فصل: كتاب الجمعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في بيان رخصة الجمع:

فنقول: الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جائز بشيئين:
أحدهما: السفر.
والثاني: المطر.
فنبدأ بالقول في الجمع بعذر السفر، ثم نذكر تفصيل المذهب في المطر إن شاء الله.
1334- فأما الجمع بعذر السفر، فنبدأ فيه بتفصيل السفر، ونقول: الجمع بعذر السفر الطويل جائز، وفي تجويزه في السفر القصير من غير نُسكٍ قولان مشهوران:
أحدهما: لا يجوز؛ فإنه تغيير ظاهر في أمر الصلاة، فيختص بالسفر الطويل.
والثاني: أنه يسوغ في السفر القصير أيضاً؛ فإنه قد صح تجويزه في حق المقيم بعذر المطر، كما سنذكره، فوضح بذلك أن الأمر هيّن فيه، حتى سبق بعض الأئمة إلى أن وقت الظهر والعصر مشترك، على تفصيل قد بيناه في باب المواقيت.
وأما الحاج إذا كان آفاقياً غريباً، فإنه يجمع بعرفة بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، واختلف أئمتنا في مقتضى الجمع في حقه: فمنهم من قال: سبب الجمع السفر، فعلى هذا يجمع الغريب الذي لابس سفراً طويلاً، وهل يجمع المكي؟ فعلى قولين؛ لأن سفره قصير، والعَرفي الذي أنشأ النسك من وطنه لا يجمع قولاً واحداً على هذه الطريقة؛ فإنه ليس مسافراً، وفي الجمع بمزدلفة قولان في حقه.
فهذه طريقة ذكرها الصيدلاني.
وغيرهُ من أئمتنا قال: سبب الجمع شغل النسك، فعلى هذا يجمع المكي، ويجمع العَرفي بعرفة أيضاً، فهذا تفصيل القول في السبب الذي يقتضي الجمع في هذا الفن.
وإذا قلنا: النسك من غير سفر يقتضي الجمعَ، فأسباب الجمع على ذلك ثلاثة: السفر، والنسك، والمطر.
1335- ونحن نذكر بعد ذلك تفصيلَ القول في الجمع، فنقول: أما صلاة الصبح، فإنها فردة لا تجمع إلى صلاة، ولا تُجمع إليها صلاة، وإنما الجمع بين الظهر والعصر تقديماً وتأخيراً، وبين المغرب والعشاء كذلك، تقديماً وتأخيراً.
فأما تفصيل التقديم: فإذا قدم العصر إلى الظهر، ساغ وفاقاً بين الأصحاب، وكان الصلاتان جميعاًً مؤداتين، أما صلاة الظهر، فمقامة في وقتها، وأما صلاة العصر، فمقدّمة على وقتها المعتاد، فإذا صحت، لم يتَّجه فيها غيرُ الأداء.
ثم لا خلاف أنه يُشترط في هذا الوجه من الجمع الترتيبُ، والموالاة، فلا يجزىء تقديمُ العصر، بل يتوقف إجزاؤه على تقديم الظهر عليه، حتى لو صلى الظهر، ثم العصر، ثم بان فسادُ الظهر بسببٍ، فتفسد صلاة العصر أيضاً وفاقاً، فهذا في الترتيب.
أما الموالاة ورعاية الإتباع، فمشروطةٌ أيضاً. ثم نص الشافعي فيه على أن المرعي ألا يتخلل بين الصلاتين إلا زمان الإقامة؛ فإنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بلالاً أن يُقيم بين صلاتي الجمع، فهذا هو المرجوع إليه، ولا يضرّ تخلل كلامٍ أو غيره؛ فإن الإنسان بين الصلاتين، لا يلتزم أحكام الصلاة.
وإن طال الفصل، فأما الظهر فصحيح، مقام في وقته، ويجب تأخير العصر إلى وقته. ولا فرق بين أن يتخلل الفصل بعذرٍ أو يتخلل بغير عذر، فحكم تعذّر الجمع ما ذكرناه.
1336- وعلينا الآن في هذا الطرف فصلان:
أحدهما: في نية الجمع.
والثاني: في طريان الإقامة.
فأما نية الجمع فالذي نص عليه الشافعي، وقطع به الأئمة أن نية الجمع واجبة، ولا يصح الجمع دونها، إذا كان الجمع تقديماً، ثم نص الشافعي في الجمع بعذر المطر أنه ينوي الجمع عند التحرّم بصلاة الظهر، ولو نوى بعد ذلك، لم يصح.
ونص في الجمع بعذر السفر أنه لو نوى عند التحرّم بالظهر، أو في أثناء صلاة الظهر، جاز، حتى لو نوى قبل حصول التحلل من الظهر، ساغ.
واختلف الأئمة: فقال بعضهم: في المسألتين جميعاًً قولان:
أحدهما: أن وقت نية الجمع عند التحرم بالظهر؛ فإنه وقت النية بأركانها وتفاصيلها.
والثاني: أن جميع صلاة الظهر وقتٌ لنية الجمع؛ فإن هذه النية تتعلق بصلاة أخرى بعد هذه، فلا يضر تأخرها عن وقت التحرم.
وخرّج المزني قولاً ثالثاً في وقت نية الجمع، وهو أنه يجوز إيقاع نية الجمع بعد الفراغ من الظهر، وقبل التحرم بالعصر، وقَبل الأئمة هذا التخريج على هذه الطريقة؛ فإن المجمع يتعلق بالصلاتين، فلا يبعد أَن يكون بنيةٍ واقعةٍ بينهما.
1337- ومن أصحابنا من أقر النصين في المطر والسفر، ولم يخرج قولين، وفرّق بينهما بأن المطر لا يشترط دوامُه في جميع صلاة الظهر، كما سيأتي شرح ذلك، ويشترط دوام السفر في جميع الظهر، فلا يمتنع أن يكون جميع صلاة الظهر وقتاً لنية الجمع من حيث اشتراطُ دوام سبب الجمع في جميعها، ولا يكون الأمر كذلك في عذر المطر، بل يتعين لنية الجمع وقت التحرم بالظهر؛ فإنه يشترط المطر عنده وفاقاً.
والصحيح طريقة القولين لما ذكرناه من أن نية الجمع ترتبط بالصلاتين، فيكفي ربط آخر الظهر بالعصر بنيّة توقع عند الآخر، وهذا لا يختلف بالسفر والمطر.
فإن قلنا: ينبغي أن تقع نية الجمع مع تحريمة الظهر، فلا كلام، فوقته كوقت سائر أركان النية.
وإن قلنا: يجوز استئخارها عن التحريم، ولكن لا توقع بين الصلاتين، فعلى هذا لو أوقعها مع التحلل عن صلاة الظهر، ولم يقدّمها على التحلل، ولم يؤخرها عنه، فقد رأيت كلامَ الأئمة على تردد في ذلك، فكان شيخي يمنع هذا على هذا القول، ويشترط وقوع النية في صلاة الظهر.
والذي اختاره الشيخ أبو بكر أنه يجوز إيقاع نية الجمع، مع التحلل عن الظهر، وعلل بأن هذا الطرف الأخير من الصلاة الأولى، فإذا قارنته النية، حصل معنى جمع آخر الصلاة الأولى إلى أول الصلاة الثانية.
وإذا فرعنا على القول المخرج، وهو تجويز إيقاع نية الجمع بين الصلاتين، فهذا تخريج في الجواز، والصائر إليه لا يمنع إيقاعَ النية في الصلاة الأولى، ولو أوقع نية الجمع مع تحريمة الصلاة الثانية-والتفريع على هذا التخريج- فالظاهر من كلام المفرعين على هذا منع ذلك؛ فإن الذي هوّن التخريج وقوعُ النية بين الصلاتين، فإذا فرض وقوعها مع أول الثانية، فليست واقعة بين الصلاتين، وليس يَبعُد عن القياس تجويزُ ذلك على التخريج؛ إذْ لا فرقَ بين ربط الأولى بالثانية، وبين ربط الثانية بالأولى. نعم لو نوى بعد التحرم بالعصر الجمعَ، فلا أثر لذلك، وصلاة العصر غير منعقدة؛ فإن سبب انعقادها في وقت الظهر الجمعُ، فينبغي أن يقع التعرض له بالنية قبل العقد أو معه، على التقدير الذي ذكرته.
وفي كلام الصيدلاني إشارة إليه، فهذا تفصيل القول في وقت نية الجمع.
1338- ومذهب المزني أن نية الجمع ليست مشروطة، ولكن إذا وقع الجمع على شرطه، كفى وليس كنية القصر؛ فإن الأصل الإتمامُ، ونية القصر تُغيّر الصلاة الواحدة، فلابد من نيةٍ تُزيل أصلَ الصلاة، وأما الجمع؛ فإنه متعلق بصلاتين، فلا معنى لاشتراط نيةٍ تتعلق بالصلاتين.
1339- وذكر الصيدلاني في مذهبه وجهاً لأصحابنا، وبنى الخلاف في ذلك على الخلاف في أن نية التمتع هل تشترط في التمتع بالعمرة إلى الحج؟ ووجه الشبه بيّنٌ، وهذا وإن كان متجهاً في القياس، فهو بعيد عن مذهب الشافعي، والوجه القطعُ باشتراط نية الجمع في التقديم.
فهذا تفصيل القول في نية الجمع.
1340- فأما القول في انقطاع السفر، فلا خلاف أنه لو نوى الإقامة في أثناء الظهر، أو انتهى إلى موضع الإقامة، استحال الجمع من غير مطر.
ولو حصلت الإقامة بين الصلاتين، امتنع الجمع.
ولو تحرّم بصلاة العصر جامعاً، ثم طرأت الإقامة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن صلاة العصر تبطل، فتنقطع رخصةُ الجمع، كما لو حصلت الإقامة في أثناء الصلاة المقصورة؛ فإن رخصة القصر تزول، ويلزمه الإتمام.
والوجه الثاني- أن العصر لا يبطل، ويستمر الجمع، بخلاف رخصة القصر، والفرق أن القصر إذا زال، لم تبطل الصلاة، بل لزم الإتمام، ولو قطعنا رخصة الجمع، لأبطلنا صلاة العصر.
ولو نوى الإقامة، أو انتهى إلى موضع الإقامة بعد الفراغ من صلاة العصر، فإن قلنا: طريان ذلك على صلاة العصرْ لا يُبطل رخصة الجمع، فطريانُه بعد الصلاة أوْلى بألا يؤثر.
وإن قلنا: لو طرأ في أثناء الصلاة، لأبطل رخصة الجمع، فلو طرأ بعدها، فإن غربت الشمس، ثم ثبتت الإقامة، لم يؤثر ذلك. ولو طرأت الإقامة في وقت الظهر أو العصر، فعلى الوجه الذي عليه التفريع وجهان:
أحدهما: أن رخصة الجمع لا تبطل؛ فإن الجمع قد مضى، فلا يؤثر في الرخصة ما يطرأ.
والثاني: يبطل، ويجب أداء العصر في وقته؛ فإن صلاة العصر قُدّمت على وقتها، فهي كالزكاة تعجل قبل حُؤول الحول، ولو عجلت ثم حال الحول، والمزكي والآخذ خارج عن الشرط المرعي، فالزكاة لا تكون واقعة موقع الاعتداد، فلا يبعد ذلك في رخصة الجمع أيضاً.
فهذا كله في الجمع بعذر السفر تقديماً.
1341- فأما إذا أراد المسافر أن يؤخر صلاة الظهر إلى وقت العصر، فهو جائز أيضاً، ثم إذا اتفق التأخير بعذر الجمع، فقد ظهر الخلاف في أنا في التأخير هل نشترط رعاية الترتيب والموالاة، بين الظهر والعصر؟ فمن أصحابنا من قال: يشترط ذلك، كما يشترط في التقديم؛ فإن الجمع في صورته يقتضي ذلك.
والثاني: لا يشترط بخلاف التقديم، والفرق أن صلاة العصر إذا قُدّمت، فلا تقدّر مقضية أو مؤخرة عن وقتها، فيشترط في صحتها الجمع المحقق صورةً، وذلك يتضمن الترتيبَ والمتابعةَ جميعاًً، فأمّا التأخير، ففائدته إخراج صلاة الظهر عن وقت الرفاهية، ثم صلاة العصر تكون مقامة في وقتها، والظهر مخرجة عن وقت الرفاهية، فلا حاجة إلى رعاية ترتيب أو موالاة. فإن قلنا: لا يشترط الترتيب، ولا الموالاة، في التأخير، فلا تشترط نية الجمع وجهاً واحداً، ولا معنى للجمع على هذا الوجه.
1342- ثم غلط بعض أصحابنا، وقال: صلاة الظهر على هذا الوجه مقضية، وفائدة الرخصة تجويز جعل الظهر مقضية، وهذا زلل، وقلة بصيرة بالمذهب.
والدليل عليه شيئان:
أحدهما: أن أصحاب الضرورات إذا زالت ضروراتُهم، وقد بقي إلى الغروب خمسُ ركعات، فنجعلهم مدركين لصلاة الظهر، حملاً على أن الوقت مشترك، ولو كان الظهرُ مقضياً في وقت العصر، في حق المعذور، لما تحقق الاشتراك في الوقت قطعاً، فلزم ألا يكونوا مدركين لصلاة الظهر.
والثاني: أن صلاة الظهر لو كانت تصير مقضيةً بالتأخير، لوجب أن يتوسع وقت قضائها في جميع العمر؛ حتى يقال: يقضيها المرء متى شاء، ولا خلاف أنه لا يجوز للمسافر أن يُخرج صلاةَ الظهر عن وقت العصر.
فهذا إذا لم نشترط الموالاة والترتيب.
1343- فأمّا إذا قلنا: لابد من رعاية الترتيب والموالاة، فليُصلّ الظهرَ أوّلاً، ثم العصر، فلو صلى العصر أوّلاً، صحت منه صلاة العصر بلا شك؛ فإنها صلاة مقامة في وقتها، ولكن بطلت رخصة الجمع، فإذا أراد أن يصلي الظهر، فهي صلاة مقضية فائتة، مقامة في غير وقتها. وأول ما يظهر من ذلك أنا إذا منعنا قصرَ الفائتة في السفر، نمنع قصرها ونوجب إتمامها، وكأنا نقول: وقتها ينقضي بصحة العصر قبلها.
فهذا إذا ترك الترتيب.
1344- فأما إذا تركَ الموالاة، فصلى صلاة الظهر، ثم خلل فصلاً طويلاً، ثم صلى العصر، فقد أبطل الرخصة، وإذا بطلت، فصلاة الظهر خارجة عن وقتها، غيرُ مقامة على حكم الرخصة، فتكون مقضيةً، ويلزم إتمامُها إذا منعنا قصر الفائتة.
وهذه الصورة تفارق تركَ الترتيب؛ فإنه إذا صلى العصر أولاً مخلاً بالترتيب، فيظهر أن نقول: كما صلى العصر، وصحت له، فاتت صلاةُ الظهر، فأما إذا صلى الظهر أولاً، فقد أقدم عليها، وصحت مؤداةً، فخروجها عن كونها مؤداةً بعد وقوعها كذلك، لا يخرج إلا على تَبَيُّن واستناد، ومصيرٌ إلى أن الأمر كان موقوفاً على الوفاء بصورة الجمع، فإن لم يَفِ بها في رعاية الموالاة والمتابعة، فصلاة الظهر خارجة عن وقتها، فتبين أنها وقعت مقضية.
1345- وأما الصيدلاني فلم يتعرض لذكر الخلاف في الموالاة، وإنما ذكر الخلاف في الترتيب، والذي فهمتُه من مساق كلامه قصرُ الخلاف على الترتيب؛ فإنه ظاهر، فأما اشتراط الموالاة، فلا معنى له عندي.
فأما إذا قلنا: تقديم العصر والفراغ منه يُلحق الظهر بالفائتة، فهذا له وجه، فأمّا أن نقول: إذا أقام صلاة الظهر، تَعيّن وصلُ صلاة العصر بها، وصلاة العصر مؤداة في وقتها، فليس لذلك وجه بتّةً، بل إذا قدّم العصر، فيجوز أن نقول: شرط إجزاء صلاةِ العصر مقدَّمة، أن توصل بالظهر، فإن لم توصل، لم تصح؛ فإنها مقدمة بشرط إجزائها، وهي مقدَّمة الموالاة. هذا بيّن، فأمّا إيجاب تعجيل العصر على إثر الفراغ من الظهر في وقت العصر، فبعيد جداً.
فَلْيتَأمل ذلك؛ فإنه حسن بالغ.
1346- ثم من راعى الموالاة في التأخير، فإذا أخلّ بها، وقد نوى الأداء في صلاة الظهر، وقلنا: الفائتة لا تُقصر، فلابد من الإتمام عنده، ولكن لم أر أحداً يقول: لا تصح الظهر بنية الأداء وهي مقضية، ونحن وإن كنا نرى القضاء يصح بنية الأداء في بعض الصور، مثل أن يصوم المحبوس مجتهداً شهراً ظاناً أنه شهر رمضان، ثم يتبين أنه شهر بعده، فيصح ما جاء به، وإن نوى الأداء، فالسبب فيه أنه معذور فسومح، وقيل: القضاء قريب من الأداء، فأمّا إذا نوى الأداء في صلاة الظهر، ثم أخلّ بشرط الجمع، من غير عذر، فقد أقام فائتةً بنيّة الأداء من غير عذرٍ قصداً.
والذي يتجه في ذلك أن الموالاة إذا اختلت بعذر وقع من غير تقصير منه، فصلاة الظهر صحيحة بنيّة الأداء، وهي فائتة.
