فصل: كتاب الصيد والذبائح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الصيد والذبائح:

11535- الأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، والجوارح جمع الجارحة، وهو الحيوان الصَّيُود، وقيل: اشتقاقها من الجرح، وقيل اشتقاقها من قولهم: جرح واجترح أي اكتسب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت عليه اسم الله، فكل ممّا أمسكه عليك، وإن أكل فلا تأكل» وقال لأبي ثعلبة الخُشني: «إذا أرسلت كلبك المعلّم، وذكرت عليه اسم الله، فكل ممّا أمسكه عليك وإن أكل».
والإجماع منعقد على أصل الاصطياد.
والشافعي صدر الكتاب بتفصيل القول في الكلب المعلم وتحليل ما يصطاده، فلتقع البداية بمعنى التعلم، وبيان الكلب المعلم، فنقول أولاً: إذا لم يكن الكلب معلَّماً، فما اصطاده وقتله، فهو ميتة بلا خلاف، وإن أدركنا ما أخذه، وصادفناه على حياة مستقرة، وقطعنا حلقومه ومريئه، فلا خلاف في التحليل، وهذا يطرد في فريسة السباع كلها، إذا صادفناها على حياة مستقرة، وتمكنا من ذبحها في المذبح، وهذا الكتاب تنتظم مسائله لبيان تحليل ما يموت بجرح الجارحة، أو يقرب من حركة المذبوح.
11531- فإذا تمهّد هذا، فالمعلَّم فيما ذكره الأصحاب هو الذي يجيب إذا دُعي، والمراد بذلك أن ينطاع للدّاعي، ويسترسل إذا أرسل على الصيد. وذكر الأصحاب أن ينزجر إذا زجر، وينكف عن الأكل مما أخذه. هذه هي الصفات المرعيّة في تعلّم الكلب، والفهد، وما في معناهما مما يقبل التعليم.
وهذا يستدعي مزيد كشف: فأما الإجابة، فمعناها عندي أن يسترسل نحو الصيد إذا أُرسل، هذا هو الإجابة، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف، والمعنى: أنه إذا أُغري بالصيد، هاج، وإذا آسده صاحبه اتّبع صوبَ الصيد، وهذا لابد منه. والانكفاف عن الأكل مرعيٌّ أيضاً.
وأما الانزجار عند الزجر، فهذا فيه نظر: فإن أُريد به أن ينزجر بعد الإطلاق، وهو في حِمِرَّة العَدْو فاشتراط هذا صعب، وفي كلام أصحابنا ما يُشعر به، بل ما يصرح به، وقد تحصّل لنا وجهان في اشتراط ذلك بعد العدو، فأما في ابتداء الأمر، فالذي يجب القطع به أن ينزجر إذا زجره صاحبه، ولا ينطلق إلا بإطلاقه، ولا يتبع الصيد إلا بإشارته، فإن كان ينطلق بانفراده، فليس معلَّماً.
وهذا فيه نظر؛ فإن الكلب وإن كان معلّماً، فإذا رأى صيداً على القرب، وهو على كَلَب الجوع، فيبعد تصوير انكفافه، ولكن ظاهر المذهب هذا.
فأما شرط ترك الأكل، فقد شرطه الكافة في الكلب، وما يتعلم من الفهد وغيره.
فإذا ثبتت هذه الشرائط، فقد أجمع العلماء على أنا نشترط تكررها من الكلب، ثم لا ضبط للأعداد، والمتبع أن يحكم أهلُ الدراية بأنه صار معلَّماً متدرباً في هذه المعاني المطلوبة منه، ولا سبيل إلى التعبير عن هذا بضبطٍ؛ فإنه إنما يدرك بأحوال تُحس منه، والكرّاتُ قد تحمل على اتفاقات، فالرجوع إذاً إلى أهل المعرفة بهذا الشأن. وكل ما ذكرناه في غير الطيور.
11532- فأما جوارح الطيور كالبزاة والصقور وغيرها، فيشترط فيها أن تسترسل إذا أرسلت في جهة الصيد، كما ذكرناه في الكلب، أما انزجارها بعد الطيران، فلا مطمع فيه، ويبعد أيضاً أن يشترط انكفافها في أول الأمر وقد لمح لها الصيد، وهي جائعة، والله أعلم.
واختلف قول الشافعي في أنا هل نشترط انكفاف جوارح الطيور عن أكل ما أمسكته؟ فأحد القولين أنا نشترط ذلك قياساَّ عَلى جوارح السباع، والقول الثاني- أنا لا نشترط ذلك؛ فإن الكلب إنما ينكف عن الأكل عن فريسته بالضرب، والدق العنيف، وجوارح الطيور لا تحتمل هذا، ولا سبيل إلى زجرها من غير ضرب، بل قيل: سبيل تعليمها بالإطماع في الإطعام.
هذا منتهى ما ذكره الأصحاب في ذلك.
والإشكالُ عندي بجُمامه، وأنا وراء استفراغ الوسع في الكشف والبيان، فنقول: الذي ظهر لنا من قول الأصحاب أنهم اعتقدوا أن الكلب المعلّم يمسك ما يأخذه لصاحبه، وعلى صاحبه، وفي بعض الأخبار ما يشير إلى هذا، أما الخبر، فمتلقىً بالقبول، ولكنه معرض للتأويل وقوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، وإن لم يصرح تصريحَ الخبر، فهو مُشعر بذلك أيضاً.
والذي يعترض في النفس بعد هذا التنبيه أن الجارحة التي تصيد لو كانت على شِبع، لم تبرح في صَوْب الصيد قِيد فِتْر، وإن أشلاها صاحبها، وإنما تنتهض على الجوع، فلا يخفى أيضاً أنها إذاً تتشوّف إلى ما تطعم، والطبيعة تحركها لذلك، وإذا هي أمسكت الصيد، فالداعية التي تحملها على الإمساك ما قدّمناه من تشوفها إلى مَطْعم تسدّ به الكَلَب وسوْرةَ الجوع، غير أنها إذا ضُربت على الأكل، تذكرت عند إمساك الصيد الضربَ، فانكفت من خيفة الضرب، لا لتسلّم الفريسة إلى صاحبها.
والكلْبُ أيسر الجوارح وأفطنها وأحراها بأن يتذكر ما سبق من ضربه، وقيل: إن الكلب الحارس يُجدع أنفه ليلاً، فلا يجنّ الليل إلا ويتذكر ما جرى عليه، فيدأب طول الليل حارساً، مستشعراً كلما سمع حساً تذكّر ما ألمّ به من ألم الجدْع.
هذا هو التحقيق، فليقطع المرء بأن الكلب لا يمحِّض قصده في الصيد لصاحبه، بل لو قيل: لا ينطوي على ذلك إلا فكرُ عاقلٍ، لكان سديداً؛ إذ ليس في البهائم وإن كانت على حظٌّ من التمييز إلا ما يحركه من الطباع، ثم إنها تتعلق بطرف ضعيف من المَيْز، ثم تَصوّرَ الآدميُّ فيما تطلبه الجارحة وتحاذره إمساكَ الصيد والانكفاف.
فيجب-على القطع- تأويلُ السنة والكتاب وتنزيلهما على ما ينزل عليه معظم الظواهر المتعلقة بأغراض الخلق، فالرحمة في حق الإله ليست رقةً ولا ميلاً، والغضب ليس التهاباً وتلظِّياً، ولكن من يرحم منا ينعم، ومن يغضب يعاقب، فجرت مخاطبة المكلفين على أقدار حظوظهم وأغراضهم، كذلك الجارحة وإن كانت لا تنطوي على قصد الإمساك على الصاحب، فإذا حضل بتأديبها من فعلها ما يحصّله ذو العقل القاصد إلى تحصيل مراد الآمر، سُمّي ذلك إمساكاً عليه.
11533- ثم يتنشأ من هذا مأخذٌ في الفقه واقعٌ، وهو أن الذبح مبناه على قصد الذابح-كما سنعقد في ذلك فصلاً- إن شاء الله تعالى- والصُّيود الأيّدة لا تنالها آلات الذابحين على اختيار، فمهد الشرع آلاتٍ تنالها على شِرادها، كالنشاشيب وغيرها، وكأن السرَّ فيه أن ارتياد المذبح محمول على سفك الدم بأسهل الطرق، وأَوْحاها وأنجزها؛ رفقاً بالذبيحة، فإن شردت، لم يعارض فواتُها طلبَ الرفق بذبحها، وكان إدامةُ الانتفاع بها أليقَ بمحاسن الشريعة من المصير إلى فواتها إلى أن يُقْدر عليها.
ثم الرمي يتخصص به من يحسنه، وذلك في أفراد من الناس، فأثبت الله تعالى في محكم كتابه الاصطياد بالجوارح المعلّمة، وإن كانت ذواتَ اختيار، فإذا اتبعت صاحبَها، في الانتهاض نحو الصيد، وتَرْك الأكل منه، نزلت منزلة الآلة يستعملها الذابح.
ويفهم الفطن مما ذكرناه ثلاثَ مراتب: إحداها- في الحيوان المقدور عليه، وعنده يحسن تعبّد الشرع بارتياد المذبح، واختيار أوحى الطرق. والمرتبة الثانية- في الشوارد مع فرض الرمي وما في معناه، فيسقط في هذه المرتبة طلبُ المذبح، ويمكن صَدَرُ الآلة من الاختيار، بَيْد أنها تخطىء وتصيب. والمرتبة الثالثة- في إقامة الكلب مقام السهم، وإن كان مختاراً إذا تشوف، ثم روعي تقريبها من الآلة الصادرة عن الاختيار بتجميع صفات الانطياع فيها، ثم لما كانت البهيمة غيرَ عاقلة، فسقط اعتبار اختيارها، ولذلك لا يصح أن يكون المجوسي آلة المسلم في الذبيحة؛ فإنه ذو اختيار صحيح، فهذا تمهيد الأصل في الكتاب.
11534- ثم ننعطف بعد ذلك على تفاصيلِ الصفات: فمما لا يُشكّ في اعتباره الذهابُ نحو الصيد عند الإيساد والإغراء، والانكفاف عن الأكل. فهذان وصفان لابد منهما في غير الطيور.
وذكر أئمتنا الانزجار عند الزجر، وزعموا أن الانطياع به يتحقق، وقد صادفتُ خلافاً في الانزجار بعد الأخذ في العدو الشديد؛ فإن هذا قد لا يتأتى، ووجدت الطرق متفقة على أن المعلَّم هو الذي يعنّ له الصيد ورباطه محلول، فيزجره صاحبه، فيقف، ولم يشترط أحد من الأصحاب ألا ينطلق إذا رأى الصيد ورباطه محلول منتظراً إغراء وإيساداً، فقد وضح اشتراط الانطلاق بالإغراء، واشتراط الانزجار عند الزجر في الابتداء، واشتراط الإمساك عن الأكل في الانتهاء، وفي الانزجار بعد الأخذ في العدو تردد قدمنا ذكره.
وذكر كثير من أصحابنا الإجابة عند الدعوة، ولم يتعرض لهذا ذوو التحقيق وأصحاب المعاني، وأنا أقول: إن أريد بالإجابة عند الدعوة أن يجيب إلى الانطلاق عند الإغراء، فهو ما ذكرناه، وإن أريد بها أن يجيب في غير وقت الحاجة إلى الصيد، فلمست أرى لهذا وقعاً. نعم، الكلب المعلّم لابد وأن يجيب إذا دعي، إذا ألف صاحبه، وتمرن على الصفات التي ذكرناها، ولكن إذا لم يكن هذا مختصاً بالصيد، فذكره بمثابة قول القائل: لا يهِرّ في وجه صاحبه، ولا يعقِره، إلى غير هذا مما يحصل بأوائل الإلف قبل التعليم.
