فصل: كتاب القراض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب القراض:

4846- القراض والمضاربة لفظان دالان على معاملةٍ على أحد النقدين، أو عليهما، بين مالكِ رأس المال، والعامل الذي لا يملك من رأس المال شيئاً، على أن يتَّجر العامل، وما يرزق الله من ربحٍ، فهو مقسوم بينه وبين المالك، على جزئيةٍ يتوافقان عليها شرطاً، وذلك بأن يقول للعامل: اتَّجر، وتصرف، وما يتفق من ربحٍ، فلك النصف، ولي النصف، أو على جزئيةٍ أخرى يتشارطانها.
ولفظ القراض شائع بالحجاز، شيوع لفظ المضاربة بالعراق، وإنما سميت المعاملة قراضاً ومقارضة، لاشتمالها على قطع الربح على نسبة بين المالك والعامل، فالقراض القطع، ومنه المقراض. وسميت مضاربة لتضارب المالك والعامل في الربح، فكلٌّ يضرب فيه بالجزء الذي شُرط له.
ثم المعاملة صحيحة، باتفاق العلماء على الجملة، وإن كان من خلافٍ ففي التفصيل.
4847- وتكلم الشافعي وراء ذلك في ماخذ الإجماع، وقال: الإجماع وإن كان حجة قاطعة سمعية، فلا يتحكم أهل الإجماع بإجماعهم، وإنما يصدر الإجماع عن أصلٍ، فنبه رضي الله عنه على وجوب البحث عن أصل هذا الإجماع، على من يبغي النظرَ في مأخذ الشريعة، ثم رأى رضي الله عنه أن يُتَّخذ خبرُ المساقاة أصلَ الإجماع، على ما سأرويه في أول كتاب المساقاة إن شاء الله عز وجل، ولم يبالِ الشافعيُّ بخلاف من يخالف في المساقاة، لما وثق باتجاه الخبر، وانقطاع التأويل عنه، ولم يتكلف إلا الجمعَ بين المعاملتين. وقد ذكرتُ في (الأساليب) طريق الجمع، وحظُّ المذهب منه: أنه يكثر في الناس ملاك النخيل الذين لا يحسنون العملَ عليها، وإن أحسنوه، لم يريدوا تعاطيه، وفوائد النخيل تتعلق بعمل المتفقِّدين وتعهد القائمين عليها ولن يحرص العامل على توفية العمل، حتى يكون له حظٌّ من الثمار، وهذا المعنى يتحقق في الاتِّجار، فإنه يقلّ في الناس من يستقلّ بمعرفة التجايرِ والكَيْس فيها، فكانت المقارضة مَرْفقاً بين مَنْ لا مال له، وبين من لا علم له بالتجارة.
وقال قائلون: مستند الإجماع في القراض حديثُ عبد الله وعبيد الله ابني عمر، قيل: رجعا من غزوةِ (نهاوند) فمرّا بالعراق، وعليها أبو موسى الأشعري، فقال: إني أريد أن أصلَكما بشيء، وليس في يدي ما أصلكما به، وإنما معي مائة ألف درهم من مالِ بيت المال، أدفعها إليكما، اشتريا بها سلعة، وتبيعانها بالمدينة وتردّان رأس المال على أمير المؤمنين، والربحُ لكما، فأخذاها، واشتريا بها من أمتعة العراق، فربحا عليها بالمدينة ربحاً كثيراً؛ فقال لهما عمر: أَوَ أسلف كلَّ الجيش مثلَ ما أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال: أنْ كنتما ابني أمير المؤمنين، لا أراه فعل ذلك إلا لمكانكما مِنِّي! رُدَّا الربحَ في بيت المال، فسكت عبد الله بنُ عمر، وراجع عبيد الله أباه، وقال: يا أمير المؤمنين أليس لو تلف، لكان من ضماننا؟ فقال: بلى، فقال عبيد الله: الربحُ لنا إذاً، أشار إلى أن الخراج بالضمان، فسكت عمر، ثم قال مِثلَ قوله الأول، فراجعه عُبيد الله ثانياً، وأعاد قوله الأول، فقال عبدُ الرحمن بنُ عوف: لو جعلته قراضاً على النصف يا أمير المؤمنين، فأخذ منهما نصفَ الربح، وترك النصف في أيديهما وتعلق العلماء بقول عبد الرحمن: لو جعلته قراضاً، وقالوا: التقريرُ على ذلك، والعملُ بحكمه يدل على أن القراض كان معلوماً فيهم. وليس في هذا كثير تعلق عندنا، ولا يجوز أن يكون للإجماع مستندٌ يحتاج الناظر إلى الغوص عليه، وتدقيق النظر في دَرْكه إلى هذا الحد، ولابد وأن يكون للإجماع صَدَرٌ عن أصلٍ، ويبعد في مطّرد العرف خفاؤه، فلا وجه فيه إلا القطعُ بأنهم ألفوا هذه المعاملة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شائعةً بين المتعاملين وتحققوا التقرير عليها شرعاً، وكان شيوع ذلك في الخلق أظهرَ من أن يُحتاج فيه إلى نقل أقاصيص، فكان الإجماع عن مثل هذا. واستقصاءُ ذلك في الأصول.
4848- ثم تكلّم الفقهاءُ على القصة التي جرت، وتنزيلها على وجهها، فمنهم من قال: استقرضا المائة ألف استقراضاً صحيحاً، وللوالي أن يُقرض مالَ بيت المال إذا رأى المصلحةَ فيه، فكان الربح بكماله لهما غيرَ أن عمر استطاب أنفسَهما عن بعض الربح، فلم يخالفاه، وكان هذا بمثابة استطابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفسَ الغانمين عن سبايا هوازن لما أراد ردََّها عليهم، بعد قسمتها، وجريانِ ملك الغانمين فيها.
وقال بعض العلماء: ما جرى كان قراضاً فاسداً؛ فإن أبا موسى شرط عليهما ردَّ المال بالمدينة، فكان قرضاً جر منفعةً، وقد ذكرنا فسادَ السفاتج في مثل ذلك.
ثم يجوز أن يقال: كانا اشتريا الأمتعة في الذمة، فوقع الملك فيها لهما، والربح على الأمتعة، غيرَ أنهما لما ارتفقا بمالِ بيت المال في تأدية أثمان الأمتعة رأى عمر رضي الله عنه استطابة أنفسهما عن بعض الربح.
وقيل: كان ما جرى قراضاً فاسداً بين أبي موسى وبينهما؛ فإنه شرط عليهما وراء التصرف النقلَ إلى المدينة، وسنذكر فسادَ القراض بمثل هذا، فكان الربح بكماله لبيت المال، ولكن رأى عمر نصف الربح موازياً لأُجور أمثالهما.
فهذا ما أردناه في رسم القراض، وتأصيله، ومستندِ الإجماع فيه، ونحن نذكر بعد ذلك فصلاً جامعاً يحوي أركان القراض، والشرائطَ المرعيةَ في صحته، ونحرص على أن نستوعب في هذا الفصل معظمَ قواعد الكتاب.
حتى يُلفيها الناظر مجموعة في مكان واحد.
فصل:
قال الشافعي: "ولا يجوز القراض إلا في الدنانير، أو الدراهم التي هي أثمانٌ للأشياء وقيمتها... إلى آخره".
4849- فنقول: أركان القراض ستة أشياء نأتي بها مفصلة مع مسائلها إن شاء الله عز وجل، ونبدأ بما صدّر الشافعي الكتابَ به، فنقول: عقْدُ القراض يختص بالدراهم والدنانير المطبوعتين من النُّقرة الخالصة والتبر الجاريَيْن أثماناً وقيماً، وهذا لا نعهد فيه خلافاً.
وقد تردد الأصحاب في المعنى الذي اقتضى تخصيصَ القراض بالنقدين، فاكتفى بعضهم بما أشعر به ظاهرُ النص، وقال: هذه معاملة احتمل الشرعُ فيها جهالاتِ وأغراراً؛ إذْ لا تُضبط أقدار العمل فيها، وليس لها مدّةٌ في وضع الشرع، وغرضُ العامل فيها تعلَّقَ بالغرر؛ فإن الربح قد يكون، وقد لا يكون، وسبب احتمال هذه الجهات والجهالات مسيسُ الحاجة إليها، ولمثل ذلك صحت الإجارة، ثم كان الغرض منها التوصل إلى تنمية المال، فاقتضى الشرعُ تخصيصَ المعاملة بالنقد الذي هو وسيلةٌ إلى تحصيل كل غرض في التجارة. ولو كان رأس المال عَرْضاً فربما يكسد سوقُه، ولا يخرج على إرادة العامل، وتتفق متجرةٌ رابحة، ولو كان النقد عتيداً، لحصلت، فكان التخصيص بالنقد لتحصيل الغرض الذي احتُمل ما في هذه المعاملة من الجهالة لأجله. هذا تعليلٌ على الجملة. والأصول إذا حاولنا تعليلها، لم نعثر إلا على مصالحَ كلية، قد لا تُحرّر على مراسم الحدود.
ومن أصحابنا من قال: المعنى فيه أنه لابد من رد العروض إلى النقد عند المفاصلة على ما سيأتي، إن شاء الله في أثناء الكتاب.
4850- ثم شرْطُ هذه المعاملة أن لا يستبد رب المال بجميع الربح، وأن لا يأكل
العامل جزءاً من رأس المال. والقراض على غير النقد قد يؤدي إلى أحد هذين، وبيان ذلك أن رأس المال لو كان وِقراً من حنطة، واتفق القراضُ في غلاء السعر، فكانت قيمةُ الوِقر عشرةَ دنانير، فلو باعه العامل في الحال مثلاً، فانخفض سوق الحنطة، وعاد قيمةُ كل وِقر إلى دينار، فسنقول: إذا تفاسخا، فالرجوع إلى جنس رأس المال، فيردُّ العاملُ على رب المال وِقراً من الحنطة يشتريه بدينار، والباقي بينهما، فيأخذُ العامل أربعةَ دنانيرَ ونصف من رأس المال، من غير كُلفة وتصرف.
ويُمكن فرض ذلك على العكس بأن يقال: قيمةُ الوِقر يوم العقد دينار، فباعه وتصرف فيه حتى بلغ عشرة دنانير، ثم ارتفع سوق الحنطة، فبلغ الوِقرُ قيمتُه عشرة دنانير، فإذا تفاسخا، فعلى العامل تحصيلُ رأس المال، وهو وِقرٌ من حنطة، ولا يمكنه ذلك، إلا بصرف جميع العشرة إلى الوِقر، فيستبد ربُّ المال بجميع الربح.
4851- فإن قيل: قد تتفاوت أسعار الدراهم والدنانير أيضاً؛ لأن الأسواق فيهما ترتفع وتنخفض. قلنا: يقل وقوع التفاوت في الدراهم والدنانير المطبوعة، مع خلوص النُّقرة، وقد يتمادى الزمان، ولا يعرض فيها تفاوتٌ. فإن قلّ، احتُمل.
نعم، الدراهم المغشوشة قد تتفاوت بالرواج والكساد، والقراض لا يصح إيرادُه إلا على المطبوع من النُّقرة الخالصة، فإن لم يمكن ذلك في الدراهم، فالدنانير المطبوعةُ من الذهب الإبريز عتيدةٌ، غيرُ مُعْوزةٍ، فلتقع المعاملة عليها.
فإن قيل: ما المانع من إيراد المعاملة على الدراهم المغشوشة؟ قلنا: أما البيع بها إشارةً إليها أو إطلاقاً لذكرها، فقد فصَّلنا المذهبَ فيه في كتاب البيع، وفرقنا بين أن يكون مقدار النُّقرة مجهولاً، وبين أن يكون معلوماً.
فأما تفصيل القول فيها في القراض، فنقول: لا يمتنع بيع الدراهم المغشوشة إذا انضبط مقدارُ العيار، ولا يقع الاكتفاء بهذا في القراض؛ فإن مقدار النُّقرة، وإن كان مضبوطاً، فالنحاس المضمومُ إليه سلعةٌ، وإيرادُ القراض عليه بمثابة إيراده على نقدٍ وسلعة، وذلك ممتنع، فالوجه منعُ إيراد القراض على المغشوش.
قال القاضي: أبعد بعضُ أصحابنا، فجوز إيرادَ القراض على المغشوش إذا جرى نقداً؛ فإن المعنى المتبعَ ما ذكرناه من كون النقد وسيلةً إلى أغراض التجارات، فإذا جرى المغشوشُ، وعم جريانُه، تحقق ذلك.
ولم يسمح أحد من الأصحاب بإيراد القراض على الفلوس. وإن عمّ جريانُها في بعض الأقطار، وكذلك القول في الغِطْرِيفية فيما وراء النهر، والسبب فيه أن الفلوس لا يعم جريانها في البلاد الكبيرة، وإنما يتواطأ عليها أهل ناحيةٍ، ثم تكون عرضةً للكساد، ولو كسدت وركدت أسواقها، لتفاوتت تفاوتاً عظيماً. والذي جوزه الأصحاب في الدراهم المغشوشة فيه إذا كانت قيمتُها قريبةً من مبلغ النقرة، وقيمة النحاس، ومؤن الطبّاعين. وأمثال هذه الدراهم لو فرض في جريانها ركودٌ، لقلّ المقدار الذي يفرض فواتُه، وإن كانت الدراهم المغشوشة جاريةً على مبلغٍ من القيمة لا يدنو مما فيه من النقرة، والغش، ومؤن العَمَلة، فهي على التحقيق جاريةٌ جريان الفلوس، فلا جواز لإيراد القراض عليها. على أن من جوّز إيراد القراض على الدراهم المغشوشة فهم الأقلون من المتأخرين، والمذهب المبتوت ما قدمناه.
وكان شيخي أبو محمد يقول: لا نلتزم ذكر علة معتمدةٍ في اختصاص القراض بالنقدين، ونكتفي بانعقاد الإجماع. وهذا وإن كان يجري في مسالك الجدل، فلا سبيل إلى التعلق بمثله، في مقام المباحثات، عن أصول المذهب.
4852- فإذا تبين اختصاص القراض بالنقدين، فقد كان شيخي يقول: إذا وردت المعاملةُ على الدنانير في ناحيةٍ، لا تجري الدنانير فيها نقداً في العقود، فالمعاملة صحيحة، ولا معول على عدم جريان الدنانير؛ فإنها على حالٍ ليست كالسلع التي يُتربص بها، ويُفرضُ فيها تفاوتُ القيم وارتفاعُ الأسواق وانخفاضُها. ولو كنا لا نصحح القراض إلا على نقدٍ جارٍ، لامتنع القراض في كثيرٍ من البلاد؛ إذ لا يعم فيها إلا المغشوش، وقد أوضحنا امتناع ورود القراض على المغشوش.
ثم يتصل بتفصيل هذا الركن أن إيراد القراض على النقرة التي لم تطبع بَعْدُ غيرُ جائز؛ فإن النقرة لا تعد من النقود، بل تعد من السلع قبل جريان الطبع، ولا يحصل بها التوصل إلى الاسترباح. هذا بيان الركن الأول.
4853- والركن الثاني- في صحة القراض ألا يُشترطَ على العامل عملٌ، سوى التجارة، وما يتعلق من هذه الجهة بالاسترباح والاستنماء، فلو وُظّف عليه عملٌ لا يجانس ما ذكرناه، فسد القراض به، وهذا تبيّنه.
مسائل
4854- منها أن الرجل إذا قارض رجلاً بمَرْو، وشرط عليه أن ينقل المال إلى نَيْسابور، ويشتري من أمتعتها، ثم ينقلها إلى مرو، أو يتركها بنيسابور، فهذا فاسدٌ؛ من جهة أن نقل المال من قُطر إلى قُطر عملٌ زائد على التجارة، وقد يُفرَضُ نقلٌ مجردٌ من غير تجارة، فإذا ضُم شرطُ النقل إلى التجارة، كان عملاً ممتازاً عن التجارة، فيفسد القراض. وسنذكر أن رب المال لو أذن له في السفر، فلا بأس، ولكن هذا جرى رفعاً للحرج عنه، من غير اشتراط عملٍ سوى التجارة. هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب.
وكان شيخي يحكي عن طوائفَ من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق: أنَّ شرط المسافرة في الثمار الثقيلة والأموال التي لها قدر، ليس مما يؤثِّر في القراض، بل الباب الأعظم في التجارة المسافرة، وهذا حَسنٌ متجه إذا لم يُبْنَ الأمرُ على نقل المال مقصوداً إلى موضعٍ؛ فإن التجارة ليست بيعاً وشراءً فحسب، وقد يتصل بها أعمال من الطي والنشر والحرز ونفض الثياب، والحفظ، وما في معانيها.
وهذه الأعمال يمكن تقدير إفرادها من غير تجارة، ولكن إذا اتصلت بالتجارة، عُدّت من توابعها، فليكن المسافرةُ منها.
فتحصَّل مما ذكرناه اختلافٌ بين الأصحاب، فمنهم من أبى شرط السفر، واعتقده مُفسداً، وجوّز ذكرَ السفر في معرض رفع الحجر، ومنهم من جوز شرطَ السفر، كما ذكرناه، إذا كان السفر معدوداً من توابع التجارة.
4855- ومن المسائل أنه لو دفع إلى العامل ألفاً وقال: اشتر بها حنطةً، واطحنها، واخبزها، وبع الخبز، والربحُ بيننا، فلا يصح القراض؛ لأنه شرط عليه عملاً وراء التصرف، والمطلوبُ من عقد القراض التصرفُ، وما يقع تابعاً له، كالحفظ والحَرْز وما في معناهما، والطحنُ والخَبزُ عملان مقصودان، وقد أوضحنا انحصار هذه المعاملة في ابتغاء الربح، بالحذاقة في التصرف والكَيْس في التجارة، فأما أن يعمل عملاً آخر يتعلق بالحِرف، فليس ذلك من مقاصد القراض.
وإذا اشترط في القراض أفسده، وهذا متفق عليه.
وكذلك لو دفع إليه ألفاً ليشتري به السِّمسمَ ويعصرَه ويبيعَه، لم يصح القراض كذلك.
4856- ثم أجرى الأصحاب في ذلك كلاماً نأتي به، ونذكر ما فيه. فقالوا: لو أورد القراض على النقد، ورأى العامل أن يشتري به حِنطةً، فلا امتناع فيما يفعل، فلو اشتراها، وطحنها، فقد قال القاضي: يخرج ذلك الدقيق عن كونه مالَ القراض، ولو لم يكن في يده غيرُه، لانفسخ القراض؛ فإنه بعمله أخرجه عن جنسه وصفته، ولو باعه، لم يقع بيعُه للدقيق على وجه بيع العامل للسلع التي يُتربص بها ويُبغى ارتفاعُ أثمانها، فإذا كان ما يُفرض من فائدةٍ لا يحال على البيع والشراء، وإنما يحال على التغيير الذي وقع بفعلٍ، لو شرط في القراض، لأفسده، فخرج ذلك المالُ بذلك الفعل عن المقصود المرعي في معاملة القراض، فإذا اختبط الأمرُ فيه، وأمكن حمل فائدةٍ-إن كانت- على التجارة وعلى التغيير الذي أحدثه، فلا وجه إلا الحكمُ بارتفاع المعاملة. هذا ما ذكره القاضي، وطوائف من المحققين.
وقال بانياً عليه: إذا أقر ربُّ المال العاملَ بطحن حنطةِ القراض، صار بذلك فاسخاً للعقد؛ لأن الحنطة تخرج بالطحن عن المعنى الذي نبهنا عليه، وينقسم النظر في الفوائد، فيجوز أن تُحمل على التجارة، ويجوز أن تُحمل على التغيير الواقع.
وهذا متجه حسن، وفي القلب مثه شيء إذا لم يقع الطحن شرطاً في المعاملة، ولا يبعد عن وجه الرأي الحكمُ بأن ما يتفق من هذه التغييرات لا يوجب انفساخ المعاملة؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن من اشترى عبداً صغيراً فكبر، وشب، وباعه يافعاً، وكان اشتراه رضيعاً، فما يُفرض من فائدةٍ تحمل على التغيير الذي لحق المملوكَ، ثم لا يؤثر ذلك وفاقاً، ولا يجب القضاء بأن المملوك إذا تغيّر، خرج عن كونه مال قراض، فكذلك إذا جرى الطحن من غير شرط.
ويجوز أن يقال: التربص لابد منه في التجارة، وهو يؤدي إلى تغايير تلحق الحيوان، فكان هذا في معنى الضرورة التي لا يتأتى دفعها، وليس كذلك التغيير الذي يلحق بفعل ينشأ. هذا ما أردنا التنبيه عليه.
4857- ومما يتصل بهذا الركن أنه لو كان له ألفُ درهمٍ على إنسان، فقال لآخر: قارضتك على مالي على فلان، فاقبضْه، وتصرفْ، فلا يصح القراض باتفاق الأصحاب على هذا الوجه؛ لأن النقد لم يكن عتيداً حالةَ العقد، واحتاج العامل إلى تحصيله، وتحصيلهُ ليس من أعمال التجارة. وقد ذكرنا أنه لا يجوز ضمُّ عملٍ إلى عمل التجارة في معاملة القراض.
ولا يصفو هذا حتى نبيّن معه أمراً آخر، فنقول: إذا أحضر ربُّ المالِ المالَ، وقال: إذا جاء رأسُ الشهر، فقد قارضتك على هذا المال، فالمعاملةُ فاسدةٌ، باتفاق الأصحاب، وإن كنا قد نجوّز تعليق الوكالة؛ فإن القراض ليس وكالة محضة، ولكنها معاملةٌ ضمنُها معاوضة، وقد احتمل الشرع فيها جهاتٍ من الجهالات على حسب الحاجات، فلا تحتمل ما لا حاجة إليه، والتعليقُ منه.
ولو قال: قارضتك الآن على هذه الدراهم، ولكن افتتح التصرفَ بعد شهر، ففي صحة القراض وجهان ذكرهما القاضي:
أحدهما: المنع؛ لأن حاصل هذا يؤول إلى تعليق القراض أيضاً إذا كان لا ينتجز تسلُّط العامل على العمل في الحال.
فإذا ثبت هذا الذي ذكرناه، عُدنا إلى ما كنّا فيه من قوله: عاملتك على مالي على فلان، فاستوفِهْ، وتصرف، فهذه المعاملة ناجزةٌ، ولكن التصرف موقوف على الاستيفاء والقبض، فالمعاملة فاسدة، لم يختلف الأصحاب في فسادها، وإن اختلفوا فيه إذا كان النقد حاضراً، فقال: قارضتك الآن عليه، وتصرف بعد شهر، والسبب فيه أن معتمد القراض نقدٌ حاضر، والدَّيْن في الذمة، وإن كان مملوكاً، فهو أبعد عن إمكان التصرف من العروض.
4858- ولو كان لرجل على رجلٍ ألفُ درهم، فقال مستحق الدين لمن عليه الدين: قارضتك على ما لي عليك، فانقده، وتصرف، فلا تصح هذه المعاملة؛ فإنا إذا كنا نمنع صحتها، والدَّيْنُ على الغير، فلأن نمنع صحتَها في هذه الصورة أولى، والدليل عليه أن ما على الغير إذا كان استوفاه المأمور، فإنه يحصل في يد المستوفي ملكاً للآمر، وما على الإنسان إذا أحضره لا يصير ملكاً لمستحق الدين، فلا وجه لصحة المعاملة.
ويتصل بهذا أنه إذا قال: عاملتك على ما لي على فلان، فاقبضْه، وتصرف فيه، ولك من الربح كذا، فالمعاملة فاسدة، كما تقدم، ولكن إذا قبض ما على فلان، وافتتح التصرفَ فيه، نفذ تصرفُه لوقوعه على حسب الإذن، والقراض الفاسد أثرُ فساده في خروجه عن الوضع، وبطلانِ ما وقع التشارط عليه في تجزئة الربح، أما التصرف، فمعتمدُ نفوذِه الإذنُ من المالك، فلا فساد منه، ثم ما يحصل من ربح في المعاملة الفاسدة، فهو بجملته لمالك أصل المال، وللعامل أجرُ مثل عمله، كما سنذكر ذلك على أثر نجاز القولِ في الأركان، إن شاء الله عز وجل.
هذا فيه إذا قال: قارضتك على ما لي على فلان، فاقبضه وتصرف فيه، فأما إذا قال: عاملتك على ما لي عليك، فحصّله، وتصرف فيه، فما يحصّله ويحضره لا يدخل في ملك الآمر، ويبقى ملكاً له. فإذا تصرف فيه، لزم تخريجُ ذلك على أصلٍ قدمناه.
4859- ونحن نذكر مزيدَ تفصيل فيه، ثم نعودُ إلى غرضنا من هذه المسألة التي انتهينا إليها.
فإذا قال الرجل لصاحبه: اشتر لي بثوبك هذا الحمارَ، وأشار إلى حمارٍ لإنسان، فإذا اشترى ذلك الحمارَ بذلك الثوب، فلا يخلو إما أن يسمي في العقد الآمرَ، وينسبَ الشراء إليه، أو ينويه ولا يسميه. فإن سماه، ففي وقوع الشراء له وجهان:
أحدهما: يقع له؛ لأنه اشتراه له بأمره، فعلى هذا ما حكم الثوب الذي يتعين في العقد؟ وجهان:
أحدهما: أنه هبة، فكأنه وهب منه الثوب، في ضمن هذا التصرف، وأقْبَضه، ثم توكّل عنه في شراء الحمارِ به.
والثاني: أن يقدره قرضاً، فكأنه أقرضه، ثم التقدير بعده على ما ذكرناه، هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني- في الأصل أن العقد لا ينصرف إلى الآمر؛ لأن الثمن غيرُ مملوكٍ له، فعلى هذا في المسألة وجهان:
أحدهما: أن العقد يبطل؛ لأنه لم ينصرف إلى من سماه، فأبطلناه. والوجه الثاني- أن العقد يقع لمالك الثوب، وتلغو التسمية.
هذا إذا سماه، فأما إذا لم يسمِّ الآمر، ولكنه نواه، ففي انصراف العقد إلى ذلك الآمر من الخلاف ما ذكرناه، ثم إذا حكمنا بانصرافه إليه، فالتفريع في الثوب المجعول ثمناً على ما قدمناه. وإن لم نقض بانصراف العقد إلى من نواه، فينصرف العقد إلى هذا المأمور العاقد، وجهاً واحداً؛ إذْ لم تجر تسميةٌ تخالف وضعَ الشرع.
4860- فإذا تمهّدَ هذا، عُدنا بعده إلى غرضنا، وقلنا: إذا قال: حصِّل الألفَ الذي عليك، وتصرف فيه، فإذا حصله، فهو ملكه بعدُ إلى أن يَقْبض عنه قابضٌ، وما يقع من تصرفٍ بعد هذا على نية الآمر، فهو خارج على ما مهدناه من التصرف للغير، بعين مالِ المتصرف، فليجر هذا ذلك المجرى؛ فإنه عينُ المسألة التي أوضحناها.
4861- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن الرجل إذا قال للغير: اشتر لي الخبز بدرهمٍ من مالك، فإذا اشتراه في الذمة، وقع الشراء للموكّل، ولا يلزم هذا المأمور أن ينقد الدرهمَ من ماله، فإذا نقده من ماله، كان مأخذ هذا من أصلٍ آخر، وهو أن من أدى دين غيره بإذنه على شرط الرجوع عليه، فإنه يرجع عليه، وإن أذن له في الأداء مطلقاً، ولم يُقيِّد بشرط الرجوع، ففي الرجوع وجهان، تكرر ذكرهما، كذلك إذا اشترى الخبز بأمره، فقد وجب الثمن على الآمر، فإذا أداه من مال نفسه بإذنه، ففي الرجوع ما قدمناه.
ولو اشترى الخبز بدرهم عيَّنه من ماله، فهذه المسألة هي التي مضت؛ فإنه اشترى للآمر شيئاً بعين مال نفسه.
