فصل: كتاب أدب القضاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب أدب القضاء:

11878- قال الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...} [المائدة: 44- 45- 47]، وقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26].
وقال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ...} [الأنبياء: 78]، فهذه وأمثالها آيات مشتملةٌ على مخاطبة الأنبياء بالحكم كما خوطبوا بتبليغ الرسالة.
وذم تعالى أقواماً يمتنعون عن الحكم، ومدح آخرين يأتونه مذعنين- فقال في الأولين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48].
وقال في المذعنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
ومن هذا استحب بعض أصحابنا أن يقول المدعوّ إلى مجلس القاضي: سمعاً وطاعةً تأسياً بقوله تعالى؛ فإنه عز من قائل عدَّ هذا من سبيل المؤمنين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أحكم بالظاهر».
وقال: «إنكم تختصمون إليّ» الحديث.
والقيامُ بالقضاء بين المسلمين والانتصاف للمظلومين من الظالمين، وقطع الخصومة الناشبة بين المتلازِمَيْن من أركان الدين، والقيامُ به من أهم الفروض المنعوتة بالكفاية.
ثم روى الأئمة أخباراً في الترغيب في القيام بفصل القضاء وما فيه من مصلحة المسلمين.
والمنصب الأعلى من صاحب الولاية الإمامةُ والزعامةُ العامة، وقد خلا هذا المجموع الموضوع للاحتواء على جميع القواعد، ومعظم الفروع عن مبالغ عظيمة في أحكامِ الولايات؛ لانقباضنا عن الخوض في الإمامة؛ فإن الفقهاء لم يذكروها، وألموا بأطرافٍ منها على نهاية التقصير، وشرطُ خَوْضنا في فنٍّ أن نستتمه أو نوفي على التمام فيه. فمن أراد أحكام الإمامة، فليطلبها من مجموعاتنا فيها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيومٌ واحد من إمام عادل أفضلُ من عبادة ستين سنة، وحدٌّ يقام في أرض بحقِّه أزكى من مطر أربعين خريفاً».
وقال صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله» الحديث.
وقال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّط عليه الإنفاقَ بالحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فعلَّمها الناس، وقضى بها».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون مَن السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وإذا حكموا للناس حكموا لهم كحكمهم لأنفسهم» إلى غير ذلك من الأخبار.
11879- ووردت أخبار في التحذير من الخوض في التزام القضاء.
قال صلى الله عليه وسلم: «من ولي القضاء، فكأنما ذبح من غير سكين» قيل: معناه وقع في أمر عظيم، وقيل: تصدى لأمر لو وفى حقَّه، لأمات شهواته، وقهر نفسه عن الانبساط، وانكف عن المخالطة، فكأنه ذُبح من غير سكين.
وقال علي رضي الله عنه في خطبته: يا أيها الناس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من أمير، ولا والٍ، ولا قاضٍ إلا يؤتى به يوم القيامة ويوقف على الصراط، فينشر له الملائكةُ سيرته، فإن كلان عدلاً، نجاه الله، وإن كان غير ذلك انتفض به الصراط انتفاضة حتى يصير ما بين كل عضوين من أعضائه مسيرة مائة عام، ثم ينخرق به الصراط، فلا يلقى قعر جهنم إلا بُحرّ وجهه وجبينه".
وقال عمر رضي الله عنه: "ما من أمير ولا والٍ إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، أطلقه عدلُه، أو أوثقه جورُه".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن طلب الولاية. قال صلى الله عليه وسلم: «من طلب القضاء وُكل إليه، ومن ولِّي من غير طلب ولا استعانة، بعث الله إليه ملكاً يرشده ويسدده».
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: "لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعنت عليها".
وإنما قدمنا هذه الأخبار لمسيس الحاجة إليها فيما نصدر به الكتاب من طلب القضاء وتقليده وتقلّده، وللأصحاب فيه خبط لا أنزله منزلة اختلافهم في تفاصيل الأحكام. ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات، إذا انتهى إلى هذه المواقف تخبّط.
11880- ونحن ننقل عيون ما ذكره الفقهاء، ثم نوضح المسلك الحق إن شاء الله. قال القاضي: إن كان في الناحية من هو أصلح للقضاء ممن يطلبه، فالطلب من الطالب حرام، ويكره للإمام أن يوليه القضاء، وإن ولاّه، انعقد، ويكره له التقلّد إن أمكنه أن يتعذّل وينسلّ.
ولو كان في الناحية من هو مثله يكره له طلب القضاء، وإن ولاّه الإمام، انعقد، والأولى ألا يتقلد.
وإن لم يكن في الناحية أصلح منه، فلا كراهية في الطلب، بل يستحب أن يتعرض ويطلب، ولو لم يكن في الناحية من يصلح غيره، افترض عليه أن يتعرض، هذا منتهى كلامه.
11881- وذكر العراقيون تفاصيل نستعملها في الطريقة المرضية، فنقول والله المستعان: التصدي للقضاء من فروض الكفايات، ولو فرض القيام به على حقه، كان في مرتبة الجهاد في سبيل الله؛ فإن الجهاد دعوة قهرية لتأسيس الإسلام بدءاً في أقوام، والقيامُ بمصالح المسلمين ضبطٌ لما تحصّل. والأمرُ الذي يُطلب ازدياده، فضبط الحاصل منه إذا قيس بالازدياد أعظمُ الركنين، والأجرُ على قدر النَّصَب، والدرجات العلا لا تنال بالهوينات. هذا كذلك.
وموجب ما ذكرناه التعرض لهذا المنصب، ولكن يعارضه أن الاستمكان من مناصب الولايات يورط النفوس الزكية في الورطات، ويستخرج منها خفايا البليات، حتى كأنها على سكونها في الطيِّ ما لم تُنْشَر، ومن العصمة ما لا يُقْدَر، وهي تنطوي على الأموال والحكم في تصاريف الأحوال، والميل للصديق على العدوّ والتشوف إلى أغراض الانتقام في أدراج الأحكام، والسلامةُ عن جميع هذه الخلال مُعوزةٌ، وواحدة منها تزعزع أركان الدين.
11882- فإذا تعارض هذان الأمران كما وصفنا، فسبيل الكلام بعد ذلك: أن الرجل إذا كان لا يصلح للأمر غيره، فإذا ولاّه الإمام ابتداءً، لم يحلّ له الامتناع، بل تعيّن عليه التقلُّد.
ولو كان كذلك، ولم يولّه الإمام، لم يخل: إما أن يكون مشهوراً عند الإمام، وإما أن يكون خاملَ الذكر، فإن كان خاملَ الذكر، ولم يصلح للأمر غيره، فحق عليه أن يُشهر أمرَ نفسه، ويبيّن محِلَّه من الصلاح للأمر، ولو مست الحاجة إلى الطلب، تعيّن عليه الطلب؛ فإنه لا يصلح غيره، وقد تعين عليه، وفروض الأعيان لا تسقط باستشعارٍ يتعلق بالعواقب والمغيَّبات، بل حكم الله أن يتصدى لما تعين عليه، ثم حق عليه أن يراقب الله فيما لَه وعليه. وهذا كأحكام الإسلام، فالخلق منها على خطر، ولكنهم مدعوّون إلى المراشد مزجورون عن نقائضها، وكلٌّ ميسّر لما خلق له.
هذا إذا كان لا يصلح غيره، ثم يتعين عليه الطلب، ويتعين على الإمام النَّصْب والتقليد.
11883- وإن كان ثَمّ من يصلح للأمر، ولكنه أفضلهم وأصلحهم، فقد اضطرب أرباب الأصول في إمامة المفضول، وإذا منعناها مع القدرة على نصب الفاضل، فلو أراد الإمام أن ينصب قاضياً مع القدرة على نصب من هو أفضل عنه، ففيه تردُّدٌ للأصوليين.
والذي ذهب إليه الأكثرون-وهو المختار- أن نصب المفضول في القضاء جائز، وإن منعناه في الإمامة؛ فإن نصب المفضول للإمامة مع القدرة على نصب الفاضل تفويتٌ لمزية فضل الفاضل على المسلمين، والنظر الكلي من الفاضل عظيم الغناء، وإذا نصب الإمام مفضولاً، ونظرُه من ورائه، وهو يرعاه بالعين الكالئة، فلا تفوت المزية، والعلم عند الله، والتفريع على جواز نصب المفضول للقضاء. فإن ابتدأ الإمام ونصب مفضولاً، فلا معترَض عليه.
11884- وغرضنا الكلامُ في الطلب وقد تصدى لنا فاضل ومفضول، فنتكلم في طلب المفضول، ثم نتكلم في طلب الفاضل:
أما المفضول إذا طلب القضاء، فقد قال القاضي: يحرم عليه الطلب، وهذا مع تصحيح نصب المفضول خطأ، وقد قال: يكره للإمام أن ينصبه، وحكم الطلب يُتلقى من حكم النَّصْب.
والقول الوجيز فيه: أنه إذا جاز النصب وصحّ، فطلبُ الجائز الصحيح كيف يحرم؟ فالوجه الاقتصار على كراهية الطلب مع وجود الفاضل، وسيأتي في هذا مزيد شرح عند ذكر استواء المناصب. وقد تبيَّن المقصود.
11885- فأما الفاضل إذا طلب، فالقول في طلبه لا يستدّ إلا بعد ذكر استواء مناصب الرجال، فنقول: إذا تصدى للأمر طائفة متماثلون في الصلاح للأمر، فيقع الكلام في فصلين:
أحدهما: في نصب الإمام من غير طلب، والآخر- في الطلب.
فأما إذا نصب الإمام واحداً من المتماثلين، فلا يكره له التقلّد إلا إذا كان يغلب عليه استشعارُ الميل عن مواقف الشريعة، فإن كان كذلك، وتمكّن من مقابلة تقليد الإمام بعذرٍ، فلا شك أن الذي يقتضيه الدين الاجتنابُ، والسببُ فيه أن الأمر وإن كان عظيمَ القدر بالغَ الأجر، فالخطر أعظم، ومن تصدى له فرض كفاية، وكان يغلب على ظنه غررٌ ينال نفسَه، فحق عليه أن يجتنب. وبيانُ الفصل عند نجازه.
