فصل: كتاب المُزَارَعَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب المُزَارَعَةِ:

5404- قد قدمنا تفسيرَ المزارعة، والمخابرة في كتاب المساقاة، ونحن نجدد ذكرهما لغرضٍ لنا، فالمزارعة أن يسلّم مالكُ الأرض الأرضَ والبَذْرَ إلى مَنْ يعمل في الأرض، ويزرعها بتكريبه، وتقليبه، وثيرانه، وفَدّانه، وسائر آلات الزراعة، على أن ما يحصل من الزرع، فهو بينهما على ما يتشارطان، وعبّر الأئمة، فقالوا: المزارعة استئجار الزراع ببعض ما يخرج من الزرع.
5405- والمخابرة أن يسلّم الأرض ليزرعها ببَذرٍ من عند نفسه، والزرع بينهما، على ما يتشارطان، فمعنى المخابرة إكراء الأرض ببعض ما يخرج منها.
5406- والمعاملتان باطلتان عندنا، وهو مذهب معظم العلماء، لا تصح واحدة منهما، إلا المزارعةُ على الأراضي الواقعة في خَلَلِ النخيل، تبعاً للمساقاة المعقودة على النخيل، كما تقدّم تفصيلُ ذلك في كتاب المساقاة، وقد روي عن ابن عمرَ أنه قال: "كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى بذلك بأساً، حتى ورد علينا رافعُ بنُ خَديج، فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فتركناها لقول رافع". وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، غير أن النهي عن المخابرة أصح.
والمزارعة عند الشافعي مقيسة على المخابرة، وصحح محمدُ بنُ الحسن رحمة الله عليه المزارعة، وقاسها على المساقاة، فإنه من القائلين بصحة المساقاة.
5407- ثم حكم المزارعة أن الزرع بكماله لمالك البَذر، لا حظ للأجير فيه، وله مثلُ أجر عملهِ، ولا شك أن الأجرة تكون من النقد، وحكم المخابرة أن الزرع بكماله للزراع، فإنه صاحب البَذْر، وليس لمالك الأرض إلا أجرةُ مثلِ أرضه.
5408- ثم الناس مبتلون بصورة المزارعة مع الحرّاثين، فذكر العلماء حيلاً قريبة في تصحيح الغرض، ذكر الشافعي منها حيلتين- إحداهما- أن يعير مالكُ الأرض نصفَ الأرض من صاحبه، ثم يأتيان ببَذْر من عندهما، ويعملان فيها معاً، فيكون الزرع بينهما نصفين بحكم الاشتراك في البَذْر. وهذا صحيح.
ولكن عمل مالك الأرض مع الحراث، غيرُ معتاد؛ فالأولى تمهيدُ طريقٍ تُبرىء مالكَ الأرض من العمل.
5409- فقال الشافعي في ذلك: يكري مالكُ الأرض نصفَ الأرض بنصف عمل العامل، ونصف منفعة الآلات التي يستعملها العامل- إن كانت الآلات له، ويكون البَذْر مشتركاًً، فيشتركان في الزرع على حسب الاشتراك في البذر، فإن ملك الغلّة يتبع ملكَ البذر في الخلوصِ والاشتراكِ، والعملُ يقع نصفُه عوضاًً عن نصف منفعة الأرض، فيعتدل الأمر.
وإذا أراد أن يكون الزرع بينهما أثلاثاً، فليكن البذر بينهما كذلك، فالتعويل على البذر، فإن لم يكن للعامل بذر أقرضه ربُّ الأرض المقدارَ الذي يُشترط له من الزرع، وإذا وقعت الشركة في البَذْر، فلا حاجة إلى شرطٍ في الزرع، ولو جعل بعض البذر أجرةً لبعض عمل الزارع، أمكن ذلك.
ولست للأطناب في مثل هذا؛ فإني لا أنتهض إلا لحل المشكلات، وأرى الاجتزاءَ بالمرامز في الجليّات.
هذا مقدار الغرض في صدر هذا الكتاب.
5410- ثم مسائل الكتاب بعد ذلك في إجارة صحيحة، على الأراضي على شرط الشرع، فيقع مضمون الكتاب باباً من الإجارات في صنفٍ من العقارات، وإنما أفردها الشافعي لاختصاصها بقضايا وخواصَّ تتعلق بها.
5411- ثم قال الشافعي: "ويجوز كراء الأرض بالذهب والورِق، وما ينبت من الأرض " وقصد بهذا الفصلِ الردَّ على مالك، فيجوز استئجار الأرض عندنا بالنَّقْدين، وبمقدارٍ مُقدَّرٍ مما تنبته الأرض، ومنع مالك اكتراء الأرض بما تنبته الأرض وإن قُدّر وأثبت عوضاً، ولم يُضَف إلى ما تنبته الأرض المكتراة. وهذا من القول الركيك، والنظرِ الحائد، وإنما حمله على هذا إطلاقُ الناس قولَهم بأن المزارعة هي إكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، ولم يعلم أن المحذور جعلُ جزء مما يخرج من الأرض أجرةً؛ فإن ذلك مجهول وغرر.
فصل:
قال: "ولا يجوز الكراء إلا على سنة معروفة... إلى آخره".
5412- اكتراء الأرض بمثابة اكتراء الدور والمساكن، وغيرها؛ فلابد من إعلامِ المعقود عليه بضربِ المدة، ثم شرطُها أن تكون مضبوطةً بالزمان المقدّر، ولو قال: اكتريت هذه الأرضَ مدة الزراعة والحصاد، لم تصحّ الإجارة، وإن كنا قد نُصحح معاملةَ المساقاة على هذا الوجه؛ فإن المساقاة فيها جهالات محتملة لائقة بمصلحتها، فقد لا يبعد احتمالُ مثل ذلك في المدة. وأما إجارة الأراضي، فإنها بمثابة إجارة الدور، ثم سبيل إعلام مدة الإجارة كسبيل إعلام الآجال في الأعواض المؤجلة.
5413- فإن قال: اكتريت هذه الأرضَ سنة، صحّ و حملت السنة على الأشهر بالأهلة، وتحسب أحد عشرَ شهراً بالأهلة نقصت أو وفت، وينكسر الشهر الذي جرت الإجارة فيه، فتحسب أيام ذلك الشهر ثلاثين يوماً، نقص الشهر، أو وفى، ثم تُستكمل أيام ذلك الشهر من الشهر الثالث عشر. وهذا بيّنٌ مكررٌ في مواضعَ. وحظ الفقه منه أن السنة المطلقة لا تحمل إلا على السنة العربية، وهي بالأهلة، كما وصفنا.
وإن ذكر سنة رومية، أو فارسية، وكانا عالمين بذلك الحساب، صحّ العقد، وإن جهلا أو أحدُهما، لم يصح العقد. والتأجيل بعيد الفطر والأضحى جائز.
وإن وقع التأقيت بعيدٍ من أعياد المشركين، فإن كان المسلمون لا يعرفون ذلك إلا بمساءلة الكفار، فلا يصح؛ إذ لا تعويل على أقوالهم، وإن كان المسلمون يشاركونهم في معرفة ذلك اليوم، صح التأقيت به على المذهب الأصح.
وأبعد بعضُ الأصحاب، فمنع التأقيت بما يشتهر بالكفار ويعزى إليهم من المواقيت. وهذا ساقطٌ لا أصل له؛ فإن الغرض من التأقيت الإعلام، فإذا حصل، لم يختلف الأمر بأن يُعزى إلى الكفار أو إلى المسلمين. نعم يجوز أن يقال: يكره ربط المواقيت بحسابهم من طريق الأدب.
فصل:
قال: "وإذا تكارى الرجل الأرض ذات الماء من العين، أو النهر... إلى آخره".
5414- مَن أكرى أرضاً للزراعة، فكان لها شِربٌ معلوم، من عينٍ، أو نهر، فالاستئجار صحيحٌ، على شرط الشرع، وغرض الفصل أن الإجارة إذا صحت، ثم انقطع الماء الذي كان منه شِربُ الأرض، فالمنصوص عليه للشافعي أن الإجارة لا تنفسخ، ولكن يثبت للمكتري الخيارُ، ونص الشافعي على أن من اكترى داراً، فانهدمت، حُكم بانفساخ الإجارة.
5415- قال العراقيون وغيرهم من نقلة المذهب: الأصح نقلُ النصين في المسألتين وتخريجهما جميعاً على القولين:
أحدهما: أن الإجارة لا تنفسخ فيهما؛ لأن منفعة الأرض لا تتعطل بالكلية بانقطاع الماء، وكذلك منفعة الدار لا تنقطع بجملتها، بالانهدام؛ فإنه يمكن سكون العَرْصة، واتخاذها مُخيَّماً.
5416- وكان شيخي أبو محمد يرى القطعَ بانفساخ الإجارة الواردةِ على الدار، بانهدامها، وكان يقطع بأن الإجارةَ على الأرض لا تنفسخ بانقطاع الماء، وكان يفرّق بأن الماء ليس صفةً للأرض، فانقطاعه لا يغيّر صفةَ مورد العقد، وانهدامُ الدار تغيير معطّلٌ للمنفعة، واردٌ على المعقود عليه.
وهذا الفرق غيرُ سديد؛ فإن المنفعة في الموضعين لا تتعطل بالكلية، ومعظم المنفعة زائل، ولعل ما بقي في عرصة الدار أكثر، وهو إمكان السكون وضرب الخيام، والزراعة إذا انقطعت في القراح الضاحي، لم يبق فيه منتفعٌ به مبالاة.
وعلى الجملة طريقة القولين أسدّ، وتوجيهها ما أجريناه في أثناء الكلام.
5417- فإن قلنا: تنفسخ الإجارة في مسألة انقطاع الماء، أو اختار المستأجر فسخها، إن قلنا: إنها لا تنفسخ، فإذا فسخها، فيرتد إليه ما يقابل بقيةَ المدة من الأجرة المسماة، والوجه توزيعها على أجر المثل، كما تفصَّل في المسائل المقدّمة.
ثم إذا انفسخت-على قول الانفساخ في بقية المدة- لم تنفسخ في الزمان الماضي على الرأي الأصح. وفيه قولٌ غريب حكيناه، فلا وجه لإعادة ما تكرر، والوجهُ الاكتفاءُ بالرمز في مثل ذلك.
5418- فإن قلنا: الإجارة لا تنفسخ، وللمستأجر حقُّ الفسخ، نُظر: فإن فسخ، استرد ما يقابل المدةَ الباقية من الأجرة، وإن لم يؤثر الفسخ، وأجاز العقدَ، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يرجع بشيءٍ إذا رضي؛ فإنَّ انقطاعَ الماء يتنزل منزلة العيب، وإذا وقع الرضا بالعيب، فلا يثبت للراضي الرجوعُ بشيءٍ من العوض، وهو بمثابة ما لو تعيّب المبيعُ في يد البائع، فللمشتري الخيارُ، فإن رضي المشتري بالعيب، لزم العقدُ، ولم يرجع بقسطٍ من الثمن؛ فإن العوضَ لا يتوزّع على الصفات في هذا المقام.
5419- وذكر شيخي وجهين في المسألة:
أحدهما: ما ذكره الأصحاب.
والثاني: أنه يرجع مع اختيار الإجازة بقسطٍ من الأجرة.
وهذا بعيدٌ، لم أره إلا لشيخي، وكأنه تشوّف إلى تنزيل انقطاع الماء منزلةَ تلف بعضِ المعقود عليه، وهذا لا أعتدُّ به، ومساقه يقتضي الحكمَ بانفساخ العقد في جزءٍ؛ إذ هذا حكم فوات بعض المعقود عليه.
ثم إن صحّ ذلك، واتجه القول به، فوجه التوزيع أن يقال: لو بقي الماء في بقية المدة، فكم أجرة المثل؟ فيقال: كذا، ثم يقال: كم أجرة مثل الأرض في بقية المدة، ولا ماء؟ فيقال: كذا، فنضبط ما بين المبلغين، ونوزّع الأجرة المسماةَ على المبلغين.
وهذا ضعيف، لا أصل له.
5420- ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن المكتري إذا أجاز العقد، وكان عوْد الماء المنقطع مأيوساً في مدة الإجارة، فإذا وقع الرضا بذلك، ثم حاول الراضي الفسخَ، لم يكن له ذلك، كالمشتري إذا رضي بالعيب الذي اطلع عليه.
ويليق بهذا القسم كون الخيار ثابتاً على الفور، كخيار الرد بالعيب.
5421- وإن لم يكن عوْدُ الماء مأيوساً، بل كان مأمولاً، فالخيار ثابتٌ، لتحقق الانقطاع في الحال، فإن أجاز المكتري، ثم ندم، وأراد الفسخَ، فله الفسخ؛ فإن إجازته محمولةٌ على توقّع العَوْد، فلا يمتنع أن يفسخ بعدما قدّم الإجازة. وهذا شبّهه الأصحابُ برضا المرأة بالمقام تحت زوجها المعسر بالنفقة، وأنها بعد الرضا لو أرادت الفسخَ، كان لها ذلك، حَمْلاً لرضاها على رجاء زوال العسر. وكذلك إذا انقضت مدة الإيلاء، فرضيت المرأة بالمقام تحت زوجها، فلو أرادت أن تعود إلى المطالبة بالفيئة، أو الطلاق، فلها ذلك بناءً على ما ذكرناه.
5422- وإذا غصب غاصبٌ الدارَ المكراةَ في مدة الإجارة، فللمكتري أن يفسخ، فإن أجاز والغصب دائم، ثم أراد العودَ إلى الفسخ، كان له ذلك.
5423- ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن الأرض إذا كان لها شِرب معلوم، كما وصفناه، فإن اكتراها المكتري للزراعة، وذكر قسطَها من الشّرب، صح، وكان ما ذكره تصريحاً بمضمون العقدِ ومقصودِه.
5424- وإن أطلق اكتراء الأرض، وهي ذاتُ شربٍ، ولم يتعرض لذِكر شِربها من الماء، فهل تصح الإجارة؟ وكيف الوجه؟
هذه المسألة لها التفاتٌ على مسألة الحبر والورّاق، والصِّبغ والصباغ، ثم يتطرق إليها نظرٌ في اطراد العادة، واختلافها، فرُبما تطرد العادة بألا تكترى قطعة من الأرض إلا مع قسطها من الشِّرب، وربما تجري العادة بإفراد الأرض بالإجارة، وربما تختلف العادة. وإذا اشتركت هذه الأصول في المسألة، فالرأي أن نؤخرها حتى نذكر التفصيل في إجارة أرضٍ لا ماء لها، ثم نختم ذلك الفصل بما نبهنا عليه الآن.
فصل:
قال: "ولو تكاراها سنة، فزرعها، فانقضت السنة... إلى آخره".
5425- إذا اكترى أرضاً مدةً للزراعة، لم يخْلُ إما أن يذكر زرعاً، ويذكر مدة يُدرِك الزرعُ المذكور فيها. وإما أن يذكر مدة لا يُدرِك الزرعُ المذكور فيها. فإن كان الزرعُ المذكور يُدرِك في المدة المذكورة، فالإجارة تصح، ثم إن أدرك الزرعُ في تلك المدة، فلا كلام.
5426- وإن استأخر إدراك الزرع، لم يخل إما أن يكون ذلك لتقصيرٍ وتأخيرٍ من المكتري في الزراعة، وإما أن يكون لأمورٍ قدريّة، سماويّة، فإن أخّر الزراعة، وابتدأها في وقت يُخرح إدراكَ الزرع عن منتهى المدّة، فلا يقلع زرعه ما دامت المدة؛ فإن المنافع فيها مستحقّة له. وإذا انقضت المدّة، والزرع بقلٌ بعدُ، فلمالك الأرض قلعُه؛ فإن المكتري خالفَ جهةَ الانتفاع، ولم يأت بالزراعة على مقتضى العقد والعادة، وإن رضي مالك الأرض تبقية الزرع معيراً متبرعاً، فحسنٌ، وإن أراد تبقيته بأُجرة المثل، فالأمر مردود إلى صاحب الزرع، فإن قلعها، فلا أجرة، وإن أبقاها، استمرت عليه الأجرة، ولا يتوقف استمرارها على رضا المكتري، إذا كان يُبقي الزرعَ.
ولو لم يوجد من مالك الأرض تعرّض للقلع، ولا للإبقاء، وبقي الزرع زماناً فعلى الزارع أجرُ المثل؛ فإنه بإدامة زرعه منتفعٌ بملك غيره، من غير عقدٍ واستحقاقٍ.
