فصل: فصل:يجمع النجاسات بأنواعها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: أقل ما يجزىء من عمل الصلاة:

1044- مقصود هذا الباب ذكر أقل ما يجزىء من عمل الصلاة، إذا فرض الاقتصار عليه، وأقل المجزىء هو الأركان مع الشرائط.
وقد عد صاحب التلخيص أركان الصلاة أربعة عشر، فقال: هو النية، وتكبير الإحرام، واستقبال القبلة، والقيام، وقراءة الفاتحة. فهذه خمسة، والركوع، والاعتدال عنه، والسجود، والاعتدال عنه على هيئة الجلوس، والسجدة الثانية، فهذه خمسة أخرى، ثم الجلوس الأخير، والتشهد، كما مضى ذكر أقلّه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام. فهذه أربعة أخرى، مجموعها أربعة عشر.
ولم يخالَف فيما ذكره إلا في شيئين:
أحدهما: أنه عد استقبال القبلة من الأركان، وقد قيل: إنه من الشرائط، وما ذكره أقرب؛ فإن الطهارة تتقدم على الصلاة، وستر العورة لا يختص وجوبه بالصلاة، وكذلك الإيَمان، فلم تكن هذه الخصال أركاناً، بل هي شرائط، ووجوب استقبال القبلة يختص بالصلاة، ولا يجب تقديمه على عقد الصلاة.
ومما عورض فيه أنه عد السجدة الثانية، وهي متكررة، ويلزم من ذلك أن يعد الركوع على التكرر في ركعتي صلاة الصبح، وهذا قريب، فإنه أراد أن يذكر ما يجب في الركعة الواحدة، ثم ذكر ما يتعلق بآخر الصلاة، وهو القعود، والتشهد، والصلاة، والسلام.
وقد زاد بعض الأئمة الصلاة على الآل، ونية الخروج، كما مضى مفصلاً، ولم يعدّ صاحب التلخيص الطمأنينة في محالها، لأنه رآها هيئة، وإن كانت واجبة، وعدها بعضُ الأئمة ركناً، فهذا مضمون الباب.

.باب: طول القراءة وقصرها:

قال الشافعي: "يقرأ في صلاة الصبح بعد أم القرآن بطوال المفصَّل، وفي الظهر شبيهاً بالصبح، وفي العصر نحو ما يقرأ في العشاء، وفي المغرب بقصار المفصل".
1045- وفي كلام الشافعي ما يشير إلى أن الأوْلى في قراءة الصبح طوال المفصل، وفي المغرب القصار، وفي الظهر والعصر والعشاء الأوساط، ولعل السبب فيه أن وقت الصبح طويل، والصلاة ركعتان، فحسنٌ تطويلهما، ووقت صلاة المغرب ضيق؛ فشرع فيها القصار، وأوقات صلاة الظهر والعصر والعشاء طويلة، ولكن الصلوات كاملة الركعات، فقد اجتمع في الصبح سعة الوقت، ونقصان الركعات فاقتضى ذلك تطويل القراءة، وقِصَرُ وقت المغرب يقتضي تقصير القراءة، وسعة الوقت في الصلوات الثلاث يقتضي التطويل، وكمالها بالركعات يعارض ذلك، فترتب عليه التوسط.
قال ابن عباس: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم الجمعة، فقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، وقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والسورة التي فيها ذكر المنافقين". وعن جابر بن سَمُرَة قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح {يس} و {حم} " وعن عمران بن حصين قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، وكان يسمعنا الآية والآيتين"، وعن بُريدة الأسلمي، قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، وروي أنه قرأ في صلاة العصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}".
1046- ثم الأمر في تقصير القراءة في المغرب يعمُّ الإمامَ والمنفردَ، لتعلق ذلك بالوقت، وأما ما عداها، فما ذكرناه في حق الإمام؛ حتى لا يتعدى ما رسم له، ولا يتجاوز الحد في التطويل على من خلفه، وقد قال عليه السلام: «إذا صلى أحدُكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة»، وقال أنس ابن مالك: «ما صلّيتُ خلف أحد أخف صلاة، ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأما المنفرد، فإن رأى تطويلَ الصلاة الراتبة الواسعة المواقيت، فلا حرج.

.باب: الصلاة بالنجاسة:

قال الشافعي: "وإذا صلى الجنبُ بقومٍ أعاد، ولم يعيدوا".
1047- هذا الفصل بأوصاف الأئمة ألْيق، وسيأتي بابُها، ولكنه صدَّرَ الباب بهذا.
فمن اقتدى بإنسان ثم تبيّن أنه كان محدثاً أو جنباً، فالإمام يعيد الصلاة، وليس على القوم إعادة عندنا، إذا لم يعلموا بطلان صلاة الإمام.
وخالف أبو حنيفة فيه.
وقال مالك: إن كان الإمامُ عالماً ببطلان صلاته، فأمَّ الناسَ على علم، فلا يصح اقتداؤهم به، ويلزمهم إعادة الصلاة؛ فإن الذي جاء به عبث لا حرمة له، وإن كان جاهلاً، فصلاته فاسدة، ولكنه من حيث إنه معذور لا يبعد أن يثاب على عمله، وإن كانت الإعادة تلزمه.
وقد ذكر صاحب التلخيص قولاً للشافعي مثلَ مذهب مالك.
وسر المذهب المشهور ومُعَولُه، أن المقتدي لو علم أن صلاة إمامه باطلة، واقتدى به، لم تصح صلاته وفاقاً، وكان كما لو استدبر المصلّي القبلة على علم من غير ضرورة، ولو طلب القبلة في محل الاجتهاد، ولم يستيقن إصابةً ولا خطأ، فصلاته محكوم بصحتها. وهذا يناظر ما لو اقتدى بإمام، ولم يعلم صحةَ صلاته ولا فسادها.
ولو اجتهد، فتبين آخراً أنه كان استدبر القبلة، ففي وجوب القضاء قولان مشهوران سبقا.
وإذا تبين جنابة الإمام وحدثَه، فالذي يقطع به أنه لا قضاء على المأموم، والفرق أنه لا يجب على المقتدي البحثُ عن طهارة إمامه، بل إنما كُلف البناء على الظاهر، فلا ينسب إلى التقصير في طلب مأمور به، ولا تعلق لصلاة إمامه بصلاته على التحقيق، بل كلّ يصلّي لنفسه، والمجتهد في القبلة إذا أخطأ منسوبٌ إلى التقصير في الاجتهاد والطلب، ولو تمم الاجتهاد، لأصاب.
ثم لو صلّى وراء الإمام، فتبين أنه كان كافراً، فعلى المأموم إعادة الصلاة هاهنا قولاً واحداً، وذلك لأن الكافر يتميز بالغِيار غالباً، ويندر جداً أن يقيم مصرّاً على كفره الصلاةَ على شعار الإسلام، فألحق هذا بما لو اتفق ميلُ الإنسان في مسجد أو دارٍ عن قُبالة القبلة في صلاته لظُلمة أو وجهٍ نادر من وجوه الغلط، فالصلاة تفسد، ولا حكم لما طرأ من الغلط؛ فإن البناء على غالب الأمر.
وكذلك لو اقتدى رجل بامرأة على ظن منه أنها رجل، فالصلاة فاسدة بمثل ما قررناه.
1048- واختلف أئمتنا فيمن اقتدى برجل ثم تيقن أنه موصوف بصنف من صنوف الكفر يستسرّ به غالباً كالزندقة، فمنهم من قال: الاقتداء به على حكم الغلط كالاقتداء بالجنب والمحدِث. ومنهم من قال: الكفر لا يختلف-فيما نحن فيه- حكمه، بل نعمِّم البابَ بإيجاب القضاء على المقتدي فيه؛ فإن التزام تفصيل الأمر بحسب تفصيل الكفر يطول، فالوجه تعميم الباب.
ولو اقتدى رجل بمن ظنه رجلاً، فتبين أنه خنثى، فالذي قطع به الأئمةُ وجوبُ القضاء، وإن وقع ذلك خطأً؛ فإن هذا الشخص لا يخفى حاله، والنفوس مجبولة على إشاعة الأعاجيب، وإن حرص الحارصون على كتمانها. وألحق صاحبُ التقريب هذه الحالة بالجنابة والحدث؛ من حيث إنها تخفى، ورد عليه الكافة ما قاله لما ذكرناه.
ولو اقتدى بالرجل، ثم تبين له أنه كان على بدنه أو ثيابه نجاسة خفية، فهذا كالحدث والجنابة، وإن كان عليه نجاسة ظاهرة لا تكاد تخفى، ولكن لم يتفق تأملها، ثم لاحت بعد الصلاة مثلاً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإنها من جنس ما يخفى بندور الظهور وعدم الاطلاع فيه، فشابه هذا الكفرَ الذي يُستتر به غالباً، وقد ذكرنا الخلاف فيه.
1049- ولو طرأ حدث على الإمام، وبطلت صلاته، لم تبطل صلاة المقتدي عندنا، بل ينفرد ببقية صلاته، وأبو حنيفة يبطل صلاة المقتدي بطريان بطلان صلاة الإمام.
فصل:
1050- دم البراغيث وما يسيل من دماء البثرات، يتطرق العفو إليه على الجملة، فنذكر ما يتعلق بذلك، ثم نذكر قاعدة المذهب فيما عداه من النجاسات.
فما يخرج من بثرة ببدن الإنسان، أو يتصل به من دماء البراغيث. والبراغيثُ والبقُّ والبعوضُ لا دماء لها في أنفسها ولكنها تقرُص، وتمص الدم، ثم قد تمجها، فهو المعنيُّ بدم البراغيث، فإذن القليلُ من ذلك معفو عنه، إذا لم يمكن التحرز والتصون عنه، وهو مما تعم به البلوى، فيتطرق العفو إليه، ثم يتحقق فيما يقل منه شيئان:
أحدهما- عمومُ البلوى؛ فإن قليلَه يعم. والآخر- أن المرعيّ في تنزيه البدن والثياب عن النجاسات في الصلاة، تعظيمُ أمرها، وتوقيرُها، وحمل المكلف على إقامتها على أحسن هيئة، وأنظف زينة.
والكثير من الفن الذي نحن فيه قد لا يعم وقوعاً، ولا يظهر الابتلاء به، ويفحش أيضاً في النظر، ولكن من حيث لا ينضبط المَيْزُ بين القليل والكثير، بتوقيفٍ شرعي ولا بوجهٍ من الرأي، قال فقهاؤنا: القليل معفو عنه، وفي الكثير وجهان:
أحدهما: لا يُعفى عنه لما ذكرناه، والثاني: يُعفى عنه نظراً إلى الجنس، ولما أشرنا إليه من عسر التمييز بين القليل والكثير، وإذا كان كذلك، فَلَوْ لم يُعفَ عن الكثير، لجرَّ ذلك تنغيصاً في العفو عن القليل، من جهة أنه قد يعتقد المعتقد أن ما يراه قليلاً في أوائل حد الكثرة.
والظاهر في المذهب الفرق بين القليل والكثير، فليقع التعويل عليه.
1051- ثم سر هذا الفصل الكلام في ضبط القليل وتمييزه عن الكثير.
نقل الرواة عن الشافعي في القديم أنه قال مرة: "القليلُ من دم البراغيث، وما في معناه، قدرُ الدينار"، وقال مرة أخرى: "قدرُ كف"، وهذا مشكل لا نعرف له مستنداً، وهو في حكم المرجوع عنه، فليعتمد مسلكه في الجديد، وقد استنبط الأئمة وجوهاً من الكلام من مسالكه في الجديد، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى.
فقال قائلون: إن كان موضع التلطخ بحيث يلوح ويلمع للناظر من غير احتياج إلى تأمل، فهذا في حكم الكثير، وهذا يستند إلى خروج رتبة الصلاة عن الجهة المبتغاة في التحسين، ورعاية النظافة، فهذا مسلك.
