فصل: فصل: يجمع وقوع القطع على ظنون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يجمع وقوع القطع على ظنون:

10538- ونحن نصفها ونرسل مسائلها، ثم نرتبها.
فإذا قتل الرجل رجلاً في دار الإسلام، ثم زعم أنه حسبه قاتلَ أبيه، ففي وجوب القصاص على القاتل قولان:
أحدهما: لا قصاص عليه، لظنه، وإنما القصاص على من يتعمد القتلَ ظلماً؛ فإن القصاص مزجرةٌ عن الظلم، ولا يتصور زجرُ المخطىء. والقول الثاني- يجب القصاص؛ فإن القتل معمودٌ، وإنما الظن من جهته، وليس القاتل معذوراً في ابتداره القتلَ، بل كان مأموراً بالبحث ونهاية التثبت، ثم حُكم الشرع ألا يستقلّ بالقصاص، بل يرفعه إلى السلطان، وإذا تحقق التعمد بأصل القتل، ولم يقع في الجهة التي ظنها، وجب القصاص.
ومن الصور للفصل أن يقتل رجل رجلاً في زي الكفار الحربيين، ثم يتبيّن أن المقتول كان مسلماً، والواقعة في دار الإسلام، ففي وجوب القصاص على القاتل قولان، والتوجيه يقرب مما تقدم.
ومن الصور أن يقتل رجلاً كان ارتد، فحسبه فيما زعم مصراً على ردته وقد كان عاد إلى الإسلام، ففي القصاص القولان.
وهذه الصور يجمعها وقوع القتل عمداً صادراً عمن لا يبعد وقوعه منه، وصاحب الظن مزجور عن المبادرة والإقدام.
وإنما يجري الخلاف إذا كان للظن وجه ظاهر في الوقوع، فلو قتل رجلاً، وقال: حسبته كان ارتد أمس، وتبين أنه ما كان ارتد قط، فالقصاص يجب قولاً واحداً، وكذلك لو قال: حسبته قاتل أبي، ثم تبينتُ أن أبي حيٌّ ما قُتل، يجب القصاص عليه؛ فإن أمثال هذه الظنون لا تصدر عمن على قوله معوّل.
10539-وإذا ذكرنا هذه المسائل مرسلة نذكر في معارضتها مسائل، فلو قتل الغازي في دار الحرب إنساناً لا يبعد عن زيّ الكفار، وقال: حسبته كافراً، لم نلزمه القصاص، وفي لزوم الدية قولان، وهذا يجري على الشرط الذي ذكرناه في كل من يقصده الرجل بالقتل في دار الحرب، على ظن أنه كافر، والظن ممكن. فأما إذا رمى إلى صف الكفار، فمرق إليهم وأصاب أسيراً وراء الصف، لم يقصده الرامي، فهذا هو الذي سماه الفقهاء قتيل سهم الغرب، فلا دية، وتجب الكفارة، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...} [النساء: 92].
والمسائل التي ذكرناها في دار الحرب، تتميّز عن مسائل دار الإسلام بظهور عذر القاتل في دار الحرب، وعدم تعرضه للتقريع والتوبيخ ثم مسائله تنقسم: فمنها ما لا قصد فيها إلى عين القتيل، فموجب القتل فيه الكفارة المحضة، ومنها ما يقصد فيها شخصاً على الحدّ الذي ذكرناه، ففي الدية قولان، وتيك المسائل مجتمعة في نفي القصاص.
والمسائل التي فرضناها في دار الإسلام يجمعها بوجهٍ التقريع واللائمة، وأدنى الدرجات النسبة إلى التقصير، وأصلُ الضمان ثابت في جميعها وفي القصاص قولان.
هذا إذا كان الذي يدعيه القاتل مما لا يبعد وقوعُ مثله لأصحاب العقول، وإذا بعد مأخذ الظن، اتحد القول في وجوب القصاص.
10540- ثم مهما أوجبنا الدية حيث نقطع بأن لا قصاص، ففي محل الدية قولان:
أحدهما: أن محلها مال القاتل.
والثاني: أنها مضروبة على العاقلة، وقد قدمنا طرفاً من هذا سنعيده مقرراً في باب العواقل من كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
وحيث قطعنا القول في وجوب القصاص، فحكم المال إذا آل الأمر إليه على طريقين: من أصحابنا من قال: في المسألة قولان كمسائل دار الحرب، ومنهم من قطع بأن المال في ذمة الجاني، والطريقان على قول نفي القصاص.
فإن فرعنا على وجوب القصاص، فلو آل الأمر إلى المال، فلا خلاف أنه يتعلق بذمة الجاني.
وهذه المسائل التي أدرناها على الظنون التي ذكرناها، اختلف المحققون في معناها، فذهب بعضهم إلى أن مأخذ الكلام فيها أن هذه الظنون لو وقعت، وحصل الوفاق على وقوعها، فكيف القصاص، وكيف الغرم.
ومن أصحابنا من قال: لو حصل الوفاق على وقوعها أثّرت، وإنما التردد في أن من يدعيها هل يصدق فيها؟ من جهة أن الظان، وإن كان أعرف بظنه، فوقوع أمثال هذه الظنون بديعة قلّما تكون.
10541- وإذا طلبنا ترتيب هذه المسائل، قلنا: المرتبة العليا في تمهيد العذر لصاحب سهم الغرب، وقد كان يليق بالرامي ألا يلتزم الكفارة أصلاً من حيث لم يقصد معيّناً، وكان الرمي الذي جاء به جهاداً في سبيل الله، ولو قيل: إنه حتمٌ في حق الواقف أو واقع فرضاً على الكفاية لم يبعد، ولكن اتفق الأئمة على وجوب الكفارة وتنزيلها على ظاهر الآية.
ويلي تلك الرتبة قصدُ شخصٍ على زي الكفار بعينه، ثم تبين إسلامه، فالقصاص يندفع وفي الغرم قولان، ثم إن يثبت، ففي محلّه قولان.
ويلي هذه المرتبة الصور التي قطعنا فيها بثبوت الغرم، وردّدنا القول في القصاص.
وما ترتيب هذه المسائل للدارَيْن، فإنه لا تأثير لها عندنا، ونزيد بيان
ذلك: إنه لو قَتَل إنساناً في دار الحرب، ثم زعم أنه حسبه قاتلَ أبيه، وتبين أن الأمر بخلاف ذلك، ففي وجوب القصاص قولان، وإن جرى ذلك في دار الحرب، كان كما لو جرى في دار الإسلام، فإن الدار لا تثير مزيّةً في هذا النوع من الظن، ولو وطىء الكفار بلاد الإسلام، ولقيناهم، فالقول في إصابة سهمنا أسراهم على ما ترتب في دار الحرب.
10542- ثم إذا تمهد الأصل، فإنا نذكر بعده صوراً: منها أن الرجل إذا كان عهد ذمياًً، ثم لقيه فقتله، وبنى على أن المسلم لا يقتل بالذمي، ثم تبين له أن الذمي كان أسلم، فقد ذكر الأئمة قولين في وجوب القصاص على القاتل، وهما مرتّبان على بعض ما تقدم، وهو إذا ظن المقتولَ حربيَّاً دخل دار الإسلام غلبةً، وتوصل إلى دخولها غلبةً، ووجه الترتيب أنه اشتد ظنه فيمن ظنه حربياً إلى جهةٍ يجوز القتل فيها أو يجب، بخلاف ما لو حسبه مستمراً على الذمة؛ فإن قتل الذمي محظور، والإحقان بالذمم محذور، فكأنه اعترف بالهجوم على محظور، وظنَّ مسقطاً.
ومن هذا القبيل ما لو كان رأى عبداً أو ظفر به يوماً فقتله، وبنى النجاة من القتل على أن الحر لا يقتل بالعبد، فلو تبين له أنه أعتق، وجرى قتلُه بعد الحريّة، فهو كمسألة الذمي.
ثم تردد أئمتنا في الكلام في هذا الضرب الذي نحن فيه وفي مسألة أخرى، وهو إذا لقي مرتداً كان حسبه مصرّاً على ردته، فقتله، ثم بان أنه تاب عن الردة، ففي وجوب القصاص القولان المشهوران، فمن أصحابنا من جعل مسألة المرتد أولى بسقوط القصاص؛ من قِبل أنه ظنه هدراً، ونَهْيُ آحاد الناس عن قتله أدبٌ وسياسة، وليس كالذمي؛ فإن قتله محظور ديناً، وهو معصوم مضمون.
ومن أصحابنا من جعل مسألة الذمي والعبد أولى بسقوط القصاص من مسألة المرتد، والسبب فيه أن ظن بقاء الذمة والرق أوجه من ظن بقاء الردة، وترك المرتد ينقلب بين ظهرانَي المسلمين.
وهذه المسائل في أصولها وتفرعها وتركبها وترتبها ينبغي أن تؤخذ من قوة الظنون وضعفها، فهذه جملةٌ حوت فنوناً من الظنون واشتملت على أحكام مراتبها، وسنعود إلى بعض قضاياها عند الكلام فيما يُضرب على العاقلة وما لا يضرب عليهم، إن شاء الله تعالى.