5427- ولو استأجر الأرضَ مدةً تسع للزرع المذكور، ولكنه حُبس، وامتنعت عليه الزراعة، للحيلولة القهرية، ثم زرع لمّا تمكّن، واستأخر عن منتهى المدّة، فللمالك القلعُ، وإن كان المكتري معذوراً؛ فإن الحكم لا يختلف بما يطرأ على العاقد، إذا لم يحدث في المعقود عليه منع، وهذا مستغنٍ بوضوحه عن تكلّف بسطه.
5428- ولو زرع المكتري في أوان الزراعة، ولم يقصّر، ولم يؤخّر، ولكن استأخر الإدراك لبرد الهواء، أو كثرةِ الأنداء، فإذا انقضت المدةُ المضروبةُ والزرعُ غير مدرِك، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يقلع أصلاً؛ لأن المكتري غيرُ مقصر، وهو جارٍ على موجَب العقد والعادة.
5429- وذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أن الزرع يُقلع إذا انقضت المدة، وما فرض من عذرٍ، بمثابة ما لو حُبس المكتري، وحيل بينه وبين الزراعة، فهذا العذر لا ينتصب سبباً في وجوب تبقية زرعه.
5430- ثم إذا رأينا تبقية الزرع، فهو مبقّى بأجرة المثل، وراء المدة المضروبة.
5431- ومما يتم به الغرض أن الزراعة لو امتنع ابتداؤها، لتتابع الأمطار والبرد المفرط، ثم لما انجلى المانع، وزرعَ الزارع، استأخر الإدراك، فهذا محتمَلٌ مترددٌ، يجوز أن يشبَّه بحبس المكتري، ومنعه من الزراعة.
ويظهر أن يُلحق ما يقع من ذلك في ابتداء المدة بما يطرأ بعد الزراعة، فإن الأمور الكليّة الهوائية تنطبق على معاذير الزرع والحرث، والحبس للمكتري لا تعلّق له بالمعقود عليه.
هذا كله فيه إذا ذكر مدةً يسع مثلُها الزرع المذكور.
5432- فأما إذا ذكر نوعاً من الزرع، وذكر مدة لا تسعه، ولا تفي بإدراكه، مثل أن يستأجر الأرض شهرين ليزرعها قمحاً، أو شعيراً، فمعلوم أن الشهرين لا يفيان بإدراك الزرع المذكور، فيتشعب من هذا مسائل:
5433- إحداها- أن يذكر الزرع والمدة، ويقع التشارط على قلع الزرع عند منقرض المدة، فإن كان كذلك، صحّ-ولعل غرضَ المكتري القصيلُ، وهو على الجملة مقصود- ثم إذا انقضت المدة، قُلع الزرع، وللمالك أن يُبقيه مجاناًً وبأجر المثل، فإن اتفق إبقاؤه بعد المدة، جرى أجرُ المثل من غير تعرضٍ له، فإنّ أجر المثل قيمة المنفعة التالفة من غير استحقاق، فإذا حصل تلفُ المنفعة، تقوّمت.
هذه مسألة.
5434- المسألة الثانية- أن يقول: اكتريت هذه الأرضَ لزراعة الحنطة شهرين، على أن الزرع لا يقلع عند منقرض المدة، ويبقى إلى الإدراك، فالعقد يفسد على هذه الصيغة، نصَّ عليه الشافعي في المختصر، وعلل بأن التأقيت واشتراط الإبقاء بعد انقضاء الوقت متناقضٌ؛ فإنَّ ما وراء المدة إن قدّر معقوداً عليه، فالتأقيت لا معنى له، على أن التأقيت بإدراك الغلّة مفسدٌ.
وإن قدر ما وراء الوقت غير معقودٍ عليه، فاشتراطه في العقد لا معنى له، فالإجارة فاسدة إذاً، والأجرة المسماة ساقطةٌ، والواجب أجرُ المثل.
ثم إذا انقضت المدة المضروبة، فلا يجوز قلع الزرع.
فإن قيل: إذا لم يصح العقد، لم يترتب استحقاق الانتفاع عليه. قلنا: الإذن في الإجارة الفاسدة، بمثابة الإعارة، ومن أعار أرضاً، فزرعت، لم يكن للمعير قلعُ الزرع، وإن كان مبنى العارية على جواز الرجوع فيها، وقد مهدنا ذلك في كتاب العواري، وفرقنا بين الزرع، وبين البناء والغراس.
ثم الرجوع إلى أجر المثل في المدة التي يبقى الزرع فيها.
5435- المسألة الثالثة- أن يذكر المتعاقدان مدةً لا تسع الزرع المذكور، ويُطلقا العقدَ من غير تعرض للقلع والتبقية بعد انقضاء المدة، فالذي قطع له شيخي أن الإجارة تفسد؛ فإن الزرعَ المذكورَ ليس يوافق المدة المذكورة، فظاهر إطلاق الزراعة يشعر بإبقاء الزرع إلى أوان الحصاد، وهذا غير ممكن في المدة المحصورة. فحصرها إذن يوجب في الإطلاق قصرَ الانتفاع عليها، وذكر الزراعة يتضمن الزيادة عليها؛ فكان ذلك تناقضاً، في صيغة العقد، ومقصوده، وكان يشبِّه هذا بما لو قال الرجل: اكتريت منك هذه الدابة على أن أسافر بها إلى مكة في يوم، فالإجارة تفسد لا محالة، وفي نص الشافعي في السواد ما يشير إلى هذا من طريق المفهوم.
5436- وقطع غيره من الأئمة بصحة الإجارة، وقالوا: استأجر مدة معلومة، فإذا انقضت المدة، نظرنا فيم يقتضيه الحكم من القلع، أو التبقية.
5437- ثم قالوا: في ذلك وجهان:
أحدهما: أنه يُقلع عليه الزرع، وهو فائدة التأقيت المطلق، فكان هذا بمثابة ما لو وقع التصريح بشرط القلع عند منقرض المدة.
والوجه الثاني- أنه لا يقلع الزرع بل يُبقَّى إلى الاستحصاد بأجر المثل؛ فإنه لم يقع التعرّض للقلع، ولم يرض واحد منهما بتوقيت حقِّه، فالذي يقتضيه رعايةُ الحقين، والنظر للجانبين أن يبقى الزرع إلى الحصاد، بأجرة المثل وراء المدة المضروبة، فيستحق المكري الأجرة المسماةَ للمدة المذكورة، ويستحق أجر المثل وراءها.
5438- فإذا كان الأئمة يختلفون كذلك في التأقيت المطلق، فيجب أن يختلفوا على هذا الوجه في الإعارة المؤقتة، حتى يقولوا في جواز قلع الزرع وراء المدة المذكورة وجهان. وظاهر المذهب الذي مهدناه في كتاب العاريّة أن التأقيت المطلق لا يسلِّط على القلع وراء المدة، وإنما صار إلى القلع أبو حنيفة، والقلع محتمل من طريق المعنى. فإن ذكرنا هذا الاختلاف في العارية المؤقتة، فهو المراد، وإن لم نذكره، تعيّن إلحاقه؛ إذ لا فرق بين التأقيت في العاريّة، وبين التأقيت في العقد على الوجه الذي وصفناه.
5439- ولا ينبغي أن يغتر الفقيهُ بفرقٍ لا أصل له؛ فيقول: إذا صححنا العقد في مسألتنا، تضمن ذلك حصرَ الاستحقاق في المدة المذكورة، وهذا الانحصار يوجب الفرقَ بين المدة وبين ما وراءها، بخلاف العاريّة، فإنه لا استحقاق فيها، والأمر محمولٌ على مكارم الأخلاق، والمساهلةِ ابتداءً ودواماً. وهذا لا يتحصل مع القطع باستواء الأصلين في جواز اشتراط القلع صريحاً، وإذا جاز ذلك في الموضعين، فإشعار التأقيت المطلق بالقلع في الموضعين على وتيرة واحدة.
5440- ومما يتعلق بهذا المنتهى أن من استأجر أرضاً مدة لزرعٍ، فكانت المدة تسع ذلك الزرعَ غالباً، فلو زرعها المكتري زرعاً تطول مدتُه، وتزيد على المدة المذكورة، ولكن كان إضرار ذلك الزرع بالأرض كإضرار الزرع المذكور، من غير مزيد، فإذا اتفق الزرعُ، فلا شك أنه مقلوع عند منتهى المدة المذكورة؛ من جهة أن المكتري فرّط، إذ عدَل عن النوع المشروط، والمدة تَسَعُه، إلى النوع الذي لا تسعه المدة.
ثم لو أراد المكري قلعَ الزرع في أثناء المدة؛ بناءً على أن له أن يقلعه وراء المدة، لم يكن له ذلك؛ فإن المنفعة في المدة مستحقة للمكتري، وليس في ترك الزرع إضرارٌ، فيجب إدامتُه إلى انقضاء الوقت.
وهذا بيّن بعد الزرع.
5441- ولو همّ المكتري بابتداء الزراعة فأراد المكري منعَه من الابتداء، فقد ذكر العراقيون: أن له أن يمنعه من الابتداء.
والذي يقتضيه قياس المراوزة القطعُ بأنه لا يمنعه من الابتداء؛ فإن المنفعة مستحقة، ولا ضرار، فكما يمتنع على المكري القلعُ دواماً، وجب أن لا يجوز له المنع ابتداءً، وإنما سلطان المكري عند انقضاء المدة، فينتظم من الطريقين قياساً ونقلاً وجهان: الأصح أن لا يُمنع المكتري من ابتداء الزرع، وليس لما ذكره العراقيون-وإن قطعوا به- وجهٌ.
فصل:
قال: "وإذا تكارا الأرضَ التي لا ماء لها... إلى آخره".
5442- جملة الأراضي تنقسم إلى ما لها شِرب معلوم، وإلى ما ليس لها شرب معلوم.
5443- فلتقع البداية بالأرض التي لا شِرب لها على علم. وهذا القسم ينقسم ثلاثة أقسام:
5444- أحدها: أن لا يتوهم لها ماء بحالٍ يتأتى بناءُ الزرع عليه، وذلك بمثابة أرضٍ في قُلّة جبلٍ مَحْلٍ، إن وقع عليه مطرٌ على الندور، لم يسد مسدّاً، فإن كان كذلك، فلا يجوز اكتراؤها للزراعة، فلو اكتراها المكتري، وذكر الزراعة، فالعقد باطل؛ لاشتماله على جنسٍ من الانتفاع مستحيلٍ.
ويجوز اكتراء مثل هذه الأرض لغرضٍ آخر، لا يستدعي الماءَ، وهو أن يتخذها مبركاً لجماله، أو مجثماً لغنمه، أو مُخيَّماً لنزوله، فهذه الجهات إذا وقع التصريح بها، صحت الإجارة، ولا أثر لذكر الماء فيها.
وهذا بيّنٌ غير ملتبسٍ.
5445- فلو وقع العلم بما ذكرناه، فجرى اكتراء مثل هذه الأرض مطلقاً، من غير تعرضٍ للزراعة، أو لجهةٍ أخرى من الجهات التي أشرنا إليها، فالإجارة صحيحة محمولة على الانتفاع الممكن، كما سنذكره في التفريع.
5446- وذكر العراقيون وجهاً بعيداً أن إطلاق الإجارة لا يصح من غير ذكر حالِ الأرض في أنها لا ماء لها، ثم إنهم كما نقلوه زيفوه، وهو لعمري ضعيفٌ، حريٌّ بالتزييف؛ فإن الغرض من ذكر ما يُذكر الإفادةُ، ولا إفادة في التقييد، مع القطع بأن مثل هذه الأرض لا يتصور أن يكون لها ماء في مطّرد العرف.
5447- فليقع التفريع على صحة الإجارة المطلقة. ثم المكتري يتسع في الجهات الممكنة من الانتفاع، ولا يمنع عن شيء منها؛ فإن الأرض تحتمل جميعَها، فلا منعَ منها، وإنما يمنع المكتري من تغيير جِرْم الأرض بحفرٍ أو غيره. وهذا متفق عليه، بين الأصحاب.
وما ذكره العراقيون وجهاً ضعيفاً ليس يقتضي تعيينَ جهة الانتفاع ذكراً، وإنما يشترط ذلك القائل التعرضَ لذكر انتفاء الماء، فأما التنصيص على تعيين جهة الانتفاع، فلم يصرْ إليه أحد، فليفهم الناظر ذلك.
وهذا كلام في قسم واحد، وهو إذا كان لا يتصوّر للأرض ماءٌ يستقلّ الزرع به.
5448- فأما القسم الثاني، وهو أن تكون الأرض بحيث قد يُرجى لها ماءٌ، ولا يأس منه، ولكن لم يكن لها شِربٌ معلوم، فإذا كان كذلك، فلو استأجرها وذكر في صلب العقد أنه لا ماء لها، فالقول في هذا القسم، يتنوع:
5449- فنقول: إن اكتراها للزراعة بناءً على إمكان الماء على بُعدٍ، فلا خلاف بين الأصحاب أن الإجارة فاسدة؛ إذ لا ثقة على الظهور بالماء، الذي لابد منه للزرع؛ فكانت جهة الزراعة فاسدةً، لم يختلف الأصحاب فيها.
ثم لا فرق بين أن يذكر أنه لا ماء للأرض، وبين أن لا يذكر ذلك؛ فإن الفساد أتى من جهة تعذر الزرع في ظاهر الظن.
وقد ألحق الأصحاب فسادَ هذه الأجارة بفساد بيع العبد الآبق؛ فإن رجوعه وعَوْدَه ممكنٌ، لكنْ بناءُ البيع على كوْن المبيع مقدوراً على تسليمه حالة العقد.
5450- ولو اكترى المكتري هذه الأرضَ ليتّخذَها مخيّماً، أو مبركاً، أو مأوى للأغنام، فتصح الإجارةُ.
ولا حاجة في هذا القسم إلى التعرض للماء، نفياً، ووجوداً؛ فإن هذه الجهات لا تستدعي الماء.
5451- فأما إذا اكترى الأرضَ مطلقاً، ولم يقع التعرض للزراعة، ولا لغيرها من جهات الانتفاع، فإن جرى في العقد أن الأرض لا ماء لها، صحت الإجارة، وانقطع الوهم عن اقتضاء الإجارة زراعةً، وإذا صححنا العقدَ، فالمكتري ينتفع بالجهات التي ذكرناها، وإن لم يقع لها تعيين.
فلو أراد أن يزرع الأرضَ بناءً على توقّع الماء، كان له ذلك؛ وهذا إذا جرى ذكر الماء نفياً، فأما إذا لم يجر لنفيه ذكرٌ، لم يخلُ إما أن يكون أمر الماء مشكلاً على المكتري، وإما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، فإن كان جاهلاً، فالإجارة فاسدة؛ لأن مطلق استئجار الأرض يشعر بالزراعة، فيصير المطلق كالمقيّد بالزراعة، وقد ذكرنا أن استئجار الأرض التي وصفناها للزراعة باطل، ونزّلنا الاستئجار لها على رجاء الماء من غير ثبت منزلةَ ابتياع العبد الآبق على رجاء العَوْد والإياب، والعقد المطلق كالمقيّد بالزراعة. هذا ولا علم بحقيقة الحال.
5452- فأما إذا كان المتعاقدان عالمين بصفة الأرض، وأنه ليس لها شِرب معلوم، ورجاء الماء ليس غالباً، فالعلم في ذلك هل يتنزل منزلة التصريح بأن الأرضَ لا ماء لها؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما- أن العقد يصح، كما لو تقيّد بنفي الماء، ووجهه أن ما يذكر في العقد فائدته الإعلام، والإشعار به، فإذا عَلم المتعاقدان ما يدل عليه لفظ نفي الماء، فلا حاجة إلى الذكر.
والوجه الثاني- أن العقد لا يصح؛ فإن اللفظ المطلق فيه يتضمن الزرعَ، فلابد من قطع تضمّن اللفظ صريحاً بلفظ.
5453- ولابد وأن يتنبه الفقيه في هذا المنتهى للفرق بين هذا القسم الذي نحن فيه، وبين ما إذا كانت الأرض بحيث لا يتصور أن يكون لها ماء؛ فإن الرجاء إذا كان زائلاً، فلا يتوقع طلب الأرض للزراعة، وذلك القسم الأول فيه، إذا كانت الأرض بحيث لا يخفى أنها لا تصلح للزراعة، ولا يُتوقع لها ماء، وإذا انتهى الأمر في الظهور إلى هذا المنتهى، فلا حاجة إلى التعرّض والذكر.