وإن لم يغلب عليه استشعار المخالفة من نفسه، وقد قلده الإمام بدءاً من غير طلب منه، فينبغي أن يتقلد؛ جرياً على قول المصطفى عليه السلام: «إن أوتيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها».
وذكر العراقيون وجهين في وجوب التقلّد عند تقليد الإمام، وهذا فيه إذا كان تقليده جازماً، فأما إذا كان على خِيَرة، فلا وجوب؛ فإن الشيء إنما يجب إذا أوجب الإمام القيامَ به، وجزم الأمرَ فيه، ثم الوجهان فيه إذا لم يستشعر من نفسه المخالفة، فإن استشعرها، فالحِذارُ ما وجد إليه سبيلاً.
هذا قولنا في النَّصْب مع تساوي الدرجات.
11886- فأما الطلب-وهذا أوان الكشف التام فيما سبق وبقي- فنقول: للطالب ثلاثة أحوال: إحداها- أن يعلم من نفسه اغتلامَ الشهوات وثورانَ القوى الغضبية والتشوّفَ إلى تعدي المواقف، فمثل هذا تشتد الكراهية في حقه في الطلب، وإن قيل: أيرقى الكلام إلى التحريم؟ قلنا: إن كان يطلب ويُضمر ما ذكرناه، فالتحريم؛ فإنه طلب أمانةً مع قصد الخيانة، والمودَع إن قصد بقبض الوديعة الخيانةَ، فهو ضامن، ومن التقط لقطة، وهو يقصد تغييبها، فهو ضامن لا يَتَوصَّل إلى تملكها وإن عرّفها.
وإن طلب ولم يقصد الخيانة، وقصد أن يتوقَّى جهدَه، فالكراهيةُ، وليس كما لو كان يقتحم إلى فرض كفاية مخاوفَ محسوسةً كأُسدٍ ضارية أو ما في معانيها؛ فإن ما يتوقع من الأخلاق الرديئة لا ينتهي إلى ما يحسّ من أسباب التلف. هذه حالة.
الحالة الثانية- ألا يحسَّ من نفسه هَيْجاً وسَرَفاً في الأخلاق، وما كان اختبر نفسه في مخامرة الأمور العظيمة، فهو على خطر من أمره.
فإذا أضمر التقوَى، فله حالتان: إحداهما- أن يكون فقيراً محارَفاً يبغي كَفافاً من رزق يُدَرُّ عليه، فلا نطلق الكراهية والحالة هذه، وإن كان معه كفاف وبُلغة، وهو على غرر، ولم يغلب على ظنه الميل، فلا تشتد الكراهية، ولكنا نطلقها.
الحالة الثالثة- أن يكون قد اختبر نفسه في عظائم الأمور ولم ينقِم هَيْجاً ومجاوزةَ حد، فهذا تصدَّى له منصب عظيم في فروض الكفايات، وظنٌّ غالب في اقتحام المخالفات، وهو في التقاسيم كلها مستقل بالأمر: فمن أصحابنا من يطلق الكراهية، والرأي عندنا نَفْيُ الكراهية في هذا المقام، ثم إذا نفيناها، فهل يُستَحَب الطلب؟ فعلى وجهين: أقيسهما- أنه يستحب؛ لأنه طلبُ تلبّسٍ بكفايةِ مُهمٍّ عظيم.
ولولا عموم الأخبار في التحذير، لصححنا هذا الوجه، والعلم عند الله.
فإن قيل: إذا كنتم تطلقون التحذير ولا تخصصون بشخص، فهذا يؤدي إلى انكفاف الناس قاطبة عن هذا الأمر المهم؛ فإنهم يتخاذلون ويتواكلون، فيتعطل الأمر؟ قلنا: لا مخافة من هذا، والمحذور التكالبُ على العمل، والازدحامُ عليه؛ فإن النفوس تستحث أربابها على طلب أسباب الاستعلاء، فمن حِكْمة الشرع تغليبُ التحذير، والجبلاتُ تغالبه، حتى يتوقع منه اعتدالٌ في الإقدام.
وهذا يناظر من أصول الشرع قولنا: لا يجب على الزوج أن يستمتع، وإن قطعنا بأن الغرض الأظهر من النكاح إعفافُ الزوجين عن السفاح، وهذا فيها بمثابته في جانب الزوج، ولكن اكتفى الشرع في جانب الزوج باستدعاء الجبلّة بحكمةٍ بسيطة ذكرناها في موضعها.
11887- وقد كنا أبهمنا قولاً في طلب الفاضل، وفيما ذكرناه بيانه، فإن كان يغلب على الظن أمنُه من العدوان، فالطلب أفضل له، ومزية الفضل تمحو الكراهية، وإن كان يعلم من نفسه التعدي والهيج، فالحِذار؛ فهذا لا يكافئه مطلوبٌ في الباب، ولا فرق في هذا المقام بينه وبين واحد، والمناصب مستوية، وإن لم يعرف من خُلقه محذوراً، ولم يختبر نفسه في العظائم، فالقول فيه كالقول في واحد مع استواء الرتب، إلا أن الكراهية إن أطلقناها، فهي أخف. وإن ذكرنا خلافاً، فهو على استواء الرتب.
وقد انتجز القول في طلب القضاء وتقلُّده وتقليده، واستعمالنا ما ذكره الأصحاب حيث رأينا استعمالَه.
فصل:
قال: "وأن يكون في غير المسجد لكثرة الغاشية... إلى آخره".
11888- ظاهر ما نقله المزني أن التصدي للقضاء في المسجد لا يلتحق برتبة المكروه، ولكن الأَوْلى تركُه، وكلام الشافعي في مجموعاته ناص على الكراهية.
قال في الكبير: "إذا كنت أكره القضاء في المسجد، فأنا لإقامة الحد في المسجد أكره".
والقول في إثبات الكراهية ونفيها مع المصير إلى أن الأولى غيرُ ما فيه الكلام مما يكثر فيه خبط الفقهاء، ولا يحيط به من لم يقف على مسالك التحقيق في ذلك من فن الأصول. ونحن نقول: كلُّ ما جُرّد إليه قصدٌ في النهي عنه، وثبت أنه ليس نهيَ تحريم، فهو نهيُ كراهية.
ثم المكروه له رتب، كما أن المندوب له رتب، وإنما نشأ الاضطراب من سؤالٍ ونحن نؤخر الجواب عنه، وهو أن استغراق الأوقات بالخيرات مستحب، ولا يوصف ترك الاستغراق مع الإتيان بالمندوبات المشروعة بكونه مكروهاً، والسبب فيه أنه لم يرد نهيٌ مقصود عن ترك استغراق الأوقات.
والتعويل في ثبوت الكراهية على ثبوت نهي على فعلٍ من غير تحريم، كما أن التعويل في ثبوت التحريم على ثبوت نهي مقصود يجري على حقيقته.
والتردد الذي في نص الشافعي في اتخاذ المساجد مجالسَ القضاء أتى مما ذكرناه؛ فإنه لم يرد في ذلك نهي مقصود، ولكن متعلَّق القضاء أمور ورد فيها النهي المقصود، كرفع الأصوات وإدخالِ الصبيان المساجدَ، ومنعِ النسوة الحُيَّض مع مسيس الحاجة إلى رفعهن إلى مجلس القضاء، فكان التردد لهذا.
والأصح إطلاق الكراهية؛ فإن الأمور التي أشرنا إليها من أركان القضاء.
ثم ما ذكرناه في اتخاذ المسجد مجلساً على اعتياد، فلو اتفق فصل قضيةٍ أو قضايا معدودة في بعض الأيام من غير اعتياد، فلا بأس، وكثيراً ما كان يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومَحْمَلُه ما ذكرناه.
11889- ثم قال: "لا حجاب دونه... إلى آخره".
ذكر الصيدلاني وجهين في أن القاضي هل يتخذ حاجباً؟ ثم ذكر طريقين في محمل الوجهين: إحداهما- أنه إذا لم يجلس للحكم، فله ذلك، وإن جلس للقضاء فوجهان.
والطريقة الثانية- عكس هذه، ولا معنى عندنا للخلاف في ذلك، ولكن إن كثرت الزحمة، وكانت المصلحة في اتخاذ حاجب ليمنع الزحمة، اتخذه، وإن كانت المصلحة على خلاف ذلك، اتبعها، وكذلك إذا استخلى بنفسه لحاجته الخاصة، فلا بأس لو أجلس بواباً، فلا مساغ للخلاف في ذلك.
11890- قال: "وجلس في أرفق الأماكن... إلى آخره".
ينبغي للقاضي أن يرتاد للقضاء موضعاً رفيقاً، إن كان في الصيف تخير ظلاً في مهبّ الرياح، وإن كان في الشتاء ارتاد كَنيفاً. وليكن المكان متسعاً لا يضيق من الخصوم والمتصلين بهم من غاشية المجلس. وإنما رأينا اختيارَ مكانٍ موافقٍ للزمان حتى لا تُسرع الملالةُ ولا تظهر بسببه المَضَرّةُ على القاضي والمرتفعين إليه.
11891- ثم قال: "ومعقول في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقضي القاضي... الخبر".
روى الشافعي رضي الله عنه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» أو قال: «لا يحكم الحاكم» شك الشافعي.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان».
والغرض من الفصل أن كل معنىً يورث مللاً، أو حدّة في الخُلق، أو خللاً في البصيرة مانعاً من التثبت والتأمل، وتوفية الاجتهاد حقَّه، فلا ينبغي أن يقضي القاضي وهو به، كالجوع، والعطش، والمرض، والغضب، والحزن البيّن، فإن احتد احتداداً لا يمنعه من الاستداد، فإن كان احتداده لله تعالى، فهذا لا ينافي ما ذكرناه مع مَلْكه نفسه فيما يتعلق بحظِّه، وذكر الأصحاب في ذلك تغير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير بن العوام، إذ ارتفع إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع جارٍ له في سقي بساتين من وادٍ بالحرّة، وكان بستان الزبير أعلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك»، فقال: ذلك أن كان ابن عمته، فتغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ في الحديث أنه قال ذلك ولوى شدقه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسق أرضك حتى يبلغ الماء الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك».
11892- ثم قال: "وأكره له الشراء والبيعَ... إلى آخره".