فإذا تمهَّد ذلك، عدنا إلى مسألتنا عودةً أخرى، وقلنا: إذا قال: عاملتك على ما لي عليك، فحصِّله، وتصرف على سبيل القراض، فإن اشترى شيئاً في الذمة للآمر، ثم نقد الثمنَ، فهو بمثابة ما لو اشترى الخبز في الذمة، ونقدَ الثمن من عند نفسه، وإن حصّل الدراهم واشترى بأعيانها شيئاً، فهو بمثابة ما لو اشترى للآمر مالاً بعين مال نفسه، وقد تفصَّل القولُ في هذه المسائل.
4862- ولو قال: خذ هذه العين، وأشار إلى سلعة، فبعها، وقد قارضتك على ثمنها، فقد نص الشافعي على فساد القراض، والنص يعضد ما قدمناه.
ولو قال: قارضتك على ألف درهم، وذكر شرائطَ القراض، وأحضر الألفَ في المجلس، فقد قال القاضي رضي الله عنه: يصح ذلك، وتُحتمل غَيْبةُ الألف حالة العقد، إذا حصل التَّنْجيزُ في المجلس، ولو فارق المجلسَ، ثم حصّل الدراهم، لم يصح، ولابد من تجديد عقدٍ بعد تحصيلها.
وما ذكره حقٌّ، لا دفع له، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف؛ فإن من باع درهماً بدرهم، وأجرى ذكرهما على الإطلاق، ثم أُحضر الدرهمان، وجرى التقابض فيهما قبل التفرق، صح العقدُ. ولا يجوز بيعُ الدراهم بالدراهم ديناً بدين، ولكن إذا جرى التعيين في المجلس، فالحكم له. كذلك القول في إحضار الدراهم في المجلس في غرضنا من القراض. وقد تم بيان هذا الركن.
4863- الركن الثالث من أركان القراض: أنه يجب تسليم مال القراض إلى العامل
وتثبت اليد له فيه على التمحُّض من غير مشاركة. وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
فلو قال رب المال: يكون الكيس في يدي، وأنت تتصرف وتشتري، وإذا احتجت إلى الثمن، جئتني فنقدتُه، فلا يصح القراض على هذا الوجه. والسببُ فيه أن مبنى هذه المعاملة على الاتساع في طرق تحصيل الربح، والشرعُ إنما احتمل ما في القراض من الجهالة لهذا السبب وإذا لم يكن المال في يد العامل، لم يحصل غرض الاستنماء على الاتساع المطلوب في بابه، والاستمكان المشروط في أسبابه؛ فإن السلعةَ قد تحضر فيتخيّل العامل فيها منفعة، ولو وقف صاحبها حتى يطلب المالَ، لفات المتجَرُ. وهذا ظاهرُ الوقوعِ، ولو انفرد العامل باليد، وكان المال حاضراً معه، لم تفته هذه الأسباب. والتجايرُ فُرَصٌ تمر مرّ السحاب.
ولو قال المالك: أتصرف معك، كان هذا مفسداً للقراض؛ من جهة أن تصرف المالك يُضعفُ ويوهي يدَ العاملِ، ويخرجه عن الاستقلال ويحوجه إلى المراجعة.
وكل ذلك يَنْقُص من بسطته في التصرف.
4864- ومما يتصل بهذا الركن قول الشافعي: "ولو قارضه، وجعل معه غلامَه... إلى آخره".
فنقول: إذا شرط ربُّ المال أن يعمل مع العامل، فهذا فاسدٌ لما ذكرناه، ولو شرط أن يعمل مع العامل غُلامُه؛ يعني غلامَ المالك، فالنص في القراض والمساقاة أن ذلك جائز، أما المساقاة فنتركها إلى موضعها. وأما القراض، فتفصيل القول فيه أنه إذا لم يشترط أن يكون المال في يد عبده، وأثبت للعامل منصبَ الاستقلال بالتصرف، ولم يشترط عليه مراجعةَ العبد، وأقام العبدَ مُعيناً له ليخدمه في الجهات التي يحتاج إلى خدمته فيها، فظاهر النص أن شرط ذلك لا يُفسد العقدَ؛ لأنه ليس مناقضاً لمقصود المعاملة، وفي تصوير المسألة تقرير ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إذا شرط أن يكون عبده معه في تصرفاته، وإن كان لا يراجعه فيما يريد الاستقلال به، فالشرط فاسد مفسد؛ من قِبل أن يدَ العبد يدُ مولاه، فيكون العبدُ معه بمثابة كون السيد معه، ولو شرط أن يكون معه بنفسه، لفسدت المعاملة؛ لأن اليد يتطرق الانقسام إليها، فكذلك القول في العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا يضرُّ كون العبد معه؛ فإنه مستخدَمُ المقارض، ومن استأجر عبداً، أو استعاره، فيدُ العبد المستخدَمِ بجهة الاستعارة، أو جهةِ الإجارة يدُ المستخدِم بالجهتين، لا يدُ مالكِ العبد، ولهذا تُجعل الدار المستأجرة والمستعارة حرزينِ للمستأجر والمستعير، في أحكام السرقة. ومحل الخلاف فيه إذا لم يكن على المقارض حجرٌ من جهة العبد ولم يُلزمْه مالكُ العبد مراجعةَ العبد في حَرْز المال، ولا في التصرفات، فلو جرى حجر من هذه الفنون، لفسد القراض بسبب الحجر، كما سنصفه في الركن الذي يلي هذا الركن.
4865- الركن الرابع: في بيان التعرض للتصرف المقصود بالقراض، ووضع هذا العقد على الاتساع في الاسترباح والاستنماء، كما قررناه مراراً. والتصرف من قبيل التجارة لا غير؛ فإن سائر الجهات في المكاسب يتيسر تحصيلها بالاستئجار، بخلاف التجارة، فليكن مقصود القراض التجارة المتسعةَ المضطرب من غير حجرٍ يتضمن تضييقاً ظاهراً، ولسنا نشترط التفويض المطلق الذي لا احتكام فيه للمالك، فإنه لو قال: عاملتك على هذه الدنانير على ألا تتّجر إلا في الثياب، جاز؛ لأن فيها متسعاً رحباً، وكذلك قد يُعيّن صنفاً من الثياب يعم وجوده، ويظهر توقع الاسترباح فيه، فيجوز القراض.
ولو عيّن شيئاً يعزّ وجودُه، ولا يتسع المتجر فيه، لم تصح المعاملة. والتعويل في النفي والإثبات على ما نبهنا عليه.
ومما يجب التنبيه له الآن أن القراض يشتمل على معنى التوكيل في التصرف، وإن كان يؤول في منتهاه إلى الشركة عند ظهور الربح، كما سنصف ذلك.
وقد ذكرنا في كتاب الوكالة أن الوكالة الخاصة أولى بالصحة من الوكالة العامة، حتى لو أفرط العموم، فقد نقول: لا يصح التوكيل، والسبب في البابين أن الوكيل يقول ويعمل لموكِّله نائباً عنه، لا حظ له في تصرفه، والقياس أن يتصرف المرء لنفسه بنفسه، وإنما أقام الشرع الوكلاء مقام الموكِّلين لمسيس الحاجة إلى الاستنابة في بعض الأمور، وهذا إنما يظهر في الأشغال الخاصة، والقراضُ لا ينبني على الاستنابة المحضة، وإنما هي معاملةٌ مالية يتعلق بها غرض رب المالِ والعاملِ، فحصولُ الغرضِ فيه يستدعي انطلاقاً في التصرف، وانبساطاً في جهات الاسترباح، وانتهى الأمر فيه إلى تخصيص المعاملة في أول الوضع بما هو ذريعة إلى تحصيل المقاصدِ جُمَعٍ، من غير تربصٍ لارتفاع الأسواق.
وقال الأئمة في تمهيد هذا الأصل: لو قال رب المال لا تبع إلا من فلان، أو لا تشتر إلا من فلان، فهذا يفسد القراض؛ فإنه حَجْر بيّن، وإذا تبين ذلك المعيَّن أن الأمرَ مرْدودٌ إليه، احتكم بائعاً ومشترياً، وفسد نظام المعاملة.
وقالوا: لو قال: لا تتصرف حتى تستشير فلاناً وتستضيء برأيه، فالمعاملة تفسُد؛ من جهة أنه قد لا يصادفه إذا حانت متجرةٌ وتعرضت للفوات، ولهذا شرطنا في صحة المعاملة انفرادَ العامل باليد، وكذلك لو قال: لا تنفرد بشيء من التصرف حتى تراجعني، فهذا مفسدٌ.
والقراض كما يقتضي انفرادَ العامل باليد يقتضي انفراده بالتصرف؛ فإن اليد لا تُعنى لعينها، وإنما شرطنا استقلاله بها، ليكون مادة لانبساطه، فكيف يسوغ الحجر عليه في عين التصرف؟ فإن قيل: قد أطلق الأصحاب جواز مقارضة الرجل الواحد رجلين، وسيأتي ذلك في تفاصيل المسائل، إن شاء الله تعالى؟ قلنا: هذه المسألة فيها تفصيل، فإن قارض رجلين وشرط أن لا يستقل واحدٌ منهما بالتصرف دون صاحبه، فالذي يدل عليه ظاهرُ كلام الأصحاب أن ذلك فاسدٌ، وإذا كنا نفسد القراض بأن يشترط على العامل أن يراجع رجلاً بعينه، فلا شك أن هذا المعنى يتحقق فيه، إذا ارتبط التصرف برجلين لا ينفذ دون اجتماعهما.
ولو قارض رجلين وأثبت لكل واحد منهما الاستقلالَ بالتصرف، فهذا هو الذي جوزه الأصحاب، وفيه كلامٌ وإشكالٌ، ليس هذا موضعه. وسيأتي ذلك مفصلاً في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى.
هذا قولنا في إطلاق تصرف العامل على الانبساط، مع منع الحجر عليه، بما يؤدي تضييق المجال في طريق المتاجر.
4866- الركن الخامس في القراض: في التعرض للإطلاق والتأقيت:
لم يختلف الأئمة في أن إطلاقَ القراض، وتركَ التأقيت فيه موضوع المعاملة، وأول ما نذكره أن التأقيت ليس شرطاً في هذه المعاملة، بخلاف المساقاة، والسبب فيه أن المقصود من أعمال المساقاة تحويه المدة، فلابد منها لحصول الإعلام، والمقصود من القراض تحصيل الربح، ولا ضبط له، وهو في غالب الأمر يتعلق باتفاقاتٍ، لا تنضبط، وتوقعات لا تنحصر. هذا قولنا في أن التأقيت ليس شرطاً في القراض.
ونحن نتكلم وراء ذلك، في أن التأقيت هل يبطل القراض؟ وقد اضطربت طرق الأصحاب، ونحن نأتي بترتيب يجمع ويحوي الغرض. قال العراقيون: إن أقّت ربُّ المال بيعَ المقارض للسلع، فالتأقيت فاسدٌ مفسد، مثل أن يقول: تبيعُ العروضَ وتردها إلى الناضّ في سنة، ولا تبعْ بعدها. هذا فاسدٌ؛ من جهة أنه قد لا يجد للعروض زبوناً في المدة المضروبة. فإذا فرض ارتفاع القراض بالتفاسخ، فيبقى العامل مطالباً ببيع العروض، وتنضيضها؛ إذ لا تتأتى المفاصلة إلا كذلك، فلا وجه إذاً للمنع من البيع، ولا لتأقيته.
وإن ذكر التأقيت في شراء الأمتعة، مثل أن يقول: تشتري من الأمتعة ما تراه في سنة، فإذا انقضت، لم تزد في الشراء وتفتتح البيعَ- من غير مدة، ففي ذلك وجهان ذكرهما العراقيون: أصحهما- أن القراض يصح على هذا الوجه؛ فإنه ليس في هذا التأقيت ما ينافي مقصودَ العقد، ولا حجراً، ينقص من البسطة المرعية.
والوجه الثاني- أن القراض يفسد بالتأقيت؛ فإن مبناه في وضع الشرع على الإطلاق، وهذا أسنده العراقيون إلى أبي الطيب بن سلمة.
ولو قال قارضتك سنة ولم يتعرض لتأقيت البيع، ولا تأقيت الشراء، ولكن ذكر التأقيت مضافاً إلى القراض، ففي المسألة وجهان: من أصحابنا من جعل هذا كالتصريح بتأقيت البيع، حتى يفسد القراض. ومنهم من جعله كالتصريح بتأقيت الشراء حتى يُخرَّجَ على الوجهين المذكورين.
هذا هو الترتيب الجامع في الباب.
4867- ومن تمام البيان في ذلك أنّا إذا صححنا تأقيت الشراء، فالشرط أن يذكر وقتاً يتأتى فيه الانبساط في الشراء على موافقة غرض الاسترباح، حتى لو قال: قارضتك على أن تشتري في ساعةٍ من نهار، لا يصح، فإن هذا المقدارَ من الزمان لا يسع من الشراء ما يوافق في غالب الأمر، ويُثبت متسعاً في التجارة.
ومما نُلحقه بهذا الركن أن المالك لو عيّن للعامل شراء ضربٍ من العروض يوجد غالباً في فصول السنة، فذاك. وإن عيّن ما يختص وجودُه ببعض فصول السنة، كالرطب والفواكه الرطبة، ففي الاتجار في هذا الضرب متسع لا ننكره، ولكن إذا انحصر وجوده في بعض الأزمنة فينحصر البيع فيها لا محالة، وذكرها مع هذا التنبيه يتضمن تأقيت البيع. وقد ذكرنا أن تأقيت البيع ينافي صحة القراض، فاختلف لذلك أصحابنا، فذهب بعضهم إلى منع القراض، لما أشرنا إليه، وذهب آخرون إلى صحة القراض؛ فإن بيع الرطب في أوانه يتنجَّزُ، وليس مما يُبنى الأمر فيه على تربص، حتى يُحملَ تأقيتُ البيع على تضييقٍ في التجارة، من حيث يخالف التربصَ المعتاد في السلع، فإذا كان الغالب انتجاز البيع، وإن فرض وقوفُه في بعض السنة، فهو غير مُكترَثٍ به في العادة، فلا حكم لتأقيت البيع، ولم يختلف أصحابنا أنه لو قال: اتَّجِرْ في البطيخ مادام، فإذا انقضى، ففي غيره، جاز ذلك، ولم يمتنع. وإن كان الرطب متأقتَ البيعِ على ما ذكرناه ولكن لم يحمل ذلك على تضييق، وصح لأجله القراض، وهذا يقتضي تصحيح القراض مع الاقتصار عليه.
4868- الركن السادس من أركان القراض: قسمةُ الربح على جُزئية صحيحة وحصر عِوض المقارض فيما يسمى له من الربح.
وبيان ذلك: أن رب المال والعامل ينبغي أن يتشارطا الربح بينهما على جزئيةٍ معلومة حالة المعاقدة، ويذكرا ذلك ذكْرَ العوض في مقابلة المعوَّضِ المطلوبِ من العامل، وهو عملُه، وعِوضُ عمله الجزءُ الذي يسمى له من الربح. فيقول رب المال: قارضتك، أو ضاربتك، أو عاملتك، على التصرف في هذا المال، ولك من ربحٍ يرزقه الله نصفه، ولي نصفه، أو لك ثلثه، ولي ثلثاه، على ما يتفقان عليه.
فلو ذكر للمقارض أجراً معلوماً، لم يكن ما جاء به قراضاً، ولا إجارةً صحيحة؛ فإن شرط الاستئجار إعلامُ العمل، والعملُ في معاملة القراض لا ينضبط، ومحاولة تقديره يخالف مقصود العقد. كما أن طلب تأقيت النكاح يخالف موضوعَه، والإعلام حيث يشترط لا يُعنَى لعينه، وإنما يُطلب منه نفيُ الجهالة على وجه يليق بمقصود العقد.
ولو قال المالك: قارضتك على أن لي النصف من الربح، ولم يتعرض لإضافة النصف الآخر إليه، أو قال: على أن لك النصف من الربح، ولم يتعرض لإضافة النصف الآخر إلى نفسه. أما إذا أضاف إلى نفسه جزءاً، فظاهر ما نقله المزني أن ذلك غير صحيح؛ فإن الأصل أن الربح بكماله لمن الملك له في رأس المال، وإنما يثبت للمقارض جزءٌ منه، بأن ينسب إليه ولم يَجْر لنسبة جزءٍ إلى العامل ذكرٌ.
وذكر ابن سُريج قولاً مخرّجاً أن القراض يصح، ويقع الاكتفاء بإضافة جزءٍ إلى المالك؛ فإن هذا مع جريان المعاملة صريحٌ في إضافة الباقي إلى العامل من طريق الفحوى، والمعاني هي المقصودة، لا صيغُ الألفاظ.
هذا إذا أضاف إلى نفسه وسكت عن الإضافة إلى العامل، فأما إذا أضاف جزءاً من الربح إلى العامل، وسكت عن إضافة الباقي إلى نفسه فالذي قطع به الأئمة الحكمُ بصحة القراض، بخلاف الصورة المتقدمة؛ فإن المعاملة تقتضي ذكر عوضها والمعوّض من الربح ما يسمى للعامل، وما عداه لا يثبت للمالك بحكم الشرط. وإنما يثبت له بحكم ملك الأصل، فإذا اشتملت المعاملة على ذكر عوضها، يكفي ذلك في الحكم بتصحيحها، وليس كالصورة الأولى.
وذكر العراقيون وجهاً عن بعض الأصحاب أن العقد لا يصح حتى تجري الإضافة في الجزأين إلى الجانبين. ونظموا من تخصيص الإضافة بأحد الجانبين ثلاثةَ أوجه: أحدها: الصحة.
والثاني: الفساد. والثالث: الفصل بين أن تقع الإضافة إلى العامل وبين أن تقع الإضافة إلى المالك. وليس لما ذكروه من الخلاف في الإضافة إلى العامل وجهٌ.
4869- ولو قال: قارضتك على أن لك الربحَ كلَّه، فلا يصح القراض على هذا الوجه؛ فإن هذه المعاملةَ إنما جوّزت لارتفاق ملاك الأموال بأعمال الذين لهم كَيْسٌ في التجارة. فأما إذا صُرف جميعُ الربح إلى العامل، سقط غرض المالك بالكلية، وعاد النظر إلى أن هذا الذي صدر من المالك منحة، أو هبة متعلقة بالربح الذي سيكون.
فاذا ثبت ما ذكرناه، فمن أصحابنا من قال: هذا إقراضٌ، والعامل يملك رأس المال مِلْكَ القرض، وإذا اتفق ربحٌ، فهو له، وهذا ضعيف لا شيء؛ فإن المعاملة على الأصل مصرَّحةٌ باستبقاء الملك في رأس المال، وتحصيلُ الملك فيه للمستقرض لا وجه له.
ومن أصحابنا من قال: الذي جرى قراضٌ فاسد، وسنختم نجاز الأركان بحكم القراض الفاسد على الجملة.
4870- والذي ننجزه الآن أنّ تصرف العامل نافذٌ لصَدَره عن إذن المالك، وكمالُ الربح للمالك؛ فإن العامل إنما يستحق جزءاً منه بمعاملةٍ صحيحة، وهي فاسدة، فيما نحن فيه، وللعامل أجرُ مثل عمله، ربحَ أو خسر؛ فإنه خاض في العمل على أملٍ في العوض، فإذا لم يحصل ما أمّله، لم يحبَط عمله.
فلو قال: قارضتك على أن لي تمامَ الربح، فالقراض لا يصح على هذا الوجه، ولكن ينفد تصرفُ العامل، لصدوره عن إذن المالك. وهل يستحق أجرَ مثلِ عمله؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يستحقه، حملاً على أن القراض فسد، فرُدَّ الرّبحُ إلى أصله، وقوبل العمل بأجر مثله. والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً؛ لأنه خاض في العمل من غير أن تُشعر المعاملةُ بإثبات عِوضٍ له على مقابلة عمله.
والقائل الأول يُجيب عن هذا، ويقول: نفس جريان المعاملة يدل على أن لا يحبَط عملُ العامل، ومقصود المالك أن يخلص الربح له، وللعامل أجرُ عمله.
وهذا يمكن تقديرُه في نظْم الكلام، ولو أراد استخداماً مجرداً، لما ذكر المعاملة والقراض، وما في معناهما.
4871- فإذا تمهد ما ذكرناه من نسبة الربح إلى جزئية إليهما، واتضح أن إثبات الربح بكماله لأحدهما منافٍ لمقصود العقد، فنقول بعد ذلك: لو شرط المالك لنفسه درهماً مثلاً، ثم قال: الربح بعده نصفان بيننا، فهذا مفسد للمعاملة؛ من جهة أنه قد لا يتفق الربح أكثر من درهم، فيؤول حاصل الأمر إلى اختصاص المالك بجميع الربح المتّفق، وكذلك لو وقع الشرط على أن يختص العامل بدرهم، ثم قسمةُ الربح بعده، فهذا مفسدٌ؛ لأن الربح قد لا يزيد على درهم، فيُفضي مقصودُ العقد إلى شرط تمام الربح للعامل.
ولو قال: لك درهم من عُرض المال، والربح إن اتفق نصفان بيننا، فهذا يُفسد لا من جهة الفساد الذي ذكرناه الآن، ولكن ذكر الأجرة للعامل من غير الربح مفسدٌ للعقد كما مهدناه.
وعلّل بعضُ الأصحاب الفسادَ فيه إذا قال المالك: لي درهم أختص به من الربح، والباقي مقسوم بيننا، بأن قال: الجمع بين التقدير وبين الجزئية يُفسد ضبط التجزئة؛ فلا ندري أن المشروط للمالك من الربح كم. ولا حاجة إلى هذا التعليل عندنا.
وفيما قدّمناه مَقْنع.
واستشهد القاضي في محاولة تحقيق هذه العلّة بمسألة في المذهب فيها نظرٌ عندنا، وهي أنه قال: لو قال مالك الصُّبْرة لمن يخاطبه: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، ونصفُ الباقي منها بكذا، فالبيع باطلٌ لضمه التقديرَ إلى الجزئية، ولو قال: بعتك نصفَ هذه الصُّبرة، لصحَّ. هذا ما ذكروه. وفيه احتمالٌ؛ فإن الصاع معلومٌ، ونصف الباقي معلوم. فإن كانت الصبرة مجهولة الصِّيعان، فقد نقول: لا يصح بيع الصاع منها، فإن جرينا على الأصح، وصححنا بيعَ صاعٍ من الصُّبرة المجهولة المقدار، فذكْرُ نصفها بعد أخذ الصاع منها، كذكْر نصفِها من غير أخذ الصاع، فليتأمل الناظر، وليكتف في مسألة القراض بالمسلك الذي قدمناه.
4872- ولو قال: قارضتك على أن تتصرف في الثياب والحبوب، وما يتفق من
ربح على الثياب، فهو لي، فهذا فاسد؛ إذ قد لا يتفق الربحُ إلا على الثياب، فيؤدي حاصل الشرط إلى اختصاص المالك بجميع الربح. وكذلك إذا شرط للعامل ربح صنفٍ، فقد لا يتفق غيرُه فيُفضي الشرطُ إلى اختصاص العامل بجميع الربح. وعلى هذا لو دفع إلى العامل ألفاً، ثم دفع إليه بعد ذلك ألفاً، وشرط تمييز أحدِ الألفين عن الثاني، فيما يتصل به من المعاملات، وقال: ما يتفق من الربح على الألف الأول، فهو لي. هذا غير جائزٍ، لما ذكرناه، وكذلك لو فرض تخصيص العامل.
ولو دفع إليه الألفين معاً، ثم قال: ربح أحد الألفين بكماله لي وربح الثاني لك.
قال ابن سريج: لا يصح هذا. وقال القاضي: الوجه عندي القطعُ بتصحيحه؛ إذ لا تمييز بين الألفين، ولا فرق بين أن يقول: نصفُ الربح لك، وبين أن يقول: ربح الألف من الألفين لك. وهذا الذي ذكره متَّجه حسنٌ، ولا وجه لما ذكره ابنُ سريج إلا فسادُ اللفظ؛ فإن الذي يقتضيه موجَب العقد قسمةُ الربح على الشيوع بين المالك والعامل، من غير تعرض في اللفظ لربح جزءٍ من رأس المال، فإذا قال: نصف ربح الألفين لك، فهذا جارٍ على الإشاعة. وإذا قال ربح أحد الألفين لك، فهذا يتضمن تخصيصاً غيرَ مُفيدٍ، فيفسد اللفظُ، والمعول في العقود على الألفاظ.
4873- ولو قال: ثلث الربح لي، وثلثه لعبدي هذا، وثلثه لك، فقد أجمع الأصحاب على صحة العقد، وقَضَوْا بأن إضافة الثلث إلى العبد بمثابة إضافته إلى السيد، فكأنه قال: الثلثان من الربح لي والثلث لك. ولو قال: الثلث من الربح لي والثلث لزيد، وذكر شخصاً آخر، لا تعلق له بالمعاملة، فهذا الشرط فاسد؛ فإنه تضمَّن شرطَ الربح لمن ليس مالكاً لرأس المال، ولا عاملاً فيه. وكذلك لو شرط جزءاً من الربح، لمكاتبه، فهو فاسد أيضاً للمعنى الذي ذكرناه.
فإن قيل: إذا تبين ما يستحقه العامل، فقد وضح عِوضُ عمله، وحُكم الشرع صرفُ الباقي إلى المالك، فإن فرض فيما ليس عوضاً لعمل العامل فسادٌ، فليس لذلك الفساد تعلقٌ بمقصود العقد، فليرتفع ذلك الفساد، وليصح العقدُ.
قلنا: لو شرط العاملُ جزءاً من الربح لثالث، لم يخفَ على الفقيه كوْنُ ذلك فاسداً مفسداً إذا نشأ الشرط من جهة العامل، وإنما ينتفي الإشكالُ في هذا الطرف من جهة إمكان صدور الشرط عن غرضٍ للعامل، وإذا لاح هذا، ابتنى عليه التشارط من الجانبين؛ فإنّ في جريان التشارط ثبوت الشرط من جانب العامل لا محالة. فلو وجد شرطٌ من جانب المالك، وقبولٌ من العامل، فهو التشارط بعينه، فإن قبول الشرط من العامل شرطٌ، وسرّ ذلك أن الربح في هذه المعاملة وإن كان مستنده رأسَ المال، فهو في حكم المحصَّل بعمل العامل، فإذا قُسم، فليقسم على وفق الشرع، وذلك بأن يُفرضَ بين المالك والعامل، فإن فرضت قسمةٌ، على خلاف هذه القضية، كانت مجانبةً لوضع الشرع، فالشرع إنما سوغّ هذه المعاملة للحاجة التي صدرنا الكتاب بها.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أثبت الملك في مقدارٍ لثالث بحكم الشرط. فأما إذا قال: الثلث لك، والثلثان لي، وأنا أصرف أحد الثلثين إلى فلان، فهذا الآن شرطٌ منه وراء مقصود العقد، وهو في حكم وعدٍ منه، لم يتحكم به أحد عليه، فإن وفّى به كان جميلاً، وإن أبى، فهو على ملكه في القسط المشروط له.
4874- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الركن: أن المالك لو شرط لنفسه سوى الجزء المسمى من الربح انتفاعاً ببعض أصناف الأموال، مثل: أن يقول: أركب دابةً تشتريها، أو ما جرى هذا المجرى، فهذا فاسدٌ؛ من جهة أنه ضم إلى الربح ما ليس في معناه. وإذا لاح هذا في جانب المالك، فهو في جانب العامل أوضح؛ فإن استحقاقه عن جهة عوض عمله، فإذا ضمَّ إلى الجزء المسمَّى له شيئاً، فسد العوض، فالمالك يستحق بأصل ملكه، فإذا فسد من المالك شرطُ مزيدٍ، فلأن يفسدَ هذا من جانب العامل أولى. وهذا الفصل يتضح عند ذكر تفصيل القول في أن المالك هل ينتفع بمال القراض انتفاعاً لا يضرُّ به. وسنأتي في ذلك بفصلٍ جامع، إن شاء الله عز وجل.