وإنما يظهر موقع الذكر إذا كان الإمكان متطرَّقاً على قربٍ أو بعدٍ. والذي ذكر العراقيون من الوجه الضعيف في القسم الأول بَعُدَ لذلك.
ولو كان المكتري مثلاً لا يحيط بأن مثل تلك الأرض لا تصلح للزراعة، لجهله وسلامة صدره، وذلك في القسم الأول- فقد ينقدح الآن والحالة هذه التعرضُ لنفي الماء، ويجوز أن يقال: الجهل بصفة الأرض في القسم الأول بمثابة العلم بصفة الأرض في القسم الثاني.
5454- فأما القسم الثالث: وهو أن تكون الأرض بحيث يغلب على الظن إمكانُ زراعتها بماء المطر أو سيلٍ يتفق و تنمية الزرع.
فلو استأجر مثلَ هذه الأرض للزراعة، ولم يتعرض لنفي الماء والشِّرب.
فالذي يظهر من كلام الشافعي، وهو اختيار القفال أن الإجارة فاسدة؛ فإنه إذا لم يكن للأرض شربٌ معلوم، فبناء الزراعة على وقوع القطر غررٌ، والغرر مجتنبٌ في العقود.
وقال القاضي: ينبغي أن يصح اكتراء مثل هذه الأرض للزراعة؛ بناءً على الغالب، واحتَجَّ عليه بأن الأرض إذا كان لها شِرب معلوم، فاستئجارها للزراعة جائز، ولسنا نقطع ببقاء ذلك الشِّرب؛ فإن انقطاعَه ممكنٌ، ولكن حُمل تصحيح الإجارة للزراعة على ظاهر الحال، ووقوع هذا الغالب في المطر بمثابة وقوعه في الشرب من النهر العِدِّ، والعين الفوارة بالماء.
5455- فالقاضي يقول إذاً: يصح الاستئجار للزراعة مطلقاًً من غير تعرض لذكر الماء؛ بناءً على الغالب، والقفال يقول: لا يصح الاستئجار للزراعة بناء على المطر، وما في معناه، ثم في قول القفال تردُّدٌ نُنبِّه عليه.
5456- أما إذا لم يجر لنفي الماء ذكر، فالاستئجار للزراعة باطلٌ عنده، وإن ذكر المتعاقدان أن الأرض لا ماء لها على علمٍ، ثم جرى الاستئجار على الزراعة، فالقفال مُردِّدٌ قولَه في ذلك، وهو لعمري محتمل، تفريعاً على اختياره.
فتحصَّل من مجموع ما ذكرناه: أن استئجار مثل الأرض التي نحن فيها للزراعة جائز عند القاضي من غير تعرض لنفي الماء، وهو ممتنع عند القفال، إذا لم يجر ذكرُ نفي الماء العِدّ، وإن جرى ذكرُ نفي الماء، ففي جواب القفال تردّدٌ.
5457- ومما يلتحق بهذه الأقسام أن الأراضي التي يسقيها فيضُ النيل إذا امتد، فصفتها أولاً: أن النيل إذا زاد أوانَ المدّ، انبسط الماء على الأراضي، و بقي عليها، ثم ينحسر الماء إذا نقص النيل، و يفيض من ماء النيل على الأراضي ما يفيض، ثم إذا انحسر الماء، زُرعت الأراضي، ووقع الاكتفاء بتلك الندوة الواحدة، ولو مُطر أهلُ مصر، فسدت زروعهم.
فهذا معتمد الزراعة في تلك الديار.
والنيل كثيراً ما يخون، فلا يفيض، إذا لم تنته زيادتُه إلى المكان الذي يعرفونه.
فاكتراء هذه الأراضي كيف سبيلها؟ قال الأئمة: إن اكتراها المكتري للزراعة بعد جريان الفَيض والانحسار، والاكتفاء بما جرى، فالعقد صحيح؛ فإن الزراعة ممكنةٌ، ولا حاجة إلى الماء، والماء ليس يُعنَى لعينه، وإنما يعنى لتنمية الزروع، فإذا كانت الأرض مستقلة بندوتها، صح استئجارها للزروع.
ولو استأجر أرضاً من تلك الأراضي قبل الفيض على توقّع مدّ النيل، فهذا ملتحق بالقسم الثاني: وهو إذا كان البناء على رجاء المطر، وليس وقوعه غالباً.
والسبب فيه أن النيل خوّان، ولا يمكن حملُ الأمر فيه على غلبة الظن. وإذا أحلنا هذا على القسم الثاني، لم يخفَ تفصيل المذهب فيه.
ولو كان بالقرب من ضِيفة النيل أرضٌ يغلب على الظن فيضُ النيل عليها، وإن نقص المدّ. وإنما تتقابل الظنون في الأراضي البعيدة، فالقول في الأراضي القريبة، والظنُّ غالبٌ يلتحق بالقسم الثالث.
وقد فصلنا المذهب فيه.
5458- وأما الأراضي التي تبنى زراعتها على مدّ البصرة، فيجوز استئجارها للزراعة مطلقاً باتفاق الأصحاب؛ فإن مدّ البصرة لا يختلف، وهو أثبت من كل ماءٍ عِدٍّ، وشِربٍ معلوم.
ومن أحاط بالأصول التي ذكرناها، لم يخف عليه تفريعُ المسائل بعدها.
5459- ومما يتصل بهذا المنتهى كلامٌ للشافعي، ذكره في الأم، فقال: إذا كانت الأرض بقرب نهرٍ، لو ازداد ماؤه، امتنعت زراعتها، ولو انتقص الماء، أمكنت الزراعة، فإذا كان الماء مزداداً، فاستأجرها مستأجرٌ للزراعة، بناء على انحسار الماء، وكان الانحسار موهوماً، لا يغلب فيه ظنٌّ، فالإجارة فاسدةٌ؛ فإن المانع قائم في وقت العقد، وزوالُه موهومٌ، فكأن الاستئجار والحالة هذه بمثابة ابتياع العبد الآبق.
5460- ولو كان الماء ناقصاً، وكان الانتفاع ممكناً، فجرت الإجارةُ والأرض حالة العقد على هذه الصفة، ولكن كان يُتوقع ازدياد الماء وامتناع الزراعة، فالإجارة تصح، ويعتمد صحتها انتفاءُ المانع في الحال، وتوهمُ طريان الزيادة المانعة لا حكم له، ولا عبرةَ بالموهومات، إذا صادف العقدُ حالةَ إنشائه الشرطَ المرعيَّ.
وهذا ننزله منزلة ما لو اشترى الرجل عبداً، وكان إباقه ممكناً بعد العقد، فإمكان ذلك لا يمنع صحةَ العقد. ثم إن طرأ لم يخف حكم طارئه.
وهذا الذي ذكره الشافعي في الطرفين متجهٌ بالغٌ متفَق عليه.
5461- ثم قال الأصحاب: زيادة الماء إذا كانت تمنع، أو تقطع، بمثابة انقطاع الماء العِدّ في أثناء مدّة الإجارة.
والأمر كما ذكروه؛ فإن الانقطاع إنما يؤثر طريانه لامتناع تنمية الزرع، وإذا تحقق المانع بالزيادة، كانت في معنى الانقطاع.
وكل ما ذكرناه من تفصيل الكلام وتنويع الأقسام في الأرض التي ليس لها شِربٌ من ماءٍ عِدّ. فإن أجرينا ذكرَ ماءٍ عدٍّ كمدّ البصرة، فذاك وقع طرفاً من الكلام.
5462- ونحن الآن نذكر غرضَنا في الأرض التي لها شِربٌ من ماءٍ عِدّ ونُنجز ما وعدنا في ذلك، فنقول: إذا أكرى مالك الأرض الأرضَ مع شِربها، ووقع التصريح بذلك ذكراً، فالإجارة صحيحة، لا اختلاف في صحتها.
ولو اكتراها المكتري للزراعة وحدها، ونفى استحقاقَ سقيها من شِربها العِدّ المعلوم نُظر: فإن كان يهون على المكتري سقيُها من أوديةٍ وأنهارٍ ومياهٍ عِدّة، فيصح اكتراؤها للزراعة على هذا الوجه؛ فإن الزراعة ممكنة، ولا امتناع فيما ذكرناه، لا عرفاً ولا شرعاً.
ولو تشارطا نَفْيَ استحقاق السقي من الشرب العِدّ، وكان المكتري لا يجد ماءً عِدّاً، وإنما يعوّل على أملٍ ورجاءٍ في المطر، أو سيلٍ إن اتفق، فهذا يلتحق باستئجار أرضٍ ليس لها ماءٌ عِدّ، ثم الكلام ينقسم إلى الأقسام الثلاثة، فلا فرق بين أن لا يكون للأرض ماء عدٌّ، وبين أن يُشترط في العقد نفيُ استحقاقه.
5463- ولو استأجر الأرضَ ذاتَ الشرب العِدّ مطلقاً، ولم يقع التعرض لنفي السقي من الشِّرب، ولا لإثباته، لم يخل العرف في ذلك المكان، فإن كان يقتضي اقتضاءً غالباًً مطرداً السقيَ من الشِّرب، حُمل العقدُ المطلقُ عليه، بلا خلاف، وجعل كما لو وقع التصريح بالسقي من الشِّرب.
وإن وقع ترديدٌ في حبر الورَّاق، وخَيْط الخياط، وإرضاع المستأجَرة للحضانة، فلا ترديد فيما نحن فيه؛ فإن ذلك من الأمور الكليّة العامة التي يتبع المسلمون العرفَ فيها، وحق مثل هذا الأصل التمهيد، ثم يستثنى منه الجزئيات في آحاد المسائل.
هذا إذا غلب العرف بالسقي من الشِّرب، واستمر؛ فإن الإجارة على الأرض لا تُطلب إلا مع السقي من الشِّرب العِدّ.
5464- فأما إذا لم يطّرد العرف في ذلك على وجهٍ، فكانت الأرض تكرى وحدها، والماء يكرى مجراه وحده، وربما يُجمع بينهما، فإذا كانت الحالة هذه، فاستأجر الرجل الأرض للزراعة مطلقاً، ولم يتعرض للماء، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الإجارة المطلقة بمثابة الإجارة المقيّدة بشرط الماء، فأما الزراعة إذا ذكرت، أشعر ذكرها بالاستمداد من الماء، وعلى المكري توفيةُ المنفعة المذكورة في الإجارة، ومن الوفاء بتوفية منفعة الزراعة إمدادُ الزرع بالماء.
هذا وجهٌ ظاهر، وإليه صَغْو جماهير الأصحاب.
والوجه الثاني- أن الإجارة لا تحمل على استحقاق الماء، وهذا هو القياس؛ فإن اللفظ ليس يشعر باقتضاء الماء، والعرف ليس يحكم به أيضاًًً، وإذا عُدم اقتضاء اللفظ والعرف، فإثبات الاستحقاق لا معنى له، وليس لما ذكره ناصر الوجه الأول أصلٌ؛ فإن الزراعة ليس من ضرورتها ما ذكره ناصر ذلك الوجه، بدليل أن التصريح بنفي السقي من الشِّرب العِدّ ينتظم في الكلام، ولا يعدّ ذكر الزراعة مع نفي استحقاق الشِّرب كلاماً متناقضاً.
التفريع على الوجهين:
5465- إن فرعنا على الأول، لم يخف حكمُه.
وإن فرعنا على الوجه الثاني، فعليه وجهان:
أحدهما: أن الإجارة تفسد، لتردد العرف.
وهذا وجهٌ رددناه في مسائلَ، وليس بمرضيٍّ عندنا.
والوجه الثاني- أن صحة الإجارة وفسادَها يُؤخد من إمكان سقي تلك الأرض من جهةٍ أخرى، وقد فصلنا هذا.
والقول الوجيز في ذلك: أنا نجعل إطلاق الاستئجار للزراعة، حيث انتهينا إليه، بمثابة التصريح بنفي استحقاق السقي.
هذا تمام البيان في هذه الأقسام.
5466- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الاستئجار للزراعة. فأما إذا قيدت الإجارة بغرضٍ من الأغراض، سوى الزراعة، لم يخف الحكم بصحة الإجارة.
ونحن وإن لم نغادر من البيان شيئاًً، فإنا نرى اختتام هذا الفصل بالتنبيه على شيء.
5467- وهو أن الأرض التي لا ماء لها، إذا ذكر أنه لا ماء لها، فلا حاجة إلى تعيين جهةٍ سوى جهة الزراعة، ولكن يكفي نفيُ الماء. ثم الإجارة تُحمل على كل منفعةٍ ممكنة، ومنها الزرع إن أراده المستأجر، بناء على الرجاء.
ولو جرى الاكتراء مطلقاًً، حيث لا ماء، فإن لم يكن رجاء للماء، صح، وحمل على الممكن من الانتفاع، وإن كان رجاء الماء ثابتاً، ولم يجر ذكر نفي الماء، فالأصح فسادُ الإجارة، وفيه وجه آخر ذكره القاضي: أن الإجارة تصح.
فهذه قواعد يجب التنبه لها في مجاري الكلام.
5468- وإن كان للأرض شربٌ، فيجب التنبه لأمر العرف في اطراده وموقع اختلافه، إذا كانت الإجارة مطلقة، لا ذكر للماء فيها. والله أعلم.
فصل:
قال: "وإن تكاراها، والماء قائم عليها، وقد ينحسر لا محالة في وقتٍ يمكن فيه الزرع، فالكراء جائز... إلى آخره".
5469- صورة المسألة: أرض علاها الماء وعلمنا انحساره عنها بالنضوب، أو بالتحدّر في وقت الزراعة.
قال الشافعي: إذا كانت الأرض كذلك، فاستؤجرت، والماء قائم، فالاستئجار صحيح.
5470- وتفصيل المذهب فيها: أن الماء الواقف إن لم يمنع من رؤية الأرض لصفائه، أو كانت سبقت فيها الرؤية على وجهٍ يُكتفى بها، وكان ذلك الماء الواقف لا يمنع من الزراعة، وإن بقي واقفاً. وهذا كاستئجار الأرض لزراعة الأرز؛ فإن كان كذلك، فالإجارة صحيحة؛ إذ لا مانع.
5471- ولو كانت الرؤية ثابتةً، أو سبقت، ولكن كانت الزراعة ممتنعة في الوقت، فلا يخلو: إما أن يكون الماء بحيث يمنع الزراعة في الحال، وفي الوقت الذي نرقب فيه الزراعة، أو كانت الزراعة تمتنع في الحال، ولكن الماء ينحسر لا محالةَ، في وقت الحاجة إلى الزراعة.
فإن منع الماءُ الزراعة في الحال والمآل، لم تنعقد الإجارة لا شك فيه؛ فإن المقصود ممتنعٌ.
وإن كان الماء الواقف مانعاً من الزراعة في الوقت، ولكنه كان ينحسر لا محالة في وقت الحاجة إلى الزراعة، فالذي نص عليه الشافعي، وقطع به معظمُ الأصحاب أن الإجارة صحيحة، والماء القائم على الأرض ليس مانعاً من الانتفاع في وقت الحاجة، وهو فيما قيل: ينفع، ويُعفِّن ما في الأرض من عروق العُشب.
5472- وذكر العراقيون في المسألة وجهاً بعيداً: أن الزراعة إذا كانت ممتنعةً بالماء الواقف، فالإجارة غيرُ صحيحة.
وهذا نقلوه وزيّفوه، والأمر على ما ذكروه.
5473- والفصل على ظهوره ملتبسٌ لابد من كشفه، فنقول:
لم يختلف الأصحاب في صحة استئجار الأرض للزراعة، وإن كانت الإجارة لا تستعقب إمكانها في الحال، وإنما تنشأ الزراعة بعد تاريخ العقد، وليس ذلك من استئخار الانتفاع عن العقد، حتى يقال: الإجارة إذا تقدّمت على وقت الزراعة، وإمكانُ الانتفاع متأخرٌ، فيكون كاستئجار الدار الشهرَ القابل.
والفرق بين ما جوّزناه، وبين ما منعناه، أن الإجارة إذا صحت في الأرض، ثبتت يد المستأجر عليها، واستمر احتكامه فيها بالإمساك، والإجارة إن تنشأ، فتأخر الزراعة غيرُ ضائر، والعقد إذا أضيف إلى زمانٍ في الاستقبال، كان في حكم المعلّق به، ولا يثبت للمستأجر استحقاقٌ ناجزٌ.