لا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه: لأنه لو فعل، فربما يحابَى استحياء منه، أو طلباً لاستمالة قلبه ليميل في حكمه. ولهذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر-وكان تصدق بفرس- فرآه معروضاً على البيع، فأراد شراءه: «لا تَعُد في صدقتك». أراد أن المتصدَّق عليه ربما يستحيي فيحابي، فيكون كالراجع في مقدار مما تصدق به.
وإن وكل القاضي وكيلاً، فينبغي ألا يكون وكيلُه معروفاً به لما ذكرناه.
11893- ثم قال: "ولا أحب أن يتخلف عن الوليمة... إلى آخره".
إجابة الداعي مسنونة، وفيها الأخبار التي رويناها في باب الوليمة من كتاب الصداق، والقاضي يجيب الداعي على شرط ألا يخصص بعض الدعاة عن بعض، فيورث التخصيصُ تهمةً في الميل وضعفاً في قلوب الذين لم يجبهم؛ فإنهم قد يرتفعون مع الذين أجابهم إلى مجلسه على انكسار في قلوبهم.
ثم كما لا يخصص داعياً، فكذلك لا ينبغي أن يحضر مأدبة هُيّئت لأجله؛ فإن ذلك يورث المعنى المحذور.
وكذلك لو دعي مع طائفة من المعتَبرين لا يشوبهم من عامة الخلق أحد؛ فإن الداعي يبغي بما يفعله من ذلك الاستظهارَ والتجملَ بحضور القاضي دارَه، ولكن يشهد مأدبةً يشهدها من عامة الخلق من يبطل بسببه معنى التخصيص.
11894- ثم قال: "فإذا بان له من أحد الخصمين لدَدٌ... إلى آخره".
من أساء الأدب في مجلس الحكم أو جاوز الحد المشروع في الخصام وانتهى إلى اللدد، فالحاكم ينهاه، فإن عاد زَبَرَه، فإن أصر عليه عزّره، ويجري في ذلك على سجيّة الزوج في زجر امرأته على النشوز، كما قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34، الآية].
فصل:
قال: "ويشاور... إلى آخره".
11895- المشورة مستحبة. وقد أثنى الله تعالى على أقوام يعتادودن ذلك. فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وأمر رسوله عليه السلام بالمشورة، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، قيل: جمع سياقُ الآية مكارمَ الأخلاق.
ثم قال: "قال الحسن البصري: "إن كان صلى الله عليه وسلم من مشاورتهم لغنيّاً"، ولكنه أراد أن يستنَّ به الحكامُ بعده". والأمر على ما ذكره.
ثم اندفع الشافعي لبيان الاجتهاد، وذكر مجامعَ من طُرقه، حتى انتهى إلى الرد على أصل الاستحسان، وتقسيم الأقيسة وذكر مدارك الأحكام، والفصل بين قياس المعنى، وقياس الشبه، ولو خضنا في هذا المخاض، لكنّا حائدين عن شرط هذا المجموع الذي مبناه على ألا يخرج بالفقه فيه شيء إلا على قدر الحاجة، والذي أشار إليه معظم أصول الفقه، ولو طلبنا حقائقه، لزاد ما نأتي به على الفقه من كتاب أدب القاضي، ولو اقتصرنا على المبادىء، لم ننته إلى الحقائق، وهي المطلوبة من الأصول، فمن أرادها، طلبها من مجموعاتنا في الأصول موفقاً إن شاء الله.
11896- ثم انتهى مساق كلام الشافعي إلى القول في نقض القضاء. وهذا مقصودٌ من هذا الكتاب، نضطر فيه إلى فضلِ بيان. وقد اضطرب أرباب المذاهب فيها، حتى انتهى الأمر إلى عدّ مسائلَ والطمعِ في حصرها، ولا يصدر هذا إلا عن قلة البصيرة، وعدم الاطلاع على أصل الفصل، ولا حاجة إلى ذكر ما ذُكر؛ فإن الكلام في هذا من محض الأصول، وإذا تولينا معانيها وما فيها، فقد تولّى القوسَ باريها.
فنقول: كل مسألة يتعلق القول فيها بالقطع، فمن حاد عن مُدرك الصواب نُقض عليه حكمه، وكل مسألة لا مستند لها من قاطع فإذا جرى حكم الحاكم فيها بمذهبٍ، وهو في محل التحري، ومساق الظن، فلا سبيل إلى نقض الحكم فيه، ثم حقيقة القول في هذا يستدعي الإحاطة بمدارك القطع، ولا طمع في الخوض فيها إلا على قدر الحاجة.
فنقول: إذا خالف الحكمُ نصَّ الكتاب، أو نص السنة المنقولة قطعاً، أو إجماع الأمة، فلا شك في النقض. فإن خالف خبراً صحيحاً نقله الآحاد، أو خالف القياس الجلي، فقد يُفضي الأمر إلى النقض.
والضابط فيه أن كل مسألة مبناها بعد الأصول الثلاثة التي ذكرناها يرجع إلى ترتيب الأدلة-والكلامُ فيما يُقدَّم منها- فالمسألة قطعية، وهذا كاشتمال المسألة على خبر لا يُؤَوَّل، وقياسٍ في معارضته، كمسألة خيار المجلس، والمصراة، والعرايا، وإباحة الجنين إذا تذكى بذكاة الأم، وفي المسألة حديث أبي سعيد الخدري، فالقول فيها وفي أمثالها يؤول إلى مراتب الأدلة، فنحن نقدم الخبرَ، والخصمُ يقدم القياس غيرَ متشوّف إلى تأويل، ووجوب تقديم الخبر مقطوع به، وهو من جليّات مسائل الأصول.
ومما نذكره عند هذا المنتهى أن من لا يرى تقديم القياس، ولكن يعتمد تأويلاً عند نفسه-وهو باطل عند الأصوليين- فلا مبالاة بتأويله، والمذهب المبني عليه باطل قطعاً.
والقول في مراتب التأويلات جمعناه في كتاب من كتب الأصول، وكل مسلك يختص به أصحاب الظاهر على القيَّاسين فالحكم بجنسه منقوض، وبحقٍّ قال حبرُ الأصول القاضي أبو بكر: إني لا أعدّهم من علماء الأمة، ولا أبالي بخلافهم ووفاقهم.
وصرح الشافعي بما يتضمّن إبطالَ الحكم المستند إلى الاستحسان، والقولُ فيه: إن أصحاب الاستحسان ربما يُسندون ما يَرَوْنه إلى خبر، كمصيرهم إلى أن الناسي لا يُفطر الأكل؛ لخبر أبي هريرةَ فيه، وكلُّ مذهبٍ مستندٍ إلى خبر، فهو متلقى بالقبول، وعبارة صاحب المقالة عن هذا بالاستحسان على نهاية السخافة والغثاثة؛ فإن قبول الخبر لا محيد عنه، والاستحسانُ يشعر بتردد وميلٍ خفي إلى جانب.
ومعظمُ قواعد الاستحسان استصلاح جلي أو خفي لا أصل له في الشريعة، ومعنى قول صاحب المقالة: الاستحسان مقدم على القياس: أن القياس الجاري على وفق قواعد الشريعة مؤخر عن استصلاحٍ لا أصل له في الشريعة.
وقد عبّر الشافعي عن غور هذا الفصل بكلمات وجيزة، إذ قال: "من استحسن فقد شرَّع".
11897- ومما يتعلق بغرضنا أن المسألة إذا كان مستندها في النفي والإثبات القياس من الجانبين، فإذا اتجه في أحدهما قياس جليّ تقضي قواطعُ الأصول به، وفي الجانب الآخر متعلَّق خفي، فالمسألة من مسائل النقض إذا صادف الحكم المدركَ الخفي، ويجمع هذا النوعَ أن الجانب الجلي يسترسل في أقيسة الشريعة، والجانب الخفي يستمسك بشواذَّ ونوادرَ، يتكلف صاحبه ربطَ الكلام بها، وينتظم له فن من التعقيد سببه شذوذُ متعلقاته، وهذا كحكمنا بأن المأذون له في التجارة يقتصر على النوع المأذون فيه؛ فإنه عبد مملوك يتصرف فيما ليس له بذن مالكِه ومالكِ رأس المال.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يبني مذهبه على أنه يتصرف لنفسه، وقد يعتضد بالعهدة، وغاية الكلام فيها تعقيد لا يناسب مسالك الأقيسة الجلية.
ومما يجري النقض به إذا تردد مذهبان بين موافقة قاعدة كلية وبين مجانبتها والتزام جزئها كمسألة المثقّل، ومعظم مسائل الحدود والغصوب.
فإن قيل: ما من مسألة مبناها على القياس إلا ويشتمل أحد المذاهب فيها على قياسٍ مقدم في المرتبة، وقد ذكرتم أن ما يتعلق بترتيب الأدلة، فالنقض متسلط عليه.
وتمام البيان في ذلك أنه إن تقاوم المسلكان وعرف الأصولي تقاومَهما، ثم حُكْم الله في تقاوم المآخذ بيّنٌ، فقد يكون تخييراً، وقد يكون تغليباً، إذا ثبت التغليب في الفن، فإذا لم يكن تقاوم، فلا تميّز إلا بالرتبة.
ثم القواطع منها جلي، ومنها خفي يتوصل إليه بمزيد فكر. وعلى ذلك تجري المعقولات.
قلنا: هذا الآن سرف ومُجاوزة حد، ويلزم منه جريان النقض في جميع المسائل، والقول المقرّب إلى الضبط أن الكلام إذا تعلق بالترجيح، فلا يكاد يُفضي إلى القطع، فقد يتعارض قياسان لا يَتَوصَّل الأصولي إلى إيقاعهما في مرتبتين لازدحام مسائل الفقه، وتداني الأقدام في ادعاء الجلاء والخفاء، وهذا يعرفه الفقيه.
ولا ينفصل فيه أمر يقطع به الأصولي. وهذا القسم الذي إليه الانتهاء موضعُ تصويب المجتهدين على رأي، والحكم بأن المصيب واحد لا بعينه في رأي.
ولو قال قائل: كل ما لا يتعين فيه مصيب، أو يصار فيه إلى تصويب المجتهدين، فلا يجري فيه نقض القضاء، لكان كلاماً مستقيماً راجعاً إلى ما اعتبرناه من ثبوت القطع وعدمه.