11535- ومما يتعين الاهتمام به شيئان: أحداهما- في الفهد
والثاني: في جوارح الطيور: أما الفهد، فلا يتم فيه الانطياع أصلاً، ولا ينبغي أن يُظَن أنه ينزجر إذا زجر، ولا يتوقف استسلاؤه على الإيساد، ولا يمتنع من الأكل. نعم، ربما لا يبتدر الأكلَ حتى يستوثق من فريسته، ويحط حركاته، ثم يأخذ في الأكل، ولا يتأتى منه الكف عن الأكل بالضرب؛ فإنه لو ضرب؛ عاد إلى استيحاشه، فإن تُصوّر فهدٌ ينطاع انطياع الكلب، فحكمه حكم الكلب المعلم، وإن لم يتصور-ولا يتصوّر- فمطلوب صاحب الفهد أن يزول نِفاره ويألف، ثم يخادَع، ويخاتَل، فيذبح الفريسة تحت ضبطه ولا يترك الفهد يعدو ويتمطى إلى الصيد وحده، بل يتبعه فارس أو فارسان، وبناء الأمر على إدراك الفريسة وفيها حياة مستقرة، وأما إدراكها وقد ماتت، فمما يندر في المتصيد.
فحق الفقيه ألا يغفل عن هذه الدقيقة؛ فإن في الجوارح ما ليس معلماً، ولكنه أَلِفٌ أنيس ثم يدرك فريسته قبل الموت، وهذا الكتاب مبني على الفريسة التي تموت تحت الجارحة.
11536- وأما الكلام في جوارح الطيور، فليس من الممكن تعليم البازي الانكفافَ عن الأكل، وليس من الممكن أن ينزجر إذا تشوف إلى الصيد على جوع، فانتهاضُه بطباعه لا بالإغراء، والانزجارُ غير ممكن، ولكنها تألف ولا تنفر من صاحبها، فيأخذها أو يدعوها فتجيب، فالبزاة والعقبان والصقور والفهود إنما يحصل منها الإلف والعَوْد، ثم أصحابها يتمكنون مما أخذت وفيها حياة، فهذا ما عليه مبنى الصيد.
فإن صور متكلف جارحةً من الطير منطاعة، أو صور فهداً كذلك، فما تصطاده هذه الأشياء ويموت، ولم يُدرك، فهو حلال.
فإذا لم يوجد الإلف، فما يموت من صيدها، فهو حرامٌ.
وقد نجز ما أردنا تمهيده في المعلَّم وغير المعلم.
11537- ثم إذا استجمع الكلب شرائط التعليم، ولا تكاد تجتمع صفات التعليم إلا فيه؛ فإنه على كيسٍ لا يقاس به كيس بهيمة، وهو أَلِفٌ بطبعه يتشوف إلى التعليم، فإذا ضبط الكلب صيداً، وجرحه، ولم يأكل منه-وذلك بعد ثبوت كونه معلماً- فإذا مات ذلك الصيد، فهو حلال.
واختلف قول الشافعي في موضع عض الكلب، فنص على قولين، كما حكاه الصيدلاني:
أحدهما: أنه يُعفى عن النجاسة في موضع عضه لمسيس الحاجة.
والثاني: أنه لا يُعفى. فإن قلنا: إنه يُعفَى، فلا غسل في الموضع ولا تعفير. وإن قلنا: لا يعفى، فعلى هذا القول وجهان:
أحدهما: أنه يكفي الغسل في الموضع وتعفيره.
والثاني: لابد من قطع جِلْفة من موضع عضه، فإن ذلك الموضع قد يغوص فيه لعاب الكلب بعضَ الغوص، فيستتر به ولا تتأتى التنحية والإزالة إلا بالقطع. وهذا القائل يطرد هذا في كل لحم أو ما في معناه يَعضّ عليه الكلب.
وإذا نال لعابه موضعاً من غير عض، فالغسل يكفي بلا خلاف مع التعفير.
وحكى بعض أصحاب القفال أن ناب الكلب إذا أصاب عرقاً نضاخاً بالدم، فيسري حكم النجاسة في جميع الصيد ولا يحل أكله. وهذا عندي غلط غيرُ معتد به؛ فإن النجاسة إن فرض اتصالها بالدم، فالعرق كالوعاء للدم وهو حاجز بين اللحم والدم، ثم الدم إذا كان يفور امتنع غوصُ النجاسة؛ فإذا كان الماء يتصعد من عينٍ فوارة، فوقعت على أعلى الماء نجاسة، لم ينجس ما تحته، كما إذا لاقى الماء المنحدر من الإبريق نجاسة، فلا ينجس ماء الإبريق، فهذا إذاً غلط من الحاكي، وأنا لا أورد مثله إلا لبيان وجه الغلط فيه.
11538- ولو ضبط الكلبُ الصيدَ، ولم يجرحه، فمات تحته ضغطاً، فهل يحل والكلب معلم؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه لا يحل؛ إذ لابد من سفح الدم، ولا خلاف أنه لو أصاب صيداً بعُرض السهم أو بمثقّل وقتله، فهو حرام إذا لم يوجد جرح. والقول الثاني-وهو الأصح- أن الصيد حلال؛ فإن الكلب لا يمكن أن يُعلَّمَ الجرحَ، والغرض أن يكون متمرناً على الطاعة، وانكفافه عن العض نهاية الانطياع.
وأما السفح، فلسنا ننكر أنه من مقاصد الشريعة؛ فإن الميتة إنما تحرم بسبب احتقان الدم فيها؛ فإن الدم إذا احتقن، وفارقت الروح خَبُث اللحم باحتقان الدماء المحتقنة، وقد تبين لنا أن الخبائث محرمة، وإذا حصل نزف الدم بالذبح-وسائرُ الفضلات منحصرة في المصارين- يطيب اللحم. هذا لا ننكره. وإن حصل السفح في المقدور عليه لا بالجهة الشرعية، فيستحق مخالفُ الشرع أن يحرم عليه ما خالف الأمر فيه، وعليه أن يقصد الجَرْحَ بالآلات الجارحة في الصيود، وُيؤْثر ما يجرح على المثقلات، وهذا ممكن. ثم اعتراض النشّابة نادر، وليس مما يعم. أما تعليم الكلب الجرحَ، فبعيد ولكنه يَعَض بطباعه، ولا يتأتى تعليمُه تركَ العض، فإذا لم يَعض في بعض الصور تردّد هذا بين ندور الأمر وبين استحالة تعليم العض؛ فثار القولان كما وصفناه.
والذبح بالعظم في المقدور عليه محرم كما سنصف الآن، إن شاء الله تعالى الذبح، والكلب لايَعضّ إلا بأسنانه، فيتبين من هذا بناء الأمر على مراتب الحاجات.
فصل:
11539- إذا أكل الكلب المعلم من فريسته مرّة وماتت تحته، ففي حلّ تلك الفريسة قولان مشهوران:
أحدهما: أنها محرمة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت عليه اسم الله، فكل، وإن أكل، فلا تأكل " ووجه هذا القول من جهة المعنى أنه إذا أكل، تبين أنه لم يمسكه على صاحبه، هكذا ذكره الأصحاب.
والأولى أن نقول: الكلب المعلم إذا استرسل بنفسه، فما يأخذه في هذا الاسترسال محرم؛ لأنه أخذ ما أخذ على خلاف شرائط التعليم، وكذلك الانكفاف عن الأكل شرط التعلّم، فإذا فرض اصطيادٌ على خلاف ذلك، وجب أن يحرم، والفقه فيه أنا إذا رأينا الانكفاف عن الأكل شرطَ الانطياع، فإذا تخلف الشرط، بان أن أخذ الصيد على هذا الوجه، لم يكن على حكم الانطياع. ومن نصر القول الثاني، احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخُشني: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل " وهذا القائل يقدر أخذه الصيدَ على حكم الطاعة، ويحمل ما اتفق من الأكل على فرط الجوع وسَوْرة نهمه، والأكل يقع بعد الأخذ.
ثم إن أبا حنيفة قال: الفريسة تحرم إذا أكل الكلب منها، ونتبين أن جميع ما ماتت من الصيود ولم تدرك بالذبح، فهي محرمة فيما تقدم.
ونحن إذا حرمنا الفريسة التي اتفق الأكل منها، لم نعطف التحريم على ما تقدم، لم يختلف أصحابنا فيه، فإذا لم تحرم الفريسة الأولى التي أكل منها على القول الثاني، فلو أكل من الثانية أيضاً، ثم من الثالثة، واعتاد الأكل، خرج عن كونه معلماً، ثم تحرم الفريسة التي وقع القضاء عند الأكل منها بالخروج عن التعلم، وهل نعطِف التحريم إلى أول فريسة أكل منها إلى الأخيرة؟ اختلف أصحابنا في المسألة وهذا اختلاف فقيه حسن محتمل، والتوجيه فيه بين.
وإذا انكف الكلب عن الأكل أول مرة، فلا يقع القضاء بكونه معلماً، وقد لا يقع بالمرتين والثلاث، والرجوع إلى أهل البصيرة، كما قدمنا ذكر ذلك.
فإذا تكرر الانكفاف وتبين التعليم، فلا نعطف الحل إلى أول فريسة حصل الانكفاف من أكلها بلا خلاف، والفرق بين هذا وبين ما ذكرناه من تكرر الأكل تغليب التحريم، وهذا فرق في الصورة وجمعٌ في الحقيقة.
ولو لعق الكلب الدمَ، ولم يأكل من اللحم، فالأصح أن لعق الدم لا يضر بخلاف أكل اللحم، وكنت أود لو فصل فاصل بين أن ينكف الكلب زماناً ثم يأكل، وبين أن يأكل كما أخذ، فإن الزمان إذا تمادى، فيندر أن ينكف الكلب عن الأكل، ولكن لم يتعرض لهذا أحد من الأصحاب.
فصل:
قال: "وإذا أرسل كلبه أحببتُ أن يسمي الله تعالى... إلى آخره".
11540- التسمية عند الذبح سنة مؤكدة ويلتحق تركها عندنا بما يكره، وقال أبو حنيفة: التسمية مشروطة وتركها قصداً يحرّم الذبيحة. والمسألة مشهورة في الخلاف، فإذا أرسل الصائد كلبه أو سهمه، فينبغي أن يسميَ الله تعالى عند الإرسال؛ فإن هذا هو الذي يتعلق بالاختيار، والإصابة قد تغيب عن الصائد، وكان شيخي يتردد في أنه لو سمي عند الإصابة-وهذا ممكن في الكلب؛ فإن إدراكه محسوس- فهل تسقط التسمية المشروعة بذلك؟ وهذا موضع التردد.
فصل:
قال: "ولو أرسل مسلم ومجوسي كلبين... إلى آخره".
11541- إذا اشترك مسلم ومجوسي في ذبح حيوان مقدور على ذبحه، فإن تحاملا على حد السكين أو على الطعن في منحر البعير، فلا خلاف في التحريم، فإنه مغلَّب، وهذا أصل متفقٌ عليه.