فإذا بأن هذا، فإنا نقول:
5474- إذا كان الماء واقفاً في زمانٍ لا يمكن إنشاء الزراعة فيه، ولو كانت الأرض ضاحيةً عريّةً، لأُخِّرت زراعتُها، وسينحسر الماء قطعاً في أول وقت الزراعة، أو قبله، وزالت الموانع التي أشرنا إليها، كامتناع الرؤية، فلا معنى لذكر الخلاف في هذه الصورة.
5475- فأما إذا كان الماء واقفاً في أول وقت الزراعة، ولولاه، لأمكن افتتاحُها، وكان لا يمتنع لمكان الماء الوقتُ المطلوب في الزراعة؛ فإنّ تأخُّرَ الزراعة بأيامٍ معدودة، لا أثر له عند الدهاقنة، ويقومُ انتفاع الأرض بالماء مقام البدار إلى الزراعة.
فهذا موقع النظر.
والظاهر تصحيح الإجارة، وقد استشهد الأصحاب في تصحيحها بما لو اشترى الرجل داراً مشحونةً بأمتعة البائع، فالبيع صحيح، والبائع مشتغل بتفريغ الدار على الاعتياد في مثله.
5476- والذي ذكره العراقيون قد يتجه على بُعدٍ في هذا المقام؛ فإن الزراعة ممتنعةٌ لاجل الماء ووقوده.
وكان شيخي يقول: لو أجر داراً مشحونة بالأمتعة، كان كمسألة الماء؛ فإن الانتفاعَ متأخر وليس كابتياع الدار المشحونة؛ فإن المنفعة ليست معقوداً عليها في البيع، وقد يجوز بيع الدار المكراة في قولٍ، ولا شك في امتناع إكراء الدار المكراة، وإذا كان في الماء الواقف الحائر خلاف، فالدار المشحونة بالأمتعة أولى بالخلاف؛ إذ الماء من مصلحة الزراعة، وإجراؤه في الأرض فاتحةُ العمل.
فهذا ما لابد من التنبه له.
5477- وإذا جوّزنا الإجارة مع الماء، ولكنه كان كَدِراً يحول بين الناظر وبين درك الأرض، ولم تتقدّم رؤية قبل وقوف الماء يقع الاكتفاء بها، فالمذهب تخريج المسألة على قولي بيع الغائب.
ومن أصحابنا من صحح الإجارة في هذه الصورة، وإن منع استئجار الغائب، وصار إلى أن الماء من مصلحة الأرض واستتارُ الأرض به استتارُ اللبوب بالقشور.
وهذا ضعيف، لا أصل له؛ فإن ما استشهد به هذا المجيزُ، خِلقةٌ يتوقف عليها صلاحُ الادخار، والماء عارض يعرض، فإذا استتر الأرض به كانت غائبة عن نظر المستأجر، فلا حاصل إذاً لهذا.
وما ذكرناه فيه إذا استأجر الأرضَ والماء واقف على ما فصلناه.
5478- وأما إذا استأجر والأرضُ عارية ضاحية، وانعقدت الإجارة، ثم تغشاها ماء، فقد أكثر الأصحاب في التفاصيل، والتقاسيم، وهذا فن، لا أوثره في هذا المجموع. وقد تولّع المصنفون بتطويل الكلام، بالإعادات، ونحن إذا كنا نُضطر إلى مجاوزة الحد في كشف المشكلات، فينبغي أن نؤثر قبضَ الكلام في المعادات، ونقتصرَ على ذكر المعاقد، والمرامز، ونقول:
إذا كان الماء بحيث لا يُرقب انحداره، وانحساره، حتى يفوت وقت الزراعة، فهذا ينزل منزلةَ تلف المعقود عليه، فإن كان في جميع الأرض، فهو كانهدام جميع الدار، إذا جعلنا الانهدام من أسباب الانفساخ، وإن كان ما جرى في بعض الأرض، فهو كالتلف في البعض، ويتشعب منه قواعد التفريق في دوام العقد.
5479- وإن كان الماء بحيث يُتوقع انحساره عن الأرض قبل انقضاء مدة الزراعة، نظر: فإن تحققنا ذلك من غير تردد، فلا أثر لطريان هذا. ومن ذكر خلافاً في الابتداء، لم يجعل هذا مؤثراً في الدوام.
وإن كنا نظن الانحسار، ولا نقطع به، فهذا بمثابة ما لو غصب غاصبٌ الأرضَ قبل أوان الزراعة، فإن زال الغصب، ولم تفت الزراعة، فلا أثر لطريانه، وإن تمادى الغصب والاستيلاء إلى فوات الزراعة، انفسخت الإجارة، والقول في الماء على هذا النحو.
وإن وُجد ما ذكرناه في البعض من الأرض، جرت فصول التفريق.
5480- وما استشهدنا به من الغصب من أصول الكتاب، وسيأتي فيه فصل مقصود، فلذلك لم نُطنب في بيان حُكمه. وهذا القدر مقنع.
فصل:
قال: "وإن مرّ بالأرض ماء، فأفسد الزرعَ... إلى آخره".
5481- إذا زرع المكتري، وأنبتت الأرض، فركبها ماءٌ، وأفسد الزرعَ، وذلك بعد إمكان ابتداء الزراعة، فالذي جرى في حكم جائحةٍ.
ولو احترق زرع المستأجر بالصواعق، أو حطّمه البَرَدُ، أو استأصله الجرادُ، فلا أثر لما يجري في العقد، والإجارة قائمة، والأجرة ثابتة بكمالها؛ فإن هذه الجوائح لم تغير المعقود عليه في الإجارة، وإنما أفسدت ملكَ المستأجِر.
5482- ولو أفسد السيل الأرض بعد فوات الزراعة، فهذا قد يتردد الناظر فيه.
والرأي عندنا أنه لا يؤثر في الإجارة؛ فإن الأرض لو بقيت على صفتها، وقد هلك الزرع، لما كان للمستأجر فيها منتفع.
وهذا الذي ذكرناه مصوّرٌ فيه إذا فسد الزرع بالماء، ثم فسدت الأرض. وليست المسألة خاليةً عن احتمال؛ من جهة أن بقاء الأرض على صفتها على الجملة مطلوب في تنمية الزرع، وقد حالت الأرض عن صفة التنمية، وإن هلك الزرع.
5483- ولو فسدت الأرض أولاً، وفسد الزرع بفسادها، فهذا يؤثر في الانفساخ وسقوط بعض الأجرة.
5484- وينقدح فيه وجه آخر، وهو أن فساد الأرض آخراً لو جُعل سبباً لانفساخ أصل الإجارة فيما مضى من الزمان، لكان ظاهراً؛ فإن فسادها أحبط أصلَ الانتفاع، ولم يبق إلا نَصَبُ الزرَّاع.
وهذا بديع في التصوير؛ فإن المنافع في الزمان الماضي في حكم المستوفاة، ولكن الأوجه التوقّف فيها إلى بيان الأمر، وسلامة الأرض عن إحباط ما مضى وبقي.
فهذا محالّ النظر والتردد؛ فَلْيتثبَّت عندها الفقيه.
فصل:
قال: "ولو اكتراها ليزرعها، قمحاً... إلى آخره".
5485- إذا أكرى الرجلُ أرضاً للزراعة، وسمى نوعاً من الزرع، فلا يتعين ذلك النوع، بل للمستأجر أن يزرع ما يساوي المسمّى في الضرر، أو يتقاصر عنه؛ فإنه إذا استحق منفعةَ الأرض على حدّ، فالزرع استيفاءٌ لتلك المنفعة، ولا يتعين على مستحِق المنفعة جهةُ استيفائها، إذا كان لا يتعدّى المستحقَّ، ولهذا قلنا؛ من استأجر دابة ليركبها، فله أن يُركب الدابة غيرَه، إذا كان على حدّ المستأجر في الضخامة والعبالة، أو كان أقلَّ منه؛ ولهذا جوّزنا للمستأجر أن يُكري المستأجَر. وكذا لو استأجر أرضاً ليزرعها قمحاً، فزرعها شعيراً، وضررُ الشعير-فيما يقال- أقلُّ.
5486- ولو عين القمح، ثم أراد أن يزرعها ذرةً، مُنع؛ لأن ضرر الذرة يزيد على ضرر القمح زيادةً ظاهرةً.
5487- ولو عين القمحَ وشرَط أن لا يزرع غيرَ القمح، فقد ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أن الشرط يُفسد الإجارة، وهذا هو الظاهر؛ لأنه يتضمن احتكاماً على مستحِق المنفعة، وحَجْراً في التصرف، فهو كما لو قال: أجرتك هذه الأرض على أن لا تؤاجرها، وهذا لا شك مفسد، كما لو قال البائع بعتك عبدي هذا، على أن لا تبيعه.
والوجه الثاني- أن الشرط يلغو، والعقد يصح والمستأجر على خِيَرته، كما ذكرناه في الإجارة المطلقة. ووجه هذا: أن هذا التعيين ليس يتعلق بغرضٍ صحيح في الجانبين، اشتراطاً وقبولاً، وما كان كذلك، فهو حقيق بأن يلغى، وليس كذلك المنعُ من الإجارة؛ فإنه حجرٌ في الملك يتعلق بغرضٍ؛ إذ المكري ربما لا يثق بيد غير المستأجِر، ولا يؤثر أن تتداول الأيدي ملكَه، وهذا الذي يهواه على خلاف مقصود العقد ومقتضاه، فكان الشرط فاسداً مفسداً.
5488- وذكر القاضي وجهاً ثالثأ لا يليق بمنصبه، وهو أن الشرط يصح، ويتعيّن ما عيّن، وزعم أنه تلقّى هذا مما إذا نوى المتوضىء بوضوئه استباحةَ صلاةٍ بعينها، دون غيرها، فإن تيك الصلاة تتعين عند بعض أصحابنا.
وهذا ظاهر السقوط؛ فإن ذلك الوجه أولاً مما لا يليق بالفقيه التفريعُ عليه، ولا ينبغي أن يزيد من له قدرٌ على تزييف ذلك الوجه، ثم العبادات والنيات بعيدةٌ عن المعاملات، وما فيها من الشرط الفاسد والصحيح.
5489- ومقصود الفصل أن المستأجر إذا عيّن القمح، ثم زرع الذرة، فهو أولاً ممنوع عن ابتداء الزرع لما قدّمناه، فإن زرع قلع المالكُ زرعه، ولم يكن له أن يقول: اتركه إلى الحصاد، أغرَم لك ما يوجبه عليّ من مزيد، وكذلك لو قال: ليس يتبين ضرره في ابتداء النبات، فاتركه حتى ينتهي إلى توقّع الإضرار؛ فإن هذا أمرٌ لا ينضبط، فالزرع مقلوعٌ، ثم المالك يكلّفه القلعَ، وإذا أثر قلعُه في احتفار الأرض، وإظهار حفائرَ فيها، لزمه تسويتُها، كما يلزم الغاصب.
فإن غَفَل المالكُ عن تعدّيه، حتى حصدَ الزرعَ المضرَّ، قال الشافعي: لصاحب الأرض الخيارُ، فإن شاء ألزمه الأجرة المسماةَ، وألزمه أرشَ نقص الأرض بسبب الذّرة، فينظر إلى ما بين تنقيص القمح وتنقيص الذرة، ويُلزمه مع الأجرة المسماة أرشَ ما زاد من النقص بسبب الذرة.
وإن شاء أن لا يطالبه بالأجرة المسماة أصلاً، ويطالبه بأجر مثل الأرض لو زرعت ذرة، فله ذلك.
5490- ولما نقل المزني هذا قال: الأول أولى بقوله، فاحتمل كلامُ المزني أنه فهم من كلام الشافعي قولين، ثم اختار الأول، حتى كأنه اعتقد أن ما ذكره الشافعيُّ ليس إثباتَ خِيَرةٍ بين خصلتين؛ فإن إثبات الخيرة مذهبٌ واحد، ومن ضرورة الخِيرة تعلّقها بأمرين، فرأى المزني أن هذا من الشافعي ترديدُ القول بين الحُكْمين على ما سنوضحهما.
وقد اختلف أئمتنا في المسألة، فنذكر ما ذكروه ثم نتصرف في لفظ المزني.
5491- فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أن صاحب الأرض ليس له إلا الأجرة المسماة، والرجوعُ بالنقص المتخصص بالذرة. والقول الثاني- أنه ليس له إلا أجرة المثل.
توجيه القولين: من قال: ليس له إلا أجرةُ المثل، احتج بأن المستأجر تركَ الانتفاعَ الذي يستحقه جملةً، وشغل الأرضَ بنوع آخر، فانفسخت الإجارة، وصار المستأجِر في حكم من يغصب أرضاً، ويزرعها ذرة.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأنه لم يحِد عن قبيل الزراعة وجنسها، ولكنه اعتدى، وزاد، فكأنه استوفى المنفعة المستحقةَ، وتعدّى محلّ الاستحقاق، ففي الذرة ضررُ القمح، مع مزيدٍ، والدليل على هذا أن ما ذكره ناصر القول الأول من ادعاء الانفساخ لا أصل له، وقد انقضت المدة تحت يد المستأجر، فكان يجب لو صح ذلك المسلك أن يقال: إذا فاتت المنفعةُ تحت يده في كمال المدة، وجب الأجرةُ المسماة، ويجب أجرة المثل لزراعة الذرة، وهذا سرفٌ في الإلزام.
ولناصر القول الثاني أن يقول: المستأجر بزراعة الذرة سدَّ جهةَ الانتفاع بزراعة القمح، والمستأجر لو أتلف العين المستأجرة، ترتب على إتلافه انفساخُ الإجارة، كما لو تلفت بنفسها، فلا معنى لتخيل الجمع بين الأجرة المسماة، وبين أجرة المثل.
5492- وهذه الطريقة في القولين تخالف نص الشافعي، فإنه صرح بتخيّر المالك، وهذا القائل بإجراء القولين رفَعَ حكم الخيرة من البَيْن.
5493- ومن أصحابنا من سلك طريقةً أخرى، فقال: في المسألة قولان:
أحدهما- أن صاحب الأرض مخيرٌ، كما نص عليه الشافعي، فإن شاء ألزم المستأجِرَ الأجرةَ المسماةَ، وأرشَ النقص الزائد، كما ذكرناه. والقول الثاني- أنه يتعين عليه أخذُ أجرة المثل.
5494- وذكر بعضُ أصحابنا القولين على صيغة أخرى، فقال أحدهم: إنه يتخير كما ذكرناه.
والثاني: أنه لا يتخير، وليس له إلا المسمَّى وأرشُ النقص.
وكان شيخي يؤثر هذه الطريقة، ويراها أصحَّ من التي قبلها.
5495- التوجيه: من أثبت الخيرة وهو ظاهر النص، احتج بأن المستأجر من وجهٍ لم يحد عن الزرع، ومن وجهٍ لم يأت بالجنس المستحَق، والحكم بالانفساخ بعيدٌ، والمسألة مترددةٌ بين القواعد، فإذا لم ينقدح الانفساخ وقوعاً، ولم يتجه تعيّن الأجرة المسماة لحيد المستأجر عن النوع المستحق، فلا وجه إلا أن يخيَّرَ المالك.
ووجه من منع التخيير أن الإجارة قد انتهت، فَعَطْفُ الفسخ عليها محال، فيجب أن يقع الحكمُ مجزوماً. ثم من جزم القولَ بأجرة المثل، فوجهه ما تقدم. ومن رأى الجزم بالمسمّى، وأرْشَ النقص، فقد سبق في الكلام ما يوجه ذلك أيضاً.
5496- ومن أصحابنا من أبى طريقةَ القولين، وقال: لا مذهب للشافعي إلا التخيُّر بين المسمَّى وأرشِ النقص، أو أجر المثل. وهذا بيِّنٌ في لفظه. ومن استنبط من كلام المزني القولين، فهو غير منصفٍ؛ فإنّ ترك نص الشافعي، وهو صريح في الخِيرة، لا معنى له بخيالٍ في كلامِ المزني.
على أنه يمكن حملُ كلامه، إذ قال: الأوّل أولى: أنه لا يؤثر التخير مذهباً لنفسه، بل رأى ما ذكره الشافعي إحدى الخيرتين المذهبَ المجزوم، فإذا احتمل كلام المزني هذا، فلا معنى لمخالفة النص، وليس للشافعي نص إلا التخيير، فمذهبه التخير إذاً.
