذهب في الولد المتصل حالة التدبير، وفي الولد الذي يحصل العلوق به بعد التدبير. فهذا تمام البيان في ذلك.
12660- ومما يتعلق بأصول الباب: التصرفُ في المستولدة، أما جنايتها والجناية عليها، فمما مضى مستقصىً؛ والوصية لها قدمناها في الوصايا، والقسامة.
وأما ما يملكه المولى؛ فلا يمتنع عليه الوطء والاستخدام والإجارة.
وفي التزويج ثلاثة أقوال: أصحها- جواز التزويج، فإنه يستحلها بالملك، وله مهرها إذا وطئت، فيزوجها قهراً تزويجَ الرقيقة، وهذا اختيار المزني، وهو القياس الحق.
والقول الثاني- أنها لا تزوّج إلا برضاها؛ فإنها مستحَقَّة العتاقة، والتزويج لو ثبت، للزم إذا عتَقَت، وهذا تصرلث عليها بعد العتاقة المستحقة؛ فعلى هذا: لو رضيت، صح النكاح؛ فإن الحق لا يعدوهما.
والقول الثالث: أن النكاح لا يصح-وإن رضيت- فإنه لا حق لها في استقلال الحرية قبل حصولها، فلا حكم لإذنها، ولا سبيل إلى إثبات النكاح قهراً عليها، وهي إلى الحرية مصيرها، ولمصيرها إليها أثر بيّن؛ فلأجله امتنع بيعها بخلاف الذي عُلِّق عتقُها. هذا بيان الأقوال.
قال الشيخ أبو علي: إذا قلنا: لا يزوجها السيد، فهل يزوجها القاضي؟ فعلى وجهين. وهذا حائد بالمرة عن السَّنن؛ فإن القاضي لا مجال له في التصرف في الأملاك، ثم محل الوجهين فيه إذا رضي المولى، ورضيت المستولدة، فإذ ذاك ذهب ذاهبون إلى أن القاضي يزوج بالولاية العامة عند رضاها، كما يزوّج المجنونة عند مسيس الحاجة، غير أنا قد لا نراعي ثمَّ رضا الإخوة، وها هنا لابد من رعاية رضاهما، أما السيد، فلأن له حق الوطء، وأما المستولدة، فلو لم نَرعْ رضاها، لأجبرها مولاها، وهذا وإن نزلناه على ما ذكرناه، فلا أصل له، ولا مدخل للقاضي في مثل ذلك قطعاً.
ومما يُذكر في الباب: القولُ في أم ولد الكافر إذا أسلمت، فلا شك أنها تحرم ولا تعتق، بل يحال بينها وبين مولاها؛ وقد مضى ذلك على الاستقصاء في مواضع.
فصل:
12661- قد قدمنا في صدر الباب تباين المذاهب واختلافَ قول الشافعي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد. وسببُ التردد اختلافُ الأخبار والآثار. ونحن نذكر منها ما فيها مَقنع من مسموعاتنا.
أخبرنا الشيخ أبو سعد عبدُ الرحمن بنُ الحسن الحافظ رحمه الله، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر العدل الدارقطني قال: أخبرنا محمدُ بنُ إسماعيل الفارسي
قال: أخبرنا أحمدُ بنُ محمدِ بنِ الحجاج ابنِ رِشْدِين، قال: أخبرنا يونسُ بنُ عبد الرحيم العسقلاني، قال: وسمعه مني أحمدُ بنُ حنبل- حدثني رِشْدِين بنُ سعيد المَهْري، قال: أخبرنا طلحة بن أبي سعيد، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن يعقوب ابن أبي الأشج، عن بشر بن سعيد، عن خوات بن جبير: "أن رجلاً أوصى إليه، وكان فيما ترك أمُّ ولد له وامرأةٌ حرة، فوقع بين المرأة وبين أم الولد بعضُ الشيء فأرسلت إليها الحرة، لتباعَنَّ رقبتك يا لَكْعاء، فرفع ذلك خواتُ بنُ جبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع، وأمر بها، فأعتقت"
أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا ابن مبشر، قال: أخبرنا أحمدُ بنُ سنان، قال: حدثنا يزيدُ بنُ هارون، قال أخبرنا شَرِيكُ عن الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ولدت منه أمتُه، فهي حرة من بعد موته».
أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا عمرُ بنُ أحمدَ الجوهري، قال: أخبرنا إبراهيم بنُ الحسن الهمذاني قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الجعفري، قال: أخبرنا عبد الله بنُ سلمة عن حسين بنِ عبد الله بنِ عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم إبراهيم أعتقها ولدها».
أخبرنا الشيخ أبو سعد، قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن بشر، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: "كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ، لا يرى بذلك بأساً".
وعن عطاء عن جابر قال: «بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر، نهانا، فأنتهينا».
أخبرنا الإمام ركن الإسلام والدي أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين القطان، قال: أخبرنا عبد الله ابن جعفر، قال أخبرنا يعقوب بن سفيان، قال حدثني سعيد بن عفير قال حدثني عطاف بن خالد، عن عبد الأعلى ابن أبي فروة عن ابن شهاب-في قصة ذكرها- قال ابنُ شهاب: قلت لعبد الملك بنِ مروان: سمعت سعيدَ بن المسيب يذكر: "أن عمر بن الخطاب أمر بأمهات الأولاد أن يقوّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل، ثم يعتقن، فمكث بذلك صدراً من خلافته، ثم توفي رجل من قريش كان له ابن أم ولد، قد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمر ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا بن أخي بأمك؟ قال: قد فعلت يا أمير المؤمنين خيراً حين خيّرني إخوتي بين أن يسترقّوا أمي أو يخرجوني من ميراثي من أبي، فكان ميراثي من أبي أهون عليّ من أن تُسترقّ أمي. قال عمر: أو لستُ إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل؟ ما أتراءى رأياً، أو آمر بشيء إلا قلتم فيه!! ثم قام فجلس على المنبر، فاجتمع إليه الناس، حتى إذا رضي جماعتَهم، قال: يأيها الناس، إني كنت أمرتُ في أمهات الأولاد بأمرٍ قد علمتموه، ثم قد حدث لي رأي غير ذلك فأيما امرىءٍ كانت عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات، فهي حرة لا سبيل عليها".
وروى الحسن الزعفراني تلميذُ الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وقدس روحه، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر، عن عبيدة السلماني، قال: قال علي رضي الله عنه: "استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها عتيقة، فقضى بها عمرُ حياتَه، وعثمانُ بعده، فلما وَليتُ أنا رأيت أن أرقهن".
قال: فأخبرني محمد بن سيرين أنه سأل عبيدة عن ذلك، فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: "رأي عمر وعلي أحب إليّ من رأي علي حين أدرك الاختلاف".
12662- الكلام على تأليف الروايات، وتلفيقها، وتنزيلها على مأخذ الشريعة وتطبيقها، فنقول: ليس في قضايا الأخبار منعُ بيع أمهات الأولاد، وقوله عليه السلام: «أعتقها ولدها»، مُزالُ الظاهر مؤولٌ، ومعناه استحقاق العَتاقة عند الممات. وهذا لا يشهد بمنع البيع في الحياة، ولكن متضمن الأحاديث حصول الحرية عند حلول المنية مقدمة على الديون والمواريث والوصية.
وهذه القضية في المعاني الكلية تميز المستولدةَ عن المدبرة، والمعلَّقِ عتقُها بالصفات المرعية، وإذا تقدم العتقُ على الأسباب جُمَع، آذن ذلك بامتناع الانقطاع بالابتياع وغيره من مقتضيات الارتفاع. وأما حديث جابر فليس فيه صدور بيع أمهات الأولاد عن تقرير المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى بذلك بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فتركناها. هذا هو الممكن.
وفي النفس بقايا من الإشكال لأجلها اختلف قولُ الشافعي رضي الله عنه، ثم أجاب في كتبه الجديدة في خمسةَ عشرَ موضعاً بمنع البيع، واعتمد إضرابَ علماء الأمصار عن المصير إلى مذهب من يجبز البيعَ، والقولُ في ذلك يتبلق بمسألة أصولية، وهي أن العلماء إذا اتفقوا بعد الاختلاف، فهل نقضي بانعقاد الإجماع؟ وتحقيقُ ذلك يطلب من مجموعاتنا في الأصول.
فإن قيل: هلا تلقيتم ذلك من اشتراط انقراض العصر في انعقاد الإجماع؟ قلنا: لا يستدّ هذا مع قول جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه.
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. حسبنا الله ونعم الوكيل.