.فصل: يجمع مقاصد في اختلاف الجاني والمجني عليه وورثته:

10543- إذا قطع رجل يدي رجل ورجليه، فلو اندملت الجراحات، وجبت ديتان، ولو سرت إلى الروح، صارت الجراحُ نفساً، فلو مات المجني عليه، فقال الجاني: مات بجراحي، وعادت الأروش ديةً واحدة، وقال ورثة المجني عليه: بل مات حتف أنفه، وقد اندملت تلك الجراحات أولاً، نظر: فإن طال الزمان وكان يظهر الاندمال في مثله، ولا يظهر نقيض ذلك، فالقول قول الورثة مع أَيْمانهم، والمعتمدُ فيه أن الجاني اعترف بثبوت ما يوجب الديتين، وهو قطع اليدين والرجلين، ثم ادّعى وراء ذلك تصيير الجراح نفساً، فكان في حكم من يعترف بلزوم الدَّيْن المدّعى عليه ويدعي سقوطَه بإبراءٍ أو غيره، نص الشافعي على ذلك، وأطبق الأصحاب على موافقته.
هذا إذا تمادى الزمان.
وفي تصوير ذلك سر، وهو أنا لانشترط أن يظهر كذب الجاني بسبب طول الزمان، مثل إن كان بقي عشرين سنة، بل نكتفي بألا يظهر ضدُّ ما يدعيه الورثة، بحيث يتقابل القولان في الإمكان، وإذا كان كذلك، بقى ما ذكرناه من ثبوت موجب الديتين مستمسكاً للورثة.
ولو قصر الزمان وبعُد الاندمال فيه، على خلاف ما يدّعيه الوارث، فإن بلغ الظهور منه اليقين، فلا حاجة إلى تحليفٍ ويمين مع شهادة الشاهد، فإن جرى ما ذكر في زمان قد يقع في مثله اندمالٌ على بُعدٍ، والظاهر خلافه، والنزاع كما صورناه، فالقول قول الجاني. اتفق عليه الأصحاب.
هذا إذا دار النزاع على دعوى الاندمال.
10544- فلو قال الوارث: مات المجروح بسبب طَرَى كتردٍّ من عُلوّ أو قتلٍ مذفِّف من غير الجارح، فإذا كان منشأ النزاع على هذا الوجه، وكان السريان ممكناً، والاندمال ممكنٌ، أو كان الاندمال غيرُ ممكن لقرب الزمان، فإذا كان دوران النزاع على ادعاء الوارث سبباً، وإنكارِ الجاني إياه، وحملِه-على المذهب- على السريان مع الإمكان، فإذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فقد ذكر صاحب التقريب تردداً واحتمالاً، وقال: يحتمل أن يُقبل قولُ الوارث مع يمينه، ولا نكلّفه إقامةَ البينة على السبب الذي ادعاه؛ فإن الأصل بقاء الديتين، وما قاله محتمل ممكن.
وهذا يخرج على إضافة المودَع دعوى تلف الوديعة إلى سبب لا يمتنع إثباته بالبينة، وإذا هو ادعى ذلك، لم نكلفه إقامةَ البينة، بل قلنا: القول قوله مع يمينه، قال: ويحتمل ألا يُقبل ما ادّعَاه إلا ببينة؛ من جهة أنه لا عجز عن إثبات الأسباب بالبينات على الجملة، ولا ينبغي أن نتعلل بالكليّة في تصاريف المسائل إلى براءة ذمة الجاني، وإذا قلنا: ثبت موجب الديتين، ففيه مستدرك؛ فإن الأمر موقوف على المآل.
وذكر الصيدلاني-حيث انتهينا إليه- تفصيلاً نأتي به على وجهه، وذلك أنه قال: إن قصر الزمان، ولم يمكن فيه الاندمال، فقال الوارث: مات بسبب آخر، ولم يمت بالجرح، ولم يذكر سبباً مفصلاً من سقطةٍ وغيرها، فلا يقبل قوله؛ فإن تركه لتعيين السبب يشعر بأنْ لا سبب، وإن أورد الوارث سبباً حيث لا يحتمل الاندمال، فهذه مسألة صاحب التقريب.
وفي هذا فضل نظر: فيظهر من فحوى كلامه أولاً أنه إذا لم يعيّن سبباً، وكان الاندمال محتملاً، فالجواب بخلاف ما إذا كان لا يحتمل الاندمال، وهذا له خروج حسن على التردد الذي ذكر صاحب التقريب.
فأما إذا كنا لا نكلف الوارث إثبات ما يعينه بالبينة، فلا حاجة إلى تعيينه، وإن كنا نكلفه إثباته بالبينة، فلابد من التعيين لتقوم البينة عليه، ولو شهد عدلان أنه مات بسبب غير الجرح وسريانه، فلست أرى لقبول هذه الشهادة وجهاً، هذا إذا أمكن الاندمال، وجرى ذكر سبب مطلق.
فأما إذا لم يمكن الاندمال، فما ذكره الصيدلاني مصرَّح بأنه لا يقبل قول الوارث؛ فإنّ ترك تفسير السبب يطرِّق التهمة.
وهذا الذي ذكره على حسنه ليس ينفي أي احتمال تخريجاً على أنه لو عيّن سبباً، لم يطالب بإثباته. نعم، لابد أن يتعرض في يمينه لإحالة الموت على سبب غير السريان. هذا بيان الاختلاف في طرفٍ من المسألة.
10545- ونحن نفرض نقيض هذا في مقصود آخر، فنقول: إذا جُرح الرجل جراحةَ عمدٍ ثم مات المجروح، فقال الوارث: مات بسراية جرحك، فعليك القصاص من النفس، وقال الجارح: بل مات بسب آخر، فلا قصاص عليّ، فهذا يفصّل حسب ما فصل الكلام في الصورة الأولى.
فإن لم يُجريا ذكرَ سبب وردّا الدعوى والإنكار إلى الاندمال، فلا يخلو: إما أن يتطاول الزمان بحيث يفرض الاندمال فيه، وإما أن يقصر، فإن طال الأمد، فالقول قول الجاني؛ لأنه ينفي القصاصَ على وجهٍ محتمل، والأصل عدم وجوبه، وهو في وضع الشرع مُعرّضٌ للسقوط بالشبهة.
فإن قيل: الجرح سبب القصاص، وهو معترف به، وقد ذكرتم فيما صورتموه من الفروع في الدية أن القول قول الوارث؛ فإن موجب الديتين قد ثبت. قلنا: لا سواء، فإن موجب الديتين كائن والسريان ردَّ الديتين إلى واحدة، وموجِب القصاص سريانُ الجرح، وهو مختلف فيه، هذا إلى أمرٍ آخر، وهو أن الدية لا تُسقطها الشبهة بخلاف القصاص.
هذا إذا طال الزمان وأمكن الاندمال إمكاناً ظاهراً.
وإن قصر الزمان وبعُد الاندمال فيه، وادعى الجارح الاندمال، فالقول قول الوارث، لظهور صدقه، ويحسن الآن الاقتضاء، ويكون الجرح سبباً في وجوب القصاص. ولعلنا-إن شاء الله تعالى- نفصل القول في منازل المدعين والمدعى عليهم في كتاب الدعاوى.
10546- وكل ذلك ولم يجر تعرض لطريان السبب: فإن قال الجاني لم يمت بجرحي، ولكن طرى سببٌ مهلك وعين ذلك السببَ، ففي المسألة التردد الذي ذكره صاحب التقريب، وإن لم يعيّن السبب؛ وقع الكلام فيما ذكره الصيدلاني، وقد انتجز الآن.
10547- ومهما طال الزمان وأمكن الاندمال، وصدقنا من يدعيه-إما لتعدد الدية في الصورة الأولى، وإما لاندفاع القصاص في الصورة الأخيرة- مع يمينه، فلو أقام صاحبه بيّنةً أن المجروح لم يزل زمناً ضَمِناً لما به من الجرح حتى مات، فيلتحق هذا بما لو قرب الزمان، وَبُعد الاندمال، وقد ذكرنا أن الأمر إذا كان كذلك، فالقول قول من ينكر الاندمال.
وهذا ترتيب القول في الاختلاف على أبلغ وجهٍ.
10548- ومما يتصل بذلك خلافٌ يُفرض بين الجارح والمجروح في سريان الجرح، وذلك إذا شج رأس إنسان موضِحتين، فارتفع الحاجز بينهما، فقال المشجوج: أنا رفعته، فعليك أرش موضِحتين، وقال الجاني: أنا رفعته أو تأكّلت جنايتي، فليس عليّ إلا أرشُ موضِحةٍ، فهذه الصورة مأخوذة من الأصل الممهد عند فرض الخلاف في التعدد والاتحاد، فإن قال الموضح: سرت جنايتي وارتفعت الجراحة لسريانها، وقال المشجوج: بل رفعها رافع غيرُك، فهذا يلتحق بما إذا ادعى الوارث سبباً معيناً، فيختلف جواب صاحب التقريب، كما صورناه فيما تقدم.