والمسلكُ الأفقه في ذلك: أن المقدار الذي يجري التلطخ به غالباً، ويتعذر التصون منه هو القليل المعفوّ عنه، فنأخذ القليل مما نأخذ منه أصلَ الفصل، وهو تعذّر الاحتراز عنه، وهذا أمثل من رعاية اللمعان والظهور؛ فإن ذلك لا يستقل بنفسه دون أن يعتبر تعذّر الاحتراز، فإنا سنوضح أن هذا العفو لا يجرى فيما لا يعم وقوع التلطخ به من النجاسات، فإذاً تعذُّر الاحتراز ينبغي أن يتخذ معتبراً في الأصل والتفصيل، وفي تمييز القليل من الكثير.
1052- ثم من سلك هذا المسلك اضطربوا في أن الأمر هل يختلف باختلاف الأماكن والبقاع، وباختلاف الأزمنة، وفصول السنة؟ والذي ذهب إليه المحققون: أن الأمر يختلف باختلاف الأماكن والأزمنة؛ فإن التفاوت بهذه الجهات غالب بيّن، فمن الوفاء برعاية الاحتراز النظر إلى تفاوت الأسباب.
ونقل عن بعض أصحابنا التزامُ التفاوت، ولم يعتبر أقل ما يتوقع في أنقى الأزمنة والأمكنة، ولا أكثرها، ولكن اعتبر وسطاً من الطرفين، وهذا ليس بشيء؛ فإن ضبط هذا الوسط أعسرُ من التزام تتبع الأحوال، فهذا قاعدة الفصل.
1053- ثم الذي أقطع به أن للناس عادةً في غسل الثياب في كل حين، فلابد من اعتبارها؛ فإن الذي لا يغسل ثوبه الذي يصلي فيه عما يصيبه من لطخٍ سنةً مثلاً، يتفاحش مواقعُ النجاسة من هذه الجهات عليه، وهذا لا شك في وجوب اعتباره.
ومما أتردد فيه أن الثوب السابغ إذا تبددت عليه النجاسةُ فلتفرقها أثر في العفو-فيما أحسب- ولاجتماعها، حتى يكون ظاهراً لامعاً للناظر أثر في وجوب الغسل، سيما على رأي من يرعى في ضبط القلة الظهورَ واللمعان.
وفد نجد في هذا أصلاً قريباً؛ فإن من توالت منه أفعالٌ كثيرة تبطل صلاته، فإن فرقها وتخلل بينها سكينة، لم تبطل صلاته، والاحتمال في هذا ظاهر.
1054- ومما نختم به مواقع الإشكال في ذلك، أنه لو ارتاب المصلي: فلم يدر أن اللطخ الذي به في حد ما يعفى عنه، أو في حد الكثير الذي لا يعفى، فهذا فيه احتمال عندي، من جهة أن القليل معفوّ عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل تعدى الحدَّ، أم لا؟ فهذا وجه.
ويجوز أن يقال: الكثير فيما عليه التفريع غيرُ معفوٍّ عنه، وقد أشكل أن الذي فيه الكلام هل هو منحط عن الكثير أم لا؟ والأصل إيجاب إزالة النجاسة.
ويمكن أن يقرب هذا من صلاة المرء وهو ناسٍ للنجاسة، كما سنذكره في آخر الفصل.
ثم يعتضد هذا الكلام بظهور العفو عن النجاسات.
فهذا منتهى الكلام في هذا الطرف.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من تفصيل العفو في دم الإنسان نفسه وصديده الخارج من بثراته، وفيما يناله من آثار البراغيث.
1055- فأما إذا أصابه دم غيره، فالكثير لا يعفى عنه، وفي القليل وجهان. وهذا وإن اشتهر نقلُه، فلست أرى له وجهاً، والذي يقتضيه قاعدة المذهب القطعُ بإلحاق دم الغير بسائر النجاسات.
وكان شيخي يلحق لطخ الدماميل والقروح-إن كان مثلها يدوم غالباً- بدم الاستحاضة، وإن كان مثله لا يدوم غالباً، كان يُلحقه بدم أجنبي فيما ذكرناه.
وهذا ظاهر حسن؛ من جهة أن البثرات تكثر، وقد لا يخلو معظم الناس في معظم الأحوال عنها، ولا يكاد يتحقق ذلك في الدماميل والجراحات، وفي المسألة على الجملة احتمال؛ فإن الفصل بين البثرات، وبين الدماميل الصغار عسر، لا يدركه إلا ذَوُو الدراية، وكبارها مما يدوم الابتلاء بها زماناً.
وقد ذكر صاحب التقريب تردداً في هذه الدماميل، وما يخرج من دم الفصد، ومال إلى إلحاقه بدم البراغيث، وصحَّحه على خلاف ما كان يراه الإمام، فاعلم.
فهذا كله تفصيل القول في الدماء، وما في معناها من القيح والصديد؛ فإنه دم حائل.
1056- فأما ما عدا ذلك من ضروب النجاسات، كالبول، والعذرة، وغيرهما، فلا عفو فيها، قلَّت، أو كثرت، ولا يستثنى منها إلا عفو الشرع عن الأثر اللاصق بسبيل الحدث، عند الاقتصار على الأحجار في الاستجمار، وذلك عند الشافعي مخصوص عن جميع جهات النظر، والمتّبع فيه الخبر فحسب.
واتخذ أبو حنيفة ذلك أصلاً في جميع النجاسات المغلّظة عنده، ورَاه قدر الدرهم البغلي. وهذا نظرٌ حائد عن جهة قطْعِنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطرُدوا هذا العفو في كلِّ نجاسةٍ في كلِّ محل، وكانوا أوْلى من يفهم ذلك من الشارع، لو كان صحيحاً؛ فإذن لا قياس على الاستنجاء، ولا عفو فيما عدا الدم الموصوف.
1057- وتردد نص الشافعي رحمه الله فيما لا يدركه الطرف لا لخفاء لونه، ولكن لصغر قدره، فقال مرة: لا عفوَ مع تيقن الاتصال. وقالى في موضعٍ: إنه يعفى عنه.
وقيل: إنه استشهد عليه بأن السلف كانوا لا يحترزون عن عَوْد الذباب الواقعة على النجاسة وقت قضاء الحاجة إلى ثيابهم، وفي هذا الاستشهاد نظر، من جهة أن أرجل الذباب تجف في الهواء بين ارتفاعها من النجاسة، ووقوعها على الثوب، وآية ذلك أنه لا يظهر لذلك أثر على الثوب، وإن كثر، والقليل إذا توالى، وكثر، ظهر كوَنيم الذباب؛ فإن ما يتوالى منه يظهر على الثوب، وأيضاً، فإن التزام ذب الذباب عسر، وهو ملحق بالغبار الذي يلحق بدنَ الإنسان، وهو ثائر من الدِّمَن والمزابل، والمواضع النجسة، فهذا معفو عنه، وإن كان واقعاً قطعاً؛ من جهة أن التحرز لا سبيل إليه.
1058- ومما يتصل به أن الذي لا يُعفى عنه من النجاسات، إذا صلى الإنسان معها، وهو غير شاعر بها، فإذا تحلل عن الصلاة، واستبان الأمر، فالمنصوص في الجديد وجوب إعادة الصلاة اعتباراً بالمحدِث، ولا خلاف أن من صلّى ظاناً أنه متطهر، ثم تبين له أنه كان محدثاً يلزمه إعادة الصلاة، ونص في القديم على أن النسيان عذر في النجاسة؛ فإن العفو إليها أسرع منه إلى الحدث، ولا يمكن إنكار ذلك، ولا يبعد أن يعتقد النسيان من المعاذير.
1059- ولو علم الرجل أن به نجاسة، ثم نسيها، فقد ذكر الأئمة فيه طريقين:
أحدهما: القطعُ بأنه لا يعفى عنه. والآخر: تخريج العفو على القولين، كما إذا لم يكن عَلِمه أصلاً.
وقال مالك: إن تذكر وعلم ما به من نجاسة، ووقتُ الصلاة قائم بعدُ، قضى، وإن خرج عن الوقت، لم يقض. وقد تحققت من أئمة مذهبه أن مالكاً مهما قال ذلك فليس يوجب الإعادة في الوقت، وإنما يستحبها.
واحتج الشافعي في القديم بما رواه أبو سعيد الخدري رحمه الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي لابساً نعله، فخلع في الصلاة نعله، فخلع الناس نعالَهم، ثم قال: أخبرني جبريل عليه السلام أن على نعلك شيئاًً"، ووجه الدليل من بقائه على صلاته، وما كان على علم حتى أخبره جبريل عليه السلام، وقد يمكن أن يقال: لم تكن نجاسة، وإنما كان بلغماً أو غيره مما يليق بالمروءة التحرز عنه.
فرع:
1060- لو وقعت لطخة من بثرة، وقلّت فقد تمهد العفو، ولو اعتمد الرجل إخراج شيء منها ولكنه قليل، ففيه احتمال من طريق المعنى، والظاهر العفو لما روي: "أن ابن عمر حك بثرة بوجهه، فخرج منها شيء، فدلكه بين إصبعيه وصلى" ولا يبعد أن يقال: لعله جرت يده بذلك في غفلة، وقد تطوف اليد على البدن في النوم وأوقات الغفلات، والله أعلم.
فهذا منتهى القول، وليس علينا إلا أن نبلغ كلَّ فنٍّ غايته جهدنا، ومن طلب في مواقع التقريب الحد الضابط، فقد طلب الشيء على خلاف ما هو عليه.
فصل:
قال الشافعي: "إذا كان مع الرجل ثوبان أحدهما طاهرٌ والثاني نجس، تحرَّى".
1061- مذهب الشافعي أن من كان معه ثوبان أحدهما طاهر، والثاني نجس، والنجاسة طارئة على النجس منهما، فإنه يتحرى ويجتهد، ويصلي في الذي يؤدي اجتهاده إلى طهارته.
وتفصيل القول في الاجتهاد في الثياب عندنا كتفصيل المذهب في الاجتهاد في الأواني، وقد مضى مفصلاً؛ فلا نعيد ممّا تقدم شيئاًً جهدنا.
وقال المزني في الثوبين: يصلي مرتين، مرة في هذا الثوب، ومرة في الآخر، فيخرج عما عليه يقيناً، وقال في الإناءين: لا يجتهد، ولا يستعمل دفعتين، بل يتيمم.
وعند الشافعي لو صلى في الثوبين دفعتين من غير اجتهاد، كما رآه المزني، فالصلاتان جميعاًً باطلتان.
ومعتقد المذهب أن الصلاة بالنجاسة ممنوعة، والإقدام عليها محظور، والاجتهاد ممكن، والعلامات في النجاسات ليست بعيدة، والاجتهاد مرجوع الشريعة في معظم الوقائع.
فإن قيل: قد ذكرتم وجهين فيمن أشكل عليه الأمر في ثوبين كما ذكرتموه، وكان معه ما يتأتى غسل أحد الثوبين به، فهل يلزمه ذلك، أم له أن يعتمد الاجتهاد؟ وسبب الخلاف أن الوصول إلى اليقين، ممكن، وما ذكره المزني وصولٌ إلى اليقين، فهلا خرجتم مذهبه وجهاً؟
قلنا: لا سواء؛ فإن من غسل أحد ثوبيه وصلى فيه، فقد أقدم على الصلاة على يقين من الصحة، ومن صلى مرتين في ثوبين، كما يراه المزني، فكل صلاة مشكلة في نفسها لا مُستند لها من يقين ولا اجتهاد.
والذي يحقق ذلك أنه لو كان يكفي اليقين من غير رعاية حالة الإقدام، للزم على مساق ذلك أن من التبست عليه جهات القبلة في السفر، فصلى كما اتفق من غير اجتهاد ولا تقليد مجتهد، ثم تبين أنه كان مستقبلَ جهة القبلة وفاقاً، فلا يلزمه القضاء. وليس كذلك، فدل على فساد ما اعتمد المزني، وهو حسن لطيف، فافهم.
1062- ولو أصاب ثوبَ الإنسان نجاسةٌ، وأشكل مورد النجاسة، فالوجه غسل جميع الثوب، فإن صب عليه الماء صباً معمّماً مستغرقاً، أو غمسه في ماءٍ جارٍ، أو كثير، فلا شك أنه يحكم بطهارة الثوب، على ما سيأتي بعدَ هذا تفصيل القول في النجاسة الحُكمية والعينية.