وقد نجزت الأركان التي أجريناها توطئةً للكتاب، وتمهيداً للقواعد، والمسائلُ بعدها نردُّها إلى ترتيب (السواد).
فصل:
قال: "وإذا سافر كان له أن يكتري من المال مَنْ يكفيه بعضَ المؤنة... إلى آخره".
4875- إذا كان القراض مطلقاً ولم يجرِ من المالك إذنٌ في المسافرة، لم يكن للعامل المسافرةُ بمال القراض، اتفق الأصحاب عليه، وإن كانت التجارة قد تقتضي السفر إذا كسدت البضائع في موضع المعاملة؛ لأن الأسفار مظِنة الأخطار، فلا ينبغي أن يهجم عليها من يتصرف بالإذن، فالمقارض في هذا كالمودَع، فإن سافر دون الإذن، دخل المالُ في ضمانه، والعقد قائمٌ لا ينقطع، فلو سلمت البضائع، فباعها في بلدةٍ أخرى، لم يمتنع نفوذ البيع وإن لم يتفق في مكان المعاملة.
فإن قيل: إن تقيدت المعاملة بمكانها، فليتقيد جوازُ البيع بالمكان. قلنا: الإذن عام، لا ينكر عمومه، ولولا أخطار الأسفار، لما منعنا منها، والبيع لا خطر فيه.
ثم قال العلماء: إن باع المال بمثل ثمن البلد الذي جرت المعاملة فيه أو أكثر، فجائزٌ، وإن باعه بأقلّ من ذلك الثمن، وظهرِ النقصان، وبلغ مبلغاً لا يتغابن الناس بمثله، كان هذا كما لو باع في مكان المعاملة بغبْنٍ.
ثم إذا صححنا البيعَ منه، وقد تعدى بالسفر، فالثمن الذي يقتضيه من ضمانه
أيضاًً، كالأصل.
ولو وكل وكيلاً في بيع ماله، فتعدّى فيه، دخل في ضمانه، فلو باعه، لم يكن الثمن من ضمانه؛ لأن عدوانه اختص بما تعدى فيه، ولم يوجد منه تعدٍّ في الثمن.
وسبب عدوان العامل في مسألتنا المسافرةُ، وهي حاصلة في الثمن حصولَها في الأصل.
فإن قيل: هذا يستقيم لو سافر بالثمن، وزايل مكانه، فأما إذا تلف الثمنُ في البلدة التي اتفق البيع بها بآفة سماوية، لا تعد من أخطار الأسفار، فما رأيكم فيها؟ قلنا: الضمان واجبٌ، لأنه في تلك البلدة مسافرٌ، وإذا ضمَّنا المسافر، لم يقف وجوب الضمان على حصول التلف بما يختص بأخطار السفر، وإن فَرض علينا من لا يهتدي إلى مأخذ الفقه إقامتَه بتلك البلدة، فالإقامةُ في غرضنا شرٌّ من السفر؛ فإنّ الذي عنيناه بالسفر المضمِّن مزايلةَ مكان المعاملة، وهذا المعنى حاصل نوى الإقامة، أو لم ينوها.
وكل ذلك فيه إذا لم يأذن له المالك في السفر.
4876- فأما إذا أذن له في المسافرة، فلا شك أنه يسافر بالإذن أميناً غيرَ ضامنٍ.
والكلام يقع وراء ذلك في مؤن السفر، فنقول أولاً: الأعمالُ في حق المقيم قسمان:
أحدهما: ما يتولاه العامل بنفسه، وهو ما جرت به عادة التجار، كطي الثياب ونشرها، وردها إلى الأسفاط، وإخراجها منها. إذا كان من هذا القبيل، فلا يستأجر العامل عليه بأجرة يُخرجها من مال القراض. نعم. إن أراد أن يستأجر بأجرةٍ يبذلها من خاصِّ ماله، فله أن يفعل ذلك.
والقسم الثاني من الأعمال، ما لا يتولاه التاجر بنفسه غالباً، وقد جرت عادةُ التجار بالاستئجار عليه، وهو كالكيل والوزن، والنقل من مكانٍ إلى مكان، فالمقارض يستأجر على هذه الأعمال، ويؤدي الأجرةَ من مال القراض، ولو تولاه العامل بنفسه، وأراد أن يأخذ أجرةَ نفسه من مال القراض، لم يكن له ذلك، ونجعله متبرعاً بتلك الأعمال.
وأما نفقة العامل في الإقامة، فلا نحتسب شيئاًً منها من مال القراض. وكذلك أجرةُ المسكن الذي يسكنه العامل محسوب عليه من ماله.
وأجرة الحانوت الذي يتَّجر عليه مأخوذةٌ من مالِ القراض.
وإذا أراد السفر بالإذن فإنه يخرجُ من مال القراض مؤن الجمال وكذا الجَمّال، وما تمس إليه الحاجة في نقل المال وصيانته. فأما نفقة العامل في نفسه، فالذي نص عليه هاهنا أن له النفقةَ بالمعروف، ونص في رواية البويطي على أنه لا يستحق النفقة في مال القراض، فاختلف أصحابنا على طريقين، فمنهم من قطع بأنه لا نفقة له في مال القراض، وحمل نص الشافعي على المؤن المتجددة الراجعةِ إلى المال، كمؤنة الجمال وكذا الجمّال.
ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين:
أحدهما: أنه لا يستحق النفقة من مال القراض، قياساً لحالة السفر على حالة الحضر.
والثاني: أنه يستحق، لأنه بسفره هذا، احتبس عن سائر مكاسب نفسه، فانحصرت حركاته وسكناته في غرض مال القراض، بخلاف حالة الإقامة.
التفريع:
4877- إن حكمنا بأنه لا يستحق النفقة، فلا كلام. وإن حكمنا بأنه يستحقها، ففي القدر قولان:
أحدهما: أنه لا يستحق من النفقة إلا ما يزداد بسبب السفر؛ فإن هذا الزائد هو المتجدد بسبب السفر، وما سواه كان يطّرد في الحضر والسفر.
والقول الثاني- أنه يستحق جميعَ النفقة من مال القراض؛ فإنه سلم نفسه بالكلية إلى هذه الجهة، وقد ثبت أنها جهةُ استحقاق النفقة، فينبغي أن يستحق تمامَها، كالزوجة الحرة تُسلم نفسها إلى الزوج. ثم هذا القائل إنما يُثبت للعامل كمالَ النفقة، إذا كان سفره مقصوراً على مال القراض، فلو كان حمل مع نفسه مالاً لنفسه، أو لغيره، فالنفقة تقسط على مقدار المالين، فينفق من مال القراض قدر ما يخصّه، والباقي عليه في مال نفسه.
ثم اعتبر أئمتنا في هذا المنتهى مقدارَ المالين، ويجوز أن يعتبرَ مقدارُ العمل على المالين. وقد يكون المال المحمولُ مع مال القراض قليلَ المقدار من حيث القيمة، ولكنه ثقيلٌ كثير التعب فيتجه التوزيع على أجرة المثل في العملين. والله أعلم.
فرع:
4878- إذا سافر بمال القراض إلى بلدة، فاتفق أن التقى العامل ورب المال في تلك البلدة، وتفاصلا وأخذ رب المال رأسَ المال وحصته من الربح، فلو قال العامل: لو بقيت المعاملة، وبقيت الأموال، أو أثمانها في يدي، لرجعت إلى وطني بها، ونفقتي فيها، والآن إذا تفاصلنا، فاغرَم لي ما يردّني إلى وطني، فهل له ذلك، تفريعاً على قول استحقاق النفقة؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: له ذلك؛ فإن بقيةَ السفر عليه من أعمال القراض، التي كانت تقابَل بمزيدٍ على ما شُرط للعامل من الربح.
والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً من ذلك؛ فإن القراض قد انفصل، وخرج المال من يده، وإذا انكف، فليس مسافراً بمال القراض.
فرع:
4879- إذا رجع العامل من سفره، وكان قد بقي معه فضلُ زادٍ، كان أعده للسفر، أو بقيت آلات كان أعدها للسفر، كالمِطهرة، ونحوها، فقد ذكر شيخي وجهين:
أحدهما: أنه يجب عليه ردُّ الآلاتِ، وفاضلِ الزاد إلى مال القراض؛ فإن السبب الذي كان يُستحق به قد زال، وهذا هو القياس الذي لا ينقدح غيره.
والوجه الثاني- أنه لا يرد؛ فإن هذا يعد مستوعباً بحاجة السفر، وكان يُقرِّب هذا الخلافَ من تردد الأصحاب في أن جند الإسلام إذا انبسطوا في طعام المغنم، وعُذروا، لكونهم في ديار الحرب، لو انتهَوْا إلى دار الإسلام، ومعهم بقايا من تلك الأطعمة، فهل يلزمهم ردُّها إلى عُرض المغنم؟ فيه وجهان مشهوران.
وعندنا أن ذلك محمول على توسُّعٍ شهدت به الأخبار في السِّيَر، ولا يسوغ أن يتخذ أصلاً في أحكام المعاملات.
ثم إذا فرَّعنا على الوجه الضعيف هاهنا في فاضل الزاد، فلابد من الانتهاء إلى ضبطٍ فيه، والوجه أن نقول: إن كان الفاضل بحيث لو ضُم إلى ما اتفق إخراجه، وقدِّر إخراجه، لما كان ذلك سرفاً، فهذا هو الذي أراه في محل الخلاف. وإن كان زائداً على هذا، فذلك الزائد بضاعةٌ.
فصل:
قال الشافعي: "ولو اشترى، فله الرد بالعيب... إلى آخره".
4880- قد ذكرنا أن الوكيل إذا اشترى لموكِّله شيئاً، واطلع على عيب قديم به، فله أن يرده بالعيب، ولا يحتاج في تنفيذ الرد إلى مراجعة الموكِّل، وإن كان لو رضي الموكل بذلك العيب، لامتنع من الوكيل الرد بعد رضاه. والسبب في هذا أنه لو أخر الرد، وهو ينتظر رأي موكِّله، فقد يرى الموكل الرد، ولو أراد الوكيل بعد الاطلاع على ذلك أن يرد، لامتنع عليه الرد، ولصار متطوّقاً لما اشتراه، والذي عامله قد لا يصدّقه في أنه وكيل، فيخرج منه أنه يصير ملتزماً لحكم العيب، فأثبتنا له الابتدارَ إلى الرد، لما ذكرناه.
ولو قال المردود عليه: قد رضي موكلك، فالقول قول الوكيل مع يمينه، يحلف بالله: أنه لا يعلم رضاه. وهذا قد ذكرناه، وقدمناه في أحكام عهدة الوكيل.
ولو اشترى المقارض شيئاً، واطلع منه على عيبٍ قديم، فالأولى عندنا بناءُ الأمر على تقسيمٍ، فنقول: إذا خرج المشترَى معيباً، لم يخل: إما أن تكون الغبطة في الرد وكان الإمساك ينافيها، أو كانت الغبطة في الإمساك مع ظهور العيب، فنذكر ما يتعلق بالقسمين ثم نذكر استواء الأمرين، في الرد والإمساك في جهة الغبطة.
فأما إذا كانت الغبطة في الرد، فللعامل أن ينفرد بالرد، فإذا كنا نجوز للوكيل الانفرادَ بالرد، فهذا في حق المقارض أولى؛ من جهة أن للمقارض غرضاً يخصه في تحصيل جهات الغبطة، والتوقِّي عن نقيضها، ثم يَنْفصل المقارضُ في هذا المقام عن الوكيل من حيث إن الموكل لو رضي بالعيب، لم يملك الوكيل الردَّ، ولو رضي المالك بالعيب، فللمقارض الردُّ، وليس من حصافة الرأي أن يقول القائل: إذا كان المبيع لا يتمحّض حقاً للعامل، فينبغي أن يملك ربُّ المال إلزامَ العقد في بعضه؛ فإن هذا في هذا المقام غيرُ مبني على أقْدار الحقوق، والنظر في التوزيع عليها. وقد تقع هذه الواقعة، ولم يظهر بعدُ في المال ربحٌ، فالحكم على ما ذكرناه، فلسنا نُثبت للمقارض حقَّ الرد لملكٍ له في الرقبة ناجزٍ، حتى يقدَّرَ مع ملكه ملكٌ ونبني عليه ما قدرناه، ولكنَّ الحقَّ الذي أشرنا إليه أمرٌ يعم هذا المشتري في وجه الرأي من طريق التوقع، والأمور تنفصل في العاقبة.
ولو رضي هذا المقارض بما اشتراه، وأبى المالك، فلا ينصرف المشترَى إلى
جهةِ مال القراض. ومهما كانت الغبطة في الرد، فلا يتصور بقاء المبيع لجهة القراض
إلا بتراضيهما، وسنعود إلى ذلك في آخر هذا الفصل، إن شاء الله عز وجل.
4881- فأما إذا كانت الغبطة في الإمساك، وتصوير ذلك أن يشتري العامل عبداً يساوي-مع ما به من العيب- ألفاً بتسعمائة، فالغبطة في إمساكه، فلو أراد العامل أن يرد، لم يكن له ذلك؛ لأن تصرفه منوط بطلب الفوائد، وهو برده في هذا المقام مفوّتٌ حظّاً مالياً لا خفاء به. وكذلك لو أراد المالك الرد، لم يكن له ذلك، فالنظر إلى الغبطة من الجانبين.
وهذا الفصل لا يصفو عن شوائِب الإشكال، ما لم نذكر في هذا المنتهى حكمَ الوكيل، فنقول: إذا اشترى الوكيل لموكله عبداً بتسعمائة، ثم اطلع منه على عيبٍ، وكان يساوي العبد مع ذلك العيب ألفاً، فهل للوكيل-والحالة هذه- أن ينفرد برد العبد قبل مراجعة الموكل؟ اختلف أئمتنا في هذه المسألة: فذهب الأكثرون إلى أن للوكيل أن يرد، وإن كانت الغبطة في الإمساك، واعتقد هؤلاء الردَّ من حق الوكيل، وقالوا: لا سبيل إلى منعه منه، مادام هو متعرضاً لالتزامه وتطوّقه، كما صورناه في صدر الفصل، والإنسان له غرض في رد المعيب، وإن لم يتعلق به غرضٌ مالي؛ فإن من اشترى عبداً، واطّلع منه على عيبٍ قديم، وكان يساوي مع ذلك العيب أكثر من الثمن المسمى، فحق الرد ثابت إجماعاً، وإن لم يكن للراد غرضٌ مالي، فكذلك الوكيل إذا كان يتعرض لالتزام العيب، كما نبهنا عليه، فله أن يبتدره على خلاف الغبطة، فيردّه، هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من منع الوكيل من الرد في هذا المقام؛ فإن في الرد-لو ابتدره الوكيلُ- تخسيراً للموكِّل وإحباطَ جزءٍ من المالية عليه، وعيافةُ الوكيل عيبَ العبد بتقدير أنه قد يلزمه، لا يعارض ناجز ملكِ الموكل، وينبني عندنا على هذا الأصل أن الوكيل بشراء العبد لو اشترى عبداً معيباً، مع العلم بعيبه، ولكنه كان مغبوطاً غيرَ مغبون، وقد وكله موكله بشراء العبد مطلقاً، فهل يصح منه شراءُ هذا العبد لموكِّله؟ هذا يخرّج على الوجهين في النظر إلى العيب والغبطة، ففي وجهٍ يجوز، ثم للموكل حقُّ الرد إن أراد، وفي وجهٍ لا يقع العقد عن الموكِّل؛ لمكان العيب المعلوم. وكان شيخي يذكر وجهاً ثالثاً ويقول: إن كان يشتريه للتجارة، فينعقد البيع عن الموكل، وله الخيار، وإن كان يشتريه للقُنية والخدمة، فلا يقع العقد عن الموكل. وهذا حسن لا بأس به.
4882- ونحن نعود بعده إلى المقارض، فنقول: ما ذهب إليه معظم الأئمة في الطرق أن المقارض لا يملك الردَّ إذا كانت الغبطة في الإمساك؛ فإن تصرفاتِه مُدارةٌ على رعاية الأغراض المالية.
ومن أصحابنا من ألحق المقارض بالوكيل فيما ذكرناه من أنه هل يملك الرد؟ وهذا متِّجه؛ فإن حطّ رتبته عن الوكيل لا وجه له فيما رتبناه، ونظمناه، وإلى هذا مال جوابُ القاضي رضي الله عنه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الغبطة في الرد، أو كانت الغبطة في الإمساك.
4883- فأما إذا استوى الأمران، ولم يترجح أحدُهما على الثاني في غرضٍ ماليٍّ، فلا شك أن المقارض له أن يرد؛ فإنه مالكٌ للتصرف، فإذا كان يملك بيعَ هذا العبد بثمن مثله، فينبغي أن يملك ردّه واستردادَ الثمن المبذول.
4884- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل: أن الغبطة إذا كانت في الإمساك، كما تقدم تصويره، فإذا قلنا: للمقارض الردُّ مع ذلك، وهو مسلكٌ بعيدٌ، لما فيه من التخسير، ولكن إذا فرعنا عليه، فيجب أن يملك ربُّ المال الردَّ أيضاًً؛ إذْ هو أولى بذلك، وهو مالك الأصل، غيرَ أن العامل إذا ردَّ، ارتد الملك وانتقض العقدُ، وإذا ردّ المالكُ، ولم يرض العامل بالردّ، نظر: فإن كان وقع العقد بعينٍ من أعيان مال القراض، فالرد يتضمن نقضَ العقد من المالك أيضاًً، وإن كان العقد وارداً على الذمة مصروفاً بالنية إلى جهةِ القراض، فردُّ المالك لا يتضمن نقضَ العقد، ولكنه يتضمن صرفه إلى المقارض، فعليه الثمن، وله المبيع.
فلو فرض مثل ذلك في الموكِّل والوكيل، فإن لم يعترف البائع بكون المشتري وكيلاً، فالأمر على ما ذكرنا في المقارض العامل، وإن اعترف بكونه وكيلاً، ولم يردّ الوكيلُ مقصراً، أو راضياً، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن العقد ينفسخ؛ فإنه لا حظ للوكيل فيه.
والثاني: أنه يرتد إلى الوكيل، وينقلب العقد إليه؛ فإن العقد ورد على ذمته، ثم لم يوجد منه ردُّه مع تمكّنه منه، ولم يجد نفاذاً على الموكل. وهذا الوجه يشير إلى أن الوكيل بالشراء الوارد على الذمة عرضةٌ لأن يكون هو المتملّك، وينقدح إذا حكمنا بأن العقد يرتد إلى الوكيل أن نقول: نتبين أن العقد وقع له إذا انعقد؛ فإنّ صَرْفَ الملك من الموكل بعد حصوله له إلى الوكيل من غير عقدٍ جديد بعيدٌ، وظاهر القياس أن الملك ينقلب إلى الوكيل على نعت التجدّد ولقد كان واقعاً للموكل.
هذا حاصل الغرض فيما يتعلق برد العامل ورد المالك.
4885- ومما جرى الرسم بذكره أن المردودَ عليه لو قال للوكيل: قد رضي موكلك، فلا ترد، فلا يملك الوكيل الردَّ، ما لم يحلف على نفي العلم، كما أشرنا إليه، وهو مستقصىً في كتاب الوكالة.
ولو قال المردود عليه للعامل: لا ترد؛ فإن المالك قد رضي به، فقد قال
الأئمة: يردُّ المقارض من غير يمين؛ فإنه يملك الرد، وإن اعترف برضا المالك، وهذا متجه إذا كانت الغبطة في الرد، فأما إذا كانت الغبطة في الإمساك، فالتفصيل فيه ما قدمناه. فليتبع الناظرُ تأصيلَنا، وتفصيلنا في ذلك، يَرْشُد، إن شاء الله.
فصل:
قال: "لو اشترى وباع بالدين، فضامنٌ إلا أن يأذن له... إلى آخره".
4886- فأما بيعُ سلع القراض نسيئةً، فممتنعٌ، لا شك فيه، لما في النسيئة من الغرر، ولسنا ننظر إلى غرض التجارة في ذلك، صائرين إلى أن البيع إذا كان من مليء، وفيٍّ، وحصل مع ذلك التوثّقُ برهنٍ، أو كفيلٍ، فهذا مما يعتاده التجار، من ضروب التجارة؛ فإن هذا تصرفٌ مستفادٌ بالإذن، فكان محمولاً على مطلق الإذن. وأمرُ الوكيل بالبيع والابتياع إذا جرى مطلقاً، نافى النسيئة، ونزل منزلة العقد لو فرض مطلقاًً، ولو كان البيعُ والشراء مطلقين، تضمَّنا حلولَ العوض.
وهذا فيه ضربٌ من التلفيق؛ فإن معتمدنا في بيع الوكيل العرفُ، ولأجل ذلك منعنا بيعَه بدون ثمن المثل، إذا كان موكلاً بالبيع مطلقاً، فكان لا يمتنع أن يتعلق متعلق بقرينة الحال في قصد التجارة: ويسوِّغُ من المقارض في استصلاح المال ما يجوز من أب الطفل، ولكنّ المانعَ منه أن الولاية تُثبت رتبةَ الاستقلال للولي، والشفقةُ المعتضدةُ بالعدالة والديانة تُؤَمَّنُ من بوائقِه؛ فقيل له: تصرف في مال طفلك تصرفَك في مال نفسك، إذا كنت ترعى الغبطةَ، وصلاحَ المال. والقراضُ دائرٌ بين مستقلّيْن، لا ينتظم التصرف بينهما إلا باللفظ، والأغراض تختلف اختلافاً بيناً؛ فلم يمكنا أن نترك اللفظ على عُرفٍ مطّردٍ؛ فمن التجار من لا يبيع نسيئةً أصلاً، ولا يشتري نسيئة ويُعدُّ صاحبَ النسيئة على مجازفةٍ وغرر. وهذا يغلب في معظم الأزمان. فإن لم يتّحد الغرض، ولا متعلّق إلا اللفظ، فمطلقه يقتضي الحلولَ في البيع، والشراء.
فإن قيل: إن ظهر تفاوتُ الأغراض في البيع نسيئةً؛ من جهة أنه يتضمن إزالةَ اليد عن الملك، وانتظارَ الثمن، والطوارقُ تطرق، والعوائق تطرأ فهذا متَّجهُ. أما الشراءُ بالنسيئة، فما المانع منه؟ قلنا: قد لا يؤْثر أصحابُ الديانات بقاءَ التبعات، واشتغال الذمم، وهذا غير مُنْكَرٍ في عادات كثير من الناس.
هذا منتهى القول.
ثم إذا أبطلنا البيعَ نسيئة، ولم يصر المقارض متعدياً بنفس البيع حتى يسلّمه، فإذا سلمه صار غَاصباً، والمشتري منه مشترٍ من الغاصب، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصىً في كتاب الغصب. فأما إذا اشترى شيئاًً مؤجلاً، فمن ضرورةِ التأجيل وقوعُ الثمن في الذمة، فلا ينصرف ما اشتراه إلى جهة القراض، ولكنه ينفذُ عليه. وهذا واضح.
فصل:
قال: "وهو مصدَّق في ذهاب المال، مع يمينه... إلى آخره".
4887- لم يختلف علماؤنا في أن يد المقارض يدُ أمانة فيما يتلف في يده من غير تقصير، فلا ضمان عليه فيه. ولو ادّعى تلفاً، وكان ما ادعاه ممكناً، فأنكر رب المال، فالقول قول المقارض مع يمينه. ولا يشترط في تصديقه مع يمينه أن يغلب على القلب صدقه، بل يكفي إمكانُ صدقِه، وبيان ذلك: أنه لو ادَّعى احتراقَ شيء من المال، وكان حانوته، أو مسكنهُ في مَحِلَّةٍ وقع فيها حريقٌ ظاهر، فالظاهر صدقه، ولكنّا نحلّفه لو ادّعى ذهابَ المال بجهةٍ لم تظهر، كسرقةٍ ونحوِها، ولكن كانت الجهةُ ممكنة، فإنه يصدّق مع يمينه.
ولو نسب الضياعَ إلى جهةٍ يُعلم أنها لم تكن، مثل أن يدعي احتراق ثياب نهاراً في حانوتٍ بارزٍ للناظرين، وذكَر وقتاً لو جرى فيه حريق، لم يخف وقوعُه، فقوله مردود؛ إذ لا إمكان على الوجه الذي قال.
ولو ادعى ضياعَ المال مطلقاً من غير أن يذكر جهة، صُدِّق مع يمينه، ولم يكلَّف ذكر جهةِ الضياع. والقول في المقارض في ذلك كالقول في المودَع.
4888- ولو ادعى المقارض ردَّ طائفةٍ من المال على رب المال، فالذي قطع به القفال أنه مصدّقٌ مع يمينه، ومذهب القفال طردُ ذلك في الأمناء كلَّهم.
4889- وقد قدمنا ترتيبَ العراقيين وتقسيمهم في الأمانات. ونحن نعيدُه لغرضٍ لنا.
قالوا: إن لم يكن للمؤتمن أرَبٌ في الأماناتِ، ولا منفعةٌ، وإنما كانت المنفعةُ كلُّها في الحفظ لرب المال، فإذا ادعى هذا المؤتمن ردَّ الأمانة صُدِّق مع يمينه.
وإن كان للأمين منفعةٌ فيما في يده كالمرتهن في العين المرهونة، فإذا ادّعى ردَّ الرهن، لم يصدَّق إلا أن يقيم بينةً، والقول قولُ الراهن مع يمينه، وطَردوا هذا في يد المستأجِر في العين المستأجَرة؛ فإنه قبضها لمنفعةِ نفسه.
وإن تردد الأمر، فكان للمؤتمن غرضٌ فيما في يده، وكان للمالك غرضٌ أيضاًً، فإذا ادّعى مَنْ هذا وصفُه الردَّ، فقد ذكروا وجهين:
أحدهما: أن القول قولُ المؤتمن الذي يدعي الردَّ؛ لأن المنفعة ليست خالصةً له.
والوجه الثاني- أن القول قول المردود عليه، وضربوا في هذا القسم مثالين:
أحدهما: الوكيل إذا قبض شيئاًً لبيعه بأجرةٍ، ثم ادعى ردَّه، ففي المسألة وجهان.
والثاني: المقارض، إذا ادّعى الردَّ على رب المال.
ولم يختلفوا أن الأمناء بجملتهم لو ادّعَوْا تلفَ المال في أيديهم، صُدِّقوا مع أيمانهم. وإنما هذا التفصيل للعراقيين فيه، إذا ادعى المؤتَمنُ الردَّ على المالك. ثم بنَوْا على هذا، وقالوا إذا لم يصدقوا المؤتمن في دعوى الرد، فمؤنة الرد عليه، وإن كنا نصدقه في دعوى الرد، فمؤنةُ الرد على المالك؛ فأتبعوا مؤنةَ الرد وجوبَ التصديق عند دعوى الرد، وطبقوا الوفاق على الوفاق في النفي والإثبات، والخلاف على الخلاف.
هكذا حكاه القاضي عن طريقهم، وهذا بعيد جداً، ولم يصح عندنا من طُرقهم إلا الترتيبُ الذي ذكرناه في أن من ادّعى الرد هل يصدق؟ فأما إيجابُ الردّ ومؤنته، مع القطع بأن اليدَ يدُ أمانة، فبعيدٌ عن قانون المذهب، ويبعد كل البعد أن يجب على المرتهن والمستأجر مؤنةُ الرد.
4890- وأما القفال، فإنه قطع بتصديق كل مؤتمن في دعوى الرد إذا لم تكذبه المشاهدة. وأجرى المرتهن والمستأجِرَ والمقارضَ والوكيلَ مجرى المودَع، ونزَّل دعوى الرد في جميع هؤلاء منزلةَ دعوى التلف، وسلم العراقيون دعوى التلف، والتصديقَ فيها مع اليمين، وإنما خالفوا في دعوى الرد، كما ذكرناه.