وإن اعتمد ترك الموالاة، وقد نوى الأداء، ففيه احتمال، ووجهه أن الخلل وقع بعد الصلاة، وإن كان من غير عذرٍ. فهذا التردد جرّه اشتراط الموالاة.
والفقه عندي ما أشعر به كلام الصيدلاني: وهو تخصيص الخلاف باشتراط الترتيب في التأخير، فأما الموالاة، فلا معنى لشرطها لما قدمت.
1347- ثم إن لم نشترط الموالاة، فلا تجب نيّة الجمع، وإن شرطنا الموالاة، فنوجب نية الجمع كما نوجبها في التقديم، والإخلال بنيّة الجمع بمثابة ترك الموالاة.
فهذا منتهى الفصل في الجمع بعذر السفر.
1348- والجمع بين المغرب والعشاء، تقديماً وتأخيراً، كالجمع بين الظهر والعصر في كل ترتيب.
والذي يدور في الخلَد أنا إذا وسعنا وقت المغرب، اتّسع الأمر في تصوير الجمع، وإذا ضيقنا وقتَ المغرب، وقد فُرض جمعُ العشاء إليه تقديماً، فيظهر أن يقال: ينبغي أن توقع الصلاتان في وقت يُحكم بأنه وقت المغرب، كما سبق التفصيل في ضبط المغرب ووقته؛ فإنا قد ذكرنا في بيانه ما يوضح أنه يحمل خمس ركعات.
وفي هذا نظر، فَلْيتأمل.
1349- فأمّا الجمع بعذر المطر؛ فإنه سائغ في الحضر عند الشافعي، ومعتمد المذهب الحديثُ، وهو ما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة من غير خوفٍ، ولا سفر"، قال الشافعي: قال مالك: ما أراه إلا بعذر المطر"، فاستأنس الشافعي بقول مالك، ولم يَرد ذكرُ المطر في متن الحديث.
وجرى هذا مجرى رواية القلّتين، في الماء الكثير، فإن القلة، وإن ترددت بين معانٍ، فلا قائل بشيء منها، فيتعين ردها إلى المختلف فيه، فكذلك حمل الحديث على جمع قال به قائل ممن يُعتبر قوله. ورأيت في بعض الكتب المعتمدة، عن ابن عمر: "أن النبي عليه السلام جمع بالمدينة بين الظهر والعصر بالمطر".
1350- ثم كان شيخي يحكي وجهين في جواز الجمع بعذر الثلج من حيث إنه لا يبل الثوب، وقَطَعَ غيرُه بتنزيله منزلة المطر.
فأما الأوحال، والرياح، وغيرها، فلا يتعلق جواز الجمع بشيء منها وفاقاً.
1351- ثم الذي جرى عليه أئمة المذهب أن الجمع بعذر المطر جائز تقديماً، وفي جواز التأخير خلاف، والسبب فيه أنه في السفر: إن أخر؛ فإدامة السفر إليه، فأما إن أخر بعذر المطر، فليس إليه إدامة المطر، فربما يُقلع وينقطع قبل دخول وقت العصر أو مع دخوله.
وقد قال الصيدلاني: يجوز التقديم ولا يجوز التأخير، فقطع جوابه في النفي والإثبات جميعاًً.
وقال بعض المصنفين: يجوز التأخير بعذر المطر، وفي التقديم وجهان، فجرى على الضد مما ينبغي، وهو غلط لا يُبالى به.
1352- ثم قد ذكرنا في الجمع بعذر السفر طريان الإقاهة بالنية، أو بالانتهاء إلى الإقامة، ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في طريان انقطاع المطر، فنقول: أجمع الأئمة أنه لو تحرم في الظهر بالتقديم مع المطر، ثم انقطع في أثناء صلاة الظهر، ثم عاد وقت التحرم بالعصر، فانقطاعه في أثناء صلاة الظهر لا يضر، ولكن اكتفى معظم الأئمة بوقوع المطر عند عقد الظهر والعصر.
وقال أبو زيد: ينبغي أن يكون موجوداً عند التحلل من الظهر أيضاً، ليتحقق اتصال آخر الظهر في العذر بأول العصر.
فهذا ما ذكره الأئمة.
ثم إذا كنا لا نشترط دوامَ المطر في أثناء الظهر وفاقاً، فلا نشترط المطر في أثناء العصر، بل لو انقطع في أثناء العصر بعد أن كان موجوداً عند العقد، لم يؤثِّر انقطاعه.
1353- وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً: أن الجمع بعذر المطر يختص بالمغرب والعشاء في وقت المغرب، وأجراه قولاً ضعيفاً، وحكاه العراقيون وأسقطوه، ولم يعدّوه من المذهب، وأوّلوه.
وذكر بعض المصنفين في انقطاعه في أثناء العصر أو بعده مع بقاء الوقت ما ذكرناه من طريان الإقامة في هذه الأوقات، إذا كان سبب الجمع سفراً، وهذا بعيدٌ لا أصل له؛ فإن دوامَ المطر إذا لم يعتبر في أثناء الظهر، فكيف يستقيم هذا الترتيب في العصر وما بعده؟
1354- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الذي ظهر للعلماء أن الجمع بعذر المطر سببه الجماعة؛ فإن الناس إذا حضروا والمطر واقع، فيجمعون بين الصلاتين في جماعة؛ حتى لا يحتاجوا إلى عَوْدٍ.
فأما إذا أراد الرجل أن يجمع بعذر المطر في منزله، ففيه وجهان ذكرهما الصيدلاني وغيره:
أحدهما: المنع، وهو الظاهر لما ذكرناه.
والثاني: يجوز طرداً للرخصة؛ فإنها لم ترد مقيدة بالجماعة، وكذلك اختلف الأئمة فيه إذا كان الطريق إلى المسجد في كِن.
قال الشيخ أبو بكر: لو حضروا المسجد والسبيل مكشوفٌ، فأرادوا أن يصلّوا أفراداً من غير جماعة، ففيه وجهان أيضاً، لما ذكرناه من ارتباط الجمع في عذر المطر خاصَّة بالجماعة.
1355- ومما يتعلق برخصة الجمع في السفر والمطر: أن من أراد التأخير-حيث يجوز- فينبغي أن يقصد الترخص بالتأخير، ولو أخر صلاة الظهر من غير نية الرخصة قصداً، كان عاصياً بإخراج الصلاة عن وقتها، وكانت الصلاة المؤخرة المخرجة عن وقتها فائتة، هكذا ذكره شيخي والصيدلاني.
وهذا فيه شيء؛ فإنا إذا لم نشترط نية الجمع عند إقامة الصلاة، فلا يبعد أن يقال: نفس السفر يسوغّ التأخير، ويصير الوقت مشتركاً. والعلم عند الله تعالى.

.كتاب الجمعة:

1356- الأصل في وجوب الجمعة قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قيل: أراد بالذكر الخطبة، وقيل: أراد الصلاة.
وروى الشافعي بإسناده عن محمد بن كعب القُرَظي عن رجل من بني وائل أن النبي عليه السلام قال: «تجب الجمعة على كل مسلم إلا المرأة والصبي والمملوك» وروى أبو الزبير عن جابر:أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في جمعة من الجمع فقال: «أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشغلوا، وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة، ترزقوا، وتجبروا، وتنصروا، واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعد وفاتي استخفافاً بها، أو جحوداً لها، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا حج له، ألا لا برّ له، إلاّ أن يتوب، فإن تاب تاب الله عليه».
وأجمع المسلمون قاطبة على وجوب صلاة الجمعة وإن اختلفوا في التفاصيل.
فصل:
قال: "وتجب الجمعة على أهل المصر، وإن كثر أهله... إلى آخره".
1357- صدَّر الشافعي الكتاب بذكر من يلتزم الجمعة من أهل الأمصار والقُرى. ولمن يلتزم الجمعة شرائطُ سنذكرها إن شاء الله، وإنما غرض الفصل ذكر من يبلغه النداء، ومن لا يبلغه، وضبط القول هذا في الفن.
1358- فأما أهل المصر إذا كانوا على الكمال الذي سنصفه، فيلزمهم الجمعة، وإن كثروا، وكان نداء الجامع لا يبلغهم؛ فإنه إذا كان المصر جامعاً لهم، لزمتهم الجمعة، مع استجماع الخصال التي سنذكرها.
1359- فأما أهل القرى، فكل قرية ذاتِ بنيان، اشتملت على أربعين، على الصفات المرعية، لزمهم أن يقيموا الجمعة، فإن كانوا على القرب من البلدة، وكان صوت نداء مؤذن الإمام يبلغهم، فأرادوا أن يحضروا البلدة، فلهم ذلك، فيقيمون الجمعة في البلدة، والأوْلى أن يقيموها في قريتهم؛ حتى تكثر الجُمَع في القرى، فإن كانت القرية لا تشتمل على الأربعين من أهل الكمال، نُظر: فإن كان نداء البلدة لا يبلغهم، لم يلزمهم الجمعة، فلا يقيمونها في موضعهم؛ فإنّ ذلك غيرُ ممكن، ولا يلزمهم أن يحضروا البلدة.
ومعتمد الشافعي في هذه القاعدة ما رواه عمرو بن العاص عن النبي عليه السلام أنه قال: «الجمعة على من يسمع النداء».
1360- وضبط المذهب من طريق المعنى أن المصير إلى الجامع إجابة للداعي، فكان المرعيُّ فيه سماعَ النداء، وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] مشعرٌ باعتبار النداء.
ثم قال أئمتنا: إذا أردنا أن نعتبر سماع النداء، فرضنا كونَ المنادي في جهة القرية الذي نُريد اعتبارَ أمرها، ونُقدّره على طرف البلدة في تلك الجهة، ثم نُقدر رجلاً يعدّ صيّتاً عُرفاً، فإذا نادى في جنح الليل عند زوال اللغط، وسكون الأصوات، وركود الهواء، اعتبرنا بلوغ صوته على هذا الوجه، ولابد من اعتبار سكون الرياح؛ فإن الريح إذا كانت تهب من نحو البلد إلى جهة القرية، فقد يبعد بلوغ النداء بعداً مسرفاً؛ لمكان الريح، ولا يكون هذا بلوغَ النداء، بل هو حملُ الريح للصوت، وإن كانت الريح تهب من جهة القرية إلى البلدة، فإنها تدفع الصوتَ وتمنعه من النفوذ، فلا يكون قصورُ الصوت بسبب بعد القرية.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يعتبر وقوفَ المنادي في وسط البلدة، وهذا ساقط، غيرُ معتبر؛ فإن البلدة في اتساع خِطتها وكبرها، قد تكون بحيث لو وقف المنادي في وسط البلدة، لم يبلغ صوتُه الأطرافَ، فضلاً عن أن يتعداها إلى قُراها.
فإن قيل: لم لَمْ تعتبروا النداء في أهل البلدة؟ قلنا: البلدة بجملتها موضع الجمعة، فلا قُطر فيها إلا ويمكن إقامة الجمعة فيه، ونحن إذا كنا نراعي في القرى بلوغَ النداء، نعتبر موقف المنادي على الطرف في تلك الجهة؛ فما من جادّة معدودةٍ من البلد، إلا ويتأتَّى فيها فرض وقوف المنادي. فأهل البلدة داخلون تحت النداء المقدّر، فهذا واضحٌ.
وكان شيخي يقول: لو فرضت قريتان في جهةٍ واحدةٍ، وكانت إحداهما في وهدةٍ، وكان النداء لا يبلغها لذلك، وكان يبلغ القريةَ الأخرى الموضوعة على الاستواء، وهي في مثل مسافة القرية الأولى، فيجب على أهل القرية الموضوعة في الوهدة الجمعةُ، نظراً إلى المسافة في الاستواء، ومصيراً إلى أنهم في محل سماع النداء، ولكن انخفاضَ قريتهم مانع من السماع.
ثم لو كان النداء يبلغُ بعضَ من في القرية، لزمت الجمعةُ أهلَ القرية، ولو كان فيهم من جاوز العادة في حدّة السماع، وكان متميزاً عن الناس بزيادة ظاهرة، كما يحكى من حدةِ بصر زرقاء اليمامة، فلا تعويل على سماع من ينتهي إلى هذا الحد.
فصل:
1361- ذكر الأئمة شرائطَ الجمعة على الجمع، وهي خمسة:
عدد، ودارُ إقامةٍ، وجماعة، ووقت، وخطبتان. وهذه الأشياء ستأتي مفصلة إن شاء الله.
1362- فأهونها تفصيل القول في دار الإقامة، فنقول: لو سكن طائفة في طرفٍ من البادية، وكانوا أصحاب خيام وأخبيةٍ؛ فإنهم لا يقيمون الجمعة، ولو أقاموها، لم تصح منهم، والإقامة التي عزموا عليها، لها أحكام من انقطاع الرخص المتعلقة بالسفر وغيره، ولكن الإقامة المشروطة في صحة الجمعة هي إقامة في الأبنية التي لا تُحوّل، والخيام مهيأة للنقل، فلا تكمل الإقامة بها، فإذاً صحةُ الجمعة تستدعي موضعاً فيه أبنية.
وقال العراقيون: لو كانت القريةُ من سعف وجريد وخشب وكانت بحيث لا تنقل، فهي من جملة الأبنية، وهكذا تُلفى معظم القرى في الحجاز، والمعتبر ألا تكون الأبنية بحيث يُعتادُ نقلُها.
ثم لو أقيمت الجمعة خارجةً من خِطة البلد في موضعٍ، لو برز إليه الهامُّ بالسفر، لاستباح رخص المسافرين، فلا يصح، بل شرطُها أن تقام في خِطة البلد، ولا يضر إقامتها في عَرصة معدودة من الخِطة غيرِ خارجة منها؛ فإن الجماعة إذا كثرت، فقد يعسر اجتماعها في كِن.
وأما صلاة العيد فسيأتي أن الأوْلى البروز فيها إلى الجبَّانة، والسبب فيه أن الإقامة أولاً ليست مشروطة في إقامتها، ولا دارَ الإقامة، ثم يشهدها الخيّالة والركبان، والرجالة، وأخيافُ الناس، ويتعذر اجتماعهم في غير جبّانة، فهذا بيان دار الإقامة.
1363- ثم نبتدىء بعدها تفصيل القول في العدد، فمذهب الشافعي أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين. وقد اختلف مذاهبُ السلف في ذلك، وحكى صاحب التلخيص قولاً عن القديم أن الجمعة تصح ابتداء من ثلاثة، والإمام ثالثهم، وقد بحث الأئمة عن كتب الشافعي في القديم، فلم يجدوا هذا القول أصلاً، فردّوه.
ومعتمد الشافعي في هذا العدد ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: "مضت السنة أن في كل أربعين، فما فوق جمعة"، واستأنس الشافعي بمذهب عمر بن عبد العزيز.
ثم قاعدة الشافعي في مسائل الجمعة تدور على شيءٍ، وهو أن صلاة الجمعة مغيرة مخالفة للظهر في سائر الأيام، وهي على صورة صلاة ظهر مقصورة في الإقامة، وقد تمهد في الشرع أنه يُراعَى كمالٌ في الموضع من المقيمين، واجتماعُ شرائط، فالأصل إتمام الصلاة، إلا أن يثبتَ ثَبَت. والجمعة أيضاً جمع الجماعات، ولذلك لا تقام في وقتها جماعة أخرى، فلابد من اعتقاد كثرة، ثم إذا وجدنا مستمسكاً في التقدير ابتدرناه.
فهذا بيان قاعدة المذهب.
وإذا بعد الاكتفاء بأقل جماعةٍ وأدنى جماعة، ولم يشترط أحدٌ كثر من الأربعين، وانضم إليه اعتبار الأقصى، والاحتياط، كان ما ذكره الشافعي غايةَ الإمكان في ذلك.
ثم اختلف أصحابنا في أنا هل نشترط أن يكون إمام الجماعة الحادي والأربعين، أم يكفي أن يتم به الأربعون؟ ولعل الأظهر أنه يُعَدّ من الأربعين؛ فإن الذي اعتمدناه في ذلك لم يفصل الإمامَ عن المقتدين، والله أعلم.
ثم يشترط أن يكون الأربعون على صفات، فينبغي أن يكونوا ذكوراً، بالغين، عاقلين، أحراراً، مقيمين، إقامة، لا يظعنون شتاء ولا صيفاً، إلا أن تعِنَّ حاجة، فلو كانوا يرحلون على اعتيادٍ شتاء، أم صيفاً، وينتقلون إلى موضعٍ آخر، فليسوا مقيمين في هذه البقعة، فلا تنعقد الجمعة بهم.
1364- والآن يتصل بفصل العدد مسألة الانفضاض. وفي كتاب الجمعة ثلاثُ مسائل منعوتة في الفقه، إحداها الانفضاض، والأخرى الازدحام، والثالثة الاستخلاف.
1365- فأما مسألة الانفضاض:
فالقول فيها يتعلق بالانفضاض في أثناء الخطبة، أو بعدها وقبل عقد الجمعة، ثم إذا نجز هذا، تعلق التفصيل بالانفضاض بعد التحرّم بالصلاة.
فنقول: أولاً- أجمع أئمتنا أن العددَ المرعيَّ وهو الأربعون في عقد الصلاة مرعيٌ معتبر في الاستماع إلى الخطبة، فما لم يستمع الأربعون على نعوت الكمال، لم يُعتدّ بالخطبة، ثم للخطبة أركان على ما سيأتي إن شاء الله، فلو جاء بركن منها، ثم استمعوا، ثم انفضوا، فإن سكت الخطيب حتى عادوا، وقد عادوا على قربٍ، قبل تخلل فصلٍ طويل، فاندفع في بقية الخطبة، جاز، وصح بلا إشكال، ولو تمادى في الخطبة، وهم منفضون، وما كان بقي منهم أربعون، فالركن الذي جاء به في انفضاضهم، لا يحتسب، ولا يعتد به قولاً واحداً، ونقصانُ واحدٍ من الأربعين، كانفضاض الجميع.