وإن قال الجاني: عدتُ فرفعت الحاجز، وقال المجني عليه، بل أنا رفعته، فيجب القطع هاهنا بتصديق المجني عليه؛ فإنه حين ذكر السبب من الجانبين، فيزول ترديدُ صاحب التقريب قولَه؛ حيث يقول: إثبات السبب ممكن؛ فإن هذا مما يستوي فيه الجانبان، ويعود الأمر إلى اعتراف الجاني بموضحتين موجبهما أرشان، ولو وقع التصادق على أن الجاني رفع الحاجز، ولكن قال المشجوج: رفعتَ الحاجز بعد الاندمال، واستقرار الأرشين، وأُلزمك رفع الحاجز أرشاً ثالثاً، وكذلك يكون الأمر إن أُجريت موضحتان واندملتا، ثم رفع الموضح الحاجزَ بعد الاندمال، فيلتزم ثلاثة أروش.
فإذا قال المشجوج: كان الأمر كذلك، وقال الشاج: رفعتُ الحاجزَ قبل الاندمال، رُدّ هذا إلى تفصيل الزمان، فإن طال الزمان، وأمكن الاندمال، فالأصل إيجاب الأرش، فإن قرب الزمان وبعد الاندمال، فالأصل الاكتفاء بأرش واحد، وهذا بعينه ينطبق على ما تقدم من تفصيل الاندمال، وترتيب الجاني.
فإن قرب الزمان، فالقول قول الجاني، فإن طال، جعلنا القول قولَ المجني عليه المشجوج، فيثبت الأرشان، وهل يثبت الأرش الثالث الذي يتعلق برفع الحاجز بعد الاندمال؟ فعلى وجهين:
أحدهما: وهو الذي ذكره الصيدلاني أن القول قولُ الشاج فيه؛ لأنه يقول: رفعته حيث لم يلزمني به أرش ثالث، بل اتحد الأولان، فإن لم يقبل قوله في اتحاد الأولين، وجب أن يُقبل في ألا يلزمه ثالث، والوجه الثاني- أنه يلزمه ثالث؛ فإنه ثبت رفع الحاجز باعترافه، وثبت الاندمال بيمين المشجوج، فيجتمع في ذلك أن من ضرورة تعدد الشجتين ثبوت الشجة الثالثة.
ولو قال الشاج: ما رفعتُ الحاجز، ولكن ارتفع بالسراية، وصدقه المشجوج، وأثبتنا الأرشين، فلا يثبت الأرش الثالث:لا شك فيه- لأن الشاج لم يعترف برفعه وفي الشجاج-فيما أظن- وجوه من الاختلاف، ستأتي في الديات.
10549- ومما يتعلق بالاختلاف أن الجارح لو ادعى أنه جَرَح وهو مجنون، ولو قال المجني عليه: بل كنتَ عاقلاً لمّا جرحت، فهذا في التفصيل ينطبق على ما ذكرناه في كتاب اللعان من أن القاذف لو قال: قذفتُ وأنا مجنون، وقال المقذوف: بل كنتَ عاقلاً، فهذا يختلف بأن يعهد له جنون أو لم يعهد، ثم فيه اختلافُ قولٍ وترتيبٌ طويل. ولو أقام الجارح بيّنة أنه كان مجنوناً عند الجرح، وأقام المجروح أو وليُّه بينةً أنه كان عاقلاً عند الجرح، فمن أصحابنا من قال: لا تقديم والبينتان على التناقض، ثم سيأتي تفريع التهاتر في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
وإذا جرينا على تساقط البينتين، رجع الأمر إلى دعوى الجنون ونفيه، وقد مضى ما فيه في كتاب اللعان.
10550- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه: "أن الإمام ينبغي أن يُحضر موضع الاقتصاص عدلين... إلى آخره" وهذا احتياط لابد منه، وينبغي أن يكونا مع عدالتهما خبيرين بمجاري الأحوال، فيتأملان حديدةَ القِصاص ويبحثان عن كونها مسمومة، وإن اتهما وليَّ القصاص أتيا بحديدة لا تهمة فيها. وهذا من نص الشافعي دليل على أن القصاص في الأطراف مفوّض إلى الولي؛ فإن التهمة إنما تفرض في حديدة الولي، وقد قدمناه في فقه هذا الفصل.
فصل:
قال: "ويَرْزقُ من يقيم الحدودَ ويأخذ القصاصَ... إلى آخره".
10551- الأوْلى أن الإمام يرزقُ جلاداً من السهم الموظف للمصالح العامة حتى يتولى استيفاء الحدود والقصاص إن اتسع المال، وإن ضاق، فنذكر القول في أجرة الجلاد في القصاص، ثم نذكر أجرته في الحدود.
فأما أجرته في القصاص، فالأصح أنها على المقتصّ منه؛ فإنها من مؤن التوفية ومؤنة الإيفاء على من عليه الحق.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن أجرته على مستوفي القصاص، وحقيقة الاختلاف عنده ترجع إلى أن من عليه القصاص بماذا يصير مسلِّماً للقصاص، فكأنا في الأصح نقول إنما يقع التسليم بالقطع، وهذا يظهر على المذهب المشهور في أن القصاص لا يتم نفوذه في العقوبات إلا بالاستيفاء.
وفي وجهٍ آخر نقول: إذا سلم اليدَ، كفى، وليس عليه تكلّف تحصيل القطع.
ثم قال صاحب التقريب: هذا الاختلاف يقرب من أن التسليم في الثمار المبيعة على رؤوس النخل هل يحصل بالتخلية، أم لا يتم إلا بقطع الثمار؟ ويمكن أن يفصل بين البابين، فيقال: الثمار ليست من جوهر الأشجار، ولا يبعد أن يحصل التسليم فيها بالتخلية، ويدُ الإنسان جزءٌ منه، ولا يتحقق التسليم فيه إلا بالفصل.
ومما يُعيّن تحقيقَ الفرق أن في وضع الجوائح، وأنها من ضمان مَنْ قولان، ويد الجاني لو بانت بعد تسليمه، فضمان الجناية عليه، ولكن ذلك محلُّ القصاص، ثم إذا قلنا: الجوائح من ضمان البائع، ففي مؤنة الجداد وجهان:
أحدهما: أنها على المشتري.
والثاني: على البائع وهذا شبيه ما نحن فيه.
هذا تفصيل القول في أجرة الجلاد في القصاص.
10552- فأما أجرته في استيفاء الحدود، ففيها اختلافٌ مشهور: من أصحابنا من قال: هي على ملتزِم الحد؛ فإنه الموفي وعليه مؤنة إيفائه، كمؤنة تأدية الزكاة، حتى إذا أخرج بعيراً شارداً، فعليه العقال، ومؤونة الإيصال.
والوجه الثاني- أن المؤنة من بيت المال، وليس هذا الوجه مأخوذاً من الوجه الضعيف الذي ذكره صاحب التقريب في أن الأجر على مستحق القصاص؛ فإن ذاك لا يعرف إلا به، والأصحاب-على قطعهم أن مؤنة الجلاد في القصاص على المقتص منه- يذكرون وجهين في مؤنة الجلاد على الحدّ.
والوجه توجيه قولنا: إن مؤنة الجلاد من بيت المال هاهنا. فنقول: ليس الحد حقّاً يوفيه من يلزمه بمثابة إلزام الحقوق المالية وغيرها، فليس الحدود حقوقاً في الذمم، وإنما هي سياسات، فليقُم بها السائس، وليلتزم مؤنتها، وليس كالقصاص الذي يثبت حقاً مستحقاً ثابتاً عوضاً في مقابلة متلَف، وهذا بيّنٌ، إن شاء الله عزوجل.
10553- قال الشافعي: "ولو قال المجني عليه عمداً قد عفوت... إلى آخره".
الكلام في العفو يستدعي تقديمَ مقدمة في الإباحة، فإذا قال الآمر نفسُه للرجل: اقطع يدي فقطعها، فإن لم تَسْر الجراحةُ، لم يضمن القاطع شيئاًً؛ فإن الإباحة صدرت من مستحق البدل؛ فتضمنت الإهدار.
وإن لم يسلط على القطع، بل قال: اقتلني فقتله، فلا قصاص عليه، وتنتصب الإباحة شبهةً في درائه.
وفي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تثبت للورثة ابتداء، أم تثبت للمتوفى، ثم تنتقل إلى ورثته، وهذا فيه قولان:
أحدهما: أنها تثبت للورثة؛ فإنها تجب بالموت، وإذا مات المجني عليه، خرج بالموت عن تصور حصول الملك له؛ فاقتضى ذلك ثبوتُ الحق للورثة؛ فإنها تجب لهم. والقول الثاني- أن نقدر الملك للقتيل أولاً في ألطف زمان، ثم نقضي بانتقالها، وهذا القائل لا يمنع تقدير الملك للميت، كما لا يمنع تقدير بقاء الدّين عليه، وإن رمّت عظامه.
فإن قلنا: الدية تثبت له، فالإباحة تُسقطها، وإن قلنا: الدية تثبت للورثة ابتداء، فالإباحة لا تعمل فيها، فإن قيل: إذا كانت الدية تثبت بعد الموت، وهي عرضة للانتقال إلى الورثة، فينبغي أن لا تؤثر الإباحة إلا في ثلثها؛ اعتباراً بما يصدر منه في مرض موته، وبما يوصي به بعد وفاته؟ قلنا: لم يعف عن واجب، وإنما أباح سبباً لو لم يكن صادراً عن إباحته، لتضمن مالاً.
هذا تحقيق القول فيما ذكرناه.
