فصل: كتاب العارية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب العارية:

4496- العارية من المبارّ التي استحث الشرعُ عليها، وحمل كثير من المفسرين قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] على منع إعارة الفأس، والقدرة والمسحاة، ونحوها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المنحة والعارية مضمونة والزعيم غارم». ولما استعار من صفوان أدرعاً وسلاحاً، فقال: أغصباً يا محمد؟ قال عليه السلام: «لا بل عاريّةً مضمونةً مؤدّاة» وقيل: العارية في اللسان من قولهم: عار فلان يعيرُ إذا جاء وذهبَ، ومنه العير، وسمي العيَّار عيّاراً لجيئته وذهابه. والعارية إنّما سميت عارية لتحولها من يد المالك إلى يد المستعير، ثم من يد المستعير إلى يد المعير.
وهي في الشريعة عينُ مالِ الغير في يد الإنسان، لينتفع بها، بإذنٍ، ويردَّها، من غير استحقاق.
ثم صدر الشافعيُ الكتاب ببيانِ مذهبه في أن العارية مضمونة على المستعير، خلافاًً لأبي حنيفة.
وحكى الشيخ أبو علي في الشرح قولاً عن الشافعي في الإملاء أن العارية أمانة لا يضمنها المستعير ما لم يتعدَّ فيها. وهذا قول غريبٌ، لا تفريع عليه، ولا عودَ إليه.
4497- ثم إذا حكمنا بكون العارية مضمونة، لم نفصل بين الحيوان وغيره من الأعيان التي تستعار، واعتمد الأئمة في تثبيت الضّمان كونَ العارية مضمونةَ الرّد، وقالوا: مالٌ مضمون الرّد على المالك، فكان مضمون القيمة عند التلف، كالمأخوذ سوْماً.
وتحقيق ذلك أن الذي يجب ردّه، لو تلف تحت يد من يلزمه الرد، لم يلتزم بدلاً؛ لأنا قيدنا الكلام بالمال، وفقهه أن المال له بدل، فأمكن تضمين بدله، وهذا غير متصور فيما ليس مالاً. وما ألزموا والمال يستويان في إمكان الرد، فاستويا في مؤونة الرد. وإن ألزمونا المستعيرَ من المستأجر يلزمه ردّ العارية، ولو تلفت في يده، لم يضمنها. قلنا: اختلف أصحابنا فيه. فقال بعضهم: على المستعير من المستأجر الضّمانُ. والصحيح أنه لا يضمن. وفي الطريقة احتراز عنه؛ فإنا قلنا: مال يجب رده على مالكه، والمستعير لا يلزمه الرد على المالك، ولا يتصور الضمان للمستأجر، فخرج على الفقه الذي ذكرناه، ثم يده متفرعة على يد أمانةٍ، فاستحال تقدير الضمان من غير عدوان. والعين المستأجرة إذا تلفت في يد المستأجر، لم تكن مضمونةً عليه، ولا محسوبة من ماله، والمال في يد مالكه إذا تلف، كان ذلك خسراناً حالاً محل ما يضمنه بالإخراج من ماله.
4498- وأرسل الأصحاب مسائل في ضمان العواري نفياً وإثباتاً ونحن نرسلها كذلك.
فإذا قال: أعرتك حماري لتعيرني حمارك، كان إجارةً فاسدة؛ لاشتمال ما جرى على ذكر العوض، ولا ضمان في الإجارة الفاسدة.
ولو قال: أعرتك ثوبي هذا على أن تضمن لي عشرةً، إذا تلف في يدك، وكانت قيمته خمسة، فالخمسة الزائدة تشبه أن تكون عوضاًً، فلحق ما ذكرناه بالإجارة الفاسدة. ويشبه أن يكون عاريَّةً مشتملة على شرط فاسدٍ، فذكر القاضي وجهين في المسألة، وهي محتملة جدّاً. ثم قال: أصل هذا أنه إذا قال: وهبت منك هذا العبد بألفٍ، أنجعل ذلك بيعاً محضاً؟ أو هو على قضايا الهبات. وفيه قولان.
وهذه المسائل يجمعها أنا نعتبر اللفظ تارة في أمثال هذه المسائل، فعلى هذا اللفظُ للإعارة. وقد نعتبر المعنى دون اللفظ؛ فالمذكور من الزيادة عوضٌ.
ولو أشخص رجلٌ رجلاً إلى موضعٍ، لغرض المُشخِص، وأركبه دابةً، فليس ذلك عاريةً؛ فإن غرض المشخِص هو المعتبر، والعارية عينٌ يأخذها المستعير لمنفعة نفسه، لينتفع بها، ويردّها.
ولو جمحت دابة على مالكها، فأركبها إنساناً ليسيرها، ويحفظها، فلا ضمان، لما ذكرناه، وإن انتفع الراكب.
ولو وجد المسافر من قد أعيا وأعجزه الكلال، فأركبه دابةً من غير التماسه، فتَلِفت تحته، ضمنها؛ فإن ذلك عارية. ولو أردفه مركبه الذي هو راكبه، فتَلِف المركب تحتهما، ضمن الرديف نصف قيمة الدابة، لما ذكرناه.
وفي المسألتين عندنا نظر. من وجهين:
أحدهما: أنه يقع في قبيل العواري ما يضاهي الصدقات بالإضافة إلى الهبات، والصدقاتُ ليست على حكم الهبات؛ فإن من تصدق لم يرجع في صدقته، والواهب قد يرجع في هبته، فلا يمتنع أن لا يضمن من تبرع المعير عليه محتسباً أجراً، وحائزاً ثواباً. هذا وجه.
والثاني: يظهر في الرديف، فإن الدابة في يد مالكها، فإن نَفَقَتْ، أضيف تلفُها إلى يده، ولا تعويل على تأثير الرديف في الإهلاك، فإنَّ ضمان العواري لا يأتي من هذه الجهة، ولهذا لا يضمن المستعيرُ ما يُبليه من الثوب المستعار، على حسب الإذن، وسنقرر هذا متصلاً بما نحن فيه.
4499- واختلف أئمتنا في إعارة الدراهم والدنانير وإجارتهما: فذهب بعضهم إلى تصحيح إجارتهما وإعارتهما، وفصل آخرون، فمنعوا الإجارة، وصححوا الإعارة.
ومنشأ الخلاف يدور على ضعف منفعتها، فإن غاية المطلوب منها التزين والتجمل.
ومن يفصل بين الإجارة والإعارة يرى الإعارة مكتفية بأدنى منفعة، وليست إعارتها قرضاً عندنا خلافاًً لأبي حنيفة، فإن صححنا إعارتها، فهي مضمونة على المستعير. فإن قلنا: لا تصح إعارتُها، فهل يضمنها المستعير؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يضمنها، لأنها عارية فاسدة، وما اقتضى صحيحه الضمانَ، اقتضى فاسدُه الضّمانَ.
والوجه الثاني- وهو الأفقه، أن الضمان لا يجب؛ لأن العارية فسدت أو صحت تَعتمد منفعةً معتبرةً، فإن لم تكن، فلا عارية، فهذا من انعدام العارية، لا من فسادها.
ومن أقبض الغير مال نفسه لا لمنفعةٍ، كان أمانةً. وما ذكرناه في الدراهم يجري في استعارة الحنطة والشعير، وما في معناهما.
4500- ثم تردد الأئمةُ في ضمان الأجزاء التي تتلف باستعمال المستعار، على حسب إذن المالك. فالذي ذهب إليه المحققون القطعُ بأنّها لا تُضمن، من قِبل أنها تتلف بإتلاف المستعير، وإتلافهُ مأذون فيه من قِبل المالك. ولو قال المغصوب منه للغاصب: أحرق هذا الثوبَ الذي غصبته مني، فأحرقه، لم يضمن، وإن كانت يده يدَ ضمانٍ. هذا إذا انسحقت أجزاء من الثوب وغيرِه، على حسب الإذن بسبب الاستعمال، فأما إذا امّحق الثوبُ بالاستعمالِ، فقد ذكر القاضي وجهين حينئذ:
أحدهما- أنه لا يجب الضّمان، وهو الأصح؛ لما قدمناه من ترتب الإتلاف على إذن المالك.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان؛ فإن حقَّ العارية أن تُردّ، فإذا فات ردُّها، وجب الضمان. وكل مَرْفِقٍ فيها مشروط بالردّ. وهذا لا حاصل له.
ثم إن لم نوجب الضمان، فلا كلام، وإن أوجبناه، اندرج جميعُ الأجزاء تحت الضّمان؛ إذ لا ضبط، ولا موقف على وسط. وقد ذكر كثير من أئمتنا وجهين في ضمان الأجزاء وإن لم تتلف العين مصيراً إلى أن العارية مؤدّاة. وإذا تلف بعضُها، فقد فات الرد فيما تلف، والإذنُ في اللُّبس إذن على التزام الرد في الجزء والكل.