4891- فحاصل المذهب أن طريقة المراوزة التسويةُ بين الأمناء وبين دعوى الرد والتلف، والقطعُ بأنه لا يجب على أمينٍ ردٌّ، وإنما عليه التخلية بين المالك وبين ملكه. وإذا كان هذا أصلَهم، فيستحيل عندهم إلزامُ مؤنة الرد على أمين.
والعراقيون وافقوا المراوزة في المودَع، ووافقوهم في دعوى التلف من سائر الأمناء، ورتبوا كلاماً في دعوى الرد، ولم ينقل أحدٌ عنهم التزامَ مؤنة الرد، إلا القاضي، كما تقدم.
والذي يدور في النفس من ترتيبهم شيئان:
أحدهما: أن المستأجر ليس يتمحض انتفاعُه مع بَذْله العوض، وفي انتفاعه تقريرُ الأجرة، وكان لا يبعد عن أصلهم إلحاقُ ذلك بما لا يتمحض فيه انتفاع صاحب اليد، وعندي أني قدمت هذا فيما سبق.
والذي نجدَِّدُه الآن أن قياس طريق المراوزة أن المقارض لو قال: رددتُ على المقارض رأسَ المال، وحصتَه من الربح، وهذا الباقي في يدي حصتي أنه يصدق، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الذي يبقى في يده عِوضُ عمله، ولا يسلّم له عوض عمله إلا بأن يثبت التسليمُ في رأسِ المال، وقسطِ الربح، فيؤول الخلاف في هذا إلى حكم المعاوضة، وهذا إن طُرد فيه قياسُ تصديق المقارض في نهاية الإشكال. نعم، لَوْ لم يتفق ربحٌ، وادّعى المقارض ردّ رأس المال بكماله، فتصديقه حكم الائتمان.
ولا شك أن المراوزة يطردون قياسهم في تصديق المقارض؛ فإن ما ذكرناه من التصاق حكم المعاوضة بالأمانة لم يوجب إثبات حكم الضمان بعلقة المعاوضة، وكأن المشروط للمقارض ليس له حقيقةُ المعاوضة. وقد قال العلماء: القراض في ابتدائه وَكالة، وفي انتهائه إذا ظهر الربح شركة. وسيأتي ذلك مشروحاً في المسائل إن شاء الله.
فصل:
قال: "ولو اشترى من يعتق على رب المال بإذنه عَتَق... إلى آخره".
4892- العامل إذا اشترى ابنَ ربِّ المال أو أباه، فلا يخلو: إما أن يشتريه بإذنه، أو دون إذنه، فإن اشتراه بغير إذنه، لم ينصرف الشراء إلى جهة القراض، ولم يخل إما أن يشتري بعين المال، أو يشتري مطلقاً في الذمة. فإن اشتراه بالعين، فالشراء باطل؛ لأنه مأذونٌ في التجارة المربحة، وهذه صفقة إن حكمنا بها خاسرة، فينبغي أن يكون المرعي في القراض أعواض المال، لا غيرها.
ولو اشتراه في الذمة، صح الشراء، وانصرف إلى العامل.
وخرج من مجموع ذلك أن التسليط على التجارة، والإذنَ فيها، لا يملّك العامل شراء من يعتق على الآمر.
ولو أراد العامل أن يشتري جاريةً كانت زوجة رب المال، أو أراد أن يشتري زوجَ ربةِ المال، فهل يصح ذلك تلقياً من مطلق الإذن في التجارة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يصح لما فيه من الإضرار، ونحن نعلم خروج ذلك عن إرادة الآمر وإذنه، من طريق المعنى؛ فإنه لو أراد ذلك، لنص عليه، ونبه عليه، والألفاظ العامة في هذه المسالك تُخصَّصُ بقضايا العرف، ولهذا قلنا: لا يبيع الوكيل بالإذن المطلق ما وُكّل ببيعه بالغبن الفاحش، وإن كان لفظ البيع شاملاً من طريق اللسان لكل بيع. وهذا القائل يستشهد أيضاًً بامتناع ابتياع من يعتِق على رب المال.
والوجه الثاني- أن الشراء صحيح، في الزوج والزوجة؛ فإنه يُفيد مقصودَ المالية فيهما حَسَب إفادته ذلك في سائر المماليك، والمرعيّ فيما ينصرف إلى جهة القراض، الغرضُ الذي وُضع القراض له. وإذا كان ذلك يحصل، فلا نظر إلى ضررٍ آخر يلحق من جهةٍ أخرى؛ لا مِن ماليةِ المعقود عليه ابتداءً وبقاءً؛ وبهذا ينفصل ما نحن فيه من شراء الأب وكل من يَعتِق على رب المال؛ فإن ذلك الملك لا يبقى، لو قدرنا حصولَه.
4893- فإذا تبين ما ذكرناه، فليقع الفرضُ بعده فيه إذا اشترى العامل من يعتِق على المالك بإذن المالك، فإذا جرى الشراء بإذنه، صحّ، ونفذ، ثم ينقسم القول وراء هذا؛ فلا يخلو: إما أن يكون في المال ربح، وإما أن لا يكون في المال ربح، فإن لم يكن في المال ربح، فلا يخلو: إما أن يشتريه بكل المال، أو ببعضه، فإن اشتراه بكل المال عَتَق عليه، وانتهى القراض، وكان كما لو استرد المال؛ إذْ الإتلاف أو التسبب إلى التلف الحُكمي محل الاسترداد، ثم إذا نفذ العتق في الجميع، فلا شيء للعامل؛ فإن القراض صحيح والعامل في القراض لا يستحق إلا الربح، إن كان، فإن لم يكن، واتفق استردادُ المال قبل ظهور الربح، فلا شيء للعامل. وسنذكر هذا في أثناء فصول الكتاب، إن شاء الله-نعم، لو كان القراض فاسداً، وكان للعمل الذي جاء به العاملُ أجرُ مثلٍ، فله أجر مثل عمله، إذا استرد رأس المال قبل الربح، أو بعده، ولم نفصل فيما أجريناه بين أن يكون الشراء وقع بعين المال، وبين أن يقع في الذمة؛ فإن الشراء إذا كان على وَفْق الإذن، فإنه ينصرف إلى الجهة المنوية حسَب وروده عليها، لو فرض تعيين الأعيان عوضاًً، وهذا بيّن.
وما ذكرناه فيه إذا اشترى بكل المال، ولا ربح. فأما إذا اشتراه ببعض المال، ولا ربح، فيصح الشراء، وينفذ العتق، ويصير ذلك القدرُ مسترداً من رأس المال وسنذكره مفصلاً، إن شاء الله.
4894- فأما إن كان في المال ربح، فلا يخلو: إما أن يشتري بالكل أو بالبعض، فإن اشتراه بالكل، و كان رأس المال ألفاً، فربح العامل ألفاً، ثم اشترى من يعتِق على المالك بالألفين، فلا شك في نفوذ العتق في مقدار رأس المال فيه. وهو يقع نصفاً من العبد. وأما الربح إن كانا شَرَطَا وقوعَه شَطْرين، فيَعْتِقُ من الربح المقدارُ المشروط للمالك، ويحصُل من رأس المال ومن حصةِ الربحِ العتقُ في ثلاثة أرباع العبد، والربع الباقي يُنظر فيه، فإن كان المالك موسراً، ذا وفاءٍ عَتَق عليه من طريق السِّراية الربعُ الباقي، وغرِم للعامل مقدارَ حصته، وهو خمسمائةٍ في الصورة التي فرضناها، والتفريع على تعجيل السِّراية.
فإن قيل: لم تتعرضوا للقولين في أن العامل هل يصير مالكاً للربح المشروط له بالظهور، أم يتوقف جريان ملكه على المفاصلة؟ قلنا: لا حاجة في هذا المقام إلى هذا الأصل؛ فإنا وإن حكمنا بأن الملك للعامل، فالعتق يسري لا محالة، إذا كان من حصل العتق عليه موسراً.
فإن قيل: هلا خرّجتم حكماً آخر على هذين القولين، وقلتم: إذا صرنا إلى أن العامل لا يملك ما شرط له إلا عند المفاصلة، فالعتق يسري في الجميع، ولا شيء للعامل؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن نفوذ العتق في مقدار رأس المال ينزل منزلة المفاصلة باسترداد رأس المال، ولو استرد ربُّ المال رأسَ المال، وقد ظهر الربح، فيثبُت حصةُ العامل من الربح لا محالة، فإنا نُنزِل الإتلافَ والتسببَ إليه بمثابة استرداد رأس المال، واستردادُ رأس المال مفاصلةٌ، ومقاسمةٌ.
ولو كان رأس المال ألفاً، وما زاد قبل الإقدام على شراء من يعتق على المالك، ولكنه لما اشتراه كان يساوي ألفين على مكانته لو بقي رقيقاً، فهذا ربحٌ حصل بهذا العقد، فكان التفريع فيه كالتفريع على ما لو حصل الربح قبل هذا العقد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا اشترى من يَعْتِق على المالك بما يساوي رأسَ المال والربحَ الحاصلَ.
4895- فأما إذا وقع الشراء ببعض مال القراض، وقد ظهر الربح كأن كان رأس المال ألفاً، والربحُ الظاهر ألفٌ، وقد وقع الشراء بألفٍ، فالذي قطع به الأئمةُ أنه إذا عيّن هذا المقدار من مال القراض في العقد، أو كان اشترى في الذمة، ونقد الثمنَ، فالعتق ينفذ، ولا نحكم بانحصار ثمن العبد في جهة رأس المال، بل نقضي بأنه يقع شائعاً؛ فإن الربحَ شائعٌ في رأس المال، ورأسُ المال شائعٌ في الربح، والاسترداد يقع على الشيوع، فكأنه استرد نصفَ رأس المال، ونصفُ الربح على هذا الوجه يقع. ثم لا يخفى تنفيذ العتق، ولا حاجة إلى تقديرِ السِّراية، وتنزيلِ ما جرى منزلة استرداد نصفِ المال، مع اعتقاد الشيوع بين رأس المال والربح، وسنذكر على أثر هذا الفصل فصلاً جامعاً في الاسترداد، ووقوعِ المسترد على حكم الشيوع، إن شاء الله.
هذا هو المذهب الذي لا يجوز أن يُعتقدَ غيرُه.
وحكى القاضي عن العراقيين طريقةً أخرى، لم أطلع عليها من مسالكهم، على بحثي عنها، وذلك أنه قال: ذكر العراقيون أن العامل إذا اشترى من يعتِق على رب المال بإذنه، وقد ظهر الربح في المال، فإن اشتراه بقدر رأس المال عَتَق، وكأنّ المالكَ استرد رأس المال، والباقي بينهما ربحٌ، يتقاسمانه على موجَب الشرط.
وإن اشتراه بأقلَّ من رأس المال، فالثمن محسوب من رأس المال، مُنحصرٌ فيه، لا يُحسب شيءٌ منه من الربح.
وإن اشتراه بأكثرَ من رأس المال، حَسَبْنا من رأس المال على كماله، ثم حَسَبْنا الزائد من حصة المالك من الربح، ثم إن استوفى حصتَه، فالباقي للعامل، وإن أبقى من حصته شيئاً، فله البقية.
ثم لما حكى القاضي هذا قال: هذا الذي ذكروه غلطٌ، ولا شك أن ما حكاه غلطٌ، ولكن أخشى أن يكون الناقل غالطاً؛ فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا اشترى العامل بإذن رب المال من يعتق عليه، وقد بان من سرّ الفصل أن مغزاه يرجع إلى استرداد طائفة من المال، وتفصيلُ الاسترداد، وتحقيق الشيوع فيه سنذكره متصلاً بهذا الفصل.
4896- والعبد المأذون له في التجارة إذا اشترى أبَ المولَى، فلا يخلو: إما أن يشتريَه بإذنه، أو دون إذنه، فإن اشتراه بإذنه، نُظر: إن لم يكن عليه ديْن، صحَّ شراؤُه، وعَتَق على المولى، وإن كان عليه دَيْن، ففي عتقه عليه قولان.
وقرّب الأصحاب ما في يد المأذون إذا ركبته الديون، قبل أن يحجر القاضي عليه، من المال المرهون، وذكروا قولين في أن السيد لو أعتق عبداً مما في يد عبده المأذون، وقد ركبته ديون، فيكون كما لو أعتق الراهن العبد المرهون، وكذلك العبد في التركة التي تعلق الدين بها، فإذا أعتق الوارث عبد التركة، فهو بمثابة الراهن، فإذا اشترى العبدُ بإذن المولى من يعتِق عليه، وعليه ديون، فإن جرى ذلك برضا الغرماء، صحّ، ونفذ العتق، وكذلك القول فيه إذا أعتق المولى عبداً بإذن الغرماء، والعبدِ المأذون، فالعتق ينفذ نفوذَه من الراهن في المرهون، عند إذن المرتهن. وقد ذكرت مجامع أحكام المأذون فيما تقدم، وأخرت جملاً من أحكامه إلى كتاب النكاح.
ولو اشترى العبد المأذون بغير إذن مولاه من يعتق عليه، فليقع الفرض فيه إذا لم يكن عليه دَيْن، ففي صحة الشراء قولان منصوصان للشافعي رضي الله عنه:
أحدهما: لا يصح، وهو اختيار المزني، لأنه مأمور بالتجايرِ المربحة، والذي اشتراه ليس ممّا يُتَّجرُ فيه، وقد يكون فيه استيعابُ المال، فشابه العبدُ المأذونُ في ذلك العاملَ في القراض، وقد قطع الأئمة بأن العامل في القراض لا يصح منه أن يشتري من يعتِق على رب المال، فليكن المأذون له في التجارة بهذه المثابة.
والقول الثاني- أن ابتياعه يصحّ، لأنه مستخدمُ السيد، ومأمورُه، وما يصدر منه في امتثال أمر المولى، يقع خدمةً مستحقة عليه، فيليق به أن يرعى في حقه مطلق الأمر، وقد أذن له في الشراء، والعامل مَبْنَى أمره على التجارة؛ فإنّ عِوض عمله فيما يحصله من الربح، فكانت تلك المعاملة متقيدةً بالتجارة، ومعاملةُ العبد خدمةٌ، كما ذكرناها.
هذا ما قيل في توجيه القولين.
وفي هذا فضلُ نظرٍ عندي، فيجب أن يقال: إن قال لعبده: اتّجر في هذه الأموال، فإذا اشترى من يعتِق على المولى، لم يصح؛ لأن ما جاء به لا يسمى تجارة.
وإن أطلق له التصرف، ولم يتعرض لذكر التجارة، وما يدل عليها، فإذا اشترى من يعتِق على مولاه-والحالة كما وصفناها- فيحتمل قولين.
ولو قال للعامل: تصرف، ولم يقل له: اتّجر، فلا يصح من العامل أن يشتري من يعتِق على رب المال قولاً واحداً؛ لأن المعاملة وإن لم تتقيّد بالتجارة، فقرائن الأحوال، ومقتضى المعاملة، دالةٌ على قصد التجارة. هذا ما لابد منه.
4897- ومما يتصل بما نحن فيه أن الرجل إذا وكل وكيلاً، حتى يشتري له عبداً، وذكر بعض صفاته، فلو اشترى له من يعتِق عليه، وتوكيله إياه ليس مقيداً بالتجارة، فقد اختلف أصحابنا: منهم من قال: يصح ذلك من الوكيل، ويعتِق على الموكِّل؛ من جهة أن التجارة غيرُ محققة، والتصرف مع الوكيل خاص.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح ذلك من الوكيل؛ فإن قرينة الحال تدل على أنه يبغي منه عبد قِنْية، أو عبد تجارة، فإذا اشترى مَنْ يعتِق عليه، لم يكن ما جاء به من القبيلين، فبطل.
هذا إذا وقع شراؤه بعين مال الموكل، فأما إذا اشترى في الذمة، فإن صححناه عن الموكل، فلا كلام، وإلا فينفذ العقد على الوكيل، ثم لا يعتِق، فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه القولُ في العامل، والعبدِ المأذون، والوكيل بالشراء.
فأما العامل، فلا يصح منه أن يشتري لرب المال من يعتق عليه من غير إذنٍ، لتمحّض قصد التجارة من المعاملة.
والعبد المأذون إذا اشترى بغير إذن مولاه من يعتق عليه، ففيه القولان المنصوصان، وسببُ تردد القول ما ذكرناه، من أن العبد ليس يعمل لنفسه، وإنما هو مأمور من جهة غيره.
والوكيل بشراء عبدٍ يتأخر في المرتبة عن المأذون له في التجارة، وشراؤه من يعتِق على موكله يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه. وهو على حالٍ أولى بالنفوذ من شراء العبد المأذون.
ثم إذا لم يصح شراء العبد المأذون، فلا كلام، وإن صححناه، لم يخل: إما أن يكون عليه دين، وإما أن لا يكون عليه، فإن لم يكن عليه دينٌ، ففي نفوذ العتق قولان، كما تقدم ذكرهما.
4898- فأما إذا اشترى العامل ابنَ نفسه، أو أبا نفسه، فلا يخلو إما أن يكون في المال ربحٌ، وإما أن لا يكون في المال ربحٌ، فإن لم يكن في المال ربحٌ، وكان اشترى بعين مال القراض من يعتِق عليه نفسِه، صح الابتياع، ووقع المشترى ملكاً لرب المال، ولم يعتِق.
وإن كان ظهر في المال ربح، وقلنا: إن العامل لا يملك الربح إلا عند المفاصلة، فيصح الشراء في هذه الصورة، ولا يعتِق على العامل.
فأما إذا قلنا: إن العامل يملك من الربح ما شُرط له قبل المقاسمة، فقد اشترى من
يعتق عليه بعين مال القراض، فهل يصح البيع في قدر حصته من الربح؟ فعلى قولين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: لا يصح؛ فإنا لو نفَّذنا في قدر حقه العتقَ، لكان ذلك خلافَ مقصود القراض؛ إذ المقصودُ منه الاستنماء والاسترباح، ولو لم نحكم بالعتق، والحالة هذه، أدى ذلك إلى أن يدخل في ملكه بعضُ من يعتِق عليه، ولا يعتق؛ فحسمنا البابَ، وقلنا: لا يصح البيع في نصيبه.
والقول الثاني- أنه يصح؛ فإنه مطلقُ التصرف في ملكه، فلا يؤاخذ فيه بما ذكرناه.
التفريع:
4899- إن قلنا: لا يصح البيع في نصيبه، فهل يصح في نصيب المالك؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وإن قلنا: إن البيع يصح في حصّته، فهل يعتِق عليه؟ فعلى قولين، ذكرهما صاحب التقريب أيضاً:
أحدهما: يعتق لثبوت ملكه.
والثاني: لا يعتق، لأنه وإن ثبت ملكُه، فهو ملكٌ ضعيف، غيرُ مستقر؛ إذ الربح وقايةٌ لرأس المال، فيجب اعتباره لهذه الجهة، إلى انفصال الأمر بالمقاسمة. والقولان يقربان من القولين في أنّ عتق الراهن هل ينفذ في المرهون؟ فإن قلنا: لا ينفذ العتق، فلا كلام. وإن قلنا: ينفذ فيه العتق، فيسري العتق إلى نصيب المالك، إن كان العامل موسراً.
هذا كله فيه إذا اشترى من يعتق عليه بعين مال القراض.
4900- فأما إذا اشتراه في الذمة، فلا يخلو: إما أن يشتريه مطلقاًً، أو ينوي نفسه، أو يصرفَه إلى جهة القراض. فإن نوى نفسه، أو أطلق، فينصرف إليه العقد، ويلزم الثمنُ ذمتَه، ويعتق عليه العبد، لا شك فيه، ولا تعلق له بالقراض.
وإن صرفه بالنية إلى القراض، خرّجنا ذلك على ما لو اشتراه بعين مال القراض. فإن قلنا: لو عين مال القراض، صح العقدُ، فيصح العقد عن جهة القراض، والتفصيل كما قدمناه. وإن قلنا: لو عين مالَ القراض، لم يصح، فإذا أورد العقدَ على الذمة، فلا يصح عن جهة القراض، ويقع عن المشتري، ويكون كما لو أطلق العقد، أو نوى نفسَه.
ومما ذكره صاحب التقريب في تمام الفصل: أنه لو اشترى العامل أباه مطلقاًً، ولم يصرح بصرفه إلى جهة القراض لفظاً، ثم قال: نويت به الصرف إلى جهة القراض، وقلنا: لو انصرف إلى القراض، لم يعتق منه شيء، فهل يُقبل منه ادعاؤه الصرفَ إلى القراض؟ فعلى قولين ذكرهما:
أحدهما: يُقبل قوله، وهو القياس؛ لأنه الناوي، وإليه الرجوع.
والثاني: أنه لا يقبل قوله؛ فإن العقد الذي يُقدِمُ عليه عقدُ عتاقة؛ فإذا أراد حمله على ما ينفي العتقَ عنه، لم يُقبل ذلك منه.
4901- ومما يتعلق بتفريع القول في العامل أن رأس المال لو كان ألفاً، فاشترى به من يعتِق عليه، ولم يظهر ربحٌ في المال، فقد ذكرنا أنه لا يعتق عليه شيءٌ؛ فإنه لم يظهر في المال ربحٌ، فلو أمسك العبدَ المشترى، فارتفعت قيمته، فصار يساوي ألفين؛ فإن قلنا: لا يملك من الربح شيئاًً قبل المفاصلة، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يملك ما شرط له، فهل يعتِق مقدار حصته، فعلى الخلاف الذي ذكرناه. فإن قلنا: إنه يعتق عليه، فهل يسري العتق إلى تمام العبد إذا كان العامل موسراً، فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يسري، كما لو اشترى والربح ظاهرٌ.
والثاني: لا يسري؛ فإنّ العتق حصل في الدوام، من غير اختيارٍ من جهته، وإذا حصل العتق بجهةٍ، لا تتعلق بالاختيار، فلا يتعلق بها السريان.
ولهذا قلنا: لو اشترى الرجل بعضَ من يعتِق عليه، عتق عليه ذلك القدر، وسرى العتق إلى تمام العبد. ولو ورث الرجل بعض من يعتِق عليه، وعتَق ما ورثه، لم يسر العتق إلى الباقي؛ لأن الوراثة تقتضي ملكاً قهرياً، والعتق المترتب على السبب القهري لا يسري. ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن الإرث، وقال: لا اختيار فيه أصلاً، بخلاف ما نحن فيه، فإنه اختار الشراء أولاً، ثم كان له اختيار في الإمساك إلى ظهور الربح، فانتظم الخلاف مما ذكرناه.
فصل:
قال: "ومتى شاء ربُّه أخْذَ ماله... إلى آخره"
4902- مضمون هذا الفصل شيئان:
أحدهما: قد نبهنا عليه في الأركان، وهو أن معاملةَ القراض جائزةٌ من الجانبين، فمهما أراد المالك فسْخَها، كان له فسخُها، وكذلك هي جائزة من جهة المقارض، فمهما أراد الفسخَ، فلا معترض عليه، وهذا بيّنٌ.
والمقصودُ الآخر يتعلق باسترداد طائفةٍ من مال القراض، وهذا من أقطاب الكتاب، ولابد من صرف العناية إلى دَرْكه، والاهتمامِ به؛ فإن معظم التعقيدات في المسائل ينشأ من هذا الأصل. ونحن نقول فيه.
4903- إذا عامل الرجل على مقدارٍ من المال، ثم استردّ بعضَه، لم يخلُ: إما أن يكون ذلك قبل ظهور الربح والخسران، وإما أن يستردّ بعد ظهور الخسران في رأس المال. فإن لم يكن ظهر ربحٌ، ولا خسرانٌ، حُطَّ ذلك المقدار المسترد من رأس المال، ولم يَخْفَ رجوع رأس المال إلى المقدار الباقي، فعليه يُبنى الربح والخسران، وكأن المعاملةَ وقعت على ذلك المقدار أول مرة.
وإن ظهر ربحٌ في المال، وفرض استرداد طائفةٍ، فغرض هذا الفصل يُبيّن شيئين:
أحدهما: اعتقادُ الشيوع في رأسِ المال والربحِ في حكم الاسترداد.
والثاني: أنه إذا اتّفق ربحٌ، ثم اتّفق بعده خسران من غير تقدير استرداد، فالربح وقايةٌ، والخسران محسوب منه، لا خلاف فيه. فأما إذا أتى الخسرانُ على الربح، ولم يبق منه شيء، ثم فرض بعده نقصانٌ، فهو محسوب من رأس المال.
فإذا ظهر ما ذكرناه صوَّرْنا صورةً، وبيّنا فيها غرضنا، فنقول: لو كان رأس المال مائةً؛ فربح العامل عشرين، ثم استرد ربُّ المال عشرين، ثم خسر العامل عشرين، فليس لرب المال أن يقول: قد دفعت مائةً، وأخذتُ عشرين، وفي يدك الآن ثمانون، فلا لي، ولا عليّ، ولا حق لك أيها العامل، بل للعامل أن يقول: هذه العشرون التي هي خسرانٌ لا يلزمني جبرُها؛ فإن لي أن أنكف عن العمل، وأما العشرون التي أخذتَها، فقد كان السدس منها ربحاً وهو ثلاث دراهم وثلث، فقاسمني ذلك المقدارَ من الربح، فلي منه نصفه.
وهذا يُحقِّق أن المسترد يقع شائعاً على نسبة رأس المال والربح.
ولو كان الربح عشرين، ورأس المال مائة، فكل مقدارٍ يعرض أخذُه يقع على نسبة الربح ورأس المال، والعشرون من المائة والعشرين سدس الجملة، فإذا أخذ ربُّ المال عشرين، فسدُس ما أخذه ربحٌ، وخمسة أسداسِه من رأس المال.
4904- ولو كان رأس المال مائة فخسر أولاً عشرين، ورجع المال إلى ثمانين، ثم استرد ربُّ المال في حالة الخسران عشرين، ثم ربح العامل عشرين، فصار ما في يده ثمانين، فلو قال صاحب المال: دفعتُ مائة وأخذت عشرين وهذه ثمانون في يدك، فلا شيء لك. فللعامل أن يقول: العشرون التي أخذتَها كانت في الأصل خمسةً وعشرين، والخسران مفضوضٌ على جميع رأس المال، وحصةُ كل عشرين منه خمسة، فلم يبق في يدي على هذا التقدير من رأس المال إلا خمسة وسبعون وأنا إنما أجبر خسران ما بقي في يدي فأما ما تستردُّه مني، فلا ألتزم جبران خُسرانه، فإذا بقي في يدي خمسة وسبعون، وإذا أنا حصَّلتُ خمسة وسبعين، فقد جبرتُ ما عليّ جبرُه، إذا كنت أتمادى على التصرف، وفي يدي الآن ثمانون، فخمسةٌ منها ربح لا تحسب في جُبران، فنقسمها بيْننا على الشرط.
وقد تحصّل مما ذكرناه شيوعُ الخسران في المال على حساب شيوع الربح فيه.
4905- ونحن نذكر صورةً أخرى في تمهيد ذلك ذكرها ابن الحداد، فنقول: إذا كان رأس المال مائة، فخسر العامل ورجع إلى تسعين، ثم استرد ربُّ المال من التسعين عشرة، فالقدر الذي يستردّه من المال يخصُّه قدرٌ من الخسران، وذلك القدر لا ينجبر بما سيتفق من الربح بعدَ ذلك؛ فإنه لو استرد جميع المال، لانقطع أثر الجبران بالكلية، فإذا استرد قدراً، فما قابل ذلك القدرَ من الخسران، لا يتقدّر فيه الجبران، فنقول: لما خسر عشرة، قسَّطْنا العشرة على تسعين، فخص كلَّ عشرة منها تسعُ العشرة، وهو درهمٌ وتُسع، فلو ربح العامل بعد ذلك، وبلغ المال مائة وخمسين، فكم يكون قدر رأس المال؟ معلوم أنه استرد عشرة في الوقت الذي كان في المال خُسران عشرة، وقد خص ما استرده تُسعُ العشرة، وهو مما لا ينجبر، فيحط من المئة أحدَ عشر وتسعُ درهم، فيبقى ثمانية وثمانون، وثمانية أتساع درهم، فهذا رأس المال من المائة والخمسين، والباقي ربح، يقتسمانه على الشرط بينهما.