فلو أرسل مسلم كلباً، وأرسل مجوسي كلباً، أو أرسلا سهمين، نُظر: فإن سبق كلبُ المسلم أو سهمُه، وحصل قتل الصيد أو تصييره إلى حركة المذبوح، ثم أدرك كلبُ المجوسي، فالصيد حلال، ولا حكم لما جرى من كلب المجوسي، ولو كان الأمر على العكس، فلا شك في التحريم؛ فإن القتل حصل بالكلب الذي أغراه المجوسي.
فلو أخذ الكلبان الصيد معاً، أو على الترتيب، ولم يحصل التذفيف بواحد منهما، وإنما حصل الموت بهما، فلا شك في التحريم؛ لأن هذا بمثابة اشتراك المسلم والمجوسي في الذبح. ولو حاش كلب المجوسي الصيدَ، وردّه على كلب المسلم، ولم ينله، ثم أخذه كلب المسلم، فالصيد يحل؛ فإن الصيد حصل بكلب المسلم، وكلبُ المجوسي في حكم المعين، وحكم الملك لو فرض إرسال الكلبين من مسلمين لا يتلقى مما ذكرناه فحسب، بل يستعمل فيه هذا الأصل ويستعمل فيه أصول سوى ذلك، وسنستقصي الجهات كلها-إن شاء الله تعالى- في مقدمة المسألة المترجمة بمسألة الكسر.
أما في مسألة المجوسي والمسلم، فلا إشكال في الملك؛ حيث يحل الصيد؛ فإنا إنما نحلله إذا اختص الكلب الذي أرسله المسلم بالأخذ، فلو شاركه كلب المجوسي في الأخذ، فهو محرم. ولو أرسله كلب المسلم، ثم أدركه كلب المجوسي، وبه حياة مستقرة، فعقره، فمات من الجرحين، فالمجوسي يفسد على المسلم ملكه، فهو بمثابة ما لو ذبح شاة مسلم، ولو فعل ذلك، فالشاة ميتة، وعليه الضمان، وإذا انتهى التفريع إلى الملك والضمان، فلا وجه إلا الإحالة على مسألة الكسر، وهي بين أيدينا، ولا شك أن الاعتبار في الكلب بالمرسِل.
فصل:
قال: "وإذا رمى أو أرسل كلبه على الصيد فوجده قتيلاً... إلى آخره".
11542- إذا رمى إلى صيدٍ، ولم يدر أأصابه السهم أو لم يصبه، فاتبعه وأدركه ميتاً، فلا يحل الصيد؛ فإنا لم نتبين جرحاً يستند الموت إليه.
ولو جرح صيداً، فولى هارباً، ثم اتبعه الرامي، فوجده ميتاً، نُظر: فإن كان بمرأى من الرامي، ولم يطرأ ما يحال الموت عليه، فلا خلاف في حِل الصيد، وإحالة موته على الرمي، وإن غاب عن الناظر، فاتُّبع وأُدرك ميتاً، نُظر: فإن كان به أثر خدش ظاهر يحال على عثرةٍ، أو وثبة سبع، فالصيد حرام، فإن الموت يحال على الجرحين والسببين، والجرح حصل من غير قصد صائد، ولو فرض مثله مجرداً، لحرم الصيد، فإذا وجد مع الجرح الاختياري الجرح الثاني، فقد تقابل الجرحان، وكأن لا جرح؛ ولو لم يحصل جرح من الصائد، أو شككنا فيه، فلا خلاف في التحريم.
وإن لم يوجد سبب آخر، ولكن غاب عن البصر ثم أُدرك ميتاً ولم يُلفَ عليه جرح وتكسر، يحال على عثرةٍ أو سقطةٍ، فهذا محل القولين: قال الشافعي في أحد القولين: إنه محرم، والدليل عليه ما روى ابنُ عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي موقوفاً عليه، أنه قال: "كل ما أصميت، ودعْ ما أنميت " والتفسير: كل ما يموت بجرحك وأنت تراه، وما أنميت ما غاب عنك مقتله، والقياس تغليب التحريم للتردد الظاهر. والقول الثاني- أنه يحل؛ لأنه لم يتحقق سببٌ سوى الجرح الذي ناله من الصّائد، فالوجه إضافة الموت إليه، وحملُه عليه، ونحن قد نثبت القصاص إذا تقدم جرح عمد، ودام أثره إلى اتفاق الموت وكذلك تُشغل الذمة، والأصل براءتها، وأقرب ما يشهد لهذا القول تحليل الجنين، فإنا نحيل موته على انقطاع رَوْح الروح عنه بذبح الأم، وإن أمكن تقدير موته بسبب آخر.
فصل:
قال: "وإذا أدرك الصيدَ لم يبلغه سلاحه... إلى آخره".
11543- إذا أرسل كلبه أو سلاحه، فإن أصاب مذبحَ الصيد ما أجهزه وأنجزه، فلا كلام، فهو حلال. وإذا أدركه، وهو في حركة المذبوح، فلا نتعرض له ونتركه يهدأ. وكذلك لو أصاب موضعاً آخرَ منه صار به إلى حركة المذبوح، فالأمر على ما ذكرناه، وإن لم يصر إلى حركة المذبوح، حتى أدركه الصائد، فينبغي أن يقطع حلقومَه، ومريئه، ولو تركه مع علمه بما به، ولكن كانت فيه حياةٌ مستقرة، فلو مات، فهو حرام؛ فإنه تمكن منه وفيه حياةٌ مستقرّة، فإذا لم يذبحه الذبحَ المتعبد به في المقدور عليه، لم نحكم بحِلّه.
ولو كان الجرح كما ذكرناه غيرَ منجز، واستعقب حياةً مستقرّة، ولكن مات الصيد قبل أن يدركه الصائد، فإن لم يقصِّر على ما سنصفُ-إن شاء الله تعالى- فالصيد حلال. وإن قصّر، فالصيد حرام، واختلف أئمتنا في أنا هل نكلفه-إن رام الحِلّ- أن يعدوَ، أم يكفيه أن يمشي؟
ومنشأ هذا الخلاف من قاعدة قد يتردد النظر فيها: وهو أنا نكلفه الطلب المعتاد، والتردُّدُ في وجه الاعتياد من جانبه، فمن كلفه العَدْوَ، فقد تخيل اعتيادَه في هذا المقام، ومن لم يكلفه العدوَ اعتبر ذلك بالمشي إلى الجماعة يوم الجمعة، مع ظهور أمارات التحرّم بالصلاة.
ثم على الوجهين تصرفٌ فمن كلف العَدْوَ، لم يكلف الإيغال فيه حتى يبتهر أو ينالَه ضرر ظاهر، ومن اكتفى بالمشي، وهو الذي ذكره الصيدلاني، فالوجه عندي أن يتشوف إلى الإسراع في المشي قليلاً؛ فإن الماشي في هَيْنة خارجٌ عن عادة الطلب تحقيقاً، وظاهر ما ذكره الصيدلاني أنه يلزم عادته القديمة، ولفظه: "فلا نُلزمه أن يعدوَ، وأن يَحْمِل على نفسه ليدركه، بل على عادة مشيه". وهذا بعيدٌ إلا أن يُحمل على عادة المشي في المتصيّد. وهذا التأويل بعيد عن لفظه.
ثم إذا أدرك الصيد وبه حياة معتبرة، فلم يكن معه مدية، فمات الصيد، حرم. وحق من يعاني هذا الشأن أن يكون مُعِدّاً، ولو كان معه السكين، فنشب في الغمد، ففات الصيدُ بالموت، فهو حرام، فإنه مقصر في تهيئة مدية تنطاع إذا ابتدرها. وكذلك لو كانت بحالة لا تَفْرِي، فسبق موت الصيد، فهو حرام، وإن دهِش، فأعمل ظهر السكين، فمات الصيد، حرم.
ولو كان معه سكين متغلغل في الغمد، فانسلّ، فأدرك الصيد كذلك ومات، فقد فات الحل؛ فإن جميع ما وصفناه ينتهي إلى التقصير، وتركِ الاستعداد.
ولو كان يتبع الصيدَ، فاعترض له إنسان، وسلّ السكين من حيث لا يشعر، فأفضى إلى إدراك الصيد حياً ثم مات، فهو ميتة، لانتسابه إلى عدم التحفظ.
ولو اعترض له أيّد وهو في الطلب، فغصبه السكينَ، فقد ذكر الأصحاب وجهين من حيث لم ينسب إلى التقصير، والوجه عندي القطع بالتحريم؛ فإنه وقف على حيوانٍ فيه حياة، ولم يذبحه.
وقد يمكن فرض صورة الخلاف في الحيوانات الأهلية، إذا أوفت على الفوات، ويبعد كل البعد أن يفرض فيها خلاف. وإن فرق فارق بأن ما نال الصيد ذبحٌ بدليل أنه لو هلك قبل الإدراك، لحل الصيد، ولو ابتدر الصيدَ بالسكين، فقطع بعض الحلقوم، فمات الصيد، فهو حلال قطعاً، فإنه لو لم يقصر، فاتفق سبق الموت، لحل؛ إحالةً على الجرح السابق، فكذلك إذا حصل القطع في البعض.
هذا إذا هدأ. فإن كان الصائد متردداً في حاله، فليستمر الذبح. وإن علم أنه انتهى إلى حركة المذبوح، فهذا فيه فضل نظر. وسنذكره في الذبائح عند ذكرنا اشتراط قطع الحلقوم والمريء مع فرض الانتهاء إلى حركة مذبوح قبل تمام القطع. وسنعيد هذا الطرف ثمَّ، إن شاء الله تعالى.
ولو كان الصيد منكساً، فاحتاج إلى قلبه، فلم يصل إلى مذبحه حتى مات، فهو حلال، كما ذكرناه في نظائر ذلك، فإنه لم ينتسب إلى التفريط.
فصل:
قال: "لو أرسل كلبه أو سهمه، وسمى الله تعالى، وهو يرى صيداً... إلى آخره".
11544- مقصود هذا الفصل: القول في بيان القصد الذي نشترطه من الصائد ليحلّ الصيد. والقصد على الجملة معتبرٌ. ويتعلق طرف صالح من الكلام فيه بالقصد في الذبح، وعنده نذكر ذبح الصبي والمجنون، وهذا مؤخر.
والذي ننجزه الآن التفصيل في القصد المرعي في الصيد، فنقول أولاً: إذا كان بيد الإنسان سيف، فانسلّ منه من غير فعل يُؤْثره، ووقع على صيد في شِعْبٍ أو مغارة، وهلك الصيد، فهو حرام؛ لأنه لم يوجد من صاحب السيف فعل، فضلاً عن أن يفرض منه قصدٌ إليه. ولو رمى سهماً في الهواء، أو كان يبغي الرمي غَلْوةً، ولم يخطر له الصيد، فاتفق أنه أصاب صيداً، وقتله، فهو محرم، وكذلك لو كان يجيل سيفه، فأصاب غِرارُ سيفه حلقوم شاة، ومَرِيَّها، فقطعهما من حيث لم يشعر المدير، فالشاة ميتة.
11545- ولو رمى صيداً، وخطر له أنه قد يصيب، وذلك يفرض في جنح الليل، والمسألة فيه إذا لم يتخيل صيداً، ولكنه رمى على تردد متسع، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه- إذا اتفقت إصابة الصيد: أحدها: أن الصيد ميتة؛ فإن هذا القصد غير صحيح وصاحبه يعدّ عابثاً هازئاً.