وكل هذا خبْط، والأصح نفي الضمان، من غير تفصيل.
4501- ولو استعار دابةً ليركبها، فتلفت تحته، أو عابت بسبب الركوب مع اقتصاده، والدواب تهلك إذا حملت أثقالها، فإن هلكت بهذا السَّبب، كان هلاكُها بمثابة امّحاق الثوب، وإن عابت بهذا السبب، كان ذلك بمثابة انسحاق الثوب بالبلى، مع بقاء ما يُردّ منه. وإن تلفت الدابة أو عابت بآفةٍ سماويّةٍ، وجب الضمان حينئذٍ.
ولو استعار حماراً ليركبه إلى مكان، ويرجع، فإذا جاوز ذلك المكانَ، فهو غاصبٌ من وقت المجاوزة. ومن حكم الغاصب أن يضمن أجرةَ المثل. هذا سبيله من وقت مجاوزته. فإذا أقبل راجعاً، فهل يضمن أُجرة المثل لمدة الرجوع، أم نقول: يضمن أجرتها إلى أن يردها إلى المكان المعين؟ وهل يضمن أُجرتها من ذلك المكان، إلى أن يردها إلى مالكها؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي. والاحتمالُ فيهما بيّن. وقد بناهما على أصلٍ في القَسْم بين النساء، فقال: إذا سافر بإحدى نسائه بالقرعة، فلا يقضي إذا عاد للواتي خلفهن أيام السَّفر، وإن انفرد بالتي سافر بها. فلو نوى الإقامة في موضعٍ، وقضى به أياماً ثم انتقض عزمه، وبدا له أن يعود. أما أيامُ الإقامة، فإنه يقضيها للمخلفات. فأمّا الأيام التي مضت من وقت انتقاض عزمه، واتجاهه راجعاً إلى بلدته، فهل يقضيها؟ فعلى وجهين، سيأتي ذكرهما. ووجه التنبيه لائح.
4502- وممّا نلحقه بهذه المسائل الكلامُ في كيفية ضمان العواري، وللشافعي قولان فيه:
أحدهما: أن العارية مضمونة ضمان الغصوب. والقول الثاني- أنها لا تضمن ضمانَها.
فإن قلنا: إنها تضمن ضمانَ الغصوب، فيجب فيها إذا فاتت أقصى القيم، من يوم القبض إلى يوم التلف. وحقيقة الضمان يحال على كتاب الغصب، وهو بين أيدينا.
وإن قلنا بالقول الثاني، فقد ذكر القاضي وغيره طريقين في معناه. فمن أصحابنا من قال: الاعتبار في قيمة العاريّة بقيمة يوم التلف. ومنهم من قال: الاعتبار بقيمة يوم القبض. والصحيح في العارية إذا قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب، أنها تضمن بقيمة يوم التلف، فإنا لو ضمناه يوم القبض، لضمّناه الأجزاءَ، وقد ذكرنا أنها ليست مضمونةً على الأصح.
ثم المنافع لا تضمن من المستعار بلا خلاف، وإن قلنا: إن العارية تضمن ضمان الغصوب، وهذا أصدق شاهد على أن الأجزاء لا تضمن، فإن المنافع لم يضمنها المستعير، من جهة أنَّه استوفاها بإذن مالك العين، والأجزاء بهذه المثابة.
والمأخوذ بالسوْم مضمونٌ، وفي ضمانه قولان في الأصل:
أحدهما: أنه يضمن ضمانَ الغصوب.
والثاني: أنه لا يضمن ضمان الغصوب. ثم الأصح فيه إذا لم يثبت ضمانُ الغصوب، أنه يضمن بقيمة يوم القبض. ومن أصحابنا من اعتبر يوم التلف.
وليس في المأخوذ بالسوم ما ذكرنا في العارية من استحالة اعتبار يوم القبض، لمكان الأجزاء، كما قررناه.
وإذا ولدت العارية في يد المستعير، فإن قلنا: إنه يضمن ضمانَ الغصوب، فولدها مضمونٌ، كولد المغصوبة. وإن قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب، فحكم الولد حكم ما لو ألقت الريحُ ثوباً في دار إنسانٍ. ثم سبيل المذهب فيه أنه إذا طالبه صاحبه بالرّد، فلم يرد، دخل في ضمانه، وإن تلف في يده قبل أن يتمكن من ردّه على صاحبه، فلا ضمان. وإن لم يطالب صاحبه بالرد، وتمكن من حصل في يده من الرد، فلم يرد حتى تلف، ففي وجوب الضمان وجهان. هذا حكم الثوب يُلقيه الرّيح في دار إنسانٍ، وحكمُ ولدِ العارية إذا قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب.
4503- وممَّا نذكره متصلاً بذلك ما لو استعار إنسان شيئاًً من إنسانٍ، وحسِب المستعير المعيرَ مالكاً، فإذا تلفت العين في يد المستعير، فقرار الضمان عليه في قيمة العين، فأمّا إذا غرَّمه المالك أجرَ مثل المنفعة مدة استيلائه على العين، نظر: إن لم يكن قد استوفى منفعتَها، رجعَ بما غرِم على المعير؛ لأنه لم يدخل في الاستعارة على أن تتقوم عليه المنفعة، وكانت المنافع في حقه بمثابة العين المودَعة في حق المستودع من الغاصب. هذا إذا لم يستوفها.
وإن كان قد استوفى المنافع وغرَّمه المغصوب منه الأجرةَ، ففي رجوعه بما غرِم وجهان، مبنيان على أن الغاصب إذا قدَّم الطعام المغصوبَ إلى إنسانٍ، فأكله ذلك الإنسانُ، ثم غرَّمه المالك، فهل يرجع بما غرِمه على الغاصب الغارّ؟ فعلى قولين، سنذكرهما في الغصوب، إن شاء الله.
4504- ثم ذكر الأئمة مسائل متفرقة فيما يجوز استعارته، وفيما لا يجوز ذلك فيه، فنقول: من استعار جاريةً للخدمة، نظر: فإن كانت مَحرماً له، جاز، وإن لم تكن محرماً، فإن كان يستخدمها من غير استخلاء بها، فلا تحريم، والكراهية ثابتة، فإن استخلى بها حرُم.
ولا يحل أن يستعير أباه للخدمة؛ فإن في استخدامه استذلالٌ وامتهانٌ، وسنذكر التفصيل في استئجار الإنسان أباه.
والمُحْرِم إذا أعار صيداً من الحلال كان مالكاً له، إذا أحرم، فإن قلنا: زال ملكه بالإحرام، لزمه الإرسال. وإذا أوقعه في يد المستعير، وتلف في يده، لزمه الجزاء. وإن قلنا: لم يزل ملكه، لم يلزمه الإرسال، وتصح منه إعارته. فإذا استعار المحرم صيداً من الحلال، فتلف في يده غرِم القيمةَ للمالك، والجزاء لله تعالى.
فرع:
4505- ليس للمستعير أن يؤاجر المستعارَ؛ فإنه ليس مالكاً للمنافِع، والإجارة تمليك، فلا يتأتى منه أن يملك ما لا يملك، والمنافع في حق المستعير مباحة لا يثبت له فيها ملكٌ.
وهل للمستعير أن يعير من غير إذن المالك؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه لا يجوز ذلك؛ فإن المالك خصصه بالاستباحة، فلم يكن له إحلالُ غيره محلَّ نفسه، كما إذا قدم الإنسان طعاماً إلى الضيف ليأكله، فليس له أن يُبيحه لغيره، حتى قال العلماء: لا يحل له أن يُلقي لقمةً إلى هرةٍ إلا أن تدل القرائن دلالةً ظاهرة أن صاحب الطعام سلط الضيف على جميع هذه الجهات.
وسيأتي شرح ذلك في باب الوليمة، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال الشافعي: "ولو قال: أكريتُها إلى موضع كذا، بكذا... إلى آخر الفصل".
4506- إذا أخذ الإنسان الدابة من مالكها ليركبَها، ثم اختلفا، فقال المالك: أكريتُك هذه الدابة بأجرة مسماةٍ، ذكرها، وقال الراكبُ: ما أكريتني، بل أعرتنيها، فلا تخلو الدابة إما أن تكون قائمةً، أو تالفةً: فإن كانت قائمة، فلا يخلو إما أن يقع النزاع على الاتصال بالعقد قبل مضي مدّةٍ لمثلها أجرة، وإمّا أن يتفق النزاع بعد مضي المدة التي ادعى المالك أنها مدة الإجارة، ولو انقضى بعض المدّة، لانتظم ما نحاوله في هذا القسم. ولكنا نفرض الكلام في انقضاء المدة بكمالها.