ولو دفع إليه مائةً، وَرَبِحَ، فصار مائة وخمسين، ثم إن المالك استرد من الجملة خمسين، فالربح مقسطٌ على جميع المال، فإذا استردّ خمسين، فنقول: ثلث ما استرده ربح شائع مشترك بين المالك والعامل.
وبمثله لو استرد خمسين كما ذكرناه، ثم خسر العامل، فرجع ما في يده إلى الخمسين، فنقول: ثلثا الخمسين المستردّة تحسب من رأس المال، وثلثُها يحسب من الربح، فقد نقص من رأس المال ثلاثة، وثلاثون، وثلث، وعاد رأسُ المال إلى ستة وستين وثُلثيْن، والربح من المقبوض ستةَ عشرَ وثلثان، فإذا خسر العامل كما ذكرناه، وسلم هو مما قبضه من الربح نصفَه إلى العامل، إن كان الشرط كذلك، وهو ثمانية وثلث، فإنّ المسترد ربحاً لا يخرج عن كونه ربحاً بما يتفق من الخسران. وإنما يكون الربح وقايةً لو بقي في عُرض المال، وهذا كما أن ما يخص المسترد من الخسران لا يلحقُه الجبران بالربح الطارىء.
هذا حقيقة ما ذكره الأصحاب في شيوع الربح والخسران، وبيان موقعهما في المسترد.
4906- ثم نعود بعد ذلك إلى أمرٍ متصل بفسخ القراض.
فإذا انعقدت المعاملة، ثم انفسخت بفسخٍ من رب المال، أو العامل، فإن كان قبل العمل والتصرف، أخذ رب المال رأس المال، ولا كلام. وإن كان بعد التصرف، نُظر: فإن كان المال ناضَّاً، وقد حصل ربحٌ، أخذ رب المال رأسَ المال، واقتسما الربح بينهما. وإن لم يكن ربح، أخذ ربُّ المال رأسَ المال، ولا إشكال. فلو قال العامل: أحبطتم سَعْيي، قلنا: إنك دخلت في العقد على أن تستحق جزءاً مما يحصل من الربح، ولم يحصل شيء، فلا مال لك. ولو قال: اتركوه في يدي حتى أتصرّف فيه لم نتركْه؛ إذ لا منتهى له، والمعاملة جائزة.
ولو جرى الفسخ والمال عُروض، لم يخلُ: إما أن يكون فيها ربح أو لم يكن، فإن لم يكن فيها ربح، فهل يجب على العامل تنضيضُ رأس المال ببيع العروض؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يجبر على تنضيض العروض وردّها نقداً كما كان، وهذا مما قطع به شيخي والقاضي، وإليه إشارة الشيخ أبي علي. وكأَنَّ المحققين اعتقدوا أن العامل إذا صرف النقد إلى العروض، التزم ردَّ العروض إلى النقد، وبه يخرج عن المطالبة.
والوجه الثاني- لا يلزمه ذلك، وهو الذي قطع به بعض المصنفين؛ فإنه يقول: المعاملة جائزة، وقد انفسخت، ولا تبعةَ عليّ، نقصت قيمةُ العروض أو زادت، فإلزامي البيعَ والتنضيضَ لا معنى له.
فإن قلنا: لا يلزمه البيع، أو رضي المالك بترك العروض، فقال العامل: أبيعها، ولم يكن في ضمنها ربح، فهل له بيعها على قهرٍ وكُرْهٍ من رب المال؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا؛ لأنه كفاه شغلاً، وأسقط عنه حقاً، وليس في المال ربح حتى يكون له فيه حق.
والوجه الثاني- له بيعها؛ لأنه ربما يتفق زبون فيشتريه بأكثرَ، فيحصل الربح.
وفي النفس من هذا شيء، فإذا قُوِّمت العروضُ، فأراد أن يبيع عرْضاً بما يساوي، فما عندي أنه يسوغ له ذلك على سُخطٍ من المالك؛ فإنَّا لو فرضنا البيع على هذا النسق في سائر العروض، لم يستفد العامل ببيعها شيئاً. نعم، إذا فسخ القراض، ووجد العامل زبوناً يشتري العروضَ بأكثرَ مما تساوي، فهذا محتمل؛ فإن هذا ليس ربحاً على الحقيقة، وإنما هو رزقٌ يساق إلى مالك العروض، ولا خلاف أن هذا الجنسَ محسوبٌ من الربح في دوام القراض، فهذا السرّ لابد من التنبه له.
4907- ومما يتفرع على هذا المنتهى أن القراض إذا فسخ، ووقع التراضي على ردّ العروض إلى رب المال، إذا لم يكن ربح، فلو ارتفع السوق، وظهر الربح، فهل له أن يرجع فيه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا رجوع له؛ لأنه أسقط حقّه بالتسليم، فلم يمكنه الرجوع.
والثاني: بلى؛ لأن حقه إنما يثبت في الربح بالظهور، وقد ظهر الآن، فلم يُؤثِّر إسقاط الحق قبل الظهور.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا تفاسخا، ولم يكن في المال ربح.
4908- فأما إذا كان في المال ربحٌ، فنكلّفه تنضيض قدر رأس المال.
هذا متفق عليه في هذا المقام؛ فإنه إذا كان يبغي الربحَ، فعليه أن يُتمِّمَ العملَ، وتنضيضُ رأس المال من تمام العمل، وليس كالصورة التي تقدمت، وهي إذا لم يكن ربح.
ثم إذا حصل التنضيض في مقدار رأس المال، فالذي قطع به المحققون: أنه لا يجب تنضيض الباقي؛ بل هو مال مشترك بين رب المال والعامل، وسبيله سبيل عَرْضٍ مشترك بين شريكين.
ولو كان في المال ربح، كما صورنا، فقال العامل: تركتُ حقي من الربح على رب المال، فهذا يُبنَى أوّلاً على أن العامل يملك الربح بالظهور أو القسمة؟ فإن قلنا: إنه يملكه بالظهور، لم يسقط حقه بإسقاطه، حتى يجري فيه مسلكاً مُمَلِّكاً قياساً على كل شِرْك مملوك في مال مشترك. وإن قلنا: حق العامل يثبت في الربح عند المقاسمة، فهل يسقط حقُّه بالإسقاط من غير نظرٍ إلى رضا رب المال؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يسقط؛ لأنه حق ملكٍ، وليس بحقيقة ملك، فيسقط كما يسقط حق الغانم بالترك والإعراض قبل القسمة.
والثاني: لا يسقط؛ لأنه حق متاكد، وليس عقداً يُفسخ، وليس كالمغنم؛ فإن المغانمَ ليست مقصودَ الغُزاة، وإنما مقصودهم إعلاءُ كلمة الله، والذبُّ عن دِينه.
ثم لم يختلف أصحابنا أن حق العامل يسقط من الربح بما يقع من الخسران، كما سنفصله عند ذكرنا القولين في أن العامل متى يملك الربح، إن شاء الله.
فإن قلنا: لا يسقط حق العامل بالترك على رب المال، والإعراض، فالمطالبة لا تسقط عنه بتنضيض رأس المال.
ويخرج من ذلك أن القراض يُفضي في عاقبته إلى مقتضى اللزوم؛ فإن العامل إذا لم يجد سبيلاً إلى إسقاط حقه من الربح، ودامت عليه الطَّلبة لأجل ذلك بتنضيض رأس المال، فهذا عملٌ يجب على العامل إيفاؤه إذا تحقق ظهور الربح. وإن قلنا: يسقط حق العامل من الربح، فهل تبقى عليه الطَّلبة بتنضيض رأس المال؟ القولُ في هذا كالقول فيه إذا لم يظهر ربح، ولكنه صرف النقدَ إلى العروض فهل يجب عليه تنضيضها؟ فعلى ما تقدم من الخلاف والتردد.
4909-ويتنخَّل من هذا أنه إذا لم يظهر ربح، ففي تكليفه التنضيض الكلامُ المقدم. وظاهر قول الأصحاب أنه يكلّفُ التنضيض، ولم يعرف شيخنا والقاضي غيرَه.
وإن ظهر الربح، وقلنا: لا يقدر العامل على إسقاطه، فإنه يكلف تنضيض رأس المال، وإن قلنا يملك العامل إسقاط حقه، فأسقطه، ففي تكليفه التنضيض خلاف.
والمراتب منقسمة: المرتبة الأولى- وفيها يتحقَّق الجوازُ أن تنعقد المعاملة على النقد، فالعامل على خِيَرته إلى أن يصرفه إلى العروض، ولا تكليف عليه مهما انكفَّ، فإذا صرفه إلى العروض، ترتّب الأمر إلى ظهور الربح وعدم ظهوره. وقد فصّلناه.
ولو قال العامل: قوّموا العروض، وأفرزوا مقدار رأس المال منها، وسلّموا إليّ من حساب الربح قسطاً من العروض، لم يُجَب إلى ذلك، ولم يكن له أن يأخذ من العروض سلكاً، وإن أَبَرَّت الأرباحُ على قدر رأس المال؛ فخرج من هذا الاتفاقُ على منعه من أخذ جزءٍ من الربح، حتى يفي بالتنضيض، ولو حصل التنضيض في معظم رأس المال، لم يكن له أن يأخذ بقسطِ ما نضَّ من الربح، فأخْذُ أقلِّ القليل من الربح موقوفٌ على تنضيض جميع رأس المال.
ثم لا يجب التنضيض في غير رأس المال. وكأَنَّ العقد ألزمه أن يرد رأس المال كما أُخذ، إن أراد أن يأخذ الربح.
والسبب فيه أن هذه المعاملةَ مع ما فيها من الأغرار على رعاية مصلحةٍ بيّنة، ومن أعظم أسبابها أن يلتزم العامل تنضيض العروض.
وما ذكرناه فيه إذا كان رب المال مطالِباً بالتنضيض.
فأما إذا رضي ربُّ المال بأن يُفرَزَ رأسُ المال من العُروض، ثم يقع اقتسام الربح وراء ذلك، فإن رضي به العامل أيضاً، جاز ما تراضيا عليه.
وإن رضي رب المال بأن لا تباع العروض، وأبى العامل إلا بيعها، فهل يجاب
العامل إلى مراده؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا لم يظهر في المال ربحٌ، وقال العامل: أبيع العروض، فهل يجاب العاملُ إلى مراده؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
4910- فخرج من ذلك أنه إذا كان في المال ربحٌ؛ فلرب المال المطالبةُ بتنضيض رأس المال.
وإن رضي رب المال، فهل للعامل تنضيضُ رأس المال، فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
ولو نضَّ رأسُ المال، فالذي ذهب إليه المحققون أنه لا مطالبة وراء رأس المال بتنضيضٍ، لا من جهة رب المال، ولا من جهة العامل، بل تبقى العروض مشتركة بعد تنضيض رأس المال، وسبيل الشركة فيها كسبيل الشركة في المواريث وغيرها من الجهات التي تُثبت الشركة.
وفي القلب من هذا أدنى بقية، أما إذا نضَّ رأسُ المال، فلا يبقى طَلِبةٌ لرب المال بالتنضيض هذا لا سبيل إليه.
فأما العامل إذا قال: أبيع الكلَّ، فلعل حقي يزيد بالبيع عند وجدان زبون، فهذا فيه احتمال، والأظهر أنه لا يملك ذلك؛ فإنه إذا ظهر أن ربَّ المال لا يكلفه ذلك إذا امتنع، فحمْلُه ربّ المال على البيع-مع أن رب المال لا يقدر على حمله- بعيدٌ، والذي قطع به المحققون أنه لا طَلبةَ من الجانبين، بعد تنضيض رأس المال.
فصل:
قال: "وإن مات رب المال صار لوارثه... إلى آخره".
4911- القراض من العقود الجائزة. هذا وضعه، ولا نظر إلى ما يُفضي القراض إليه من تكليف التنضيض؛ فإن ذلك في حكم الخروج عن عُهدةٍ تثبُت على حسب المصالحة، وكلُّ عقدٍ جائزٍ من الجانبين كالشركة والوكالة، فحكمه أنه ينفسخ بموت أحد المتعاقدين.
4912- ونحن نذكر تفصيل المذهب في موت المقارِض، ثم نذكر التفصيلَ في موت المقارَض، فإذا مات المقارِض، انفسخ القراضُ، ولم يكن للعامل الاستمرار على الاتّجار حَسَب ما كان يفعل في حياة ربّ المال، نعم، إن أوجبنا عليه التنضيضَ، مع فسخ العامل القراض، فذلك الأمرُ يبقى بعد موت المقارِض، وهذا هو الذي يدلُّ على أنه ليس تنضيض رأس المال مقصود القراض، وإنما عُهدةُ الشروع في القراض، فإذا كنا نرى تكليف المقارض ذلك بعد انفساخ القراض، فالوارثُ إن كان مستقلاً يكلفه ذلك أيضاً، وإن انفسخ القراض. وإن كان الوارث طفلاً؛ فالوصي يطالب العامل، وإن لم يكن وصيٌّ، فالقيّم الذي ينصبه القاضي يطالِب بذلك، وإن أراد القاضي أن يكلّفه ذلك بنفسه ويقوم على ذلك الطفل، فهو حسنٌ.
وإن أراد الوارث المستقل استدامةَ القراض، من غير إعادة عقدٍ وتجديدٍ، فلا سبيل إلى ذلك؛ فإن القراض قد تحقق انفساخُه.
ولا يمتنع ابتداءُ القراضِ في مال الطفل على شرط المصلحة اللائقة بالحال، وليكن العامل ممن يجوز إيداعُ مال الطفل عنده، أو إقراضُه منه.
ثم إن كان المال ناضّاً، وليس فيه ربحٌ ولا خسران؛ فيجوز ابتداءُ القراضِ المفيد للطفل، والمتبع في قسمة الربح ما تعلق التشارط به على حسب المصلحة. وإن كان الوصي والمقارَضُ عالمين بالنسبة التي وقع القراض عليها ابتداء، فقالا: تعامُلُنا على ما كنا عليه، لم يمتنع ذلك، إذا كانا محيطين بمعنى اللفظ الذي أبهماه، والمصلحة في أثناء ذلك كلِّه مرعيةٌ.
4913- ثم لو قال الوصي، أو الوارثُ المستقل للعامل: قررتُك على موجَب العقد الذي كان في حال الحياة، وهما عالمان كما وصفناه، فظاهر المذهب أن العقد ينعقد بلفظ التقرير، وإنا كان مشعراً بالاستدامةِ والاستصحاب؛ فإن المعنيَّ به أن يثبت هذا العقدُ المجدَّدُ على موجب العقد المتقدم، وكما يعبّر بالتقرير عن الاستصحاب، يُعبّر به عن بناء العقد على العقد.
وكان يمنع شيخي تجديدَ العقد بعبارة التقرير، وهذا التردد يشبه تردُّدَ الأصحاب في الوصية الزائدة على الثلث، إذا قلنا: تنفيذها من الورثة ابتداءُ عطية، فهل تنفذ الزيادة بلفظ الإجازة؟ ظاهر المذهب أنها تنفذ بلفظ الإجازة حملاً على أن هذا بناءٌ على سابقٍ وتأسٍّ به.
وكان شيخي يحكي وجهاً أنه لابد من لفظٍ يصلُح لابتداء التبرّع؛ من جهة الوارث، ثم كان يقول: إن استعمل الوارث الإجازة أخذاً من قول القائل: أجاز فلان فلاناً، إذا أعطاه جائزةً، فقد يجوز من هذا التأويل، فإن لم يرده، لم يجز. وإذا قال: أجزت وصية أبي، فهذا غير صالح للحمل على الجائزة، فيظهر فيه التردد.
ولو فسخ القراض في الحياة، فانفسخ، فاستعمال التقرير بناء على ما تقدم يُخرّج على ما ذكرناه؛ إذْ لا فرقَ بين أن يُفسخ القراض بالموت، وبين أن ينشأ فسخه في الحياة.
ولو انفسخ البيع بين المتعاقدين، فأراد إعادتَه على الموجب الأول، فقال صاحب المتاع: قررتُ البيع على ما كان، وقال المخاطَب: بذلك قبلتُ، فهذا على ما ذكرته.
ولو ارتفع النكاح فقال الولي للخاطب: قررتُ النكاحَ على ما كان، فقال الخاطبُ: قبلتُ، فالذي رأيته للأصحاب: أن ذلك لا يُحتمل في النكاح؛ فإنه مبنيٌّ على تعبدٍ في اللفظ ظاهرٍ، ولا تعويل فيه على اتباع المعنى، وليس يخلو النكاح من احتمالٍ إذا جرى لفظ النكاح مع التقرير.
4914- ثم نعود إلى القول في القراض، ونقول: إن كان المال ناضّاً، فتجديد القراض لا امتناع فيه على الشرط المقدّم.
وإن كان مالُ القراض عُروضاً، فأراد الوارث مع العامل أن يقرر العقد عليها، فقد ذكر العراقيون والقاضي في جواز ذلك وجهين: أما المنع، فبيِّنٌ؛ فإن هذا ابتداءُ القراض، وأما التجويز، فلست أرى له وجهاً، مع القطع بانفساخ القراض أولاً.
ومن يذكر الوجهين في هذا المقام يلزمه طردُهما فيه إذا فسخ القراض في الحياة، ثم طلب تجديده على موجب العقد الأول، وهذا بعيدٌ.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بمنع هذا إذا جرى الفسخُ والإعادة في الحياة، وخصص الوجهين بما يُبنى على الموت، والانفساخ الحاصل به.
ولم يختلف الأصحاب أن القراض إذا انفسخ بطريان الموت، أو بإنشاء الفسخ، فينقطع حكم القراض الأول.
وبيانه أنا كنا نرى الربحَ الحاصلَ وقايةً لما يتوقع من خسران، ونقصان، والآن إذا جُدّد العقدُ، فالعامل شريك في المال ولا يصير حقُّه من الربح وقاية للمال وعرضةً لجبر الخسران، نعم، لو فرض ربحٌ جديد في العقد المجدّد، فهو الذي يكون وقاية لرأس المال في هذا العقد المستفتح؛ وذلك أنا لا نشك في ارتفاع العقد الأول، والاحتياج إلى تجديد عقدٍ آخر إن أرادا تجديده، وإنما تساهل الأصحابُ في لفظ التقرير. وتجويزُ التجديد، والمالُ عروض مجاوزةٌ للحد، وتركٌ لركن العقد.
4915- مما يتعلق بما نحن فيه أن المقارض إذا مات، وكان قد ظهر في المال ربح قبل الموت، فحق العامل في ذلك الربح مقدَّم على الديون والوصايا، وحقوقِ الورثة، سواء قلنا: إنه يملك ما شُرط له بالظهور، أو يملك عند المفاصلة؛ فإن حقه متعلق بالعين، لازمٌ، لا يصادمه دينٌ ولا وصية.
قال الأصحاب: إن جعلنا العاملَ مالكاً لما شُرط له، فلا كلام، وإن لم نجعله مالكاً في الحال؛ فحقه المتعلِّق بالعين آكدُ من حق المرتهن المستوثِق بالرهن، ثم حق المرتهن مقدَّم، فحق من استحق التملكَ أولى بالتقدم.
4916- هذا كله فيه إذا مات رب المال، فأما إذا مات العامل، فلا شك في انفساخ القراض بموته، فلو أراد ربُّ المال أن يبتدىء عقداً مع وارث العامل، وكان المال ناضّاً، جاز ذلك.
وإن كان عُروضاً، فقد اتفق الأصحاب على منع إعادة العقد عليها في هذا الطرف. وهذا متَّجه.
وإنما المشكلُ ذكرُ الوجهين في الطرف الأول، وقد تكلف بعض الأصحاب فَرْقاً، فقال: المعقود عليه من المقارِض رأسُ المال، وقد انتقل هو بعينه إلى الوارث، وخلَفه فيه، فلا يبعد مع هذا حكم البناء.
والمعقود عليه من جانب العامل العملُ، وقد انقطع العمل بموته، ولا خلافة فيه.
وهذا تكلف لا أصل له، مع القطع بأن العقد ينفسخ بموت رب المال، وإنما كان هذا فقهاً، لو ساغ المصير إلى الحكم بدوام العقد، فإذا لم يكن كذلك، فلا اتجاه للالتفات إلى البناء، ولا بناء. وإنما القدرُ المحتمل ما يتعلق باللفظ، كإقامة التقرير مقام لفظ التجديد والابتداء، ومن تعدى ذلك إلى حكمٍ، فقد خرج عن قالَب الفقه.
4917- ومما يتعلق بهذا الفصل أن العامل إذا مات والمال ناض، ولا ربح، فتصوير ابتداء القراض مع الوارث هيّن.
وإن كان المال ناضاً، وفيه ربحٌ، فوارث العامل شريك في المال، فإذا فُرض ابتداء القراض معه، فقد صححه الأصحاب، وهذا على التحقيق إيراد القراض على مالٍ شائعٍ، ليس متعيناً في نفسه، وأطبق الأصحاب على جوازه.
وفي هذا فضل نظر عندنا، فإنا ذكرنا في كتاب الشركة أن الشريكين إذا كان بينهما دراهم على التنصيف ملكاها إرثاً مثلاً، فإذا عقدا عقد الشركة، فمقتضاها قسمة الربح على مقدار الملك في رأس المال، فلو فوض أحدُهما التصرفَ إلى الآخر، وشرط له مزيدَ ربحٍ بسبب انفراده بالعمل، فقد ذكرنا في ذلك تردداً في كتاب الشركة، وهذا أوانُ كشفِ القول فيه.
فالذي أراه أن أحد الشريكين إذا ترك العمل بالكليّة إلى شريكه، ورفع اليد عن ملك نفسه، وجرى مع الشريك على الشرائط المرعية في القراض، فيجب والحالة هذه القطعُ بإثبات حكم القراض، وكأن الشريك قارضه على نصيب نفسه من المال، وقد ذكرنا أن الشيوع لا يمنع صحةَ القراض، وسنذكر في ذلك أمثلةً بعد هذا، إن شاء الله.
وإذا كان كذلك، فمن ضرورة القراض أن ينفرد العاملُ بربحِ نصيبه، ويكون مقارضاً في نصيب شريكه، ومن حكم كونه مقارضاً أن يكون ربح ذلك النصيب مقسوماً بينهما على جزئيةٍ، ونسبةٍ يتوافقان عليها، فلست أرى لذكر الخلاف وجهاً في هذه الصورة، إلا إن تشبث متشبث باشتراط كون رأس المال متميزاً غير شائع، ولم أر أحداً من الأصحاب يصير إليه، أو يتشبث به.
وأنا أقول: لو كان المال بينهما نصفين، وسُلِّم العمل على شرط القراض لأحدهما، على أن يكون الربح نصفين، فهذه معاملة فاسدة، وهي بمثابة ما لو شرط رب المال على العامل أن يكون جميع الربح في رأس المال له. والذي أراه ما ذكره الأصحاب من الوجهين فيه إذا انفرد أحدهما بمزيد عمل، ولم ينفرد بكلِّه، ولم ترتفع يدُ الشريك عن نصيبه، فإذ ذاك يظهر تمحّضُ حكم الشركة.
ومن أصحابنا من احتمل فيه التفاوت في الربح؛ شرطاً لمصلحة تتعلق بالشركة على طريقة التبعية، من غير رعاية أركان القراض.
فعلى هذا يقوى المصير إلى رد الأمر إلى موجب الشركة، وإبطال اتباع الشرط.
هذا تمام البيان في موت رب المال والمقارَض، وعلينا بعدُ بقيةٌ في موت العامل سنذكره في غرض آخر بعد هذا، إن شاء الله وحده.
فصل:
قال: "وإذا قارض العاملُ بالمال... إلى آخره".
4918- إذا جرى قراض صحيح وتسلّم العاملُ المالَ، وأراد أن يقارض رجلاً آخر، نظر: فإن فعل ذلك بغير إذن رب المال، لم يكن له هذا، فإنّ إقامة العامل غيرَه مقامَ نفسه مستقلاً بذاته تتنزَّل منزلةَ نَصْب الوصي وصياً، على معنى إقامته غيرَه مقام نفسه في جميع ما هو منوطٌ به، وهذا يمتنع في الوصاية المطلقة، وكذلك يمتنع أن ينصب الوصي بعد موت نفسه وصياً، إذا لم يثبت له ذلك، والوكيل في الشغل الخاص لا ينصب وكيلاً؛ فالمقارَض إذا نصب مقارَضاً، بمثابة الوكيل في الشغل الخاص ينصب وكيلاً، ثم إذا أفسدنا ذلك من العامل، فليس قولنا فيه على قياس قولنا في فساد القراض الصادر من المالك، وسبب الفساد إخلالٌ بشرط، فإنا ننفذ تصرفَ العامل بناء على إذن المالك، و نرد أثر الفساد إلى غرض القراض، والعاملُ إذا نصب عاملاً من غير إذن المالك لم ينفذ تصرف العامل الثاني؛ فإنه ليس مأذوناً من جهة المالك، وتصرُّفُه في مال القراض-ولا إذن من المالك- كتصرف الغاصب، وسنعود إلى ذلك الآن في أثناء الفصل، إن شاء الله.
4919- هذا إذا قارض العامل رجلاً من غير إذنٍ من المالك.
فأما إذا أذن المالك للمقارَض الأول أن يقارض رجلاً، فهذا ينقسم معناه: فإن أراد بهذا الإذن أن ينسلخ المقارَضُ عن حكم القراض، وينتهض وكيلاً في معاملة إنسان، فهذا جائز، والمقارَض الأول إذا أراد ذلك في حكم السفير عن المالك، وحكم القراض بين المالك والعامل الثاني، ولا يجوز والمسألةُ مفروضةٌ كذلك أن يشترط المقارَض الأولُ لنفسه شيئاًً من الربح؛ إذا لم يعمل؛ فإنَّ استحقاق الربح يترتب على ملك رأس المال، أو على عملٍ فيه، ولم يوجد من الأول ملْكٌ ولا عملٌ، فشرْطُ شيءٍ من الربح له بمثابة شرط جزء من الربح لأجنبي، وقد أوضحنا
فساد ذلك فيما تقدم، وإن كان يعتقد جوازَ شرْط شيء من الربح له؛ من حيث إنه يسعى في تحصيل العمل بنصب العامل، فهذا طمعٌ في غير مطمع؛ فإنّ ربح القراض لا يستحق إلا بعمل القراض، وليس نصبُ المقارَض من عمل القراض، وقد حققنا هذا في أركان القراض.
هذا وجهٌ في تصوير صدور الإذن من المالك في نصب عامل آخر، وقد يُتصور ذلك على وجهٍ آخر، وهو أن يعامل المالك رجلاً والربح بينهما نصفان، ثم يقول للعامل: إن أردت أن تشرك مع نفسك عاملاً، وتجعل ما شرطتُ لك من الربح بينك وبينه على ما تتوافقان عليه فافعل، فالذي أشار إليه اختيار الأئمة أن ذلك ممتنع؛ فإنه لو جاز ذلك، لكان العامل الثاني فرعَ الأوّل، والأولُ ليس مالكاً لشيءٍ من رأس المال، ونصيب العامل على ما سيثبُتُ من الربح ليس على موجَب الشرع، وهذه معاملة يضيق فيها مجال القياس، ووضْعُ القراض على أن يكون أحد المتعاقدين مالكاً لرأس المال لا عمل من جهته، والثاني صاحبُ عملٍ لا ملك من جهته.