1063- ولو غسل من الثوب نصفه مثلاً، ثم قلَبه، وغسل نصفه الثاني، ولا يصب الماء على جميعه أولاً ولا آخراً، فقد قال صاحب التلخيص: لا يجزئه ذلك؛ فإنَّ ورود النجاسة مستيقن، والغسل على هذه الصفة لا يفيد إزالة النجاسة بيقين؛ فإنه لا يمتنع تقدير النجاسة على منتصف الثوب مثلاً، ولو فرض الأمر هكذا، لكان الغَسل المفروض فاسداً؛ فإنه أتى في النصف الأول على نصف النجاسة تقديراً، فإذا غسل النصف، تعكَّس أثرُ النجاسة من ذلك النصف على النصف الآخر، ويغمض إذْ ذاك مُدركُ الأمر، والأصل بقاء النجاسة، فهذا مذهب صاحب التلخيص.
وقال صاحب الإفصاح: لو غسل الثوب الذي يشكل نصفين في دفعتين، جاز؛ فإنه قد حصل الاستيعاب، وهذا مزيف متروك عليه غير معدود من المذهب. والوجه القطع بما ذكره صاحب التلخيص.
1064- لو أشكل عليه مورد النجاسة من ثوبه، وكان يعلم أنها على أحد كميه مثلاً، واجتهد، فأدى اجتهاده إلى النجس منهما، فغسله، وأراد الصلاة في الثوب، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهذا ما كان يختاره شيخي، والثاني: أنه يجوز، وقد صححه الصيدلاني، وهو الظاهر عندي.
توجيه الوجهين: من منع، احتج بأن ورود النجاسة مستيقن، فليكن زوالها عن الثوب مستيقناً، وليس كما لو اجتهد في ثوبين أحدهما نجس، وصلى فيما أدى اجتهاده إلى طهارته؛ فإنه ما استيقن نجاسة الثوب الذي صلى فيه قط، ولكن ترددت النجاسة بين الثوبين أولاً وآخراً، والأصل طهارة الثوب الذي صلى فيه، والثوب الواحد قد تحقق نجاسته، فليتحقق طهارته، وذلك بغسل جميعه.
ومن جوّز الصلاة في الثوب الواحد على الترتيب الذي ذكرناه، قال: طلب اليقين ليس شرطاً في التوقي من النجاسة، بل الظاهر كافٍ، وإذا فعل بالثوب الواحد ما وصفناه، فالظاهر أنه طاهر؛ فإنه طهّر أحد الكمين بالغسل، والظاهر بحكم الاجتهاد طهارة الكم الثاني.
وما ذكرناه في الكمين لا يختص بهما، بل مهما انحصر عنده النجاسة في موضعين من الثوب، ثم اجتهد فيهما، وغسل ما اقتضى الاجتهاد غسلَه، فهو على الخلاف المذكور.
1065- ولو كان معه قميصان، أحدهما نجس، وأدى اجتهاده إلى أن أحدهما نجس بعينه، فغسَلَه ثم لبسه مع القميص الآخر، وصلى فيهما جميعاًً، فالمسألة على الوجهين المذكورين في الثوب الواحد إذا أشكل مورد النجاسة منه، فغسل بالاجتهاد موضعاً منه، وليس كما لو اجتهد وصلى في أحد الثوبين؛ فإن هذا الثوب لم يكن مستيقن النجاسة قط، والثوبان إذا جُمعَا، فيقين النجاسة فيهما مجموعين، كيقين النجاسة في ثوب واحد.
1066- ومما لابد من التنبيه له أنه إذا كان معه ثوبان، نجس وطاهر، وقد أشكل الأمر، فلو غسل أحدهما، ثم صلى من غير اجتهاد في الثاني الذي لم يغسل، ففي صحة صلاته وجهان، فإنه لما صلى كما صورنا، لم يكن على يقين في نجاسةِ أحد الثوبين، وقد مهدنا أصل ذلك في كتاب الطهارة.
ولو أصابت نجاسة ثوباً، فغسل موضعاً وفاقاً من غير اجتهاد، ثم أراد الصلاة فيه، لم يجز ذلك وجها واحداً؛ فإن النجاسة مستيقنة أولاً، ثم لم يوجد قطع ويقين ولا اجتهاد، ولكن أفاد غسل موضع من الثوب، أنّ أمر النجاسة صار مشكُوكاً فيه، والشك المحض لا يعارض اليقينَ السابق، إذا لم يكن صدَرُه عن اجتهاد.
فصل:
قال الشافعي رحمه الله: "إذا أصاب دم الحيض ثوب المرأة... إلى آخره" الفصل:
1067- النجاسة تنقسم إلى حكمية وإلى عينية: والعينية هي التي تشاهد عينُها، والحكمية هي التي لا تشاهد عينُها، مع القطع بورودها على موردها المعلوم.
فأما العينية فالغرض إزالة عينها، فلو بقي لونها، أو طعمها، أو ريحها، مع تيسر الإزالة، فالمحل نجس، وإن عسر ذلك في بعض الصفات، فقد قال الأئمة: أما الطعم، فلا يعسر قط إزالته، فما دام باقياً، فالنجاسة باقية، وأما اللون؛ فإن بقي أثر منه مع الإمعان، وبذل الإمكان، فهو معفو عنه.
فلو اختضبت المرأة بالحناء وكان نجساً، فإذا غسلت العضو واللونُ باق، فقد زالت النجاسة، والشاهد في ذلك من جهة الخبر، ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان الحيض يصيب ثوباً فنغسله، فيبقى لطخة منه، فنلطخه بالحناء ونُصلي فيه" فدل على أن ما يبقى من أثر اللون اللاصق معفو عنه.
فأما الرائحة إذا كانت ذكية بحيث يعسر إزالتها كرائحة الخمر العتيقة، وبول المبَرْسم، وما أشبههما، فإذا بقيت مع الإمعان في الغسل، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن بقاءها كبقاء الطعم.
والثاني: أنها كاللون.
ومما يجب التنبيه له أن رائحة الشيء الذكي الرائحة قد تبقى في فضاء بيت، فإن الخمر الذكية إذا نقل ظرفها من بيت، وما رشح شيء منها، فقد يبقى رائحتها في فضاء البيت أياماً، فلا اعتبار بمثل هذا، والذي هو في محل القولين أن الخمر إذا أصابت أرضاً، أو ثوباً، ثم غسل، وكان المحل بحيث لو اشتم، لأدركت الرائحة منه، فهذا محل القولين.
فأما إذا كانت الرائحة لا تدرك من المحل، وإنما تدرك من هواء البقعة، فلا خلاف في حصول الطهارة.
فهذا تفصيل إزالة النجاسة العينية.
1068- وأما النجاسة الحكمية التي لا تبين عينها، ففي الحديث أن محلّها يُغسل ثلاثاً، ثم أجمع أصحابنا على أن رعاية العدد فيها لا تجب، ويكفي مرور الماء على مورد النجاسة مرةً واحدة، والزيادة احتياطٌ، والسبب فيه أن ما لطف حتى لا يظهر له لونٌ، ولا طعم، ولا رائحة، ولا جرم، فمرور الماء عليه بمثابة زوال اللون والطعم والرائحة من النجاسات العينية.
ثم لا يخفى على الفطن أنه إذا زالت الصفات، فقد يبقى للظن والتجويز مجال في بقاء شيء خفي على إدراك الحواس، ولكن لا مبالاة به.
1069- والذي يطلقه الفقيه من أن النجاسة زالت يقيناً كلام فيه تساهل، واليقين الحقيقي ليس شرطاً، وإنما المرعيُّ زوالُ ما نُحسُّه من الصفات.
1070- ثم قد ذكرنا الإمعان، ونعني به الجريان على المعتاد في قصد إزالة النجاسة من غير انتهاءٍ إلى المشقة الظاهرة، ولا اكتفاءٍ بالغسل القريب.
ولما سألت أسماء بنت أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوبَ، فقال عليه السلام: «حُتِّيه، ثم اقرُصيه، ثم اغسليه بالماء» استفدنا أمرين:
أحدهما: التسبب إلى الإزالة بالحت والقرص، فليعتمد الغاسل من هذا الفن ما يُعين على الإزالة، كالتخليل والدلك بالماء. والفائدةُ الأخرى أنه نص على الماء، فأشعر بأنه لا يجب استعمال غيره.
1071- ثم في هذا ضبط وتقريب عندي.
فأقول: ليدم الغسلُ إلى زوال الطعم وإلى زوال الرائحة من مورد النجاسة على الأصح، فيبقى النظر في اللون، والوجه فيه أنه إن كان سهلَ الإزالة فَلْيُزَل، وإن كان اللون قائماً لا يزول إلا على طول الزمن، فالمعتبر فيه النظر إلى الغُسالة، فما دامت تنفصل متلونة، فهي تقطع من أعيان النجاسة، وإذا انفصلت صافية مع إمعانٍ وتحامل، فهذا كافي، والأثر الباقي معفوّ عنه.
وهذا فيه نظر؛ فإن الثوب إذا صبغ بصبغ نجس، فالصبّاغون لا يحسنون تعقيد الصبغ حتى لا ينفصل في هذه الديار، فربما لا ينقطع انصباغ الغُسالات عن الثوب المصبوغ ما بقي منه سِلْك، فتكليف ما ذكرناه، عسر جداً في ذلك، ومن يُحسن عقدَ الصبغ، فسبب عدم انفصاله انعقاده، وإلا فالثوب كان قبل الصبغ على وزنٍ، وهو مصبوغاً أكثر وزناً، وإن كان الصبغ معقوداً.
وهذا فيه نظر، ويظهر عندي اجتناب مثل هذا الثوب إذا كان الصبغ نجساً؛ فإن العين مستيقنةٌ حساً، والذي ذكره الأصحاب من المعفو عند الأثر أراه فيه إذا لم يُقدّر له وزن، ويسبق السابق إلى أنه لون بلا عين، وإن كان ذلك غير ممكن، ولكن الشرع مبناه على ظواهر الأمور، والله أعلم.
وقد قال صاحب التلخيص: إن بقي لون النجاسة أو طعمها، فالنجاسة باقية، وفي الرائحة قولان، وهذا مأخوذ عليه باتفاق الأصحاب، فاللون على التفصيل لا يضر بقاؤه قولاً واحداً، وحديث عائشة نص قاطع في الرد عليه.

.فصل:يجمع النجاسات بأنواعها

1072- إذا أردنا ضبط القول في النجاسات، ذكرنا تقسيماً يجمع شتات النظر، وقلنا: ننظر في الجمادات التي ليست خارجة مِن حيوان، ثم ذكرنا الحيوانات، ثم ذكرنا الميتات، ثم نذكر ما يخرج من الحيوانات.
فأما الجمادات في القسم الأول، فكلها طاهرة إلا الخمر؛ فإن الشرع نجّسها؛ تأكيداً لاجتنابها، وزجراً عن مخامرتها، وذكر الشيخ أبو علي في المثلَّث المسكر الذي نحرِّمه ويبيحه أبو حنيفة-خلافاً في النجاسة مع القطع بالتحريم، ولست أعرف المصير إلى طهارته، وهو مسكر، مشتدٌّ محرمٌ ملحقٌ بالخمر- وجهاً.
فهذا بيان الجمادات.
1073- وأما الحيوانات، فكلها طاهرة العيون إلا الكلب، والخنزير، والمتولّد منهما، أو من أحدهما وحيوان طاهر.
فكأن الأصلَ طهارة الجمادات والحيوانات إلا ما استثناه الشرع، وسببُ استثناء الخمر من الجمادات كسبب استثناء الكلب والخنزير من الحيوانات، وهو تأكيد قطع الإلف.
1074- وأما الميتات فالقياس، الحكم بنجاستها؛ فإن الحياة مدرأةٌ للاستحالات، والعفن، والموت مجلبة لها. وقد استثنى الشرعُ من جملة الميتات السمك والجراد، ولا خلاف فيهما.
وظاهر المذهب أن جثة الآدمي لا تنجس بالموت، وفيه وجهٌ معروف، وسنذكره في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى.