فإذا انقضت والنزاع كما ذكرناه، فقد تحقق باتفاق المالك والراكب أن انتفاع الراكب كان بإذن المالك، ولكنهما تنازعا، فادّعى الراكبُ أنه أباح له المالك المنفعة من غير عوضٍ، وادعى المالك عوضاً، فالقول قول من؟ المنصوص عليهِ للشافعي هاهنا أن القول قول الراكب، ونص في كتاب المزارعة على أن مثل هذه الصورة لو جرت في أرضٍ، فزعم المنتفع بها أنه استعارها، وزعم مالكها أنه لم يُبح له منافعها، وإنما أجَّرها. قال: "القول قول المالك"؛ فاختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين، فمنهم من قال: في المسألتين قولان، نقلاً، وتخريجاً:
أحدهما: أن القول قول المنتفع في المسألتين. والقول الثاني- القول قول المالك في المسألتين.
ومن أصحابنا من أقر النصَّين، وفرق بينهما بأن قال: استعارة الدابة معتادةٌ فقول المنتفع ليس بعيداً عن الصدق، والأصل براءتُه عن الأجرة. وإعارة الأرض بديعة في العادة، غيرُ معتادةٍ، فالظاهر مع المالك في نفي الإعارة.
والصَّحيح طريقة القولين في المسألتين.
4507- توجيه القولين: من قال: القول قول المنتفع، احتج بأن قال: إن المنتفع يقول: وافقتني أيها المالك في الإذن بالانتفاع، وادّعيت عليَّ وراء ذلك مالاً، والأصل براءة ذمتي منه.
ومن قال: القول قول المالك، احتج بأنه يقول: الإذنُ في الانتفاع لا ينافي التزامَ العوض، وأنت أيها المنتفع تدعي وراء الإذن عليَّ إباحةً مُحبطةً لمالي، فلا يقبل قولُك، وقد أتلفت المنافعَ، وهي متقومة في الشرع. هذا بيان القولين.
التفريع عليهما:
4508- إن قلنا: القول قول المالك مع يمينه، فلابد أن يتعرضَ في يمينه لنفي الإعارة؛ فإنه مدعًى عليه في العارية. ثم قال شيخي وطائفة من المحققين: لا يتعرض المالك لإثبات الإجارة، بل يقتصر على نفي الإعارة؛ فإنه إنما يحلف فيما يُدَّعى عليه، ولو حلف في إثبات الإجارة، لكان مدَّعياً حالفاً على إثبات دعواه، وهذا لا يسوغ إلا في القسامة.
وذكر العراقيون والقاضي: أن المالك ينفي الإعارة، ويتعرض لإثبات الإجارة، وأجرتها المسماةِ، فيقول: بالله ما أَعَرْتُ، ولقد آجرت بكذا.
ووجه ما ذكرهُ شيخنا لائحٌ، لا حاجة إلى الإطناب فيهِ.
فأمّا من قال:. إنه يتعرض لإثبات الإجارة، قال: إنما كان يُكتفى بنفي الإعارة لو كان ينكر أصل الإذن، وليس هو بمنكرٍ له، ولا يمكنه أن يتوصل إلى إثبات الماليّة بنفي الإذن، ونسبةِ المنتفع إلى الغصب، والاستبداد؛ فإن أصل الإذن متفق عليه.
وإنما يثبت المال مع اعترافه بالإذن بطريق الإجارة، فقد اضطررنا إلى تمليكه الحلف على إثبات الإجارة.
والقائل الأول يقول: إذا نفى الإباحة، ثبت له حق المالية في المنافع، وهذا إثباتٌ يعارض نفيَ الإباحة، مع تقدير الإذن، فليقع الاكتفاء بهذا.
وهذا أقيس، ولما ذكره العراقيون وجه، كما أشرنا إليه.
فإن قلنا: لا يتعرض المالك لإثبات الإجارة، فلا تثبت الأجرة المسماة، ولا نطلق القولَ بثبوت أجرة المثل أيضاً، ولا سبيل إلى إحباط حق المالك، فالوجه أن نقول: إذا حلف، استحق أقل الأمرين من أجرة المثل، والمسمّاة. فإن كانت أجرة المثل أقلَّ، لم يستحق غيرَها؛ فإنه لم يُقم حُجةً على إثبات الأجرة المسماة، وإن كان المسمى أقلَّ من أجرة المثل، لم يطالب إلا بالأجرة المسماة؛ فإنّه معترف بأنه لا يستحق إلا هذا المقدار، فكان مؤاخذاً بإقراره.
هذا إذا قلنا: إنه لا يتعرض لذكر الإجارة، وما فيها من العوض المسمى.
4509- فأمّا إذا فرعنا على ما ذكره العراقيون: من أنه يتعرض في يمينه المعروضة عليه لإثبات الإجارة، وما فيها من الأجرة المسماة، فإذا حلف على نفي الإعارة، وإثبات الإجارة، فيستحق ماذا؟
فعلى وجهين: ذكرهما القاضي، وقال العراقيون: فيه قولان منصوصان للشافعي:
أحدهما: أنه يستحق أقلَّ الأمرين من أجرة المثل، والأجرة المسمّاة، كما ذكرناه؛ وذلك أن إثبات ما يدعيه بيمينه المعروضة عليه ابتداءً بعيدٌ جداً، ولكنه ذكر الإجارة لينتظم كلامه، من حيث كان معترفاً بأصل الإذن، فلا يستفيد إذاً بذكر الإجارة إلا نظمَ الكلام، وتعليلُ الأقل ما قدمناه من مؤاخذته بالإقرار إذا كانت الأجرة المسماة أقل.
والقول الثاني- أنه يستحق الأجرة المسماة؛ فإنه إذا أُحوج في يمينه إلى ذكر الإجارة، وقد ذكرها بصفتها، فيثبت له العوض الذي سمّاه. وهذا وإن كان بدعاً في قياس الخصومات، فسببه أنّ الواقعة في نفسها بدْعٌ، كما نبهنا عليه؛ إذ قلنا: الإذن متفق عليه، فلا يأتي ضمان المنافع من استقلال بانتفاعٍ، وإنما يأتي من إذنٍ مقرون بالعوض، وحق المالك لا يُحبَط، فعسُر الأمر، وتركَّبت المسألة من أصلين متعارضين، كما نبهنا عليه.
4510- ومما يتعلق بتحقيق هذا الفصل: أنا إذا أثبتنا للمالك المسمى، فلابد من ذكر الأجرة المسماة لا شك فيه، وإن قلنا إنه يستحق أقل الأمرين، فالظاهر عندنا أنه يكفيه ذكر الإجارة، لينبه بذكرها على الطريق؛ فإنّه إذا كان لا يستحق عوضاً، فلا حاجة إلى ذكر العوض، وهذا محتمل جداً. والعلم عند الله.
4511- ولو عرضنا اليمين على المالك، فنكل، فقد قال العراقيون: لا ترد اليمين على الرّاكب؛ فإنه لا يدعي إلا الإعارة، ولا حق على المستعير، ووضع يمين الرد أن يثبت للمردود عليه حقاً، وليس الأمر كذلك في هذه الصُّورة، فالحقُّ إذاً للمالك، فإن أثبتها باليمين، فذاك. وإن تركها، فلا معترض عليه.
وهذا الذي ذكروه حسنٌ فقيه. ولكنه خارج عن قياس المذهب، مفضٍ إلى القضاء بالنكول، وإنما وقعت المسألة شاذّة، لأنها بصورتها مخالفة لصور الخصومات، فإنّا أقمنا المدّعي في منصب المدّعى عليه، لفقهٍ حمل على هذا، ودعا إليه، والخصم الراكب ليس يدعي لنفسه مالاً، فيحلف على ماذا؟
وفي كلام القاضي رمز ظاهرٌ إلى أن اليمين ترد على الراكب، وفائدتها الخلاص من الغُرم، وإن استبعد مستبعد هذا، عارضناه بتحليف من يدعي الإجارة، وبالقضاء بالنكول، وكلُّ خصومة تدار على قضية تليق بها.
والأظهر ما ذكره العراقيون. والعلم عند الله.
هذا كله تفريع على قولنا: القول قول المالك.
4512- فأما إذا قلنا: القول قول المنتفع، فيحلف بالله ما اكترى. فإن حلف على نفي ما يُدّعى عليه من الإجارة، كفاه ذلك، وبرىء عن الغُرمِ، وإن نكل عن اليمين، رُدّت اليمين على المالك، فيحلف على إثبات الإجارة، والأجرةِ المسماة.
وليس ذلك بدعاً؛ فإن يمين الرد تتضمن إثبات الحقوق للحالف. ثم الوجه القطع بأنّه يستحق الأجرةَ المسماةَ، بالغة ما بلغت؛ فإنه أثبتها بيمين الرّد، وادعاها أولاً.