هذا بيان مسالك الأصحاب في المسألة.
5497- ولو أردنا أن نجمع ما ذكروه وننظمه أقوالاً، انتظم منه ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنه يتعين المسمى وأرشُ النقص.
والثاني: يتعين أجر المثل.
والثالث: أنه يتخير، كما سبق معنى التخيّر.
5498- ومما يتعيّن الإحاطة به في ضبط المذهب، في هذا الأصل: أن من استأجر دابةً ليحملها مائة منٍّ من الحنطة، فحمّلها مائةً وخمسين، فالأجرة المسمّاة تثبت قولاً واحداً، ويجب في مقابلة الزيادة أجرةُ المثل، وليس هذا من صور القولين؛ فإنه استوفى ما استحق، وزاد عليه، فثبت لاستيفائه الحكمُ اللائق، وثبت لما زاد الحكم الذي تقتضيه الزيادة.
وإذا ذكر زراعةَ البرّ، وعدل منها إلى زراعة الذرة، فهذا ميلٌ من نوعٍ إلى نوعٍ من غير خروج عن قبيل الزراعة، فترددت الأقوال لذلك، ونظير هذه المسألة ما لو استأجر داراً ليسكنها، فأسكنها الحدّادين، والقصارين، حتى اشتغلوا بأعمالهم، فتزلزلت السقوف لهَا، وبدت الشقوق في الجدرات وغيرها، فهذا يخرّج على الخلاف المذكور في إبدال زراعة الحنطة بزراعة الذرة.
5499- ومما يلتحق بذلك أنه لو اكترى دابة ليحمّلها مائة منٍّ من الحنطة، فحمّلها مائة منٍّ من الحديد، فهذا عدوان منه وتعد من النوع المستحَق إلى نوعٍ آخر، فيكون هذا على الأقوال التي ذكرناها.
وقد لا يظهر من تحميل الدابة الحديدَ نقصٌ، فترجع الخيرةُ على قول التخيّر إلى الأجرة المسماة، وإلى أجرة المثل. وإن كانت الأجرة المسماة في تحميل الحنطة كأجرة مثل حمل الحديد، فلا يظهر للتخيّر معنى.
والذي يظهر في ذلك أنا إذا عيّنا المصيرَ إلى أجرة المثل، فنحكم بأن الإجارةَ قد انفسخت، ويظهر هذا المسلك، وإن كان لا يظهر تفاوتٌ. وكذلك إذا عيّنا الأجرة المسماة، فيكون هذا مسلكاً، ومقتضاه أن الإجارة غيرُ منفسخة.
ويجوز أن يقال: على قول التخيّر: إن أراد الفسخ، فيرجع إلى أجرة المثل، وإن كانت مثلَ المسمى، والظاهر أن التخيّر لا معنى له؛ فإن الخيار في الفسخ إذا كان مربوطاً بغرضٍ لا يثبت حيث لا يظهر الغرض.
وفي هذا المقام احتمال، فليتأمله الناظر، كما نبهنا عليه.
5500- ورأى بعض أصحابنا أن يشبه القولين في بعض الطرق بأصلٍ قدمناه في الغصوب، وهو أن الغاصب إذا تصرف في الدراهم المغصوبة، وظهر الربح، ففي القول المنقاس نقول: المالك يتبع دراهمَه لا غير، وفي القول الثاني يتخيّر بين أن يأخد منه الدراهمَ، وبين أن يُجيز العقودَ لمكان الربح.
وهذا تشبيهٌ من طريق اللفظ، مع إضمار خروج التخيّر، في الموضعين عن ضبط القياس.
وليس هذا بناءً على التحقيق؛ فإن البناء على التحقيق شرطُه أن يجتمع المبني والمبني عليه في مأخد الكلام، ومسألة الغصب مأخذها ضربٌ من الاستصلاح في تحصيل الأرباح، وقطعُ ذريعة الغاصب، وهو يلتفتُ، على وقف العقود، وما نحن فيه من باب حَيْد المستحِق عن النوع المستحق، مع الاجتماع في الجنس، فكانا متباعدين.
5501- ولو استأجر أرضاً ليزرعها قمحاً، فغرس فيها غراساً، فقد كان شيخي يقول في هذه الصورة: المذهبُ الرجوع إلى أجرة المثل، لتباين الزرع والغراس، ولا يخرّج فيه قولُ التخيّر، وكان يحكي عن بعض الأصحاب قولَ التخيّر أيضاًً على بُعدٍ، وسبب خروجه أنه بإثباته اليدَ على المستأجَر في حكم المستوفي للمنفعة، وإن مال عن جهة الاستحقاق، ففي المسألة احتمالٌ على حال.
فصل:
قال: "ولو قال: ازرعها ما شئت... إلى آخره".
5502- إذا استأجر أرضاً، وذكر في الإجارة أنه يزرعها ما شاء، فالإجارة صحيحة، وكأن المكري رضي بأن يزرعها أكثر أنواع الزرع ضرراً، والأرض تحتمل ذلك، وإذا جرت الإجارة على هذه الصيغة، فليس له أن يغرس، فإنَّ اسم الزرع لا ينطلق عليه.
5503- ولو اكترى دابّةً على أن يحمل عليها ما شاء، لم تصح الإجارة؛ فإنّ الدابة لا تحتمل كل شيء، احتمال الأرض كلَّ زرع، ولو قال: اكتريت هذه الدابةَ على أن أحمل عليها مائة منٍّ من أي جنسٍ شئتُ، فتصح الإجارة؛ لأنها تحتمل مائة منٍّ من أي جنس قُدّر، فالإجارة فيها على هذه الجهة تساوي استئجارَ الأرض على أن يزرع المكتري ما شاء.
5504- ولو قال: اكتريتُ هذه الأرضَ لأغرسها، فله أن يزرعها؛ فإن الزرع أهون من الغرس.
ولو قال: أكريتك هذه الأرض، ولم يذكر زراعةً، ولا غراسةً، بل أطلق الكراء، كما وصفنا، فالكراء فاسد وفاقاً؛ فإنه لم يشتمل على إعلام المقصودِ المعقود عليه، ولا نظر إلى احتمال الأرض كلّ شيء في جهات المنفعة؛ فإن الجهالة يجب اجتنابها في المعاوضات. والإجارة معقودةٌ في الصورة التي ذكرناها على جهالةٍ بيّنة، وليس كما لو قال: أجرتكها لتزرعها ما شئت؛ فإنه أَعْلمَ بلفظه هذا الرضا بأظهر أنواع الزروع ضرراً، فكان كما لو قال: أكريتكها لتزرعها الذرةَ. ولو جرى العقد كذلك، لكان للمستأجر أن يزرعها الذرة، والقمح، إن شاء، فرجع مقتضى التخيير إلى تنزيل العقد على أضرّ الزرع بالأرض، فقد حصل الإعلام إذاً وزال الإبهام.
5505- ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ على أن تزرعها، ولم ينص على نوع الزرع، ولكن ذكر الزراعة مطلقاًً، فقد ذكر العراقيون وجهين في هذه الصورة:
أحدهما: أن الإجارة تصح، كما لو قال: ازرعها ما شئت.
والوجه الثاني- أن الإجارة فاسدة للجهالة؛ إذ ليس في صيغتها التفويض إلى خيرة المكتري حتى تنزل الإجارة على أضر الزروع، وليس في صيغتها تعيين نوعٍ، ففسدت الإجارة، فإن أنواع الزروع تتفاوت تفاوتاً بيّناً في قلة الضرر وكثرته.
5506- ولو اكترى داراً معينة مطلقاًً، ولم يذكر جهة الانتفاع بها، فالإجارة صحيحة، لم يختلف الأصحاب فيها، وذلك أن العرف يعيّن الانتفاعَ بالدار، ويبيّن أنه لا جهة إلا السكون، والانتفاع بالأرض ينقسم في العادة.
5507- ولو اكترى دابة ليحمل عليها مائة منٍّ، ولم يبين جنسَ المحمول، فالإجارةُ صحيحةٌ، قطع الأصحاب بصحتها، ولم ينزلوا هذه المسألة منزلة ما لو اكترى أرضاً للزراعة، من غير تعيين نوعٍ، وإن كان الضرر يتفاوت على الدابة باختلاف أجناس المحمول، كما يتفاوت الضرر في أنواع الزرع.
وسبب قطع الأصحاب بما ذكرناه في الدابة أن الأمر قريبٌ في أجناس المحمول، ولا يبلغ تفاوتها مبلغ تفاوت الزروع.
وكنت أود أن يقال: إن قصُر السفر، لم يظهر تفاوت في الضرر، وإن طال، فقد يُظهر التفاوتُ ضرراً بيّناً، والظهور إلى الدواب أسبقُ منه إلى الأراضي، فإذا فرضت المسألة في طول السفر، لم يبعد التخريج على الخلاف المذكور فيه إذا قال: أكريتك هذه الأرضَ لتزرعها.
5508- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو قال المكري: أكريتك هذه الأرضَ لتنتفع بها في أي وجهٍ شئت، فتصح الإجارة، وله أن يغرس، ويبني، وإن أراد الزرعَ، فلا شك في جوازه.
5509- ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ، فإن شئت، فازرعها، وإن شئت، فاغرسها، فما صار إليه الكافةُ تصحيحُ الإجارة، كما ذكرناه الان.
قال صاحب التقريب في هذه الصورة الأخيرة: يحتمل أن نقول: لا تصح الإجارة، كما لا يصح أن يقول: بعتك هذا العبد بألفٍ، فإن شئت مكسرة، وإن شئت صحاحاً.
وهذا الذي ذكره بعيدٌ، مع اتفاق الأصحاب على أنه لو أجره على ما شاء من الانتفاع، جاز. وقوله: إن شئت، فازرع، وإن شئت، فاغرس، تنصيصٌ على معنى قوله: أكريتك ًعلى ما شئت من جهات الانتفاع، وليس كما استشهد به من ترديد الألف بين المكسر والصحاح؛ فإنّ ذلك إثباتُ عِوض على الجهالة.
5510- ولو قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم من أي نقدٍ شئت، لم يصح، وهو يناظر من طريق اللفظ ما لو قال: أجرتك هذه الأرضَ على أن تنتفع بها كيف شئت.
5511- ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ، فازرعها، واغرسها، فقد اختلف أصحابنا في المسألة.
فالذي صار إليه الأكثرون أن الإجارة فاسدة؛ فإنها لم تُعقد على صيغة التفويض والتخيير، بل ذكرت الزراعة، والغراسة جميعاً، فاقتضى ذلك أن يزرع المكتري بعضاً، ويغرس بعضاً، ثم البعض الذي يغرس مجهول.
ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارة وينزل على حكم التنصيف، فيزرع المكتري نصفها، ويغرس نصفها، واحتج هذا القائل بأن الإضافة إلى جهتين على الإرسال مقتضاها التنصيف، كما لو أضيفت عَيْنٌ إلى شخصين في الإقرار لهما بها، فإنه لو قال: الدار التي في يدي لفلان وفلان، كان قوله هذا محمولاً على وقوع الدار نصفين بينهما.
5512- فإن قلنا بالفساد، فلو قال: ازرع نصفَ الأرض، واغرس نصفَها، فأجرى ذلك في صلب العقد، فهل تصح الإجارة على هذا الوجه، وليس فيها تعيين النصف المزروع، وتعيين النصف المغروس؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يصح إطلاق النصفين، وتفسد الإجارة، وهو اختيار القفال؛ فإن الغرض يختلف في ذلك اختلافاًً ظاهراً؛ إذ لو وقع الغراس في الجانب الشرقي، يفسد الزرع في الغربي، ولو كان على العكس، صحّ الزرع والغرس، فلابد من التمييز والتعيين.
ومن أصحابنا من قال: إبهام الأمر في التعيين مقتضاه تفويض الأمر للمكتري، حتى يزرع أي نص شاء، ويغرس أيّ نصفٍ شاء.
5513- ولا خلاف أنه لو قال: أكريتكها على أن تزرع أي نصفٍ شئت، وتغرس أي نص شئت، فالإجارةُ تصح كذلك.
وإذا صحت الإجارة على أن يزرع النصف، ويغرس النصف، فلو غرس الكل، لم يجز، ولو زرع الكلّ، جاز، ووجهه بيِّن.
ولو قال: ازرعها واغرسها ما شئت، فزاد التفويضَ إلى المشيئة، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب، أن هذا بمثابة ما لو قال: ازرعها، واغرسها. وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في التفريع. وذهب بعض أئمتنا إلى أن التقييد بالمشيئة يقيّد تفويضَ زراعة الكل، وغراسة الكل. وهذا زلل، فاللفظ لا يشعر به.
ولو قال: أكريتكها على أن تزرعها، أو تغرسها، فهذا الآن تخيير في الكلّ، فتصح الإجارة، وتحمل على تنزيلها على أضر جهات الانتفاع، ثم الخيرةُ إلى المكتري في الكل، إن شاء غرس الكلَّ، وإن شاء زرع الكلَّ، فإذا انبسطت خِيرَتُه في الكل، فله أن يزرع بعضاًً، ويغرس بعضاً.
فصل:
قال: "وإذا انقضت سنون، لم يكن لرب الأرض أن يقلع غراسه... إلى آخره".
5514- إذا اكترى أرضاً للغراس والبناء، وضرب مدَّةً معلومة، فالإجارة تصح، ولو أطلق الإجارة، وأبهم مدتَها بناء على أن المقصود من الغراس أن يؤبد، فينبغي أن تنطبق الإجارة على المقصود في المنفعة المذكورة، فالإجارة تفسد، وليست كالنكاح المؤبد؛ فإن وضع الشرع فيها التأبيد.
فإذا ثبت أن التأقيت لابد منه، فالقول في أن الغراس يقلع مجاناً، أو على شرط الضمان ممّا سنفرد فيه فصلاً-إن شاء الله عز وجل- وإن سبق مقرراً في العاريّة.
وغرض هذا الفصل مقصودٌ واحد، ولكن لا وصول إليه إلا بإجراء طرفٍ من الكلام في القلع وأنه يقع بعوض، أو مجاناً.
5515- فنقول: الفصل يتشعب عنه ثلاثُ مسائل: إحداها- أن يشترط على المكتري قلعَ الغراس بعد انقضاء مدة الإجارة، فيصح العقد على هذا الشرط، باتفاق الأصحاب.
ولو أجر، وشرط المستأجر أن لا يقلع غراسه مجاناً، صح؛ فإن مطلق العقد يقتضي أن لا يقلع غراسه بعد انقضاء المدة مجاناًً، فإذا ذكر هذا شرطاً، كان مصرِّحاً بمقتضى إطلاق العقد.
فخرج مما ذكرناه أن شرط القلع على الوجهين مجاناًً، أو على ضمان النقصان جائز، والمطلق محمولٌ على القلع على شرط الضمان، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
5516- ولو ذكر في الإجارة المدةَ، وشرط أن لا يقلع غراسه أصلاً، بل يبقى من غير أجرة، أو بالأجرة في الزمان المستقبل، فالإجارة تفسد على هذه الصفة باتفاق الأصحاب؛ فإنها تتضمن إلزام المكري تأبيد الغراس، ولو كان لهذا مساغٌ، لجاز شرط التأبيد في صيغة الإجارة.
5517- ومقصود الفصل الآن حيث انتهى الكلام إليه أن الإجارة إذا عقدت على شرط القلع بعد المدة مجاناًً، فإذا قلع المستأجرُ بعد انقضاء المدة وفاءً بالشرط، فقد قال الأئمة العراقيون وغيرهم: ليس على المستأجر تسويةُ الحفر التي تقع بسبب القلع وراء المدة، وتعليل ذلك بيّن؛ فإن القلع مشروط، وفي إيقاعه وفاء بالشرط، فلا ينبغي أن يتضمن ذلك مَغْرَماً.
ولو لم يجْرِ شرطُ القلع، ولكنا حكمنا بأن العقد يقتضي القلعَ، ومنع التبقية، فإذا انقضت المدة، وقلع المستأجر، يلزمه تسويةُ الحفر.
وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
والفرق أنه إذا لم يجْرِ للقلع ذكرٌ، فلا يتعين القلعُ، بل يتجه وجوهٌ في الغراس: أحدها: أن يبقى بأجرة المثل في الاستقبال، والآخر أن يبتاعه المكري بثمن المثل، والآخر أن يُباعَ الأرضُ والغراسُ، ويوزّع الثمن.
وسنصف هذه التفاصيل على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى.