والثاني: يحل، لأنه بنى رميه على قصد الصيد، واتفقت الإصابة، والوجه الثالث: أنه ينظر: فإن رمى في موضع يغلب على ظنه الصيد فيه، وإن لم يعنّ له في الحال، فاتفقت الإصابة، حلّ الصيد. وإن كان لا يغلب على الظن الصيد فيه، فالقصد لا أصل له، وحكمه حكم الهازىء.
11546- ولو اطلع على سرب من الظباء، فأرسل سهمه فيها، ولم يسدّد النشابة على واحدة بعينها، فأصاب السهم ظبية، وماتت به، فهي حلال، ولو سدّد النشَّابة على ظبية عيّنها من السرب، فمالت إلى ظبية أخرى من السرب، ففي المسألة أوجه ثلاثة: أحدها: وهو الأصح، وقد قطع به طوائف من الأئمة أن الظبية حلال، وذكروا في هذه الصورة خلافَ مالك، فإنه قال: لا تحل تلك الظبية، لأنه لم يقصدها. وهذا هو الوجه الثاني. ذكره بعض الأصحاب، وتوجيهه ما أشرنا إليه.
والوجه الثالث: أن الظبية المصادة إن كان رآها لما رمى، وكانت في السرب، فهي حلال. وإن لم يرها أو ثارت بعد مروق السهم، فأصابها السهم، لم تحل.
11547- ولو لاح له شيء شاخص، فرماه، وهو يحسبه حجراً أو جرثومة، فتبين أنه كان صيداً، فقد قطع الأئمة بحلّه، لأنه قصد وأصاب، ولم يعتقد في مقصوده ما يناقض الحل. وقد قال الشافعي: إذا اشتملت يد الإنسان في ظلمةٍ على شيء ليّن، فحسبه حشية لينة-وقرأ بعض الأئمة خشبة لينة- فقصدها وقطعها، ثم استبان أنه قطع حلقوماً ومريّاً على الشرط الذي ورد التعبد به، فالشاة ذكية مستباحة.
كذلك إذا لاح له شاخص، فقصده، فإذا هو صيد، فلو حسب الشخصُ الشاخصَ حيواناً محرّم اللحم، فلما أصابه السهم، فإذا هو ظبية، فالأصح أنه حلال لتوجه القصد، ووقوع الإصابة على نحو القصد، فإن كان من خطأٍ هاجسٍ في النفس، فهو خطأ في جنس المرمي، فيجب ألا يكون له أثر، ومن أصحابنا من قال: لا يحلّ، لأنه لم يقصد صيداً حلالاً، وفي بعض مجاري كلام شيخي وجه ثالث، وهو أن الحيوان الذي حسبه إن كان جنساً يحلّ أن يقصد بالرمي، فإذا تبيّن صيداً، حلّ، وإن حسبه آدمياً مثلاً محقون الدم، فتبين أنه صيدٌ مستحلّ الجنس لم يحل، لأنه قصد محرماً، والقصد في نفسه محرّم.
ولو ذبح حيواناً في ظلمة حسبه خنزيراً أو حيواناً آخر محرماً، فتبين أنه ذبح شاةً، فالوجه عندي القطع هاهنا بالحل، لقوّة الفعل، فإنه في حكم التعاطي والرمي لا يحكم عليه بالإصابة. والعلم عند الله تعالى. والناظر يتنبه لمواضع التنبيه.
ولو رمى إلى شاخص، ولم يغلب ظنه في المرمي، ولكن استوت عنده الجائزات، فإذا تبين كونَه صيداً، فقد أشار شيخي إلى وجهين، ورتبهما على ما إذا ظنّه خنزيراً، ولست أرى للخلاف في هذه الصورة وجهاً، بل الوجه القطع بالحل، كما لو حسبه حجراً شاخصاً. هذا إذا قصد شاخصاً، فأصابه، والمسائل منوعة في ظنه.
فأمّا إذا قصد شخصاً، فأصاب ظبية، ففي حلّها خلاف مرتب على ما لو قصد ظبية، فأصاب ظبية أخرى، والتحريم هاهنا أغلب؛ من جهة أنه لم يسدّد قصده على صيد، وهذا فيه إذا قصد حجراً، فمال السهم عنه.
ولو قصد شيئاً ظنه حجراً، وكان صيداً، فمال السهم عنه إلى صيدٍ آخر، فوجهان، وهذه الصورة أولى بالحلّ من التي قبلها، ولو قصد خنزيراً، وكان خنزيراً، فمال عنه إلى ظبيةٍ، فعلى الخلاف. وهذه الصورة أولى بالتحريم، مما إذا كان المقصود حجراً، ولو ظن المقصود خنزيراً، ولم يكن خنزيراً، ومال السهم، فالخلاف جارٍ، وتفاوت الترتيب في بُدوّ جنس المقصود، ولا معنى للتطويل، وقد لاح منشأ الخلاف في إصابة المقصود في المسائل، وإذا مال السهم، فهذا في أصله مختلفٌ فيه، والمقصود صيد، ثم تختلف صور المقصود، ويقوى ويضعف القصد بحسبها، وينضم إلى ذلك ميل السهم، فترتب المسائل على حسب ضعف القصد وقوته.
11548- ثم ما ذكرناه في الرمي، فلو أرسل كلباً أو أغراه بصيدٍ، فمال عنه إلى آخر، نُظر: فإن أخذ صوباً آخر نابياً عن مقصود المغري، وتبيّن أن الكلب انتحاه بطبعه، ولم يكن استرساله في صوبه بسبب الإغراء، فهو حرام، لا شك فيه، ويظهر الذي أردناه فيه إذا اشتد في الصوب الذي أراده المغري، ثم ثار صيدٌ آخر، فاستدبر الكلبُ الأولَ، وأعرض عنه، وتمطى في صوب صيدٍ آخر بدا له، فأما إذا أغراه على صيدٍ، وكان على السنن صيود، فقد ذكرنا التردّد في ميل السهم المسدّد على صيدٍ منه إلى غيره، وإذا فرض مثل هذا في الكلب، فالخلاف جارٍ، واختلف أصحابنا في الترتيب، فرتب الأكثرون الكلب على السهم، وجعلوا مأخوذ الكلب أولى بالتحريم، فإنه على الجملة حيوان ذو اختيار، وقَصْدُ المغري فيه ضعيف، ما لم يظهر انطياعه، فإذا فرضت مخالفة، ظهر بناء الأمر على اختيار الكلب، بخلاف السهم؛ فإنه لا اختيار له.
هذا مسلكٌ لبعض الأصحاب.
ومن أصحابنا من عكس ذلك، وقال: مأخوذ الكلب أولى بالحل؛ لأن تسديد النشابة على معيّن من سربٍ ممكن، وإغراء الكلب على ظبية من سربٍ غير ممكن إذا لم يختلف الصوب والجهة، والدليل على ذلك أن من رمى نشابة، فانقلبت وأصابت بعرضها الطائرَ وقتلته، فهو ميتة؛ لأن ذلك محمولٌ على خُرق الرامي، وإذا ماتت فريسة الكلب تحته ضغطاً، ففي المسألة قولان؛ من جهة أن الكلب لا يمكن أن يعلّم ترك الضغط، ولا يمكن أن يعلّم الجرح. وهذا لا بأس به على شرط التثبت في الفرق بين ما ذكرناه وبين أن يأخذ الكلب صوباً آخر بحيث يظهر اختياره، ويسقط انطياعه للإغراء.
فرع:
11549- إذا أخذ الرامي في نزع الترس، فأفلت الوتر، وصدم الفُوقَ، فمرّت النشابة، وأصابت الصيد، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: يحلّ، نظراً إلى ابتداء الرمي، واستداده، على وفق القصد.
ومن أصحابنا من قال: لا تحل؛ فإن الرمي جرى، ولم يكن عن قصد، ومثل هذا السهم غير محسوب في أرشاق المناضلة كما سيأتي شرحه. إن شاء الله تعالى.
فرع:
11550- ولو رمى سهماً، وكان السهم مقصراً، ويقع دون الصيد، فصرفته ريح عاصفة فلحق، ففي بعض التصانيف أن الصيد يحلّ، وهذا فيه نظر.
وفي هذا الكتاب على الاتصال: لو أصاب السهم حجراً، فارتد منه، فبلغ الصيدَ بقوة الصدمة، فهل يحل؟ فعلى الوجهين. والفرق أن السهم إذا وقع، فكأنه انتهى، فارتداده أمر مبتدأ، وإذا لم يقع السهم، فصدمته الريح، فهذا محمول على الرمي، والفرق ممكن، والاحتمال مع ذلك قائم في مسألة الريح.
فصل:
قال: "ولو خرج الكلب إلى الصيد من غير إرسال صاحبه... إلى آخره".
11551- إذا استرسل الكلب بنفسه، فما يمسكه ويقتله حرام. وإن كان معلَّماً؛ فإنه إذا لم يصدر عن قصد صاحبه، لم يكن آلة له، وتجرّد اختياره، ولو استرسل كما وصفناه، وانطلق، فزجره صاحبه، فلم ينزجر، فأغراه فلم يَزْدَذ حَمْواً، ولم يتأثر، فما يمسكه ويقتله حرام.
فإن زجره فانزجر، ثم أغراه فانتهض وأمسك وقتل، فمأخوذه حلال؛ فإن استرساله انقطع بانزجاره. وانطلاقُه بعد هذا بإغراء صاحبه أمرٌ مبتدأ.
ولو زجره، فلم ينزجر، فأغراه فازداد عدواً، فأمسك وقتل، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه حرام نظراً إلى ابتداء الاسترسال، ثم لم ينقطع بالزجر، واشتداده في العدو ليس انطياعاً، وقد يصدر مثله مما ليس معلَّماً من الجوارح.
والثاني: أنه يحل؛ لأنه معلَّمٌ، وقد أثر فيه الإغراء، وهذا التردد له التفات على أن الانزجار بالزجر في أثناء العدو هل يُعتبر في أصل التعليم.
ولو لم يزجره، بل أغراه، فازداد عدواً وحَمْواً، ففي المسألة وجهان، وهذه الصورة أولى بالحِلّ؛ إذ لم يوجد فيها زجر واستعصاء مترتب عليه، ثم إغراءٌ بعده.
وإذا جمعنا إحدى الصورتين إلى الأخرى، انتظم منهما ثلاثة أوجه: أحدها: التحليل، والثاني: التحريم. والثالث: الفصل بين الصورتين، كما أشار إليه الترتيب.
11552- وإذا تبين هذا الذي ذكرناه في هذا الحكم، ترتمبا عليه أحكامٌ مماثلة له: منها- أنه إذا أرسل إنسان كلبه، فزجره غيره فانزجر، ثم أغراه، فانطلق، وأمسك، فالقول في أن الممسَك ملك مَنْ؟ ينبني أولاً على اختلافٍ للأصحاب نذكره في أن من غصب كلباً لغيره واصطاد به فالصيد لمن؟ من أصحابنا من قال: هو للغاصب، وهو الصحيح، فإن الاصطياد منسوب إليه، والكلب في حكم الآلة، وكان بمثابة ما لو غصب قوساً ونشاشيب، فاصطاد بها، أو غصب أُحبولة، فنصبها على مدارج الصيود فتعقّل بها الصيد.
ومن أصحابنا من قال: الصيد ملك صاحب الكلب؛ فإنه حيوان ذو اختيار، فكان إمساكه للصيد بمثابة اصطياد العبد، ومن غصب عبداً وأمره بالاصطياد، فاصطاد، فالصيد ملكٌ لمالك العبد.