وهذا قياس يَطّرد في الحقوق المدعاة، إذا انتهت الخصومة إلى يمين الرد فيها.
وذكر القاضي وجهين: هذا أحدهما. والوجه الثاني- أن المالك يستحق أجرة المثل؛ لأن المنتفِع ينفي أصل الكراء، وهو مدع للإذن في الانتفاع، وقد نكل عن اليمين على أصل الكراء، فيقع يمين الرد على إثبات أصل الكراء.
وهذا على نهاية السقوط، وإنما حكيته لعظم قدر القاضي. ثم في هذا الوجه الضعيف خللٌ آخر، وهو أنه أثبت أجرة المثل، والوجه أن يقال: إن كانت أجرة المثل أقلَّ، فله أجرةُ المثل، وإن كان المسمى أقلَّ، فليس له إلا الأقلَّ، كما قدمناه. ولا ينبغي أن نعد هذا الوجهَ من المذهب. والعراقيون في التفريع على تصديق المالك ذكروا القولين في المسمّى أو الأقل، وقطعوا القول في التفريع على تصديق المنتفع بأنه إذا نكل وحلف المالك، استحق ما ادعاه.
وهذا كله فيه إذا جرى الخلاف كما وصفناه، والعين قائمة، وقد مضت المدة التي تقابلها الأجرة لو صحت الإجارة.
4513- فأما إذا كانت العين باقيةً، ولم يمض من وقت التعامل، أو التقاول بين المالك وبين المنتفع، وأَخْذه العينَ زمانٌ به مبالاة، ولمثله أجرة، فقد قال العراقيون والقاضي: نقطع القول في هذه الصورة بأن الراكب يحلف على نفي الإجارة، وتردّ الدابة، ولا ينقدح في هذه الصورة اختلافُ القول بأن المالك يدّعي إجارةً، والراكب ينفيها، ويذكر الإعارة، فالقول قوله في نفي الإجارة مع يمينه. فإن حلف ردّ العين؛ فإن إنكار المالك للإعارة نقضٌ لها إن كانت، فليس إلا ردّ العين.
وإن نكل المنتفع عن اليمين رَدَدْنا اليمين على المالك، فإن حلف يمين الرد، استحق الأجرة، وسلم الدابة إلى الراكب. فإن قيل: لِمَ لَمْ تجعلوا المسألة على قولين في هذه الصورة، في أن القول قول المالك أو قول الراكب، كما ذكرتموه في الصورة الأولى، وهي إذا مضت المدة؟ قلنا: إذا لم تمض المدة، فالمدعي على الحقيقة المالكُ، والمنتفع ليس يدعي لنفسه حقاً، فلا معنى لتخيل الخلاف في هذه الصورة. وسبب اختلاف القول في الصورة الأولى، أن المنافع تلِفت تحت يد الراكب، وعسر علينا إحباطها، فأعضلت الخصومة وجرّت تردداً، أما هاهنا، فلا المنتفع يدعي لنفسه حقاً، ولا المنافع تلفت على المالك.
والذي يُشْكِل في هذا الطرف أنا على طريقة العراقيين في صورة القولين، إذا جعلنا القول قولَ المالك، نحلِّفه ابتداء على إثبات الأجرة، ونقول في قول: إنه يستحق الأجرة المسماة: فكان لا يمتنع على هذه الطريقة أن يصدق المالك مع يمينه في إثبات الإجارة؛ تفريعاً على تصديق المالك.
وهذا ليس بشيء؛ فإن قول تصديق المالك، إنما جرّه ضرورةُ فوات المنفعة، فإذا لم يتفق هذا، فليس إلا الرجوع إلى القانون في أن المالك يدعي إجارةً، وراكب الدابة ينفيها. فالقول قول النافي مع يمينه، فإذاً لا وجه إلا القطعُ بما ذكره العراقيون والقاضي.
وكل ما ذكرناه تفريع فيه إذا كانت العين قائمة.
4514- فإن تلِفت العينُ في يد المنتفع، فلا يخلو النزاع إما أن يقع قبل مضي المدة، وإما أن يقع بعد مضي المدة: فإن وقع النزاع قبل مضي المدّة، فصاحب اليد معترف بالقيمة للمالك؛ من جهة ضمان العارية، والمالك منكرٌ لوجوبها عليه، فلا نثبت له ما أقر به المنتفع، إلا أن يعود فيصدقه ثانياً، بعدما كذبه، فيثبت حينئذ موجَبُ العارية.
4515- وإن انقضت المدة، ثم تلفت العين، يُنظر: فإن كانت الأجرة أكثرَ من القيمة، فالمالك يدعي عِوضَ المنافع التي أُتلفت عليه، والمنتفع ينكرها فتخرج المسألة على قولين، في أن القول قول من؟ وسبب خروج القولين أن تلك الزيادة يبعد إحباطها على مالك المنافع من غير ثَبَت.
وإن كانت الأجرة والقيمة سواء، فهما متنازعان في جهة الثبوت، متفقان على الأصل والمقدار. وفيه وجهان:
أحدهما: أن التنازع في جهة الثبوت لا يمنع الأخذَ، فعلى هذا يُطرح الاختلاف، والتحليف، والرّد، ويُعطى الرجل مقدارَ ما يدعيه. هذا وجه.
والوجه الثاني- أن اختلاف الجهة يمنع الأخذ، فعلى هذا لا يأخذ المالك من المنتفع شيئاً مع التنازع في الجهة، أمّا القيمة، فليس يدّعيها، ولا يستحق أخذَها على الوجه الذي عليه نفرّع، بقي ادّعاؤه للأجرة، وهو يدّعيها، والمنتفع ينفيها؛ فيعود القولان لا محالة.
وقد نجز القول في صورةٍ واحدةٍ من اختلاف المالك والمنتفع.
4516- ونحن نذكر صُورتين أخريين بعد هذه: إحداهما- عكس الصورة المتقدمة: فإذا قال المالك: أعرتكها، وقال المنتفع: بل أكريتنيها، فلا يخلو إما أن تكون العين قائمةً، أو تالفة: فإن كانت العين قائمة، لم يخل إما أن يكون النزاع متصلاً من غير تخلل زمانٍ معتبر، وإما أن يقع بعد التسليم زمانٌ معتبر.
فإن وقع النزاع متصلاً، فالقول قول المالك: إنه ما أكراه؛ فإن الأصل عدمُ الإجارة، وهي مدّعاة على المالك في ملكه، فالقول قوله مع يمينه. فإن نكل، حلف المنتفع، واستحق دعواه.
فإن تنازعَا بعد مضي المدّةِ، فالمنتفع مقر للمالك بالأجرة، وهو ينكرها.
ولا يخفى حكم ذلك.
4517- وإن كانت العين تالفةً، فلا يخلو إما أن يتنازعا على الاتصال، أو يقع النزاع منفصلاً، بعد مضي المدّة، فإن تلفت على الاتصال، ثم تنازعا، فالمالك مدّعٍ للقيمة، والمنتفع يدعي أن العين كانت أمانةً بحُكم الإجارة. فالقول قول المالك مع يمينه "بالله ما أكراه". فإذا حلف كذلك، استحق القيمة؛ لأنهما اتفقا على أنه أخذ العين للانتفاع. والمالك نفى الإجارة، فتعينت الإعارة؛ إذ ليس بين الإجارة والإعارة مسلكٌ بين المتنازعين. فإذا بطل أحد المسلكين، نزلت القضية على الثاني.
فإذا انقضت المُدّة واعترف المنتفع بالأجرة، وتلفت العين، فالمالك مدّعٍ للقيمة، منكرٌ للأجرة. والمنتفع معترفٌ بالأجرة منكر للقيمة. فإذا كانت القيمة أكثرَ من الأجرة، فالقول قول المالك، مع يمينه في نفي الإجارة. وسبيل ثبوت القيمة بكمالها وإن زادت على مبلغ الأجرة، كثبوت أصل القيمة، والتنازع وتلف العين متصلانِ. فإذا كنّا نثبت القيمة على المنتفع بطريق إنكاره الإجارة، وإن كان المنتفع منكراً لأصلها، وكذلك القول في لزوم القيمة الزائدة بكمالها حتى يعترف المنتفع بالأجرة.
وإن استوى مبلغ القيمة والأجرة، فهذا تخريج على أن الاختلاف في الجهة، مع الاتفاق في المدّعى عليه جنساً وقدراً، كيف سبيله؟ فإن حكمنا بأن الاختلاف في الجهة لا أثر له، فقد انقطعت الخصومة بين المالك والمنتفع، وهو مطالب بالمبلغ الذي أقرّ به، فليسلمه إلى المالك، وليعتقده أجرةً أو قيمةً، وإن حكمنا بأن اختلاف الجهة يؤثر، فاعتراف المنتفع بمقدار الأجرة ساقط الأثر، والمالك مدع للقيمة بطريق الإجارة، فليحلف كما تقدم ويستحق القيمة.