وسيأتي في الانفضاض في الصلاة أقوالٌ، منها: أن نقصان العدد بعد عقد الصلاة غيرُ ضائر، ولا يخرّج هذا في الخطبة باتفاق الأئمة، ولم تختلف الطرقُ فيه. والفرق أنا وإن شرطنا الجماعة في الجمعة، فكل مصلٍّ يصلي لنفسه، فإن كان يتسامح متسامح في نقصان العدد في أثناء الصلاة، فله خروج على هذا الأصل، فأما الخطبة، فالغرض منها استماع الباقين ووعظهم وتذكيرهم؛ فما جرى، ولا مستمعَ، أو مع نقصان عدد المستمع، فقد عُدمَ أصلُ مقصود الخطبة.
ولو سكت الإمام، لما انفضّ القوم، فطال الفصل، فعادوا بعد تخلل الفصل الطويل، فهل يبني الخطيبُْ على الخطبة؟ ذكر معظم الأئمة قولين في ذلك، وخرّجوهما على قولين في أن الموالاة هل تشترط في الخطبة؟ وطردوا القولين فيه إذا لم ينفض القوم، ولكن سكت الخطيب سكوتاً طويلاً، تنقطع بمثله الموالاة، فهل يلزمه إعادة الخطبة؟ فعلى قولين.
1366- ولو انفض القوم بعد الخطبتين، ولم يتحرّم الإمام حتى عادوا، وما عادوا إلا بعد طول الفصل، فإذا عادوا ففي المسألة القولان المذكوران، فإن قلنا: الموالاة ليست مشروطة، تحرّم بالصلاة وتحرموا، ولم يضرّ ما جرى، إذا وسع الوقتُ الصلاةَ، كما سنذكر الوقت وما يتعلق به إن شاء الله.
وإن حكمنا باشتراط الموالاة، فقد بطلت الخطبتان، فإن أعادهما على قربٍ، وتحرّم وتحرّموا، ووسع الوقت، جاز ذلك.
وإن لم يُعد، فقد قال الشافعي: "أحببت أن يعيدَهما، ولو لم يُعدهما، لم تصح الجمعة"؛ فقوله: "أحببتُ" أثار خلافاً بين الأصحاب، فقال قائلون منهم: يجب عليه الإعادة، ووجهه أن ذلك ما تصح به الجمعة، فعليه التسبب إليه، والسعي في تحصيله؛ إذ هو ممكن، وهو متمكن.
وذهب آخرون إلى أنه لا يجب عليه ذلك؛ فإنه قد فعل ما عليه.
وفائدة الخلاف أن صلاة الجمعة إذا لم تصح بسبب امتناعه عن إعادة الخطبة، فالذنب في وجهٍ محالٌ على الخطيب في ترك الإعادة، وهو في وجه محال على القوم؛ فإنهم بانفضاضهم جرّوا هذا، وهو قد أدى ما عليه من الخطبتين مرة، وسبب إبطالهما تفرقُهم وطول الفصل.
فهذا تفصيل القول في الانفضاض في الخطبة، أو بين الفراغ منها وبين التحرّم بالصلاة.
1367- فأما إذا تحرم بالصلاة وتحرموا، ثم انفضوا، ونقص العدد المشروط، فالنصوص مختلفة جداً، وحاصل الضبط أنه اختلف قولُ الشافعي، أولاً، فقال في قول: يشترط في صحة الجمعة بقاء الأربعين على شرائطهم معه من أول الصلاة إلى آخرها، وهذا يتيسرُ توجيهه؛ فإن العدد مرعي في هذه الصلاة، فإذا اختل في جزء من الصلاة، فقد تخلف شرط الصحة، فلا جزءَ من الصلاة، إلا والجماعة الكاملة شرطٌ فيه، وهذا كالوقت؛ فإنه لما كان شرطاً، لا جرَمَ، قيل: لو وقع التسليم وراء الوقت لم تصح الجمعة، وتعين إقامة الظهر قضاء، فكما نشترط الوقت في دوامه، فكذلك نشترط دوامَ العدد التام.
والقول الثاني- لا نشترط بقاء تمام العدد؛ فإنهم إذا حضروا أولاً وصح عقدُ الصلاة، فالتزام ضبطهم عسِر، وشرطهم في الابتداء يتعلق باختيار الإمام؛ فإنه لا يتحرم ما لم يحضروا، ورب شيء يُشترط في الابتداء، ولا يشترط دوامه، كالنية؛ فإنها لو عزبت بعد العقد، لم يضر عزوبها.
التفريع-
1368- إن حكمنا أن دوام العدد شرط من الأول إلى الآخر، فلو سمع الخطبةَ أربعون على الشرط وتحرموا، ثم انفضوا، وتحرم بعدهم أربعون، فقد بطلت الصلاة؛ فإن هذا مفروض فيه إذا انفض السامعون، ثم تحرّم اللاحقون.
ولا يفرض خلاف أنه لو انفضَّ السامعون، وحضر أربعون آخرون، فتحرم بهم، لم تصح الجمعة، فإن الشرط أن يقع العقد بأربعين سمعوا الخطبة.
فأما إذا تحرم السامعون، وتحرّم بعدهم في الركعة الأولى أربعون ما سمعوا الخطبة، ثم انفض السامعون، وثبت اللاحقون، فلا تبطل صلاة الجمعة؛ فإن العدد لم ينقص، وما انفض السامعون حتى تبعهم اللاحقون، وإذا تبعوهم، صاروا في حكم واحد، فإذا ثبتوا، استقلّت الجمعة بهم، وإن انفض السامعون، وكان هذا كما لو سمع ثمانون وتحرّموا، ثم انفضَّ منهم أربعون، وثبت أربعون.
1369- وهذا يتطرق إليه عندي احتمال، إذا شرطنا بقاء العدد التام في جميع الصلاة، فلا يمتنع أن نقول: يُشترط بقاء أربعين قد سمعوا الخطبة.
فأما إذا قلنا: لا يُشترط بقاءُ العدد الكامل، فهل يُشترط أن تبقى الجماعة؟ أم لو انفرد الإمام وحده، صحت جمعته من غير بقاء مُقتدٍ؟ فعلى قولين:
أحدهما: لابد من بقاء الجماعة، وذلك بألا ينفضَّ كلُّهم، وهو المنصوص عليه.
والقول الثاني- أنه لو بقي وحده، صحّت الجمعة، وهو وإن كان منقاساً، فهو مخرّج ووجهه أن بقاء العدد الكامل إذا لم يكن شرطاً، فلا أثر لبقاء أحد من المقتدين، فإن قلنا: تصح صلاته وحده، فلا كلام، وإن قلنا نشترط جمعاً، فعلى هذا القول قولان منصوصان:
أحدهما: لابد من ثلاثة والإمام الثالث؛ فإن هذا هو الجماعة المطلقة.
والقول الثاني- أنه يكفي مقتدٍ واحد؛ فإنّ هذا أقلُّ مراتب الجماعة، فهذا بيان الأقاويل: المنصوص عليها، والمخرج منها.
1370- وقال المزني: إن انفضوا في الركعة الأولى، ونقص العدد المرعيُّ، بطلت جمعة الإمام، ومن بقي معه، وإن انفضوا في الركعة الثانية، صحت جمعة الإمام، وإن كان وحده واستشهدَ عليه بالمسبوق؛ فإنه إذا أدرك ركعةً، صلى الجمعة، فيقوم عند تحلل الإمام إلى الركعة الأخرى، وإن لم يدرك ركعة، لا يكون مدركاً للجمعة.
وهذا الذي ذكره قياس لا بأس به، وقد عدّ معظم أئمتنا هذا قولاً مخرجاً للشافعي، فالتحق بالأقوال المقدمة، وقد أورده المزني إيراد من يبغي تخريج قول للشافعي، فكان كما قدره.
ومن أباه، قال: المقتدي المسبوق إذا تبع الإمامَ في الإدراك، لم يبعد؛ فإنّ وضع الشرع على اتباع المقتدي للإمام، فأما أن يقال: إذا صلى الإمام ركعة مع العدد، فقد أدرك الجمعة، وإن انفرد في الركعة الأخرى، فهذا في التحقيق حكم بأن الإمام يتبع القوم، وهذا فيه بعد؛ فإن المسبوق مع إمامه صحت له جمعة تامة، والقوم إذا انفضوا في الركعة الثانية، لم تصح لهم جمعة، فالإمام إذاً يتبع قوماً لم تصح جمعتهم، فهذا وجه الكلام في ذلك.
فرع:
1371- إذا قلنا: لابد وأن يبقى مع الإمام واحد، أو اثنان، فالظاهر أنا نشترط أن يكونا على الكمال المرعي المشروط؛ فإن الكامل هو الذي يراعى أوّلاً، فليراع آخراً.
وذكر صاحب التقريب احتمالاً في أن من بقي لو كان عبداً أو مسافراً، جاز؛ فإن المرعي في الابتداء العددُ الكامل، فاشترطنا عدداً كاملاً، واشترطنا كمالاً في كل واحد، فإذا اكتفينا آخراً باسم الجماعة، فلا يبعد ألاَّ نشترط الكمال، وهذا مزيف غير معتد به.
فرع:
1372- قال شيخي: إذا تحرم الإمام بالصلاة، فتباطأ المقتدون، ثم أحرموا، فقد قال القفال: الضبط المرعي فيه، أنه إذا أدرك الإمامَ أربعون في الركوع، صحت الجمعة، وإن رفع رأسه ثم تحرموا، فلا جمعة، ثم قال: الوجه أن نشترط ألا ينفصل تحرمهم بالصلاة عن تحرم الإمام بما يعد فصلاً طويلاً، وهذا الذي ذكره حسن بالغ.
ويجوز أن يقال: ينبغي أن يتحرموا بحيث لا يسقط عنهم من القراءة شيء، ولا يثبت لهم حكم المسبوق؛ فإنهم لو أدركوه في الركوع، فحكم ذلك حيث يصح سقوط القراءة، وهو من أحكام المسبوقين، وإن أدركوه في بعض القيام بحيث لا يتأتى منهم إتمام القراءة، فهذه صورة الاختلاف فيما يفعله المسبوق، فلا يجوز الانتهاء إلى هذا الحدّ في التأخر.
فإذاً ما ذكره القفال إدراك الركعة، وما ذكره شيخي النظر إلى التطويل، وما ذكرتُه ثبوت أحكام المسبوقين. فهذا منتهى القول في الانفضاض.
مسألة الزحام
1373- الزحام: يتصوّر في سائر الصلوات، وإنما يذكر في هذا الكتاب لاجتماع وجوه الإشكال فيها؛ فإن الجماعة في هذه الصلاة مستحقة، ومن أسباب الإشكال أن من عسر عليه إقامة الجمعة، ففي بناء الظهر على الجمعة تردد، مبني على أن الجمعة ظهر مقصورة أم لا، ثم في إقامة الظهر قبل فوات الجمعة اختلافُ قولٍ سنذكر قدر الحاجة منه في أثناء المسألة، ثم نبيّنه مفرداً في فصلٍ، وكان شيخي مولعاً بهذه المسألة وجمع فيها كلَّ ما قيل من الوجوه الضعيفة، مخالفاً عادته في ذكر الضعيف من الوجوه، ونحن نسرد طريقته على وجهها، ونذكر في أدراج الكلام التنبيه على التحقيق، فنقول مستعينين بالله:
1374- إذا زُحم الرجل على السجود في الركعة الأولى، فأول ما فيه أنه إن تمكن من وضع الجبهة على ظهر إنسان على شرط إقامة هيئة السجود، فعل ذلك، وإنما يتأتى هذا بأن يفرض موقف المزحوم مستعلياً حتى يتأتى التنكس منه.
فإن تعذر عليه إقامةُ الهيئة المشروطة، فقد ذكر شيخي ثلاثةَ أوجه: أحدها: أنه يأتي بالسجود، ويأتي بأقصى الإمكان فيه، كالمريض يومىء بالسجود على قدر الإمكان.
والثاني: لا يفعل ذلك، ولا يعتد بما يأتي به من إيماء، ولكن ينتظر التمكن من السجود، وانجلاء الزحام.
والثالث: يتخيّر بينهما. وهذا يُضاهي صلاة العاري قاعداً مومياً، أو قائماً متماً للأركان، أو متخيراً بينهما.
ولست أرى لما ذكره وجهاً، ولم يتعرض لهذا أحد من أصحابنا؛ فالاقتصار على الإيماء خارج عن القانون، لا أصل له، وتشبهه بالمريض ساقط؛ فإن هذا مما يندر ولا يدوم، وتمكن المصلي من السجود قائم، والاستئخار عن الإمام بأركانٍ أقرب من الاقتصار على الإيماء في ركن لا يتطرق إليه التحمل، فإذاً الوجه القطع بألا يومىء، ولكن ينتظر ما يكون ثم يتفرع صور في انتظاره، وفيما يُفضي إليه أمره. كما ستأتي مفصلة إن شاء الله.
قال الشيخ أبو بكر: هذا من الأعذار التي يجوز بسببها الانفراد عن الإمام، وقد ذكرنا فيما تقدم أن من التزم الجماعة، وانفرد عن الإمام من غير عذر، ففي بطلان صلاته قولان، وإن كان انفرادُه بعذر، فالمذهب صحة الصلاة، فقال الصيدلاني: إذا وقعت الزحمة، وأحوجت إلى التخلف عن الإمام، فيجوز بسببها نية الانفراد.
1375- وهذا فيه تفصيل عندي: فإن فُرض الزحام في غير صلاة الجمعة، فما ذكره متجه حسن. وإن كان الزحام في صلاة الجمعة، فيظهر عندي منعه من الانفراد؛ فإن إقامة صلاة الجمعة واجبة قصداً، فإخراج النفس عنها قصداً، ليس يتجه، وقد رأيت الطرق متفقة على أن التخلف بعذر الزحمة لا يقطع حكمَ القدوة على الإطلاق.
ولو صار إليه صائر؛ من جهة أن الاتباع-على شرط الوفاء بالقدوة عند الاختيار- متعذر، وإذا تعذر تحقيق الاقتداء فعلاً، وأحوج الازدحام إلى التخلف بأركان، فلو قيل: ينقطع حكم نية القدوة، لم يكن بعيداً عن القياس. ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقل، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلاّ إذا وجدت رمزاً وتشبيباً لبعض النقلة.
1376- فإذا وضح ذلك، عُدنا إلى البناء على ما هو المذهب، وهو أنه إذا عسر عليه السجود لا يومىء، بل ينتظر انجلاءَ الزحام، فإذا قام الإمام إلى الركعة الثانية، وتمكن المزحوم من السجود، فسجد سجدتين، ورفع رأسه، فإن صادف الإمام قائماً، وقام وقرأ وأتى بالركعة الثانية مع الإمام، فهذا قد أدرك الجمعة بكمالها، وما جرى من التخلف بعذر الزحام، فهو محتمل باتفاق الأئمة.
وإن رفع رأسه من السجود، فصادف الإمام في الركوع من الركعة الثانية، فقد اختلف أئمتنا فيه، فمنهم من قال: يبتدر الركوع ابتدار المسبوق، فإذا أدرك الإمام فيه، فقد أدرك الركعة الثانية وتمت له الأولى، وتسقط القراءة عنه في الركعة الثانية؛ لأنه معذور في تخلفه، ولأجل ذلك سقطت القراءة عن المسبوق.
ومنهم من قال: لا يركع مع الإمام، بل يشتغل بالقراءة؛ فإنه ليس بمسبوق، وإسقاط القراءة عن المسبوق في حكم رخصة معدولة عن القياس، فلا يتعدى بها مواردها.
فإن قلنا: يقرأ، فلا يقطع القدوة، بل يقرأ ويتبع الإمام جهده، ويركع، ويجري على ترتيب صلاة نفسه، رابطاً قلبَه بلحوق الإمام، ويكون مدركاً للركعة الأولى والثانية على حكم الجماعة، وإذا ساغ التخلف بسبب الزحمة بأركانٍ لا يجوز التخلف بها اختياراً، فلا فرق بين أن يزيد ذلك أو ينقص، ثم إذا جرى ذلك، فهو مقتدٍ، ولو سها، كان الإمام حاملاً لسهوه، فهذا إذا أدرك الإمامَ راكعاً.
ولو أدركه قائماً، لم يركع بعدُ، فإن لم يتمكن من إتمام القراءة، وركع الإمام، فقد ذكرنا أن المسبوق في هذه الصورة يتم القراءة، أم يبادر الركوع؟ وهذا مضى مفصلاً في موضعه.
1377- فإذا رفع المزحومُ رأسه من السجود، والإمام في بقية من القيام لا يسع تمام الفاتحة، فإذا قرأ ما قدر عليه وركع الإمام، فهذا يترتب على ما إذا صادف الإمام راكعاً، فإن قلنا ثَمَّ: يقرأ، فهاهنا يقرأ لا محالة، ويجري على ترتيب صلاة نفسه. وإن قلنا: يركع كما يركع المسبوق، ففي قطع القراءة ومبادرة الركوع الخلاف المذكور في المسبوق مع ترتيب. والفرق واضح.