فإذا تبين الوجهان، بنينا عليهما الترتيب الذي طردناه في الحكم المتقدم، فإذا أغرى الإنسان كلبه، فزجره الغير، فانزجر، فأغراه، فانطلق وأمسك: فإن قلنا: مأخوذ الكلب المغصوب ملك صاحبه، فلا أثر لما جرى من الانزجار والانطلاق، والصيدُ لصاحب الكلب، وإن قلنا: ما يصطاده الكلب المغصوب للغاصب الصائد به، وهو الصحيح، فالصيد في مسألة الانزجار والإغراء ملك الثاني، وليقع التفريع بعد هذا على هذا الوجه الصحيح. فإن زجره الثاني، فلم ينزجر، فأشلاه، فازداد عدواً، أو لم يزجره بل أغراه، فازداد عدواً، ففي الصورتين الأوجه الثلاثة، غير أنها في تعيين المالك، والأوجه الثلاثة في الحكم الأول في الحل والحرمة.
فإن قيل هلا ذكرتم وجهاً أنهما يشتركان؟ قلنا: لا يمتنع في القياس خروج هذا الوجه في الملك، ولا ينتظم في الحل والحرمة إلا أحدهما، فإن فرض اجتماع سبب الحل والحرمة نوجب الحرمة، فيعود الكلام إلى التحليل والتحريم. وإذا كان الكلام في تعيين المالك، اتجه التشريك بإثبات الأثرين، والجمع بين المقتضيين.
وممَّا يتفرع على هذه القاعدة أن المسلم لو أرسل كلباً، فأغراهُ في أثناء العدو مجوسي بعد الزجر أو قبله، فتنتظم الأوجه، وكذلك لو أرسل المجوسي أولاً، ثم أغراه المسلم، فهذه المسائل تتناظر، ولا معنى للتطويل بإعادتها؛ فإن مأخذ جميعها واحد.
والذي يتعلق بفقه هذا الفصل أن الكلب لو استرسل بنفسه ثم أغراه صاحبه في أثناء العدو، فإن قلنا: الاعتبار باسترساله، فلا كلام. وإن قلنا: الاعتبار بازدياد العدو منه عند الإغراء في الأثناء، فلو أكل الكلب من الفريسة-والتفريع على أن الفريسة لا تحرُم بالأكل إذا لم يتكرر- فالاحتمال يظهر في هذه الصورة، فإنه تبين أنه لم يلتفت على صاحبه، ويضعف بهذا أثر إغرائه في الأثناء.
ولو استرسل الكلب بنفسه، وأثبت الصيدَ وأكل منه، لم يؤثر هذا في خروجه عن التعلم وإن تكرر؛ فإنه استرسل بنفسه، وإنما يُرعى انكفافه إذا كان استرساله بإرسال صاحبه على حكم الانطياع له، وهذا واضح لا شك فيه.
فصل:
قال: "وإذا ضرب الصّيد، فقطعه قطعتين... إلى آخره".
11553- مقصود هذا الفصل الكلام فيه إذا ضرب الصيدَ بسيف أو غيره، فأبان منه عضواً؛ فإن صار بالإبانة إلى حركة المذبوح، فنحكم بتحليل الصّيد، والعضوِ المبان منه، وتعليلُه بيّن؛ فإن الإبانة صارت ذبحاً مجهزاً.
ولو أبان عضواً، فبقي الصّيد حيّاً، وذُبح لَمَّا قُدر عليه، فالعضو المبان بالضربة الأولى محرم؛ فإنّه أبين من حيٍّ، وما أبين من الحيّ، فهو ميّت، وقد تبين أن الإبانة لم تكن ذبحاً، ويستحيل فرض جُرح لا يكون ذبحاً للأصل، ويكون ذبحاً للعضو.
ولو حصلت الإبانة في العضو وفي الصيد حياة مستقرة، ثم مات الصيد قبل أن يُدرك من غير فرض تقصير في الطلب، أمَّا الصّيد دون العضو، فمباح، وفي العضو وجهان: أصحهما- التحريم؛ فإن الإبانة لم تُفد حلّ العضو لما وجدت، وإن تمَّ التذفيف في العضو، فيستحيل أن ينعكس من موت الصيد عليها حكمٌ.
والوجه الثاني- أن العضو المبان حلال فإنا تبّينا أن الإبانة ذبحٌ للحيوان، فيجب أن يكون ذبحاً للعضو.
ولو أبان العضو في الصورة التي إليها الانتهاء، ثم رمى إلى الصيد بنشَّابة أخرى.
فإن كانت مذفِّفةَ، حلّ الصيد، إذا لم يَصر مُزمَناً بالإبانة الأولى، والعضو المبان محرّم؛ فإن الرمي ذبح إذا كان مجهزاً في نفسه، لو فرض وحده، وقد ذكرنا أن الصَّيد لو ذبح، فالعضو المبان أولاً حرام، ولو لم تكن الجراحة بالسَّهم مذفّفة، بل استعقبت الجراحة الواقعة به حياةً مستقرةً، ثم حصل الموت بالإبانة الأولى وبالإصابة الثانية، ولا إزمان بالجرح الأول، أما الصّيد فيحل، وفي العضو المبان وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا لم يُحدث بعد الإبانة جَرحاً، والصورة الثانية أولى بتحريم العضو؛ فإنّ الأبانة لم تتجرّد ذبحاً للصيد، بل انضمّ إليها جرح آخر، بخلاف ما إذا تجردت الإبانة، فإنها بانت ذبحاً في الصيد آخراً، فيجوز أن تكون مُحِلةً للعضو.
وغائلة هذا الفصل أنا إن حكمنا بتحريم العضو، وهو القياس، فلا كلام، وإن حكمنا بإحلال العضو عند إفضاء الإبانة إلى موت الصيد، ففي ذلك وقفة: أنقول: يحل العضو عند موت الصيد وكان حراماً قبلُ، أم نقول: نتبين عند موت الصيد حِل العضو استناداً إلى حالة الإبانة؟ وهذا مشكل؛ فإنا لو لم نستند، وحكمنا بأن الحل يحصل عند موت الصيد، فموته لا يُغيّر صفة العضو، وإن حكمنا بالاستناد، بعُد جدّاً أن يحل عضوٌ مبان من حيوان، وفي الحيوان بعدُ حياة مستقرة، وغموض هذا الإشكال في التفريع يُشعر بفساد الأصل.
ثم إذا حصل التنبيه للتردد الذي ذكرناه، فالوجه الحكم بتحليل العضو عند موت الصيد؛ فإن الذبح يحصل عند زهوق الروح، فإذ ذاك نُثبت للجزء حكمَ الجملة، هذا هو الذي يصح، والإشكال قائم، وهو داعٍ إلى فساد الأصل الذي عليه التفريع.
فصل:
قال: "وأي أبويه كان مجوسياً... إلى آخره".
11554- هذا فصل قدمنا ذكره في النكاح في أحكام المناكحة، والقول في تحليل المناكحة يجاري القولَ في تحليل الذبيحة، فهما متواخيان لا يفترقان، إلا في الأَمَة الكتابية؛ فإن نكاحها حرام وذبيحتها حلال، والسبب فيه أن للرق أثراً في المنع من النكاح، فأثَّر انضمامُه إلى الكفر، ولا أثر للرق في الذبيحة أصلاً، فكانت الرقيقة في الذبيحة كالحرة.
ومقصود الفصل الآن تفصيل القول في المتولد بين كتابي ووثنية، أو من بين وثنيّ وكتابية، والتفصيل المُبِين فيه أن المتولد من بين وثني وكتابية لا تحل ذبيحته، ولا يحل نكاحه، وفي المتولد من بين كتابي ووثنية قولان. وإن أردنا العبارة عن القولين في الصورتين، قلنا: أحد القولين أن التوثن في أي طرف فُرض أو التمجس- على الرأي الظاهر- يثبت حرمة المناكحة والذبيحة. والقول الثاني- أن الاعتبار بالأب: فإن كان كتابياً، فحكم الولد حكمه في المناكحة والذبيحة، وإن كان وثنياً، فحكم الولد حكمه. وهذا ذكرناه في النكاح.
والذي نُريده أنا إذا ألحقنا الولد بالوثني قولاً واحداً، فقد بان حكمه في الحال، فلو بلغ ودَان بدين أهل الكتاب، واتبع أمه الكتابية، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نحكم الآن له بحكم أهل الكتاب. والثاني-وهو الأصح- أنا لا نحكم له بحكم أهل الكتاب؛ فإنّا قضينا له بالتوثن، فيدوم هذا الحكم له، فإذا دان بالكتاب بعد البلوغ، كان كوثنيّ يتهوَّد، أو يتنصّر، ولا شكّ أن التَّهَوُّدَ والتَّنَصُّرَ بعد مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يثبت حُرمة. والقائل الأول يقول: إن حكمنا له في حالة الصغر بالإلحاق بالأب فَلدِين الأم من الحرمة ما يثبت له حكمَ الاستمساك بالكتاب بعد البلوغ، ثم إذا وقع التفريع على هذا، فلا وجه إلا الاستناد، والقضاء بأن الأمر كان موقوفاً إلى أن نتبين ما يدين به بعد البلوغ. وهذا ضعيف غير متجه.
فصل:
قال: "ولا يؤكل ما قتلته الأحبولة... إلى آخره".
11555- إذا نُصب في الأحبولة مِنجَل، فقد يتعقل الصيد بالأحبولة، ثم يتعقر الصّيد بالمنجل، فإذا فرض ذلك، ثم أفضى العَقْر إلى هلاك الصّيد، فهو حرام، لم يختلف الأصحاب فيه، والسبب في ذلك أنه لم يتّصل بالعَقْر الحاصل فعلٌ يُنسب العقر إليه، وليس وضع المنجل عقراً به، بل الصيد هو الذي يتعقر بحركات نفسه، والمنجل ينحط ويرتفع. ومن أحاط بما ذكرناه من اشتراط الفعل، ثم اشتراط القصد بعده لم يخف عليه تعليل ذلك.
فعلى هذا قال الأئمة: إذا كان في يد الإنسان سكّين حادٌ، فانتحرت به بهيمة، ولم يحرّك صاحب السكّين يدَه، فالبهيمة تحرم وإن حصل القطع في حلقومها ومَريئها، ولو كان صاحب المُدْية يحركها، وكانت البهيمة تحك حلقَها، فحصل قطع الحلقوم والمرّيء بتحاملها، وتحريك صاحب السكين يده، فالوجه التحريم لاشتراك البهيمة والذابح.
وقد يرد على ما ذكرناه أن من أضجع شاةً ليذبحها، فإذا أمرّ السكين، فقد يضطرب المذبح تحت السكين اضطراباً يؤثر في القطع، ولو قيل قد لا تخلو شاة عما وصفناه، لم يكن بعيداً، ففتح هذا يوجب تحريماً في معظم الذبائح؟ قلنا: هذا في التصوير غير سديد؛ فإن الشاة إذا رُبطت فمسّها حدّ السكين، فإنها تَخنِس الحلقومَ بطباعها، ولعل من يغفل عن التحرّز إذا أصاب عضواً منه مؤلمٌ انزوى عنه، فإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن ادعاء عموم حركتها في استقبال المُدْية، وما يفرض من اضطراب فهو بعد فَرْي الحلقوم والمريء، فلا أثر له.
فإن صوّر مصور اضطراباً يُعين على القطع قبل تمام القطع، فهذا مما يجب التحرّز منه، فإن ظهر فعل الذابح وقُدر أمر خفيٌّ يجري مثله في الوساوس، فالتعويل على فعل الذابح، وإذا ذكرنا فصول الذبح، انكشف تمامُ الغرض.