فأما سائر الحيوانات إذا ماتت، فكل حيوان له نفس سائلة، فإذا ماتت، فميتاتها نجسة، وكل ما ليس له نفسٌ سائلة، ففي نجاسة ميتاتها خلاف وتفصيل، سبق في كتاب الطهارة مستقصىً.
1075- وأما القسم الرابع وفيه يتسع الكلام، فهو ما يخرج.
فنقول: القول في ذلك: ينقسم إلى رشحٍ، لا يبين-في ظاهر الأمر- فيه اجتماع واستحالة، وهو اللعاب والعرق، والمتبع فيها طهارة عين الحيوان ونجاستها، فإذاً عرق الحيوانات كلها، ولعابُها طاهر، إلا عرقَ الكلب والخنزير، ولعابهما، وقد تفصل ذلك.
1076- فأما ما يجتمع ويستحيل في الحيوانات ثم يخرج، فالقياس في جميعها النجاسةُ، إلا ما استثناه الشرع، فالأبوال، والأرواث، والدماء، كلها نجسة من جميع الحيوانات، سواء كانت مأكولة اللحم، أو لم تكن، وخلاف أحمدَ بنِ حنبل وغيرِه من علماء السلف، ومصيرُهم إلى طهارة أبوال الحيوانات المأكولة مشهور، والأرواثُ في معنى الأبوال عندهم.
وقد تكلم الشافعي على أحاديثَ تعلق بها أحمدُ، وهي صحيحة، منها حديث العُرينيين، فإنهم دخلوا المدينة، واجْتَووها واصفرّت ألوانهم، وأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو خرجتم إلى إبلنا، فأصبتم من ألبانها وأبوالها، ففعلوا، فصحّوا، فمالوا على الرعاة، فقتلوهم، واستاقوا الإبل، فألحق النبي صلى الله عليه وسلم الطّلب بهم، فأدْرِكوا، فأمر بهم حتى قطعت أيديهم وأرجلُهم، وسُملت أعينُهم، وألقوا بالحَرَّة يستسقون، فلا يُسقَوْن، حتى ماتوا عطشاً وجوعاً».
ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم جوّز لهم أن يصيبوا من أبوالها.
قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ؛ إذ فيه أنه مثَّل بهم، ثم ما قام في مقامٍ إلا أمر بالصدقة، ونهى عن المَثُلَة، ثم قال: أذِن لهم في التداوي عند الضرورة، والتداوي جائز عندنا بجملة الأعيان النجسة إلا الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
وقد حكى شيخي عن بعض الأصحاب جواز التداوي بالخمر عند ظهور الضرورة، وإذا انتهت التفاصيل إلى ذلك فتذكر فيه.
وهذا القائل يحمل حديث الخمر على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن السائل عن التداوي بها كان لا ينتفع بها، وهذا بعيد في التأويل، ولكن إذا تمهد في الشرع تحليلُ الميتة حالة المخمصة، وهذا في التحقيق مداواة للضرورة ودَرْء للمخمصة. ثم أجمع الأئمة على جواز التداوي بجملة الأعيان النجسة، وإن كان في التداوي نوع من الإشكال؛ من جهة أن درءَ الجوع بالميتة معلوم، والاطلاع على أن الأدوية تنفع وتنجع بعيد، وحذاق الصناعة لا يجزمون القولَ بنفع الأدوية وإن تناهَوْا في علومهم، وسنذكر ذلك في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.
وقد نص الشافعي رحمه الله على أن من غُصّ بلقمة، ولم يجد إلا خمراً يُسيغها، فإنه يستعمل منها ما يسيغها، وإنما قال ذلك؛ لأن إساغة الغُصة معلومة، بخلاف نفع الدواء.
ومما يتعلق به أحمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في أبوال الإبل وألبانها شفاء الذَّرب» وهذا لا دليل فيه؛ لأنه مخصوص بالمداوة.
ومما احتجوا به ما روى البراء ابنُ عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل لحمه، فلا بأس ببوله» وهذا يعسُر تأويلُه حملاً على المداوة؛ فإنَّ جواز ذلك لا يختص بما يؤكل، ولكن أقرب مسلك فيه، أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا ينفع شيء من الأبوال، إلا بول ما يؤكل لحمه، والعلم عند الله.
1077- ثم لا فرق عندنا في التنجيس بين ذرق الطيور ورجيع الحيوانات ومذهب أبي حنيفة معروف في ذرق الحمام وغيرها، واختلاف أئمتنا معروف في خُرء السمك والجراد، وكلِّ شيء يخرج منهما، وسبب هذا الاختلاف أنها مستحَلّة الميتات، فإذا فارقت الحيواناتِ في هذه الجهة، ظهر الخلاف فيما ذكرناه.
وذكر الصيدلاني وغيره: إنا إذا حكمنا بطهارة ميتات ما ليس لها نفس سائلة، فهل نحكم بطهارة هذه الأشياء منها؟ فعلى وجهين، وهذا أبعد عندي مما ذكرناه في السمك والجراد؛ فإن ميتات هذه الأشياء لا تحل، وإذا حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، لم يقتض ذلك الحكمَ بطهارة فضلاته، ولكن الفرق واضح؛ فإن سبب الحكم بطهارة ما ليس له نفس سائلة أنها إذا ماتت لا تفسد، بل تعود كأنها جمادات، والآدمي بخلاف ذلك، فإنه ينتن إذا مات ويفسد، وسبب الحكم بطهارته ما يتعلق به من تعبُّد الغُسل والحرمة، ولا يظهر في تنجس فضلاته ما يخالف موجَب الحرمة.
واختلاف الأئمة في فضلات بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سبق ذكره في كتاب الطهارة.
فهذا تمهيد القول فيما يستحيل في الحيوانات.
1078- ونذكر الآن ما استثناه الشرع، فنقول أما ألبان الحيوانات المأكولات اللحوم، فلا شك في حلها وطهارتها، وذلك عندي في حكم الرخص؛ فإن الحاجة ماسة إلى الألبان، وقد امتن الله تعالى بإحلالها، فقال: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].
1079- ومما يتعلق بقسم الاستثناء القول في المني، فظاهر مذهب الشافعي أن مَنِي الرجل طاهر، ومعتمد المذهب الأخبار، وهي مذكورة في الاختلافات.
وفي منيّ المرأة خلاف، وسببه تردد الأئمة في طهارة بلل باطن فرج المرأة، فلعل من يحكم بنجاسة منيها يقول: هو ليس نجس العين، وإنما ينجس بملاقاة رطوبة باطن فرجها.
وقال صاحب التلخيص: مني المرأة نجس، وفي مني الرجل قولان.
وهذا أنكره الأصحاب عليه، ورأوا القطع بطهارة مني الرجل.
ومن غوامض المذهب ما أبهمه الأصحاب من التردد في رطوبة باطن فرج المرأة، وليس يخفى أن الرطوبة التي في منفذ الذكر إلى الإحليل في معنى رطوبة باطن فرج المرأة، وممرّ المنِيين على الرطوبتين على وتيرة واحدة، فلست أرى بين الرطوبتين والممرّين فرقاً إلا من جهة واحدة، وهي أن ما في الذكر رطوبة لَزِجَة لاحِجة لا يخرج منها شيء؛ فلا حكم لها، ولا يمازجها ما يمر بها، وأمثال هذه الرطوبات لا حكم لها في الباطن، وبلل باطن فرج المرأة كثيرٌ يمازج، وقد يخرج، ويكاد أن يكون كمذي الرجل، فإذاً ليس ينقدح في ذلك إلا ما ذكره من تصوير الممازجة في إحدى الرطوبتين، وعدم ذلك في الثانية، فكان مَنيَّها يخرج مع شيء من الرطوبة لا محالة، بخلاف منيه.
ثم يبقى بعد هذا تساهل أئمة المذهب في العبارة، وذلك أنهم يقولون: رطوبة باطن فرج المرأة نجسة أم لا؟ وهم يريدون بذلك أن تلك الرطوبة هل يثبت لها حكمٌ، وهل تنجّس ما يخرج؟ وهل يعتقد في الخارج الامتزاج بها؟ فهذا وجه القول في ذلك.
1080- فأما منيّ سائر الحيوانات: اختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن جميعها نجس إلا منيّ الآدمي، فإن طهارته أُثبتت تكريماً على التخصيص، ليكون أصل فطرته من طاهر.
والثاني: أنه يحكم بطهارة مني ما يؤكل لحمه من الحيوانات أيضاً، لأن منيّها يضاهي بيضَ الطائر المأكول.
والثالث: أن جملة مني الحيوانات الطاهرة العيون طاهر، نظراً إلى طهارة الحيوانات في أنفسها، فهذا تمام القول في المني.
1081- وممّا يتعلق بذلك: القول في ألْبان ما لا يؤكل لحمه: فلبن الآدميات حلالٌ طاهر، ولبن غيرهن مما لا يؤكل لحمه حرام، وفي ظاهر المذهب أنه نجس؛ فإن الألبان إنما أبيحت للحاجة، ووقع الحكم بطهارتها تبعاً لمسيس الحاجة إلى تحليلها، وأبعد بعضُ أصحابنا، وحكم بطهارة ألبان الحيوانات الطاهرة العيون، وهذا ساقط غير معدود من المذهب.
1082- ومما يتعلق بذلك القول في البيض: فكل بائضٍ مأكولِ اللحم، فبيضه مأكول، وما لا يؤكل لحمه من الطير لا يؤكل بيضه، والكلام في طهارته كالكلام في مني الحيوانات التي لا يؤكل لحمها، وهي طاهرة العيون.
ومما ذكره الأئمة أن البيضة الطاهرة المأكولة إذا صارت مذرة في الاحتضان، ففيها خلاف، وظاهر المذهب أنها نجسة؛ فإنها دم، ومن أئمتنا من حكم بطهارتها؛ فإنها أصل الفطرة.
وكذلك اختلف الأئمة في أن المني إذا استحال في الرحم عَلقة ومُضغةً، فهي نجسة أم لا؟ والخلاف في ذلك أظهر عندي؛ من جهة أن الحكم بطهارة مني الرجل مأخوذ عندي من كرامةْ الآدمي، وهذا يطرد في المضغة، وأما البيض، فليس فيه هذا المعنى، وإنما الطهارة فيه تبع الحل.
قال الشيخ أبو علي: الخمرة المحترمة التي الغرض منها الخَل، تخرّج على هذا الخلاف، فمن أئمتنا من حكم بطهارتها، وبنى على ذلك أنها مضمونة. وهذا بعيد جداً؛ فإن الخمرة المحترمة التي يجب الحدُّ على شاربها يبعد الحكم بطهارتها، والمصيرُ إلى إيجاب الضمان بإتلافها، فالوجه القطع بأنها ليست مضمونة، وإن حرم إتلافها، كالجِلد الذي لم يدبغ بعدُ.
فإذاً انحصر الاستثناء في الألبان، والمني، والبيضُ في معنى المني، فأما ما سوى ذلك من المستحيلات، فنحكم بنجاستها.
1083- والدماء نجسة، وكذلك القيح والصديد، والمِرّة الصفراء والسوداء.
قال الشيخ أبو علي: المشيمة إذا خرجت على الولد، فهي نجسة، وقال: إذا خرج الولد وعليه بلل، فهو نجس، وإن حكمنا بطهارة رطوبة باطن فرج المرأة؛ فإن الولد يخرج من الرحم وعليه رطوبات الرحم، ولو أرخى الرحم رطوبةً، فهي نجسة.
وهذا الذي ذكره صحيح، ولكن فيه ذهول عن الحقيقة التي نبهنا عليها في رطوبة باطن فرجها.
ولو خرج من باطن فرج المرأة رطوبة، فلا شك في نجاستها، ولكن إذا خرج منه المني، فليس نقطع بخروج رطوبة فرجها، عند بعض الأصحاب، وإذا خرج الولد مبتلاً، فهذه رطوبة خارجة قطعاً متميزة عن الولد.
1084- وذكر الشيخ أبو علي وجهين في البلغم الذي ينقلع من منفذ المريء:
أحدهما- أنه نجس، لأنه مستحيل في الباطن.