11898- وقد ذكر الشافعي مسائل في نقض القضاء، فنذكرها تيمناً؛ قال: من فرّق بأكثر كلمات اللعان، وأقامها مقام الكل نقضتُ قضاءه.
وقال: من حكم بأن امرأة المفقود إذا تربصت أربع سنين، واعتدت عدة الوفاة، نكحت، نقضتُ قضاءه، وإن قال به عمر.
وروي أن مَخْلدَ بن خُفَات ابتاع غلاماً واستغله زماناً فأراد أن يرده بالعيب، فقضى عليه عمر بن عبد العزيز برد العبد والغَلَّة، فروى عروةُ عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قضى في مثل ذلك أن الخراج بالضمان، فنقض عمر قضاءه.
وقضى شريح في امرأة ماتت وخلفت زوجاً وابني عم أحدهما أخ للأم: بالنصف للزوج، وبالباقي لابن العم الذي هو أخ لأم، فأخبر به عليٌّ رضي الله عنه، فقال عليّ بالعبد الأبظر-أو قال بالعبد الأشط- والأبظر العظيم الشفتين، والأشط معلوم، وكانت له شعرتان ممتدتان إلى سرته، فأُتي به. فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: كتاب الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، فنقض علي قضاءه.
وكتب عمر إلى أبي موسى لا يمنعك قضاء قضيتَه ثم راجعت نفسك، فهُديتَ الرشد أن تنقضه؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وقضى عمر في مسألة المشرّكة بإسقاط الأخ من الأب والأم بعد أن كان شرك، فقيل له: شرّكت في العام الأول، فقال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي. فلم ير مسألة المشتركة مما يجري النقض فيها لتعارض الاجتهاد. وهذا حق كما رآه.
ثم روى الشافعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد وأصاب فله أجران".
وقد أثنى الله تعالى على داود باجتهاده مع خطئه في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78 الآية]، قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت أن الحكام قد هلكوا.
ثم قال بعض العلماء: أجر المخطىء على مقابلة قصده في طلب الصواب، وقال آخرون: هو على مقابلة استداده في بعض النظر، والمخطىء في الغالب يستدّ أولاً، ثم يزورّ، والمسلك الأول أقرب؛ فإنه قد يحيد في أول نظره عن سنن الصواب، وهو مأجور بحكم الخبر المأثور، حملاً على قصد الثواب. ولو أخطأ القاضي، وتعيّن له الخطأ، فحق عليه أن يُتْبع خطأه بالنقض، ويستفرغ في استدراكه الجهد.
ولو علم أنه أخطأ في قضيته، لكنها استبهمت عليه واختلطت بالأقضية، فيتعيّن عليه البحث، فإن بذل الجهد ولم يعثر، فلا عليه، وإذا كان قبله مصروفٌ قضى به. فليس عليه أن يتَّبع أقضيتَه، ولكن ما رفع منها إلى مجلسه وادُّعي فيها شططٌ، قضى فيها بموجَب الشرع، وسيأتي في الصارف والمصروف وصفات القضاة فصولٌ منتظمة في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "وإذا تحاكم إليه أعجمي لا يعرف لسانه لم يقبل الترجمة عنه إلا بعدلَين... إلى آخره".
11899- القاضي لا يتصور أن يكون أعجمياً؛ فإن الشرط أن يكون مجتهداً على المسلك الأصح، كما سيأتي إن شاء الله.
ومن ضرورة ذلك أن يكون عليماً بلغة العرب، فإن الشريعة عربية. فإن كان أحدُ الخصمين أو كلاهما أعجمياً، والقاضي لا يعرف لسانهما، فلابد من الرجوع إلى قول المترجم.
ثم نَجري على عادتنا في نقل ما ذكره المعتبرون من أئمة المذهب، ثم ننعطف على المنقول بالبحث.
قال الأئمة في الطرق: لابد من مترجمَيْن؛ فإنهما ينقلان أقوال المتداعِيَيْن إلى القاضي، فكانا بمثابة الشاهدَيْن.
ولو كان بالقاضي وَقْر وطرش، وقد لا يسمع في مجلسه كلام المتداعِيَيْن الجالسَيْن بدنو منه، فلابد من المُسْمِع.
11900- ثم اختلف الأصحاب في اشتراط العدد فيما ذكره القاضي، فقال بعضهم: لابد من اثنين كالترجمان، والثاني يُكْتَفى بمُسمع واحد، لأنه لو غيّر المسمع بالزيادة والنقصان، لاعترض عليه الخصمان. فإن كان أحد الخصمين أصم، اكتفى بمسمع واحد على هذا الوجه؛ لأنه لو غيّر والقاضي سميع، لأنكر عليه القاضي، وإن كانوا كلهم-الخصمان والقاضي- صُمّاً، فلابد من مسمعَين.
وهذا كلام مختلط، فيجب أن نعتقد أن المترجم كالمُسْمِع قطعاً؛ فإن كل واحد منهما ناقلٌ للقاضي: أحدهما ينقل معنى اللفظ، والثاني ينقل اللفظَ بعينه، فلا معنى للقطع باشتراط العدد في الترجمان وترديد الخلاف في المسمع، بل الوجه أن نقول: إن كان الخصمان عارفين بالعربية لا يغيب عنهما مُدْرَكُها، ولكنهما لا يحسنان النظم؛ فهذا بمثابة ما لو كان الخصمان سميعين والقاضي أُطروشٌ، والحكم في الصورتين أن القاضي إذا احتاج إلى التلقي من المتوسط بالترجمة أو الإسماع والخصمان مُدركان؛ فالوجه أنهما إذا أدركا ما جرى، وقرّرا المترجِمَ، كفى
مترجم واحد، وحق القاضي أن يعتمد تقريرهما، ولو استظهر بإشارتهما، فحسن.
وأطلق الأصحاب ذكر الوجهين في هذا المقام التفاتاً إلى قاعدة التعبد بالعدد، وهذا لا وجه له.
ولو كان القاضي والخصمان صماً، أو كان الخصمان أعجميين، وليس بالحضرة غيرُهم ومن يترجم أو يسمع فالوجه القطع باشتراط العدد.
وذكر بعض أصحابنا وجهين في المُسمع، وهذا إن اتجه، وجب إجراؤهما في المترجم، وإلا فلا فرق.
ولو كانوا صماً، أو كان الخصمان أعجميين لا خبرة لهما بلسان القاضي، وكان بالحضرة عدول يسمعون، أو يعرفون لسان القاضي، ولغة الخصمين، فإذا ترجم المترجم، أو أسمع المسمع-والحالة هذه- فينقدح في هذه الصورة وجهان؛ من قبل أن الحضور لا تتعلق الخصومة بهم، والأظهر الاكتفاء بمترجم واحد، ومُسمِع واحد؛ فإن الذين شهدوا المجلس لو سمعوا تغييراً لأبدَوْا نكيراً.
وعندي أن هذا الخلاف فيه إذا لم يكن الشهود موصَّين من القاضي بالإصغاء ومراقبة الحال، وهذا هو المسلك الحق.
ولو كان القاضي سميعاً والخصمان أصمان، أو أحدهما، فلابد من مسمع بينهما، فيكفي المسمع الواحد، والقاضي رقيب عليه. وكذلك القول في المترجم؛ فإن القاضي موصىً شرعاً بالمراقبة ومطالعة حقيقة الحال.
11901- ثم ينشأ من هذا المنتهى أن الترجمة والإسماع ليسا على حقائق الشهادات، وإنما يجريان واسطتين بين قول الخَصْم ودَرْك القاضي، ولذلك اختلف التفصيل باختلاف الأحوال كما رتبناها. وعدد الشهود لا يختلف.
ومن الدليل على ذلك أنهما في الخصومات المتعلقة بحقوق الآدميين يجريان من غير تقدم دعوى؛ فصار العدد حيث نرعاه استظهاراً أو شهادة؛ ولهذا قال الأئمة: إن اكتفينا بمترجم واحد، أو مُسْمِعٍ واحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، فإن شرطنا العدد، ففي اشتراط لفظ الشهادة وجهان، وهذا لطيف؛ فإن النقل من غير قرينة تؤكد الثقة يقتضي الاستظهار بالعدد، والخروج عن رتبة الشهادة وما يُرعى فيها من تقدم الدعوى يوجب ألا يشترط لفظ الشهادة، ولا أعرف له نظيراً في الشريعة، والأوجه اشتراط لفظ الشهادة إذا اشترطنا العدد.
وعلى الوجهين لابد من اعتبار صفات الشهود بعد العدالة والثقة من الحرية وغيرها، فإذا اكتفينا بواحد، فلا يشترط لفظ الشهادة، وفي اشتراط الحرية خلاف يداني خلافَ الأصحاب في قول المخبر عن هلال رمضان.
والأصح أن نُجريَ المترجمَ والمُسمعَ-إذا لم يُشترط العدد- مجرى الراوي.
11902- فإذا أردنا نظم مجامع الكلام؛ فالمترجم والمسمع على ما قدمنا. وقطع الأصحاب باشتراط العدد في المقوّم إذا اتصل القضاء به؛ فإنه مَناطُ الإلزام، وهو أمس للّزوم وأخص به من الترجمة.
ولا يشترط العدد في القائف تأسّياً بالحديث، وعليه معوّل القيافة.
واختلف الأئمة في القاسم والخارص، فقال قائلون: هذا بمثابة الحاكم، فلا عدد، ومنهم من اشترط العدد، وهو القياس كالمقوّم، وليس يتجه بين المقوم والخارص فرق؛ فإن كل واحد منهما يبني قوله على التخمين والحَدْس مع الاستمساك ببصيرةٍ عنده. ولولا حديث عبدِ الله بن رواحة بالخرص، لقطعنا بإلحاق الخارص بالمقوّم، وفيه فقه خفي المُدرك- وهو أن الخرص لا يخلو من نوع مجازفة، فالحكم به يقع اتباعاً لمورد الشرع، ولو فرضنا خارصين، لبعُدَ اتفاقهما، وفيه تعطيل التعويل على الخرص، فيبقى بعد ذلك النظر إلى القسمة والتقويم.