11556- والصبيّ الذي لا يميّز إذا أمرّ سكيناً على حلقوم طائر وقطع ما يجب قطعه، فهو ميتة، ولا حكم لفعله؛ إذ لا قصد له، والمجنون الذي لا قصد له بهذه المثابة، والصبي المراهق إذا ذبح، فالأصح تحليل ذبيحته، وفي بعض التصانيف ذكر خلاف فيه من حيث إن الشرع سلب حكمَ قصده، ويمكن تقريب هذا من اختلاف القول في أن الصبي هل له عمد في القتل، حتى يجب بسببه الديةُ في ماله، والقصاص على شريكه في القتل.
وأما المجنون، فلا قصد له، فلو انتظم منه الذبحُ على موجَب الشرع، فالوجه القطعُ بتحريم ذبيحته لسقوط قصده، كما ذكرناه في الصّبي الذي لا يميز، وفي بعض التصانيف أن المجنونَ إذا نظم الذبحَ على وجهه، كان ذبحه مبيحاً، وهذا لم أرَه إلا في هذا الكتاب، ووجهه على بعده أن ما يصدر منه لا ينقص عن قطع الإنسان شيئاً ليناً يحسبه حشيَّةً أو خشبة، ثم يتبين أنه حلقوم شاة، وقد ذكرنا أن هذا يُحل الذبيحة. ثم إن فرض مثلُ هذا عن الصبي الذي لا يميز، وقد ينتظم فعلاً كما صوّرناه من المجنون، فسبيله سبيل المجنون.
فصل:
قال: "والذكاة وجهان... إلى آخره "
11557- قسَّم الشافعيُّ الذكاة إلى ما يقع في المقدور عليه، وإلى ما يفرض في الشوارد، وهذا الانقسام بيّن، فالذبح في المقدور عليه في الحلقوم والمريء، كما سنعقد في ذلك فصلاً، إن شاء الله.
فأمَّا الحيوان الذي لا يُقدر عليه، فإن كان صيداً، فالذكاة فيه بآلة وحيوان صَيُودٍ معلّم، كما تمهّد.
ولو شردت بهيمةٌ إنسيّة الجنس، فقاعدة المذهب أنها قد تلتحق إذا شردت بالصيد الأَبِد؛ حتى تكون إصابتها بالجرح في غير المذبح ذكاة كما في الصيد، وقال مالك: الاعتبار بجنسها، ولا تحصل ذكاتها إلا في الحلقوم والمريء، وقد رد الشافعي عليه بأن قال: لو كان المعتبر الجنس، لوجب أن يقال: الظبية الآنسة تحل بالجرح من غير قطع الحلقوم، والمريء، وهذا لا قائل به، فليقع التعويل على صورة القدرة، والإفلات، فالحيوانات في الحكم الذي نطلبه مذبوحات، ونحن نتبع أحوالها في القدرة والشِّراد، ثم الغرض التعذر لتعذّر الوصول إلى مذبح الحيوان الآنس في جنسه.
ونحن نذكر في ذلك صورتين: إحداهما- أن البهيمة لو تنكست في بئر وعسر الوصول إلى مذبحها، وتعذر إخراجها، ولو تُركت، لهلكت، فيجوز الطعن في الأجزاء الظاهرة منها، ويكون ذلك ذبحاً فيها، والسبب فيه تحقّقُ التعذّر، ولهذا المعنى حلّت الصُّيود بهذه الجراح، ثم يعتمد المذهب بما هو الأصل في تمهيد غرض الفصل، وهو ما رُوي: "أن رجلاً يعرف بأبي العُشراء تردّى له بعير في بئر، وهلك، فرُفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي العُشَرَاء: "وأبيك لو طعنت في خاصرتها، لحلّت لك " ثم ما ذهب إليه المحققون، وهو اختيار القفال أنه لابد من جرح مُذفِّف، وينزل منزلة قطع الحلقوم والمريء في الحيوان المقدور عليه، وليس يخفى أن قطعهما لا يعقب حياة معتبرة، فليكن الجرح بمثابة قطعهما.
ومن أصحابنا من قال: يكفي الجرح المدمي الذي يجوز وقوع القتل به. وهذا القائل يستمسك بظاهر الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأبيك لو طعنت في فخذها، لأجزأتك» ولم يفصل بين طعن وطعن، والقائل الأول ينفصل عن هذا، ويقول ذِكْر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة يدل على اعتبار التذفيف؛ فإن الخاصرة مقتل.
هذا كلامنا في هذه الصورة.
ويتصل بما ذكرناه أمرٌ في الصّيد، وهو أن من رمى صيداً ولم يذفف، فهل يلزمه أن يرمي وهكذا إلى أن ينتهي إلى التذفيف أو يعجز؟ هذا أولاً في تصويره عُسرٌ؛ لأن الطلب وقطع الحلقوم والمريء أيسر من إتباع الرّمي الرَّميَ، والصيدُ منطلق؛ فإن تصور امتناع الطلب في الحال وإمكان الرّمي، فهذا موضع الكلام، وفيه اختلاف: من أصحابنا مَن قال: لا يجب إتباع الرّمي الرَّميَ، ومنهم من أوجبه للانتهاء والتذفيف، وهذا مرتَّب على البهيمة المتنكسة. والصورة الأخيرة أولى بألا يجب طلب التذفيف فيها؛ فإن التمكن لا يتم مع الصَّيد المنطلق، بخلاف الحيوان المتنكس.
فهذا بيان صورة مما وعدناه.
11558- الصورة الأخرى وهي إذا نَدَّ بعيرٌ أو شردت شاةٌ، نُظر: فإن كان شرادها يُفضي بها إلى مهلكة أو مسبعة، فسبيل الشارد-والحالة هذه- كسبيل الصّيد، فيجوز أن يقصد بالآلات، ويجوز أن تُغرى به الجارحة المعلَّمة، ولو كان لا يُفضي شرادها إلى مهلكة، وربما كان تسكن، فتدرك، فالظاهر عندي أن الذبح لا يحصل بالجرح في غير المذبح؛ فإن هذا القدر إلى زوال، فلا حكم له. وفي كلام أصحابنا ما يدل على أنه إذا تحقق الشراد، فيجوز ذبحه بالجرح حيث يُصيبه؛ فإنه رُبَّما يبغي الذبح في الحال، فلا نكلّفه الصبر إلى أن يزول الشراد.
ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه من الشراد، لم نَعن به أدنى إفلاتٍ يتصوّر معه لُحوقُ المُفلِت بعدوٍ أو استعانة بمن يستقلّ على الاعتياد في مثله. وإذا قُلنا: مجرد الشراد لا يجعل الجَرْح في غير المذبح ذبحاً إذا كان لا يُفضي بالشارد إلى الهلاك، فلو كان يُفضي به إلى الوقوع بين ظهراني لصوص مترصدين أو غُصاب، فعلى هذا الوجه وجهان. وقد نجز الغرض في الصورتين وتمَّ ببيانهما مقصود الفصل.
فصل:
قال: "ولو رمى صيداً فكسره... إلى آخره".
11559- إذا رمى صيداً فكسره، وأَثبتَه، وأبطل امتناعه بشدة العدو، أو رمى طائراً، فكسر جناحه، فقد ملكه، ولا يتوقف ثبوت الملك فيه على الانتهاء إليه، وإثبات اليد عليه، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ثم من حكمه وقد صار مُثْبَتاً أن يقال: إن انتهى إلى حركة المذبوح لمَّا أُثبت، فهو حلال، وإن كانت فيه حياة مستقرة، فينبغي أن يطلبها من أثبتها وملكها، على ما تفصّل ذلك فيما مضى، وإذا أدركه، ذَبَحه بقطع الحلقوم والمريء.
11560- فإذا تمهّد ذلك، فلو أثبته وصار مذبوحاً، فرماهُ آخر فَرمْيُه صادف ذكياً، ويعود النظر إلى أثر هذا السّهم في جلده بالتمزيق أو ما شابه هذا، ولا معنى للتشاغل بمثل ذلك.
وإن كان في الصيد المثبَت حياةٌ مستقرة، فرمى الثاني، نُظر: فإن أصاب الحلقوم والمريء بالآلة التي رماها وقطعها، فهذا ذبح على التحقيق، ولكنه جناية على ملك غيره، فنقول: كم قيمة هذا الصَّيد مثبتاً فيه حياة؟ وكم قيمتها إذا ذبحت؟ فإن كان بين القيمتين تفاوت، ألزمنا الرامي الثاني ذلك التفاوت.
وعندي أن الحيوان إذا كان لما به من الجرح ولو لم يذبح، لهلك وفات، فالذبح لا ينقص منه شيئاً. نعم، يمكن فرض إثبات تُتَصور الحياةُ معه، فإذ ذاك يظهر التفاوت. هذا إذا أصاب الحلقوم والمريء وقصده.
وقد ينشأ من هذا الكلام تردّد في شيء، وهو أن من رمى إلى شاته الربيطة آلة جارحة، فأصابت الحلقوم والمريء وفاقاً وقطعتهما، ففي حِل الشاة نظر، مع القدرة على إمرار السكّين على الحلقوم والمريء، ويجب أن يفرق بين أن يقصد المذبح بالآلة التي يرميها وبين أن يقصد الشاة فيُصيبَ المذبح، والاحتمال يتطرق إلى جميع ذلك، "فالصّيد المُثبَت إذا رماه إنسان، فقطع حلقومَه ومريئه، فهو يقع في التردّد الّذي نَبّهنا عليه.
ولو أثبت الأولُ الصّيد، كما صوّرناه، وفيه حياة مستقرة، فرماه الثاني، ولم يُصب المذبح، فهذا يفرض على صورتين: إحداهما- أن تكون الجراحة الثانية على غير المذبح منجزة مهلكة، والأخرى ألا تكون منجزة، فإن كانت منجزة، فيصير الصّيد ميتة، لأن هذا جرح في غير المذبح مع القدرة على المذبح.
ولو لم يكن الجرح منجزاً، واتفق تركه حتَّى مات بالجرحين، فهو ميتة أيضاً، ويترتب على ذلك أن الأول ملك الصّيد بالإثبات، والثاني أفسده بالجرح، وحكم الإفساد التزام الضمان.
11561- ولا مطلع على المقدار الذي يلتزمه إلا بعد تقديم أصل مقصود في نفسه، ونحن نذكر ما يتعلق به، ثم نعود إلى مسألة الصّيد من حيث قطعنا الكلام.
فأما ما نقدمه فنقول: إذا جنى رجل على بهيمة أو عبد والقيمة عشرة، وقد نقص بالجرح دينار، ورجعت القيمة إلى تسعة، ثم جاء جانٍ آخر، وجنى عليه جناية أرشها دينار، فسرت الجراحتان وأفضيتا إلى هلاك الصّيد، فما الّذي يجب على كل واحد منهما؟ اضطرب أصحابنا في هذه المسألة، وذكروا أوجُهاً مشهورة.
والرأي عندنا أن نذكر ما قيل نقلاً، ثم نبحث بعد النقل عن الحقائق: فأحد الوجوه-أن الأول يغرم أرش جراحته، وهو دينار، ويغرم الثاني أيضاً أرش جراحته، وهو دينار فيما قرّرناه، ثم ما يبقى من القيمة بعد حط الأرشين عنهما يقسم على الجارحَيْن نصفين، فيخرج منه أن الأول يلتزم ديناراً، وهو أرش جراحته، والثاني يلتزم ديناراً وهو أرش جراحته، والباقي وهو ثمانيةُ دنانير عليهما نصفان، فيغرم الأول إذاً خمسة دنانير عن حساب الأرش وما يصيبه من القيمة، وكذلك الثاني.