فإذا كان القلع لا يتعين عند الإطلاق، فاختاره المستأجر؛ فإنه يلتزم تسوية الحفر.
هذا ما ذكره الأئمة.
وللنظر فيما ذكرناه مجال.
أما إذا جرى شرط القلع، فالأمر على ما ذكره الأئمة في أنه لا يجب على القالع تسوية الحفر، كما قدمناه؛ فإنه وقع مأذوناً فيه.
5518- وأما إذا قلع في إطلاق العقد، فيحتمل أن يقال: لا يلزمه تسوية الحفر أيضاًً؛ فإن القلع من مقتضيات العقد، فكان مقتضى العقد فيه كالمشروط.
5519- ومما يتصل بما نحن فيه أنه لو جرى شرطُ القلع بعد العقد، فلو قلع في أثناء المدة، فلا يلزمه تسوية الحفر، كما لو قلع بعد المدة؛ فإن القلع بعد المدة تصرفٌ في أرضِ الغير عند انقضاء حق المستأجر وزوال يده المستحقة بالإجارة، فإذا كان القلع في الانتهاء لا يلزمه تسوية الحفر، فالقلع في أثناء المدة لأن لا يوجب ذلك أولى، والأرض تحت يد المستأجر، وتحت تصرّفه.
5520- ولو لم يجر للقلع ذكر، ووقعت الإجارة على الإطلاق، فقد ذكرنا من قول الأصحاب أن المستأجر، إذا قلع بعد المدة، التزم تسوية الحفر، فقال العراقيون بناء على ذلك: لو قلع في أثناء المدة، فهل يلتزم تسوية الحفر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يلتزمها قياساً على ما إذا قلع بعد المدة.
والثاني: لا يلتزمها؛ فإن القلع في أثناء المدة تصرفٌ منه في ملكه، وفي الأرض التي هي تحت يده، فلم يتضمن إلزام التسوية.
وهذا فيه ضعفٌ، مع المصير إلى أن التسوية بعد المدة واجبة، كما ذكرنا.
نعم هذا الاختلاف لائح في القلع بعد المدة كما ذكرناه، فأما الفرق بين القلع الواقع بعد، المدة وبين القلع الواقع في المدة، فلا اتجاه له.
وكنا وعدنا أن نذكر مسائل؛ ثلاثاً، وقد نَجَّزنا غرضنا من واحدة. والثانية، والثالثة نذكرهما رمزاً وفاءً بما وعدنا، واستقصاءُ القول فيهما في فصلٍ معقود بعد ذلك.
5521- فالمسألة الثانية- أن يقول المستأجر: إذا انقضت المدة، فلا تقلع غراسي مجاناً، فالإجارة تصح، وما ذكره ليس تأبيداً للغراس، بل هو نفيٌّ للقلع مجاناً، وهو غير منافٍ لمقتضى العقد.
5522- والمسألة الثالثة- أن لا يقع للقلع تعرّضٌ، ويذكر في الإجارة مدة، فإذا جرت الإجارة كذلك، وأمر القلع مبهم، فالذي يقتضيه النص أن الغراس لا يُقلع مجاناً، والتأقيت محمول على الوفاء بشرط الإعلام في العقد؛ فإنّ إطلاق الإجارة من غير مدة باطلٌ، وأمر القلع محمولٌ على أن لا يقع مجاناًً.
وقال أبو حنيفة: الغراس مقلوعٌ بعد المدة مجاناً، وصار إلى أن ذكر المدة في العقد يُشعر بهذا، ويُبيِّن أن استحقاق تبقية إلغراس موقوفٌ على بقاء المدة.
وهذا اختيار المزني.
وقد مال إلى قياس المزني طائفة من أصحابنا. وفي كلام القاضي رمزٌ إليه. وقد قدمت في بعض مسائل المزارعة ذلك.
5523- ورأيت لبعض الأئمة أن التأقيت في العاريّة من غير تعرض للقلع يقتضي القلعَ مجاناً، بعد آخر المدّة؛ فإن العاريّة تبرّعٌ، ويصح إطلاق العاريّة وتأقيتُها، فإذا أُقتت، اقتضى التأقيت الحملَ على القلع مجاناً، وليس كذلك التأقيت في الإجارة؛ فإن التأقيت مستحقٌّ في الإجارة لإعلام المعقود عليه، فلم يقتض الحملَ على القلع مجاناً بعد انقضاء المدة، وأيضاًً فإن الغراس مستحق في الإجارة، وهو مباحٌ في العارية.
5524- وكل ما ذكرناه غيرُ معتد به في أصل المذهب، والذي عليه التعويل في مذهب الشافعي أن إطلاق المدّة في الإجارة والإعارة لا يتضمن القلع مجاناًً، وما اختاره المزني مذهبٌ له يختص به.
فصل:
قال: "وما اكترى فاسداً فقبضها، ولم يزرع... إلى آخره".
5525- إذا اكترى الرجل أرضاً، أو غيرها اكتراءً فاسداً، ثم قبض ما اكتراه على الفساد، وأمسكه المدّة المذكورة، فيلزمه أجر المثل سواء، استوفى المنفعة، أو لم يستوفها.
5526- وقال أبو حنيفة: إن لم يستوفِ المنفعة، لم يلزمه الأجرة بثبوت يده، وإن ضاعت المنفعة، وإن استوفاها، وجب أجر المثل. ثم له خبط في تفصيل المسمَّى وأجرِ المثل إذا كان أحدهما أقلَّ من الثاني.
وليست الإجارة الفاسدة كالنكاح الفاسد؛ فإن من نكح امرأة بشبهة وردّها إلى حالته، فلا يلتزم مهرَها ما لم يطأها، والسبب فيه أن اليدَ لا تثبت على منافع البُضع، فإذا لم يجْر وطءٌ، ولا يدَ، لم يجب الضمان، وهذا لا ينتفع به أبو حنيفة؛ فإن منافع الدور والأبدان، وغيرِها لا تضمن عنده بالإتلاف على سبيل العدوان، ثم جعل الإتلاف سبباً في ضمان المنافع في العقد الفاسد.
5527- فإن قيل: إذا اشترى شيئاًً على الفساد، فوضع البائعُ الشيءَ بين يديه، فلا يكون ذلك إقباضاً، ولو جرى مثله في الصحيح، كان إقباضاً، فلقد فرقتم بين الإقباض في الصحيح والإقباض في الفاسد، فهل تسلكون هذا المسلك في الإجارة؟ قلنا: نعم، وسبب الفرق في البيع أن الإقباض مستحق، فإذا قدّم البائع المبيعَ إلى المشتري، كفى ذلك، فكان خروجاً منه عن الحق المستحق عليه، فإذا خرج عما عليه، لزم الحكم بثبوت يد المشتري من طريق الحكم، وإذا لم يكن القبض مستحقاًً في الفاسد، فالإقباض ليس توفيةً لحق مستحق، فلا يتعلّق به حكمٌ، ما لم يوجد قبضٌ في الحقيقة.
وهذا الفرق نجريه في الإجارة الصحيحة والفاسدة. فإذا قال المكري في الإجارة الصحيحة للمكتري: دونك الدار، فاقبضها، قد خلّيت بينك وبينها، كان ذلك إقباضاً، وقد يكون من تمامه تسليم المفتاح إليه، وإذا سلم الدار إليه على هذا الوجه في الإجارة الفاسدة، ولم يوجد منه تسلُّمٌ ودخولٌ للدار، فهذا تسليم لا تسلّم معه، فلا يتعلق به وجوب أجرة المثل على المستأجِر على الفساد.
فصل:
5528- قد ذكرنا طرفاً من البناء على الأرض المستأجرة، والغراس فيها، في الإجارة التي تقتضي الغراس والبناء، ونحن نستقصي الآن ما يتعلق بأطراف الفصل، إن شاء الله تعالى.
وقد تقدم في العارية القواعدُ الممهدة على أحسن مساق، ولم نغادر من أصول المذهب شيئاًً إلا زوائد وفوائد ذكرها الشيخ أبو علي في شرح الفروع في كتاب الإجارة، ونحن ذاكروها، وقد نُحوَج إلى إعادة بعض تلك الأصول لنبني عليها ما زاده الشيخ فنقول:
5529- إذا انقضت مدة الإجارة، وما كانت قيدت بشرط القلع مجاناً، أو كانت قيدت بأن لا يقلع مجاناً؛ فإن رضي صاحب البناء بقلع البناء ونقله، لم يمنع من ذلك، لا شك فيه، فهل عليه تسوية الحُفر التي تحدث بسبب القلع؟ فيه تفصيلٌ قدمناه على أبْين الوجوه.
وإن باع البناء من صاحب الأرض، فاشتراه، لم يخْفَ الحكم.
وإن رضي بيعَ الأرض مع البناء، فيقسّط الثمن عليهما، وقد سبق القول في كيفية التقسيط، في كتاب التفليس.
5530- ثم ذكر ابن سريج أن صاحب الأرض مخيّر إن شاء كلّف المستأجر قلْعَ البناء، وغرِم له ما ينقصه القلع، وإن شاء أمره أن يبيع منه البناء قائماً، ويأخذَ ثمنَه، وإن شاء رب الأرض رضي بإمساك البناء وإدامته على صفته، وألزم المستأجر أجر مثل الأرض في المستقبل، فيتخيّر بين هذه الخلال.
والرجوعُ إلى صاحب الأرض في تخيّر ما شاء من هذه الخلال، فلو قال: بع مني، فليس له أن يقول: بل أُبقّيه بشرط أجرة المثل. ولو قال: بقِّه بشرط الأجرة، فليس لصاحب البناء أن يقول: بل ألزمك قيمته وابتياعه؛ إذ الخيرة إلى المالك.
ثم قال ابنُ سريج: إذا اختار صاحب الأرض قسماً من هذه الأقسام، فلم يرض به صاحب البناء، فيقال له: إما أن ترضى به وإما أن تقلع بناءك مجاناً.
وهذا قد فصّلته على نظائرَ وترتيب يقضي اللبيبُ العجبَ من النظر فيه، في كتاب العواري.
وما ذكره ابنُ سريج، هو الذي قطع به معظمُ أئمة المذهب.
5531- قال الشيخ أبو علي: فيما ذكره ابنُ سُريج نظرٌ عندي، فإني أقول: إذا عيّن صاحبُ الأرض خَصلةً من الخصال الثلاث، فلم يساعده صاحبُ البناء، فله أن يقلع بناءه، ولكنه لا يقلعه مجاناً؛ إذ يستحيل أن يبطُل حقُّه، ويحبَط ملكه، بسبب امتناعه عمَّا له الامتناع منه، حتى يصير في حكم من بنَى على أرضٍ مغصوبة.
وبيان ذلك أنه إذا قال مالك الأرض: "بع مني، فامتنع، فلا سبيل إلى أن يباع عليه ملكه قهراً، ولكن، يقال له: إن بعتَ منه فلك ذلك، وإلا فاقلع، ولك أرشُ ما ينقصُه القلع، فأما أن يبقى بشرط الأجرة، فليس ذلك دون رضا مالك الأرض.
فهذا معنى حمله على اختيار صاحب الأرض. واستدل الشيخ في هذا بأن قال: لو اضطُر رفيقُ الرجل، وكان له طعام لا يحتاج إليه، فعليه أن يسلّمه إلى رفيقه بالقيمة، ولو امتنع من تسليم الطعام، أُخذ منه قهراً، ولكن لا يؤخد منه مجاناًً، وتثبت القيمة له، وإن أُجبر.
وحقيقة ما ذكره الشيخ يؤول إلى أن مالك الأرض يخيِّر صاحبَ البناء على القلع، ويغرَم له أرشَ النقص، فأما إذا طلب منه البيعَ، أو التبقية، لم يحمل مالك البناء على ما يطلبه.
وهذا الذي ذكره يخالف ما ذكره ابن سريج، واختاره معظم الأئمة، وإن كان متجهاً في المعنى.
وقد ذكرت في العاريّة ما يتوجه به مذهب ابن سريج والأصحاب.
5532- ثم ينشأ من هذا المنتهى أمر مبهم، لم يصرح به الأصحاب، ودلت مرامزهم فيه على تردد، فإذا طلب المالك القلعَ، فصاحب البناء محمول على هذا في كل مذهب، وقد ذكرنا أن مالك الأرض يغرَم ما ينقصه القلع. ولكن ربما يحتاج في القلع إلى مؤونة لها قدرٌ، فمؤونة القلع كيف السبيل فيها؟ وعلى من هي؟
ظاهر كلام معظم الأصحاب يشير إلى أن القلعَ على صاحب البناء، ثم إذا قلع، فعليه النقل، ومؤونة تفريغ الأرض، وعلى مالك الأرض أن يغرَم له ما بين قيمة النقض وقيمة البناء القائم. والقلع على هذا التقدير من النقل، ولكنه نقلٌ فيه معاناة ومقاساة مشقة، فلا يجمع على مالك الأرض بين مؤونة القلع، وأرش النقص.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مؤونةَ القلع على مالك الأرض، كما أن عليه ما ينقصه القلع. وهذا متجهٌ جداً؛ من قِبل أنا لو جعلنا القلعَ نقلاً، لوجب أن لا يغرمَ مالكُ الأرض ما ينقصه القلع، فإن ما هو نقلٌ وتفريغٌ، فهو محتومٌ على المستأجر، فإذا اتفق القلع منه، فلا خلاف أن نقلَ النقض، وتفريغ الأرض منه على المستأجر، فلو كان القلع معدوداً منه، لوجب أن لا يلزم مالك الأرض شيء.
والمسألة في نهاية الاحتمال، والوجه إلزام مالك الأرض مؤونة القلع لما نبهنا عليه.
5533- ومما ذكره الشيخ أبو علي أن مالك الأرض إذا طلب من صاحب البناء أن يقلع مجاناً، وأبى صاحبُ البناء، وطلب التبقية مجاناً، وأصرَّا على التناكر وطلب كل واحد منهما محالاً. هذا مما ذكرتُه في العاريّة، ولكن الشيخ ذكر وجهين، وأنا اقتصرت على أحدهما، وإن كان أظهرَهما قال رحمه الله: إذا تناكرا، وطلب كلٌّ ما ليس له، ودام الخصام، فللأصحاب وجهان:
أحدهما: أن الأمر يوقف بينهما إلن أن يستمسكا بما يجوز، وقد ذكرنا ما لكلِّ واحدٍ منهما، وما عليه.
والوجه الثاني- أنهما إذا تناكرا، حُملا على القلع، ثم مالك الأرض يغرَم ما ينقصه القلع.
وهذا كلام مبهم عندي، جاز عليه الناقلون، ولم يبحثوا عن حقيقته، وأول إشكالٍ فيه عُسر تصوير التناكر؛ فإن المالك إن طلب قلعاً مجاناً، لم يُجب إليه، وإذا طلب صاحبُ البناء تبقيتَه بلا أجرة، لم يجب إليه، فكل واحدٍ طلبَ أمراً هو فيه مبطلٌ، ومقتضى الشرع منعُ المبطلين.
وهذا التردد عندي يرجع إلى أن المأمور بالقلع مَن؟ فإذا طلب مالك الأرض القلعَ من صاحب البناء، فلأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنه لا يُجبر صاحب البناء على القلع، وإذا لم يجبر وُقف الأمر، وقيل لمالك الأرض: مهما أردت أن تقلع، فاقلع، واغرَم. هذا معنى وقف الأمر، لا معنى غيرُه.
والوجه الثاني- أن مالك البناء يجبر على القلع، ثم إذا قلع، فعلى مالك الأرض أرشُ النقص، ثم إذا فرّعنا على وجه الوقف، وقد بيناه، وأوضحنا معناه، فالظاهر أن أجرة مثل الأرض تجب في مدة الوقف، على صاحب البناء؛ فإن استحقاقه لمنفعة الأرض قد انقضى، ولو رضي صاحب الأرض بالتبقية على شرط الأجرة، ثبتت الأجرة، لم يختلف فيها أصحابنا، ولا حاجة في إثبات أجرة المثل إلى ذكرٍ وشرطٍ.
وفي المسألة احتمال على بُعدٍ إذا قلنا: القلع على مالك الأرض، وقد طلب القلعَ، ثم لم يقلع، والتمس القلع من صاحب البناء، والتفريع على أن القلع على مالك الأرض إذا أراد القلعَ، وهذا لا أعتدّ به، والفقه إيجاب أجر المثل. والله أعلم.