وحظ الفقه من هذا الفصل أن يفهم الناظر تميزه عن الصورة التي أجرينا القولين فيها في الصورة الأولى من الاختلافِ، ومن كان سباقاً إلى ذكر القولين وادّعائهما، فهو غير محيطٍ بأطراف المسألة. وإنما ينشأ القولان إذا فرض تلف المنافع في يد المنتفع، مع قيام الوفاق على الإذن، وفرض الاختلاف بعد ذلك في أنها إذا تلفت مع الإذن مضمونة، أو غير مضمونةٍ. وقد كررنا هذا مراراً، ونحن نطلبُ بتكريره أن يحيط الناظر به علماً.
4518- الصورة الأخيرة في اختلافهما أن يقول المالك لراكب الدابة: قد غصبتنيها، ويقولَ المنتفع: بل أعرتنيها، فلا يخلو إمّا أن يجري ذلك والعين قائمة، أو يجري والعين تالفة: فإن كانت قائمةً، ينقسم القول إلى فرض النزاع متصلاً بحيث لا يمضي زمان معتبر بين تسليم العين وبين إنشاء النزاع، وإلى تقديره بعد مضي زمانٍ من وقت قبض العين.
فإن اتصل النزاع، فلا معنى له، ولا أثر؛ فإنه لم يفت شيء من العين، والمنفعة بالعين مردودة على مالكها.
وإن مضت مدة، فالمالك يدعي أجرة مثل تلك المدة، والمنتفع ينكرها.
قال المزني: قال الشافعي: القول قول الراكب الذي يدعي الاستعارة، وقطع جوابه بهذا.
واختلف أصحابنا على طرقٍ: فذهب القياسون إلى القطع بتخطئته في النقل، ورد الأمر إلى تصديق المالك في نفي الإعارة مع يمينه. وإذا هو نفاها، استحق أجرة المنفعة التالفة تحت يد المنتفع، بها.
وليس ذلك كالاختلاف في الإجارة والإعارة؛ فإن هناك اتفقا على الإذن في الانتفاع، واختلفا وراء ذلك في جهة الإذن. قال: القول قول المالك إلى ادعاء عقد، وهو الإجارة، وتعرضت المنافع على زعم المنتفع، وموجَبِ قوله للتعطيل.
فكان اختلاف القول لذلك، والمالك في هذه الصورة الأخيرة منكر لأصل الإذن.
ومن أصحابنا من قال: ما حكاه المزني قولٌ، وفي المسألة قول آخر، فيحصل قولان في أن القول قول من؟ وهذا بعيد عن القياس.
ومن أصحابنا من قطع القول بما نقله المزني، واتبع نقله ووثق به، ثم لم يعتصم إلا بمسلكٍ مائل عن القياس، وهو أنه قال: الأصل نفيُ العدوان، والظنُّ بكل منتفع انتفاءُ اعتدائه. وكأن هذا القائل يقول: لا نحمل يد صاحب اليد على الغصب والعدوان، وقد أمرنا بتحسين الظن به، فعلى من ادّعى العدوان إثباتُه.
وهذا لا وقع له عند المحصلين وإن اضطر الأصحابُ إلى ذكره. هذا كله، والعين قائمة.
4519- فإن تلفت العين، انقسم الأمر، فلا يخلو: إما أن يقع التلف متصلاً، أو بعد مضي مدّةٍ، فإن اتصل التلف، ثم تنازعا، فللمالك القيمة، ولا أثر للخلاف؛ فإن العارية مضمونةٌ، والغصب مضمون، ولا يتصوَّر فرض تفاوت مع الاتصال.
ولا يخرج في هذه الصورة الخلاف المشهور للأصحاب باختلاف الجهة، حتى يقال: إحدى الجهتين غصبٌ والأخرى عارية، فإن العين متحدة، فلا وقع للاختلاف.
وإن وقع التلف بعد مضي مدة، فالمالك يدعي أجرة مثل المنفعةِ في ذلك الزمان، والقيمةَ، والمنتفع مقر بالقيمة، منكر للأجرة، فالكلام في الأجرة في هذه الصورة كالكلام فيها إذا كانت العين قائمةً، وقد ذكرنا نقل المزني واختلافَ الأصحاب وراء نقله. وما قدمناه يعود، يعني الطرق الثلاث. أما القيمة إن قلنا: تضمن العارية ضمان الغصوب، فقد وقع الوفاق في قدر القيمةِ، فيستحقها المالك. وإن قلنا: العارية مضمونة بقيمتها يوم التلف، وكان قيمة يوم التلف أكثر، فتجب القيمة ولا أثر للنزاع والاختلاف.
وإن كان قيمة يوم التلف أقل، فلا نقل في هذه الصورة. والذي يقتضيه القياس أن القول قول المالك، لأنه جاحد لأصل الإذن، وقياس نقل المزني أن ننفي العدوان ونجعل القول في نفيها قول صاحب اليد. ثم ينتظم من ذلك الطرق التي قدمناها.
هذا نجاز القول ومنتهاه في اختلاف المالك والمنتفع.
فصل:
قال: "ومن تعدى في وديعةٍ، ثم ردّها... إلى آخره".
4520- هذا الفصل غير لائق بمسائل العارية، وإنما هو من كتاب الوديعة.
ولكن إذا اعترض، فلابد من الكلام عليه جرياً على الترتيب، فنقول: المودَع إذا تعدى في الوديعة، فاستعملها: بأن كانت ثوباً فلبسه، أو دابة فركبها، ثم ترك العدوان، وقطع الانتفاع، فالعين مضمونة، لا يزول ضمانُها بقطع العدوان، من طريق الصورة. خلافاًً لأبي حنيفة.
فلو قال المالكُ بعد ثبوت الضّمان: استودعتك على الابتداء، وجرى هذا بعد العدوان، واليدُ مستمرة. ففيه الخلاف المشهور، المذكور في كتاب الرهون. ولو قال المالك: أبرأتُك من الضمان، ففيه وجهان قدّمتُ ذكرَهما أيضاً. والخلاف عن أبي حنيفةَ مشهورٌ في المسألة.
4521- ولو فسق الأب المتصرف في مال الطفل، فهل ينعزل؟ فعلى وجهين، سيأتي نظيرهما في فسق الولي في النكاح، إن شاء الله- ثم إن حكمنا بانعزال الولي فلو عاد أميناً هل يعود تصرفُه بحكم الولاية؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب:
أحدهما: وهو الذي يجب القطع به، أنه يعود بنفسه ولياً؛ فإنه كان ولياً شرعاً من غير توليةٍ، وقد زال المانع من ائتمانه، وهوآبَ من أهل النظر، فيجب أن يلي.
والوجه الثاني- أنه لا يعود ولياً، ما لم ينظر الحاكم في أمره، فإن رآه أميناً، واستبرأه، أعاده إلى حكم الولاية. وهذا القائل لا يشترط أن يقول للولي: نصّبتك ولياً، ولكن الغرض عنده أن يُظهر الحاكم عودَه بحكمه له بالولاية، لا بإنشاء التولية. ثم قال هؤلاء: لو كان السلطان انتزع المال من يد الأب لما فسق، ثم لما حسنت حالتُه، واستبرأ، فردّ المال إليه، كفى ذلك.
وهذا صحيح؛ فإنا على هذا الوجه، لا نبغي تولية الأب إنشاءً، بل نشترط أن يُظهر الحاكمُ عودَه متصرفاً، وهذا يحصل بردّ المال إليه، ولا شك فيما ذكرناه.
فالخلاف راجعٌ إلى أنا هل نشترط أن يُظهر الحاكم عدالة الولي بعد فسقه؟ من أصحابنا من يشترط ذلك، ومنهم من لا يشترطه ويحكم بعَوْد سلطان الأب، وتصرفه، إذا عاد عدلاً، وإن لم نرفع أمره إلى الحاكم.
والوصي إذا فسق، فالظاهر أنه ينعزل، كما سنذكر في كتاب الوصايا، ثم إذا عاد أميناً، لم يعد تصرفه، إلا أن يأتمنه الحاكم ابتداءً. ولا يكتفى في هذا بإظهار الحاكم، حتى ينشىء التولية. وهذا بيّنٌ.
4522- ثم من سلطان الأب والجد عند عدم الأب أنهما يملكان تولي طرفي العقود الواردة على الأموال، وقد تكرر ذكر هذا، فلو وكّل الأب أو الجد وكيلاً، وفوّض إليه أن يتولى طرفي العقد، فهل يصح من الوكيل ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يصح؛ فإنه لا يتعاطى هذا غيرُ الأب والجدّ.
والثاني: يصح من الوكيل ذلك؛ من جهة أن عبارته بمثابة عبارة الموكل، والتوكيل جائز في قبيل هذه التصرفات.