والثاني: أنه طاهر، كالذي ينزل من الرأس؛ فإنه لا خلاف في طهارته.
فرع:
1085- البلل الذي ينفصل من جرحٍ، لا دمَ ولا صديدَ فيه، أو ينفصل من نَفَّاطَة تنفطر، فإن كانت رائحته كريهة، فهو نجس كالصديد، وإن لم تكن رائحتُه كريهة، فقد ذكر العراقيون أنه طاهر، وحكَوْه عن نص الشافعي، وقالوا: إنه كالعرق، وظاهر كلام الشيخ أبي علي أنه نجس، وهو فيما أظن سماعي عن شيخي.
فرع:
1086- اختلف أئمتنا في الإنفحة، فقال قائلون: إنها نجس، وهو القياس، فإنها لبن مجتمعٌ في باطن الخروف، ويستحيل، فيخرج إذا ذبح الخروف، ويجبَّن به اللبن، والمستحيل نجسٌ.
وقال قائلون: إنها طاهرة لإطباق الأمَّة على استحلال الجُبن، مع علمهم بأن انعقاده بالإنفحة، فنزلت الإنفحة من جهة الحاجة منزلة أصل اللبن الذي أبيح لأجل الحاجة، والقياس الحكم بنجاسة الإنفحة، ولكن عمل الناس، وعدم الإنكار من علماء الأعصار يدل على الطهارة.
1087- ومما يتعلق بما ينفصل عن الحيوان، أن كلّ ما أُبين عن الحي فهو ميت، فإن كان الحيوان لو مات لتنجّس، فينجُس الجزء المبان من هذا الأصل، إلا الأصواف والأوبار إذا جُزَّت من الحيوانات المأكولة، على رأي من يُثبت لها حكمَ الحياة في اتصالها.
والسبب في ذلك مسيس الحاجة إليها في الملابس والمفارش، مع استبقاء الأصول، فهي نازلة منزلة الألبان التي استثنيت-في الحل والطهارة- من قياس المستحيلات للحاجة.
ولو أُبين عضو من آدمي، فإن حكمنا بنجاسة الآدمي لو مات، فالمبان منه نجس، وإن حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، ففي العضو المفصول منه وجهان:
أصحهما- الطهارة، اعتباراَّ بَالأصل لو مات. ومنهم من قال: ينجس لسقوط حُرْمته بالانفصال عن جملته، وهذا بعيد، ولكنه قريب من خلاف أئمتنا في أن من قطع فِلْقة من سمكة، فهل تحل أم لا؟ فإن ميتةَ السمك حلال وفي الفِلْقة المُبانة من الخلاف ما ذكرناه.
فهذا معاقد المذهب فيما نحكم بنجاسته وطهارته.
فصل:
قال: "وكل ذلك نجس إلا ما دلت عليه السُّنة من الرش... إلى آخره".
1088- بول الصبي الذي لم يطعم إلا اللبن نجس، كسائر الأبوال، ولكن ورد فيه تخفيفٌ في كيفية إيصال الماء إلى مورده، وروي عن لبابة بنت الحارث أنها قالت: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحسن أو الحسين، فأجلس في حجره، فبال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت لبابة: قلت يا رسول الله: أَغسلُ إزارك؟ فقال: لا، إنما يغسل الثوب من بول الصبيّة، ويرش على بول الغلام، ودعا بماء فرشَّ عليه"، فإذاً يجوز الاقتصار على الرش في بول الغلام الذي لم يطعم الخبز، ولا مجال للقياس فيه.
ثم ليس في الحديث تعرّض لتطعم الغلام، وإنما فهم الفقهاء ذلك من جهتين: إحداهما- أنه قد نُقل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالحسن ليسميه ويطعمه" وهذا على قرب العهد بالولادة.
والثاني- أنه لا يتوهم امتداد هذا الحكم على الدوام، ولا نرى فيه مردّاً إلا أن يطعم ويحتوي جوفه على ما يستحيل، واللبن لا يبالى به، ولا يستحيل استحالة متكرّهة.
وأما بول الصبية، فمقتضى الخبر أنه يجب غسل الثوب عنه، والمذهبُ إلحاقه بالنجاسات؛ فإنّ ما ذكرناه في الغلام تلقيناه من الحديث، وفي الحديث الفصل بين الصبية والغلام.
وذكر الأئمة في الطرق قولاً آخر، أن الصبية كالغلام في جواز الاقتصار على الرش على بوله، وهذا لست أعرف له وجهاً، مع مخالفة القياس والخبر، ولكنه ذكره الصيدلاني وزيَّفه، وذكره غيره أيضاً.
ثم لا خلاف في نجاسة بول الغلام، وإنما يختص من بين النجاسات بالاكتفاء بالرش فيه، ثم الذي ذكره الأئمة، أن الرش لا يشترط أن ينتهي إلى جريان الماء، بل يكفي أن يعم الماء موضع البول رشاً، وإن لم يتردد ولم يَقْطُر.
وذكر شيخي: أنه لا يكتفي بنضحٍ وأدنى رش، ولكن يجب أن يكاثره بالماء حتى ينتقع، ولا يجب عصر الغسالة، وبهذا يقع الفرق، وفي وجوب العصر في سائر النجاسات خلاف سيأتي.
وهذا الذي ذكره لا أعده من المذهب؛ فإن هذا ليس رشاً، بل هو مكاثرةٌ وغَمرٌ، وتَرْكُ عصر، وقد نذكر أن الأصح أن العصر لا يُشترط في إزالة جميع النجاسات؛ إذا اتفق الزوال.
فصل:
1089- نذكر في هذا الفصل شيئين:
أحدهما: وصْل العظم المنكسر بعظم نجس.
والثاني: وصل المرأة شعرها.
فأما الأول- فإذا انكسر عظمٌ من الإنسان، فوصله بعظمٍ نجس، فقد قال الأئمة:
إن لم يتصل، ولم يلتحم، وجب تنحيته، وإن التحم واتصل، ولم يكن في إزالته وقلعه خوف، وجب إزالته، لمكان الصلاة.
وإن كان في إزالته خوف، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يُزال إبقاءً على المهجة.
والثاني: أنه يزال لحق الصلاة، ونحن نرى سفكَ الدم على مقابلة ترك صلاةٍ واحدة.
وهذا بعيد عن القياس؛ فإن المحافظة على الأرواح أهم من رعاية شرط الصلاة.
ومما يعترض على ذلك: أن من أخذ خيطاً لغيره، وخاط به جرحه، فلا نكلفه نزعه عند الخوف، قطع الأئمة جوابَهم به، وذلك لأنا نأخذ طعامَ الغير لشدة المخمصة، ونغرَم له القيمة، ونَقِي الأرواحَ بالأموال على شرط الضمان، واستصحاب النجاسة يقدح في الصلاة، ولا مساهلة في الأديان.
وهذا عندي تكلّف، والقياس القطعُ بأنه لا ينزع العظم إذا خيف؛ فإنا نحرِّم إمساس الجرح ماء لإزالة نجاسة عليه، وإن كان في إبقائها حملٌ على إقامة الصلاة مع النجاسة، وكل نجاسة يعسر الاحتراز عنها، فإن الشرع يعفو عنها، كما مضى التفصيل فيه.
وإن قال قائل: المصلي مع النجاسة يقضيها؛ فإنها مرجوّة الزوال، والعظم النجس الملتحم قائم أبداً. فلا أصل لهذا، والمستحاضة لا تقضي الصلوات التي أقامتها في زمان الاستحاضة، وقد يقال: ذلك دمٌ جارٍ من غير اختيار، وهذا أدخل العظمَ على عضوه، ولا ثبات لمثل هذا.
1090- ومما يعنُّ في المسألة من وجوه الإشكال، أن التداوي بالأعيان النجسة جائزٌ وفاقاً، وإنما التردد في التداوي بالخمر. وقد قال الأئمة: لو ألصق ضماداً نجساً على جرحه، نُزع لأجل الصلاة، والسبب فيه-مع الإشكال- أن تحريم أكل النجاسة من باب الأمر بتخير الطيبات في الأغذية، فإذا خيف الهلاك، زال ذلك، ولا تعلق له بالصلاة؛ فإن ما يحويه البطنُ يسقطُ اعتبار طهارته، وإلصاق الضماد النجس بظاهر الجرح يؤثر في الصلاة.
1091- ومما يشكل أن العظم النجس إذا اكتسى بالجلد واللحم، فقد بَطُن، فتكليفُ إظهارِه ونزعِه بعيد، وقد التحق بالباطن.
والذي ذكره الأصحاب من الالتحام عَنَوْا به الاتصالَ، فأما الاكتساء بالجلد واللحم، فالقياس فيه ما تقدم.
ولولا أنَّ المذهب نَقْل، وإلاّ لكان القياس، بل القواعد الكليّة تقتضي أن أقول: لا ينزع عند الخوف وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد، وحصول التستّر والبطون، فكان لا يبقى احتمال إلا في صورة، وهي أنه إذا أمكن الوصلُ بعظم طاهر، واعتمد الوصلَ بالنجس، واعتدى، فهل ينزع والحالة هذه؟ الظاهر أنه لا ينزع مع الخوف، وفيه احتمال بسبب تفريطه وتسببه إلى هذا.
ثم خوفُ فساد العضو عندي في التفاصيل، ينزل منزلة خوف الهلاك، وتلف المهجة.
وإذا عسر عليَّ في فصل تخريجُ المذهب المنقول على قياس أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعابُ وجه الإشكال، وإيضاح أقصى الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات.
1092- ومن تمام الكلام في المسألة: أنه إذا كان رقَع عظمَه بعظم نجسٍ ومات، فقد قال الشافعي: صار ميتاً كلُّه والله حسيبُه، وظاهره يشعر بأنه لا يقلع منه إذا مات؛ فإن التكليف انقطع، وكله ميت، وذلك إشارة إلى نجاسة الميت، وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فقال قائلون: لا يقلع لما أَشْعر به ظاهرُ كلام الشافعي، وفيه تقطيع الميت وهتك حرمته.
ومن أئمتنا من قال: يقلع؛ فإنا تُعبّدنا بغسله، وذلك العظم يمنع من وصول الماء إلى ما اتصل العظم به، وهذا إن كان يتحقق ففي العظم الظاهر، وأما إذا اكتسى بالجلد، فيبعد كلُّ البعد أن يكشطَ الجلد، ويخرجَ العظم منه، وقد انقطعت وظائفُ الصلاة، والماءُ يجري على بشرة طاهرة، ومصيره إلى البلى، وظهور النجاسات.
فهذا بيان ترقيع العظم بالعظم النجس.
1093- وأما وصل المرأة شعرها بشعر امرأة أو رجل، فقد قال: والذي إليه الرجوع في ذلك، وهو معتمد الفصل، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة،والواشمة والمستوشمة،والواشرةوالمستوشرة». وقال ابن مسعود: ألا ألعن من لعنه الله في كتابه، لعن الله الواصلة، فرجعت امرأة وقرأت القرآن، فلم تجد ذلك، فرجعت إلى ابن مسعود، وقالت: قرأتُ ما بين الدفتين، فلم أجد ما قلتَ. قال: لو قرأتيه لوجدتيه، ألم تسمعي الله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللعنَ، وساق الحديث. واللعنُ من أظهر الوعيد، وما اتصل الوعيدُ به اقتضى ذلك التحريم في النهي، والإيجاب في الأمر.
فهذا أصل الفصل.
1094- ثم أذكر تفصيل مذهب الأئمة، فقالوا: إن قلنا: إن الشعر نجس، فاستصحابُ النجاسة في الصلاة محرم، ولا يتلقى من ذلك التحريمُ في غير الصلاة، وإن كان الشعر طاهراً، نظر، فإن كان شعرَ آدمي، فلو أبرزته لزوجها، وكان شعر امرأة، فذلك حرام؛ فإن النظر إلى عضو من أجنبية حرام. وإن كان شعرَ رجل، فنظرها إلى شعر أجنبي، ومسها إياه حرام. فهذا مأخذٌ.