فإن قلنا: الدية تجب على القاتل، فتلزمه الكفارة، وإن قلنا: لا تلزمه الدية، فالمذهب أن الكفارة تلزمه؛ فإنها تجب للاعتراض على حق الله في الدم، وذلك لا يؤثر فيه الإباحة.
وذكر ابن سريج وجهاً آخر من تخريجاته: أن الكفارة لا تلزمه، كما لا تلزمه الدية، وهذا بعيد، ووجهه على بعده أن حق الله يتبع في وجوبه وسقوطه حقاً للآدمي، فإذا صار القتيل في حكم المهدر، فلا كفارة على قاتله، وإن كان يحرم عليه قتله.
فإن قيل: أوجبتم الكفارة بسبب الأسير قتيلِ سهم الغَرْب ولم توجبوا الدية؟ قيل: لم تسقط الدية عن الإباحة، وثبوتِ حكمها، وإنما سقطت تمهيداً لعذر القاتل، وإلا، فالأسير على حرمته لم يثبت فيه حكم الإهدار، والمبيح هدَرَ، وإن لم نجوّز الإقدام على قتله.
وهذا ضعيف غير معتد به.
10554- فإذا تمهد ما ذكرنا في الإباحة، استفتحنا بعده حكمَ العفو. فإذا قطع الرجل طرف رجل قَطْع قصاص، فقال المجني عليه للجاني: عفوت عن هذه الجراح أرشاً وقوداً، فلا يخلو: إما أن تسري الجراحة وإما ألا تسري، فإن لم تسر أصلاً، ولم تتعدّ أصلاً محلَّها، سقط القود والأرش، لا شك فيه.
وإن سرى، لم يخل: إما أن تسري إلى النفس، فتقتل الجريح، وإما أن تسري إلى بعض الأعضاء، ثم تقف وتندمل.
فإن سرى إلى بعض الأعضاء، ثم وقف، فالمذهب أن آثار السراية مضمونة، فإن المجني عليه اقتصر على العفو عن موجب الجناية أرشاً وقوداً، واقتصر عفوُه على ما صرح به.
ومن أصحابنا من قال: لا يلزم ضمان السراية، لأنها ترتبت على جنايةٍ غير مضمونة؛ إذ ضمان الجراحة سقط بالعفو، ثم جرت السراية فيما بعد، وشبه هذا القائل ذلك بما لو قال الإنسان لصاحبه: اقطع يدي، فقطعها وسرت الجراحة، ثم وقفت، فإن السراية لا تكون مضمونة، وكذلك من قطع يدَ مرتدٍّ فأسلم، فسرت الجراحة فالسراية لا تكون مضمونة.
والصحيح الوجه الأول، فإن الجراحة وقعت مضمونة أولاً، فكانت سرايتها المقدّرة مضمونة لو وقعت، ثم جرى العفو مقتصراً على الضمان الذي اقتضاه الجرح، فلا يتعداه.
وهذا إذا قال العافي: عفوت عن موجب الجناية، واقتصر عليه، فأما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية، وعما يحدث منها، ثم جرت السراية بعد هذا، ووقفت دون الزهوق، فإن قلنا: ضمان السراية يسقط بالعفو عن الجرح، فلا إشكال في سقوط الضمان هاهنا، وإن قلنا العفو عن الجرح لا يتضمن سقوط ضمان السراية، فإذا صرح العافي بإسقاط ضمانها قبل وقوعها، كان إبراء عما لم يجب، ولكن وجد سببُ وجوبه، وفي ذلك قولان معروفان، سبق ذكرهما.
هذا كله فيه إذا جرى العفو ولا سراية، أو جرت سراية ووقفت دون النفس.
10555- فأما إذا قال المجني عليه: عفوت عن الجرح عقلاً وقوداً، ولم يتعرض للسراية، ثم سرت الجراحة وأدت إلى زهوق الروح، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يجب القصاص على الجاني في نفسه، ويصير العفو عن الجرح قبل السريان شبهة في إسقاط القصاص، وقال أبو الطيب بنُ سلمة: من أصحابنا من يُلزمه القودَ في النفس؛ فإنه لم يتعرض لإسقاط ضمان السراية في الروح وقد زَهَقت بالسراية، فلئن سقط القصاص في الطرف بالإبراء، فهو بمثابة سقوط القصاص بالاستيفاء.
ولو قطع رجل يد رجل، فقطع المجني عليه يد الجاني قصاصاً، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فالقصاص يجب في نفس الجاني، وإن وقعت السراية بعد سقوط القصاص عن الطرف بطريق الاستيفاء.
والاستشهادُ الذي ذكره بعيد؛ فإن المقتص مستوفٍ، والاستيفاء لا يمنع الاستيفاء، والعافي مسقط حقَّه في أصل الجناية، فقد نهض ذلك شبهةً في سقوط ما سقط بالشبهة.
هذا قولنا في ضمان القصاص.
10556- أما ضمان المال، فالعافي لا يخلو إما إن كان قال: عفوت عن موجب الجناية، ولم يتعرض لغيره، فالكلام يقع-وقد مات العافي- في شيئين:
أحدهما: في أرش اليد. والثاني-في ضمان السراية.
فأما أرش اليد، فسقوطه وإن صرح بإسقاطه يخرّج على أصلٍ قدمناه في كتاب الوصايا، وهو أن الوصية لا تصح للقاتل، فالأرش واجب على الجاني، فإن قلنا: تصح الوصية له، فالعفو عن أرش اليد المقطوعة وصيةٌ معتبرة من الثلث، فتأمله وافياً أو غير وافٍ.
هذا إن قلنا: أرش الجناية لا يسقط.
فإن قلنا: أرش الجناية يسقط، فقد ذكرنا في ضمان السراية إذا ترامت إلى ما دون النفس أن المذهب أنه يجب، وحكينا وجهاً بعيداً في سقوطه. قال الأئمة: الوجه البعيد لا يخرّج في ضمان السراية، وقد أدى إلى الهلاك؛ فإن تصرف العافي يضعف إذا هلك فيما صرح بإسقاطه، فما الظن بما لم يتعرض له؟ وإنما صار إلى ذلك الوجه صائرون، إذا وقعت السراية، هكذا ذكر من يعتمد، ومسلك الاحتمال لا ينقطع.
والذي ذكرناه فيه إذا قال: عفوت عن موجب الجراحة، ولم يتعرض للسراية.
10557- فأما إذا قال: عفوت عن موجب الجناية، وعما يحدث منها، ثم سرت الجراحة إلى النفس، فيتصدى للتفريع في الأرش وضمان السراية أصلان:
أحدهما: اختلاف القول في الوصية للقاتل.
والثاني: الاختلاف في أن الإبراء عما لم يجب ولكن وجد سبب وجوبه هل يصح أم لا؟ أما قولا الوصية، فلابد منهما في الأروش وضمان السراية، وأما ضمان السراية، فيختص به الكلام في أن الإبراء قبل الوجوب هل يصح إذا وجد سبب الوجود؟
وينتظم من التفريع على هذين الأصلين في الأرش والسراية أقوال: فإن قلنا: لا تصحّ الوصية للقاتل، فلا حاجة إلى التمسك بأصلٍ آخر، وهذا كافٍ في إيجاب الدية الكاملة، وإن قلنا: تصح الوصية للقاتل ولا يصح الإبراء، فيترتب على هذا المسلك أن الأرش يسقط، ولا يسقط ضمان السراية، فإذا كانت المسألة مفروضة في قطع يدٍ وقد سرى القطع، فيخرج أقوال:
أحدها: لا يسقط ضمان السراية، والقول الثاني: يسقط الجميع على شرط وفاء الثلث.
والثالث: يسقط نصف الدية وهو يقابل أرشَ اليد، وذلك على شرط وفاء الثلث، ولا يسقط النصف الآخر.
ولو كان قَطَعَ اليدين، فقال المجني عليه: عفوت عن الجراح، وعما يحدث منه، فإن أبطلنا الوصية، وجبت الدية.
وإن صححناها ووفّى الثلث، سقط الدية بكمالها، وإن فرعنا على أن الإبراء عما لم يجب لا يصح، والسبب فيه أن أرش اليدين دية كاملة، فليس تتجدد بالسراية.
ومما يتعلق بذلك أنه لو أوصى للجاني بأرش الجرح-وهو قَطْع يدٍ- وبضمان السراية لم يخرج في المسألة إلا قولان:
أحدهما: سقوط تمام البدل على تصحيح الوصية.
والثاني: وجوب تمام البدل على بطلان الوصية، ولا يخرج القول الثالث في الفرق بين أرش الجرح وضمان السراية، فإنه لم يُسقط ضمان السراية بطريق الإبراء حتى يخرّج على القولين في صحة الإبراء قبل الوجوب، وإنما استعمل في الجميع الوصية، والوصية تحتمل التعليق بالأغرار والأخطار. وهذا تفصيل القول في ذلك.
10558- واختار المزني إبطال الوصية للقاتل، وأخذ يقضّي العجب أولاً من إشارة النص إلى الفرق بين الأرش وضمان السراية، وقال: إن سقط، فليسقط الكل، وإن ثبت، فليثبت الكل.