ثم الذي يقتضيه القياس، أنا إذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاةِ نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه يدركُ إمامَه، ويُحتمل أن يسوغ له الإتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط. وقد ذكرنا نظير هذا في المسبوق إذا أدرك الإمام في بقية القيام، فاشتغل بدعاء الاستفتاح والتعوّذ.
1378- ولو رفع المزحوم رأسه عن السجود في الركعة الأولى، فوجد إمامه رافعاً رأسه عن الركوع، فقد انتهى في هذه الركعة إلى موضع لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للركعة، فكيف المزحوم؟
قال شيخي: إن قلنا: لو أدركه في الركوع، ابتدر، فركع، فِعْلَ المسبوق، فحكمه في هذه الصورة حكمُ المسبوق. ولو أدرك المسبوقُ الإمام رافعاً رأسه، فاقتدى، تابعه في بقية الركعة، ولم تكن محسوبةً، كذلك المزحوم على هذا الوجه: يرتفع، ولا يقرأ، ولا يركع، ويتابع الإمام في بقية الركعة، ولا تحتسب له الثانية، والأولى محسوبة، وإذا تحلل الإمام، قام وصلى ركعة أخرى، وقد تمت له الجمعة.
وإن قلنا: لو أدرك الإمامَ راكعاً، لم يركع واشتغل بالقراءة، جرى على ترتيب صلاته، ويكون مدركاً للركعة الثانية أيضاً.
1379- وقد رأيت الطرقَ أشارت إلى أنه إذا صادف الإمامَ رافعاً رأسه من الركوع، فليس له إلا اتباعُ الإمام، ولو جرى على ترتيب صلاة نفسه، لم يكن مدركاً للركعة الثانية، وإذا لم يكن مدركاً للثانية، فجريانه على ترتيب صلاة نفسه مبطل لصلاته؛ فإنها زيادات غير محسوبة، وليس هو جارياً فيها على حكم متابعة، ولا يتصور الانفراد بصلاة الجمعة، والإمام بعدُ في الصلاة فتتعين المتابعة، وهذا حسن، فكأنه إنما يجوز الاقتفاء، والاتباع، والتشوف، إلى اللحوق، ما لم يفرط تقدمُ الإمام، فكأن هذا القائل يقول: إذا صادفه المزحوم في الركعة الثانية على محلٍّ يدرك المسبوقُ بإدراكه الركعةَ، فهذا قريب في حق المعذور، فيتّجه إما اتباعه حيث صودف، وإما الجريان على ترتيب الصلاة، ثم هو يدرك الركعة الثانية في الجهتين جميعاًً.
وإن صادفه في الركعة الثانية في محلٍّ لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للركعة، فلا يصير المزحوم مدركاً للركعة الثانية؛ فإنه قد أفرط التخلف.
1380- ورأيت تفريعاً على هذه القاعدة به تمام البيان وكشفُ الغطاء: وهو أن المزحوم لو لم يتمكن من تدارك السجود، ولا من متابعة الإمام في الركعة الثانية، حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم تمكن من السجود، وقد بلغ التخلفُ هذا المبلغ، فلا يصير مدركاً للجمعة، وإن سجد عن الركعة الأولى؛ فإن التخلف جاوز الحدّ، وكأن هذا القائل يقول: تقدُّمُ الإمامِ بركنٍ أو ركنين، والمقتدي مختار غير ممنوع، يقطع القدوة على التفصيل المقدّم، وإن كان مزحوماً معذوراً، فإذا تقدم الإمام بما يُدرك به الركعة الثانية، فهذا مع العذر يقطع القدوة، فتفوت الصلاة.
فهذا مسلك، والمشهور ما قدمته من طريقة شيخي.
1381- ولو رفع الساجد رأسه، والإمام في التشهد، فهو كما لو صادفه رافعاً رأسه من الركوع.
وليس بعد ذلك تفصيل؛ فإن تقدير الإدراك قد فات برفع الرأس من الركوع، فإذا صادف الإمام في الصلاة، وقد فات محل إدراك المسبوق، فيستوي التفريعُ بعد هذا.
1382- ولو رفع المزحوم رأسه من السجود، فسلّم الإمامُ، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة: أنه يصلي ركعةً ويضمها إلى الأولى، ويصير مدركاً للجمعة. ثم ذكر شيخي اختلافاً في أنه هل يثبت له في هذه الركعة حكم المقتدي، حتى كأنه مقتفٍ لإمام سابق له بأركان، وفائدة تقديره مقتدياً، أنه لو سها يكون سهوه محمولاً. وهذا بعيد لا أصل له، وكيف يقدّر الاقتداء حكماً، وتحقيقاً بمن ليس في الصلاة.
ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك أن الإمام لو سلم قبل أن يرفع المقتدي رأسه من السجود الذي زُحم عنه، فقد قال الأئمة: لا يكون مدركاً للجمعة؛ فإن الإمام فارقه قبل إقامة ركعة كاملة، ومن أبعد فأثبت الاقتفاء الحكمي لا يثبته هاهنا؛ فإن ذلك الاقتفاء تبعٌ، لجريان ركعة تامة على تحقيق القدوة.
فهذا منتهى القول في قسم واحد من المسألة، وهو أن يسجد المزحوم والإمام في قيام الركعة الثانية، ثم تنقسم الأحوال عند رفعه رأسه كما سبق.
1383- فأما إذا دامت الزحمةُ حتى ركع الإمامُ في الركعة الثانية، فإذ ذاك تمكن من استدراك ما فاته من السجود، وتصدى له إدراكُ الركوع في الركعة الثانية، فما يفعل والحالة هذه؟ للشافعي قولان فنصوصان:
أحدهما: أنه يشتغل بتدارك ما فاته؛ فإن رعاية الترتيب في الصلاة محتومة، وهذا المزحوم قد ركع متابعاً في الركعة الأولى، ولو ركع مرة أخرى، لكان موالياً بين ركوعين في ركعة واحدة، وقد يلزم الرجلَ متابعةُ الإمام ومخالفةُ ترتيب نفسه، ولكن ذلك فيه إذا ابتدأ، فاقتدى وصادف الإمام ساجداً، مثلاً؛ فإنه يهوي ساجداً؛ لأنه التزم المتابعة؛ فلزمه اقتداؤه، وهذا ابتداء الاقتداء، فأما المسألة التي نحن فيها، فقد تابع في الركوع الأول، فيلزمه بحكم ذلك الركوعِ وترتيبِه أن يسجد، فإن أمرناه بالركوع، خالف ذلك الترتيبَ.
والقول الثاني- أنه يركع مع الإمام؛ فإن الركعة الأولى قد بعُد تدارك ترتيبها، وأفرط التخلفُ عن الإمام، وإذا عسُر ذلك متصلاً، فلا وجه إلا مبادرة الركوع على اعتقاد أن هذه ركعةٌ جديدة، اتفقت مصادفة الإمام فيها، وقد يتعلق تمام الغرض في التوجيه بالتفريع.
فإن قلنا: إنه يركع مع الإمام، فلا يخلو إما أن يوافق، فيركع كما أمرناه، وإما أن يخالف، فيسجد ويتدارك ما فاته في الركعة الأولى، فإن ركع وتمادى مع الإمام، حتى يؤدي الركعة الثانية مع الإمام، فقد أتى بركوعين أحدهما في الركعة الأولى، والثاني في الثانية، فالمحسوب أيهما؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن المحسوب هو الأول؛ فإنه أتى به على حكم القدوة، وكان معتداً به، فلا ينبغي أن ينقلب عما جرى.
والثاني: أنه لا يعتد إلا بالثاني، فإنا بطول تدارك الركعة الأولى، وعُسْر الأمر فيها، كأنا رفضنا تلك الركعة من البَيْن، وقدرنا المزحوم كأنه أدرك هذه الركعة ابتداء، وأدرك الإمام في ركوعها.
فإن قلنا: المحسوب الركوع الثاني، فيصير مدركاً للجمعة، وإذا تحلل الإمامُ يقوم، ويصلي ركعة أخرى، وإن قلنا: المحسوب الركوع الأول، وإنما نأمره بالثاني لصورة المتابعة، فيحصل له في ظاهر الأمر ركعة ملفقة، ركوعها في الأولى وسجودها في الثانية، فهل نجعله مدركاً للجمعة بركعة ملفقةٍ؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يصير مدركاً، فيقوم إذا سلم الإمام، ويصلي ركعة أخرى.
والثاني: أنه لا يصير مدركاً للجمعة؛ لأنه لم يحسب له مع الإمام ركعة متوالية الأركان، والجماعة على نظامها، وهو ركن الجمعة.
التفريع على هذين الوجهين:
1384- إن جعلناه مدركاً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يصير مدركاً لها، فتتعارض الآن أصولٌ، لا يمكن التنبيه عليها إلا بعد ذكر رسم التفريع على ما ذكره الأئمة: فإذا لم نجعله مدركاً للجمعة، فهل تحسب له هذه الركعة من صلاة الظهر؟ فعلى قولين:
أحدهما: تحسب.
والثاني: لا تحسب، وهذا يرجع إلى أن صلاة الجمعة ظهرٌ مقصورة؟ أم هي صلاة على حالها وانفرادها؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما. فإن قلنا: هي محسوبة عن ظهر، فلا كلام. وإن لم نحسبها ظهراً، فهل تنقلب صلاته نفلاً أو تبطل؟ فعلى قولين مبنيين على أصل مشهور جارٍ في مسألة معروفة: وهي أن من نوى فرضاً، ولم يحصل له ما نواه لتخلف شرط في الفرضية، فهل يحصل له النفل؟ فعلى قولين. هكذا رتب الأئمة التفريع وهذا مختلٌّ على هذا النسق عندي؛ فإن قصارى التفريع أدى إلى حكمنا ببطلان صلاته في قولٍ، ويستحيل أن نأمره بشيء ونقدر موافقتَه فيه، ثم نُخرج من تفريعنا عليه بطلانَ عمله رأساً. هذا محال، لا يُعتقد في مساق الكلام.
والذي يجب القطع به أنا إذا أمرناه بالركوع، فركع، فيتفرعُّ عليه من نتائج الأصول المزدحمة وجوهٌ: أحدها: أنه مدرك للجمعة، وهو الأصح الذي لا ينقدح في الفقه غيرُه. وهذا ينبني على أحد أصلين، إما أن نقول: المحسوب الركوع الثاني، وإما أن نقول: الجمعة تدرك بركعة ملفقة.
والوجه الثاني- أنه تحسب له ركعة من الظهر، وهذا على التلفيق وعلى المصير إلى أن الإدراك لا يحصل معه، والظهر تتأدى بنية الجمعة.
والثالث: أنه لا يحصل له جمعة، ولا ظهر، ولكن تحسب له ركعة من صلاة التطوع، وأصل هذا بيّن.
فأما أن يخرج وجه رابع أن تبطل صلاته، فلا يعتقد ذلك عاقل، فكأنا نقول: هذا القول وهو: الأمر بالركوع من ضرورته أنه يتفرع على وجه يقتضي الصحة لا محالة وإلا فالأمر بما قصاراه الفساد محال.
فهذا كله تفريع عليه إذا أمرناه بالركوع مع الإمام، فركع.
1385- فأما إذا أمرناه بالركوع، فخالفنا وسجد؛ تلافياً لما فاته، فلا يخلو: إما أن يكون جاهلاً بأنه ممنوع من ذلك، وإما أن يكون عالماً: فإن كان جاهلاً، وظن أن الوجه فعله، فأول ما نذكره أن سجوده الذي يأتي به غير محسوب له، فإن رفع رأسه، والإمام بعدُ في الركوع، فابتدر وركع، فقد عاد تفريعه إلى موجب الموافقة، وعذر فيما صدر منه من السجود لجهله.
وإن لم يدرك الإمامَ راكعاً، فقام، وقرأ، وركع، وسجد، مقتفياً، لا مقتدياً على التحقيق، فلم يأت بالسجود مع الإمام على حقيقة المتابعة، فإذا جرى الأمر كذلك، فقد يطلق ظاهراً أن السجود الذي تداركه أوّلاً إن لم يحتسب، فالذي أتى به في الركعة الثانية ينبغي أن يحسب، ولكن إن قدرنا ذلك، فالمزحوم في هذه الركعة الثانية مقتدٍ حكماً، وليس متابعاً عِياناً، وقد اختلف أئمتنا في ذلك: وأحسن ترتيب فيه، أنا إن قدرنا الاحتساب بالسجود في الركعة الثانية، فقد حصلت ركعة ملفقةٌ: ركوعها من الأولى، وسجودها من الثانية، وهل يحصل إدرك الجمعة بركعةٍ ملفقة؟ فعلى ما تقدم.
وإن قلنا: لا يحصل، فنقطع تفريعه الآن، فإن قلنا: يحصل، فهذه ركعة في حكم الاقتداء، لا في حقيقة الاقتداء، وقد اختلف الأئمة في أن الجمعة هل تحصل بحكم الاقتداء لا بحقيقته؟
1386- وهذا الآن يستدعي تثبتاً، فنقول: إن سجد المزحوم في قيام الإمام قبل ركوعه-كما تقدم تصويره في صدر المسألة- فقد جرى سجوده، وهو متخلف عن الإمام تخلفاً، لو اختاره، بطلت قدوته، ولكن ذلك القدرَ معفو عنه، لعذر الزحام وفاقاً.
وإن لم يسجد حتى ركع الإمام في الثانية، ثم أمرناه بالركوع، فسجد، فلا يعتد بالسجود؛ لأنه خالف به، فلو سجد في الركعة الثانية مقتفياً، لا مقتدياً حساً، فهذا اعتقدوه تخلفاً مفرطاً، فترددوا فيه.
وخرج من هذا أن ما يقع قبل الركوع ملحق بالاقتداء الحسي، وإن جرى فيه تخلف لا يحتمل في حالة الاختيار. وما يقع بَعْد فوات الركوع اقتفاءً، فهو في حكم اقتداء حكمي لا عِيانيٍّ. ثم في إدراك الجمعة بمثله الخلافُ الذي ذكرناه.
1387- ثم من تمام التفريع في الصورة أنا إذا لم نجعله مدركاً للجمعة، فهل يكون مدركاً ركعةً من الظهر؟ فعلى قولين مبنيين على أصلين:
أحدهما: أن الجمعة ظهر مقصورة أم لا؟
والثاني: أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة؟ ثم إن صححنا الظهرَ، فيقوم عند تحلل الإمام، ويصلي ثلاث ركعات، وإن لم نصحح، فهل تبطل الصلاة أم تنقلب نفلاً؟ فيه قولان.
فإذاً يخرج في صورة اشتغاله بالسجود على ما رسمناه في الصورة التي ذكرنا مع الجهل أوجه: أحدها: أنه مدرك للجمعة.
والثاني: أنه مدرك لركعة من الظهر.
والثالث: أنه متنفل، والرابع- أنه تبطل صلاته. وتخريج البطلان لا يبعد إذا خالف ما أمرناه به، وإن كان جاهلاً.
فأما طرد وجه البطلان مع أمرنا إياه بشيء وامتثاله إياه، فمحال لا أثر له.
وهذا كله فيه إذا أمرناه بالركوع، فسجد جاهلاً، ثم رفع، واقتفى الإمامَ، فقرأ، وركع، وسجد.
1388- فأما إذا رفع رأسه من الركوع الذي اشتغل به، فلم يأت بالركعة الثانية على اتساقها، ولكن صادف الإمام رافعاً رأسه من الركوع، فتابعه، ووقع له ذلك، فأتى بالسجود في الركعة الثانية على صورة المتابعة في الحقيقة، فقد زال أحد الأصلين في أن حكم الاقتداء هل يكون كحقيقة الاقتداء؟ وتجرد الأصل الثاني في أنه أدرك ركعة ملفقة: ركوعها من الأول، وسجودها من الثاني.
1389- ثم تمام البيان في هذه الطرق أنه إذا اشتغل بالسجود جاهلاً، والتفريع على أنه كان مأموراً بالركوع، فإذا رفع رأسه من السجود، وصادف الإمام رافعاً عن الركوع، فيؤمر في هذه الحالة أنه يتابع الإمام، ثم تتفرع التفاريع، ولا يخرج على هذا القول وجه أنه مأمور بالجريان على ترتيب الركعة الثانية اقتفاء.
فليفهم الفاهم ما نجريه.
1390- فمما أطلقه على ظن غالبٍ في المسألة، أنه ليس في الزمان مَن يحيط بأطراف هذه المسألة، وتنزيلها على حقيقة الأصول فيها.
ومن بدائع معانيها ومبانيها ازدحام الأصول المتناقضة فيها، وهي منشأة من زحام وقع فيها، ومغزاها بعدُ مؤخرٌ، سيأتي ذكرنا عليه إن شاء الله عز وجل.
فهذا إذا أمرناه بالركوع، فسجد جاهلاً.
1391- فأما إذا سجد وخالف عالماً بأنه مخالف لما هو مأمور به، فنقول في ذلك: إن خالف، وهو مستديم لنية القدوة، غيرَ قاطعٍ لها، بطلت صلاته قطعاً.
وإن نوى الخروج عن القدوة، فيزدحم كما ذكرناه أصولٌ متناقضة، منها: أن الخروج عن القدوة، هل يجوز من غير عذر؟ فيه قولان، سبق ذكرهما. فإن منعنا ذلك، فحكمه بطلان الصلاة.