فنقول: إذا كان القسمة لا تستقل إلا بتقويم؛ فلابد من اشتراط العدد، وإن كانت القسمة مرجعها إلى درك الأقدار المحسوسة، فهي من وجه كالتقويم، ومن وجه يُكتفى فيها بالواحد الخبير الموثوق به، فإنه ليس يشهد بشيء، وإنما يمهّد أمراً وينشئه، ولو كانت كالشهادة، لما قُبلت شهادة قسّام وإن كثروا؛ فإنهم عن أفعالهم يُخبرون.
هذا تنزيل القول في هذه القواعد.
فصل:
قال: "وإذا شهد الشهود عند القاضي، كتب حِلْيَة كلِّ رجل... إلى آخره".
11903- مضمون الفصل من أقطاب القضاء وأركانه، ونحن بعون الله تعالى نأتي بالمقصود منقحاً مصححاً إن شاء الله، فنصدِّر الفصل قائلين: الاستزكاء حق الله تعالى. وحقٌّ على القاضي أن يرعاه، ولا يقفَ وجوبَ رعايته وبذلَ المجهود فيه على طلب الخصم، وإذا أحاط علمُ القاضي بعدالة الشهود، لم يَحْتفل بطلب الخَصم الاستزكاء؛ فإن القضاء بظاهر العدالة من غير بحث عنها لا مساغ له، وعماد الشهادة تحصيل الثقة، وتغليب الظن بالصدق، وهذا لا يحصل إلا بقول العدل الرضا، ثم وراء الثقة تعبدات، مُدْرَكُها توقيفات الشرع. وما ذكرناه يطرد في الأموال والعقوبات، وما يقل ويكثر.
ولو قال المشهود عليه: الشهود عدول ولكنهم زلّوا في شهادتهم، فلا يكون التعديل منه إقراراً بالحق المدعى، وهل يقضي عليه القاضي بتعديله شهودَ الخَصم؟ ذكر صاحب التقريب وجهين:
أحدهما: أنه لا يقضي عليه بشهادتهم، بل يستزكيهم، لما حققناه من أن الاستزكاء حق الله تعالى.
والوجه الثاني- أنه يقضي عليه، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنه اعترف بما إذا ثبت، ثبت الحكم عليه؛ فوجب القضاء بموجَب اعترافه.
ووراء ذلك لطيفة، وهي أن القاضي لو عرفهم فَسَقَةً، لم يقض وجهاً واحداً، وإنما محل التردد فيه إذا لم يُحِط القاضي ببواطن أمور الشهود.
11904- ومما نرى ذكره على الاتصال بهذا أن الشهود لو كانوا عدولاً أو زكّاهم المزكّون-كما سنصف إن شاء الله- فارتاب القاضي لنظرٍ له في الواقعة، وخيالٍ قد يُدركه الفطن. قال الشافعي: في هذه الحالة إذا ارتاب القاضي بحال الشهود، فرّقهم، ويسأل كلَّ واحد منهم على حدته: يسأله عن المكان الذي تحمَّلَ فيه الشهادة؛ والوقتِ الذي تحمَّل فيه الشهادة، وعمن كان معه. وهو في هذا كله يبغي الاستدلال على عورةٍ-إن كانت- وليس ما ذكرناه استظهاراً محبوباً، بل هو حتم.
ثم ليس على الشهود أن يذكروا المكان والزمان، وإنما ينفع ما ذكرناه مع الأغبياء وذوي الغِرّة، فأما الفقهاء إذا روجعوا لم يزيدوا على إعادة الشهادة، ولو قالوا: لا نذكر الزمان والمكان، ولكنا نتحقق ما شهدنا به، فليس للقاضي-والحالة هذه- أن يجبرهم على التعرض لما ذكرناه، ولكن لو بقيت ريبة القاضي وازداد ارتياباً من إصرار الشهود على ترك ما يراجَعون فيه؛ فللقاضي أن يبحث عن جهات أخرى، فعساه يطَّلع على مطعن، فإن لم يكن، تحتم عليه إمضاء القضاء، مع انطوائه على الريبة لقيام البيّنة العادلة.
فإن قيل: لو ابتدر القضاء والإمضاء؟
قلنا: لم ينفذ قضاؤه؛ فإن حقه ألا يقضي إلا بعد بذل المجهود في التبيّن وطلب غلبة الظن.
فإذا وضح ذلك، فالبحث عند الارتياب من حق الله أيضاً، لا يتعلق بطلب الخصم، لما ذكرناه في أصل الاستزكاء.
نعم، قد يكون قول الخصم سبباً في وقوع الريبة، فإذا وقعت، شمّر لإزالتها، طلبَ الخَصْم إزالتها، أو لم يطلب. فهذه مقدمة في أصل التزكية.
11905- ثم إنا نذكر بعدها مراسمَ الحكم في الاستزكاء بكَتْب الرقاع إلى المزكين، فليأخذها الناظر على وجهها، والفقه وراءها، فمِنْ رَسْم القضاة أن يكتبوا إلى المزكي حِلْيَة الشهود، ويرفعوا في أنسابهم، ويذكروا أسماء آبائهم وأجدادهم، وأن الشاهد مولى فلان-إن كان عليه ولاء- ويذكر صناعتَه وسكنَه ومُصلاه إن كان يعتاد أداء الصلاة في مسجد، ويذكر حلية المدعي والمدعَى عليه ونسبَهما، وما يؤدي إلى تفريعهما على النسق المذكور في الشاهد، ويذكر قدر المشهود به وحليتَه ونوعه.
والمقصودُ من ذكر الخصمين والشهود إعلامُ المزكي، حتى إذا عرفهم بدون ما ذكرناه من المبالغات، فالغرض تعريفه ليكون على بصيرة من الواقعة وأصحابها والشهود فيها، ويُخفي عن كل واحد من المزكين ما كتب إلى صاحبه، ويُخفي عن الخصم الاستزكاء.
11906- قال الشافعي: "المستحب أن يكون أصحاب مسائله جامعين للعفة في النفس والمطعم، وافري العقول، بُرآء من الشحناء ومماطلة الناس".
فمن أصحابنا من قال: أراد بأصحاب المسائل المزكِّين، وقال بعضهم: أراد الرسل الذين يحملون الرقاع إلى المزكين للبحث عن أحوال الشهود.
قال: ينبغي أن يكون المزكون غيرَ مشهورين للناس بهذا المعنى؛ فإنهم لو شُهروا، فربما تتطرق إليهم الخديعة.
ولا ينبغي أن يكونوا من أهل الأهواء، فإنهم ربما يعتقدون ضلالةَ عِصابةِ الحق فيجرّحُونهم أو يتوقفون في تعديلهم، فهذه مراتب ذكرها الأصحاب للقضاة.
11907- ونحن نذكر على الاتصال بها فقهَ الفصل، ثم ننعطف على هذه المراتب، ونذكر ما فيها من مستحب ومستحق، ومختلف فيه ومتفق عليه.
والذي نبتديه الآن التعرض لبيان الاكتفاء بالكِتْبة، أو اشتراط التصريح بالجرح والتزكية، ثم إذا نحن ذكرنا بعده اشتراطَ العدد في المزكين، نذكر بعدها كيفية التزكية وشرطَها، والجرحَ ومعناه، ونصل به تعارضَ الجرح والتعديل، وبعد ذلك كله نعطِفُ البحثَ على المراسم.
فأما الغرض الأول: فقد ذكر العراقيون طريقين في التزكية وما يقع به تعديل الشهود: إحداهما- لأبي إسحاق، وذلك أنه قال: لا يثبت التعديل ما لم يصرح المزكّيان بالتعديل أو الجرح، ولا تعويل على الرقاع وأجوبتها، ولا على أقوال الرسل المترددين بين القاضي وبينهم. وهذا قياس بيّن لا حاجة إلى إيضاحه.
قالوا: وقال الإصطخري: إذا أخبر الرسلُ عن أقوال المزكّين، كفى. ولا يكلف حضور المزكّين في كل تعديل، ثم قال: لا يقع الاكتفاء بأجوبة الرقاع أصلاً، بل لابد من تصريح رسولين بما سمعاه من قول المزكين، فيخبران عن كلِّ مُزَكٍّ، والقدرُ الذي احتمله الإصطخري الاكتفاءُ بأقوال الرسل، وإن كانوا في مقام الفروع، مع القدرة على السماع من الأصول، وإنما احتُمِل هذا القدرُ حتى لا يشتهرَ المزكّون، ولا يكثر ترددهم، وزعم أن الذي يقتضيه مجلس القضاء هذا. والذي ذكرناه هو القول في اشتراط السماع من الأصول أم الاكتفاء بأقوال الرسل؟
11908- فأما العدد، فأحسن ترتيب فيه أن المزكِّي لا يخلو إما أن يكون مولّىً من جهة القاضي في البحث عن العدالة والجرح، ويكون حاكماً في هذا النوع، وإما أن يكون مستشهَداً في التزكية والجرح، فإن نصب القاضي حاكماً في التزكية والجرح، جاز ذلك.
ويتفرع على صورة كونه حاكماً أن له أن يراجع مَنْ رآه أهلاً للمراجعة في التزكية والجرح ويُصغي إلى الشهادة في هذا المقتضى ويحكم به بعد بذل الوسع في الاحتياط.
ويبتني على هذه الحالة أن قوله مقبول وحده؛ فإنه حاكم، وقول الحاكم مسموع في استمرار ولايته.
فاما إذا لم يُنَصِّب حاكماً في التزكية، ولكن يراجعُ معيَّنين مراجعةَ الشهود، فعلى هذا يشترط العدد بلا خلاف؛ فإن عماد القضاء الجرحُ والتعديل، فلابد من الاستظهار الأكمل فيه.
ثم إذا اشترطنا العدد، وضممنا إليه اشتراط السماع من المزكين، فلابد من لفظ الشهادة، وإن اكتفينا بقول الرسل، فقد ذكر صاحب التقريب على قياس مذهب الإصطخري وجهين في اشتراط لفظ الشهادة. وسببُ التردد ميلُ أقوال الرسل عن القاعدة في أنها مقبولة مع إمكان الوصول إلى الأصول، ولكن العدد لابد منه وفاقاً، كعدد المترجِم حيث يُقطع باشتراطه، ثم يُتردد في لفظ الشهادة، كما ذكرناه في المترجم.