ومما يتصل بمضمون هذا الفصل، ما قدمناه في كتاب الوكالة من أن الوكيل إذا تعدّى في العين التي سلمها الموكِّل إليه لبيعها، فهل ينعزل بعدوانه في محل تصرفه عن التصرف الذي فوّض إليه؟ المذهبُ أنه لا ينعزل. وفيه وجهٌ بعيد، قدمتُ حكايته.
فصل:
قال: "وإذا أعاره بقعة ليس فيها بناء... إلى آخره".
4523- قال الأصحاب: مالك الأرض إذا أعارها مطلقاً من إنسانٍ، ولم يبيّن نوعاً من المنافع، لم تصح العارية، ولم يملك من تصدّى للاستعارة الانتفاعَ بوجهٍ من الوجوه، فلابد إذاً من ذكر نوعٍ من المنفعة.
والسببُ فيه أن الإعارة معونةٌ شرعية، نزلت على قدر حاجة المستعير، فلتُفرض على حسب الحاجة، ولا حاجةَ تمس إلى الإعارة المرسلة، ولم يَجْرِ بها عرفٌ بين المستعير والمعير. هذا الذي ذكرناه هو الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: تصح الإعارة المرسلة، والمستعير ينتفع على أي وجه شاء.
ولو قال المالك: أعرتك هذه الأرضَ، فافعل بها ما بدا لك، ففي هذه الصُّورة وجهان عند من لا يصحح الإعارة المرسلة.
وإن بيّن نوعاً من المنفعة، ولم يفصله، صحت الإعارة في ظاهر المذهب، مثل أن يقول: أعرتكها لتزرع فيها، أو قال لتغرس، أو تبني، فظاهر المذهب صحّة الإعارة، وإن لم يفصل الزروع وعلمنا تفاوت آثارها.
ومن أصحابنا من لم يصحح الإعارة؛ للتفاوت الظاهر البين في النوع الواحد.
4524- وإن أذن له في نوع من الزرع وخصصه، لم يكن له أن يزرع زرعاً يزيد ضررُه على عين ما عيّن، مثل أن يعين المعيِّن زراعةَ الحنطة، فليس للمستعير أن يعيّن الذرة.
وكذلك لو عين الشعير، لم يزرع الحنطة؛ فإن ضرر الحنطة أظهرُ وأكثر من ضرر الشعير.
وهي فيما قيل تنتشر عروقها أكثر من انتشار عروق الشعير، وتجتذب قوة الأرض.
وإذا عين المعير زرعاً، فللمستعير أن يزرع ما هو أقل ضرراً منه، والسبب فيه أن مقصود المعير بالتعيين المنعُ عما يزيد ضرره، فإذا كان الضرر فيما جاء به المستعير أقلَّ، عُدَّ في العرف موافقاً للمعير المالك. وهذا بمثابة ما لو قال لوكيله: اشتر لي هذا العبد بألف درهم، فلو اشتراه بخمسمائةٍ، كان موافقاً. ولو اشتراه بأكثرَ من ألفٍ، كان مخالفاً.
ولو نصّ المعير على تعيين الحنطة مثلاً، وصرح بالمنع من زراعة الشعير، فظاهر المذهب أنه يتعين على المستعير اتباع ما ذكره المعير.
فإن قيل: قد قلتم: ليس للمستعير أن يعير في ظاهر المذهب، وإن كان انتفاع غيره
بمثابة انتفاعه، فهلا قلتم: ليس له أن يبدل زرعاً بزرع، عند جريان التعيين جرياناً على الاتباع في الموضعين؟ قلنا: لا سواء؛ فإن اليد إذاً لم تتبدّل، فليس عين الزرع من حظ المعير، وإنما حقه الذي أباحه مقدارٌ من منفعة الأرض، فلا فرق بين أن يستوفيها بالزرع المذكور، وبين أن يستوفيها بغيره إذا لم يزد الضرر، فأمّا إذا أعار، فقد أزال يد نفسه ولإزالة اليد وقعٌ في النفوس لا ينكر.
ولو قال: أعرتك لتزرع ما شئت، زرع ما شاء.
ولو قال: لتزرع، لم يَبْنِ المستعيرُ، ولم يغرس. ولو قال: لتبني، أو لتغرس، فله أن يزرع؛ فإن ضرر الزرع دون ضرر البناء والغراس. ولو قال: لتبني. هل يغرس؟ أو قال: لتغرس. هل يبني؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون وصاحب التقريب:
أحدهما: له ذلك.
والثاني: وهو الأصح- أنه لا يفعل؛ فإن في كل واحدٍ من البناء والغراس نوعاً من الضرر لا يجانس النوعَ الذي في الآخر. وهذا يضاهي ما لو قال: بع عبدي بكذا درهماً، فلو باعه بدنانير، وإن وفت قيمتُها بمبلغ الدّراهم المعينة، لم يصح العقد؛ لتفاوت الغرض في الجنسين.
ثم إذا أعار للبناء والغراس، فلا يخلو إما أن يؤقت الإعارة، أو يطلقها: فإن أطلق، ولم يؤقّت، صحت الإعارة، وإن استرسلت بالإطلاق على أزمانٍ مجهولة؛ فإنَّ الإعارة معروفٌ لا تقابِل عوضاًً، فيتسامح في تجويز إطلاقه، ويحتمل ما فيه من الجهالة، قياساً على الوصايا؛ فإنها تصح مجهولة. وهذا ينعكس بالإجارة.
4525- ثم قال الأصحابُ: إن أغرس المستعير، أو بنى، لم ينقطع سلطانُ المعير في الرجوع في العاريّة متى شاء، ولكنه إذا أراد الرجوع، لم يكن له أن يضرّ بالمستعير، ومقصود الفصل تفصيل هذا الغرض.
فلو أراد المعير قلع بناءِ المستعير وغراسِه مجاناً، فليس له ذلك؛ فإن فيه إضراراً بيّناً، ولو أن المستعير بدا له أن يقلع بنفسه، فلا معترض عليه، وإذا قلع، فهل يلزمه تسوية حفر الأرض؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يلزمه ذلك؛ فإنه هو الذي اختار القلعَ، وإيقاعَه، وأحدث بما أراده أخاديد في الأرض، فيلزمه أن يطمها، ويرد الأرض إلى ما كانت.
والوجه الثاني- لا يلزمه ذلك، فإنّ في ضمن الإعارة تسليط المستعير على الإبقاء إن أراد، والنزعِ إن شاء، وليس من موجَب الإعارة إلزامُ المستعير الإبقاء. فإذا تبين اقتضاءُ الإعارة ما ذكرناه، فالذي فعله المستعير، فهو مأذون فيه، فإن ترتب عليه حصول نقصٍ في الأرض، كان بمثابة ما ينسحق من الثوب بالبلى، مع الاقتصاد في اللُّبس.
نعم، لو حفر عند القلع حفائر، لا يحتاج إليها، لزمه تداركها.
4526- ولو أراد المعير أن يقلع على المستعير بناءه وغراسه، فله ذلك، ولكنه يغرَم ما ينقصه القلع، وهو تفاوت ما بين البناء والغراس قائماً ومقلوعاً. والسبب فيه أن الإعارة برٌّ ومكرمة، فلو كان عقباها تخسير المستعير، لكانت حائدةً عن وضعها، والمطلوبِ بها، ولكان المستعير مغرراً بماله، ولا سبيل إلى ذلك.
فإذا اختار المعير القلعَ وضمانَ الأرش، فالمستعير محمول على هذا، شاء أم أبى.
قال ابن سريج: للمعير الخيار بين ثلاثة أشياء: القلع وضمان الأرش، أو أخذ
البناء والغراس، بالقيمة، وحمل المستعير على بيعهما منه بثمنهما قائمين، أو تبقيتهما في الأرض وإلزام المستعير أجرةَ المثل في مستقبل الزمان. وأي الأشياء اختار، فعلى المستعير الإجابةُ والرّضا.
وهذا موقف يتعين عنده التنبه لسرِّ المذهب.
4527- فالعاريّة في نفسها على الجواز، وحقها أن تبعد عن إحباط حق المستعير؛ فإنها لو أفضت إلى جواز إحباط حقه، لخرجت عن قياس المذهب، والمكرمات.
فالذي يقتضيه الرأي السديد الجمعُ بين تخيير المعير في الرجوع، وبين الاجتناب من إبطار حق المستعير. والتخيير بين هذه الخلال أُضيف إلى المالك؛ فإنه صاحب الأمر.
وما ذكرناه وإن نسبه الأئمة إلى ابن سريج، فهو مذهب كافة الأصحاب، فإن أراد المعير القلعَ، فامتنع المستعير، قلع عليه وله الأرش. وإن زعم أنه لا يريد الأرش، فهو حق ثبته الشرع له في هذا المقام، فإن لم يُردْه، فليسقطه.