والأصل الآخر أنه إذا أراد إقامة الظهر، فهذا ظهر قبل فوات الجمعة، ثم العقدُ كان على نية الجمعة، والجمعة ظهر مقصورة، أم صلاة على حالها؟ فإن أبطلنا صلاته بسبب نية الانفراد، فذاك، وإلا لقِيَنَا أصلٌ آخر يقتضي الإبطال في قول، وهو أن الظهر بنية الجمعة كيف تتأدى، فإن لم يبطل لهذا أيضاً على قولٍ وهو أن الظهر بنية الجمعة كيف تتأدى، فإن لم يبطل لهذا أيضاً على قولٍ، لقِيَنَا أمرٌ آخر، وهو أن الظهر قبل فوات الجمعة هل يصح؟ فإن فرعنا على قول الصحة في كل أصلٍ من هذه الأصول، فقد يُخرّج قول آخر في صحة الظهر، وإن لم نصحح الظهر، فقد يخرّج قول في صحة النافلة.
فهذا كله تفريع على أنه مأمور بالركوع، ثم فرضنا فيه الموافقة والمخالفة جميعاًً.
1392- فأما إذا أمرناه بالسجود وتلافي الفائت، ولم نأمره بالركوع، فلا يخلو إما أن يوافق أو يخالف، فإن وافق، وسجد. ثم رفع رأسه، فلا يخلو إما أن يصادف الإمام راكعاً أو رافعاً، فإن صادفه راكعاً، فيقرأ، ويقتفي، أو يركع ويقتدي؟ قد ذكرنا هذا في صدر الفصل، ونحن نعيده على وجه.
فلنبدأ بأنه إذا سجد كما أمرناه، فهل يصير مدركاً للجمعة أم لا؟ ذكر الأئمة وجهين في ذلك؛ من جهة أنه سجد مقتفياً، وكان في سجوده على حكم القدوة، لا على حقيقة القدوة، وقد تقدم ابتداءً أنه لو تمكن من السجود، وانجلى الزحامُ، والإمام بعدُ قائم، فسجد، يكون مدركاً للركعة، فقطَعْنا ثَم بالإدراك، وإن أتى بالسجود لا على حقيقة القدوة؛ فإن الإمام سبقه بهما سبقاً، وهو تخلف عنه بسبب الزحام، تخلفاً، لو تخلف باختياره من غير عذر، لما جاز ذلك، ولكن يمكن فيما تقدم من التلافي والإمام قائم غيرُ منتهٍ إلى الركوع الذي به يدرك المسبوقُ الركعة، فلم نجعل المزحومَ إذا ابتدأ السجود مقتدياً حكماً، بل جعلناه مقتدياً حقيقة، وجعلنا انضمام عذر الزحام إلى تخلفه مع القدرة على ابتداء السجود في القيام في معنى متابعةٍ حسية، فاقتضى ذلك الحكمَ بإدراكه الركعة.
1393- فأما إذا ابتدأ السجودَ والإمامُ راكع منته إلى ما به يدرك المسبوق-لو دخل الآن- فهذا تخلّف ظاهر-وإن كان العذرُ معه قائماً- يُخرّجُ السجود منه الآن-وإن كان على وفق ما أمرناه به- على وجهين في أنه مقتف على حكم القدوة أو مقتدٍ على حقيقتها.
فهذا بيان الخلاف في هذه الصورة، مع التنبيه للفرق بينها وبين الصورة التي تقدمت في الاشتغال بالسجود.
وقد وضح أن سبب التردد انتهاءُ الإمام إلى ما به يدرك المسبوق في الركعة الثانية، ثم هو يُضرب عن إمامه، ويتركه في أهم حالات المتابعة، ويشتغل بالسجود.
ثم إن جعلناه مدركاً-وهو الظاهر لمكان العذر- فإذا رفع رأسه من السجود، والإمام رافع من الركوع، فالمقتدي يجري على ترتيب صلاة نفسه في الركعة الثانية، فيقرأ ويركع ويرفع؛ لأنا أمرناه بالسجود والإمام راكع ليجري على ترتيب صلاة نفسه، فلأن نأمره باعتبار ترتيب صلاة نفسه، وقد رفع الإمام رأسه من الركوع، وجاوز الركنَ الذي يقع به إدراك المسبوق أولى.
1394- وإن رفع رأسه من السجود والإمام بعدُ في الركوع أيبتدر الركوعَ فعْلَ المسبوق؟ أم يجري على ترتيب صلاة نفسه، فيقرأ ويقتفي؟ الظاهر أنه يجري على ترتيب صلاة نفسه؛ فإنا أمرناه بترك متابعة الإمام في الركوع، والاشتغال بالسجود أوّلاً ليكون جارياً على ترتيب صلاة نفسه، فنستديم هذا القياس.
ومن أصحابنا من قال: يركع ويترك القراءة كما يفعل المسبوق، ولا يكون ذلك تركاً منه لترتيب الصلاة، ولكن يكون ترخُّصاً منه بما يترخص به المسبوق. والقراءة تقع محسوبة له، والترتيب جارٍ مطرد، والقراءة عنه محمولة.
ومن أصحابنا من قال: إذا رفع رأسه من السجود والإمام رافع رأسه من الركوع، فإنه يؤثر متابعته، ويُزجي معه بقيةَ الصلاة، ثم إذا تحلل، يقوم ويصلي ركعةً أخرى.
فإذا قيل لهذا: إنما نُفرعّ نحن على أنه يترك متابعةَ الإمام، فيتدارك ما فاته جارياً على ترتيب صلاة نفسه، فكيف يليق بهذا التفريع أن نأمره آخراً بالمتابعة، وفيها ترك ترتيب صلاة المقتدي بالكلية؟ فيقول مجيباً: نحن لم نأمره بالسجود أوّلاً ليجري على ترتيب صلاة نفسه، ولكن الركعة الأولى قد كان متابعاً في معظمها، فتخلّف بعذر الزحام، فلم يبعد أن يسجد ويتمم القدوة فيها، فأما إذا أخذ يقتفي في الركعة الثانية، ولم يتابع الإمام متابعة حسيّة في شيءٍ منها، فهذا قد يبعد عن شرط القدوة.
فإذاً حاصل القول: أنا إذا فرعنا على التلافي، وترك متابعة الإمام في الركعة الثانية، فوافق وسجد، ثم رفع، والإمام رافع رأسه من الركوع، أو منتهٍ إلى التشهد أنه في وجهٍ نأمره بمتابعة الإمام في البقية، ثم نأمره عند التحلل بضم ركعة إلى الركعة الأولى. وفي وجهٍ نأمره بالجريان على ترتيب صلاة نفسه في الركعة الثانية.
1395- وإن رفع رأسه والإمام بعدُ في الركوع، فإن قلنا: يؤثر المتابعة، وقد صادف الإمامَ رافعاً رأسه، فإيثار المتابعة هاهنا أولى.
وإن قلنا ثَمَّ: يجري على ترتيب صلاة نفسه، فهاهنا خلاف؛ لأن حمل القراءة وإسقاطها على طريق الرخصة لا يخرجه عن مراعاة ترتيب صلاة نفسه، بل نجعله كأنه قرأ؛ إذ هذه الركعة على هذه الطريقة محسوبة له، فإذا تابع بعد الرفع، فذلك غير محسوب له. والذي يعترض في صورة إدراكه راكعاً أن المقتدي ليس مسبوقاً، وقد سبق ذلك في صدر الفصل.
فهذا إذا أمرناه بالسجود والإمام رافع، فوافق، وسجد، ثم رفع رأسه، وصادف الإمام راكعاً بعدُ، أو رافعاً رأسه.
1396- فأما إذا أمرناه بالسجود والتلافي، فخالف وركع، فإن فعل ذلك عمداً مع العلم بأنه ممنوع منه، بطلت صلاته؛ فإنه جاء بركوعٍ زائدٍ عمداً غير محسوب له، وهو منهيٌ عنه.
وإن كان جاهلاً، فالركوع غير محسوب، ولكنه إذا سجد مع الإمام، فسجدتاه مع ظاهر الأمر تلتحقان بالركعة الأولى، ولكن الركعة ملفقة، ففي إدراك الجمعة وجهان، ثم في انقلابها ظهراً، ثم لا يبعد تفريع البطلان؛ من جهة أنه خالف ما أمرناه به.
فهذه صور مسائل الزحام، وقد حذفت من الترهات والحشو ما لا نهاية له.
1397- ولو أدرك المقتدي الركعة الأولى بكمالها، وزحم عن السجود في الركعة الثانية، ثم لم يتمكن من السجود حتى سلم الإمام، فإنه يسجد ويتشهد ويسلم، وقد أدرك الجمعة بلا خلاف؛ فإنه أدرك الأولى على حقيقة القدوة، وأدرك معظم الثانية، وهو معذور في التخلف الذي جرى.
1398- ولو دخل مسبوق وأدرك الإمامَ في ركوع الركعة الثانية، ثم زحم عن السجود، فلم يتمكن منه حتى سلم الإمام، فلا نجعله مدركاً للجمعة؛ فإنه لم يأت بركعة حتى سلم إمامُه.
فهذا تمام الصور المقصودة.
1399- وأنا أختم هذه المسألة بأربعة أشياء تتمةً للغرض: أحدها: ما قد أشرت إليه في أثناء التفاريع، من أن هذه المسألة يطرأ فيها انقلاب الجمعة ظهراً، ثم إن لم نجوز، فيطرأ انقلابها نفلاً، ثم ينتهي التفريع إلى البطلان، ويجري في الصور أمرُنا المزحوم وموافقته إيانا ومخالفته لنا، فحيث نأمره ويوافقنا، فلا ينبغي أن نفرع قولَ البطلان أصلاً؛ فإن الأمر بالشيء، ثم الحكم بالبطلان محال، وإذا لم نأمره، فجرى شيء منه عن جهل، أو أمرناه، فخالف جاهلاً، فلا يمتنع انتهاء التفريع إلى البطلان.
وإذا تفطّن المفرع لهذا، كُفي مُؤْنةَ خبطٍ واختلاط في الظاهر، ورجوع من الأمر، وتصوير الموافقة إلى الحكم بالفساد.
والثاني: أنّا حيث نقول: لا جمعة، وتنقلب الصلاة ظهراً في قولٍ، فقد ذكر الشيخ أبو بكر وجهين، في أنا هل نشترط أن يقلبها ظهراً بقصده، أم تنقلب من غير قصده؟ والتوجيهُ فيه: فمن قال: لا نشترط قصدَ القلب؛ فإن الجمعة كصلاة مقصورة، وإن بطل القصر، ثبت الإتمام، من غير حاجةٍ إلى قصدٍ إليه، كذلك هاهنا.
ومن قال: نشترط قصدَ القلب إلى الظهر، قال: بين الجمعة والظهر على الجملة تغاير، وليس بين قصر الظهر وإتمامه إلا زوال القصر، فلابد في بناء الظهر على الجمعة من قصد. ولعلنا نُعيد هذا من بعدُ.
والثالث: وهو سر مسألة الزحام وبه تمام شفاء الغليل: وهو أن المزحوم إذا تمكن من السجود، والإمامُ بعدُ في قيام الركعة الثانية، فلا ينتهي تفريع هذه الصورة إلى البطلان، إذا امتثل المزحوم ما يؤمر به في جهة من جهات الكلام.
فأما إذا لم يتمكن من السجود حتى انتهى الإمام إلى الركوع في الركعة الثانية، والقولان مشهوران في ذلك، فإن أمر بالركوع، فقد يؤدي إذا وافق إلى الركعة الملفقة، ثم يتسلسل التفريع إلى البطلان لو جرى.
وإذا أمرناه بالسجود، فقد نقول في وجه: هو في هذا الجزء من التخلف مقتفٍ، وليس بمقتدٍ حِسّاً، ثم نقول: هل يحصل الإدراك بهذا؟ ثم يترتب عليه أنه ظهر؟ أم نفلٌ؟ أم تبطل؟ وقد حذَّرْنا فيما تقدم مراراً تفريعَ البطلان حيث نأمر فيمتثل أمرنا، ولكن من حيث تتعارض في المتابعة في الركوع، وفي الاشتغال بالسجود-عاقبة فسادٍ، يتجه أن يقال: إذا دام الزحام إلى الانتهاء إلى هذا المنتهى، فتبطل الصلاة بناءً على وجوه الفساد، فلا نأمره حتى يمتثل، بل نقول: تنقطع الصلاة أصلاً، وهذا بالغ حسن.
ولكن منشأ الفساد من الركعة الملفقة ضعيف، وكذلك منشأ الفساد من طول التخلف على تقدير أمره بالسجود، مصيراً إلى أنه مقتفٍ، أو طال تخلفه- بعيدٌ، فلما بَعُدا، لم يظهر من أصحابنا من حَكَمَ بالفساد في انتهاء الأمر إلى الركوع، ولكنا نبهنا على ذلك حتى لا يغفل الفطِن عما يطرأ في المسألة من فنون التقديرات.
ثم إن ذكر خلاف في أن الجمعة هل تدرك بالركعة الملفقة؟ فلا شك أن ذلك يختص بالجمعة، فلو فرضت الزحمة في غير الجمعة، لا تبطل الصلاة بهذا التقدير.
وكذلك ما ذكرناه من الخلاف. في المقتفي والمقتدي يختص بالجمعة؛ فإن الجماعة مستحقة فيها. فقد يبالغ المبالغ في أمر الجماعة، وجريانها عِياناً، أو اتساقها على نظام من غير تقطع، ولا أثر لذلك في سائر الصلوات.
والرابع- كان شيخي يحكي خلافاً في التخلف عن الإمام بعذر ذهولٍ أو نسيان، ويقول: من أئمتنا من يُلحق ذلك بالزحام، ومنهم من لا يعذر الناسي؛ لتركه التصون وإدامة الذكر، مع إمكان ذلك، ويجعل من يتخلف ناسياً كمن يتخلف عامداً، ثم لا يخفى ذلك في التفريع على من أحاط بما تقدم. وكان يميل إلى أن الناسي كالمزحوم؛ فإن من نسي الصلاة، وتكلّم فيها، عُذر، ولم تبطل صلاته، وإن كان الكلام عمداً، تبطل الصلاة، والمسألة محتملة؛ فإن النسيان لا ينتهض عذراً في ترك المأمور به، والوفاءُ بالمتابعة مأمور به.
وقد نجز غرضنا في الزحام. ولكن لا يضر اختتام المسألة بتجديد العهد بمراتب الزحام حتى يكون ذلك كالترجمة لما تقدم.
فنقول: إذا زحم عن السجود، ثم انجلى الزحامُ والإمام في قيام الركعة الثانية، فيبتدر المزحوم السجودَ وتدارك ما فاته وفاقاً.
ثم إذا رفع رأسه من السجود، ففي إدراكه الإمامَ على حالاته تفصيلات مقدمة، لا حاجة إلى إعادة شيء منها، والذي ينبغي أن يكون على ذكر من يبغي ترجمةَ المسألة أن الإمام لو سلم وهو في السجدة الثانية، فلا يكون مدركاً للجمعة؛ فإنه لم يدرك ركعةً والإمام في الصلاة، بل تحلَّل الإمامُ قبل أن تتم له ركعة، وقد رأيت الطرقَ متفقةً على ذلك.
ولو رفع رأسه من السجدة الثانية، فسلم الإمام، قبل أن يعتدل المزحوم، فهذا فيه احتمال، والظاهر أن الركعة قد تمت.
ولو لم ينجل الزحام حتى ركع الإمام في الركعة الثانية، ففيما نأمره قولان، وهذا عمدة مسألة الزحام، ويتفرع على كلِّ قولٍ الموافقة والمخالفة كما مضى.
ولو دام الزحام، وبقي مزحوماً حتى يرفع الإمام رأسه من الركوع، واشتغل بالسجود، وتابع الإمام، فعند ذلك ذهب ذاهبون إلى أن التخلف قد أفرط، وزالت القدوة الحسّيّة، وبقي الاقتفاء الحكمي، ثم ذكروا في إدراك الجمعة خلافاً، وهذا التردد إنما ينشأ من فوات الركوع في الركعة الثانية، ويصير الإمام إلى حالةٍ لو أدركه مسبوق، لم يصر مدركاً للجمعة، ولو دام الزحام حتى سلّم الإمام، فلا شك أن الجمعة قد فاتت المزحومَ، ثم بقية التفريع واضحة. والله أعلم.
مسألة الاستخلاف:
1400- اشتهر اختلاف قول الشافعي في أن صلاةً واحدةً هل يجوز إقامتُها خلف إمامين؟
وتصوير ذلك أن تبطل صلاة الأول، فيخلفه مستخلَف، كما سنذكره، فيستديمُ المقتدون حكمَ القدوة معه، كما سنصوره بعد إطلاق القولين.
والمنصوص عليه للشافعي في الجديد جواز الاستخلاف، وقال في القديم: لا يجوز إقامةُ بقية الصلاة خلفَ الخليفة.
ثم اختلف أئمتنا في محل القولين:
فمنهم من أجراهما في الصلوات كلها، وهو الظاهر، ومنهم من خصص القولين بصلاة الجمعة؛ فإن الجماعة ركنٌ فيها، ويشترط فيها شرائط، لا يشترط شيء منها في سائر الصلوات، فيليق بها اشتراط اتحاد الإمام.
1401- ومما نذكره في صورة المسألة قبل الخوض في التفصيل، أن القول اختلف في أنه لو خطب بالناس خطيب، وصلى بهم غيره، فهل يجوز ذلك أم لا؟
وهذا قريب من إقامة الصلاة خلف إمامين.
واختلف أئمتنا في ترتيب المذهب: فمنهم من يقول: تجويز ذلك أقرب من إقامة صلاة الجمعة بإمامين؛ فإن ذلك في الصلاة يبترُ صورة القدوة، ويثبت قدوة جديدة، لم تكن، والصلاة عبادة واحدة، والخطبة تنفصل عن الجمعة؛ فتعدد الخطيب والإمام في الصلاة ليس بدعاً.