ومن أصحابنا من جوز القراض بإذن المالك على هذه الصورة، وقال: كأن المالك نصب مقارَضَيْن في ابتداء الأمر، ولو فعل ذلك، لم يمتنع، وربما نذكر ذلك مشروحاً في الفروع، إن شاء الله تعالى.
ثم من جوّز هذا يفرض الأمرَ في اشتراكهما في العمل؛ فأما أن يفوِّض أحدُهما العملَ بكلّيته إلى الثاني ويطمع في شيء من الربح، فلا سبيل إليه أبداً؛ لما صورناه؛ فإن استحقاق الربح من غير ملك، ولا عمل محالٌ.
هذا قولٌ كُلِّيٌّ في تصوير الإذن من المالك في مقارضة العامل رجلاً آخر.
4920- ونحن نعود إلى مقصود الفصل، والمعنى الذي ساق الشافعيُّ الكلامَ له فنفرض فيه إذا عامل المقارَض ثانياً من غير إذنٍ من المالك، ونقول فيه أولاً: هذا عدوانٌ متضمنٌ للضمان، فإذا سلّم المالَ إلى العامل الثاني، ارتبط الضمان به، ثم لا يخلو هذا الثاني: إما إن يكون عالماً بحقيقة الحال، وإما أن يكون جاهلاً: فإن كان عالماً؛ فغاصبٌ على التحقيق ضماناً وغُرْماً، وإثماً، ثم لو تلف المال في يده على علمه؛ فالضمان مستقر عليه استقراره على الغاصب من الغاصب، ورب المال بالخيار إن شاء طالب الأول، وإن شاء طالب الثاني، فإن طالب الثاني، استقر الضمان، ولا مرجع للثاني على الأول. وإن طالب الأول، فله ذلك، ثم يرجع هو على الثاني؛ إذ عليه قرار الضمان.
وإن كان العامل الثاني جاهلاً بحقيقة الحال، معتقداً أن العامل الأول مالكٌ، فحكم الضمان، والتراجع، والقرار على ما قررناه في كتاب الغصوب، في الأيدي المترتبة على يد الغاصب، مع اعتقاد كون الغاصب مالكاً. وقد أوضحنا من طريقة المراوزة أن كلَّ يدٍ لو ترتبت على يد المالك كانت يدَ أمانة، فإذا ترتبت على يد الغاصب، تعلّقت الطَّلِبة بها، ولكن ليست يدَ قرار الضمان. وذكرنا للعراقيين في ذلك اختلافاً وترتيباً.
فالمقارَض إذن على رأي المراوزة لا يستقر الضمان عليه فيما يتلف في يده؛ لأن يده يدُ أمانة. والعراقيون ذكروا في قرار الضمان عليه وعلى غيره خلافاً.
4921- وهذا الذي ذكرناه من فصل الضمان ليس مقصودَ الفصل، بل اعترض فرمزْنا إليه، وأحلناه على ما بيّناه في الغصوب. وإنما مقصود الفصل ما نبتديه الآن، ونذكر مقدمةً للمسألة قائمةً بنفسها. نقول:
إذا غصب رجل دراهمَ، وتصرَّف فيها، وظهرت أرباحٌ في ظاهر الحال، أو تصرف المودَع على خلاف الإذن، وربح، فإذا فعل ذلك، فهو غاصب، فالمنصوص عليه للشافعي في الجدبد، وهو القياس الذي لا حَيْد فيه أن تيك التصرفات إن وردت على الأعيان المغصوبة، فهي منقوضة، وإن تعددت، وبلغت مبلغاً يعسر تتبعها، وإن كانت الأعيان المغصوبة قائمةً، فهي مستردّة، والبياعات الواردة عليها فاسدة، والأعيان المأخوذة في مقابلتها مردودة على ملاكها.
هذا في التصرف الوارد على العين.
ولو اشترى الغاصب في ذمته شيئاً، وأدى الثمنَ من الدراهم التي غصبها، فبَيْعُ المتاعِ في الأصل واقع للغاصب؛ إذْ ورد على الذمة؛ وتأديةُ الثمن من الدراهم المغصوبة عدوان، وتلك الأعيانُ متَّبعةٌ مستردةٌ حيث تُلْفَى، على قاعدة الغصب.
وإذا ملك الغاصب ما اشتراه في الذمة، ثم ارتفع السعر، وباعه، فالربح له؛ فإنه ربح على ملكه الصحيح. وهذا هو القياس الذي لا يخفى مُدركه.
ونصَّ الشافعي في القديم على أن الغاصب إذا تصرف في الدراهم المغصوبة، واتفقت أرباحٌ بسبب تصرفه، فإنه يُجيز تلك التصرفات، ويفوز بالأرباح، واعتمد في ذلك مصلحة كلّية؛ من جهة أن تتبُّعَ التصرفات الكثيرة في الأمتعة التي تداولتها الأيدي، وتشتتت في البلاد عَسِرٌ، وقد لا يُوصَل إليه، هذا وجه. والآخر: أنَّا لو لم نجوّز هذا، فقد يتّخذ الغضابُ ذلك ذريعةً إلى تحصيل الأرباح؛ فإن الشراء في الذمة، ونقْد الثمن من الدراهم المغصوبة متيسّرٌ لا عسر فيه.
4922- وهذا القول ينتشر تفريعه، ونحن نبذل المجهودَ في الجمع، فنقول أولاً: التصرف الذي أورده الغاصب على الذمة يُجيزه المالك إذا كان النقد من دراهمه، ويتوصّلُ إلى الأرباح؛ فإن المعتمد في هذا القول اتّخاذُ الدراهم المغصوبة ذريعةً إلى تحصيل الأرباح، وهذا ينطبق على إيقاع الشراء في الذمة قصداً، مع بناء الأمر على أداء الثمن من الدراهم المغصوبة، فقد اتّفق الأصحاب على جريان الإجازة في عقود الذمة على هذا القول، كما قالوا بجريانها لو أورد الغاصب التصرف على الأعيان المغصوبة.
وهذا في عقود الذمة على نهاية الإشكال؛ فإن عقد الذمة-إذا لم يصدر عن إذنٍ- منصرفٌ إلى العاقد، ويعظم تفريع الأصول الفاسدة الحائدة عن النسق.
واختصاص مذهب الشافعي بإمكان التفريع سببُه التزامه الجريانَ على الأصول، فإذا فرض حَيْدٌ اضطرب تفريع المذهب، ولم يحتمل مذهب الشافعي ما يحتمله غيره من المسالك المبنية على الميل عن الأصول.
4923- ثم يعترض الآن أمور نرسلها: منها أن معظم أقوال الأصحاب مصرَّحةٌ بأن المالك بالخيار في الإجازة. ومضمونُ هذا أنه إن لم يُجز العقودَ، لم تجز، وانقلب التفريع إلى قياس القول الجديد في اتباع العقود وأعيان الأموال على موجب الشرع.
وذهب بعضُ المحققين إلى أن هذه العقود نافذةٌ كذلك، غيرُ موقوفة لتعذّر التتبع، وفي كلام القاضي إشارة إلى هذا. وهو بعيد، ووجهه على بعده أنا إن خرّجناه على الوقف، فكيف نقف عقود الذمة، ومعلوم أن عاقدها لم يقصده بها، وهذا وقف لا عهد به، فليتأمل الناظر ذلك، وليعلم أن هذا القول البعيد فيه إذا ظهرت أرباح، فإن لم يظهر، فلا مساغ لهذا القول، وليس إلا اتباع القياس.
واختلف جواب أئمتنا المفرعين على القول فيه إذا لم تكثر العقود، وسهل الوصول إلى تتبعها، فقال قائلون: القول القديم يجري، وإن كان الأمر كذلك؛ فإن النظر إلى الكثرة والقلة وإمكان التتبّع عسيرٌ، لا يهتدى إليه، والأمر المتبع في الباب ظهورُ الربح.
وكان شيخي يحكي عن شيخه القفال أن العقود إذا كثرت، وعسر اتباعها، ووجدنا الأثمان عتيدة، ولا ربحَ، فهذا القول يجري، وإن تخللت عقودُ ذمة.
4924- فحصل من مجموع الكلام أن العقود إذا كثرت، وحصل ربحٌ، جرى القولُ القديم، والتردد بعده في وقوف الأمر على الإجازة، أو وقوع العقود كذلك من غير حاجةٍ إلى إجازة. وإن أمكن تتبع العقود على يسر وقد حصل ربحٌ، فوجهان، وإن كثرت العقود وعسر التتبع ولا ربح، فوجهان. وإن لم يكن ربحٌ، وأمكن التتبع، لم يجر القول القديم. هذا هو الترتيب الحاوي.
وفيه سر، وهو أنا ذكرنا قولاً للشافعي في وقف العقود موافقاً لمذهب أبي حنيفة، وذلك القول يجري على شرطه و خاصية القول القديم في عقد الذمة إذا لم يقصد العاقد بها المغصوب منه.
4925- ومن تمام البيان في ذلك أن الغاصب لو قال: نويت بالشراء المغصوبَ منه، فقياس قول الوقف المعروف يجري هاهنا؛ فإن العقد عندنا يقف إذا فرعنا على الوقف في جانب الشراء، كما أنه يقف في جانب البيع. ولو قال مشتري السلعة: نويتُ بالعقد نفسي، أو أطلقتُه، فالمفرع على القول القديم، لا يبالي به؛ فإن معوَّلَه قطعُ الذريعة، وهذا إنما يتحقق إذا لم نبُالِ بقصده؛ فإنه ليس يعسر عليه أن يقصد نفسه أو يطلق.
والذي أراه في هذا أنه لو اشترى شيئاً في ذمته، ولم يخطر له أن يؤدي الثمن من الدراهم المغصوبة، ثم سنح له هذا من بعدُ، فينبغي أن يخرج هذا من تفريع هذا القول، إن صدقه صاحب الدراهم، وإن لم يصدقه، فالذي يقتضيه القياس في التفريع على هذا القول أنَّ تصرفه يقع لصاحب الدراهم، كما قدمناه، وقد يعترض في ذلك فرضُ نزاعٍ بين المتصرف، وبين صاحب الدراهم بأن يقول المتصرف: قد عرفتَ أن ابتياعي لهذا لم يكن على قصد تأدية الثمن من دراهمك، ولا يكاد يخفى فصْلُ هذه الخصومة، وليس على مالك الدراهم إلا أن يحلف لا يعلم ذلك منه. وهذا قد يظهر في أداء الثمن من الوديعة.
ولم يبق في تفريع هذا القول الفاسد شيء، والأصل مضطرب، والتفريعاتُ مختبطة.
4926- فإذا تمهد هذا عدنا إلى صورة القراض في غرض الفصل: فإذا سلَّم رجل إلى رجل ألفَ درهم قراضاً، فقد ذكرنا أنه ليس له أن يستبد بمقارضة إنسانٍ دون مراجعة المالك، فإذا فعل، وسلم المالَ إلى المقارَض الثاني، وعمل الثاني، وربح على تقدير أن المالك هو المقارض الأول، فلا شك أن الأول ضامنٌ غاصب، وكذلك الثاني، والتصرفات التي جرت من العامل الثاني لا تقع عن المالك الأصلي على القول الجديد، فإن ما كان منها على عين المال مردود باطل، وما كان على الذمة، فلا ينصرف إلى المالك، ولكنه ينصرف إلى المقارَض الأول؛ فإنه هو الآمر الموكّل في حق الثاني، والثاني ينويه بتصرفات الذمة، ولا يكاد يخفى تفريع القول الجديد، وإنما الغرض تفريع القراض على القول القديم.
فالذي نقله المزني عن الشافعي في (السواد) وهو الذي فهمه الأئمة من نقله:
أن المالك لو قارض الأول على شطر الربح، ثم قارض الأولُ الثاني على شطر الربح، فإذا نفذنا عقود المقارَض الثاني، وتصرفاته، وخرّجناها على حكم الصحة، فالمالك يسترد رأسَ المال، ويأخذ نصفَ الربح لجهة القرض، ثم المقارَضُ الأول والثاني يقتسمان النصف الباقي نصفين.
هذا جواب الشافعي على القول القديم، وأصل هذا القول مشكلٌ، لا يستريب الفقيه في ميله عن القياس، وهذا التفريع مائل عن قياس القول القديم. ولا يتضح الغرض إلا بأسئلة وأجوبةٍ عنها.
4927- فإن قيل: قياس القول القديم تنفيذُ التصرفات الواقعة على خلاف الإذن للمالك، وصرف جميع الأرباح إليه، وقد أوضحنا أن المقارَض الثاني في حكم الغاصب، والغاصب إذا تصرف في المال المغصوب نفذت تصرفاتُه، وانصرفت أرباحها إلى المالك. هذا سؤالٌ متّجهٌ.
ولكن يجوز أن يقال: نحن إنما نصرف عقودَ الذمة إلى المالك من غير إذن منه على خلاف القياس قطعاً، لتذرعّ الغصاب إلى التصرف في الأموال المغصوبة بوسائط عقود الذمة، فإذا كنا نرعى حق المالك، ونخالف القياس في صرف عقود الذمة إليه، فإذا تقدم منه الرضا بشطر الربح ابتداءً، لم نزد له على ما رضي، ولم نخالف القياسَ على خلاف رضاه، فهذا وجهُ دفع هذا السؤال.
فإن قيل: لم صرفتم شيئاً من الربح إلى المقارَض الأول، ولا ملك له في رأس المال، ولا عمل من جهته، والربح إنما يُستحق لجهتين: إحداهما- ملكُ رأس المال. والثانيةُ- العملُ على شرط الشرع؟ قلنا: معظم عقود القراض تقع على الذمة، والمقارَض الثاني تصرف على اعتقاد أن المقارَض الأول هو المالك، وكان ينويه بتصرفات الذمة، والقياسُ يقتضي وقوعها عنه، ثم الأرباح تتبع في منهاج القياس الملكَ في السلع، فاتجه صرف جميع الربح في عقود الذمة إلى العامل الأول، ولكنا في التفريع على القول القديم امتنعنا عن إجراء القياس مصلحةً للمالك الأصلي، وقطعاً للذريعة، كما تمهد، فلم يبعد إذاً صَرْفُ شيء من الربح إليه.
فإن قيل: إن صح هذا، فلا تصرفوا شيئاً من الربح إلى العامل الثاني، فإن حاله كحال المقارض مقارضة فاسدة. قلنا: إذا أشرنا إلى تأصُّل المقارض الأول؛ فقد جرت منه معاملةٌ مع الثاني، وإذا كنا نجيز التصرفات الفاسدة في القياس، احتمل هذا المسلكُ الوفاءَ للعامل الثاني.
فإن لجَّ السائلُ وقال: تَدْوارُكم على عقود الذمة، فيلزمكم أن تخالفوا هذا القياسَ في العقود الواردة على الأعيان. قلنا: مبنى هذا القول على التسوية بين تصرف العين والذمة، ثم يقع من قياس انصراف عقود الذمة إلى المقارض الأول تصرفاتٌ على تلك الأعيان التي يقتضي القياس وقوعها له، ومبنى هذا القول على ترك البحث وإجراء الأمر على ظواهر الحال؛ إذْ لو كنا نبحث عنها، لما قلنا بالقول القديم أبداً؛ فأقصدُ الطرق إجراء الربح على ما قاله المزني تفريعاً على القديم. هذا مع علمنا بأن هذا القولَ فاسدٌ من أصله، وإنما نلتزم تقريبَ القول على قاعدة القول القديم في الخروج عن هذه الإشكالات. والذي ذكرناه أفضى للإشكال.
4928- ثم نقول بعد ذلك: إذا انكشف السر، وظهر الأمرُ، وقد عمل المقارَض الثاني على أنَّ نصف جميع الربح له، ثم لم يسلم له إلا نصف النصف، فهل يرجع على العامل الأول؟ وكيف السبيل إلى قطع العلاقة والأمر على ما وصفناه؟
فالوجه أن نقول: أما نصف النصف، فيسلم له على القديم، وفي رجوعه على العامل الأول بنصف أجر مثل نفسه وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه يرجع عليه، لما نبهنا عليه من أن الوفاء بتمام النصف لم يُمكن، فقد تعطل شَطر عمله عن مقابل، فالوجه إثبات شطر أجر مثله على العامل الأول.
وهذا له التفاتٌ على قاعدة التغرير ونُزوعٌ إليه.
والوجه الثاني- أنه لا يستحق إلا ما سلّم له من الربح؛ فإن الجمع بين حكم الصحة والفساد متناقض، وصرفُ جزءٍ من الربح إلى العامل من حكم الصحة، وإثبات أجر المثل حكم الفساد، فلا سبيل إلى الجمع. هذا بيانُ تردد الأصحاب.
وذهب ذاهبون منهم إلى الفصل بين عبارة وعبارة، وقالوا: إن كان قال المقارَض الأول للمقارَض الثاني: خذ هذا قراضاً على أن ما رزق الله من ربحٍ، فهو نصفان بيننا، فإن كان اللفظ كذلك، لم يرجع العامل الثاني على الأول؛ لأن الله تعالى لم يرزقهما من الربح أكثر مما خصَّهما بالمقاسمة.
وإن كان قال: على أن الربح بيننا نصفان، ففي ثبوت رجوع الثاني على الأول وجهان كما تقدم.
وكان شيخي لا يفصل بين العبارتين؛ فإن العامل الثاني يفهم منهما تشطّر جميع الربح، ولو لم يفهم هذا، وتردد، كان ذلك مضاربةً على جهالة بجزئية الربح.
هذا تمام الغرض من هذا الفصل، وهو حسيكةُ الكتاب؛ لما فيها من الحَيْد عن قانون القياس. وشرطُنا بلوغُ أقصى الإمكان في كل فصل.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن حال على سلعةٍ في القراض حوْلٌ، وفيها ربحٌ، ففيها قولان... إلى آخره".
4929- مقصود الفصل الكلامُ في أن الملك في الجزء المشروط من الربح متى يحصل للعامل؟ وفيه قولان للشافعي:
أحدهما: أنه إذا ظهر الربحُ، مَلكَ العاملُ القسطَ المشروطَ له من الربح، ولم يتوقف ثبوتُ ملكه على المفاصلة.
والقول الثاني: أن العامل لا يملك ما شرط له بمجرد الظهور، حتى تنتهي المعاملة على ما سنصف انتهاءَها. وهذا اختيار المزني.
توجيه القولين على قدر الحاجة: من قال: يحصل الملك للعامل بظهور الربح، احتج بأنه يستحق الجزءَ المشروط له بالشرط، فيجب أن يملكه على مقتضى الشرط، ومقتضاه أن يملك من الربح إذا تحقق الربح الجزءَ المشروط له، وقد تحقق ظهور الربح، فإن كان استحقاق الربح مأخوذاً من موجب الشرط، فهذا موجب الشرط، ولا نعرف له مأخذاً سوى ذلك، ثم لا يمتنع مع استحقاق ما سمي له أن يبقى عليه عملٌ بعد الاستحقاق.
ومن قال بالقول الثاني، اعتمد في نُصرته مسلكين:
أحدهما: أن العامل لو ملك ما شرط له عند ظهور الربح، لصار شريكاً في المال، ثم يلزم من ذلك أن يقال: لو فُرض نقصان، لشاع في جميع المال. فإذا قيل: النقصان مُنحصرٌ في الربح، والربح وقايةُ رأسِ المال، دل ذلك على أن الملك غيرُ ثابتٍ للعامل، ولا يلزم عليه حصة المالك، فإن زيادة ملكه إن كانت وقاية لماله، لم يمنع ذلك، والمشروط للعامل ليس زيادةً في حقه، بل هو عوض كدّه وعمله، هذا مسلك في التوجيه.
والمسلك الثاني- أن العمل في القراض غير مضبوط، وهو مذكور في معاملة جائزة، فكان كالجُعالة، وحكمها أن لا يثبت استحقاق الجُعل فيها إلا عند نجاز العمل، وعمل المقارَض لا ينتجز بظهور الربح.
التفريع على القولين:
4930- إن قلنا: لا يملك العامل ما شرط له بالظهور، فرأس المال والربحُ بكماله ملكُ ربّ المال. وفرع الأئمةُ على هذا القول وجوبَ الزكاة عليه إذا كان المال زكاتياً، وانقضى الحول. وقد استقصيتُ تفصيلَ القول في زكاة مالِ القراض على أحسن مساقٍ في بابٍ من كتاب الزكاة.
ثم إذا فرعنا على ذلك، لم يملك رب المال أن يبطل حق العامل من القسط المشروط له، ولا خلاف في ثبوت حق العامل، وإنما الكلام في أنه ملكٌ أو حقُّ ملك.
ومهما ظهر الربح، فللمقارض أن ينكفَّ عن العمل، ويسعى في تنضيض مقدار رأس المال، حتى يأخذ حصته من الربح، هذا ثابت له، لا سبيل إلى إبطاله عليه.
ولو أتلف ربُّ المالِ المالَ كلَّه: الأصلَ، والربحَ، فيغرَم للعامل حصَّتَه من الربح وفاقاً، والسبب فيه أن الإتلاف في هذه المنازل بمثابة القبض المحسوس، وإذا استرد ربُّ المال رأسَ المال والربحَ، ملك العاملُ حصتَه من الربح، والإتلات بمثابة الاسترداد.
وكذلك نقول لو مات المقارَض بعد ظهور الربح وقبل التفاصل، فورثتُه في طلب المشروط من الربح ينزلون منزلة الموروث.
4931- ومما يتفرع على ذلك أن المال لو كان جارية، فلا يحل لرب المال وطؤها، وإن قلنا: إنه مالك الأصل والربح؛ فإنا لا ننكر مع ذلك ثبوتَ حق العامل في المقدار المشروط له.
وقد قال القاضي والمحققون: لو اشترى المقارضُ جارية برأس المال، ولم يظهر الربح بعدُ، فليس لرب المال أن يطأها، واعتلّوا بأنا لا نتحقق انتفاء الربح في المتقوّمات وإنما الاطلاع على نفي الأرباح وإثباتها بأن تنض.
وهذا فيه فضل نظر.
ولعل الوجهَ أن يقال: إن كان الربح ممكناً فيها، فالتحريم كما ذكره الأئمة، وإن تحققنا أن لا ربح-وقد نستيقن ذلك عند انحطاط قيمتها بعد الشراء- فتحريم وطئها على مالكها بعيدٌ. ويمكن أن يخرّج على أن العاملَ لو طلب بيعَها، وربُّ المال يأبى، فهل يجب إسعاف العامل بما يطلبه؟ فيه خلافٌ قدّمناه: فإن أوجبنا إسعافه، فقد أثبتنا له عُلقةً مستحقةً فيها، فيحرم الوطء بها، وإن لم نُوجب إسعافَه، ولا ربح، والسيد مهما أراد، فَسَخ القراضَ، فلا يبعد تحليلُ الوطء والحالة هذه.
ثم رأيت لشيخي تردداً في أنا إذا حرمنا الوطء، فلو وطىء ربُّ المال، فهل
يكون ذلك فسخاً منه للقراض؟ فعلى جوابين: الأظهر- أنه لا يكون فسخاً.
هذا مقدار غرضنا الآن في التفريع على أن العامل لا يملك ما شرط له من الربح بالظهور.
4932- فأما إذا قلنا: يملك العامل ما شُرط له، فلا يتسلط على أخذه استرداداً حتى يحصل تنضيضُ رأس المال، ولا يملك التصرفَ فيه، والسبب فيه أن المعاملة مادامت قائمةً، فالربح وقايةٌ لرأس المال، حتى لو فرض نقصانٌ أو خسرانٌ، انحصر ذلك في الربح، فلا ينتقص من رأس المال شيء ما دام بقي من الحصتين شيء-وإن قلّ- فالربح بجملته وقايةٌ لرأس المال، وهذا الحق راجع إلى رب المال.
فكأنا وإن ملكنا العاملَ ما شرط له من الربح، فلسنا نقطع عن نصيبه حق الوقاية، وكمالُ الربح على القول الأول ملك رب المال، وللعامل في القدر المشروط له حق التملك. و على القول الثاني ملَّكنا العامل عند الظهور الجزءَ المشروطَ له من الربح، ولرب المال فيه حقُّ الوقاية، فليس للعامل أن يستبد بالتصرف ويكون قاطعاً لحق رب المال.
ثم إذا نضَّ مقدارُ رأس المال، وانفسخ القراض، ورجع رأس المال إلى تصرف المالك، فهذا هو النهاية التي يستقر عندها ملك العامل على نصيبه من الربح.
ولو اتفق نُضوض المال، والعامل متمادٍ على العمل، ولم يطرأ ما يوجب انفساخَ القراض، فالكلام في ثبوت الملك للمقارَض في القدر المشروط له يُخرّج على القولين.
ولو انفسخ القراض والمال عروضٌ، فقد ذكرنا التفصيل في أن العامل هل يجبر على التنضيض؟ فإن حكمنا بأنه لا يجبر عليه، وقد ارتفع القراض، فهل يُقضى بثبوت الملك للعامل قولاً واحداً؟ وهل يُقضَى باستقرار حقه؟ فعلى وجهين:
أحدهما:أنا لا نحكم بالاستقرار، ولا نقطع القول إلا بأحد أمرين:
أحدهما: تنضيض رأس المال.
والثاني: الاقتسام من غير تنضيض، فإذا بقيت العروض ولم يجر فيها اقتسام، فالقول في الربح كالقول فيه قبل انفساخ القراض. والوجه الثاني- أنه يحكم باستقرار حكم العامل.
التفريع على هذين الوجهين:
4933- إن حكمنا بأن القول في الربح على ما كان، فالربح بكماله يُعدّ وقايةً لرأس المال، وإن حكمنا باستقرار حق العامل، فيخرج المشروط له عن كونه وقاية، ويشيع النقصان-إن وقع- في جميع المال، شيوعَه في الأملاك المشتركة، وقد زال الربح ووقايته وآل الكلام إلى ملكٍ مشترك. وهذا كله تفريع على أنه لا يُجبر العامل على التنضيض.
ولو نضت العروض، وانفسخ القراض ولم يجر اقتسامٌ، فالمذهب الأصحُّ القطعُ باستقرار ملك العامل، ثم موجب الحكم باستقرار ملكه خروجُه عن كونه وقاية، ورجوع الأمر إلى التصرف في الأملاك المشتركة.
ومن أصحابنا من اعتقد أن القسمة بعد التنضيض من تمام عمل المقارَض، وهذا ضعيف لا شيء.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن القراض ما دام باقياً، فالربح على القولين، وحق الوقاية ثابت، سواء كان المال ناضّاً، أو عُروضاً.
وإن انفسخ القراض والمال عروض، نُفرع على أن العامل هل يجبر على بيعها؟ فإن قلنا: هو مجبر على البيع، فظاهر المذهب جريان القولين في الربح، وعدم استقرار حق العامل. وفيه وجه ضعيف أن حقه يستقر؛ فإنّ عملَ القراض قد انتهى لما انفسخ، وهذا واقع وراء المنتهى، تبعةً للعقد، وعُلقةً له.
وإن قلنا: إنه لا يجبر على تنضيض العروض، ففي المسألة الوجهان وإن نضت العروض، ولم يبق إلا القسمة، فالمذهب استقرار حق العامل. فإن حصلت القسمة، لم يبق خلافٌ. وكذلك لو حصل التنضيض في مقدار رأس المال، ورُدّ إلى المالك، فالباقي-وإن كان عُروضاً- ملك مشتركٌ خارج عن قياس الأرباح، ويستقر فيها حق العامل.
فهذا تمام البيان في ملك الربح، وما يتعلق به. والقول في الزكاة تقصَّيتُه على أحسن وجهٍ في كتابها.
4934- قال المزني: "هذه مسائل أجبت فيها عن معنى قوله، وقياسه:
من ذلك لو دفع إليه ألفَ درهم وقال: خذها، فاشترِ بها (هَرَويّاً)، أو (مَرْويّاً) بالنصف، كان فاسداً".