وللنظر فيه مضطرَب؛ فإن الأئمة اختلفوا في النظر إلى جزءٍ مفصول من امرأة أجنبية؛ من جهة سقوط الحرمة، وعلى هذا بنَوْا بطلانَ الطهارة بمس الذكر المبان، فهذا فنٌّ.
وقد يرد عليه أنها لو وصلت بشعرها شعرَ امرأة من محارم الزوج والزوجة، وينتشر الكلام ويخرج عن الضبط.
وذهب بعض الأئمة في مذهب آخر فقالوا: إن لم تكن ذات زوج فهذا التزيّن تعرض منها للتهم، وتهدُّف للرّيب، فلا يجوز، وإن كانت ذات زوج ولبّست على زوجها، وخيلت إليه أنه من شعرها، لم يجز.
وإن ذكرت له وكان الشعر شعرَ بهيمة، وكان طاهراً في نفسه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم نهيه ولعنه.
والثاني: وهو الأصح أنه يجوز؛ لأنه تزيّنٌ منها بحلال، واستمالة لقلب الزوج.
قال الصيدلاني: وكذلك ما يشبه هذا من تحمير الوجنة، وما يشبهه مما يخيّل أمراً في الخلقة.
1095- والذي يتحصل من مجموع ذلك أن ما يقع من مجموع هذه الصورة مستنداً إلى أصلٍ، كاستصحاب نجاسةٍ في الصلاة، أو كإبداء عضوٍ لمن يحرم عليه النظر، على ما سبق الإيماء إليه، فلا شك في التحريم، وإن كانت برزة مُربَّأةً للأجانب، فلا شك في تأكّد الوعيد والتحريم.
فيبقى أن تتزين وتستحلي، ولا تكون ذات زوج، أو كانت ذات زوج، فتلبِّس عليه أو تذكر له، فإن لم تكن ذات زوج فقد حرَّم الأئمة لما فيه من الريبة؛ إذ يستحيل أن يُحمل نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على التي تتبرج؛ فإنها متعرضة من جهة تبرجها لسخط الله ولعنته، فلا يليق بنظم الكلام أن يذكر من أمرها التبرج، ويذكر الوصل. ويمكن أن نتمثل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس للقاتل من الميراث شيء» ثم قال الأئمة: من قتل مورثه خطأ حُرم ميراثَه؛ من حيث إنه متعرض للريبة، كذلك المستحلية، بل هي أقرب إلى التهمة وإن فعلت ذلك ملبِّسة، فقد قطع الأئمة بالتحريم؛ من جهة أنها مُحْتَكِمة على قلب الزوج بزور وغرور وباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور» وأراد صلى الله عليه وسلم أن الذي يتزيا للشهادة بالزور كالذي يُري من نفسه بتغيير الخلقة ما لم يخلقه الله تعالى.
ويمكن أن يقرب ذلك من تحريم التصوير.
وأما إذا ذكرت للزوج، فهو على الخلاف، وينبغي عندي أن يختص الخلاف بالوصل لمكان النهي، ثم تردُّدُ الأئمة فيه يشبه تردَّدَهم في أن من قتل قصاصاً مورِّثه هل يُحرَم؟ ووجه الشبه أن من أصحابنا من يتعلق بظاهر الخبر، إذ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس للقاتل من الميراث شيء»، ومنهم من يتعلق بالمعنى، ولا يرى للتهمة في قتل القصاص موضعاً. ثم يبعد الخلاف في تحمير الوجه بإذن الزوج؛ إذ ليس فيه خبر، وقد يحمرُّ الوجه لعارضِ غضبٍ أو فرع أو كدًّ وإسراع في المشي.
وأما تطويل الشعر، فإنه تغيير في الخلقة في الحقيقة.
ولست أرى تسويةَ الأصداغ، وتصفيفَ الطُرر محرَّماً. وتجعيد الشعر قريب من تحمير الوجه.
والصيدلاني أجرى الخلاف في التحمير كما ذكرته.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
فصل:
قال: "وإذا أصاب الأرضَ بول طهُر بأن يُصبَّ عليه ذنوب من ماء... إلى آخره".
1096- مضمون هذا الفصل القول في الأسباب التي تُزيل النجاسة.
وأما إزالة النجاسة عن الثوب والبدن، فيتعين لها استعمال الماء، بحيث يقلع آثار النجاسة، كما سبق التفصيل فيه، في كتاب الطهارة، وفي هذا الباب.
وقد ذكرنا الصفاتِ التي تراعى: من اللون، والطعم، والرائحة.
ومما ذكرناه في الطهارة-والحاجةُ الآن ماسة إلى تجديد العهد به إيماء- غسالة النجاسة إذا انفصلت، وحكمُ طهارتها ونجاستها، وقد مضى ذلك مبيناً في كتاب الطهارة.
ثم ظهر اختلاف أئمتنا في أنه هل يجب عصرُ الثوب المغسول عن الغسالة على حسب العادة في مثله؟ وقد قال شيخنا أبو علي: هذا الخلاف بعينه، هو الخلاف في نجاسة الغُسالة وطهارتها. فإن حكمنا بنجاستها، فبالحري أن نوجب العصرَ، لفصلها على حسب الإمكان، مع الاقتصاد في الاعتياد، وإن قلنا: الغسالة التي تنفصل بالعصر طاهرةٌ، فلا معنى لإيجاب العصر مع المصير إلى أنّ ما يعصر لو رُدّ إلى الثوب ساغ.
فهذا تفصيل القول في العصر.
ثم وإن حكمنا بنجاسة الغسالة وأوجبنا العصر، فالبلل الباقي بعد الإمعان في العصر طاهر، وكان من الممكن أن يتوقف الحكم بطهارة الثوب على جفافه عن البلل، فإن معنى الجفاف خطف الهواء أجزاء البلل، ولم يصر إلى اشتراط ذلك أحد.
1097- ثم ذكر الشافعي في صدر الفصل تفصيلَ إزالة النجاسة التي تصيب الأرضَ. ومعتمد المذهب فيها حديث الأعرابي الذي دخل المسجد، وجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتكريمه، والرفق به، فقال لذلك في صلاته: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحلل: "لقد تحجَّرت واسعاً" ثم قام الأعرابي إلى ناحيةٍ من المسجد، فبال فيها، فهمّ به بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تُزْرِموه» أي لا تقطعوا عليه بوله، ثم قال صلى الله عليه وسلم «صبوا عليه ذَنُوباً من ماء» ولعله صلى الله عليه وسلم علم أنهم لو أزعجوه، لانتشر اللطخ وزاد، فأراد أن تكون النجاسة مجموعة في موضع واحد.
وغرضنا الآن أنه قال: "صبوا عليه ذنوباً من ماء"؛ فمذهبنا أن الأرض إذا أصابها بول، أو نجاسة أخرى مائعة، فكوثر موردُ النجاسة بالماء، حتى غلب على عين النجاسة، ولم يُبق شيئاًً من آثاره إلاّ غمَره، كان ذلك تطهيراً.
1098- وزعم أبو حنيفة أن الأرض لا تطهر بهذا، ما لم يحفر موضعَ النجاسة، وينقل ترابَها. والحديث ناصٌّ في الرد عليه، وإنما قال ما قال من جهة حكمه بنجاسة الغُسالة، فالماء المتردد الحائر في مورد النجاسة نجس وفيه النجاسة، وقد قال أبو حنيفة: صبُّ الماء على مورد النجاسة نشر لها، وسعي في زيادة التنجيس، وتوسيعٌ لمكانه.
فإن قيل: إذا حكمتم بنجاسة الغُسالة، وأوجبتم عصر الثوب المغسول، فماذا ترون في الأرض؟ قلنا: نقول مادام الماء قائماً حائراً، فهو نجس، والأرض نجسة، فإذا نضب الماء، كان بمثابة العصر في الثوب. ثم لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل الأرض طاهرة، وإن كانت مبتلة إذا غاض الماء.
ثم هذا القياس يقتضي لا محالة أن يقال: إذا أوجبنا عصرَ الثوب، فلو لم يعصر، وترك حتى جف بالهواء، أو قارب الجفاف، ينزل هذا منزلة العصر، بل هو أبلغ منه.
فإن قيل: إذا أوجبتم الحكم بنجاسة الغُسالة، وعلى هذا القول توجبون العصر، فلو أصاب من تلك الغسالة شيء ثوباً، ثم جف عليه، فلا يطهر ذلك الثوب، فأي فرق بين أن يجف على هذا الثوب، وبين أن يصيب ثوباً آخر، ويجف عليه؟
قلت: الفرق هو ضرورة الغسل، ونحن نعترف أن القياس يقتضي ألا نحكم بطهارة الثوب بالماء القليل، فإن الماء ينبغي أن ينجس بملاقاة النجاسة أول مرة، ثم لا يفيد إذا تنجس تطهيرَ المحل، ولكن جرى حكم الشرع بطهارة الثوب مجرى الرخص كما قررتُه في أساليب مسألة إزالة النجاسة فإذا أصاب شيء من الغسالة ثوباً آخر على حُكْمنا بنجاسة الغسالة، لم يطهر ذلك الثوب بالعصر والجفاف، بل سبيل ما أصاب، كسبيل النجاسة تُصيب ثوباً، وإذا جف عن الثوب الذي ورد عليه، يجب الغسلُ عن هذا، عصراً وفصلاً للغسالة.
1099- ثم المتبع في نجاسة الأرض أن تصير مغمورة، وذلك يختلف بمقدار النجاسة وكيفيتها، وليكن مقدار الماء المصبوب، من الذنوب، أو القربة على حالة النجاسة.
وذكر الصيدلاني: أن من أصحابنا من قال: ينبغي أن يكون الماء المصبوب سبعة أمثال النجاسة، وهذا لست أعرف فيه توقيفاً، ولا له تحقيقاً من جهة المعنى، بل الذي أراه أنه لا يكتفى في المكاثرة والمغالبة بهذا أصلاً.
ثم من ركيك ما فرعه المفرعون أن قالوا: قد قال الشافعي: "وإن بال اثنان لم يطهرها إلا دلوان"، فذهب ذاهبون إلى أنه يجب رعاية ذلك، وهذا الفن من الكلام مما لا يقبله لبُّ عاقل، فأي معنىً لتعدد الدَّلو والغرضُ المكاثرة؟ وأي فرق بين أن يجمع ملء دلوين في دَلوٍ عظيم ويصب، وبين أن يكون في دَلوين فيصبان؟ فأي أثر لصورة الدلو؟ وقد يكثر بول بائل، ويقلُّ بولُ بائلين، فاعتبار مقدار النجاسة، وتنزيلُ مقدار الماء على مقدارها بنسبة المغالبة مقطوعٌ، لا مراء فيه.
1100- وكل ما ذكرناه والنجاسة التي أصابت الأرضَ مائعة، فأمّا إذا كانت جامدةً، فلا يُحكم بطهارة موردها، مادامت النجاسة شاخصة قائمة، فالوجه نقل تلك الأعيان، ثم صب الماء، والمغالبة بعد ذلك.
فهذا بيان استعمال الماء في الأرض، وتنزيل نضوب الماء منزلة العصر في الثوب.
1101- ثم قال الشافعي: إذا أصاب الأرضَ بول، ثم حميت الشمس عليها أياماً، وزالت آثار النجاسة، لم تطهر الأرض، ما لم يُستعمل الماء على الترتيب المذكور.
ونص في القديم على أن الأرض تطهر إذا زالت النجاسة بهذه الجهة، فاتخذ المفرّعون هذا القول القديمَ أصلاً، وخرجوا عليه أشياء كما سنذكرها وِلاءً إن شاء الله.
منها أن الزبل إذا اختلط بالتراب وتطاول الزمان، وخرج عن صفته، وانقلب إلى صفة التراب، والتفريعُ على القول القديم، ففي الحكم بطهارته وجهان:
أحدهما: نجس؛ فإنَّ عين النجاسة قائمة.
والثاني: أنه طاهر لانقلابه تراباً، وللاستحالة أثر في تغيير الأحكام؛ فإن العصير إذا اشتدّ ينجُس، ثم إذا انقلبت الخمر خلاً، فالخل طاهر في نفسه.