وكان شيخي يرى إقامة الصلاة بإمامين أولى بالجواز من أن يخطب واحدٌ ويصلّي آخر، ويقول: إذا انعقدت الجمعة، فقد اشتمل عقدها على الإمام الأول والمستخلَف، فالنظر إلى اتحاد العقد، وإذا فرض التعدد في الخطيب والمصلّي، فقد انقطع شرطُ الصلاة-وهو الخطبة- عن الصلاة، ولم يقم بهما واحد، مع تميز أحدهما عن الثاني، وكان يقول: في الجديد تردّدٌ في جواز ذلك، وجواز الاستخلاف مقطوع به في الجديد، وقد قطعنا بأن الانفضاض في الخطبة يؤثِّر؛ حيث يختلف القول فيه لو جرى في الصلاة.
التفريع على القولين في الاستخلاف في الجمعة:
1402- إن منعناه، فالإمام الأول إن بطلت صلاتُه بسبق حدثٍ، أو تعمدٍ في الركعة الأولى، والتفريع على القديم، فالذي ذكره الأئمة أن الجمعة قد تعذرت على استدامة هذه الحالة إن وقع ذلك في الركعة الأولى؛ فإن القوم لم يدركوا ركعة تامة مع الإمام، وإن وقع ذلك في الركعة الثانية، انفردوا بها، وأتموا الجمعة، ونزلوا منزلةَ المسبوق إذا أدرك ركعة من صلاة الجمعة؛ فإنه يقوم إلى الثانية منفرداً بها عن تحلل الإمام، ويكون مدركاً للجمعة. وقطعوا بأن صلاة الإمام إن بطلت في الركعة الأولى، فلا جمعة، وإن بطلت في الثانية، أتمَّ القومُ الجمعة، ولا استخلاف.
ثم إن حكمنا بارتفاع الجمعة في الركعة الأولى، ففي انقلابها ظهراً، أو نفلاً، أو بطلانها أصلاً، ما قدمناه في مسألة الزحام.
1403- قال شيخي: قد ذكرنا في مسألة الانفضاض قولين: أن القوم لو انفضوا في الركعة الأولى، ولم يبق إلا الإمام وحده، فتصح جمعته، فعلى هذا لا يمتنع أن نقول: إذا بطلت صلاة الإمام في الركعة الأولى، فزوال الإمام عنهم كانفضاضهم عن الإمام، فإذا كان الإمام يُتم الجمعةَ وإن جرى الانفضاضُ في الركعة الأولى، فكذلك القوم يتمون الجمعة، وإن زال إمامهم في الركعة الأولى.
وهذا الذي ذكره قياس حسن، غير أن الأصحاب قالوا: لو بطلت صلاة الإمام في الركعة الثانية، أتموها جمعة، وقد ذكرنا قولاً منصوصاً أن القوم لو انفضوا في الركعة الثانية، فالإمام لا يصلي جمعة، والإمام شيخي جرى على متابعة الأصحاب في الفرق بين الانفضاض وبين زوال الإمام في الركعة الثانية.
فالذي يقتضيه القياس عندي تخريج قول من الانفضاض في زوال الإمام في الركعة
الثانية؛ إذ لا يكاد يظهر فرق؛ فإن الإمام ركن الجماعة في حق المقتدين، كما أن
القوم ركن الجماعة في حق الإمام، وليس ذلك كانفراد المسبوق بركعة؛ فإنه قد
صحت الجمعة للإمام والجمع، فأُثبت للمسبوق إدراك الجمعة، على طريق التبعية
لأقوامٍ صحت جمعتهم.
فهذا تفريعٌ على منع الاستخلاف.
1404- فأما إذا قلنا: يجوز الاستخلاف. فأول ما نذكره أن الإمام لو أحدث عامداً، أو أخرج نفسه من الصلاة قصداً، أو سبقه الحدث، فكل ذلك على وتيرة واحدة، والاستخلاف يجري في جميع هذه الصور عندنا.
وأبو حنيفة إنما يجوّز الاستخلاف إذا سبقه الحدث، ثم يقول: لا تبطل الصلاةُ بسبق الحدث، فالإمام يستخلف وهو بعينه في الصلاة.
وعندنا أنه يجري الاستخلاف مع بطلان صلاة الإمام.
وللشافعي قول في القديم أن من سبقه الحدث في صلاته لا تبطل صلاته، ولكن لا ينتظم التفريع في ذلك؛ فإن هذا القول منصوص عليه في القديم، والذي نص عليه في القديم منعُ الاستخلاف، فلا يتأتى في الترتيب تفريعُ جواز الاستخلاف على قولنا بأن سبق الحدث لا يُفسد صلاة الإمام.
ثم ما صار إليه أبو حنيفة خليّ عن التحصيل؛ فإن الاستخلاف يليق بزوال الإمام الأول عن الصلاة.
1405- ثم الذي نبتدئه في ذلك أن المستخلف يشترط فيه أن يَكون عقَدَ الصلاة مع الإمام أولاً، وصار من جملة المقتدين، ثم يستخلَف، فلو بطلت صلاة الإمام أولاً، وأراد أن يستخلف من لم يتحرم بالصلاة بعدُ، حتى يتحرّم ويتقدم ويؤم بهم، فهذا غير جائز في الاستخلاف. وسأذكر حكم هذه الصورة في آخر المسألة إذا تمَّمْتُ غرضي في الاستخلاف.
1406- فإذا ثبت أن الاستخلاف يختص بمن عقد صلاته قبل بطلان صلاة الإمام، فلا يخلو إما أن يجري هذا في الركعة الأولى، أو يجري في الثانية، فإن جرى في الأولى، فهل يشترط أن يكون الخليفة ممن سمع الخطبة؟ ذكر الأئمة فيه خلافاً في جميع الطرق. ثم الذي صححوه أن ذلك ليس بشرط؛ فإنه إذا عقد صلاتَه، صار في حكم من سمع الخطبة، وضاهى في حكمه حكمَهم.
ثم قال الأئمة: إن استخلف الإمام رجلاً مقتدياً به جاز، فلو مضى الإمام على وجهه، ولم يستخلف أحداً، فالقوم يقدّمون خليفة من جملة المقتدين بالإشارة، واتفق الأصحاب على أن ذلك جائز منهم، ثم قالوا يجب الاستخلاف في الركعة الأولى؛ فإن ذلك إذا اتفق يترتب عليه إدراك الجمعة، ولو أرادوا أن ينفردوا، لم تصح جمعتُهم، وإقامة الجمعة واجبة عليهم، فيتعين الاستخلاف لما ذكرناه.
ثم الذي ذكره الأئمة أنه إذا صح الاستخلاف، وتقدم الخليفة، استمر الناس على صلاتهم، ولا حاجة بهم إلى تجديد نية الاقتداء بالخليفة. وفائدة الاستخلاف نزول الخليفة منزلة الإمام الأول، حتى كأنه هو، ولو استمرت الإمامة من الأول، لم يكن لتجديد نية الاقتداء معنى، ولو انقطعت القدوة الأولى، لكان الظاهر في القياس انقطاع الجمعة، ثم إن كان التقديم من القوم، ولم يستخلف الإمام الأول، فيكفي عندي صَدَر هذا من واحد من القوم، ولو شرطنا صدورَه من جميعهم، وهم مائة ألف مثلاً، لعسر الوصول إلى ذلك في أثناء الصلاة.
ولو تقدم واحد بنفسه، ولم يقدمه أحد، ففيه احتمال عندي؛ من جهة أنه لم يستخلفه أحد، ويظهر الجواز، من جهة أنه من القوم، فتقديمه نفسَه كتقديمه آخرَ.
والله أعلم.
1407- ولو قدم الإمام إنساناً، وقدم القوم آخرَ، فليس في هذا عندي نقل، والمسألة محتملة.
ولعل الأظهر أن المتَّبَع من يستخلفه القومُ؛ فإن الإمام قد بطلت صلاته، وإنما يستخلفُ بعُلْقة إمامةٍ كانت وزالت، والقوم باقون في الصلاة، وهم أولى بالاستخلاف.
1408- ثم ينبغي أن يجري الاستخلاف على القرب، بحيث لا يطول الفصل، فإن قضَوْا على الانفراد ركناً، ثم استخلفوا، لم يجز. وإن طوّلوا الركن الذي هم فيه، ثم استخلفوا بعد طول الزمان، ففي المسألة احتمال.
وكل ما ذكرناه مفرعّ على ما ذكره الأصحاب، من أنهم لو لم يستخلفوا في الركعة الأولى، فلا يصلّون الجمعة.
والذي حكيته عن شيخي في تفريع ذلك على الانفضاض لا تفريع عليه.
1409- ثم إذا جرى الاستخلاف في الركعة الأولى، فالإمام المستخلَف يصلي الجمعة كالقوم؛ فإنه اقتدى أولاً وعقَد الصلاة، ثم استُخلف، فسبيله في الإدراك كسبيل القوم. وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الاستخلاف في الركعة الأولى.
1410- فأما إذا تمت ركعة مع الإمام الأول، ثم فسدت صلاته في الركعة الثانية، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يجب الاستخلاف في الركعة الثانية؛ إذ سبب وجوبه في الأولى أنهم لم يدركوا مع الإمام ركعة، فأما إذا صلوا ركعة، فلو انفردوا-وقد فسدت صلاة الإمام- لصحت جمعتُهم؛ فلا يلزمهم الاستخلاف.
ثم نص الأصحابُ على أن المقتدين لا يلزمهم الاستخلاف، ولو استخلف الإمامُ لا يلزمهم أن يتابعوه، بل هم بالخيار إن شاءوا، استخلفوا، وإذا استخلف الإمام، فهم بالخيار إن شاءوا، تابعوه واستمروا، وإن شاءوا، انفردوا. ولو اقتدى بعضهم وانفرد آخرون، جاز.
1411- فإن قيل: لو بقي الإمام الأول، ولم يطرأ ما يبطل صلاته، فلو أراد القوم، أو واحد منهم أن ينفردوا بالركعة الثانية، وينووا قطع القدوة والخروجَ عن المتابعة، فما ترون فيه؟ قلنا: لو جرى هذا في سائر الصلوات، ففي المسألة قولان في حق غير المعذور، كما تقدم ذكره، والذي نراه القطعُ بأن هذا في الجمعة غير جائز، وإن مضت الركعة الأولى على الصحة؛ فإن الجماعة واجبة في الجمعة، فلا يجوز قطع الواجب، فإن قيل: هلا أوجبتم الاستخلاف لتدوم الجماعة؟ قلنا: لم يوجبها أحد في الركعة الثانية؛ فإنهم إنما التزموا الوفاء بما نَوَوْه من الاقتداء الأول، فأما الاستخلاف وإن كان تدوم به الجماعة، فهو ابتداء أمر، فهذا ما أردناه.
1412- ولو استخلف الإمام في الركعة الثانية مسبوقاً، لم يدرك الركعة الأولى، ففي جواز ذلك قولان:
أحدهما: المنع؛ فإن هذا الإمام لا يكون مدركاً للجمعة، كما سنوضحه في التفصيل إن شاء الله.
والثاني: الجواز؛ فإنه بمثابة الإمام، حتى كأنه هو، وهذا يترتب عندي على ما تقدم من أنَّا هل نشترط أن يكون الخليفة قد سمع الخطبة؟ فإن شرطنا ذلك، فلا يجوز استخلاف المسبوق، وإن جوزنا استخلاف من لم يسمع الخطبة، ففي استخلاف المسبوق بالركعة الأولى قولان، والمسألة مفروضة فيما إذا اقتدى المسبوق أولاً، وانعقدت صلاته، ثم فسدت صلاة الإمام واستخلفه.
ثم قال الشافعي مفرعاً على جواز استخلاف المسبوق: إذا تقدم، فإنه يجري على ترتيب صلاة الإمام، ولتكن صلاتُه على صفة صلاته لو بقي مقتدياً بالإمام الأول، فيجلس إذا انقضت هذه الركعة بقدر جلوس الإمام تقريباًً، ويجلس معه القوم، ثم يومىء إيماءً، فيتحلل المقتدون عن جمعتهم، ويقوم الخليفةُ إلى ما عليه، على ما سنوضح تفصيل ما عليه إن شاء الله.
ثم هذا الخليفة لا يكون مدركاً للجمعة بلا خلاف؛ فإنه لم يدرك ركعة من الجمعة مع الإمام.
ولو دخل مسبوق واقتدى بهذا المسبوق المستخلف-على قولنا يصح استخلافه- فيكون المقتدي به مدركاً للجمعة، حتى لو أدركه في ركوع هذه الركعة، حُكم بكونه مدركاً للجمعة؛ وذلك أنه يجري على ترتيب صلاة الإمام، حتى كأنه هو في حق المقتدين، ولذلك يتشهد، وليس هذا ترتيبَ صلاة نفسه، فهو في التحقيق حالٌّ في حق المقتدين به محل الإمام الأول لو بقي، ولكنه في نفسه غيرُ مدرك للجمعة.
قال ابن سريج: يُخرج في المسبوق الخليفة-على قولنا: يجوز استخلافه- قولان، في أنه هل يصح ظهرُه- على أصلين:
أحدهما: أنه نوى الجمعة، وقد ذكرنا قولين في أن الظهر هل يصح بنية الجمعة إذا تعذرت الجمعة؟
والثاني: أنَّ الظهر لو صححناه، لكان قبل الفراغ من صلاة الجمعة، وفي صحة الظهر قبل الفراغ من صلاة الجمعة قولان، وسيأتي ذكرهما.
ثم إن صححنا ظهرَه، فلا كلام، وإن لم نصححه-وقد قطع الكافة بأنه لا جمعة له- فتكون صلاتُه نفلاً على قول.
ثم قال: سيأتي الخلاف في أن إمامَ القوم لو كان متنفلاً، فهل يصح منهم الاقتداء به في صلاة الجمعة؟ فإن صححنا ذلك، فلو دخل مسبوق واقتدى به، صار مدركاً للجمعة؛ فإن صلاة الخليفة بين أن تكون ظهراً، وبين أن تكون نفلاً، وكيفما فرض، فيصح الاقتداء به.
وإن قلنا: لا يجوز أن يكون إمام الجمعة متنفلاً، فالمسبوق المقتدي به لا يكون مدركاً للجمعة، ولكن يصح اقتداء الذين أدركوا الركعة الأولى مع الإمام الأول به؛ فإنهم لو انفردوا بتلك الركعة، لكانوا مدركين للجمعة، فليس الجماعة مشروطةً في حقهم، فلا يمتنع أن يقتدوا فيها بمتنفل، كما يسوغ ذلك في إقامة سائر الفرائض خلف المتنقل، فأما المسبوق، فالجماعة شرط في إدراكه الجمعة، ثم إذا لم نجوّز أن يكون الإمام متنفلاً، فلا يكون هو مدركاً للجمعة.
1413- ومما يليق بترتيب الكلام ورعاية النظام فيه، أنا إذا جوّزنا استخلاف المسبوق، فقد التزمنا الحكمَ بصحة صلاته، فكأنا نفرعّ على أن ظهره صحيح، أو ينقلب نفلاً.
وأما التفريع على أن صلاته تبطل، فيؤدي إلى منع استخلافه؛ فإن من تبطل صلاته، يستحيل تقديرُه إماماً أولاً، ثم الانعطاف على صلاته بالبطلان آخراً. نعم.
إذا منعنا استخلافه، فيخرج في صلاته قولان في أنها ظهر، فإن لم تكن ظهراً، خرج قولان في أنها باطلة أو نفل.
هذا تمام القول في استخلاف المسبوق.
1414- وبقي في إتمام الغرض من المسألة ما وعَدْنا ذكرَه من استخلاف من لم يقتد بالإمام.
وتصوير ذلك أنه لو بطلت صلاة الإمام-وقد دخل داخل ولم يقتد بعدُ- فالإمام يأمره حتى يتقدم، ويتحرّم بالصلاة، ويقتدي القوم به. فهذا نفرضه في غير صلاة الجمعة، ثم نذكره في صلاة الجمعة.
فإن جرى ذلك في غير الجمعة، فالذي يهب تقديمُه أن هذا ليس باستخلاف، والمتقدم ليس خليفة، وإنما هو عاقد صلاةَ نفسه، جارٍ على ترتيب نفسه فيها، وقد انقطعت قدوة المقتدين بإمامهم، فإن اقتدَوْا بهذا الرجل، فسبيلهم كسبيل منفردين، يقتدون في أثناء الصلاة، وقد ذكرنا ما فيه من اختلاف القول فيما تقدم.
وإن فرضنا هذه الواقعة في الجمعة، ففي صحة الظهر لهذا المتقدم قولان، وفي صحة صلاته على أحد القولين قولان. فإن لم نصحح صلاتَه، فلا يصح اقتداء أحدٍ به، وإن صححنا صلاته، فنقول: إن جرى هذا في الركعة الأولى-والتفريع في جميع ذلك على ما ذكره الأصحاب- فقد انقطعت قدوة القوم، فلا جمعة لهم؛ فإنهم لم يدركوا ركعة مع إمام الجمعة، ولم تصح الخلافةُ على هذه الصورة في حق هذا الداخل. وقد نقول: لا يصح ظهر القوم، والجمعة لا مطمع فيها وفي صحة نفلهم كلام على ما تكرر. فإن صحت صلاتُه، فنوَوا الاقتداء بهذا المتقدم على الصورة التي ذكرناها، فهؤلاء نَوَوا القدوة في أثناء الصلاة، وفيه من الكلام ما مضى.