هذا لفظ المزني. وقد اختلف أصحابنا في صورة المسألة، وسببِ الفساد:
فمنهم من قال: ما ذكره المزني من ذكر (الهرَوي) و (المرْوي) تنويعٌ منه للكلام، وفرضٌ للصورتين، مع ترديد الحكم فيهما. وليس ذلك الترديد من كلام المتعاملين، والمعاملةُ مفروضة مع الجزم في (الهروي) أو (المروي)، وإذا كان كذلك، فقد حكم المزني بفساد القراض، فَمَحْملُ الفساد في مراده عند بعض الأصحاب أنه لم يُضف النصفَ إلى مستحقه، بل أطلق، وقال بالنصف. وقد قدمنا في بعض أركان القراض، أن رب المال لو قال: قارضتك على أن لك النصف، فالظاهر صحة هذا اللفظ. وإن قال: على أن لي النصف، ولم يتعرض لإضافة النصف الثاني إلى العامل، ففي المسألة وجهان. واختيار المزني أن القراض لا يصح.
فإذا قال: قارضتك على أن تشتري الثيابَ الهروية بالنصف من الربح، فليس فيه إضافة إلى العامل، ولا إلى المالك، فلم يصحح المزني المعاملةَ.
وإذا كنا نجري على هذا التأويل، فالأكثرون من الأصحاب يخالفونه في الفساد، ويذهبون إلى صحة المعاملة؛ فإن المذهب الصحيح أنه لا فصلَ بين أن يسمي الجزءَ لنفسه، أو للعامل، ولعل إطلاقَ نسبة النصف أولى بالصحة من إضافة النصف إلى المالك. وإذا كانت الجملة بين شخصين، فبيان نصيب أحدهما بيانٌ لنصيب الثاني، قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء: 11]، فكان في تعيين الثلث للأم تعينُ الباقي للأب.
4935- ومن أصحابنا من قال: ذكْر (الهروي) و (المرْوي) ترديدٌ في صيغة العقد، من جهة العاقد، فكأنه قال له: تصرف في الهروي أو المروي: إن شئت في هذا، وإن شئت في ذلك، وإن اخترت التصرف في أحدهما، فلا تتصرف في الآخر. فقال الأصحاب: سببُ الفساد ترْكُ الجزم وترديد لفظ المعاملة على النوعين، فلا هو أطلق تفويضاً إلى العامل، ولم يجزم أيضاً. وهذا كما قال الشافعي: لو ساقاه على أنه إن سُقي النخيلُ بماء السماء، فله الربع، وإن سقاه بالنضح، فله الثلث، لم تصح هذه المساقاة، للترديد.
قال القاضي: الحكم بالصحة محتمل مع هذا الترديد، فإنه لو عيّن أحدَ النوعين، وفيه متسع كما ذكرناه، لم يبعد الحكم بالصحة، فإذا ذكرهما على الترديد، فقد زاد العاملَ مزيد بسطة؛ إذ خيّره بينهما، وهذا أولى بالصحة من تعيين أحدهما، وهذا الذي ذكره حسنٌ متجه لا ينساغ عندنا غيره.
4936- ومن أصحابنا من قال: سببُ الفساد في هذه المسألة أنه أذن له في الشراء دون البيع، وقضية القراض أن يتسلط العامل على البيع إذا حصلت العروض في يده بالشراء، والذي يحقق هذا المحملَ في كلام المزني أنه قال: "كان فاسداً، لأنه لم يبين، فإن اشترى، فجائز، وله أجر مثله، وإن باع، فباطل؛ لأن البيع بغير أمره". وهذا ظاهرٌ من النص أن البيع غير مستفاد بحكم الإذن. وهذا وجهٌ من الفساد لا سبيل إلى إنكاره؛ فإن عماد عمل العامل على الشراء والبيع، وهما طرفا التجارة وركناها.
ونحن نقول في ذلك: إن صرح المالك بالأمر بالشراء والنهي عن البيع، فهذا مفسدٌ للقراض، ثم حكمه اختصاصُ المالك بالربح، وردُّ العامل إلى أجر مثل عمله.
ولو تعرض للتسليط على الشراء، ولم يذكر التسليطَ على البيع، لانفياً ولا إثباتاً، فهذه صورة المزني، والقول في ذلك ينقسم: فإن قال: تصرّف في هذه الدراهم، واشتر بها، ولم يذكر لفظة المضاربة والمقارضة، وأثبت الشراء، ولم يتعرض للبيع، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن إطلاق الأمر محمول على التسليط على البيع، وإنما لم يجرِ ذكْرُه؛ من جهة أنه لابد منه، ووقع التعرضُ للشراء تنبيهاً على البيع بعده.
ومن أصحابنا من حمل السكوت عن البيع على ترك التسليط عليه، فعلى هذا تفسد المعاملة ولا يتسلّط على البيع، كما ذكرناه.
4937- ولو قال: قارضتك، أو قال: ضاربتك، أو قال: خذ هذه الدراهم قراضاً أو مضاربة على أن تشتري، ولم يقع للبيع تعرضٌ، فظاهر المذهب وهو الذي قطع به القاضي وكلُّ محقِّقٍ أن المعاملة صحيحة؛ فإنه استعمل فيها اللفظَ الصريح الموضوعَ لها، فأغنى ذكرُه عن تفصيل حكمه، واقتضى إطلاقُه التسلّط الذي يوجبه العقد، وكان السكوت عن ذكر البيع محمولاً على الاكتفاء باقتضاء لفظ القراض له.
ومن أصحابنا من أجرى الوجهين في هذه الصورة أيضاً؛ لأن الأصل أن العامل لا يتصرّف إلا بالإذن، وقد جرى الإذنُ في أحد النوعين، وهو الشراء، فبقي النوع الثاني على المنع والحظر.
هذا منتهى كلام الأئمة في تصوير ما ذكره المزني وقد جرت في جهات خلافهم في التصوير مسائلُ مذهبية، أجريناها وذكرنا وجوهَ الخلاف فيها.
4938- ومما أراه متعلقاً بلفظ المزني أنه لم يتعرض للربح، ولا لرأس المال، ولكن ذكرَ النصفَ مرسلاً، فقال: على أن تشتري هروياً أو مرْوياً بالنصف، ولم يقل: بالنصف من الربح، وهذا يقتضي إشكالاً في لفظ العقد. ويجوز أن يقال: تفسد المعاملة بهذا الإشكال، ويجوز أن يحمل ذكْر النصف على الربح اتباعاً للمعروف المعهود في الباب.
وهذا منتهى الغرض في المسألة.
قال: "إن قال: خذها قراضاً، أو مضاربةً على ما شرط فلان من الربح لفلان... إلى آخره".
4939- إذا قال: قارضتك على هذه الدراهم، ولك من الربح ما شرطه فلان لفلان، فإن كانا عالمين بما شرطه فلان لفلان، فالمعاملة تصح وفاقاً، وإن لم يُجريا ذكرَ تلك النسبة؛ فإن التعويل على علمهما وعلى عبارة بيّنةٍ على ما علماه.
وإن جهلا المقدارَ الذي ذكره فلان لفلان، ولكن كان التوصل إلى الإحاطة به ممكناً، فالمعاملة فاسدة؛ فإنها لم تَعتمد حالة العقد جزئيةً معلومة. وهذا بعيْنه يجري في البياعات والمعاملات المشتملةِ على الأعواض. فإذا قال: بعتك عبدي هذا بما باع به فلانٌ دارَه أو فرسَه-وكانا عالمين بذلك المقدار- صحّ، وإن كانا جاهلين به، قادرين على الوصول إلى دَرْكه، فالبيع فاسد، وجهْلُ أحد المتعاقدين في ذلك كله كجهلهما.
وإذا قال المنتهي إلى الميقات: لبيك بإهلال كإهلال فلان، فعقدَ الإحرامَ على الإبهام، انعقد على الصحة، وهو من خصائص الحج؛ فإن الذي يقتضيه قياس التعيين في النيات افتقارُ الحج إلى التعيين، ثم انعقاد الإحرام مبهماً. والمحرم لا يدري أحاجٌّ هو أم معتمر، أو هو محرمٌ بهما مشكلٌ في القياس جداً؛ ولكنا أعرضنا عن وجه القياس، وتعلقنا فيه بالخبر، وهو ما روي: "أن علياً رجع من اليمن عام حجة الوداع، وانتهى إلى قَرْن، وقد بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النسك، فأحرم، وأبهم وقال: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه".
أما المعاملات، فقد تُعبِّدنا فيها بالإعلام، ونُهينا عن العقد على الجهالة والإبهام، فاتّبعنا في كل بابٍ ما تعبدنا به.
4940- ثم قال المزني: "فإن قارضه بألفٍ على أن ثلث ربحها للعامل، وما بقي من الربح، فثلثه لرب المال وثلثاه للعامل، فجائز".
هذا كلام المزني. وغرض الفصل أن الربح إذا ذكر جزئيتَه، وانقسامَه على نسبةٍ معلومة، تهون الإحاطة بها، فلا شك في صحة العقد.
وإن أجرى نسبةً معقَّدةً، معلومةً في الحساب، ولكن كان يختص بدَرْكها العلماءُ بالحساب، ويتوصل إلى درْكها من ليس حسوباً إذا تفكّر، أو أرشده مفسّر، وهذا مثل أن يقول للعامل: لك ثلثُ الربح، وخمسُ تُسع عُشر الباقي، فهذا معلوم في طريق الحساب. ولكن إخراجَه يُحوج إلى تصحيح المسألة، وبسط طرق الحساب فيها، فالوجه أنهما إن كانا عالمين بالحساب ومُدرَكِه، وكان اللفظ المذكور في العقد مُعْلِماً في حقهما للمقدار، فيصح العقد قطعاً؛ فإنا نقول: لو قال رب المال لصاحبه: عاملتك، ولك من الربح ما شرطه فلان لفلان، فالمعاملة صحيحة إذا كانا عالمين بما ذكره فلان لفلان؛ تعويلاً على علمهما، فكذلك تصح المعاملة مع اطّلاع المتعاملين على ما يقتضيه الحساب.
هذا إذا انتجز علمهما بذلك الجزء حالة العقد.
فإن لم ينتَجز علمُهما حالة العقد، أو كان أحدهما غيرَ مهتدٍ إلى الحساب، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أن المعاملة فاسدة، لعروّها عن العلم المطلوب حالة العقد. وهذا يتنزل منزلة ما لو قال: لك من الربح ما شرطه فلان لفلان، وكانا جاهِلَيْن بما شرطه، أو كان أحدهما جاهلاً، فالمعاملة فاسدة، وإن أمكن التوصل إلى ما ذكره فلان لفلان، كذلك القول في اللفظة الحسابية.
ومن أصحابنا من قال: المعاملة صحيحة، لأن اللفظة المشتملة على الجزئية معلومة في صيغتها، فتعتمد صحةُ العقد تلك الصيغة. وقول القائل: لك ما شرط فلان لفلان مجهولٌ في نفسه، لا إعلام فيه.
ثم طريق إخراج الجزئيات لا يليق استقصاؤه بهذا الفصل، ولعلنا نذكر طرفاً صالحاً يُثبت الاستقلال في هذه الأبواب في كتاب الفرائض، إن شاء الله عز وجل، ثم في كتاب الوصايا.
ونذكر إخراج ما ذكره المزني: فإذا قال: لك ثلث الربح، والثلث مما بقي لي، والباقي لك. فنطلب عدداً له ثلث، ولثلثيه ثلث، وهو تسعة فنجعل الربحَ تسعة أجزاء، ونصرف منها ثلاثة إلى العامل أولاً، فيبقى ستة، فنصرف منه ثُلثَه إلى المالك، وهو سهمان من تسعة، ثم يُصرف الباقي، وهو أربعة من تسعة إلى العامل، فيحصل له من التقديرين سبعةُ أتساع الربح، وللمالك تسعاه. هذا بيان ما ذكره المزني.
فصل:
قال: "وإن قارضه على دنانير، فحصلت في يده دراهم... إلى آخره".
4941- إذا كان رأس المال دنانير معلومة، فتصرّف فيها العامل، وصرفها في العروض، ثم نضت العروض، ورجعت إلى الدراهم، فهذه الدراهم بمثابة العروض في حق هذا القراض، فيتعين على العامل-على القياس الذي مهدناه- ردُّ الدراهم إلى الدنانير، وكذلك لو كان الأمر على العكس.
وهذا يناظر من القواعد زكاةَ التجارة في العروض، فإنا نقوّم العروض في نهايات الأحوال ومُنقرض السنين بما كان رأسُ المال في ابتداء الحول، حتى لو كان رأس المال دراهم، وقع التقويم بها لا غير، فلو صادفنا في آخر الحول دنانير، لم نوجب الزكاة فيها بحساب مقدارها، ولكنا نقومها بالدراهم، ونوجب الزكاة في قيمتها على هذه النسبة.
4942- ومما يتعلق بمضمون الفصل من حكم القراض، أن أموال القراض لو كانت عُروضاً، فقال رب المال: رضيتُ بأن آخذ مقدار رأس المال عروضاً، وقال العامل: بل أبيعُ؛ ففيه الخلاف المقدم، ولو كان رأس المال دنانيرَ، وقد آل الأمر إلى الدراهم، فلو قال رب المال: رضيت أن آخذ مقدار حقِّي من الدراهم، فالذي قطع به المحققون أن العامل لو أراد صرف الدراهم إلى الدنانير على خلاف مراد الآمر في قدر رأس المال، فليس له ذلك، بخلاف مسألة العروض. والفرقُ أن قيمة العروض لا تنضبط، وقد يتفق في أثمانها تفاوتٌ، والتعويل فيها على الرّغبات ونقيضها، فلا يمتنع إسعاف العامل ببيعها، فعساه يستفيد مزيداً، وأما الدراهم والدنانير فلا يفترض في أسعارهما تفاوت معتبر، وليس مما يُفرض فيه رغبةٌ من راغب، وزهدٌ من زاهد. فإذا قال العامل: أصرف الدراهم إلى الدنانير، كان ذلك تعنتاً منه.
هذا ما ذهب إليه المحصلون.
وأبعد بعضُ أصحابنا فأجرى في الدراهم والدنانير من الخلاف ما ذكرناه في العروض، وردِّها إلى النقد.
ولو جرت المعاملة على الدنانير مثلاً، والنقد الغالب في التصرفات الدراهم، فالمذهب الذي عليه التعويل أن العامل يُكلّفُ رد العروض في مقدار رأس المال إلى الدنانير. فلو قال: أردّها إلى الغالب في البلد، ثم يأخذ منه رب المال بمقدار رأس المال، فلا يترك و ذلك.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب: أن العامل إذا رد العروض إلى نقد البلد، كفاه، وهذا بعيد لا اتجاه له، وليفرق الفقيه فيما نثبته وننفيه بين أن يرضى ربُّ المال بأخذ النقد الحاصل عن حساب رأس المال، وبين أن يبغي مطالبةَ العامل برده إلى نوع رأس المال، فإن رَضي ربُّ المال، فالوجه اتباعُ رضاه، والكلام في نقدين. فإن طالب ربُّ المال العاملَ برد النقد الحاضر إلى نوع رأس المال، فالمذهب أن له ذلك إذا كان في المال ربح، والوجه الذي ذكره الشيخ أبو علي ضعيف، في هذا الطرف، كما نبهنا عليه.
ولو كان رأس المال دراهم صحاحاً، فحصلت في يد العامل المكسرةُ من ذلك النوع، فعليه تحصيل الصحاح في رأس المال، فإن وَجد الصحاح بالمكسرة سواءً، فذاك، وإن لم يجد، ولا سبيل إلى المفاصلة، باع المكسرة بالدنانير، واشترى بالدنانير الصحاحَ من الدراهم.
ولو أراد أن يبيع المكسرة بعرْضٍ، ثم يبيعَ ذلك العرضَ بالصحاح المطلوبة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن ذلك يجوز؛ فإنه إذا لم يكن من إدخال واسطةٍ بدٌّ، فلا فرق بين أن يكون عرْضاً، أو نقداً.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز صرف المكسرة إلى العروض، لتصرف العروض إلى الصحاح، فإنّ العروض قد تكسد، وتبقى إلى أن يطلبها طالب، وقد يكون في عرضها فيمن يزيد بخسٌ ظاهر. وإذا صرف المكسرة إلى الدنانير، تيسر الأمر، فإن الدنانير رابحةٌ أبداً لا حاجة إلى التربص بها.
فصل:
قال: "وإن دفع مالاً قراضاً في مرضه... إلى آخره".
4943- إذا دفع المريض في مرض موته دراهمَ، أو دنانيرَ إلى إنسان قراضاً، وشرط له جزءاً من الربح، فالمعاملة صحيحة، وإذا اتفق الربحُ فيها، فللعامل ما شرط له، ولا ينتهي الأمر إلى حكم التبرع، والاحتسابِ من الثلث، حتى لو كان الربح الحاصل بحيث لو قيست حصة العامل فيه بأجر مثله لزادت عليه، فلا يجعل المريض في حكم المتبرع بتلك الزيادة.
فهذا اتفاق الأصحاب، والسبب فيه أن الربح لا معوّل عليه، فقد لا يحصل منه شيء فيخيب تعبُ العامل، وقد يحصل مقدارٌ نزرٌ يزيد أجر مثل العامل عليه، والربح أيضاً في حكم المعدوم قبل حصوله، فإذا حصل عُدّ حصولُه من آثار عمل المقارض.
يخرج عما ذكرناه أن المشروط من الربح ليس من باب التبرعات أصلاً.
ونقول على حسب ذلك: لو كان العامل أحدَ الورثة، جازت المعاملة، ولم نقل: إنها تبرع على وارثه في المرض.
4944- ولو ساقى المريض رجلاً على نخيل، ثم كان ما شرط له من الثمار زائداً على أجر عمله، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من أجرى المساقاة مجرى القراض، وقد تمهد قياس القراض، والجامع أن المطلوب مفقودٌ في المعاملتين؛ إذ لا ربح ولا ثمرة فيهما، وحصول الثمار منسوب إلى عمل المساقى وإلى حسن قيامه على الأشجار، فلا فرق.
ومن أصحابنا من قال: إذا زاد حصةُ المساقى من الثمار على أجر مثله، فتلك الزيادة تبرع محسوب من الثلث، وإن كان المساقى وارثاً، فهو مردود. والفرق بين المعاملتين أن الثمار منتظرة في أوانٍ معلوم، وأما الأرباح، فلا وقت لها، ولا ضبط. والوجهان ذكرهما العراقيون.
فصل:
قال: "وإن اشترى عبداً، فقال العامل: اشتريتُه بمالي لنفسي... إلى آخره".
4945- كل شراء يقع بعين مال القراض، فلا شك في انصرافه إلى جهة القراض، ولا أثر لنية العامل فيه، ولو نوى نفسه، كانت نيته باطلة ساقطةَ الأثر، فأما العقود الواردة على الذمة، فالتعويل فيها على النية، فإن نوى العاملُ بها جهةَ القراض، وقعت عنها، إذا لم تكن مخالفةً لوضع التصرفات في القراض، ولو نوى بالشراء الذي ثمنه واقعٌ في الذمة نفسَه، انصرف إليه، وكذلك مطلقُ الشراء الذي وصفناه مُنصرفٌ إلى العامل، ولا يقع عن القراض، وهذا بيّن.
4946- والغرض بعده أن العامل إذا اشترى عبداً فقال: اشتريتُه لنفسي، وقال رب المال: بل اشتريتَه لجهة القراض. وهذا الخلاف في الغالب يجري إذا ظهر في العبد غبطةٌ ظاهرة. ولو كان الخلاف على العكس، فقال العامل: اشتريتُه عن جهة القراض، وقال رب المال: بل اشتريتَه مطلقاً، أو اشتريته لنفسك. وهذا الخلاف يُفرض فيه إذا كان ابتياع العبد بثمن مثله، ولكن اتفق انحطاطٌ في سوق العبيد.
فإذا جرى الخلافُ على الوجهين، فالقول فيهما قول العامل، والسبب فيه أن المعتمد في انصراف العقد إلى جهة القراض، أو وقوعِه عن العامل نيةُ العامل، ولا مُطّلع على نيته إلا من جهته، فلزم الرجوع إلى قوله. ثم لا نصدقه إلا باليمين.
ونظائر ذلك كثيرة.
فإن قال قائل: لم تحلّفونه، وهلا اكتفيتم بمجرد قوله؟ قلنا: الجواب عن هذا ظاهر في طريق الخصومة، فإن من ظهر صدقه، فلا يُكتفى منه بمجرد قوله، بل نكلفه إقامةَ الحجة عليه، والحجةُ في الباب اليمينُ.
ولو أنه قال: اشتريتُ هذا العبدَ لنفسي، ثم اعترف بأنه اشتراه للقراض، قُبل رجوعه على هذا الوجه، وإذا كان رجوعه مقبولاً؛ فإنا نأمل من عرض اليمين عليه أن ينكفَّ ويرجع، وسبب عرض الأيمان، الحملُ على الإقرار، فإذا كان الإقرار ممكناً، فاليمين لابد منها، ثم إن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين إلى رب المال، فيحلف على حسب ما يدّعيه، واليمين المردودة تقع باتّةً، وهي مشكلةٌ في هذا المقام؛ من جهة أنه لا مطّلع على النية إلا من جهة الناوي، ولكن يمين الرد تستند في هذا المقام إلى قرائن ومخايل تظهر ولا يمتنع استناد الأيمان إلى أمثال ذلك، وسنقرر هذا على أبلغ وجه في أحكام القضاء، إن شاء الله عز وجل.
ومن المخايل في الباب أن رب المال لو كان سمعه يقر بأني اشتريت لجهة القراض، ثم جحد وأنكر، فللمدعي أن يعوّل على الإقرار الذي علمه، وهو أقوى من مخيلةٍ تخيلها، وقرينةٍ يرجم ظنه فيها.
7ا 49- ولوح رجلان ألمفين إلى رجل، وقال كل واحد منهما: اشتر لي بالألف عبداً، فإذا اشترى عبداً بألف لأحدهما، فادّعى كلُّ واحدٍ منهما أنه اشترى له هذا العبدَ، فإذا أقر الوكيل لأحدهما قُبل قوله؛ إذ الرجوع إليه، والاعتبار بنيته.
ثم إذا حكمنا بالعبد لأحدهما، بحكم إقراره، فلو ادعى عليه الثاني، فهذا يُبنى على أنه لو أقر للثاني بعد الإقرار الأول، فهل يغرم للمقر له ثانياً قيمةَ المقر به. وفي هذا وفي أمثاله قولان، قدمنا ذكرهما.
وهذه المسألة تمتاز عن نظائرها بشيء، وهو أن قيمة العبد لو كانت ألفاً، وسلّم إليه كل واحد منهما ألفاً، فهو إذا زعم أنه اشترى العبد لأحدهما، فالألف الآخر قائم في يده للثاني، فقد لا يفيد قولنا: إنه يغرم للثاني على قولٍ إلا إذا فرضنا تفاوتاً في قيمة العبد وثمن العقد؛ فإذْ ذاك يختلف القول.
فلنفرض هذه المسألةَ فيه إذا لم تزد القيمة، ويخرج عليه أنه بسبب هذا الإقرار لا يغرَم شيئاًً، ولا يصح أيضاًً رجوعُه عن الإقرار الأول. فإذا انتفى إمكانُ الرجوع، وانتفى الغرم، فلو أراد الثاني أن يحلفه، لم يكن له ذلك؛ فإنّ اليمين فائدتها الحمل على الإقرار، ولو أقر للثاني، لما أفاد إقرارُه شيئاً.
فإن قيل: هلا حلَّفتموه حتى إذا نكل تردّون اليمين على الثاني؟ قلنا: هذا لا وجه له؛ فإنا إن جعلنا يمين الرد كالإقرار، فقد سقطت فائدة إقراره، فلا موقع ليمينه إن حلف. وإن قلنا: يمين الرد تنزل منزلة البيّنة، فقد يظنّ ضعفةُ الأصحاب أنها تتضمن استرداد العبد، كما لو قامت البينة. وهذا مزيفٌ، لا أصل له، وقد يبتدره، ويسبق إليه في أمثال هذه المسألة طوائفُ من الأصحاب. واعتقادُه في هذا الموضع على نهاية الضعف؛ فإن البينة لا يتصور قيامها على النية، وإنما يُفرضُ قيامُها على الإقرار، وقد ذكرنا سقوط أثر الإقرار، والحالف يمينَ الردّ ليس يُسند يمينَه إلى إقرار كان من هذا الشخص فيما سبق، وإنما يسندها إلى مخيلةٍ وظنٍّ، والبينةُ لا تكتفي بأمثال ذلك.
فصل:
قال: "ولو قال العامل: اشتريت هذا العبدَ بجميع الألف... إلى آخره".
4948- إذا دفع ألفاً إلى العامل، وقارضه عليه، فليس للعامل أن يشتري للقراض بأكثرَ من الألف، لأن رب المال لم يرض بأن العامل يشغل ذمتَه بأكثرَ من هذا المبلغ، فإن اشترى عبداً بالفٍ، ثم عبداً آخر بألف، قلنا: إن اشترى العبدَ الأول بعين الألف، أو اشتراه لجهة القراض، فهو واقعٌ عن جهة القراض، ولا يقع العبدُ الثاني عن جهة القراض أصلاً. ولكن إن اشتراه بعين الألف، فالشراء باطل، سواءٌ وقع الشراء الأول بعين الألف، أو لم يقع بالعين.
والسبب فيه أنه إن وقع العقد الأول بعين الألف، فقد تعين عوضاً مملوكاً في العقد الأول، فإذا عينه ثانياً في عقد آخر، لم يخف بطلان هذا العقد الثاني.
وإن لم يقع العقد الأول بعين الألف، فقد صار الألف مستغرقاً به مستحقاً، فامتنع تعيينه في العقد الثاني، كما يمتنع تعيين مرهونٍ ثمناً في غير حق المرتهن، هذا إذا وقع العقد الثاني بعين الألف.
ولو وقع العقد الثاني بألفٍ في الذمة، ولكنّ العامل نوى به جهةَ القراض، فنيته مردودة، ولكن العقد لا يبطل، بل ينصرف إلى العامل، فيقع شراء العبد الثاني له على هذا التأويل، فلو وقع العبد الأول عن القراض، ووقع العبدُ الثاني عن العامل، كما صورناه، فلو صرف الألفَ الذي هو رأس مال القراض إلى ثمن العبد الثاني، فقد أساء وظلم؛ فإنّ الألف الأول إن كان معيّناً، فهو مملوكُ بائعِ العبد الأول، وإن لم يكن معيناً بالعقد الأول، فهو مستغرقٌ باستحقاق تلك الجهة، وعلى أي وجهٍ فُرض، فالعقد الثاني منصرفٌ إلى العامل، وليس للعامل أن يصرفَ إلى ما يشتريه لنفسه شيئاً من مال القراض، فإذا فعل، فالألف يُسترد إن كان باقياً، فإن فات وتلف، نظرنا إلى صفة العقد الأول، فإن كان وارداً على عين الألف-وقد فات الألف- نحكم بانفساخ ذلك العقد؛ فإن العوض المتعيّن في البيع إذا فات قبل التسليم، يترتب على فواته انفساخُ البيع، وإن لم يكن الألف متعيناً في العقد الأول، فلا يقضى بانفساخ ذلك العقد.
وفي هذا المقام يبين الفرق بين كون الألف مستحقاً ملكاً بطريق التعيين، وبين كونه مستغرقاً بحق البائع، فإذا انتهى الأمر إلى ذلك، فالعبد الأول ملكٌ لرب المال، ولرب المال على العامل ألفُ درهم؛ لأنه أوقعه في جهة نفسه، وصرفه إلى العقد الواقع له، ولبائع العبد الأول مطالبةُ رب المال بألف.