وقالوا: إذا وقع كلب في المملحة، فانقلب على مر الزمان، ملحاً ظاهراً وباطناً، فهل يطهر؟ وهل نحكم له بما نحكم به للملح، لمكان هذه الاستحالة؟ فعلى الوجهين المذكورين في انقلاب الزبل تراباً.
1102- ثم مذهب أبي حنيفة أن رماد كل عين نجسة طاهر، وهذا بعيد على مذهب الشافعي، وقد صار إليه أبو زيد المروزي والخِضري من أصحابنا، تفريعاً على القول القديم.
1103- ومما أجراه الأصحاب على ذلك أن قالوا: إذا ضُرب اللَّبِن بماءٍ نجس، وجف، فهو نجس، فلو صب على ذلك ماء طهور حتى انتقع ووصل الماء إلى أجزائه، كان هذا بمثابة ما لو أصاب الأرضَ نجاسة فصب الماء عليها، وكوثرت به.
ولو اتخذ من ذلك اللَّبِن آجُراً، فهل يطهر؟ قالوا: إن حكمنا بأن الشمس لا تطفر، فالآجر نجس، وإن قلنا: بأن الشمس تطهر، فالنار أقوى أثراً وأبلغ، فينبغي أن يطهر الآجُر.
وحاصل هذا القول فيما ذكرناه: أنا على الجديد لا نحكم لشيء أصابته نجاسة بالطهارة، حتى يُصبَّ عليه الماء، كما تفصل، وإن احتُفر الترابُ، ونقل، فهذا من باب إعدام محل النجاسة، وهو كما لو أصابَ ثوباً نجاسة، فقُرض موردها بمقراض ونُحي.
فهذا قاعدة المذهب.
1104- ونصَّ الشافعي في القديم أن الشمس إذا حميت وأزالت عينَ النجاسة، طهر المكان، ونزل منزلة ما لو احتُفر التراب ونُقل، وقد تحقق عدم النجاسة، فخرج أصحابنا على القول القديم فرعين:
أحدهما: انعدام العين بتأثير النار، وهذا التخريج متجه منقدح لابد منه.
والثاني: تغير صفات النجاسة بانقلابها تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، كما ذكرناه، وهذا أبعد من جهة أن عين النجاسة قائمة، وإنما تغيرت الصفات، وحالت من نعت الإنتان، وصفة الاستقذار إلى نعتٍ آخر، وكان هذا تخريجاً على التخريج تقريباًً.
والذي يقتضيه الترتيب أن يقال: إذا جعلنا خطفَ الشمس والنار لعين النجاسة تطهيراً، ففي تغيّر الصفات وجهان. ثم ينبغي أن تتغير إلى صفات أعيان طاهرة النوع كالذي ينقلب تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، فإن هذه أنواع طاهرة في أنفسها.
وعندي أن جميع ذلك غيرُ معدود من مذهب الشافعي؛ فإنه ينشأ من قول قديم له في الشمس، وقد ذكرنا أن القول القديم مرجوع عنه، غيرُ معدود من المذهب.
والذي يحقق ذلك أنا لو فتحنا هذا الباب في النجاسات، فليت شعري ماذا نقول في صخرة صماء أصابتها قطرة من بول، ثم صب عليها دُفعُ الخلِّ الرقيق الثقيف في حدورٍ وصبب! فنعلم قطعاً أن تلك القطرة قد زالت، ولم يبق منها أثر، فإن كنا نرعى زوال عين النجاسة، فينبغي أن نحكم بطهارة تلك الصخرة على هذه الصورة، ولا يسمح بها أحد ينتحل مذهب الشافعي، وهذا لازم قطعاً على هذا القياس.
فرع:
1105- إذا فرعنا على القديم، وقلنا: الشمس تطهّر الأرض، وكذلك النار، فلو أصابت النجاسةُ ثوباً، ثم أثرت الشمس فيها، فانقلعت آثار النجاسة، فقد قال أبو حنيفة: لا يطهر الثوب بهذا، وإنما تطهر الأرض؛ فإن في أجزاء. التراب قوة محيلةً تحيل الأشياءَ إلى صفة نفسها، وهذا لا يتحقق في الثياب.
وأصحابنا نزلوا الثوب منزلة الأرض، وما ذكره أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه غيرُ بعيد، فليخرج الثوب على وجهين-إن قلنا الشمس تطفَر الأرض- لما ذكرته من الفرق بينهما.
ثم ذكر بعض المصنفين: أنا إذا حكمنا بأن الثوب يطهر بالشمس، فهل يطهر بالجفاف في الظل؟ فعلى وجهين. وهذا في نهاية البعد، ثم لا شك أن نفس الجفاف لا يكفي في شيء من هذه الصور؛ فإن الأرض تجف بالشمس على قرب، ولم تنقلع بعدُ آثار النجاسة، والمرعي انقلاع الآثار على طول الزمان بلا خلاف، وكذلك القول في الثياب.
فرع:
1106- الآجُرُ الذي كان عُجن بالماء النجس في طهارته كلام، فإن قلنا: إنه نجس-وهو المذهب والقول الجديد- فلو نقع في الماء زماناً، لم يطهر باطنه، فقد استحجر، ولا يتغلغل الماء إلى أجزائه الباطنة، بخلاف اللَّبِن الذي عجن بماء نجس، ثم صُب عليه الماء، فنفذ؛ فإن هذا ينزل منزلة الأرض النجسة يُصبُّ عليها الماء كما تقدم، فإذا تبين أن باطن الآجُر لا يطهر، حيث انتهى التفريع إليه، فهل يطهر ظاهره إذا أفيض الماء عليه حتى تصح الصلاة عليه؟ قال القفال: يطهر ظاهره؛ فإن الماء يصل إليه، وقال الشيخ أبو حامد: لا يطهر؛ فإنه صار بتأثير النار مستحجراً، فلا يؤثر صب الماء في قلع شيء منه، فلا تزول نجاسة ظاهره بجريان الماء عليه.
والأمر في ذلك مفصل عندي: فإن كانت نجاسة الآجر بسبب أنه عُجن ببول أو ماء نجس، فالوجه القطع بأنه يطهر من ظاهره؛ فإن النار قد سلبت الماء، وطيرته قطعاً، ولكنا في التفريع على الجديد لا نحكم بطهارته تعبُّداً، حتى يستعملَ الماء، فإذا جرى الماءُ على ظاهره، فلا يبقى بعد ذلك عذر.
فأما إن كان سببُ نجاسة الآجر أنه كان خُلط ترابه بالزبل أو الرماد النجس-على الجديد- فلا يطهر ظاهرُه بصب الماء عليه؛ فإن تلك الأعيان مستحجرة لا يزيلها الماء من ظاهر الآجر.
وهذا التفصيل لابد منه، فإن كان أبو حامد يخالف في طهارة ظاهر الآجرّ وسببُ نجاسته ماءٌ نجس، فلا وجه لخلافه، وإن كان القفال يقول في الآجر الذي سبب نجاسته الزبل والرماد النجس: إنه يطهر ظاهره، فلا وجه لقوله. وإن كانا يُفصِّلان، فلا خلاف بينهما إذاً.
هذا تفصيل القول في الأسباب التي تُزيل حكمَ النجاسة، على الوفاق والخلاف.
فصل:
قال: "والبساط كالأرض... إلى آخره" الفصل:
1107- ذكرنا فيما تقدم تقاسيمَ القول في النجاسات، ثم ذكرنا بعدها ما يزيلها، ومضمون هذا الفصل ما يجب التوقي عنه في البدن، والثوب، والمصلَّى.
1108- فإن كان على بدنه نجاسة لا يُعفى عنها، لا تصح صلاته، وإن كان حاملاً نجاسة، لا تصح صلاته، فإن حمل حيواناً طاهر العين، جاز، ولا حكم للنجاسات التي يحتوي عليها جوفُه. نعم منفذ ذلك الطائر قد لاقته النجاسة البارزة منه، وذلك جزء ظاهر نجس. فمن أئمتنا من قال: يُعفى عن هذا القدر إذا لم تكن النجاسة باديةً. ومنهم من جرى على القياس، ومنع صحة الصلاة.
فعلى هذا قالوا: إذا اقتصر الرجل على الأحجار في الاستنجاء، فالأثر اللاصق بمحل النجو نجس، ولكنه نجس معفوٌّ عنه في حق المستنجي، فلو حمل مصل هذا الشخصَ في صلاته، ففي صحة صلاته وجهان:
أحدهما: الصحة؛ فإن الأثر معفو عنه، ولا حكم له.
والثاني: أنه لا يصح؛ فإن العفو مختص بالمستنجي، فلا يتعدى إلى الحامل، والخلاف في المقتصر على الأحجار أظهر، من جهة أن الشرع طهَّر أثرَه بالعفو عما به، ولم يُطَهِّر ذلك في الحيوانات المحمولة، فالوجه القطع فيها بالمنع.
1109- ولو حمل المصلي بيضة مَذِرةً، حشوها دمٌ، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: النجاسة المستترة بالقيض لا حكم لها؛ فإنها مستترة استتار خلقة، فأشبه النجاسات الكائنة في جوف الحيوان المحمول.
ومنهم من قال: حكمها حكم النجاسة البادية؛ فإن نجاسة الحيوان تدرأ حكمها حياةُ ذي الروح، وللحياة أثر في دفع النجاسات، والبيضة جماد.
وهذا الخلاف يجري فيمن حمل عنقوداً، قد استحال باطن حباته خمراً، ولكنها مستترة بالقشور من غير رشحٍ.
ولو حمل المصلي قارورة مُصَمَّمَة الرأس فيها نجاسةٌ، فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ فإن هذا الاستتار ليس من جهة الخلقة، وخرّج ابن أبي هريرة ذلك على وجهين كالبيضة المذرة، وهذا مردود عليه.
ولو حمل نجاسةً ملفوفة في خرقة أو قرطاسٍ، أو ما أشبههما، فلا أتخيل في ذلك خلافاً، وإنما ذكر ابن أبي هريرة الخلاف فيما يضاهي سترُه للنجاسات سترَ البيض، بحيث لا يتوقع بروزها وظهورها بوجه.
فإذا قد ظهر أنا نشترط طهارةَ بدنِ المصلي وثيابِه، التي هو لابسها، وكل ما يلقاه عضو من أعضائه في الصلاة، فلابد من طهارة موطىء قدميه وموضع أعضاء سجوده؛ فإن الثوب الذي هو لابسه منسوب إليه في الصلاة ملبوساً، والذي يلقاه منسوب إليه ممسوساً، وإذا تحققت الملاقاة بين المصلي والنجاسة، فاختلاف السبب بعد ذلك لا أثر له، ولابد للمصلي من مكانٍ يصلي عليه، كما لابد من ثوب يلبسه.
1110- ولو كان يحاذي بدنَ المصلِّي في سجوده نجس وكان لا يلاقيه بدنُه ولا ثوبُه، مثل أن يكون على حيال صدره في السجود نجس، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الصلاة صحيحة لانتفاء الملاقاة.
والثاني: أنها باطلة؛ فإن القدرَ الذي يوازي الساجد ويسامته منسوب إليه مختص به، كما أن قميصه الفوقاني الذي لا يلقَى بدنَه منسوب إليه على الاختصاص باشتراط طهارته، وإن كان لا يلقاه، فهذه الأصول التي تشترط فيها الطهارة.
1111- وإذا كان يصلي على بساط، وكان يلاقي أعضاؤه في السجود، ويسامتُ بدنُه وثيابُه طاهراً، وكان طرف ذلك البساط نجساً، فلا يضرّ نجاسةُ ذلك الطرف، ولا فرق بين أن يكون ذلك الطرف بحيث يتحرك بحركة المصلي أو لا يتحرك، ولا حاجة إلى تعليل البينات.
1112- ولو كان يصلي على بساطٍ صفيق، وكان الوجه الذي يلي الأرض نجساً، ولا نجاسة على الوجه الذي يلي المصلي، صحت الصلاة، ولا يضر نجاسةُ الوجه الذي لا يلي المصلي، وهو بمثابة ما لو كان يصلي المصلي على طبقة طاهرة من أرض، وكان وراءها نجاسة مستترة، بالطبقة العالية، فلا أثر لها، فالصلاة صحيحة.