وإن أحسوا بحقيقة الحال، فقطعوا الصلاة، وابتدأ هذا الداخل المحتقدم، ونوى الجمعة، واقتدى القوم به ابتداءً، صحت الجمعة للمتقدم، والمقتدين به، إذا جوزنا أن يخطب رجل، ويصلي الجمعة غيرُ من خطب، فإن لم نجوز، فلا جمعة لهم. ثم لا يخفى بقية التفريع.
فهذا تفريع الحكم لو جرى ما ذكرناه في الركعة الأولى.
1415- فأما إذا جرى في الركعة الثانية، فقد ذكرنا من مذهب الأصحاب أن جمعة القوم صحيحة، وإن انفردوا بالركعة الأخيرة، فلو تقدم الداخل ونوى الجمعة، فاقتدى القوم، فقد نقول: لا تصح صلاة المتقدم الذي نوى الجمعة، فلا يصح اقتداؤهم، مع العلم بذلك، وبطلت صلاتهم.
وإن قلنا: تصح صلاة المتقدم ظهراً أو نفلاً، فالقوم قد انقطعت قدوتهم، ولم يصح الاستخلاف، فإن اقتدَوْا به، كان هذا اقتداء طارئاً على الصلاة بعد ثبوت حقيقة الانفراد، وفي جواز ذلك القولان الجاريان في سائر الصلوات.
فهذا منتهى القول في الاستخلاف وما يتعلق به.
فصل:
1416- ذكر صاحب التقريب تفصيلاً جامعاً في نية صلاة الجمعة، فقال: اشتهر الخلاف في أن الجمعة ظهر مقصورة أم صلاة على حيالها؟ فإن قلنا هي صلاة بنفسها، وليست ظهراً، فلابد من نية الجمعة، ولو نوى المرء ظهراً مقصورة، لم تصح جمعته.
وإن قلنا: هي ظهر مقصورة، فلو نوى المكلف ظهراً مقصورة ففي صحة الجمعة بهذه النية وجهان:
أحدهما: يصح؛ فإنه نوى الصلاة على حقيقتها وصفتها.
والثاني: لا تصح الجمعة؛ فإن الغرض الأظهر من الباب التمييز، وهذه الصلاة، وإن كانت ظهراً مقصورة، فليست كالظهر المقصورة في السفر، بل هو مقصور متميز، بحكمه، وصفته، وشرطه عن كل ظهر مقصورة، فلابد من تمييزه بما يختص به، وهو الجمعة.
ثم ذكر في سياق الكلام شيئاًً، فقال: إذا نوى الجمعة، وقلنا: هي صلاة على حيالها، فذاك. وإن قلنا: هي ظهر مقصورة، فهل يجب التعرض في النية لقصد القصر، أم يكفي نية الجمعة؟ فعلى وجهين: أصحهما- أن نية الجمعة كافية؛ فإنها لا تكون إلا مقصورة.
والثاني: لابد من قصد القصر؛ فإن الأصل الإتمام، وهذا ضعيف، لا اتجاه له أصلاً، ولكنه صرح بنقله مراراً، فنقلناه، وهو غير معدود من المذهب.
وجميع ما ذكرناه في الانفضاض، والزحام، والاستخلاف، متعلق بشرط واحد وهو الجماعة، فجرت هذه المسائل الموصوفة متفرعة على حكم الجماعة.
فصل:
1417- قد ذكرنا في الشرائط المرعية الوقت، فنقول في بيانه: إن وقع شيء من صلاة الإمام والمقتدين به في وقت العصر، فلا تصح الجمعة وفاقاً.
ثم نقول: لو وقعت التسليمة الأولى وراء الوقت، فلا جمعة، ثم يعود الترتيب المقدم في أن الجمعة إذا لم تصح، فهل يبنون عليها ظهراً؟ وقد تكرر هذا على الترتيب المعروف مراراً.
1418- ولو أدرك مسبوق ركعةً من الجمعة مثلاً وتحلل الإمام، والسابقون المقتدون به في الوقت، فقام المسبوق إلى تدارك الركعة التي فاتته، فوقعت ركعتُه، أو آخرُها وراء الوقت، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا تصح جمعة المسبوق لوقوع بعضها وراء الوقت، فصار كما لو اتفق ذلك في صلاة الإمام والمقتدين به.
والثاني: تصح للمسبوق؛ فإنه تابع للقوم، وقد صحت جمعتهم، وهذا أدرك ركعةً معهم في الوقت، فتبعهم في صحة الجمعة.
وعلى الجملة اعتناء الشرع بالوقت أعظم من اعتنائه بالجماعة، ولذلك اختلفت الأقوال في الانفضاض، وإن اختلّت الجماعة به، ولم يختلف المذهب في أن شيئاًً من صلاة الإمام، لو وقعت وراء الوقت، لم تكن جمعة، وإن وقع المعظم في الوقت.
والمسبوق لا يمتنع أن ينفرد بركعة، وفي وقوع شيء من صلاته وراء الوقت الخلافُ الذي ذكرناه. ولعلّ السبب فيه أن الجمعة على صورة صلاة مقصورة، أو هي مقصورة على الحقيقة، والاقتصار على الركعتين مشروط بالمحافظة على الوقت، وذلك داخل تحت اختيار الإمام والقوم، فأما اختلال الجماعة في الأثناء والانتهاء، فلا يتعلق بالاختيار كما تقرر في مسألة الزحام.
فصل:
يجمع تقاسيمَ لابد من الإحاطة بها
1419- فنقول: الناس في الجمعة على أقسام، منهم من لا يلزمه حضور الجامع وإقامة الجمعة، ولو حضروا الجامع، فهم على تخيّرهم، إن أحبوا أقاموها، وإن أحبوا أقاموا ظهراً، وهؤلاء: النسوان، والعبيد، والصبيان، والمسافرون، والمترخصون. وذكر صاحب التلخيص في العبد تخريجاً أنه إذا حضر؛ لزمته الجمعة. وهذا غلط باتفاق الأصحاب، ولا يوجد هذا التخريج في جميع نسخ الكتاب، فلعله هفوة من ناقل.
1420- ثم هؤلاء لا يكمل بهم العدد المشروط قطعاً؛ فإنهم على نقائص ظاهرة لازمة، وصفات الكمال مرعية في العدد الذين تنعقد بهم الجمعة.
ومن نصفه حر، ونصفه عبد، في معنى العبد الرقيق.
وذكر بعض المصنفين أن الجمعة إذا كانت في نوبة مالك الرق، فلا جمعة؛ فإنه في معنى الرقيق في نوبة السيد، فإن وقعت الجمعة في نوبة من نصفه حر، فهل يلزمه إقامة الجمعة؟ فعلى وجهين، وإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، فلا تلزمه الجمعة أصلاً، وذِكْر الوجهين في نهاية الضعف. والوجه القطع بأنه لا يلزمه إقامة الجمعة.
ولا أعرف خلافاً أن المكاتَب لا تلزمه الجمعة وإن كان مستقلاًّ بنفسه.
وسقوط الجمعة عن المسافر المترخص بالاتفاق أوضح دلالة على أنَّ الكمال والاستقلال مرعيٌ في وجوب الجمعة.
وإن كان من نصفه حر في يوم نفسه، فهو في نوبته مدفوع إلى الجدّ في التكسب لنصفه الحر، فهو في شغل شاغل لمكان الرق.
ولا شك أن الجمعة لا تنعقد بمن نصفه رقيق، وإنما التردد الذي حكيناه في وجوب الجمعة، فأما أن يعد في العدد المعتبر في عقد الجمعة، فلا.
فهذا تفصيل القول في الذين لا تلزمهم الجمعة، ولو حضروها، فهم على تخيرهم، ولا يعدّون في الأربعين.
1421- ومن الناس من لا يلزمه حضور الجامع ولو حضره متبرعاً في وقت الصلاة، أو حضره لشغل، لزمه أن يقيم الجمعة، وهؤلاء هم المرضى، والمعذورون؛ فإنهم عذروا في التخلف، فإذا حضروا لزمهم الجمعة، وهم يعدّون من الأربعين إذا حضروا؛ فإنهم على كمال الصفات.
وإن ظن ظان أن المريض كالمسافر في بعض الرخص؛ فإنه يفطر في رمضان إفطار المسافر، ثم الجمعة لا تنعقد بالمسافرين، فينبغي ألاّ تنعقد بالمرضى، فهذا مردود عليه؛ فإن المريض مستوطن من أهل القطر، فمرضه الذي يعذره لا يحطه عن الكمال المعتبر، ولا تعويل على الرخص؛ فإنه أولاً لا يقصر ولا يجمع، وإفطاره ليس ملحقاً بالرخص، بل هو من قبيل الضرورات، وإنما تتميز الرخصة عما يباح للضرورة أو الحاجة؛ من جهة أن المسافر وإن لم يكن محوجاً إلى الرخص، يترخص، حملاً على كون السفر مظنة للمشقة، ولا يعتبر فيه الأحوال والآحاد، والمريض إذا وجد خفة في يوم، لم يفطر، ولو وجد قوةً ومُنة في أثناء الصلاة، وكان يصلي قاعداً، لزمه أن يقوم.
ومما يتعلق بالمريض والمعذور أن العدد لو كان ناقصاً بواحد مثلاً ولو حضر، لتمّ العدد به، ولو تخلف، لا يمكن إقامة الجمعة، وكانت الجمعة تتعطل بسبب تخلفه، فلا يلزمه أن يتكلف ويحضر؛ فإذاً هو ممن يتم به العدد، ولا يلزمه أن يحضر، ولا يختلف الأمر بين أن تتعطل بسبب تخلفه الجمعة أو لا تتعطل، ولو حضر في وقت الصلاة، لزمته الجمعة، ثم تنعقد الجمعة، وإن كان يصلي قاعداً لمرضه.
ولو حضر قبل دخول الوقت، فالوجه القطع بأن له أن ينصرف لو أراد، وإن كان دخل الوقت، وقامت الصلاة، أقام الجمعة، وإن كان بين دخول الوقت وبين إقامة الصلاة مدة، وكان لا يناله مزيدُ مشقة، في مصابرة الإقامة في الجامع، حتى تقام الجمعة، يلزمه ذلك.
وإن كان يناله مشقة في الصبر، فالذي أراه أن ينصرف إن أراد، ولا يلزمه المصابرة، ولعل هذا يُضبط بما ضبط به جواز ترك القيام، وإيثار القعود في الصلاة المفروضة.
فهذا بيان القول في المرضى.
1422- ومن الناس من يلزمهم إقامة الجمعة، وحضور الجامع، ثم ظاهر المذهب أن العدد لا يتم بهم، وهم الذين نَوَوْا إقامة مدّة لأشغالٍ لهم، ثم هم عازمون على الانصراف إلى أوطانهم، إذا قضَوْا أوطارهم، كالتجار والمتفقهة، ولا يعد هؤلاء من أهل البلدة، بل يسمَّوْن الغُرباء، فلا يكمل بهم الأربعون؛ فإنهم ليسوا من أهل البلدة.
والذي يحقق ذلك أنا لم نصحح الجمعة من المقيمين في البوادي تحت الخيام والأخبية؛ فإنهم وإن أبرموا العزمَ، فالخيام مهيأة للنقل، فدل أن المعتبر إقامةٌ تامة، في محل مهيّأ لها، ولكن وإن حكمنا بأن العدد لا يتم بهم، فيلزمهم أن يحضروا، ويقيموا الجمعة إذا كملت العِدة بأصحاب الكمال.
والسبب فيه أن سقوط الجمعة معدود من قبيل الرخص، وهؤلاء الغرباء إذا أقاموا على الصفة التي ذكرناها، لم يجز لهم أن يترخصوا بشيء من رخص المسافرين، فترتب على ذلك أنه يلزمهم الجمعة، ولا يتم بهم العدد.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الغرباء، الذين تلزمهم الجمعة، يحكم بانعقاد الجمعة بهم، وهذا وإن لم يكن ظاهر المذهب، فليس بعيداً عن القياس.
فأما أهل الكمال: وهم العقلاء، البالغون، الذكور، الأحرار، المقيمون، الذين يعدّون من أهل البقعة، ولا يعتادون الانتقال شتاء ولا صيفاً، فهم الذين يلزمهم، وتنعقد بهم الجمعة.
1423- فهذا بيان أحكام طبقات الناس في أمر الجمعة ثم جميعهم على درجاتهم، إذا حضروا وصلّوا الجمعة وقد استجمعت شرائطها، فصلاتهم صحيحة، والسبب فيه أن الجمعة وإن كانت مقصورة في الصورة، فقد أُثبتت لأصحاب الكمال الذين لا عذر لهم، فلأن تصح من أصحاب المعاذير أولى، وهذا مجمع عليه.
فصل:
1424- قد ذكرنا فيما تقدم المعاذير التي تترك الجماعات بسببها، وقد قال الأئمة: كل عذرٍ يُرخَص في ترك الجماعات المسنونة يُرخص لأجله في ترك الجمعة أيضاً، وقد مضى تفصيلُها.
فمن جملة الأعذار المرض، ومنها تمريض مريضٍ والقيامُ عليه.
وقد فصّل الأئمة هذا، فقالوا: إن كان له قريبٌ محتضَرٌ منزول به، فيجوز له ترك الجمعة، والوقوف عنده حتى يقضي نحبه، وإن فاتته الجمعة بهذا السبب، عُذر، والأصل فيه: "ما روي أن ابن عمر كان يَطَّيب يوم الجمعة ليروح إلى الجامع، فأخبر أن فلاناًً البدريَّ منزول به، فحضره وترك الجمعة" وكان هذا البدري سعيدَ بن زيد ابنَ عمر بن نفيل، وهو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان قريباً لابن عمر. وجواز ترك الجمعة في هذه الصورة إنما هو لاشتغال القلب، لا لضرر ينال المنزولَ به، ولكن لو قضى نحبه في غيبة من يحضر الجامع، فقد يعظم وقعُه على قلبه، فساغ التخلف بهذا السبب، فليفهم الفاهم هذا وليتخذه أصلاً في الفصل.
وقد تقدم أن ترك الجمعة بعذر المطر جائز وفاقاً، وكذلك الوحل الشديد، على ظاهر المذهب.
1425- والمرض الذي يجوز التخلف به لا يبلغ مبلغ الذي يجوز لأجله القُعود في الصلاة المفروضة، ولكنه مقيسٌ، معتبر بما يلقاه الماشي في الوحل والمطر، وبما ينال من يفوته موتُ قريبه من المضض، ولو كان له زوجة أو مملوك، فهو عندي على معنى القريب، ولا يبعد أن يكون المولى كذلك، فإن الأئمة لم يفصلوا في القريب بين من يقرب إدلاؤُه وبين من يبعد.
ولو كان ثمَّ مريض، فأراد أن يقوم بتمريضه، ويترك الجمعة، فإن لم يكن للمريض قريب، ولم يكن بينه وبينه سبب مما ذكرتُه، وكان لا ينال المريضَ ضررٌ بمفارقته، فيتعين حضور الجامع، وإن كان المريض قريبَه، وكذلك إن كان للمريض من يتفقده في غيبته.
1426- فأما إذا لم يكن لذلك المريض من يمرّضه، وكان يناله ضررٌ بغيبته، فهذا أبهمه الفقهاء، ولم يفصلوه على ما ينبغي، وأنا أقول فيه: من أشرف على الهلاك من المسلمين وأمكن إنقاذه، فإنقاذه فرض على الكفاية، ولو تركه أهلُ القُطر حتى هلك حَرِجوا من عند آخرهم، وعليه يخرج إطعام المضطر. وكان شيخي يذكر مجامع فرائض الكفايات في كتاب السير، وسنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وقدرُ غرضنا منه أن الذي يتعلق بفرض الكفاية، في هذا الفن الذي نحن فيه، الإنقاذُ من الهلاك، فأما إذا فرض جائعٌ قد بلغ به الجوع مبلغاً مضراً، فلست أرى تدارك هذا من فروض الكفايات؛ فإن هذا لو قيل به، لأدى إلى تأثيم خلق الله على عموم الأحوال؛ فإن الحاجة عامة، والضرر غالب في الأصحاء والمرضى. نعم يجب على الإمام تعهد هؤلاء وسد خلاّتهم من مال المصالح؛ فإن سبيل تعلّق استحقاق هؤلاء بمال بيت المال، كسبيل تعلق حق الولد الفقير بمال الأب الغني، فإذا كان في بيت المال مال، فهؤلاء محالون عليه، والدليل عليه أن من اضطر وانتهى إلى خوف الهلاك، فله أن يأخذ مال غيره، ولو جاع، لم يكن له ذلك.
ولو خلا بيت المال عن المال، ففي هذا نظر كلي إيالي، استجمعت أطرافاً منه في (الغياثي). وإنما نبهت على هذا المقدار لمسيس الحاجة إليه.
فنقول: إن كان غيبة المرء عن المريض تؤدي إلى هلاكه، فلا شك أنه يترك الجمعة، ويقوم عليه سواء كان أجنبياً، أو كان بينه وبينه قرابةٌ، أو سبب، مما سبق ذكره.
ولو قيل: ليس القائم عليه بأولى في كفاية ذلك من غيره، فليحضر الجامع، وليكل أمرَه إلى آخر. قلنا: هذا يتوجه إذن في حق كل من يقوم عليه، وفيه ما يؤدي إلى ضياعه، فإذاً يجوز أن يبتدره من يوفَّق لذلك، ويترك الجمعة.