وهذا الذي ذكره إنما كان يبعد لو كان التفريع على أصلٍ واحد، وهو أن الوصية هل تصح أم لا؟ ولو كان كذلك لم يستقم إلا نفي الكل أو إثبات الكل، فأما وقد ثبت أن التفريع على أصلين، فلا يمتنع مع هذا الفرقُ بين الأرش وضمان السراية، كما قدمناه.
ثم تمسك المزني في أخبار الوصية للقاتل بنصوص الشافعي في مسائلَ، وجوابُ الأصحاب عن استدلاله في جميعها أن النص جرى فيها على أحد القولين. ونحن نذكر الآن مسائله واحدة واحدة، ونخرج كل مسألة على أصول المذهب.
10559- المسألة الأوّلة: وهي: قال: قال الشافعي: لو جنى عبدٌ على حرّ جناية مالية، وتعلق الأرش برقبته، فعفا المجني عليه، فالعفو صحيح؛ لأنه يتعلق بحق السيد، وليس السيد قاتلاً، فتعلق المزني بهذا المفهوم، فقال الأئمة: هذه المسألة تخرج على أن الجناية هل تتعلق بذمة العبد أم لا تعلّق لها إلا بالرق ومالية الرقبة، وهذا فيه اختلاف، سيأتي مشروحاً في آخر الديات، إن شاء الله تعالى.
فإن حكمنا بأن الأرش يتعلق بذمة العبد حتى يتبع به إذا عَتَق، فالوصية في التحقيق ترجع إلى العبد، فلتخرج على القولين: أن الوصية للقاتل هل تصح أم لا؟، فإن قلنا: الجناية لا تتعلق إلا بمالية العبد، فالوصية للمولى.
وهذا محتاج إلى فضل نظر، فإن قلنا: لا تعلق للجناية بالذمة أصلاً، فالوجه ما ذكرناه لا غير.
وإن قلنا: الجناية تتعلق بذمة العبد، فالمجني عليه هل يملك فكَّ الرقبة عن التعلّق وردَّ حقه إلى ذمته بانتظار عتقه يوماً؟ اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من قال: لا يتصور هذا؛ فإن التعلق بالرقبة والذمة متلازمان لا يفرض أحدهما دون الثاني، وليس هذا التعلق مما يقدر فيه انفراد، وليس كحق المرتهن؛ فإن المرتهن يملك فك الوثيقة، فإن شرع بفسخ الرهن، أدى تيك الوثيقة بطرى لعقد وقبض، فيزول بفسخ العقد.
ومن أصحابنا من قال: يتصور قطع الأرش برقبة العبد، كما يتصور قطع وثيقة الرهن ولا يخفى توجيه ذلك على من يحاوله.
التفريع:
10560- إن حكمنا بأن قطع التعلق غير ممكن، فذاك. أما إذا قلنا: يمكن، فذلك إذا جرّد مستحقُّ الأرش القصدَ إلى قطعه، فأما إذا أبرأ عن الأرش، ثم لم يسقط الأرش عمن عليه، فلا يسقط التعلق أيضاًً، هذا ما لا نرى غيره.
_________
في الأصل: "بالدية".
في الأصل: "على".
في الأصل: "إلى دمه فإنتظار".
ما بين المعقفين جاء بهذا الرسم تماماًً، ولم نصل إلى تقويمٍ مقبولٍ له، فتركناه على حاله، لاسيّما وأنه يتعلق بتصوير فك الرهن، وهو ما لا تتوقف مسألتنا على فهمه.
زيادة اقتضاها السياق.
نقل الرافعي هذا التفريع عن الإمام بعبارة ربما كانت أكثر وضوحاً، وهي: "قال الإمام: وعلى الوجهين يبقى تعلق الأرش بالرقبة إذا أبطلنا العفو؛ لكون العبد قاتلاً، أما إذا قلنا: لا يمكن قطعه، فظاهر.
وأما إذا قلنا: يمكن، فلأن ذلك إذا جرّد مستحق الأرش القصد إلى قطعه، وهاهنا لم يجرد القصد إليه.
وإن أضاف العفو إلى السيد، فقال: عفوت عنك، صح، إن قلنا: يتعلق الأرش برقبة العبد فحسب، وإن قلنا: يتعلق بذمة العبد أيضاً، لم يصح العفو، لأنه عفو عن غير من عليه الحق.
وقد نجز الكلام في مسألة واحدة من مسائل المزني.
10561- المسألة الثانية: قال: قال الشافعي: إذا كان الجاني مخطئاً، وكان الأرش على العاقلة، فإذا عفا المجني عليه، صح العفو في مرض الموت؛ فإن أثره يرجع إلى العاقلة، وليسوا قاتلين.
وفصّل الأصحاب هذه المسألة وخرجوها على أصلٍ في المذهب، وهو أن الخاطىء هل يلاقيه وجوبُ الضمان، ثم العاقلة يتحملون عنه، أم الوجوب يلقى العاقلة ابتداء؟ وفيه كلام سنشرحه في كتاب الديات، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: الوجوب لا يلاقي الجاني، فالعفو عن العواقل تبرعٌ على غير قاتل.
وإن حكمنا بأن الوجوب يلاقي الجاني، نظر في صيغة قول العافي: فإن قال: عفوت عن العاقلة، نفذ العفو، وكان ذلك عفواً عمن ليس بقاتل، فلزم ترتبهم إذا وفّى الثلث، فإنهم إن كانوا متأصلين نفذ العفو، وإن كانوا ضمناء كافلين كذلك. ولو قال المجني عليه: عفوت عن الدية، ولم يتعرض لإضافة العفو إلى الجاني ولا إلى العاقلة، فالعفو ينفذ، والعواقل يترادّون، وإن توجه العفو على الجاني فقال: عفوت عنك. فإن قلنا: الجاني لا يلاقيه الوجوب، فالعفو عنه لغوٌ، فإن قلنا: يلاقيه الوجوب، ففي العفو عنه وجهان:
أحدهما: أنه يصح على تقديره أصلاً وتقدير العواقل ضمناء، ثم إذا برىء الأصل برىء الضامن.
والثاني: لا يصح؛ فإن هذا التقدير لا ثبات له مع القطع بأنه ليس مطالباً.
والقائل الأول يقول: نجعل الجاني-وإن كان موسراً- كالأصيل المعسر، ثم إبراؤه يبرىء الضامن عنه، وهذا يظهر في إبراء المضمون عنه بعد موته معسراً في علم الله تعالى.
وسر هذا الفصل يظهر من بعدُ، ولكن لابد من ذكر ما يقع الاستقلال به هاهنا، فنقول: الجاني محمول عنه، ولكن وجبت الدية، فيتجه أمران:
أحدهما: لم تجب على الجاني، وإنما وجبت ابتداء على العاقلة.
والثاني: أنه لاقاه الوجوب، ثم تحمَّلَ العاقلةُ عنه الوجوب، فهذا ليس تحملَ واجبٍ، بل هو تحمل وجوب.
ويتضح هذا بشيء، وهو أن الجاني المخطىء لو لم تكن له عاقلة، ففي تعلق الدية بماله تفصيل وصور وفاقية، وأخرى خلافية، هذا في الابتداء، وإذا ضُرب الأرش على العاقلة، فامتنعوا أن يقدر الاستيفاء منهم، فلا رجوع إلى الجاني بعد ذلك، وهذا شديد الشبه بحوالة شرعية، وحكم الحوالة إحالة الوجوب.
فإذا ظهر ما ذكرناه، فتوجيه الإبراء على الخاطىء ينقسم: فإن وقع بعد قرار الوجوب على العاقلة، فالقول في ذلك يتردد حينئذ، وإدط لم تكن عاقلة، فالإبراء توجه بحق على الخاطىء، فهذا القدر كافٍ الآن، وتمامُه في باب العواقل، ولنا عودة إلى الإبراء عن العواقل قبل انقضاء السنة؛ فإن ذلك ليس في حكم دَيْن مؤجل، ولا يحتمل هذا الموضع ذكر ذلك.
10562- والمسألة الثالثة للمزني: أنه قال: قال الشافعي: لو كان الجاني ذمياً وعاقلته مسلمون، فالدية في ماله، فلو فرض العفو، فهو باطل، فإنه عفو عن القاتل، وهذا لا تفصيل فيه، ولكنه جوابٌ على أحد القولين.
ومما أورده المزني من قول الشافعي: أنه قال: "لو أقر الرجل بجنايةٍ خطأ وأنكر العواقل، فجرى العفو وهو عفو عن القاتل، فيكون مردوداً" وهذا جواب عنه بناء على أحد القولين، وقد نجز غرض الفصل، ونحن نرسم وراء ذلك فروعاً تتعلق بالعتق.
فصل:
10563- إذا قطع عبدٌ يدي عبد، ثم إن سيد المجني عليه أعتق المجني، فسرت الجراحة، وقتلته بعد الحرية، فيجب القصاص في النفس، ولكن إذا كان للمعتَق ورثة أحرار، فيثبت القصاص في النفس لهم، ويثبت الاقتصاص في الطرف للسيد، قطع به صاحب التقريب وغيره؛ وذلك لأن قطع الطرف اتفق في الملك وبقاءِ الرق، فحق القصاص في الطرف للسيد، وحق القصاص في النفس للورثة، فلو أن السيد قال: عفوت عن القصاص في الطرف، فلا شك أن القصاص يسقط في الطرف، ولا يسقط القصاص في النفس.