ووجه هذا الوجه أن جراحة كل واحد منهما أثرت في تنقيص القيمة فاستبد كل واحد بأرش النقص المحال على جراحته، ثم القتل بعد هذا الاعتبار يقع بسراية الجراحتين على مقتضى الاشتراك، فيقتضي استواءَهما فيما يقابل الموت.
11562- والوجه الثاني- أنه يجب على الأول خمسةُ دنانير، ويجب على الثاني أربعة دنانير ونصف، ووجهه أن اعتبار الأرش والجراحتان ساريتان أفضيتا في العاقبة إلى الهلاك باطل؛ فإن النظر إلى الأرش إنما يتجه عند فرض الاندمال وخروج الجراحات عن كونها قتلاً، وهذا أصل متمهد في الجنايات على الأحرار والعبيد والبهائم، فإذا بطل اعتبار الأروش، لم يبق إلا النظر إلى انتسابهما إلى القتل، وإذا كان كذلك، فالأول صدرت منه الجناية وقيمة العبد عشرة، فألزمناه نصف القيمة بحساب العشرة، والثاني جنى وقيمة العبد تسعة-وقد أبطلنا اعتبار الأرش- فنُلزمه نصف قيمة العبد يوم الجناية، وهي أربعة ونصف، وما ذكره هذا القائل من إسقاط الأرش وإبطال اعتباره فقيهٌ، ولكن أداء الوجه إلى إسقاط نصف دينار من قيمة العبد، وهما الجانيان، ولا سبب سوى جنايتهما محالٌ، على ما سيصرح البحث إن شاء الله.
11563- والوجه الثالث:وهو منسوب إلى اختيار القفال- أنا نوجب على الأول خمسة دنانير ونصفاً، ونوجب على الثاني خمسة دنانير، وتعليل ذلك أن جناية الأول نقصت من القيمة ديناراً، وكذلك جناية الثاني، وانتسب كل واحد منهما إلى قتل نصف العبد، فقلنا: يسقط نصف الأرش في حق كل واحد باعتبار انتسابه إلى قتل النصف، والقاتل لا يغرم بحساب الأرش، ولا يندرج نصف الأرش في حق كل واحد منهما تحت ما يُنسب من القتل إلى صاحبه، والحساب على التنصيف بينهما، فاقتضى هذا تثبيت نصف الأرش على كل واحد منهما، ثم يضم إلى ذلك إيجاب نصف القيمة على الأول، نظراً إلى قيمة يوم الجناية، فيجتمع عليه خمسة دنانير ونصف، ونضمُّ إلى ما ألزمنا الثاني من الأرش نصف القيمة باعتبار يوم الجناية، فيجتمع عليه خمسة دنانير، ويتحصل من المجموع ما ذكرناه.
وهذا الوجه ضعيف أيضاً لما سنذكره في المباحثة إن شاء الله، وهو مؤدٍّ إلى غلط في الحساب؛ من جهة الزيادة؛ إذ قيمة العبد عشرة، وقد ألزمناهما عشرةَ دنانير ونصفاً، واعتذر القفال عن هذه الزيادة بأن قال: ترتيب الجنايات يجري مثل ذلك، فإن من قطع يديْ عبدٍ-والتفريع على أنه يلتزم تمام قيمته- فإنا نُلزمه القيمة التامة، ثم لو جاء جانٍ ثانٍ وقتله تجهيزاً، فنلزمه قيمته مقطوع اليدين، فيحصل للسيد من الجنايتين قيمة العبد وزيادة.
11564- وحكى العراقيون وجهاً رابعاً ناشئاً من المباحثة التي رَمزنا إليها في استنكار وجوب الزيادة، ونسبوه إلى أبي الطيب بن سلمة، قال أبو الطيب فيما حكوه:
نقدّر على الأول نصفَ القيمة يوم الجناية ونصف الأرش، وكذلك على الثاني، كما ذكرناه في الوجه الثالث، ثم نجمع ما عليهما تقديراً ونقسم قيمة العبد على ذلك المبلغ، بعد البسط الذي يقتضيه مسلك الحساب، ونوجب على كل واحد من العشرة بنسبة تلك القيمة، فيتفاوت ما عليهما، ولا مزيد على العشرة.
وبيان ذلك أن أرش جناية الأول إذا كان ديناراً، وكذلك أرش جناية الثاني، فالذي يخرجه حساب الوجه الثالث عليهما عشرة ونصف، على الأول خمسة ونصف وعلى الثاني خمسة، فنبسط المبلغ أنصافاً، فيصير أحداً وعشرين، فنقسم العشرة على أحدٍ وعشرين، ونقول على الأول أحد عشر جزءاً من أحد وعشرين جزءاً من عشرة وعلى الثاني عشرة أجزاء من أحد وعشرين جزءاً من العشرة.
وهذا الوجه فيه اعتبار لطيف في فنّه مُؤَدٍّ إلى ترك الزيادة على القيمة.
ولا حجة فيما استشهد القفال به من قطع اليدين، والقتل بعده؛ فإن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، والقتلُ بعد قطعه مُلحِقٌ قطعه بالاندمال، فليست تلك الصُّورة نظيراً لمسألتنا.
11565- وذكر صاحب التقريب وغيره من المحققين وجهاً خامساً لا يصح عندنا على السبر غيره-وفتواه- أنه يجب على الأول خمسة دنانير ونصف، ويجب على الثاني أربعة دنانير ونصف، ولا يتوجه هذا الوجه إلا بمسلك المباحثة وإنعام النظر في الوجوه المتقدمة.
وسبيل افتتاح الكلام أن نقول: إذا جرحا وسرت الجراحتان، فهما قاتلان، والجراحتان قتلٌ، ولا ينتظم على القواعد الالتفاتُ إلى الأرش مع كون الجارح قاتلاً.
ولو ذهبنا نبسط هذا، لكان تطويلاً، ولا ينتهي إلى هذا الموضع ناظر مدركٌ إلا وقد أحاط بهذا الأصل وإن خطر للفطن تفاوت الأرشين، من جهة أن أرش النقص الأول عُشرٌ بالإضافة إلى العشرة، وأرش الجرح الثاني تُسع بالإضافة إلى قيمة العبد بعد الجرح الأول، فلا حاصل لذلك؛ فإن هذا نظر في تفصيل الأرش، وأصلُه باطل مع انتسابهما إلى القتل.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنهما لو جرحا معاً، وكان جرح أحدهما بحيث لو انفرد، لنقص من القيمة عشرها، أو كان أرشها عشراً، وكان جرح الثاني أفظعَ وأفحشَ بحيث لو انفرد، لنقص من القيمة خَمْساً، فإذا أفضى الجرحان إلى الهلاك، فلا نظر إلى الجرحين وتفاوتهما في المقدار، ولكنا نجعلهما قاتلين، غير أن الجرحين وَقَعَا معاً، وصارا قتلاً، فالقيمة موزَّعة على الجارحين بالسّوية، فيجب إخراج اعتبار الأرش من البين، وكل وجه مبناه على اعتبار الأرش، فهو ساقط.
ولكن إن وقع الجرحان معاً، جعلنا الجارحين كالقاتل الواحد، وقسطنا القيمة عليهما، وإن وقع الجرح الثاني مرتباً على الأول، فينشأ من هذا أنا نعتبر في حق كل واحد القيمةَ التي كان العبد عليها عند اتصال الجرح به مع إحباط النظر إلى الأرش.
ولكن يعترض مع هذا إشكال هو منشأ الاضطراب، وهو أنا لو وفينا هذا القياس حقَّه، لأوجبنا على الأول خمسة وعلى الثاني أربعة ونصفاً، وهذا يُفضي إلى إسقاط جزء من قيمة العبد، وهو محالٌ؛ فإنَّ فوات العبد محال على الجرحين، فالوجه أن نتأنق في طلب نصف دينار من غير أن نحوّم على الأرش، فنقول: الأول لو انفرد بالجرح، وصار جرحه قتلاً، لالتزم العشرة، فلما جرح الثاني، وقد ظهر نقصٌ في القيمة، استحال أن نلزمه أكثر من نصف القيمة التي كان العبد عليها يوم جنايته، هذا ما يقتضيه حكم القيمة، والعبد يختص عن الحر بارتفاع القيمة وانحطاطها؛ فإنَّ الشرع تولى تقديرَ بدل الحر، فلا يفرض انحطاطه.
فنقول: أوجب القياس ألا نوجب على الثاني إلا نصف القيمة الناقصة، وكأن الأول منتسب إلى القتل والتفويتِ إلا في المقدار الذي يفرض لالتزامه الثاني.
فذاك مقتطع عن الأول والثاني منسوب إليه، وليس ما التزمه من الزيادة أرشاً، وإنما هو يترتب على شيئين:
أحدهما: زيادة القيمة يوم جنايته
والثاني: نقصانها يوم جناية الثاني، وامتناع إضافة الزيادة إلى جناية الثاني؛ فإنه يشارك في قتل عبدٍ قيمته تسعة، فتحصّل من مجموع ذلك أن التفاوت بين النصفين على الأول وما اقتضاه الحساب من قسمةٍ، فهو في عهدة الأول، فعلى الثاني نصف قيمة العبد مجروحاً الجرح الأول، وعلى الأول ما تتم القيمة به.
11566- ثم ينشأ من هذا التوجيه وجه النظر في الوجوه التي قدمناها: أمَّا من قال: على الأول دينار، وعلى الثاني دينار، والباقي بينهما، فهذا الوجه يتضمن إثبات الأرش مع حصول القتل بالجرحين، وهذا مصادمة أصل عظيم، لا سبيل إلى مخالفته، وهو أن الأروش يسقط اعتبارها مع إفضاء الجرح إلى زهوق الروح.
والقول الوجيز في تحقيق ذلك أن الأرش معناه تمييز مقدارٍ واجبٍ بالجناية على الجملة، وهذا من ضرورته أن ينفصل الجرح عن الإزهاق، فإذا أدى إليه، كان الجرح مع السراية بمثابة حزّ الرقبة، فإن فرضت شركة، فالشركاء كالقاتل الواحد.
هذا وجهٌ بيّنٌ في ضعف هذا الوجه، ثم النظر في العاقبة يوضح فساد الأصل؛ فإنَّ الثاني التزم ما التزمه الأول مع أن الجناية الأولى صادفت كمالاً في القيمة، والجناية الثانية صادفت نقصاناً فيها، ولا سبيل إلى اعتقاد الصحة في هذا على الجملة إلى أن نسبر. فإن ظن ظانّ أن استواءهما من قبل أن أرش أحد الجرحين تُسعٌ، وأرش الجرح الثاني عُشر، فهذا التفاوت لا يُوجب الاستواء، مع أنا ذكرنا في توجيه الوجه المرتضى أنا لو فرضنا جرحين واقعين بالعبد معاً، وأحدهما أعظم من الثاني، فلا يتفاوت الأمر باختلاف الجرحين إذا وقعا معاً، كذلك إذا ترتبا، وإنما الأثر لنقصان القيمة بالجرح الأول، ومصادفة الجرح الثاني عبداً ناقص القيمة.