وإن طلب المعير أن يبيع المستعير منه البناء والغراس، فقد قال الأصحاب: حق على المستعير أن يجيبه إن أراد ألا يُحبط حَقه، ولم يريدوا بهذا إلزامَه البيع؛ إذ لا خلاف أنه لو أراد أن يقلع البناء عند طلب المعير القلعَ، فله القلع. ولكن قال الأصحاب: إذا لم يجب المعير إلى ما طلب، أفضى ذلك إلى قلع البناء مجاناً.
ولو قال المستعير: هذا المعير يطلب مني البيع وأنا لا أريده، ولا أحبط حق المعير، بل أغرَم له أجرة مثل أرضه، في مستقبل الزمان، قيل له: ليس إليك تعيين الجهات؛ فإمّا الإسعافُ بما عينه، وإما تفريغ أرضه من غير طلب أرش.
ولو قال المعير: بقِّ ذاك بأجرة، فقال المستعير: لست أبغي ذلك، ولكن اشتر مني بنائي، قلنا: يستحيل إجبارُ المعير على ذلك، ولكنه يقال للمستعير من وقت طلب الأجرة: استمر عليك الأجرة، فإنه رجع عن التبرع بالمنفعة، فإن لم ترد الأجرة، ففرغ أرضَه. ثم إذا فرغ، لم يكن له أن يُلزمه أرشَ النقص.
هذا حاصل كلام الأصحاب. وإذا أطلق المطلق القول بأن المعير إذا عين خَصلةً
من الخصال الثلاث، فامتنع المستعير، قُلع عليه بناؤه مجاناً، لم يُشعر هذا بتمام البيان، حتى نوضحَ ما يليق باختيار كل خَصْلة كما ذكرناه. وهذا يعد مما يغمض تعليله، ولا غموض فيه بعد ما مهدناه في الأصل من اعتبار حق المستعير، مع تمليك المعيرِ الرجوعَ.
4528- فلو قال المعير: لست أرضى بشيء من هذه الخصالِ، ولكني أَبْغي أن يُقلع البناءُ والغراس مجاناً، قلنا: ليس لك ذلك، إذا لم يرض المستعير به.
قال المزني: لو ارتفع إليّ المعير والمستعير، وكان المعير يبغي القلع من غير ضمانٍ، والمستعيرُ يأباه، لقلت: لا حكومة لكما عندي، فشأنكما حتى تعودا إلى ما يقتضيه الشرع. وهذا الذي ذكره صحيح. ولكن في عبارته لَبسٌ؛ فإنها مشعرة بقيام خصومة بين شخصين، مع تعذر فصلهما، وليس الأمر كذلك؛ فإن المستعير ليس يطلب شيئاً، وإنما المعير يبغي أمراً يخالف وضعَ الشرع، فلا يجاب إليه. فإن ابتدر القلع، ضمن.
نعم، في هذا المقام نظر: وهو أن المعير إذا قال ما ذكرناه، فيحتمل أن نقول: تأخذ أجرة المثل في الثبوت في مستقبل الزمان، من وقت بداية ما أبداه؛ فإن ما ذكره رجوع في الشرع في العارية.
ويجوز أن يقال: لا يثبت حتى يكون رجوعه على سمت الشريعة.
وفي هذا الفصل بقايا سنذكرها في آخر كتاب المزارعة، في شرح الفروع، إن شاء الله.
وحق الناظر في الفصل أن يضم تلك الفصول إلى هذا الموضع.
4529- ومما يتعلق بما نحن فيه أن المستعير لو قال: قيمة بنائي ألفٌ، وقيمة العرصة مائة، فبيعوا العرصة مني، ولا تكلفوني أن أبيع بنائي. قلنا: لا يجاب إلى ذلد؛ فإن العرصة وإن قلت قيمتها، لا تتبع البناء، بل البناء يتبع العرصة. ولا نظر إلى القيمة. هذا اتفاق الأصحاب.
ولو اتفقا على بيع العرصة والبناء، لساغ ذلك، ثم في كيفية تقسيط الثمن على العرصة والبناء القائم كلامٌ للأصحاب، قدمته في كتاب التفليس وغيره، فليطلبها الطالب، وحاصله أنا نبغي قسمة الثمن على قيمة العرصة مشغولةً، وعلى قيمة الأشجار قائمةً، وفي كيفية ذلك تفصيل قدمتُه واختلافٌ للأصحاب، وهو بمثابة ما لو اشترى الرجل عرصة، وبنى فيها، ثم أفلس بالثمن. والجامع أن حق الرجوع ثابتٌ ثَمَّ بالفلس، وهاهنا بمقتضى الإعارة، والإحباط مجتنبٌ في البابين.
ولو أراد المعير أن يمنع المستعير من دخول الدار التي بناها، فله ذلك، وللمعير أن يدخل تلك العرصة؛ فإنها ملكه، ولا يستند إلى الجدارات؛ فإنها ملك المستعير، ولا يتكىء عليها، ولا يمنع من الاستظلال بالسقوف.
فإن قيل: هذا يضاهي قلعَ بنائه مجاناً، قلنا: المحذور أن يُحبط ملكَ المستعير في رجوعه، فأما أن يمنعه من الانتفاع بالعرصة، وينتفع هو بالعرصة، فلا منع في ذلك.
ولو مست حاجة المستعير إلى دخول الدار لمرمّة الجدار، أو لاجتناء الثمار، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن العرصة ملك الغير. وهذا سرفٌ وفيه إرهاقٌ إلى هدم البناء، وتعطيلِ الثمار. والصحيح أنه لا يُمنع من القدر الذي ذكرناه.
وللمعير بيع العرصة؛ لأنها مملوكةٌ له ملكاً مستقراً.
والمستعير لو أراد بيع البناء قائماً من غير المعير بغير إذنه، ففي صحة بيعه وجهان:
أحدهما: أنه باطل؛ فإنه عرضة للنقض والقلع.
والثاني: أنه صحيح؛ فإنه متصرف في حق نفسه، وتعرضُه للنقض لا يزيد على تعرض بيع المشتري للشقص المشفوع لنقض الشفيع. ثم البيع نافذ بحكم الملك، وللشفيع نقضه بحكم الشفعة.
4530- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت العارية مطلقة، فأمّا إذا أقّت الإعارة بسنةٍ، أو سنتين، فلو أراد القلعَ قبل انقضاء المدّة، فله ذلك على شرط الضمان، والقلع قبل تصرم المدّة في العارية المؤقتة كالقلعِ في العارية المطلقة متى شاء المعير. والكلام في ترتيب الخلال الثلاث، على ما مضى حرفاً حرفاً.
فإذا انقضت المدَّة، فلو أراد المعير القلعَ مجاناً، لم يكن له ذلك عند الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: له القلع مجاناً. وزعم أن فائدة التأقيت للإعارة هذا.
والذي رآه الشافعي أن فائدة التأقيتِ للإعارة تأقيت التبرع بالمنفعة بهذا الوقت، والأمد المضروب، فإذا انقضت، فالمراد إلزامه الأجرة وإذا كان هذا ممكناً في قصد التأقيت، فلا يجوز الهجوم على إبطال ملك المستعير مع التردد. نعم، لو قال: أعرتك عرصتي سنة، فإذا مضت، قلعت بناءك مجاناً، فإذ ذاك له القلع مجّاناً؛ فإنه صرّح بما يُزيل الاحتمال. فالمسألة إذاً مأخوذة من قضية لفظية، لا من موجَب حُكمي.
4531- ومما يتصل ببيان ما نحن فيه أنه لو أعار أرضاً ليزرعها المستعير، فإذا زرعها، فأراد المعير قلعَ الزرع، فالذي صار إليه الأصحاب أنه ليس له ذلك، ويتعين عليه إبقاء الزرع إلى أوان الحصاد، بخلاف البناء والغراس، والسبب فيه أن المعير ممنوع عن إحباط ملك المستعير، ولكن البناء لا منتهى له، وكذلك الغراس. ويبعد إجبار مالك الأرض على استدامة شغل أرضه أبداً بملك غيره، فكان المسلكُ الأقربُ الأقصدُ إلى رعاية الحقوق من الجانبين ما نظمناه في بيان الخصال الثلاث. ومدة الزرع منتهية، ولابد من رعاية حق المستعير، وأقرب المسالك في رعاية حقه تبقيةُ زرعه. هذا ما ذهب إليه الجمهور.
وينضم إلى ما ذكرناه أن تغريم قيمة الزرع قبل الإدراك عسر لا يُهتدى إليه، فإن الزرع إذا كان بقلاً، فعاقبته مجهولة، فإن قومت بقلاً، فهذا إفساد وإحباط، وإن قومت بتقدير إدراكها، فلا مطّلع على هذا، وقيمة البناء والغراس بيّنةٌ في الحال.