11909- فأما الكلام في صفة التزكية والجرح: فالقول فيها يتعلق بمأخذهما، وكيفية العبارة عنهما.
فأما مأخذهما، فإن كان المرء يزكي بنفسه، ويشهد بناء على ما ظهر له، فلا يكفي النظرُ إلى ظاهر العدالة والبناءُ على تحسين الظن؛ فإن الشاهد لو اكتفى بظاهر العدالة، لما احتيج إليه، ولاكتفى القاضي بظاهر العدالة، فلابد إذاً أن يكون الشاهد على العدالة خبيراً بباطن من يزكيه مخالطاً له في الأحوال التي يظهر فيها مكنون الأسرار، وتكون مخالطته في الأحوال التي وصفناها على امتدادٍ في الزمان.
والأصل في ذلك ما روي أن رجلاً شهد عند عمر بن الخطاب، فقال: "أما إني لا أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك فأتني بمن يعرّفك، فجاء رجل فعدّله، فقال عمر رضي الله عنه: هل كنت جاراً له فتعرف إصباحه وإمساءه؟ فقال: لا، فقال: هل عاملته على الدينار والدرهم؟ وفيهما تعرف أمانات الرجل، فقال: لا. فقال: هل صحبته في السفر؟ وفيه تمتحن أخلاق الرجال. قال: لا. قال: فإذاً أنت لا تعرفه، فائتني بمن يعرّفك".
والمعنى-مع الجوامع التي ذكرها عمر- أن الناس يخفون عوراتهم ويغطونها جهدهم، ولا يتحقق الاطلاع على نقاء السريرة، ولكن لا أقل من التوصل إلى ما يُغلِّب على الظن، وذلك يحصل بما ذكرناه من الخبرة الباطنة.
وأما الجرح فمأخذه الاستيقان والعيان، أو ما جرى مجراه. هذا قولنا في مآخذ الجرح والتعديل.
ومما يتصل بهذا أن المزكي إذا عدّل، فحقُّ القاضي أن يبحث عن علمه بباطنه بَحْثَ عمرَ في الأثر المروي. والسبب فيه أنه قد يعتقد جوازَ البناء على الظاهر والأخذَ بتحسين الظن؛ فإذا بحث القاضي أزال الشك ببحثه.
وإن علم أن المزكي خبير بالتزكية عالم بأن التعويل على البواطن، وقد ألف ذلك منه وراجعه فرآه خبيراً بصيراً غيرَ مكتفٍ بالظاهر، فإذا أطلق مثلُ هذا المزكي التعديلَ؛ فالأصح أن القاضي لا يحتاج إلى مراجعته في إسناد تزكيته إلى الباطن.
ومن أصحابنا من شرط هذه المراجعة في كل تزكية؛ تمسكاً بأثر عمر؛ وهذا غير سديد، والأثر محمول على علم عمر بأن المعدِّل لم يكن خبيراً بمأخذ التعديل، وقد تحقق ذلك لما راجعه كما روينا الأثر.
11910- فأما لفظ التزكية، فإن قال المزكي: هو عدلٌ رضاً، لم يكفِ ذلك، حتى يقولَ: مقبولُ الشهادة؛ فإن العدل الرضا، قد يكون مغفلاً. نعم، تثبت العدالة بما قال، ثم يُستخبر بعد هذا عن الأسباب المانعة من قبول الشهادة، كما سنصفها إذا انعطفنا، إن شاء الله، على المراسم التي ذكرناها أولاً.
ومن عبارات المزكين، وهو من أبلغها وأوقعها: "عدلٌ عليَّ ولِيَ " وهذه العبارة شائعة على ممر الدهور، وقد يقدرها من كان مبتدئاً في سماعها مجملة.
والأصحاب مجمعون على حملها على موجب ما يتفاهمون منها. هذا كيفية التعبير عن العدالة.
فأما الجرح فلا يكفي الإطلاق فيه، ولابد من التنصيص على سبب الجرح؛ فإن الناس مختلفون فيما يقع الجرح به، واتفق أئمة المذاهب لذلك على أنه لابد من التصريح بسبب الجرح؛ فإن نسَبه إلى الزنا، فلابد وأن يقول: رأيته يزني، أو سمعته يقر بالزنا، وهكذا القول في كل ما ينسبه إليه، فلابد من التصريح فيه، والإضافة إلى الرؤية أو سماع الإقرار.
ومن أصحابنا من قال: لا يشترط هذه المبالغة، بل يكفي ما ينبّه على ما يقع به الجرح لا محالة، وهذا خرّجه بعض العراقيين على طريقة الأصطخري؛ فإن مبناها على طرف من المسامحة، ووراء هذا سرٌّ، وهو أن المزكّيَيْن إذا صرحا بالنسبة إلى الزنا، ففي العلماء من يجعل الشاهدين على الزنا إذا لم يساعدهما شاهدان آخران قاذفين، فحقيقة هذا التردد تعود إلى من يجعل الشاهدين والثلاثة على الزنا قَذَفَةً، فهم مترددون في هذا المقام، فمنهم من يستثني مقام الجرح، ولا يجعل نسبة الزنا في هذا المقام قذفاً، والسبب فيه الحاجة، وأن المزكي مُراجَع مستخبَر، والقاذف من يبتدىء من غير مراجعة.
ومن أصحابنا من يجعلهم قذفة لو صرحوا، إذا نقصوا عن عدد شهود الزنا، فعلى هذا لا يكلفون التصريح، ثم يجب احتمال ما يأتون به إذا عرّضوا، وحتى لا يقضى بتعرضهم لاستيجاب التعزير، وهذا تمهيد عذر المراجَع المستخبَر، وعليه يحمل قول الرسول عليه السلام «اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس».
فهذا تمهيد القواعد في التزكية والجرح، ونحن نذكر بعدها فروعاً شذّت عن ضبط الأصول.
فرع:
11911- لا تثبت العدالة إلا باثنين، كما لا يثبت الجرح إلا باثنين. فلو عدّل اثنان وجرح اثنان، فالجرح أغلب؛ فإن الجارح ينص على ثابت، ومستند شهادة المعدلِّ انتفاءُ الجَرْح بظن غالب تلقاه من طول المخالطة والمعدِّلُ لا يكلَّف سبب التعديل؛ فإن أسباب العدالة لا تنضبط.
ولو عدّل رجلان وجرح واحدٌ، فلا مبالاة بالجرح؛ فإن البينة لم تكمل بتعددها في الجرح، وكمُل عددُ البينة في التعديل.
قال أبو إسحاق المروزي: إذا عدل اثنان وجرح واحد، قال القاضي للمدعي: "زِدْ في شهودك". وهذا إن كان استظهاراً منه غيرَ واجب، فهو محتمل، وإن كان حتماً؛ لم يخلُ إما أن يكتفي بشاهدٍ أو يشترط شاهدين. وعلى أي وجهٍ أدار، فلا وجه لما اختار، والظنُّ به أنه أراد الاستظهارَ، ولم يُلزم ما ذكره من الازدياد والاستكثار.
فرع:
11912- أجمع علماؤنا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والجرح، حتى إن علم أحدَهما بالمسلك الذي يعلم الشاهد به بنى قضاءه على علمه-قالوا- وهذا متفق عليه. وإن اختلف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه؟
ورأيت لبعض المحققين في هذا كلاماًً لطيفاً، وذلك أنه قال: إن علم القاضي الجرح، قضى بعلمه، ولم يبال بشهادة المعدِّلَيْن على التعديل، وإن ظهر عنده سببُ التعديل ظهوراً يجوز الشهادة به، فهل له أن يكتفي بعلمه أم يستزكي؟ فعلى وجهين، والأظهر ما قدمناه.
فرع:
11913- إذا توقف المزكون في التعديل، توقف القاضي إذا لم يكن عنده علم، وليس للمزكي أن يجرح بفعل لم يعاينه، ولا بقولٍ لم يسمعه، والقول والفعل لا تجوز الشهادة عليهما بالتسامع، والجرح شهادة. نعم، يتوقف عن التعديل. وإذا توقف المزكون، توقف القاضي.
ولو تحقق عند القاضي الفسقُ بالتسامع، ولم يشهد عنده شاهدان، فلو شهد معدلون على العدالة، فالرأي الذي يجب القطع به أنه لا يقضي بالشهادة؛ لأن ما تحققه أقلُّ مراتبه أن يقتضي توقفاً. والقاضي قد يتوقف لريبة، كما ذكرناه في صدر الفصل.
فرع:
11914- إذا قضى القاضي بعدالة شاهد، ثم شهد ذلك الشاهد في واقعة أخرى، فإن طالت المدة، وكان القاضي غيرَ خبير بحاله في المدة المتخللة، فهل للقاضي أن يقضي بشهاته؛ بناء على العدالة التي ثبتت في القضية الأولى؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يقضي ويستصحب ما ظهر عنده إلى أن يثبت عنده جرح.
والثاني: أنه لا يقضي إذا بعُد العهد بالبحث، فلابد من استزكاء جديد، وهذا ما مال إليه جمهور الأصحاب.
ووجهه أن الأحوال حُوّلٌ، والإنسان عرضةُ التغايير والحَدَثان، ويعز في الناس المقيمُ على الخير، المستقيمُ على طاعة الله تعالى، وهذا القائل يقول: ينبغي ألا يغفل القاضي المسألة عن صفة الشهود الذين ينتابون مجلسه للشهادة. ثم قال العراقيون: إذا راعينا البحث على الإدامة، فلو ترك البحث عمن ثبت عدالته عنده ثلاثة أيام كان ذلك محتملاً، وفحوى كلامهم إيجاب البحث وراء ثلاثة أيام.
ولست أرى أن يتقدر ذلك، ولكن المرجع في قرب الزمان وبعده إلى العرف الغالب، فكل مدة يتوقع في مثلها طريان تغايير، فإذا خلت عن المسألة، فلابد من تجديد البحث بعد هذه المدة عند إقامة الشهادة، ولا ضبط لذلك، ولا سبيل إلى تقدير، والرجوع إلى ما يغلب على ظن القاضي.