وأما من قال: يجب على الأول خمسة، وعلى الثاني أربعة ونصف، فهذا الوجه ليس فيه التعرض للأرش والالتفات إليه، ولكن فيه إسقاط شيء من القيمة وسببه أنه دقيق المُدرك مع إسقاط الأرش، ووجهه ما ذكرناه في توجيه الوجه المختار.
وأما من أوجب على الأول خمسة ونصفاً، وعلى الثاني خمسة، فقد بنى مذهبه على أن كل واحد منهما بانتسابه إلى القتل قاطع نصف سراية جرح صاحبه، وهذا يقتضي أن يثبت ذلك المقدار من الأرش، فإن من قطع يدي رجلٍ ورجليه، فلو سرت جراحته، لصارت الجراحة نفساً. ولو قتل الغيرُ ذلك المجني عليه، فتستقر الأروش على الجاني الأول؛ فإن القتل من الثاني قطع سراية الجارح الأول وهذا فيه تدقيق، ولكن لا حاصل له مع حصول القتل منهما، والقطع بنزول اشتراكهما في القتل منزلة انفراد الرجل بالقتل، ثم دلّ فساد التفريع على فساد الأصل إذا اقتضى الوجه أكثر من القيمة.
وما ذكره القفال من الاستشهاد بما إذا قطع رجل يدي عبدٍ ورجليه، ثم قتله آخر، فهو فقيه غائص؛ من جهة أن كل واحد من الشريكين في حكم المخرج لنصف جرح صاحبه عن كونه قتلاً، وإذا خرج جرحُ الجارح عن كونه قتلاً بقتلٍ يقع عن غيره، فهذا يقتضي تثبيت الأرش للجرح الخارج عن القتل، وإذا كان كذلك، انتظم فيه تشطير الأرش، ولا يُنكر ما يتفق من زيادة في مساق الفقه كما استشهد به، ولكن فَصْلُ فعل أحدِ الشريكين عن الثاني يخالف بابَ الاشتراك ووضعَه، ولو قطع رجل يد عبدٍ وقطع معه رَجلٌ آخر يده الأخرى، فلا نتعرض لأرش جرحهما إذا وقعا معاً ولكن نجعلهما كرجل واحد قطع يدي عبدٍ، ثم أفضى قطعه إلى زهوق روح العبد.
هذا وجه البحث عن هذا الوجه.
وأمَّا ما حكاهُ العراقيون عن أبي الطيب بن سلمة من توزيع القيمة على المبلغ الذي أثبته القفال ومن انتحى نحوه، فهو حسن دقيق، ولكنه التفات إلى الأرش، ولو صح الالتفات إليه، لم يصح إلا مذهب القفال؛ فإن الزيادة لا مبالاة بها إذا صححها قياس، فإذا كُنّا نُبطل ذلك الوجه لتعلقه باعتبار الأرش، فإذا بطل تحقيقه، بطل تقديره. هذا هو الممكن في البحث عن هذه الوجوه.
11567- ولسنا من الصّلف على حدٍّ ندعي انتهاء النظر نهايته في أمثال هذه المعاصات، غير أنا نستفرغ الوسع فيما ننتهي إليه وطريقُ الفقه مذلّل لكل ذي فطنة.
وقد نجز منتهى مرادنا في هذه المقدمة، فإذا أردنا تقريبها من مسألة الصّيد صوّرنا الجارح الأول مالك العبد، وصورنا الثاني أجنبياً، ثم الأوجه الخمسة تجري في وضع التقسيط، غير أن ما يقابل الأول وهو مالك العبد يُهدر، وما يقابل الثاني يثبت.
وصَوَّر المتكلفون جناةً على العبد مترتبين، ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخفَ عليه ما يورد عليه من الصور، إن شاء الله تعالى.
11568- وقد حان أن نعود إلى مسألة الصّيد فنقول: إذا رمى الأولُ وأزمن الصّيد وملكه، ثم رمى الثاني، ولم يُصب المذبح، فيصير الصّيد ميتة، فإن كانت الجراحة الثانية مذففة في غير المذبح، فالإماتة مضافة إليها بالكلية؛ فإنا تحققنا أن الموت حصل بها، وانقطع بها سريان الجرح الأول المزمن، فنقول: أفسد الثاني الصّيد المزمَن، فعليه قيمة الصّيد مزمَناً، ولا يجوز تقدير الخلاف في هذه الصورة.
فأما إذا لحق الجرح الثاني، ولم يكن مذففاً، وحصل الموت في ظاهر الظن بالجرحين، غير أن الأول ملك الصَّيد، فلا يُتصور في حقه غرم، والثاني جانٍ ملتزم للغرم.
وحاصل ما ذكره الأئمة بعد تحقيق التصوير أوجهٌ، نسردها، ثم نوجه البحث عليها: فمِن أصحابنا من قال: على الجارح الثاني في الصورة الأخيرة تمام قيمة الصَّيد مزمَناً مجروحاً الجرح الأول، وليس ذلك كما لو جنى السَّيد على عبد نفسه، ثم جنى أجنبي عليه من بعدُ؛ فإنا قسطنا القيمة في تلك المسألة، وذكرنا الأوجه الخمسة في كيفية التقسيط، والأصل متفق عليه، والفرق أن الجراحة الأولى وإن صدرت من المالك، فلا خير فيها ولا صلاح، وإنما هي جراحة من المالك يُتلف ملكَه، فساوت جراحةَ الأجنبي في الإفساد، وإن خالفته في أن المالك لا يضمن شيئاً، والجراحة الأولى في الصَّيد مملِّكة مفيدةٌ، ولو أفضت إلى الموت، لم يفت الصّيد بها على الجملة، وجرحُ الثاني هو المفسد على الحقيقة المفيت، والغرم يتبع الإفاتة والإفساد، وهو بجملته من الثاني. هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من قال: لا يغرم الرامي الثاني تمام القيمة، ولكن تُوزّع القيمة على الجرحين؛ فإن الموت حصل بهما، فيتنزل هنا منزلة جرح المالك للعبد مع جرح غيره له بعده، وهذا القائل مكتفٍ بظاهر التشبيه، والوجه الأول مستمسك بالفقه، وإن كان يحتاج إلى مزيد تفصيل.
ومن أصحابنا من قال: نفصل، وننظر: فإن رمى الثاني، ومات الصيد قبل أن يقدر الرامي الأول على ذبحه في المذبح مع جِدّه في الطلب، فعلى الرامي الثاني تمامُ قيمته مجروحاً الجرح الأوَّل؛ فإنّه المُفسد حَقّاً، ولولا جرحه، لكان الصَّيد حلالاً، وإن لم يدرك ولم يذبح.
وإن تمكن الأول من ذبحه، فقصد أو انتهى إليه، فلم يذبحه حتّى مات من الجرحين، فتفريطه يُلْحق جرحَه الأول بالمفسدات، فإنه لو تفرد بجرحه ثم قَصَّر في الذبح مع التمكن، فالصّيد ميتة، وهذا يُوجب الحكم باشتراكهما في إفساد الصَّيد.
11569- هذا ما نقله المحققون في الصَّيد بعد تمهيد المقدمة في الجناية على العبد، وفيما نقلوه بحث: أما من أطلق التقسيط، ولم يتفطن لاختصاص الرامي الثاني بالإفساد في بعض الصور، فقد أصدر ما قاله عن غفلة. ومن أطلق نسبة الإفساد إلى الثاني ولم يفصِّل، فقد غفل من وجه آخر، وإنما استتم النظر من فَصّل. والأصحاب ينقلون الأوجه مرسلة، ونحن نؤثر ألا يُعدّ أمثال هذا اختلافاً؛ من جهة أن المسألة إذا كانت عائصةً ذاتَ أصول، ويشوبها رعاية نِسبٍ تقديرية، هي منشأ التقسيط، فقد يبتدر بعض العلماء جواباً مبنيّاً على طرف صحيح، ولكنه يستدعي مزيد نظر، ثم كذلك قد يستدرك زائد على الأول في النظر عليه ما غفل عنه، وهو في نفسه تلحقه غفلة عن طرف آخر، حتى يستتم من يُنعم النظر والفكر في أطراف المسألة، ويستعين بالمذكور ويضمه إلى ما يستجده، فذاك هو الجواب.
ولو شهد أصحاب الوجوه وتنبّه الأولون وأنصفوا، لنزلوا على منتهى النظر، وإنما الخلاف الحقيقي أن تلوح وجوه الظنون وتتعارض الأقوال فيها، فالذي نحكم به على المذهب القطعُ بالتفصيل.
11570- ونحن الآن نفرّع عليه، ونقول: إن لم يفرط الرامي الأول، فلا حظ لجرحه في الإفساد، وإنما الفساد كله يتعلق بجرح الثاني وهذا يقتضي أن نلزمه تمامَ قيمة الصّيد مزمَناً أو مجروحاً الجرحَ الأول، وهذا واضح.
ولكن استدرك صاحب التقريب دقيقةً لم يقصِّر في التنبه لها والتفريع على أن الفساد محال على الثاني، وذلك أنه قال بعد حكاية قول الأصحاب: الفسادُ وإن كان مضافاً إلى الثاني بموجب قول الأصحاب: إنَّ الصَّيد لو كان يساوي غير مزمَن عشرة، وكان يساوي مزمَناً تسعة، فالتسعة تجب على الرامي الثاني؛ فإنَّه المفسد.
وهذا فيه مستدرك؛ من جهة أنا وإن كنا لا نستعمل الجرح الأول في حساب الإفساد، فيجب أن نستعمله في تقدير الذبح؛ فإنا لا ننكر أثره في حصول الموت، والصيد المزمَن لَوْ لم يمت، كان يساوي تسعة، ولو مات بالجرح الأول ذكياً حلالاً، فربَّما كان يُساوي ثمانية، فيجب أن نقول: أما الثمانية، فعلى الثاني، وأما الدرهم الآخر، فبين الأول بتقدير الذبح وبين الثاني، فيجب أن يهدر نصف درهم لما يقتضيه الذبح من حط القيمة، فيجب على الثاني ثمانية ونصف.
وهذا حسن بالغ، ولكن للنظر فيه مجال؛ فإنَّ المفسد يقطع أثر الذبح، ويرفعه من كل حساب، والمسألة محتملة، والأوضح ما ذكره صاحب التقريب وإن أحلنا الفساد على الثاني. فهذا منتهى التفريع.
وإن وزّعنا-والرأي عندي أن نقطع بالتوزيع- عند تقصير الأول في الذبح، كما اقتضاه التفصيل. ثم إذا وزعنا، فالأول مالك مُفسد على نفسه، والثاني أجنبي متلف، فإذا قيل لنا: كيف التوزيع؟ قلنا: المسألة في هذا المنتهى تضاهي العبد يجرحه مالكُه، ثم يجرحه بعده أجنبي، ويموت العبد من الجرحين، وفي كيفية التوزيع خمسة أوجهٍ، قدمنا ذكرها.
هذا منتهى البيان في مسألة الكسر لم نغادر فيها ممكناً عندنا، وسنلحق بها مسائل مقصودة في أنفسها، وهي تهذب ما قدمنا ذكره في المسألة المتشعبة.
وقد رأيت للعراقيين في مسألة العبد التي ذكرناها في مقدمة كَسْر الصيد مسلكاً في رجوع الجاني الأول على الجاني الثاني بنصف الأرش بعد تقدير تمام الأرش عليه، لم أُحب ذكره، فإني لم أرَ له ضبطاً من جهة التعليل، وقد جرت مسألة الكسر بيضاءَ نقية، فالوجه الاكتفاء بما ذكرناه.