5534- فهذه غوائل نبهنا عليها، ولا اختصاص لها بالإجارة، وهي بأعيانها تجري في الإعارة، وفي كل بناء ساغ ابتداؤه، وجاز قلعُه، إذا لم يُشترط فيه القلعُ مجاناً.
ومن جملة ذلك لو اشترى رجلٌ أرضاًً بعَرْضٍ، وتسلَّم الأرضَ، وبنى عليها، ثم رُدّ العَرْضُ عليه بالعيب، وفي تكلّف البناء من المشتري في الشِّقص المشفوع عُسرٌ، وقد تناهينا في تصويره في كتاب الشفعة، وجملة هذه المسائل تُخرّج على نسقٍ واحد.
ومن ضم ما ذكرناه الآن إلى ما مهدناه في العاريّة، لم يخف عليه خافية، إن شاء الله تعالى. ِ
فرع:
5535- إذا اكترى أرضاً ليبني عليها بناء، فهل يُشترط في صحة الإجارة أن يذكر مبلغ البناء في وزنه وقدْره؟
ذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين:
أحدهما: وهو الأصح، أن ذلك لا يشترط؛ فإن الأرض لا تتغير بكثرة البناء ولا يتفاوت ما يُقدّر من ضراره بثقل البناء وخفته.
ولو استأجر غرفة ليبني عليها بناء، فيجب بيانُ قدر البناء ووزنه؛ فإن الغرفة تتأثر بالكثرة والثقل، والأرضُ لا تتأثر.
والوجه الثاني- أنه يُشترط ذكر مقدار البناء ووزنه في استئجار الأرض له، ووجه هذا الوجه أن مالك الأرض ربما يحتاج أن يغرَم قيمة البناء، وما ينقصه القلع، فإذا كان ذلك من مقتضيات العقد، فلابد من إعلامه للاحتياج إليه آخراً.
وكلامُ ابن الحداد يدل على اختيار هذا الوجه الأخير.
وفي التوجيه بما ذكرناه نظر؛ فإن التعرض لما تُفضي إليه العواقب لا يشترط في العقود.
ويمكن توجيه هذا الوجه بمسلك آخر، فيقال: إذا بنى المستأجر بناء قريباً، قلّ انتفاعه، وإذا عظم البناء، وطال ارتفاعه، كثر انتفاع المستأجر، وسبب انتفاعه البناءُ على هذه الأرض، فيجوز أن يقع التعرض لهذا، والدليل عليه أن الدابة القوية قد لا تتأثر بحمل خمسين منّاً، ولكن إذا كان المحمول دون الخمسين، فيجب ذكر مقداره؛ فإن تأثر الدابة وإن كان لا يُحَسّ، فازدياد انتفاع الحامل معلوم.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن من استأجر أرضاًً، وقال المالك: ابن عليها ما شئت، فالظاهر صحةُ الإجارة، فإن ذكر الشيخ أبو علي هاهنا وجهاً، فليس يتوجه إلا بما ذكره من النظر إلى العاقبة وتوقّع ضمان النقصان عند القلع.
ولو أكرى أرضاًً، وقال للمكتري: ازرعها ما شئت، صحت الإجارة بلا خلاف؛ فإن القلع لا يتوقع في الزرع، والتفويض يتضمن تنزيلَ الإجارة على الزرع الأعظم الذي يكثر ضرره، ثم الرضا بما دونه يسوغ.
ولو أكرى أرضاًً للبناء مطلقاً، ولم يتعرض لتفويض الأمر إلى المستأجر، فالظاهر صحة الإجارة، وإذا ذكرنا وجهاً في فسادها، أمكن توجيهه بالمعنى الذي نبهنا عليه من كثرة انتفاع المستأجر عند كثرة البناء، ولم يقع تفويضٌ إليه على التصريح.
فهذا حاصل القول في ذلك.
فرع:
5536- إذا بنى المستأجر على الأرض المستأجرة استئجاراً صحيحاً، فأراد صاحب الأرض بيعَ الأرض وعليها البناء، نظر: فإن باعها قبل انقضاء مدة الإجارة، خرج ذلك على قولين في بيع المكرَى، فإن منعنا البيعَ، فلو انقضت المدة، فباع الأرضَ مالكُها، والبناء قائم بعدُ، فقد ذكر الشيخُ وجهين في صحة البيع:
أحدهما: أنه لا يصح؛ فإن الأرض مشغولة، ونحن نفرّع على منع بيع الدار المكراة. ومنهم من صحح البيع، ووجّه ما قال بقدرة البائع على السعي في تفريغ الأرض، فإنه مهما أراد، قلَعَ البناءَ على شرط الضمان، وكلّف المستأجر النقلَ والتفريغَ، فإن هذين الوجهين مفروضان بعد انقضاء مدة الإجارة.
5537- ولو أراد المستأجر بيعَ البناء القائم على الأرض، فإن باعه من صاحب الأرض، صحّ ذلك منه، وإن باعه من أجنبي، فقد ذكر الشيخ في صحة البيع وجهين:
أحدهما: أنه لا يصح؛ فإن صاحب الأرض متسلّطٌ على قلعه، وإذا كان مستحقَّ القلع، لم يصح بيعه.
والوجه الثاني- أنه يصح، وهو الصحيح، كما يصح من المشتري بيعُ الشقص المشفوع، وإن كان بيعه بصدد النقض.
وإذا منعنا صحة البيع لتوقع القلع، لم يفرّق بين أن يبيع في زمان الإجارة أو يبيع بعد انقضائها؛ فإن البناء يراد للتخليد، وإذا كان القلع ممكناً بعد انقضاء المدة، فهو منافٍ للمقصود.
فصل:
قال: "وإذا اكترى داراً، فغصبها رجلٌ... إلى آخره".
5538- قد ذكرنا أن القبض في العين المكراة لا يقتضي نقل الضمان إلى المكتري، فلو تلفت العين التي وردت الإجارة عليها، أو على منافعها، ِ في يد المكتري قبل انقضاء المدة، انفسخت الإجارة في مستقبل الزمان. وهذا الفصل مقصوده الكلامُ في غصب الدار المكراة، وهذا يترتب على القاعدة التي ذكرناها.
5539- فإذا غصب الغاصبُ الدار، نظر: فإن اتصل الغصبُ بالعقد، ودام إلى آخر المدة، سقط المسمّى عن المكتري، والمالكُ يستحق على الغاصب أجرَ المثل.
5540- وإن انتزع المالكُ من يده الدارَ في خلال المدة، بعد مضي شطرها مثلاً، فالإجارة قد انفسخت في الشطر. الأول، الذي انقضى في يد الغاصب، وهل تنفسخ في بقية المدة؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وهذا يناظر ما لو اشترى رجل عبدين، وتلف أحدهما قبل القبض، وحكمنا بانفساخ العقد فيه، ففي انفساخ العقد في العبد الثاني قولان.
ولا يخفى أن ما ذكرناه في شطر المدة يجري في الزمان القريب الذي يُقدّر لمثله أجرة، حتى إذا أمسك الغاصب الدارَ من أول المدة يوماً واحداً، ثم انتزعت من يده فالإجارة تنفسخ في اليوم الواحد من أول المدة، وفي انفساخها في بقية المدة قولا تفريق الصفقة: فإن حكمنا بالانفساخ، فحكمه حكم ما لو دام الغصب إلى آخر المدة، وإن لم نحكم به، فللمكتري الخيارُ في الفسخ تخريجاً على قاعدة التفريق، فإن فسخ، فحكمه ما قلنا، وإلا فعليه ما يخص باقي المدة من المسمَّى، ويسقط عنه ما يقابل المدة التي جرت من أول الزمان في يد الغاصب.
ثم المالك يتبع الغاصب ويُلزمه أجرَ المثل لزمان الغصب.
هذا إذا جرى الغصب في أول المدة.
5541- فإن قبض المكتري العينَ المكتراة، وبقيت تحت يده زماناً، ثم جرى الغصب في خلال المدة، فإن استمر الغصب إلى آخر المدة، انفسخ العقد في زمان الغصب، وسقط قسطُه من الأجرة المسماة، وللمالك على الغاصب أجر مثل تلك المدة.
وفي الزمان الماضي الذي انقضى في يد المستأجر طريقان: ذكرناهما مراراً-أن الإجارة هل تنفسخ فيها؟ فإن منعنا الانفساخ في تلك المدة، ففي ثبوت الخيار في الفسخ فيها كلامٌ مضى في أحكام التفريق، فإن أثبتنا الخيار للمكتري، ففسخ في الزمان الماضي، سقط المسمى، وغرِم أجرَ مثل ما استوفى من المنفعة، وإن أجاز العقد، ولم يثبت الخيار، استقر عليه من المسمى حصةُ ما استوفى من المنافع.
وقد تمهد أنا كيف نقسط المسمّى على ما مضى وبقي.
هذا الذي ذكرناه قاعدة المذهب والأصل المعتبر.
5542- وذكر العراقيون في قاعدة المسألة قولاً: أن العقد لا ينفسخ في زمان الغصب، بل يثبت للمكتري الخيارُ، فإن اختار الفسخ في المدة التي مضت في يد الغاصب، فيعود التفريع إلى ما ذكرناه في قاعدة المذهب في الحكم بالانفساخ.
فإن أجاز العقد، اتبع المكتري الغاصبَ بأجر المثل، وكانت المنافع تالفة في ملكه، والتزم كمالَ المسمى للمالك المكري، وعللوا هذا القولَ، فقالوا: تلفُ المنافع في يد الغاصب ينزل منزلة تلف المبيع في يد البائع، بإتلاف الأجنبي، وقد ذكرنا أن إتلاف الأجنبي قبل القبض لا يوجب انفساخ البيع، ولكن يُثبت للمشتري الخيارَ.
وهذا الذي ذكروه غريبٌ جداً لا يعرفه المراوزة، وإن كان جارياً على ضربٍ. من القياس.
ولكن ما يقتضيه النص وقواعدُ المذهب أن المنفعة إذا استوفيت قهراً، بأن استوفاها غاصبٌ، فإنها تتلف على ملك مالك الرقبة، وإنما تثبت أجرةُ المثل للمالك، فإذا وقع تلفُ المنافع على ملكهِ، فلا شك أن العقد ينفسخ فيما تلف على ملك المكري.
وهذا الذي ذكره المراوزة لا يسلّمه العراقيون، بل يقيسونه على إتلاف الأجنبي المبيعَ قبل القبض، إذا قلنا: لا ينفسخ البيع، ثم لم يختر المشتري الفسخ، فإذا لم نحكم بالانفساخ، ولم يختر الفسخ، فتلفُ المبيع واقعٌ على ملك المشتري، وهو يطالب المتلِفَ بالقيمة، كذلك القول في المنافع التي تلفت تحت يد الغاصب.
5543- وفيما ذكروه فضل نظر: فإن استوفى الغاصب المنفعة، فانتفاعه بالمنافع ينزل في الشرع منزلة الإتلاف، فليقع ذلك بمثابة إتلاف الأجنبي المبيع، وإن تلفت المنافع تحت يد الغاصب، ولم يوجد من الغاصب انتفاعٌ، فهذا يناظر ما لو غصب أجنبي العينَ المبيعة قبل قبض المشتري، ثم تلفت تلك العين في يد الغاصب من غير إتلافه، وهذا فيه تردد ظاهر: يجوز أن يقال: التلف تحت يده بمثابة إتلافه، ويجوز أن يقال: التلف تحت يده يوجب انفساخ العقد، بخلاف التلف بإتلافه.
فليتأمل الناظر مواقع الكلام.
5544- ولا نعرف خلافاًً أن المرأة المنكوحة إذا وطئت بالشبهة، فإنها تستحق مهر المثل على الواطىء، ولا نقضي بأن الزوج يستحق مهر المثل؛ مصيراً إلى أن المنافع تتلف على ملك الزوج. هذا لا يصير إليه أحد من الأئمة، ثم لا نقول: يسقط عن الزوج قسطٌ من المسمّى بسبب ما جرى؛ فإن النكاح معقود على التأبيد، ولا يبين للمنفعة في اللحظة التي جرى الوطء فيها قسطٌ من المهر؛ فإن التوزيع من غير مدة مقدّرة غيرُ ممكن وهذا بيّن. وكيف يتوقع هذا والمهر يتقرر على الزوج بوطأة واحدة، والبدل في الإجارة يتوزع.
5545- ومما يتعلق بتفصيل المذهب، والتفريع على الطريقة المشهورة التي لا يعرف المراوزة غيرها، وهي أن المنفعة تتلف في يد الغاصب على ملك المكري، فإذا غصب الغاصب الدار المكراةَ، فالذي يقتضيه ظاهر النص أن الخصومة إلى المكري دون المكتري، نص عليه الشافعي. وعلل في الأم، فقال: "أرأيت لو أقر المكري للغاصب برقبة الدار، أما كنتُ أقبل إقراره؟ أرأيت لو أقر به المكتري أكنت أقبل إقراره؟".
أشار إلى أن الملك للمكري، وبنى عليه حكمَ الإقرار، ونحن نذكر ما قال الأصحاب في الإقرار في آخر الفصل، بعد انتظام الكلام فيما نريده.
5546- فمن أصحابنا من قال: لا يثبت حق المخاصمة مع الغاصب إلا لمالك الرقبة؛ فإن الملك في الرقبة له، والمنافع تتلف أيضاًًً على ملكه، فكان حقُّ المخاصمة ثابتاً له.
ومن أصحابنا من يُثبت للمكتري حق المخاصمة مع الغاصب لأجل المنفعة في مستقبل الزمان؛ فإنه وإن كان لا يملك الرقبةَ، فحقه ثابت تحقيقاً في المنفعة، وحقٌّ على الغاصب أن يرد الدار المغصوبةَ على المستأجر. وإذا وجب عليه في حكم اليد الردّ على المكتري، فللمكتري أن يطالبه بما هو واجبٌ عليه.
وهذا وجهٌ ذكره المراوزة وهو منقاسٌ. و ظاهر النص، وما ذهب إليه الجمهور أنه لا يثبت حق المخاصمة للمكتري أصلاً، وإنما يثبت للمكري، مالكِ الرقبة، ومن تمسك بالوجه الذي ذكرناه أوَّلَ النصَّ، و قال: أثبت الشافعي حقَّ الخصومة في الرقبة للمكري، والمكتري إنما يخاصم في المنفعة.
5547- فإذا تبين ما ذكرناه من مقصود الفصل في حكم الغصب الواقع أولاً، وفي أثناء المدة، فنذكر الآن تفصيلَ القول في إقرار المكري، وهو الذي أجراه الشافعي في أثناء الكلام، فنقول:
إذا أكرى الرجل الدارَ، وجرى الحكمُ بصحة الإجارة، ثم إن المكري أقر بأن الدار مملوكة لفلان، وأنه أكراها، ولم يكن له أن يكريها، فترتيب المذهب في ذلك أنا إن قلنا: يصح بيع الدار المكراة من المكتَري، فيقبل إقراره في رقبة الدار؛ فإن البيعَ إذا كان ينفذ، فالإقرار أولى بالنفوذ.
وإن قلنا: لا يصح بيع الدار المكراة، كما لا يصح بيع المرهون، فإذا أقر المكري برقبة الدار لإنسان، وزعم أنه اعتدى لما أن أكرى ملكَ غيره، ففي قبول إقراره للغير في دوام الإجارة قولان، ذكرهما الأصحاب، كالقولين فيه إذا رهن عيناً وأقبضها، ثم أقر بأنها كانت مغصوبة في يده. وقد سبق التفصيل فيه في كتاب الرهن.
ثم قال الأصحاب: إن لم نقبل الإقرار في الرقبة، فلا كلام.
وإن قبلنا الإقرار في الرقبة، فهل يُقبل في المنافع حتى يبطل حق المستأجر منها؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: أنا لا نقبل الإقرار بالمنفعة؛ فإنها مستحقةٌ، ملكاً للمستأجر.
والثاني: أنه يقبل في المنافع؛ فإنه إذا قبل في الرقبة، فالمنافع تتبع الرقبة.
والوجه الثالث: أن الدار إذا غصبها الغاصب. من يد المكتري، وثبتت يده عليها، فأقر المكري لهذا الذي حسبناه غاصباً، فنقبل إقراره في الرقبة والمنافع؛ فإنه أقر في حالةٍ تحدث المنافع فيها على ملك المكري على الصحيح، بدليل أن أجرة المثل تكون لمالك الأرض، لا لمستأجرها.