فرع:
11915- في قبول تزكية الوالد ولدَه، والولدِ والدَه، وجهان:
أحدهما: لا تقبل؛ فإنها شهادة بإثبات فضيلة، والثاني: تقبل؛ لأنه لم يُثبت له حقّا.
وفي قضاء القاضي بشهادة ابنه للغير أو على الغير وجهان مأخوذان من المأخذ الذي ذكرناه؛ فإن القضاء بالشهادة حُكْمُه بالتعديل.
والأصح عندنا أنه يقضي بشهادة ابنه إذا عدَّله شاهدان، كما يقضي لابنه على خصمه إذا أقام البينة، فأما إذا عوّل في تعديل ابنه وتنفيذ القضاء بشهاته على علم نفسه، فهذا موضع التردد. وهو بمثابة الشاهد بتزكية ابنه.
فرع:
11916- ظهر اختلاف الأصحاب في أن المزكين إذا رجعوا عن التزكية بعد نفوذ القضاء هل يغرّمون غُرْم الشهود إذا رجعوا؟
وهذا الخلاف قريب من اختلاف القول في رجوع شهود الإحصان في الزنا.
والجامع أن كل واحد من الشاهدين يتعرض لفضيلة، وإن لم يكن منها بد في نفوذ القضاء.
فرع:
11917- حق على القاضي أن يرتب المزكين والمترجمين، وإن كان بأُذنه وقر، فينبغي أن يرتب المُسمِع.
ثم إن كان لا يترتب هؤلاء إلا بمُؤْنة، فقد ذكر أئمتنا وجهين في مؤَنهم:
أحدهما- أنها على طالب الحق؛ فإن قيام هؤلاء يتعلق بحقه، والمترجِم هو الذي يتمم الدعوى في مجلس القضاء، وكذلك المسمع والمزكي يوضح البينة ويتمّمها.
ومن أصحابنا من قال: ليس على المدعي ذلك، كما ليس عليه أن يبذل للقاضي شيئاً، وإن كان هو الناظر الأكبر وبنظره تتم المقاصد. ولو كان مستقلاً بمعرفة اللغات أو كان حادّ السمع أو مطلعاً على حال الشهود، لما احتاج إلى هؤلاء المزكّين. فإن أوجبنا المؤنة على طالب الحق، فعلى كلٍّ مقدارُ أجر المثل فيما يتعلق بحقه صومته.
فرع:
11918- لا تقبل التزكية إلا من رجلين، وإن كان الشهود شاهدين على مال، وكذلك إذا شرطنا العدد في الترجمة، فلابد من رجلين، وإن كانا يترجمان شهادةً في مال. وهذا بمثابة الشهادة على الوكالة في المال، فإنها مشروطة بالذكورة؛ نظراً إلى الوكالة في نفسها.
فصل: متصل بما نحن فيه.
قال: "ويسأل عمن جَهِلَ عدالته سراً، اذا عُذل سأله تعديله علانية... إلى آخره".
11919- إذا جرى التعديل سراً، وكان لا يُبعد القاضي أن يوافق اسمٌ اسماً ونسبٌ نسباً، فينبغي أن يطلب تعديل العلانية، ومعناه أن يكلف المزكي الإشارة إلى من عدّله، حتى يزول الرَّيْب. وما قدّمناه من التعديل سراً، لم نعن به الرقاعَ وأجوبتَها، وإنما عنينا اللفظ، ولو مست الحاجة بعد ذلك إلى الإشارة إلى الشاهد، فهذا هو الإعلان، وإن كان الأمر لا يتمّ إلا بالإعلان، فلا بأس لو اقتصر سراً على أجوبة الرقاع تعويلاً على طلب الإعلان، وهو ابتداء التزكية المعتبرة.
ومن أسرار هذا الفصل أن اللَّبس لو كان لا يزول إلا بالإشارة، فلابد منها، وإن كان يزول اللَّبس بالتسمية لاشتهار الشاهد باسمه، فليست الإشارة شرطاًً؛ فإن الإشارة إنما تشترط إلى مشهود عليه تعلقت الدعوى به أو إلى مشهود له- وهو الطالب، ولا يتحقق في التزكية هذا؛ فإن الشاهد ليس يدعي شيئاً حتى يَشهد المزكي له به، ولا يُدَّعَى عليه حق حتى يَشهد عليه.
11920- وإذا وضح هذا، فقد حان من هذا المنتهى أن ننعطف على المراسم التي قدمناها في صدر الفصل. فنقول: أولاً، لا يشك الفقيه في حسن تقديم الرقاع على الترتيب الذي ذكرناه؛ فان المرتَّب للتعديل والجرح ربما يحتاج إلى البحث، وإطالة الفكر، وأحسن مسلك يمهِّد إمكان ذلك من غير شَهْر تطرق اللهم إلى المزكين ما ذكرناه.
فقد قال سَوّار بن عبد الله: اثنان لم أُسبق إليهما، ولا يتركهما حاكم بعدي: المسألة في السر، ثم المسألة في العلانية، ولا يستريب فقيه أن ترتيب الرقاع ليس أمراً مستحَقاً، ولو اتفق الهجوم على السؤال قطعاً، لما امتنع، ثم إن كان عند المسؤول علم أعربَ عما يراه، ولو لم يكن عنده علم، استمهل ونظر، غيرَ أن الأحسن ما قدّمناه.
وقد يقول القائل: هذه المراسم لم تُعرف في زمن الخلفاء المهديّين. قلنا: أجل، ولكن كانت العدالة في الذين يشهدون غالبة. وأهل العصر برآء عن التعرض للتهم. وما ذكره الأئمة من الترتيب لائق ببني الزمان، والماضون-وإن لم يفعلوا ما ذكرناه- مهّدوا لنا بَذْل الاحتياط على أحسن الإمكان في كل زمان.
هذا قولنا في كَتْب الرقاع.
والتعرضُ للمدعي والمدعَى عليه والشهود لأقصى غايات الإمكان في الإعلان ركنٌ عظيم: أما الشهود، فكيف يبحث المزكي عنهم إذا لم يعلمهم؟ أما المدعي، فلابد من إعلامه أيضاً، وقد يستبين المزكي بينه وبين الشهود حالة توجب ردَّ شهادتهم له، من أبوة أو شركة في الواقعة، أو ما جرى هذا المجرى، مما سنصفه في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
وأما المدعَى عليه، فقد يدرك المزكي بين الشهود وبينه عداوة أو لدداً في خصومة يوجب مثلُها ردَّ الشهادة، فإن لم يقع التعرض لما ذكرناه، فالتعديل في الشهود يَثْبت، ولكن يبقى على القاضي نظرٌ فيما وراء التعديل من المعاني التي ذكرناها.
ومما قدمناه في المراسم ذكر مقدار الحق، وفي هذا فقه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك احتياط وليس باشتراط؛ فإن التعديل عندنا في اليسير والكبير على نسق واحد. وأبعد بعض أصحابنا فقال: لا يمتنع أن يزكي المزكي الشاهد في المقدار النزر، ويتوقف في المقدار الخطير؛ فإن المشهود به إذا عظُم خطره أَحْوَجَ إلى مزيد فكر. وهذا كتخصيصنا تغليظَ الأيمان بالأمور المُخْطرة والعظيمِ من المال، وهذا غير سديد، ولا لائقٍ بمعتبرنا الواضحِ وقياسِنا البيّن في طلب التعديل من الخبير ببواطن الشهود، وإذا كان كذلك؛ فلا معنى لاشتراط ذكر المدعَى. ولا يُنْكر كونُه احتياطاً.
فهذا نجار القول في التزكية. وقد اشتمل ما ذكرناه على المراسم أولاً، وبعدها تمهيد الأصول، وبعدها استدراك ما لم يندرج تحت ضبط الأصول برسم الفروع، وبعدها البحث المميِّز بين الاحتياط وما لابد منه.
فصل:
قال: "ولا ينبغي أن يتخذ كاتباً حتى يجمع أن يكون عدلاً عاقلاً... إلى آخره".
11921- إذا اتخذ القاضي كاتباً، فينبغي أن يكون وافرَ العقل، عدلاً، ثقة، بعيداً عن الغباوة، نَزِهاً عن الطمع.
قال الله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وهذا يدل على أن التعرّض لطلب الولاية جائز إذا يوجد الطالب الصالح لها. ثم نجري على الترتيب المقدم في طرد المراسم وفي الانعطاف عليها بالبحث.
11922- قال الشافعي: "ويتولى القاضي ضم الشهادات... إلى آخره".
على القاضي أن يعقد محضراً لما يجري فيه بين الخصمين في مجلسه، ويُثبت فيه الدعوى والإنكارَ والبيّنةَ-إن كانت- ويثبت أسماءَ القوم، وإن احتاج أثبت حُلاهم، ثم يجمع محاضرَ كلِّ يوم في إضبارة، ثم يكتب عليها اليومَ، ويوضحُ التاريخَ، ثم يضم محاضرَ الأسبوع في قِمَطْر، ويكتب عليه ما يوضح التاريخَ، ولو ختم على كل إضبارة وقمطرٍ كان حسناً. ثم إذا اجتمعت محاضرُ شهر، جعلها في قمطرٍ كبير، ثم كذلك يفعل في السنة، ويجعلُها في خَريطة، ويحرص على التمييز.
ويُثْبت في المحاضر نهايةَ التفصيل، وينبغي أن يتولى ذلك بنفسه، أو يُفعلَ بين يديه، وحسنٌ أن يدفع نسخة إلى صاحب الحق؛ فإن فاتت نسخته، رجع إلى ما خُلّد في مجلس الحكم، وهان عليه الوصول إلى خريطة السنة، ثم إلى الشهر، ثم إلى الأسبوع، ثم إلى اليوم.
هذا ذكر المراسم، ووجه الاحتياط فيها بيّن.
وإن امتنع القاضي من الكِتْبة، وكان صاحبُ الحق يستدعيه، ويبغي التوثقَ بالسجل المكتوب؛ فهل يتعيّن على القاضي إجابته إلى ملتمسه؟ وهل له أن يمتنع عن الكِتْبة؟ فعلى وجهين- ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه لا يجب عليه الإجابة إلى الكِتْبة؛ فإنه لا تعويل على المكتوب، وإنما المعوّل على التذكُّر عند مسيس الحاجة، والثاني: أنه يجب إسعافُ الخَصم؛ فإن الخطوط وإن كان لا تُعتَمد فهي مذكِّراتٌ، وما كتَبْتَه تقيّد، وما أهملته تشرّد.