وكذلك لو قطع رجل يدي رجل وأُلزم القصاصَ في يديه، وقتل رجلاً آخر، فعفا المقطوع يده عن القصاص في اليد، فلولي المقتول أن يستوفي القصاص في النفس، ولا خفاء بذلك.
ولو كان مستحق الطرف والنفس واحداً، فلو قال: عفوت عن القود في الطرف، فهل يسقط حقه من القصاص في النفس؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: لا يسقط القصاص في النفس، وهو القياس، كما لو كان مستحقُّ الطرف غيرَ مستحق النفس، وكل واحد من القصاصين مقصود في نفسه.
والثاني: أنه يسقط القصاص في النفس؛ لأن مستحقهما واحد، فإذا عفا عن الطرف، فكأنه ضمن سلامة الأطراف، ففي قتله إتلاف أطرافه.
ولو قال: عفوت عن القصاص في النفس، وأنا أقتص من الطرف، فله ذلك، لم يحك فيه اختلافاً، وإن كان القطع ربما سرى إلى البدن، ولكن لا حكم لهذه السراية.
والدليل عليه أنه إذا استحق الطرفَ دون النفس، فله قطع الطرف، وإن كانت النفس محرمة عليه وقد سرى الجراح.
ومما يتعلق بهذه الجملة أن الجاني لو قتل إنساناً بأن أجافه جائفة، وقلنا: لوليّه أن يجرحه في رعاية المماثلة. فلو قال عفوت عن النفس، ولكني أجيفه، فليس له ذلك؛ فإن الجائفة لا يجري فيها القصاص لو انفردت عن النفس.
فصل:
10564- قال العراقيون: إذا قطع رجل يدَ رجل، فعفا المجني عليه عن القود، فسرى الجرح إلى نفس المجني عليه، ومات، فالمذهب أنه لا يجب القصاص في النفس؛ فإنه عفا عن الجراحة أولاً، فصار ذلك شبهة، وفيه وجهٌ بعيد عن أبي الطيب بنِ سلمة، كما ذكرناه.
قالوا: ولو قطع يد رجل، فعفا المجني عليه عن القصاص في الطرف، وأخذ المال مثلاً، ثم إن الجاني عاد فقتل المجني عليه، وحزّ رقبته، فهل لأوليائه القصاص أم لا؛ تفريعاً على أن الجناية لو سرت، لم يجب القصاص في النفس؟ ذكروا وجهين:
أحدهما: لا قصاص عليه، وذلك أن حزَّ الرقبة بعد قطع اليد بمنزلة سراية الجراحة في القصاص والدية.
هذا هو النص، والقصاص لا اندراج فيه، والدية على الاندراج في السراية، وحزُّ الرقبة، لم يخالف فيه إلا ابنُ سريج، فإذا كان القتل من قاطع اليد بمثابة سراية قطع، وقد قلنا: إنه لو قطع يد رجل، فأخذ المقطوعُ يدِه الأرشَ وعفا عن القصاص، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، فلا قصاص في النفس على المذهب، وكذلك هاهنا. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني-وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره- أنه يجب القصاص في النفس بسبب أنه لما عاد، فقتله، فليس القتل من أثر الجراحة التي أخذ أرشها وعفا عن القصاص فيها، وإنما هو قتلٌ ابتدأه، فلا يورِّث العفوُ عن الطرف شبهةً فيه.
وقالوا: لو جرح رجل رجلاً جراحة لا يتعلق بها القصاص، فأخذ المجني عليه الأرشَ، ثم سرت الجراحة إلى نفسه، فيجب القصاص في النفس وجهاً واحداً، فإنَّ أخذه المال في هذه الصورة، لم يتضمن عفواً عن قصاص؛ إذ الجراحة مما لا يتعلق بمثلها قصاص، وليس كقطع اليد ونحوه، فإن القصاص يتعلق به، فإذا عفا عن القصاص فيه، فيجوز ألا يترتب على سرايتها إلى النفس وجوبُ القصاص.
وهذا الذي ذكروه آخراً فيه أدنى احتمال؛ من قِبَل أن الجراحة وإن لم تكن موجبةً للقصاص، فهي سبيل القصاص، وقد يقع القتل بمثلها في إقامة المماثلة، وأخذُ المال يشعر بالعفو، فلا يبعد أن يصير ذلك شبهة في إسقاط القصاص في النفس إذا كان الهلاك بالسراية لا يقتل بمثله.
فصل:
قال: "ولو جنى عبدٌ على حرٍّ فابتاعه... إلى آخره".
10565- العبد إذا جنى على مالٍ أو على عبد جناية موجبها المال، وتعلق الأرش برقبته، فللمولى أن يبيع العبد الجاني بأرش الجناية من المجني عليه، إذ الأرشُ دراهمُ إذا كان المجني عليه مالاً، والدراهمُ معلومة، ثم لو اطلع المجني عليه بعيبٍ بالعبد، قال الأصحاب له الرد، وأثر الرد انفساخ البيع، ثم لا يرجع على السيد بشيء ويعود حقه إلى رقبة العبد، والسيد بالخيار بين أن يفديه، وبين أن يسلمه للبيع.
وهذا فيه فضل نظر، فإنه إذا لم يكن للمجني عليه تعلُّقٌ إلا الرقبة، فأي فائدة في رده، والأمر كما نبهنا عليه.
فإن قيل: فائدة رده أنه يملك مطالبة العبد إذا عَتَق يوماً. قلنا: هذا سديد، ويلزم منه أن نقول: إذا لم نجعل للعبد ذمةً في الجناية، فلا معنى لهذا الرد أصلاً.
فإن قيل: المالك يبغي أن يباع ويسلم إليه الثمن، قلنا: فليبعه بنفسه.
والمسألة على حالٍ محتملة؛ فإن قاعدة الرد بالعيب ليست مبنية على الأغراض.
10566- ولو جنى العبد على حرٍّ وكان أرشُ الجناية من الإبل، فلو باع السيد العبد من المجني عليه بالأرش، فهل يصح البيع؟ فوجهان؛ بناء على أن الاعتياض من إبل الدية هل يجوز أم لا؟ وفيه خلاف سأذكره، إن شاء الله تعالى.
ثم الترتيب: أنا إن جوزنا الاعتياض، ففي جواز بيع العبد بأرشٍ هو من الإبل من المجني عليه وجهان:
أحدهما: لا يجوز الاعتياض عنه.
والثاني: يجوز؛ فإن هذه المعاملة ليست لإيفاء أرش أو استيفاء، وإنما هو لسراية الدية والإبراء عن الأروش من الإبل جائز.
ومن نظائر ذلك أن المرأة إذا جنت على رجل جناية أرشها خمسٌ من الإبل، فلو نكحها بالأرش، ففي صحة الصداق الخلاف الذي ذكرناه في بيع العبد من المجني عليه بالأرش الذي في رقبته.
هذا آخر مسائل (السواد) في القصاص، وقد تقع في مسائل الديات جملٌ من أحكام القصاص، لم نُرد ذكرها، لأن الغالب عليها أحكام الدية، وقد أجرينا جملاً من أحكام الديات في القصاص، لأن الغالب عليها أحكام القصاص. فرع:
10567- لا أثر للالتجاء إلى الحرم في ترك الاقتصاص، فلا يعيذُ الحرم مستوجبَ عقوبة سواء كانت قصاصاًً أو حدّاً، وسواء كان في الطرف أو النفس، وخلاف أبي حنيفة في هذا مشهور. ولو لاذ من عليه القصاص بالمسجد الحرام أو غيره من المساجد، فلا يقتص منه في المسجد ولكن نخرجه.
وأسرف بعض الأصحاب، فقال: لو أراد صاحب الأمر أن يقيم الهيبةَ، ويقتصَّ في المسجد ببسط الأنطاع وتَوْقية المسجد عن التلويث، فلا بأس، وهذا ليس بشيء. ثم إذا كان لا يتوقع التلويث بالأسباب التي ذكرناها، فلست أدري أن الاستقادة محرمة في المسجد أو مكروهة.
باب أسنان الإبل المغلظة والعمد وكيف يشبه العمد الخطأ
الجناية على ثلاثة أقسام: أحدها: العمد المحض، وهو تعمد القتل بما يُقصد به القتل غالباًً.
والثاني: الخطأ المحض، وتصويره من غير تردد فيه: إذا رمى إلى غرضٍ، فاعترض آدمي فأصابه السهمُ، أو انقلبت يد الرامي ومال السهم. هذا وما في معناه هو الخطأ، وضبط القول فيه ألا يقصد الشخصَ الذي يصيبه الجرحُ، وسنذكر ما فيه كلام في تصوير الخطأ.
والثالث: أن يقصد المجني عليه، ولكن لا يقصد قتله، بل يقصد ضربه بما لا يُقصد به القتل غالباًً، فيتّفق منه القتل.
وأما موضع التردد في تصوير الخطأ، فهو أن يترائى للرامي شخصٌ ويحسبه ظبيةً، فيسدد الرامي نحوه؛ فإذا هو إنسان.
هذا موضع التأمل. كان شيخي يقطع بأن هذا خطأ محض، إذا لم يُنسب الرامي إلى تقصير، كأن رمى في الصحراء، أو موضع يندر فيه ثبوت آدمي، وإن طرقه آدمي، كان عابراً.