فإذا جرى الإقرار في حالةٍ لولا الإقرار، لكانت المنافع تحدث على ملك المكتري، فالإقرار في مثل هذه الحالة غير مقبول، وبمثله: لو أقر المكري بالدار لإنسان، وكانت الدار في يد المكتري، وهو يستوفي ما يراه حقاً له من المنافع، فلا ينفد إقرار المكري في هذه الحالة في المنافع؛ نظراً إلى ثبوت يد المكتري عليها.
هذا بيان اختلاف الأصحاب في ذلك.
5548- وعلينا فضل بحث في الفصول، وذلك أن نقول: وإن منعنا بيع الدار المكراة، فردُّ إقرار المكري في الرقبة محال، لا اتجاه له؛ فإن الرقبة ليست حقاً للمكتري، وليس كذلك ما إذا أقر بالرقبة بعد الرهن والإقباض؛ فإن الإقرار وحقَّ المرتهن يزدحمان على الرقبة، والإقرارُ في رقبة الدار المكراة لا يزاحِم حقَّ المكتري؛ فبعُد ردّ الإقرار. نعم، ردُّ الإقرارِ في المنافع جارٍ على قياس الباب، فإنها مستحقة للمكتري؛ فالوجه تنفيد الأقرارِ في الرقبة، وإجراءُ الخلاف في المنفعة.
ثم الخلاف في المنفعة يترتب على القولين في قبول إقرار الراهن في الغصب، ووجه الترتيب أن إقرار الراهن بالغصب أصلاً، يصادم حقَّ المرتهن، والمنافع تابعةٌ للعين، وقد يثبت على التبعية ما لا يثبت على الابتداء.
فليفهم الناظر ترتيبَ الكلام على ما ذكرناه أولاً، ثم رتبناه آخراً.
5549- ومما فرعه الأصحاب في أطراف الفصل أن قالوا: إذا أكرى الرجل الدارَ مدةً معلومة، ثم إنه لم يسلّم الدارَ إلى المكتري زماناً، من أول المدة، فالإجارة تنفسخ في زمان المنع، وإن كنا نعذر المكري إذا كان يحبس الدارَ لتتوفّر المنفعة بالأجرة عليه.
ثم إذا انفسخت الإجارة في تلك المدة، فالقول في انفساخها في بقية المدة يخرّج على الترتيب الذي مهدناه. هذا طريقة المراوزة.
5550- وإذا فرع العراقيون على الوجه الذي انفردوا بحكايته، فإنهم يقولون: لو غصب غاصبٌ الدار مدةً، كان ما فات من المنافع تحت يده بمثابة المبيع إذا أتلفه الأجنبي، فإذا فاتت المنافع في يد البائع، فهو خارج على أن البائع إذا أتلف المبيع، فإتلافه كآفة سماوية، أو هو بمثابة إتلاف الأجنبي المبيع؟ ثم لا يخفى التفريع في ذلك.
وهذا قول مهجور لا تفريع عليه.
وقد نجز ما طلبناه من تحقيق مضمون الفصل.
5551- ثم ذكر المزني فصولاً متقرّرة في مواضعها، منها استئجار الأرض من أراضي الخراج. والقولُ في الخراج، وضربِه، وكيفيته مذكور في موضعه، ثم تعرض لأصلٍ ليس من غرضنا في هذا الكتاب، فقال: العشر يجب على مالك الزرع في الأرض الخراجية، وكذلك العشر في الزرع الحاصل للمكتري على المكتري، فإنه مالك الغلّة والعشر يتبع الغلّة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في باب العشر من كتاب الزكاة.
ثم أعاد المزني فصلاً من الاختلاف بين رب الأرض والمنتفع بها، بأن قال المالك: أكريتكها، وقال الزارع: بل أعرتنيها، وهذا فصل أجرينا تأصيله وتفصيله، على أبلغ وجهٍ في البيان، في كتاب العاريّة، فليطلبها الناظر من موضعها.
وقد نجزت مسائل الكتاب، ونحن نرسم بعدها فروعاً شذت عن ضبط الأصول.
فرع لابن الحداد:
5552- إذا اكترى رجلٌ داراً، ثم اشترى تلك الدارَ في خلال المدة، فلا خلاف في صحة البيع، وإن منعنا بيع المكرَى من غير المكتري. ثم إذا اشترى المكتري، فهل تنفسخ الإجارة؟ في المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: وهو الذي اختاره ابن الحداد أن الإجارة تنفسخ؛ فإن ملك الرقبة واستحقاق المنفعة لا يجتمعان، كما لو اشترى الزوج زوجته؛ فإن النكاح ينفسخ، لا خلاف فيه.
والثاني: لا تنفسخ الإجارة، وهو الذي صححه معظم الأصحاب.
5553- فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، فمن التفريع على ذلك أنه لو اطلع على عيبٍ بالدار يثبت به حقُّ ردّ المبيع، ولا يثبت به حق فسخ الإجارة؛ من جهة أنه يؤثر في نقصان المالية، ولا يؤثر في نقصان المنفعة، فإذا فسخ البيعَ بالرد بالعيب، بقيت الدار في يد المكتري بحكم الإجارة التي حكمنا ببقائها.
وإن قلنا: تنفسخ الإجارة، فهل يسترد المشتري قسطاً من الأجرة في مقابلة بقية المدة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يسترد قسطاً من الأجرة، وهو القياس؛ لأن الإجارة إذا انفسخت، فحكم انفساخها ارتداد الأجرة.
والوجه الثاني- أنه لا يسترد شيئاًًً وهو اختيار ابن الحداد. ووجهه أنه لما اشترى، فقد تسبب إلى ما يتضمن انفساخَ الإجارة، ومن تسبب إلى رفع عقدٍ، لم يثبت له حق الرجوع إلى عوضه.
وهذا ضعيفٌ لا ثبات له، وقد أوضحنا ما يفسده في أول الكتاب.
5554- ثم إذا حكمنا بانفساخ الإجارة، وقد صح الشراء، فهل تُردّ الدار إلى البائع، حتى ينتفع بها، في بقية المدة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يردها عليه، والأصح أنه لا يردّها، والمنافع تحدث على ملك المشتري بعد انفساخ الإجارة.
5555- وهذا الخلاف يناظر ما قدمناه فيه إذا باع المكري الدارَ من غير المكتري، وقلنا بصحة العقد، فلو فُسخت الإجارة بسببٍ من الأسباب، وقد بقيت بقيةٌ من المدة، فالدار تسلم إلى البائع المكري لينتفع بها في بقية المدة، أم تبقى في يد المشتري؟ فعلى وجهين: وحقيقتهما أنّا في وجهٍ نعتقد أن المنافع-بعد انفساخ الإجارة- تحدث على ملك المشتري، وفي وجهٍ نعتقد أن منافع الإجارة مستثناة من استحقاق المشتري، فإذا انفسخت الإجارة، ارتدت المنافع في بقية المدة إلى البائع، وهي خارجة عن استحقاق المشتري.
5556- ثم ما قدمناه من الوجهين في أن المكتري إذا اشترى الدارَ التي اكتراها، وحكمنا بانفساخ الإجارة هل يسترد شيئاً من الأجرة؟ إذا أردنا جمعه إلى الخلاف في أن المنافع هل ترتد إلى البائع؟ قلنا: سواء حكمنا بأنه يسترد قسطاً من الأجرة، أو قلنا: لا يستردّ، فالخلاف جارٍ في ارتداد المنفعة إلى البائع، ولا تعلّق لأحد الخلافين بالثاني.
فليفهم الناظر ذلك؛ فإن سبب الخلاف في ارتداد المنافع إلى البائع أنا نتخيل كونَ منافع الإجارة مستثناة عن استحقاق المشتري في وجهٍ، وأما سقوط الرجوع بقسطه من المسمّى على وجهٍ، فسببه انتساب المشتري إلى جلب الملك، وهو السبب الفاسخ.
فليفهم الناظر، ما ذكرناه، وليميز الأصل عن الأصل، حتى يتضح له أن الخلاف في أحدهما لا يتفرع على الخلاف في الثاني.
5557- وكان شيخي يقول: إذا حكمنا بارتداد المنافع إلى البائع في بقية المدة، استرد المشتري قسطاً من الأجرة وجهاً واحداً. وإن قلنا: لا ترتد المنافع إلى البائع في بقية المدة، فهل يبسرد المشترفي قسطاً من الأجرة؟ فعلى وجهين.
وهذا ليس وراءه تحصيل، والأصل ما قدمناه.
5558- ثم قال ابن الحداد: إذا ملك المكتري رقبة الدار عن جهة الإرث، فالإجارة تنفسخ، وهذا جوابٌ منه على أحد الوجهين. ثم قال: إذا حكمنا بانفساخها، فالمكتري يرجع بأجرة بقية المدة، وليس كما لو اشترى. وفرّق بأنه إذا اشترى، فقد نُسِبَ إلى تحصيل سبب الفسخ، وإذا ورث، فالانفساخ حصل من غير سببٍ من جهته.
ولم يرض الأصحابُ هذا الفرقَ، ورأَوْا تنزيلَ الملك الحاصل بالإرث منزلةَ تحصيل الملك الحاصل بالشراء، وقد ذكرت توجيهَ هذا، والردَّ على ابن الحداد، في فرقه في أول الكتاب.
5559- ثم ذكر ابن الحداد أن من أكرى داراً، ثم إن المالك المكري اكترى من المكتري تلك الدار، فالإجارة، تصح، وهذه المسألة فيها وجهان ذكرهما الأصحاب، كالوجهين في أن المكتري إذا اشترى الدار المكراة هل تنفسخ الإجارة؟ والوجهان جاريان مهما حصل الملك في رقبة الدار للمكتري، فإذا اكترى المكري، فالملك في الرقبة ثابت له فإذا أراد الاكتراء، مع ثبوت الملك في الرقبة، اطرد الخلاف، فالذي ذكره ابن الحداد، تناقضٌ بيّنٌ في التفريع؛ من جهة أنه اختار انفساخَ الإجارة إذا ملك المكتري رقبة الدار المكتراة، ثم جوز من المكري أن يكتري من المكتري وإن كان يتضمن ذلك اجتماعَ الإجارة وملكَ الرقبة في حق شخصٍ واحد، وهذا ظاهر في التناقض.
وأراد بعضُ أصحابنا الانتصار لابن الحداد، وتصويبَه في تصحيح الاكتراء من المكتري، مع مصيره إلى أن الإجارة تنفسخ إذا طرأ عليها حصول الملك في الرقبة للمكتري، وهذا لا ينتظم قط. وإن تخيّل متخيلٌ شيئاً، لم يصبر على السبر.
فرع:
5560- قد تمهد أن الرجل إذا اكترى دابة معينة، وعيّن لركوبها عبداً من العبيد، فلو أراد أن يُركب عبداً آخر مثلَه، جاز له ذلك، إذا كان الثاني في مثل حال الأول، وهو كما لو اكترى أرضاً ليزرعها قمحاً، فزرعها شعيراً، ويخرج من ذلك أنه لو تلف ذلك العبد المعيّن والإجارة واردة على عين الدابة، لم تنفسخ الإجارة، ولكن يبدل المستأجر بعبد آخر؛ فإن لم يفعل، والدابة في يده، فانقضت المدة التي تسع مقصود الإجارة، فقد استقرت عليه الأجرة، وهو الذي عطل حق نفسه.
وبمثله ما لو اكترى دابة في الذمة من غير تعيين، وشرط أن يُركبها عبداً عيّنه، فلو تلف ذلك العبد المعيّن، فهل تنفسخ الإجارة؟
ما صار إليه ابن الحداد أن الإجارة تنفسخ في هذه الصورة؛ فإنه لم يتعيّن في المعاملة إلا العبد المعيّن، فهو متعلَّقُ العقد، فإذا فات مَنْ تعلق به تعيُّنُ العقد، انفسخ، ونزل في هذه الصورة منزلةَ تلف الدابة المعيّن في الإجارة الواردة على عين الدابة.
5561- ونصُّ الشافعي يدلّ على ذلك في كتاب الصداق؛ فأنه قال: "لو أصدق امرأته خياطةَ ثوبٍ معين، ثم تلف ذلك الثوب، فالرجوع إلى مهر المثل"، ولولا أنه حكم بانفساخ العقد الوارد على المنافع، وإلا كان يقول: تأتي المرأة بثوبٍ آخر ليخيطه، فالرجوع إلى مهر المثل تصريحٌ بارتفاع استحقاق المنافع.
5562- ومن أصحابنا من قال: إذا تلف العبد المعين للركوب في الإجارة الواردة على الذمة، لم تنفسخ الإجارة، ويأتي المستأجر بعبدٍ آخر. وهذا متجه في القياس؛ فإن العبد إذا كان لا يتعين في الإجارة الواردة على العين، وجب ألا يتعين في الإجارة الواردة على الذمة.
قال الشيخ: وهذا القائل يقول في مسألة الصداق: المرأة تأتي بثوبٍ آخر ليخيطه الزوج، ولا رجوع إلى مهر المثل. وقد قدمنا نوعاً من الكلام، وبالغنا في تفصيله، وفرضناه في الإجارة الواردة على العين، وأجرينا فيه الخلاف. وذلك أنا قلنا: لو استأجر رجلاً ليخيط له ثوباً، ولم يرض خياطةَ غيرِ من عيّنه، وعيّن الثوبَ، فلو تلف ذلك الثوب، فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه خلافٌ قدمته، ومستنده أنه لو لم يأت بثوب، وسلّم الأجيرُ نفسَه، فهل تتقرر الأجرة بتسليم الأجير نفسَه، وهو حرّ؟ فيه خلافٌ قدمتُه.
فليفصل الفاصل بين النوع الذي أجريت الخلاف فيه قبلُ، وبين ما ذكرناه الآن؛ فإن سبب الخلاف فيما ذكرناه الآن تعلّقُ الإجارة بالذمة، مع ارتباطها بتعيين عينٍ فيها، كتعيين العبد للركوب، وتعيين الثوب للخياطة.
فرع:
5563- ذكر صاحب التقريب وجهين في أن الأب هل يجوز له إجارةُ ابنه الطفل؟ أحدهما- أنه يجوز له ذلك، على شرط النظر، وهو الذي قطع به الأصحاب.
والثاني: لا يصح؛ لأن في إجارته امتهانه، وإذلاله. وهذا لا يعادل ما يحصل بإجارته، فإن صححنا الإجارة، فاتفق بلوغه في أثناء المدة، فقد ذكرنا وجهين في أن الإجارة هل تنفسخ في بقية المدة؟
فإن حكمنا بأنها تنفسخ، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنها لا تنفسخ، فهل يثبت له الخيار إذا بلغ؟ فعلى وجهين.
ثم إن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ، أو قلنا يثبت الخيار، ولا تنفسخ، فلو أجر الأب عيناً من أعيان ملك الطفل، فبلغ الطفل، فهل تنفسخ الإجارة المعقودة على تلك العين فعلى وجهين.
ولو فرعنا على أن الإجارة الواردة على عين الصبي لا تنفسخ، وقلنا: يثبت له الخيار، فهل يثبت الخيار في الإجارة المعقودة على ملكه؟ فعلى وجهين.
والإجارة على الملك أبعد من الفسخ والانفساخ، والسبب فيه أنها عقدٌ وردت على قضية المصلحة على مال الطفل، في حال اطراد الولاية، وليس في إدامته حجرٌ على بدن الصبي بعد بلوغه واستقلاله، والمحذور في الإجارة الواردة على عينه أن يبقى بعد استقلاله مصرفاً للمستأجر، وهذا مفقود في الأموال.
5564- وكل ذلك فيه إذا كان البلوغ طارئاً بالاحتلام، فأما إذا كان البلوغ بالسن، فقد وقعت الإجارة بحيث يصادف بعضُها ما وراء البلوغ، وقد ذكرنا امتناع ذلك في أول الكتاب، وربطنا به ما يليق به.
فرع:
5565- إذا قال لإنسان: اشتر لي العبدَ الذي لفلان، ولك عليَّ درهم، أو قال: بع عبدي هذا، ولك كذا، فإن كان عملُ ذلك المستعمَلِ مضبوطاً، فالذي جرى إجارةٌ، وإن كان عملُه لا ينضبط، ويحتاج إلى ترددات خارجةٍ عن الضبط، وقد تقل وقد تكثر، فالذي جرى جعالة، وسنذكر أصل الجعالة وتفصيلها في آخر كتاب اللقطة، إن شاء الله عز وجل.