ثم قال الأصحاب: ليس للمعير قلعُ الزرع، ولكن لو رجع عن العاريّة، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه يستفيد بالرجوع إلزامَ المستعير الزارع أجرةَ المثل، من وقت الرجوع.
وأبعد بعض الأصحاب، فقال: لا يملك ذلك، والمنافعُ صارت في حكم المستوفاة، والمستعير إذا استوفى المنافع، لم يلتزم بعد استيفائها أجرةً وهذا حكاه العراقيون، وهو بعيد.
ومن تمام القول في ذلك أنه لو ضرب في إعارة الأرض للزرع مدّة، فاتفق استئخار الزرع في الحصاد عن منتهاها بسبب اختلاف الهواء، فلا يُقلع الزرع وراء المدة أيضاً، للترتيب الذي قدمناه.
هذا مسلك أئمة المذهب.
4532- وذكر صاحب التقريب وراء ذلك تصرفاً حسناً، نحكيه على وجهه: فقال: من أقّت إعارة عرصة للبناء، فإذا بنى المستعير، فظاهر المذهب أن للمعير أن يرجع ويقلعَ قبل انقضاء المدة، ويغرمَ أرش النقص، كما مهدناه قبلُ. قال صاحب التقريب: لا يمتنع أن نقول ليس له أن يقلع كما ذكرناه في الزرع، والجامعُ بيِّن، ثم انعطف على الزرع، وقال: إذا قلنا: للمعير في العارية المؤقتة قَلْعُ البناء قبل انقضاء الوقت، فلا يمتنع أن نقول: له أيضاً قلعُ الزرع قبل الإدراك، فخرّج في كل واحدةٍ من المسألتين جواباً من أصل المذهب، من الأخرى.
وهذا من تصرفه وتخريجه. والصحيح ما ذهب إليه الأصحاب. والفرق بين التأقيت في البناء، والتأقيت في الزرع أن الزارِع يستفيد بترك زرعه إلى الحصاد التوصُّلَ إلى حقه المطلوب في الزرع، والثاني لا يستفيد بترك بنائه التوصلَ إلى حقه عند انقضاء المدة، إذا كان البناء مقلوعاًعليه بعد انقضاء المدة.
ثم لا حاجة في الزرع إلى ذكر مدةٍ؛ فإن إعارة الأرض للزرع تُشعر بشغل منفعة الأرض بالزرع، في الأمد المعتاد في الزرع.
وإذا قال صاحب التقريب: للمعير قَلْع الزرع، فإنه يغرّمه أرشَ النقص، ولا يقوّم الزرع بقلاً مقلوعاً، ولكنه يقومه بقلاً قائماً في حق من يبغي تبقيته، ويقول: ما قيمة هذا الزرع الآن في حق عازم على تبقيته.
4533- ومما يتعلق بهذا الفصل من قواعد المذهب تفصيلُ القول في إعارة رأس الجدار لوضع الجذوع. وأطلق المحققون: أنه إذا أعار رأسَ الجدار لوضع الجذوع، فله الرجوع عن العارية قبل اتفاق الوضع، وليس له القلع، ولا إلزامُ الأجرة، ولا تكليفُ الواضعِ بيعَ الجذوع منه. وما قدمناه من الخِيَرة في الخلال الثلاث الأخرى هاهنا.
ثم انتهى كلامهم إلى أن قالوا: لو انهدم الجدار، فأعاد مالكه بناءه، نُظر: فإن أعاده بطوب جديدٍ وحجارة مستحدثة، لم يكن لصاحب الجذوع أن يعيد جذوعه إلا بإعارة جديدةٍ.
وإن أعيد الجدار بأعيانِ ما كان فيه من طوبٍ وحجر، فهل للمستعير إعادةُ جذوعه من غير إعارةٍ مُجددةٍ، فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب.
وهذا الفصل يحتاج إلى مباحثةٍ وأنا أقول والله المستعان.
إنما قطع الأصحاب خيرة المعير أولاً لمعنىً، وهو أنا لو ملّكناه القلع، لم يقتصر هدمُه على رفع رؤوس الجذوع من جداره، بل يؤدي الهدم إلى تغيير الجذوع عن منابتها على ملك مالكها أيضاً. وإنما لم يملكوه الحملَ على الابتياع؛ فإنه لا غرض في ابتياع رؤوس الجذوع، ولا مطمع في ابتياع جملة الجذوع الخارجة عن مسامتة الجدار. ولم يملّكوه إلزامَ المستعير الأجرةَ؛ لأنه لا أجرة لرأس جدارٍ، وليس مما تقابل منفعتُه بأجرة تبذل، فلو صوّر المصوّر إعارة رأس الجدار على خلاف هذا الوجه، لاختلف الحكم، فنفرض رأسَ جدارٍ تُقابَل منفعتُه بأجرة، ونفرض بناءً منتصباً مستقلاً بالاعتماد عليه. فإن كان كذلك، فرأس الجدار كالعرصة في الخلال الثلاث. وهذا لا شك فيه.
فإن قيل: إذا كان الأمر على ما صوّره الأصحاب قبلُ، فهلاّ مَلَك إجبارَ المستعير الواضعِ على أن يشتري منه حق البناء؟ قلنا: إن كان لحق البناء قيمة، فله أن يَجْبُر عليه، وهو بعينه يناظر أجرة المثل في العرصة.
فإذا انكشف أصل المذهب، وبان أن لا فرق، ولا اختلاف، وبقي الكلام فيما ذكره الأصحاب من الخلاف في أنه هل يعيد واضعُ الجذوع بعد إعادة البناء؟ فالذي أراه أن هذا الخلاف ليس في استحقاق الإعادة، وإنما هو كلام في أن الإعارة الأولى هل تُشعر بالتسليط على الإعادة، حتى لا يحتاجَ إلى مراجعةٍ، أم لابد من فرض مراجعة؟ ولا يجوز أن يقال: لَوْ منع صاحبُ الجدارِ بعد إعادته من وضع الجذوع، فلصاحب الجذوع الإعادةُ قهراً؛ فهذا لا سبيل إليه.
وقد نجز تمام الغرض من هذا الفصل.
فرع:
4534- إذا استعار رجل أرضاً ليدفن فيها ميتاً، فللمعير الرجوع قبل اتفاق الدفن، وإذا اتفق الدفنُ، لم يملك الرجوعَ؛ فإن في الرجوع هتكَ حرمة الميت بالنبش. ولا فرق بين أن يقرب العهد بالدفن، بحيث لو فرض النبشُ، لكان يُلفَى الميتُ متغيراً، وبين أن يبعد العهد؛ فإن في نبشه هتكَ الحرمة. ولذلك يحرم النبشُ من غير ضرورة. ثم منتهى العارية امّحاق أثر المدفون.
ولو كان للمعير في تلك البقعة أشجارٌ، فأراد سقيها، نُظر: فإن كان السقي يخرق موضع الدفن بحيث يُبدي من المدفون شيئاً، منع. وإن كان لا يؤدي إلى هذا، لم يُمنع، ولا حكم لنقش القبور إذا زال.
فرع:
4535- إذا جاء السيل بنواةٍ من ملك إنسان، فنبتت في أرض آخر، وأنبتت شجرة، فلا شكّ أنها لمالك النَّواة، فلو أراد صاحب الأرض قلعها مجاناً من غير أن يغرَم ما ينقصُه القلع، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: له ذلك. وهو الصحيح؛ فإنها نبتت في أرضه من غير إعارته وإذنه، فليقلعها قلعَ شجرةِ الغاصب إذا غرس.
والوجه الثاني- أنها كشجرة المستعير؛ فإن صاحب النّواة لم يجن بإنباتها، فكان كالمستعير. والأصح الوجه الأول.
فرع:
4536- إذا أودع رجل ثوباً عند إنسانٍ، وائتمنه فيه، وقال: إن أردت أن تلبسه، فالبسه. قال الأصحاب: الثوب أمانة قبل أن يفتتح اللُّبس، فلو تلف، لم يضمنه. وإن ابتدأ اللُّبسَ، صار عاريّة مضمونةً.
قال صاحب التقريب: لو قلت: إنها عارية مضمونة عليه قبل اللبس؛ لأنها مقبوضة على تقدير الانتفاع، لم يكن ذلك بعيداً، قياساً على العين المأخوذة على سبيل السوم؛ فإنها مضمونة؛ لأنها مقبوضة على توقع عقد ضمانٍ، وهو البيع.
قال صاحب التقريب: ولو قيل: لا ضمان في المأخوذ على سبيل السوم، لم يبعد، قياساً على الوديعة المقبوضة على قصد الانتفاع. وهذا الذي قاله قياسٌ، وليس مذهباً؛ فإنا لا نعرف في تضمين الأخذ على سبيل السّوم خلافاً.