وإن لم يكن المريض بحيث يخاف عليه لو ترك، ولكن كان يناله ضرر ظاهر في ذلك، على حد الجوع المضرّ الذي لا يبلغ مبلغ الضرورة كما تقدم وصفه، فهل يجوز لمن يريد القيام على المريض أن يترك الجمعة أوْ لا؟ نقول: إن كان يقوم على المريض من يكفيه، ممن لا يلزمه الجمعة مثلاً، فلا يجوز للكامل أن يترك الجمعة بسبب القيام عليه؛ لمكان اشتغال قلبه بالغيبة عنه، بخلاف المنزول به القريب.
وإن لم يكن للمريض من يقوم عليه، وكان يناله ضرر لا يبلغ كفايتُه مبلغ فروض الكفايات، ففي جواز القيام عليه، وترك الجمعة بسبب دفع الضرر عنه أوجه، جمعتُها من شرح التلخيص وغيره، أحدها: وهو الأفقه أن يترك الجمعة؛ فإنا لا نشترط في العذر الذي تترك الجمعة لأجله الضرورةَ، وشدةَ الحاجة، ودرءُ ضرر ظاهر عن مسلم ليس بالهين، وإن لم يكن من فروض الكفايات. وهذا القائل لا يفرق بين القريب والأجنبي، وهو اختيار الصيدلاني.
والوجه الثاني- أنه لا يجوز ترك الجمعة لهذا؛ فإن هذا كثير، ولو تركت الجمعة لمثله، لأدى إلى تعطيلها، فأما الإقامةُ على قريبٍ منزول به، فهو مما يندُر، وما ينال القلبَ عنه من التأسف على فوته شديد.
والوجه الثالث: أنه يفرق بين أن يكون المريض قريباً، أو أجنبياً، والفرق في ذلك يعود إلى اشتغال القلب، وما يناله من مضض الرقة على القريب.
فهذا مجموع القول في ذلك.
1427- وترجمة الفصل أن ترك الجمعة للقيام بفرض كفاية سائغ في القريب والأجنبي، وتركُها بسببِ منزولٍ به جائز في حق القريب، ومن هو على سبب خاصٍ، كما تقدم ذكره، فأما تركها بسبب منزولٍ به أجنبي لمكان صداقةٍ، فلا يجوز أصلاً، إذا لم يكن ثمَّ دفعُ ضرر، وإن كان سبب الإقامة دفعَ ضرر، ليس دفعه من فروض الكفايات، ففيه الأوجه التي ذكرناها.
فهذا تمام البيان في ذلك.
1428- ثم نذكر بعد هذا تفصيلَ القول فيمن يُصلِّي الظهرَ قبل فوات الجمعة، فنقول: أصحاب المعاذير الذين لا تلزمهم الجمعة إذا أرادوا أن يقيموا صلاة الظهر، قبل فوات الجمعة، فيجوز ذلك لهم، ويُجزىء عنهم، ثم إذا كان ذلك العذر بحيث لا يرجى زواله، ولا يتأتى معه حضور الجامع، كالزمانة، فالأولى للموصوف بهذا العذر أن يصلي الظهر في أول الوقت رعاية لتعجيل الصلاة. وكذلك المرأة، وإن كان يتصور منها الحضور، فالأولى أن تلزم بيتها، والأنوثة لازمة، فالأولى لها أن تعجل الصلاة.
فأما أصحاب المعاذير التي يتصوّر زوالُها، كالمريض مرضاً يتوقع أن يخف على الفور، وكالعبد يتوقع أن يعتق، والمسافر يتصور أن ينوي الإقامة، فالأولى لهؤلاء أن يؤخروا الظهر إلى فوات الجمعة.
وكان شيخي يحكي وجهين في معنى الفوات:
أحدهما: أن يرفع الإمام رأسه من الركوع في الركعة الثانية؛ فإنه إذا انتهى إلى ذلك، فقد فاتت الجمعة.
والثاني: أن المرعي في هذا تصوّر الإدراك في حق كل واحد، فإن كان منزل من فيه الكلام بعيداً، بحيث يعلم أنه قد انتهى الوقتُ إلى منتهى لو أنشأ فيه الخروجَ إلى الجامع، لما أدرك الصلاة، فهذا رجل قد فاتته الجمعة، وربما يكون تقديراً في هذا الوقت في ابتداء الصلاة، أو لا يكون بعدُ شارعاً، فالمعشر في حق كل شخص تصور إدراكه.
1429- ثم المعذور إذا صلى الظهر في أول الوقت، ثم زال عذرُه والجمعة غيرُ فائتةٍ بعدُ، فلا يلزمه المصير إلى الجامع؛ فإنه قد أدى فرض وقته، فإذا صلى المريض، والعبد، والمسافر، ثم بَرأَ المريض، وعتق العبد، وأقام المسافر-وإدراك الجمعة ممكن- فلا يلزمهم الجمعة.
1430- قال ابن الحداد: لو صلى الصبيّ الظهر، ثم بلغ، لزمته الجمعة في هذه الصورة، واعتلّ بأنه أقام الظهر، وهو غير مكلف، وليس كغيره من المعذورين الذين لا تنافي معاذيرُهم التكليف. وقد ذكرنا في آخر باب المواقيت أن هذا مردود عليه؛ فإنه فرعه على قياس مذهب أبي حنيفة في أن الصبيَّ إذا صلى الظهر في غير الجمعة في أول وقته، ثم بلغ في أثناء الوقت، فلا يلزمه إعادة الظهر، وإن لم يكن مكلفاً بما صلى.
هذا كله في أصحاب المعاذير.
1431- فأما من لم يكن به عذر ينافي وجوبَ الجمعة، فحقٌ عليه أن يحضرها ويقيمَها، فلو صلى الظهرَ قبل فوات الجمعة، فهل يصح؟ فيه قولان مشهوران:
أحدهما: لا يصح؛ فإن الظهر في حقه في حكم البدل عن الجمعة، وإقامة البدل مع وجوب المبدل وتصوّر القيام به لا يجزىء.
والقول الثاني- يصح؛ فإن الظهر صلاة أُخرى، وهي أكمل في الركعات من الجمعة وأتم فإن لم نصحح الظهرَ، فالأمرُ بحضور الجمعة قائم.
وإذا فاتت، لزم بعد الفوات إقامة الظهر مرة أخرى، وفي رجوع ما جاء به قبلُ نفلاً والحكم ببطلانه القولان المشهوران.
وإن حكمنا بصحة الظهر، فيسقط عنه الأمر بحضور الجامع، إذا أقام الظهر؛ فإنه إذا صح الظهر، استحال بقاء الخطاب بغيره في وقته.
وهذا فيه أمر غريب؛ فإنه بالإقدام على الظهر في حكم الساعي في ترك الجمعة، وذلك معصية. فكأن ما جاء به طاعة من وجه، معصية من وجه.
والاختلاف في صحته قريب من الخلاف في صحة الصلاة المقامة في الوقت المكروه، كما تقدم ذلك في بابه.
1432- ثم لو صلى الرجل الظهرَ، وأجزأ عنه، وكان معذوراً أو غير معذور، فلو حضر مع ذلك الجامعَ، وصلّى الجمعة، فإن فُرض ذلك في معذورٍ، فهو آت بما هو محثوث عليه، نعني بذلك غيرَ المرأة، فالفرض من الظهر والجمعة أيّهما؟ فهذا ينزل منزلة ما لو صلى الرجل في غير هذا اليوم صلاةً منفرداً، ثم أدرك جماعةً، فأعادها، ففي ذلك اختلاف، قد تقدم ذكره، وإن أردنا تجديدَه فقولان:
أحدهما: أن الفرض هو الأول.
والثاني: أن الفرض أحدهما لا بعينه، والله يحتسب بما شاء منهما.
وهذان القولان في حق المعذور.
فأما المصلي بلا عذر إذا صلى الظهر، ثم حضر الجمعة وأقامها، فلا شك أنه خرج عن المأثم الآن، ولكن المفروض من الصلاتين أيتهما، ذكر شيخي هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أن المفروض هو الأول؛ فإنه لو اقتصر عليه برئت ذمته، والتفريع على أن الظهر مجزىء.
والثاني: أن الفرض الجمعة؛ فإنه بها خرج عن الحَرَج.
والثالث: أنهما جميعاًً فرضان.
والرابع- أن الفرض أحدُهما لا بعينه، وقد ذكرنا لهذا نظائر في كتاب الطهارة في باب التيمم عند جمعنا ما يُقضى من الصلوات وما لا يُقضى.
1433- ويترتب على هذا غائلة: وهي أنا إذا قلنا: هما فرضان، فمن ضرورته أن نقول: خطاب الجمعة باقي إلى الفوات، وإن فرَّعنا على إجزاء الظهر، فهذا يضاهي من الصور المذكورة في التيمم، ما إذا أوجبنا إقامة الصلاة في الوقت، ثم أوجبنا قضاءها.
وإن قلنا: الفرضُ الجمعة، فهذا يشابه ما إذا قلنا في تلك المسائل: لا يجب فرض الوقت مع الخلل الواقع لعدم الوضوء والتيمم، والواجب هو القضاء عند إمكان الطهارة.
وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن من صلى من غير وضوء ولا تيمم، وألزمناه القضاء، فلا يسقط عنه القضاء أصلاً، ما لم يأت به، ومن صلى الظهر، ثم تخلف حتى فاتته الجمعة، فقد سقط الفرض عنه، على قولنا الظهر مُجزىء، وعليه نفرع الآن. نعم لو ضممنا في ترتيب المذهب القولَ بأن ظهره لا يصح إلى ما يجزئه، فيخرج حينئذ قول يشبه قولنا بأن القضاء لابد منه في مسألة التيمم.
1434- ويخرج من هذه الأقوال مسألة: وهي أن غير المعذور إذا صلّى الظهر، وقلنا: إن ظهرَه يُجزىء، ولو فاتت الجمعة، لا يجب القضاء. فإذا لم تفت، فهل يلزمه أن يحضر ويصلي الجمعة؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يلزمه الآن، وقد سقط الخطاب لما فرغ من الظهر، وقد أساء، وهذا إذا قلنا فرضه الظهر، أو أحدهما، إذا صلى الجمعة أيضاً.
والثاني: يلزمه الحضور، وهذا إذا قلنا: هما فرضان، ثم لو فاتت الجمعة، كفى الظهر؛ فإنا لو لم نكتف به، لأوجبنا قضاء الظهر، وقد تقدم الظهر مجزئاً.
فليتأمل الناظر حقيقةَ ذلك، وليَحكُم بخبط التفريع على أن الأصح أن الظهر غيرُ مجزىء من غير المعذور.
فصل:
1435- قد ذكرنا فيما تقدم أن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين من أهل الكمال، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في أن الإمام منهم، أو هو الحادي والأربعون، فإذا تجدد ذكر هذا، قلنا بعده:
اختلف قول الشافعي في أن إمام الجمعة لو كان صبياً، أو متنفلاً، فهل تصح جمعة القوم خلفه؟ فأحد القولين لا تصح؛ فإن هذه الصلاة مبناها على رعاية الكمال في أهل الجماعة، والإمام ركنُ الجماعة؛ فإنه لا تتصور الجماعة دونه، فإذا كان متنفلاً، فليس في صلاة الجمعة، والصبي وإن نوى الجمعةَ، فصلاته نفل.
والقول الثاني- أنه تصح جمعة القوم؛ فإن الغرض حصول الجماعة، واختلافُ نية الإمام والمأموم لا تمنع صحة الجماعة عندنا.
واختلاف القول مفرعّ على ما إذا تم الأربعون على الكمال دون الإمام، فأما إذا لم يزد القوم مع الإمام على الأربعين، فكان الإمام صبياً، فلا جمعة؛ فإن العدد قد نقص من أهل الكمال، وكذلك إذا كان الإمام متنفلاً في هذه الصورة.
فليفهم الناظرُ موضعَ التفصيل.
ولو اقتدى أربعون من أهل الكمال فصاعداً بإمامٍ، ثم بان أنه كان محدثاً، ففي صحة جمعتهم قولان أيضاً؛ فإن الاقتداء بالجنب مع الجهالة جائز عندنا في غير صلاة الجمعة.
1436- ثم كان شيخي يرتب هذه المسائل، ويقول: في المتنفل، والصبي، قولان، وفي المحدث قولان، مرتبان، والجمعة معه أولى بالبطلان، والفرق ظاهر، وسيأتي تفريعات على صلاة الجنب توضح ما ذكرناه إن شاء الله.
ولو كان إمام القوم عبداً، أو مسافراً، فإن كان القوم مع الإمام أربعين، فلا جمعة؛ فإنه لم يحصل الكمال في العدد، وإن زادوا، فكمل عدد أهل الكمال دون الإمام، فقد قال شيخي: إن كنا لا نعد الإمامَ من الأربعين، فكأنا لا نعتبر العدد إلا في المقتدين، فنعتبر الكمال فيهم، ولا يضر أن يكون الإمام عبداً، أو مسافراً.
وإذا قلنا: الإمام معدود من الأربعين، فإذا تم القوم أربعين على الكمال، وكان الإمام عبداً أو مسافراً، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الجمعة تصح، وهو ظاهر المذهب؛ فإن العدد قد تم في كاملين، وجمعة العبد صحيحة.
والثاني: أنه لا تصح؛ فإن الإمام إذا عُد في الأربعين، فهو ركن، فينبغي أن يشترط فيه الكمال، وإن كثر القوم وكملوا. وهذا وإن أمكن توجيهه، فلا أعده من قاعدة المذهب.
1437- وترجمة الفصل أن القوم إن كانوا مع الإمام أربعين، وكان الإمام ناقصاً، أو متنفلاً، فلا تصح الجمعة، وإن زادوا، وكان المقتدون الكاملون أربعين، والإمام متنفل أو صبي، فعلى قولين.
وإن كنا نشترط أن يكون الإمام زائداً على الأربعين، فإن كان الإمام عبداً أو مسافراً، وقلنا: الإمام زائد، فتصح الجمعة.
وإن قلنا: يجوز أن يكون الإمام من الأربعين، فلو كمل الأربعون دونه، وكان الإمام الزائد عبداً أو مسافراً، فقد ذكر الأئمة وجهين، والأصح الصحة.
فرع:
1438- المعذور إذا تخلف وافتتح الظهر، ثم زال العذر في أثناء الصلاة، ونحن نفرع على أن غير المعذور لا يصح ظهره، قال رضي الله عنه: أجرى القفال هذا مجرى ما لو تحرم المتيمم بالصلاة على الصحة، ثم رأى الماء في خلال الصلاة، وهذا حسن بالغ، ثم لا يخفى تفريعه في الوجوه المذكورة في التيمم.
فصل:
1439- إذا زالت الشمس يومَ الجمعة، وكان الرجل من أهل استيجاب الجمعة، فلا يجوز له أن يسافر حتى يقيم الجمعة.
ولو لم تزل الشمسُ بعدُ، فهل يجوز له أن يسافر؟ في نص الشافعي تردُّدٌ.
وقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أنه يحرم السفر كما طلع الفجر يوم الجمعة؛ فإن هذا الشعار وإن كان وقته بزوال الشمس، فهو مضاف إلى اليوم، ولهذا يعتد بغُسل الجمعة إذا وقع قبل الزوال.
والثاني: أنه يجوز أن يسافر؛ فإن وقت وجوب الجمعة يدخل بزوال الشمس، فلا معنى للحَجْر قبله.
ومن أئمتنا من قطع بجواز المسافرة قبل الزوال، وحمل نص الشافعي على التأكّد.
1440- قال الشيخ أبو بكر: إنما تردد الأئمة فيه إذا لم يكن السفر واجباً، أو لم يكن سفر طاعة، فإذا كان واجباً، أو طاعة، لم يمتنع الخروج قبل الزوال بلا تردد، واستشهد عليه بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جهز جيش مؤتة، وأمّر عليه جعفر الطيار، وذكر ابنَ رواحة إن أصيب جعفر، فخرجوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُكرة يوم الجمعة، فلما تحلّل النبي عليه السلام رأى عبدَ الله بنَ رواحة، فقال: "ما الذي خلفك عنهم"؟ فقال: "أردت أن أصلي الجمعة ثم أروح". فقال عليه السلام: «لو أنفقت ما في الأرض جميعاًً ما أدركت غُدوتهم».
والذي ذكره فيه بعض النظر: فأما إذا كان السفر واجباً، فلا شك، وهكذا كانت سفرتهم؛ فإن امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم متعيّن، وكان رأَى رأياً، واتبع وحياً، فأما القطعُ بذكره في سفر طاعة لا يجب، ففيه نظر، مع العلم بأن إقامة الجمعة مقدمة على الطاعات التي لا تجب، ولكن ما ذكره متجه؛ من جهة أن الجمعة قبل الزوال لا تجب، فانتظارها قبل الزوال في حكم الطاعة، غير أن مساق هذا يخير في السفر؛ فإن الطاعة إذا لم تجب، جاز تركها بالمباح.
فإن قيل: إذا زالت الشمس، لم يتعين إقامة الصلاة؛ فإن الصلاة إن وجبت، فإنما تجب وجوباً موسعاً، وظاهر المذهب أن من أَخَّر الصلاة لأول وقتها، ومات في أثناء الوقت، لم يمت عاصياً، فهلا خرج وجه في جواز السفر بعد الزوال؟ قلنا: الناس تبع للإمام في هذه الصلاة فلو عجلها، تعينت متابعته وسقطت خِيرةُ الناس، في التأخير، وإذا كان كذلك، فلا يُدرى متى يقيم الإمام الصلاةَ، فتعين انتظارُ ما يكون منه، فهذا وجه التنبيه على أطراف الكلام.