وأنا أقول: قد ثبت اختلاف القول في أن من قصد شخصاً على زي الكفار في دار الحرب حسبه كافراً، فرماه، فإذا هو مسلم، ففي وجوب الدية قولان، وسبب اختلاف القول ظهور عذر الرامي، ثم إن أوجبنا الدية، ففي ضربها على العاقلة وجهان:
أحدهما: أنها مضروبة عليهم، وهذا يصرح بأن الشخص قد يقصد ونحكم بأن القتل خطأ، وإنما الخطأ أن يقع فعلٌ من غير قصد إليه، وإذا تحقق القصد إليه وإلى محله، فالفعل عمدٌ، والقصاص مندفع لظهور عذر الفاعل، فإن القصاص مشروع للزجر، فمن يعذر في ظنه لا يتأتى زجره.
فإذا وضح ذلك، قلنا بعده: قَصْد شخصٍ حيث يظهر العذر بمثابة قصد من يظنه القاصد كافراً، حيث يظهر العذر، غيرَ أن ظهور العذر في دار الحرب إن انتهى في قولٍ إلى إسقاط البدل، فلا ينتهي العذر في قصد الجراثيم والأشخاص إلى هذا المنتهى، والدار دار حقن والأمر بالحفظ دائم.
ومما يتصل بما ذكرناه أنا إن قدرنا هذا القتلَ خطأً محضاً، فسنذكر حكم الخطأ وموجَبه، وإن لم نقدره خطأ، فالمسلك الذي سلكناه يتضمن التغليظ لا محالة؛ فإن بدل شبه العمد مع كونه مغلظاً في نفسه مضروب على العاقلة، فما لا يضرب على العاقلة ويضرب على الجاني مع وجود العاقل يكون مغلّظاً، ثم أبو حنيفة قال: دية العمد إذا ضربت، ضربت على العامد، وهي مؤجلة عليه، فلو كنا نرى تأجيل دية على جانٍ، لكنا لا نبعد القول في الصورة التي انتهينا إليها، وهي إذا قتل مسلماً في دار الحرب، على ظن أنه كافر أو رمى إلى جرثومةٍ، فإذا هي إنسان.
هذا منتهى القول في تقاسيم جهات القتل.
10568- ونحن نذكر بعدها أحكاماً على الجملة، فيما يتعلق بالتغليظ والتخفيف، فأما موجب العمد المحض، ففيه ثلاث جهات من التغليظ: أحدها: أنه يضرب على الجاني.
والثاني: أنه يعجّل لا مَهَل فيه، ولا أجل خلافاً لأبي حنيفة، فإنه أجل دية الابن على الأب القاتل. والثالث: أنه مثلث، كما سنصفه.
وأما الخطأ المحض، ففيه ثلاث جهات من التخفيف، أحدها: أن موجَبه مضروب على العاقلة، والأخرى- أنه مؤجل عليهم، والأخرى- أنه مخمسٌ على ما سنذكره.
وأما شبه العمد، فيلحقه تخفيفان:
أحدهما: الضرب على العاقلة، والآخر- أنه مؤجل، ويلحقه تغليظ، وهو أنه مثلث كالعمد المحض.
وأصل التغليظ بطريق التثليث منصوص عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن قتل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا، فيه مائة من الأبل أربعون منها خَلِفة في بطونها أولادها» ويقرِّب القولَ من جهة المعنى أن شبه العمد مردَّدٌ بين الخطأ والعمد المحض، فينبغي أن يكسب من كلِّ أصل شبهاً، ويبعد أن يشبه بموجب العمد في الضرب على الجاني مع أنه لم يقصد القتل، ويبعد رفع الأجل، وإثبات بدله معجلاً على العاقلة، ويبعد إلحاقه بالخطأ من كل وجه، فإذا تحمّل العاقلةُ الأصلَ، لم يبعد تحملهم مزيدَ صفة.
10569- والآن نذكر التخميس والتثليث، فأما الدية المخمسة، فهي التي تتعلق بخمسة أسباب، وقد يكون واحدٌ من الخمسة صنفاً متميزاً بصفة لا تميز، فإذا نوجب مائة من الإبل في قتل الخطأ، فعشرون منها بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، فالمائة مخمسة: أربعة منها في تفاوت الأسنان، وواحد في الذكورة.
وأما المثلث فَنِصفُه في المائة من الإبل، فإذا وجبت عن عمدٍ محضٍ أو شبه عمد، فثلاثون منها حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة في بطونها أولادها. وإذا نسبنا التثليث، لم تكن الأقسام على تعديل التثليث، بخلاف البدل المخمس؛ فإنه على تعديل التخميس في الأعداد. والنسبةُ المرعية في التثليث بالأعشار فثلاثة أعشار البدل المغلظ حقاق، وثلاثة أعشارها الأجذاع، وأربعة أعشارها خَلِفة أثم إن هذه النسب، التي تكون في الإبل، وهي مائةٌ في الدية الكاملة، تكون في الإبل في دية المرأة، وفي أروش الجنايات. وإن اقتضى الحساب تشقيصاً ألزمناه، ولم نبالِ به، فإذا وجب على الشاج خمسٌ من الإبل، وكان فعله عمداً فيجب حِقّة ونصف، وجَذَعة ونصف، وخَلِفتان في هذه بسبب التثليث.
ثم ذكر الشافعي الخَلِفات في هذا الباب، فنتحرى ونذكر ما يتعلق بها، وذكر الأجناس المطلوبة في الباب الذي يلي هذا.
10570- فأما الخَلِفات، فهي الحوامل والغالب أنه لا تحمل إلا الثنية، وهي فوق الجذعة بسنة، وليست من أسنان الذكورة. نعم هذا السن هو المعتبر في الإجزاء في الضحية، فلو فرضت الخَلِفات فوق الثنايا، فمزيد خير، وإن فرضت الخلفات جذاعاً على ندور، فهل تجزىء؟ ذكر العراقيون وجهين: أصحهما- أنها تجزىء، وهو قياس طريق المراوزة، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخَلِفات، ولم يرع شيئاً، فينبغي أن يعتبر الحمل فحَسْب.
والوجه الثاني- أنها لا تقبل، لندور هذه الصفة فيها، وقد يُظن أن أجنتها لا تبقى إذا اتفق الحمل بها قبل السن المعتاد في الحمل.
وهذا الخلاف الذي أطلقوه فيه فضل نظر، وسأذكره على أثر هذا. ثم الرجوع في كون الأربعين خَلِفات إلى أهل البصيرة، ولا يكاد يخفى مخايل الحمل عندهم. ولو تنازع الجاني والولي، رجعنا إلى أهل البصيرة، ثم نبغي اثنين منهم عند فرض التنازع، كما نطلب مقوِّمَيْن عند الاختلاف في مقدار القيمة، فلو أخذ الولي الأربعين على تقدير أنها خَلِفات، ثم جاء بها، وقال: ليس خلفات، فإن تحققنا أنها لم تُجهض، رجعنا إلى قول أصحاب البصائر، فإن قالوا: إنها خلِفات، انقطعت الطلبة في الحال، ثم ننظر ما يكون، وإن قالوا: ليس خلفات، طالب بالخلفات ورد ما أخذ، وإن قالوا: لا ندري أهن خلفات أم لا؟ فقال الجاني: ترفقوا إلى أمدٍ يتبين كونهن خلفات في مثله، لم يُجب إلى ذلك، ودامت عليه الطّلبة بأداء إبلٍ يظهر كونهن خلِفات.
فإن قال الجاني: قد أَجْهَضْن، واحتمل ما قال، وقال الولي: ما أجهضن، واحتمل ما قال، فالقول قولُ مَنْ؟ قاعدة المذهب: أن أَخْذهن إن كان بقول الجاني، فالقول قول الولي، وإن كان بقول أهل البصائر، ثم وقع التنازع كما وصفناه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن القول قول الجاني، لأنا أسندنا الأمر إلى قول من يعتبر قوله.
والثاني: أن القول قول الولي، فإنه المستحِق، ولا يسقط حقه بظنٍّ وتخمين، وقول ذوي البصائر تخمين في هذا الباب.
ومن تمام القول في الفصل أن الجاني والولي لو تنازعا في صفة الإبل حالة الأخذ: فزعم الجاني الإبل خَلِفات، وأبى الولي ذلك، ورجعنا إلى قول أهل البصائر، فإذا قال اثنان منهم: إنها حوامل، فقال الولي: لستم تقطعون بذلك، فلا أعوّل على قولكم، فلا خلاف أنه محمول على الصبر إلى أن يتبين الأمر؛ فإن أقصى الإمكان هذا.
وقد انتهى الغرض في الخلفات، ونصُّ الشافعي ظاهرٌ في أنهن لو حملن جذاعاً، قُبلن ولفظ (السواد): "والخَلِفة الحامل، وقلّما تحمل إلا ثنية فصاعداً، فأية ناقة من إبل العاقلة حملت، فهي خَلِفة تُجزىء في الدية ما لم تكن معيبة".
وسنتكلم في المعيب والسليم في الباب الذي يلي هذا عند ذكرنا تصنيف الإبل.
فصل:
"وكلذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذي الرحم... إلى آخره".