1113- ولو كان المرء يصلّي، وكان يحتك في قيامه بجدار نجس، فصلاته باطلة، لملاقاة النجاسة.
ولو كان على رأسه طرف عمامة وكان طاهراً، وكان الطرف الآخر من العمامة نجساً، وكان ملقى على الأرض متضمخاً بالنجاسة، فالصلاة باطلة، فاتفق أصحابنا عليه؛ فإن تلك العمامة تعد من ملبوساته، وإن كان ذلك الطرف بعيداً عنه، ولا فرق بين أن يتحرك ذلك الطرف بحركته وبين أن يكون بحيث لا يتحرك بحركته.
وهو كما لبس قميصاً طويلاً عليه، وكان بحيث لا يرتفع طرف ذيله بارتفاعه، وكان نجساً، فالصلاة باطلة.
ولو كان بيد المصلي طرف طاهر من حبل والطرف الآخر نجس، وهو بحيث لا يتحرك بارتفاعه وانخفاضه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا تصح صلاته، كطرف العمامة.
والثاني: تصح؛ فإن العمامة منسوبة إليه لبساً؛ إذ أحد طرفيه مُكوّر على رأسه، والملبوس وإن طال، فالمصلي مأخوذ بطهارته كالقميص وإن كان مستمسكاً بطرف الحبل؛ فليس الحبلُ ملبوسَه، وليس الطرف النجس محمولَه، فإنه لا يرتفع بارتفاعه.
ولو استمسك بطرف عمامة على هذه الصورة، لكانت المسألة مختلفاً فيها كالحبل.
ولو كان شد الطرف الطاهر من الحبل على حبله، أو وسطه، والطرف النجس مُلقىً على الأرض، لا يتحرك، فقد ذكر العراقيون وغيرهم في هذه الصورة وجهين أيضاً؛ فإنه ليس للحبل إليه انتسابٌ، إلا من جهة التمسك، وإن شده على يده أو وسطه، فهو استيثاق للإمساك، وليس بلُبس. ولو كان طرف الحبل بيده والطرف الآخر ملقى على نجاسة يابسةٍ، فهو كما لو كان ذلك الطرف البعيد نجساَّ، فيخرّج على الخلاف المقدم، فلا فرق بين نجاسة الشيء وبين وقوعه على الشيء النجس.
1114- ولو تمسك بطرف حبل، والطرف الآخر مشدود في عنق كلب، فهو كما لو كان ملقى على نجاسة يابسة، ولو كان الطرف المشدود على الكلب غيرَ بعيد من المصلي، وكان بحيث لو مشى الكلب به، لكان المصلي حامله، فهذه الصورة مرتبة على ما إذا كانت بعيدة، وهي أولى باقتضاء البطلان، وفيها احتمال من جهة أن المصلي ليس حاملَه، ولو كان الطرف الآخر متعلقاً بساجور، والساجور في عنق كلب، ففي هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين، فيه، إذا كان الحبل يلقى جِرم الكلب، وصورة الساجور أولى بالصحة؛ فإن بين الكلب وبين طرف الحبل واسطة وهي الساجور.
ولو كان طرف الحبل في عنق حمار، وعلى الحمار نجاسة، فهذه الصورة مختلف فيها، وهي أولى بالصحة من صورة الساجور؛ فإن الساجور لا يبعد أن يعد جزءاً من الحبل، والحمار ليس جزءاً من الحبل أصلاً.
ولو كان طرف الحبل متعلقاً بسفينة فيها نجاسة، فإن كانت بحيث تنجرّ بالحبل لو جُرّت، فهذه الصورة كصورة الشد على عنق حمار، وإن كانت السفينة بحيث لا تنجر بالحبل لكبرها، فالوجه القطع بصحة الصلاة، فإن الحبل يتعلق بطاهرٍ، ووراء متعلَّقه النجاسة، وليست السفينة جزءاً من الحبل، ولا بحيث تنجر بحركة الحبل، فكان ذلك كما لو كان الحبل متعلقاً بباب بيت، وفي البيت نجاسة.
وذكر العراقيون اختلافاً في السفينة الثقيلة والحبل؛ فإن السفينة على حالٍ تجر بالحبال، وهذا بعيد جداً.
وقد زيف العراقيون الخلاف فيه، وإن حَكوه، والوجه القطع بالصحة.
ولو كان أحد طرفي الحبل متعلّقاً بالكلب من غير واسطة، والطرف الآخر تحت قدم المصلي، فتصح صلاته وجهاً واحداً، فإن هذا الطرف في حكم البساط، ولو كان الطرف الذي يصلي عليه المصلي طاهراً، وكان الطرف الذي لا يلاقي المصلّي ولا يسامته نجساً، لم يضر ذلك، وقد قطعنا به فيما تقدم.
1115- فخرج مما قدمناه أن كل ما ينتسب إلى المصلي ملبوساً، فهو مؤاخذ بطهارة جميعه، فلو كان طرفٌ منه نجساً أو ملقى على نجاسة، لم تصح الصلاة، طال أو قصر.
وإن كان ينتسب إلى المصلي انتساب البساط بأن كان تحت قدمه، فإنما يؤاخذ المصلي بطهارة ما يلاقيه أو يوازيه.
وإن كان ينتسب إليه من جهة الحمل، فمن ضرورة ذلك أن يكون المصلي رافعه وشايله، وإن انتسب إليه بتمسكه به، والطرف الآخر نجس، وما كان المصلي شايله، ففي هذا الاختلافُ والتفصيل، والفرقُ بين أن يكون واسطة أو لم يكن، ثم الفصل بين أن تكون الواسطة الطاهرة ساجوراً، أو حيواناً، أو صفيحةً طاهرة في سفينة، وحشوها نجس.
فصل:
1116- إذا كان المصلي على بساطٍ نجسٍ، وكان فرشَ إزاراً سخيفاً مهلهل النسج، ذكر الأئمة فيه خلافاً، من حيث إنه يُعد حائلاً، والظاهر المنع؛ لأن المصلي وثوبَه الذي هو لابسه يلقى البساط النجس من خلال الفُرَج في أثناء النسج السخيف، والمسألة مصورة في البساط النجس الجاف.
1117- وإذا منعنا الرجل من الجلوس على الحرير، فبَسَطَ فوقه إزاراً صفيقاً، فجلس عليه، جاز. فلو بسط إزاراً سخيفاً، كما ذكرناه، ففي جواز الجلوس عليه التردد الذي ذكرناه في البساط النجس في حق المصلي.
فصل:
1118- المحدِث يدخل المسجد عابراً وواقفاً، والجنب يدخل المسجد عابراً، ويحرم عليه اللُّبث فيه، والحائض إن كان يُخشى منها تلويث المسجد، فهي ممنوعة من الدخول، وليس ذلك من خصائص أحكام الحيض؛ فإنَ من به سلسُ البول، واسترخاء الأسفل، أو جراحة نضاحة بالدم، بحيث يُخشى منه التلويث، يُمنع من دخول المسجد.
وإن كان لا يخشى منها التلويث، فهي ممنوعة من المكث، وهل تمنع من العبور؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنها تمنع؛ لأن حكم الحيض أغلظ من حكم الجنابة.
والثاني: وهو الذي اختاره الصيدلاني وقطع به، أنها كالجنب في جواز العبور، وإنما اختار هذا؛ لأن إثبات حكم جزئي لاعتقاد افتراق كلي لا يتجه. وهو بمثابة قولنا: لا يحرم على الجنب ذكر الله، ولا يحرم أيضاً على الحائض، ولا يجب من افتراقهما في أحكامٍ لا تعلق لها على الاختصاص بما نطلبُه أن يفترقا فيما نحن فيه.
ويمكن أن يقال: المسلمون مستوون في المسجد؛ فإنه بيت الله، والمؤمنون عباد الله على إضافة التخصيص والتشريف، والمُحْدِث يصحُّ اعتكافه، ولا يحرم عليه اللُّبث، والجنب يحرم عليه الاعتكاف، فلم يكن من أهل اللُّبث؛ إذ لو كان من أهله، لكان من أهل الاعتكاف، والعبور لا يحرم عليه؛ فإنه ليس فيه ما يقتضي تحريم العبور، فلتكن الحائض التي لا يخشى عليها التلويث كذلك.
ثم العبور الذي يتّجه هو على الاعتياد والاقتصاد؛ فلا نأمره بالإسراع في المشي، ولعل الضبطَ فيه ألا يعرج في موضع بخط تعريجاً يقضي بأن مثله يكون أقلَّ ما يجزىء في الاعتكاف، إذا جرينا على أن الاعتكاف شرطه اللّبث.
ثم لا نؤاخذ العابر بسلوك أقصد الطرق، وكيف يُظن هذا، وله أن يدخل المسجد ابتداءً عابراً، وإنما يتخيل هذا الفرق على مذهب أبي حنيفة، فإنه لا يرى للجنب أن يدخل المسجد، لكن لو كان فيه، فاحتلم، فيخرج. ثم قال: إنه بالخيار إن شاء انتحى أبعد الأبواب، وإن شاء خرج من السبيل الأقرب. ولكن لا ينبغي للعابر عندنا أن يتردد في أكناف المسجد، معتقداً أن له أن يمشي؛ فإن التردد في غير جهة الخروج في حكم المكث. وهذا بيّن.
1119- وأما الكافر؛ فإن لم يكن جنباً، فله أن يدخل المسجد بإذن واحدِ من المسلمين، وهل له أن يدخل من غير إذن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يدخل؛ فإن الكافر ليس من أهل من يقيم في المسجد، فكأن المسجدَ يختص بالمسلمين اختصاصَ دار الرجل به.
والثاني: أنه يدخل؛ فإنه بالجزية، صار من أهل دار الإسلام، والمسجد من المواضع العامة في دار الإسلام، فشابه الشوارع التي يطرقها الكافة.
وإن كان الكافر جنباً، فهل يجوز تمكينه من المكث في المسجد؟ اختلف أئمتنا فيه، فمنهم من منع من ذلك؛ فإنه إذا كان يُمنع المسلم الجنب رعايةً لحق المسجد وحرمته، فلأن يمنع الكافر أولى.
ومنهم من قال: لا يمنع؛ فإنه ليس معتقداً لاحترام المسجد، ولا تتعلق تفاصيل التكليف به مادام كافراً، وكان الكافرون يدخلون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم-مع القطع بأنهم يجنبون- ويجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطوّلون مجالسهم، وربط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمامةَ على ساريةٍ في المسجد في القصة المشهورة.
فصل:
1120- صح نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: "المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمّام، وظهر الكعبة، وأعطان الأبل"، وقد سبق الكلام على بعض ما اشتمل عليه الحديث.
1121- والذي نبغيه الآن الحمَّامُ وأعطان الإبل، فأما نهيُه عن الصلاة في الحمّام، فنهيُ كراهية، وذكر الفقهاء معنيين:
أحدهما: أنه لا يخلو عن رشاش وبَدْوِ عورات، والثاني أنه بيت الشياطين، وخرَّجوا على ذلك الصلاة في المسلخ، وإن علَّلنا النهي بالترشش وبدْو العورات، فهذا لا يثبت في المسلخ، وإن عُلّل بأنه بيت الشياطين، فقد يعم ذلك المسلخ.
ومما نتكلم فيه الصلاة في أعطان الإبل-نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها- وليس المراد بالأعطان المرابط التي يكثر البول والبعر فيها؛ فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة في الأعطان، وسوغّ الصلاة في مرابض الغنم، ولو كان النهي للنجاسة، استوى الغنم والإبل. والمراد بالأعطان أن الإبل قد تزدحم على المنهل، فتفرَّق أذواداً كلما شرب ذود نُحِّي، حتى إذا توافت استيقت، فلا يكثر فيها الأبوال والأرواث، ومُراح الغنم يصور حسب تصوير أعطان الإبل، ثم سبب الفرق بينهما مذكور في الحديث، والإبل لا يؤمن نفرتها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الإبل: "إنها جن خلقت من جن، ألا تراها إذا نفرت كيف تشمخ بآنافها، وقال في الغنم: إنها خلقت من السكينة؟ فإنها من دواب الجنة".