ثم إذا أراد القاضي أن يكتب، فالكاغد من طالب الكِتْبة؛ فإنه الذي يبغيها، ولو أراد كَتْب المحضر، فإن كان يعرف الخصمين بأسمائهما وأنسابهما بين المحضرَ عليها، ولا بأس لو ضم إلى الأسماء والأنساب الحِلْيَة تأكيداً، وإن كان لا يعرف نسبهما واسمهما، فيكتب في المحضر حضر المجلس خصمٌ، وذكر أنه فلانُ بنُ فلانٍ، وادعى على من زعم أنه فلانُ بنُ فلانٍ، ويعوِّل على الحلية؛ فإنه ليس يعرف الاسم والنسب، هذا صيغة المحضر.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه لا يعقد المحضر مع الجهل بالأنساب والأسماء؛ فإن التعويل على الحِلْية، والحِلْية تحول، ولا تثبت.
وهذا ليس بشيء، والمذهب ما قدمناه.
ونشّأ الأئمة من فصل الكِتْبة خلافاً شهّروه في أن القاضي لو كان أمياً هل يجوز؟ فذهب الأكثرون إلى جواز ذلك، وكان سيد البشر صلى الله عليه وسلم أمياً، وهذا يعتضد بما ذكرناه من ترك التعويل على الخطوط، كما سنوضحه من بعدُ.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يكون القاضي أمياً لكثرة الحاجة إلى الكِتْبة، والنظر في المكتوب، وكل ما يظهر أثره ويتضمن نقصاً بيّناً، فيجب ألا يتصف القاضي به. وسنجمع في ذلك قولاً ضابطاً عند ذكرنا شرائطَ الولاة.
فصل:
قال: "ولا يقبل من ذلك ولا مما وَجَدَ في ديوانه إلا ما حَفِظ... إلى آخره".
11923- غرض الفصل بيان ما أجريناه من أن الخط لا معول عليه، وبيانُه في حق الشاهد أنه لو رأى خطَّ نفسه في تحمُّل الشهادة، ولم يتذكر تحمّله لها، فليس له اعتماد الخط في إقامة الشهادة، وكذلك القاضي إذا رأى خطَّه متضمناً إمضاء القضاء، فإن تذكره، جرى عليه، تعويلاً على الذكر دون الخط، وإن لم يذكره، توقف، وسنذكر في كتاب الدعاوى-إن شاء الله- أنه يجوز للإنسان الاعتماد على الخط في الحلف، وقد يسوغ أن يعتمد خط أبيه إذا كان معتمَداً عنده، ويبني عليه الحلف، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
وإنما غرضنا الآن بيانُ حكم الشاهد والقاضي، وليس لواحد منهما أن يعتمد الخط، وكنا نراجع شيخَنا فيمن يتحمل الشهادة، ويثبتُها في ديوانٍ عنده، ثم يضعها حيث يقطع بأنه لا وصول إليه من جهة أحد، ويعلم على اضطرار أنه لا يُثبت في ذلك الديوانَ إلا ما تحققه، فإذا اطلع عليه، فكيف السبيل فيه؟ فربما كان يقول بعد تردد: هذا تذكر، وإنما نمنع اعتمادَ الخط إذا لم يجر مثلُ ما ذكرناه، فكأنّا نقول: صورةُ الخط لا تعتمد مع إمكان التزوير وتشبيه الخط بالخط.
فأما إذا تحقق واضطر إلى الدَّرْك، جاز الاكتفاء بذلك.
ورأينا الأصحاب في الطرق لا يسمحون بهذا، ويطردون اشتراط التذكر، وقيامَ الواقعةِ في وجدانِ النفس، وهذا على هذا الحد قد يحسم إقامةَ الشهادة، سيّما إذا كثر الأشهاد، وازدحمت الخصوم، فهذا ما أردناه.
ومما يليق بهذا المنتهى أن الشاهد لو نسي التحمل، فذكّره عدول، وقطعوا أقوالهم بتحمله، فإن تذكر لما ذُكِّر، عوّل على ذكره، لا على أقوال المذكّرين.
والتذكير منصوص عليه في الكتاب، فقال عز من قائل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وإن ذكِّر فلم يذكر، فلا حكم للتذكير، وهذا متفق عليه من الأصحاب.
11924- وكذلك قالوا من عند آخرهم: لو قضى القاضي بأمرٍ، فروجع فيه، فلم يتذكّر قضاءه، فلا شك أنه لا يعوِّل على الخط، كما قدمنا ذكره، فلو شهد عنده عدلان على أنك قضيت لفلان بموجب خطك هذا، أو لم يتعرضا للخط، وشهدا على القضاء، فالقاضي لا يعوّل على شهاتهما؛ بل إن تذكّر واستيقن، فذاك، وإلا وقَفَ الأمرُ، وتوقف القاضي.
ولو شهد الشاهدان بعد عزل هذا أو موته عند قاضٍ آخر، وقالا: نشهد أن فلاناً قضى لفلان، فيثبت القضاء على هذا الوجه. والسبب فيه أن الإنسان يطلب من نفسه اليقين، ولا يكتفي بالظاهر. ولا يثبت قوله في حق الغير إلا بطريق الظاهر، فكان كل مسلك مبنيّاً على الممكن فيه.
فإن قيل: أليس الشيخ في الحديث يقول: "حدثني فلانٌ عني " إذا كان روى، ثم نسي ما روى، كما قال سهيل ابن أبي صالح: حدثني ربيعةُ عني أني حدثته عن أبي حديث القضاء بالشاهد واليمين. قلنا: للأصوليين كلام في هذا وتفصيلٌ، وقد شرحناه في مجموعات الأصول.
ثم التعويل في الروايات على الثقة المحضة، ولهذا لا يشترط فيها العدد والحرية، والشهادات والبينات مبنية على أقصى الإمكان في كل باب؛ فلم يقع الاكتفاء فيما نحن فيه بخط ولا بشهادة الشهود.
وقد اشتهر عن أبي يوسف-رحمة الله عليه- التعويل على الخط وعلى شهادة الشهود بالقضاء عند ذلك القاضي.
ثم قال الأئمة: إذا قال شاهدان للقاضي: قد قضيتَ لفلان، فإن تذكّر عوّل على تذكّره، وإن لم يتذكر، لم يتعرض للشهود بالتصديق ولا بنقيضه، فإنه إن صدقهما، كان قاضياً بموجَب قولهما، وإن أبدى مراءً، كان ذلك قادحاً في شهادتهما عند قاضٍ آخر، فلا يسوغ له أن يقدح ويسد بابَ الإثبات.
ومما ذكره الفقهاء أن المحدِّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع كتاباً، وضبطه جهده، وكان ذلك الكتاب عنده، بحيث يعلم أنه لم يتسلط عليه أحد بالتغيير، فلما أراد روايته، لم يتذكر سماعه لأعيان تلك الأحاديث؛ فإنه ما كان حفظها ولا استظهرها حديثاً حديثاً، فالذي ذكره معظم الأصحاب أنه يجوز له التعويل على الكتاب، وقطْع الرواية بما فيه تعويلاً على الثقة التي هي معتمد باب الرواية.
وقال الصيدلاني: سبيله سبيل الشهادة؛ فلابد أن يتذكر عين ما يرويه على تفصيله، وإلا فلا يروي. وهذا تعمق منه يخالف ما اتفق عليه علماء الأمصار.
11925- ومما ذكره القاضي أن الخصم المحكوم له إذا ادعى على القاضي أنك قضيت لي، فرفعه إلى قاضٍ آخر، وأراد أن يحلّفه، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يملك ذلك.
قال القاضي: يُبنى هذا على أن النكول مع اليمين المردودة يجري مجرى البينة، أو مجرى الإقرار؟ فإن قلنا: يجري مجرى البينة، فلا حكم لها؛ فإن البينة لو قامت، لم يقع بها حكم. وإن قلنا: يجري مجرى الإقرار، فيحلّف، وإذا نكل رُدّ، ثم يمين الرد ينزل منزلة إقراره.
وهذا الذي ذكره كلام مختلط، والظن أن الخلل من الناقل؛ فإنه ذكر أن قضاءه لا يثبت بالبيّنة، والمراد بذلك أنه لو شهد عنده عدلان بأنك قضيتَ، لم يثبت القضاء ما لم يتذكر، ويتصور إثبات القضاء بقامة البيّنة في مجلس قاضٍ آخر، وطريق البيان فيه أنه إن عُزل، فلا حكم لإقراره بالقضاء، كما سيأتي، ولو قامت بيّنة عند من هو القاضي بأنه قضى في زمن ولايته، نفذ الحكم.
وإن كانت المسألة مفروضة فيه إذا كان قاضياً، فإن شهد شاهدان على قضائه في موضع ليس هو محل ولايته يثبت القضاء، ولو انتهى القاضي إلى ذلك الموضع، لم يقبل إقراره بالقضاء.
فإن صحّحنا قاضيين في بلدة وحُكْمُ كل واحد منهما نافذ فيها، فلو شهد شاهدان على قضاء القاضي عند القاضي الآخر؛ فهذا محل النظر. والظاهر أن البيّنة مسموعة، فلو أراد الخصم أن يحلّف هذا القاضي عند ذلك القاضي أنك قضيت، فالذي أراه أن القاضي تكلّم في هذه الصورة.
وحكى عن الأصحاب أنه لا يحلف، وقال من عند نفسه: يجوز أن يحلف في مجلس القاضي الآخر.
ثم التحليف ينبغي أن يقع على التذكر، فإن حلف: لا أذكر أني قضيت له، انقطع الكلام. وإن نكل، وحلف من يدعي القضاء، فقد يتخيّل أن يمين الرد كإقرار القاضي، وهذا بعيد. والوجه ما ذكر الأصحاب من أنه لا يحلّف؛ فإنه لا خصومة معه، وإنما قوله حجة كقول الشهود، فإذا لم تقم الحجة من جهته، فالتحليف لا أصل له. والله أعلم.