والمسألة مفروضة حيث لا نزاع، ولكنهم معترفون بحقيقة الحال، فلو جاء العامل وأدى ثمن العقد الأول، نُظر: فإن فعل ذلك بإذن رب المال على شرط الرجوع عليه، صح، وبرئت ذمة رب المال عن حق البائع الأول، وثبت للعامل ألفٌ على رب المال، ولرب المال على العامل ألفٌ، فإذا جرينا على التقاصّ، حصل بما جرى براءةُ الذمم، وانقطاعُ التبعات.
وإن أدى العامل ثمن العقد الأول من غير مراجعة رب المال، فتبرأ ذمةُ رب المال عن مطالبة البائع الأول. ولكن لا يجد العامل بما بذله مرجعاً، ولرب المال عليه الألفُ الذي صرفه في حق نفسه، وقد حصلت براءة ذمة رب المال بما فعله العامل.
4949- ومما يتعلق بتمام المسألة أنا إذا صرفنا العبدَ الأول إلى جهة القراض، ثم تعدى المقارَض، وصرف الثمن إلى العبد الثاني، فذلك العبد الأول أمانةٌ في يد المقارض؛ فإنه لم يتعد فيه، وإنما تعدى في ثمنه، والتعدي في عوض الشيء لا يُثبت حكمَ العدوان ومُوجبَ الضمان في غير ما وقع التعدي فيه.
وهذا يناظر ما لو وكّل رجلٌ رجلاً يبيع عبدٍ، وسلمه إليه، فاستخدمه الوكيل، صار متعدياً لذلك، فلو تلف في يده قبل اتفاق بيعه، لكان ضامناً لقيمته، فلو باعه وقبض ثمنه على حسب الإذن، فالثمن في يده أمانة.
4950- وذكر القاضي رضي الله عنه في أطراف هذه المسألة أن رب المال لو قال للعامل: خذ الألفَ قراضاً، واشتر بعينه، أو قال: اشتر ما تشتريه في الذمة، ثم أدّ الثمن من الألف، فهذا تضييق وحجرٌ، وقد ذكرنا أن هذا الضرب من التضييق يُفسد القراضَ؛ من جهة أنه يخالف موضوعَه ومقصودَه. وهذا الذي ذكره حسن فقيه إذا شرط عليه أن يشتري بعين الألف؛ فإن هذا تضييق، وقد تتفق صفقةٌ لا يحضره الألف فيها، ولو انتظر إحضارَه لتعيُّنه، لفاتت، فهذا منافٍ للانبساط الذي يقتضيه وضع القراض.
فأما إذا قال: لا تشتر إلا في الذمة، فلستُ أرى هذا حجراً، وفيه غرضٌ؛ فإنّ تعيين الأعواض يجر رباً وخبلاً لو لم يكن العوض من حلّه، وإذا صادف العقدُ عوضاًً في الذمة، انقطع هذا الضرب من الشبهة، ورجع النظر إلى العوض الثاني، فإذا صحّ غرضٌ، ولم يتحقق تضييقٌ، لم يبعد الحكم بصحة القراض والشرط.
فصل:
قال: "وإن نهى ربُّ المال العاملَ أن يشتري ويبيع... إلى آخره".
4951- إذا فسخ القراض، ونهى ربُّ المال العاملَ عن الشراء، لم يكن له أن يشتري شيئاً بعد النهي، فإذا اشترى، نظر: فإن كان بعين مال القراض، فباطلٌ.
وإن كان في الذمة، وقع للعامل، وبطلت نيّتُه في جهة القراض.
هذا قولنا فيما يشتريه بعد النهي.
فأما البيعُ، فقد ذكرنا تفصيلاً في أن العامل بعد فسخ القراض هل يملك بيعَ العُروض إذا كان في المال ربح؟ وفصّلنا أطراف المذهب فيه إن لم يكن ربح. فإذا قلنا: له أن يبيع، فليس هذا البيع الذي كان يُقدم عليه قبل فسخ القراض، وإنما هذا بيعٌ لتنضيض السلعة، وردّ رأس المال، فلا أثر للنهي في هذا الضرب، ويتبيّن أثر هذا في شيء، وهو أن العامل لو كان مستمراً على تصرفه، وكان أذن له رب المال في بيع العرْض بالعرْض، فإنه يبيع العرض بالعرض، وإذا نهى، وفسخ القراض، فليس له أن يبيع العرض بالعرض، ولكنه يبيع العروض بالنقد بقصد التنضيض، كما تقدم.
فصل:
قال: "ولو قال العامل: ربحت ألفاً، ثم قال: غلطتُ... إلى آخره".
4952- إذا أقرّ: بأني ربحتُ ألفاً، ثم قال: كذبتُ متعمداً، أو غلطتُ، وقلتُ ما قلت غالطاً، فلما رجعتُ إلى الحساب، لم أصادف ربحا ً، أو ادّعى أنه كذب مخافة أن يُنتزع المال من يده، فرجوعه عن الإقرار الأول لا يقبل في هذه المسائل؛ بناء على أن المرء مؤاخذٌ بإقراره الأول. ولو قال: ربحتُ ألفاً، ثم قال بعده: تلف في يدي ألف، فإنا نصدقه مع يمينه؛ لأنه أمين، فهو يتوصل بدعوى التلف إلى طرح
ما أقر به أولاً، ولا منافاة بين ما ابتدأه وبين ما ادعاه آخراً، وهو مصدق فيهما.
وظهور هذا يغني عن بسط القول في تقريره.
فصل:
قال: "وإن اشترى العامل، أو باع بما لا يتغابن الناس بمثله، فباطلٌ... إلى آخره".
4953- المقارض في هذا المعنى كالوكيل، وقد ذكرنا أن الوكيل بالبيع المطلق لو باع بالغبن، لم يصح ذلك منه، والوكيل بالشراء المطلق لو اشترى الشيء بأكثر مما يساوي، لم يقع الشراء عن الموكِّل. ولكن إن كان وارداً على الذمة، انصرف إلى الوكيل، وإن كان وارداً على عين مال الموكِّل، بطل.
والقول في المقارض على هذا النحو، فإن باع عيناً من أعيان مال القراض بغَبْن، لم يصح، وإن اشترى شيئاً بعينٍ من أعيان القراض مع الغبن، لم يصح، وإن اشترى في الذمة ونوى جهة القراض، انصرف العقد إلى العامل.
ثم مما أجراه الفقهاء في هذا المجال أن ثمن العرْض إذا كان مائة، وقد انتهى المقوّمون إلى هذا المبلغ، ولم يتعدَّوْه، فهذا قيمةُ المِثل. فلو باع رجل مثلَ هذا العرض بمائةٍ إلا درهماً أو بخمسةٍ وتسعين، فقد لا يُعدُّ البائع مغبوناً. وكذلك لو اشترى هذا العرْضَ بمائةٍ ودرهم أو دريهمات، لا يُعدّ مغبوناً.
وعبَّر الفقهاء عن هذا فقالوا في جانب النقصان: هذا ممَّا يتغابن الناس بمثله، وقالوا في جانب الزيادة كذلك. والقول في هذا يؤول إلى أن الحكم بالقيمة لي أمراً مبتوتاً، وإنما هو مظنون، والنقصان القليل لا يخرم الظن، وكذلك الزيادة القليلة.
وليس معنا في هذا ضبطٌ ننتهي إليه. نعم، سنذكر أن المسروق لو قُوّم، فقد يبلغ نصاباً، وقد يُفرض فيه خطأٌ قليل لا ينتهي إلى الغبن الظاهر، ويكون ذلك المقدار محتملاً، ولكن لو أخذنا به، لما وجب القطع؛ فإن نصاب السرقة توقيفي، وليس ثابتاً من طريق التقريب، فلا يوجب القطع إذن عند معظم المحققين؛ فإنّ إيجاب القطع بقيمةٍ مظنونةٍ لا سبيل إليه. وسيأتي استقصاء ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
4954- وحظ هذا الفصل مما ذكرناه أن الوكيل أو المقارض لو باع ما قوّم بمائة بخمسٍِ وتسعين، وكان لا يعدُّ مغبوناً، فالبيع نافذ، ولو باعه بثمانين، فالبيع مردود.
فلو فاتت العين في يد المشتري، فالقيمة تلزم، ثم يقع النظر في تغريم الوكيل وفي تغريم المشتري الذي تلفت العين في يده. فإن أراد تغريم الوكيل، أو تغريم المقارَض، فهل يُحطُّ عنه القدر الذي يتغابن الناس بمثله، حتى لا نغرمه إلا خمسة وتسعين مثلاً؟ ففي المسألة قولان، نص عليهما الشافعي في (الرهن اللطيف)
أحدهما: أنه يغرمه القيمة التامة، وهذا ظاهر القياس عنده؛ فإنه قد اعتدى بما فعل.
وحكمُ المعتدي ضمان القيمة، والرجوعُ في مبلغها إلى المقوِّمين، وقد قوّموا السلعةَ بمائة.
والقول الثاني: أنه لا يغرّمه القدرَ الذي يتغابن الناس بمثله، فإنه لو باع ابتداء بمائة إلا دريهماتٍ، لصح البيع، ونفذ، وقُبل منه ذلك الثمن. فلا ينبغي أن يغرم آخراً أكثر من ذلك المقدار.
وهذا فيه بُعد. ولم يذكر أصحابنا خلافاً في أن الغاصب يغرَم القيمة البالغة.
وليس لقائل أن يقول: القدر الذي يتغابن الناس بمثله ليس ملتحقاً بالقيمة تعيُّناً، وشغلُ ذمة الغاصب في هذا القدر المظنون لا وجه له، فإنا وإن كنا نغلظ على الغصاب، فلا نُلزم ذممهم إلا على بصيرة وتثبّتٍ.
وإذا اختلف المالك والغاصب في مقدار القيمة، فالقول قول الغاصب، وكذلك المشتري من المقارَض-في مسألتنا- لو اختار ربُّ المال تغريمَه، لغرّمه مائةً كاملة.
وإذا كان كذلك، فلا يبقى للتردد في حق المقارَض والوكيل وجه؛ فإنه قد باع بيعاً فاسداً، وكان في اعتدائه كالمغتصب، فلا خروج لهذا القول في حقه.
4955- فإن قيل: قد ينتج مما ذكرتموه فنٌّ من الإشكال: فإن كان ما يتغابن الناس بمثله محطوطاً عن الوكيل، وسببه أن القيمة مظنونةٌ، فيجب على مساق هذا أن لا تُشغلَ ذمةُ ضامنٍ بذلك المقدار. وإن كان ذلك معدوداً من القيمة، فالتسامح به لا وجه له، وحق الوكيل أن يبيع بثمن المثل، وكذلك المقارَض، فما وجه التلفيق في هذا؟
قلنا: هذا مقامٌ يتعيّن التثبتُ فيه. والأصل الذي يجب تأسيسُه أن القيمة التامة هي المتبع في الغرامات، وأبواب الضمان، وإنما التوقف في اعتبارها في قطع السرقة، على ما رمزنا إليه، وأحلنا استقصاءه على موضعه.
فإن قيل: القيمة مظنونةٌ. قلنا: لتكن كذلك؛ فإن معظم متمسكات الفقه ظنون، فلا محاشاة من هذا، فارتد النظر إذاً إلى بيع الوكيل بأقلَّ من المائة، ولا مساغ لهذا إلا من جهة الأخذ من العرف؛ فإنا لو رددنا الأمرَ إلى صيغة الأمر بالبيع، فاسمُ البيع ينطلق على البيع بالغبن، وإنما لم ينفذ بيع الوكيل بالغبن، لأن أهلَ العرف لا يرون الأمرَ بالبيع متناولاً لهذا، والعرف هو المقيِّد للأمر المطلق، فإذا رأينا أهل العرف يتغابنون بالمقدار النَّزْر، فقد زال التقيد العرفي، ولزم تصحيح العقد بحكم الأمر بالبيع. هذا مَخْرجُ الكلام في هذا.
ويجب على حسب ذلك تزييف القول المحكي في الحط عن الوكيل البائع بالغبن؛ فإنا إذا أبطلنا تصرّفَه وألحقناه بالمعتدين، لم يبق للحط وجهٌ، وأي فقهٍ في قول القائل: لو باع بنيّف وتسعين، لقبل منه، فإذا لم يبع واعتدى، وجب أن نقنع منه بذلك المقدار؟ ولكنّ هذا الخلافَ مشهورٌ، فإذا لم نرض تنزيله على الصورة التي ذكرناها، فهل ننزّله على موضعٍ أقربَ من هذا؟
قال صاحب التقريب: إذا باع الوكيل عبداً يساوي مائة بالمائة، ثم سلّمه قبل تسليم الثمن، فقد أساء، فلو عسر الثمن، فالموكِّل يطالب الوكيل بماذا؟ فيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من قال: يطالبه بالثمن؛ فإنه فوته بتسليم العبد. ومنهم من قال: يطالبه بقيمة العبد. فإن قلنا: يطالبه بالثمن، فيطالبه بالمائة. وإن قلنا: يطالبه بقيمة العبد، فهل يطالبه بالمائة الكاملة؟ أم يحط عنه ما يتغابن الناس بمثله؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
وهذا غير مرضيّ عندي أيضاً؛ فإنه إن طولب بالقيمة، فسببه اعتداؤه بتسليم العبد، وقيمةُ العدوان تامةٌ. وأقرب الصور أن نبيع العبد بما يتغابن الناس بمثله، ثم يفرط فيسلّمُ العبدَ، فيظهر الخلاف في أنه يقنع منه بالثمن، أم تلزم القيمة التامة؟ وهذا يخرّجُ على أن الوكيل إذا تعدى بالتسليم، فيغرَم الثمن أو يغرم القيمة؟ هذا تفصيل القول في ذلك، وتنزيل محل الخلاف والوفاق على منازلهما.
4956- ثم قال الأصحاب: كما لا يبيع المقارَض بالغبن الفاحش، فكذلك لا يبيع بالنسيئة، إلا أن يأذن له رب المال. ثم إذا أذن في الشراء أو البيع بالنسيئة، فلابد من الإشهاد، فإن لم يُشهد وأدّى الأمرُ إلى جحْدِ المشتري الثمنَ، فيجب الضمانُ بترك الإشهاد؛ فإن هذا يعد تقصيراً أو تركاً للتحفظ، ولم أر في هذا الطرف خلافاً، وتخريجه على ما أشرنا إليه.
ونحن نقرره، فنقول: لو اعتدى المقارَض في المال، ضمن، ولو ترك الاحتياط في الحفظ، ضمن، وترْكُ الإشهاد في العُرف تركٌ للاحتياط والتحفظ، فإذا جرَّ ضياعاً، أوجب الضمان، وعلى هذا الأصل قلنا: يضمن الوكيلُ البائعُ بالنقد إذا سلّم المبيعَ قبل توفّر الثمن، هذا في البيع إذا وقع نسيئة.
فأما إذا باع عيناً بثمن حالّ، وترك الإشهاد، لم ينسب إلى التقصير بترك الإشهاد لأمرين:
أحدهما: أن العادة لم تجر بالإشهاد في البياعات الواقعة بالنقود، والمتبع في ذلك كله العرفُ. والآخر- أنه في بيع العين يستمسك بالعين حتى يتوفر الثمنُ عليه، فإن سلم العيْن وجحد المشتري الثمن، فهذا تفريط منه الآن؛ فيلزمه الضمان.
وقد اختلف أصحابنا في القدر الذي يضمنه، فقال بعضهم: يضمن الثمن، وقال آخرون: يضمن قيمة المبيع؛ لأنه برَفْع اليد عنه في حكم من يضيع حقَّ الوثيقة على المرتهن.
وقال القفال: يضمن أقل الأمرَيْن من القيمة أو الثمن؛ لأن القيمة إن كانت أقلَّ، فنقول: كأنه فوت العين، وإن كان الثمن أقلَّ في صورة التغابن، فحقُّه بعد العقد الثمنُ، بدليل أنه لو حَصَلَ الثمنُ، لم يكن عليه شيء بعده. فهذا ما قاله الأصحاب.
والأصح عندنا أنه يضمن الأقلَّ، كما قال القفال، وإن كان الثمن أكثر، فتسليم العين لا يتضمن تفويتاً للزيادة، فليقع التعويل على هذا.
والذي أراه أن من ذكر خلافاً في أنه يضمن الثمن أو القيمة، سنح له طرَفا الكلام ولم يستكملهما. والاحتواءُ عليهما يقتضي ما قاله القفال؛ فلا مزيد عليه.
4957- ولو اشترى في القراض خمراً، أو خنزيراً، أو أم ولد، وسلّم الثمن، فلا شك في بطلان الشراء، وإنما الكلام في الضمان. فلو فعل المقارض ذلك على علمٍ، فهو ضامنٌ للمال الذي بذله، ثم لا تفصيل في شراء الخمر والخنزير بين المسلم والذمي. وإن كان الذمي قد لا يرى نفسه مُفرطاً في شراء الخمر، فلا معوّل على عَقده.
ولو كان المقارَض جاهلاً فيما زعم، بأن ظن الجارية قنّة، فإذا هي أمُّ ولد، لم يضمن الثمنَ الذي بذله؛ فإنه معذور في جهله بحالها، لأن القِنّة لا تمتاز عن أم الولد بعلامة تقْبلُ الإحاطةَ بها.
ولو اشترى خمراً وبذل ثمنها، ثم زعم أنه حسبها عصيراً، فهل يضمن الثمن المبذول؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يضمن كمسألة المستولدة.
والثاني: أنه يغرَم بسبب التقصير في ترك التأمل، والخمر تتميز عن العصير والخل بالرائحة الفائحة، فإذا التبست عليه، كان ذلك بسبب تقصيره.
ثم إذا خرجت الجاريةُ أمّ ولد، فأراد ردَّها على البائع، فأنكر البائع أصلَ البيع وقَبْضَ الثمن، وتعذّر الردُّ لذلك، لم يضمن المقارَض شيئاً لرب المال، بسبب تركه الإشهاد على شرائها، لما أوضحناه من أن ترك الإشهاد في شراء الأعيان وبيعها لا يُعدّ تقصيراً.
هذا منتهى المسائل المنصوصة، ونحن نرسم بعدها فروعاً مستفادة، وقد يجري فيها ما لا يختص بأحكام القراض صادفناها للأئمة في أثناء الكلام.
فرع:
4958- نص الشافعيُّ على أنه لو دفع إليه ألفاً قراضاً، ثم ألفاً آخر، فإذا خلط أحدَ الألفين بالآخر إن لم يكن تصرّف في واحد منهما، جاز، وكأنه دفع الألفين دفعة واحدة. وإن كان قد تصرف، لم يجز الخلط؛ لأنه ربما يكون قد وقع خُسرانٌ في أحد المالين، فإذا خلطهما وصارا مالاً واحداً، فيختلط الأمر، فإنّ جبران الخسران في أحد المالين لابد منه، ثم يلتبس الأمر، فلا يُدرَى الجابر والمجبور.
ونص على أنه لو اشترى عبداً للقراض، فقال رب المال: كنتُ قد نهيتك عن شراء هذا العبد، وأنكر العامل ذلك، فالقول قول العامل مع اليمين؛ لأنه أمين، والأصل إطلاق التصرف.
4959- ومما نص عليه الشافعي، وهو أصل في الباب أنه لو كان في مال القراض عبد، فلا ينفرد رب المال بكتابته، وكذلك العامل لا يكاتبه، وذلك لأن الكتابة بمنزلة الإتلاف، ولهذا يُحسب على المريض من ثلثه، وهذا بيّنٌ، والغرض وراءه.
فإن اتفقا على الكتابة صحت، ثم ينظر: فإن لم يكن في المال ربحٌ، وكاتباه على قدر القيمة، فهو مكاتَب رب المال، يعتِق بدفع النجوم إليه، والولاء فيه له.
والذي ذكره المحققون: أن الكتابة إذا صدرت على التراضي تتضمن في الصورة التي ذكرناها فسخَ القراض؛ فإن الكتابة في حكم الإعتاق، وما يستفاد من المكاتَب أمرٌ جديد وسنَنْعطف على هذا آخراً.
وإن كان في المال ربح: بأن كان رأس المال ألفاً وقيمةُ العبد ألفان، وقد يظهر الربح بالكتابة بأن كانت قيمته ألفاً، وكاتباه على ألفين، فالمكاتب بينهما، والنجوم بينهما: لرب المال ثلاثةُ أرباعها، وللعامل ربعها، فإذا أُعتق فثلاثة أرباع الولاء لرب المال، وربعُه للعامل. وهذا-من كلام الأصحاب- دليلٌ على أن الكتابة لا توجب فسخ القراض على الإطلاق؛ فإنهم أجرَوْا التصرفَ في نجوم الكتابة للمقارَض، لمّا فرضوا ورود الكتابة بعد ظهور الربح، وزادوا على هذا، وفرضوا الربح بعقد الكتابة. فكأنهم اعتقدوا الكتابة منجزة على هذا التقدير، ووجه التخريج أن الكتابة إن لم تكن مندرجةً تحت التجارة المطلقة، فإذا وقع التراضي بها عُدّت من المكاسب الملتحقة بالتجارات.
وهذا يناظر عندنا البيعَ بالنسيئة؛ فإن المقارَض لا يستفيده بإطلاق معاملة القراض، ولكن إذا وقع الرضا به، التحق بمعاملات القراض.
فليفهم الناظر ذلك، وليرجع من هذا المنتهى إلى أول المسألة: وهو إذا لم يظهر ربحٌ، وكان مالُ القراض عبداً، لا ربح فيه، فوقعت كتابته بقيمته، فمن أصحابنا من يرى ذلك فسخاً للقراض، ومنهم من لا يراه فسخاً، ويربط القراض بالنجوم.
وهذا تنبيه تفصيل المراتب، فنقول: إن تأكد القراض بظهور الربح، فالكتابة لا تتضمن فسخاً. وإن تضمنت الكتابة في نفسها إظهارَ ربحٍ، فالجواب كذلك. فإن لم يكن ربحٌ، ولم تتضمن الكتابة ربحاً، ففي انفساخ القراض وجهان.
فرع:
4960- إذا دفع رجلان كلُّ واحد منهما ألفاً إلى رجل ليشتري له به جارية، فاشترى بالألفين جاريتين لهما، ثم اشتبهتا عليه، ووقع الاعتراف بالاشتباه، فقد نص الشافعي على قولين:
أحدهما: أنه تُباع الجاريتان للمالكين، ويقسم الثمن بينهما، ولا نظر إلى تفاوت القيمتين؛ فإنّ التمييز قد تعذر، فإن حصل ربحٌ، فهو مقسوم بينهما.
والقول الثاني- أنا نترك الجاريتين على المشتري، ونلزمه قيمتَهما للمالكين، وكأنه أتلفهما عليهما بالنسيان المؤدي إلى الاشتباه، فالتزم قيمتهما، والجاريتان له؛ لأنه أحق بهما إذا غرم بدلهما لمالكيهما.
التفريع على القولين:
4961- إن قلنا بالقول الأول، وقد فرضنا المسألة في الوكيل، فنعود ونفرضها في المقارض، وللشافعي رضي الله عنه نصٌ على القولين في الوكيل والمقارَض جميعاً.
فإذا اشترى جاريتين لمقارضين على حسب ما صورناه، والتبس الأمر، بعناهما، فإن كان الثمن مثلَ مالَيْهما من غير مزيدٍ، قسم عليهما. وإن كان في الثمن ربحٌ، قسم الربح بينهما بالسَّوِية إذا استويا في أصل المال، ثم يرجع المقارَض على كل واحد منهما بحصته من الربح المشروط له.
وإن اتّفق خسرانٌ، فعلى المقارَض الضمان. هكذا قال الأصحاب. وهو يحتاج إلى فضل تدبر.
فإن كان النقصان من غير انحطاط السوق، فهو محمولٌ على التضييع، ولكن التبس الأمر، فلزمه الضمان، وإن انحط السوق، فعليه جبر ذلك النقصان.
وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا إذا بعنا الجاريتين، وقسمنا قيمتهما، فالقراض لا يرتفع، ولو أراد المقارَض أن يتمادى على التصرف، جاز ذلك، ما لم يفسخ القراض.
ثم إذا فرضنا خسراناً عن انحطاط السوق، فإطلاقُنا القولَ بأنه يجب جبره، معناه أنه يُجبر بالربح، الذي سيكون، وهذا لا يجب؛ فإن المقارَض لو أراد الانكفاف عن العملِ والاسترباحِ، كان له ذلك، والخسران في القراض لا يجبر إلا بالربح المستقبل. فإذا كان لا يجب الاسترباح، فكيف يجب جبرانُ الخسران؟ والوجه في ذلك أن قيمة الجاريتين إن انحطت على نسبة واحدة من غير تفاوت، وكانت القيمتان متساويتين، فإيجاب جبران الخسران بعيدٌ هاهنا. وإن انحطت قيمةُ واحدةٍ دون الأخرى، والتفريع على أنهما تباعان، فلا يمتنع وجوب الجبران هاهنا؛ فإن كل واحد من المالكين يقول: لعل الجارية التي لم تنقص هي لي، فيصير العامل جانياً جنايةً تقتضي الغرمَ بسبب النسيان. ثم هذا الجبران إن وجب، فهو من مال هذا العامل، لا من الربح الذي سيكون.
فهذا منتهى النظر في التفريع على هذا القول.
4962- وإن فرعنا على القول الثاني، فالجاريتان تنقلبان إلى ملك العامل إذا تحقق اللّبس، ثم اختلف جواب الأئمة، فقال بعضهم: يغرَم المقارَض لهما أموالَهما، ولا نظر إلى قيمة الجاريتين. وإليه إشارة العراقيين، وهذا يلحق بانقلاب البيع إلى الوكيل، وتنفيذه عليه. وقد مضى لذلك أمثلةٌ في كتاب الوكالة.
وذهب طوائف من المحققين إلى أنه يغرَم قيمة الجاريتين ويقسطها عليهما بالسَّويّة، وهذا إذا لم تنقص القيمتان عن مالَيْهما، وإن زادت القيمتان التزمهما وجُعل بالنسيان كأنه أتلف الجاريتين. وإن كانت القيمتان أقلَّ، فلابد من جبر النقصان؛ فإنّا لو لم نقل هذا، لضيعنا طائفةٌ من أموالهما.
ثم من اعتبر مالَيْهما، فيظهر أن يقول: تنقلب الجاريتان إليه قبل أن يغرَم لهما المالَين، ومن اعتبر القيمة، فالرأي في ذلك مترددٌ عندي، وفحوى كلام الأئمة على هذه الطريقة أنه كالمتلف، ومساق هذا أنه يملك، ويغرّم، ولا يترتب الملك على الغرامة، ولا يمتنع أن نقول: يتوقف جريان ملكه في الجاريتين على بذله قيمتيهما، كما يقول أبو حنيفة في ملك المضمونات بالضمان، فكيفما قدرنا، لم نسلِّم الجاريتين إليه، يفعل بهما ما يشاء قبل الغُرْم، هذا بيان القولين.
والقياس عندنا مذهبٌ ثالث، وهو أن تبقى الجاريتان لهما على الإشكال إلى أن يصطلحا، وسيكون لنا كلامٌ بالغٌ-إن شاء الله عز وجل- في اختلاط المتقومات بالمتقومات، مع تعذر التمييز. والذي أراه في ذلك أن أذكر فصلاً في كتاب الصيود عند ذكرنا اختلاطَ حمامِ زيدٍ بحمام عمرو مع اليأس من التمييز.
وما ذكره الشافعي من ترديد القول سببُه نسبةُ الوكيل إلى التقصير، من حيث إنه لم يتحفظ حتى نسي، فنشأ من هذا تنزيلُ النسيان منزلةَ الإتلاف في قولٍ. ولو خلط رجل حمامَ زيد بحمام عمرو قصداً، فلا يمتنع أن يخرّج فيه هذا القول؛ فإن الخلط أثبت عُسراً لا يزول وحيلولةً قائمةً لا ترتفع واعتماد الخلط أشبه بالإتلاف من طريان النسيان على الوكيل.