10571- إذا وقع القتل خطأ محضاً، فقد يُغلّظ بدلُه بأحد ثلاثة أسباب: أحدها:
أن يقع في البلد الحرام، وهو حرم مكة، وأرجاؤه معلوم بأعلام معروفة. هذا أحد الأسباب، فإذا اتفق القتل الخطأ، غُلّظ البدل تغليظَ بدل شبه العمد.
والسبب الثاني- أن يتفق القتل في الأشهر الحرم: ثلاث منهن سرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وواحد فردٌ، وهو رجب. فإذا وقع القتل في هذه الأشهر، تغلّظت الدية بشبه العمد.
والسبب الثالث: أن يقتل الإنسان خطأ ذا رحم.
ثم معظم الطرق تشير إلى اعتبار المحرمية مع الرحم، وهو المنقول عن القاضي، والمذكور في بعض التصانيف، وكان شيخي يميل إلى أن الرحم المجرد كافٍ في اقتضاء التغليظ، والأحاديث المستحثة على تعظيم الرحم ترد مطلقة من غير تقييد بالمحرمية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى أنا الرحمن، وهذه الرحم شققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» ونص الشافعي في (السواد) مطلق، كما حكيناه في صدر الفصل، والعلم عند الله.
وإذا اجتمعت هذه الأسباب، وانضم إليها شبه العمد، وحقيقة العمد، فلا مزيد في تغليظ الكيفية على ما ذكرناه.
ومعتمد الشافعي رضي الله عنه في التغليظ بهذه الأسباب الآثار، وقد روي أن ابن عباس قال فيمن قتل شخصاً في البلد الحرام في الشهر الحرام: "عليه عشرون ألف درهم: اثنا عشر ألفاً أصل الدية، وأربعة آلاف للبلد الحرام وأربعة آلاف للأشهر الحرم" فتضمن كلامه تضعيف التغليظ في الدراهم، فأما تضعيف التغليظ فلم يره أحد من أصحابنا.
10572- وأما التغليظ والواجب دراهم، فالذي ذهب إليه الجماهير أنه لا تغليظ في مقدارٍ إلا في الإبل. ومن أصحابنا من أثبت التغليظ مقدراً بأربعة آلاف، واتبع ابن عباس فيه، وهذا ارتكبه بعض أئمة الخلاف، ولم يُعْنَ غير القاضي من أئمة المذهب بنقله.
فإن قيل: لم قطعتم بمخالفته في تضعيف التغليظ وترددتم في تغليظ الدراهم؟ قلنا: الصحابي لا يُقدِّر من عند نفسه؛ فاتبعناه فيما صدر قوله عن توقيف، أما تضعيف التغليظ، فلا يبعد أن يكون صدَرُه عن رأي، وما كان كذلك، فقول الصحابي فيه غير متبع في الرأي الظاهر لصاحب المذهب، ثم طرد القاضي هذين الوجهين في التغليظ، إذا أوجبنا الدراهم، وسبب التغليظ شبه العمد أو العمد المحض؛ فإن ما يجري في سبب من أسباب التغليظ يجري في غيره من الأسباب، والقياسُ ما ذكرناه، ولكن أصل الخلاف لا مستند له، ولسنا ننكر ظهور القياس في التغليظ عند إيجاب الدراهم المقدّرة أن يبعُد في طريق الرأي أن نُغلّظَ بدلاً في جهة، ولا نغلّظ بدلاً آخر مع اتحاد المبدل.
10573- وإذا اتفق القتل في حرم المدينة، ففي التغليظ خلافٌ مشهور، وهو مأخوذ من قول العلماء في ضمان صيد المدينة.
وظاهر المذهب أن القتل في الإحرام لا يوجب التغليظ، وإن كان يُثبت حرمةَ الصيد، وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك يقتضي التغليظ، وهذا الوجه نسبه القاضي إلى شيخ من شيوخ المذهب يعرف بأبي الفياض، ثم إن أثّر الإحرام، فالمعتبر إحرام القاتل لا محالة.
فإذا قطعنا بالتغليظ بسبب القتل في الحرم: حرم مكة، فالوجه أن نعتبر ما نعتبره في طريق ضمان الصيد، حتى لو كان الرامي في الحرم، والمقتول في الحلّ، أو على العكس، تغلّظت الدية، ولو زعم زاعم أن الرجوع في ذلك إلى الأثر، وقد قال عثمان في امرأة وُطئت بالأقدام في الطواف، ما قال، فكأنه للقتيلة في الحرم، قيل له: هذا لا يدفع ما ذكرنا، فإن مضمون الأثر مقول به، ولا وجه إلا ما ذكرناه من اعتبار طريق وجوب ضمان الصيد.
باب أسنان الخطأ وتقويمها، وديات النفوس والجراح
10574- قال: فهذا وجه دلالة الآية والخبر اللذين صدر بهما الباب، وغرضه أن يبين أن الأصل في الدية الإبل، هذا مذهبه الصحيح المنصوص عليه في الجديد، فالدية الكاملة مائة من الإبل، وقد ذكرنا في الباب السابق
أسنانها، ووقوعَها مغلّظةَ ومخفّفة وهذا أوان ذكرنا الأصناف؛ فإن الأغراض تختلف بها اختلافاً بيّناً، وقد يزيد أثرها على التفاوت بالضِّعف، وهذا من مواقف النظر.
والوجه أن نذكر سبب التردد والإشكال، ثم نبيّن الممكن: أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبل، ولم يتعرض للأصناف وأنها (مهرية) أو (أَرْحَبيّة) أو (مُجَيْديّة) أو (بُختيّة) ولا يزلّ عن ذكر كل ذاكر عند ترديده الكلامَ في الإبل تفاوت أصنافها، فليس هذا مما يحتاج إلى ردّ الفكر إليه، وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفصل الأصناف، وكان لولا الإجماع يحتمل أن يكتفى بكل صنف يجد المعطي.
ويشترط السلامة من العيوب اللازمة لمقصود الباب؛ فإن المطلق محمولٌ في وضع الشرع على السليم، والعبد الذي يجب إعتاقه في الكفارة ليس عوضاً، وثبوته مطلق في الكتاب، وهو محمول على رعاية السلامة في الوجه اللائق لمقصود التحرير، والإطلاق عن الأسْر.
10575- وقد يخطر للفقيه أن الدية عوضُ متلَفٍ، ولا يجوز ثبوت التخيّر فيها بين الشيء وضعفه، هذا وجهٌ.
والإبل تختلف قيمتها باختلاف الأزمان والمكان وثبوت بدل الجناية إلى توقيف الشرع، ويتأبّى عن التفاوت الراجع إلى الزمان والمكان.
فهذا يبيّن للناظر أنه واقف في محل النظر.
والذي تحصّل لنا من كلام الأصحاب في ذلك أن الذي يجب عليه جانياً كان أو عاقلةً، إذا لم يكن له إبل، فالمعتبر إبلُ الناحية والقُطر الذي هو منسوب إليه، وقد يُطلِق الشافعي رضي الله عنه إبلَ القبيلة، هذا أصلٌ متفق عليه إلى أن نفصّله.
ومأخذه أن كل قوم مخاطبون بإخراج الإبل، وأقرب الأمور تنزيل الخطاب على المعتاد عندهم، ولو كان المخاطب ببذل الدية من حُرٍّ شريف أو خسيس، فإن كان ذلك الجنس هو الجنس العام في الناحية أو القبيلة، فلا كلام، وإن كان ذلك الجنس يخالف جنس الإبل العام لشرفٍ أو نقيصة، فالذي أشار إليه العراقيون وبعض المصنفين أنا نطالبه بالصنف الذي يملكه، ولا نعدل عنه إلى الإبل العام، وهذا مشكل، والقطع به لا وجه له.
وأقرب ما يتوجه به كلام هؤلاء النظر إلى ما يخرجه صاحب القُطر من أجناس الأقوات، وفيه خلاف ذكرناه في موضعه: من أصحابنا من يرعى القوت العام، ومنهم من يوجب على كل شخص أن يُخرج من قوته الذي يليق به.
وإسقاطُ اعتبار أحوال الأشخاص وردُّ الأمر إلى الإبل العامّ أوْجَه في الديات؛ من جهة أنها أعواض، والأولى تنزيلها على ما يعم وجودُه، والمصير إلى اعتبار حال المتلِف بعيد فيه، والأقوات إن اعتبر فيها أحوال الأشخاص، فذاك أن الفِطرة أوجبها الله تعالى قُربة ابتداء على قدر القدرة، وأصلُها يسقط بالعجز في وقت الوجوب، ولا يبعد أن يُعتبر منها حال كل شخص، والدية بخلاف ذلك، فالوجه ردُّ الأمر إلى الإبل الموجودة في الموضع، وإلى هذا صار المحققون من المراوزة. وفي نص الشافعي ما يدل على مطابقة ما حكيناه عن طريقة العراق.
10576- ونحن ننقل لفظ (السواد) ونحرص على تأويله. قال: "ولا يكلَّف أحد من العاقلة غيرَ إبله" أراد إبلَ قبيلته، ولا يبعد إضافةُ إبلِ القبيلة إلى الشخص، كما يقول النيسابوري، وما ـرا ـا أبا أشرف وأفضل، وهذا سائغ في الكلام مبادرٌ إلى الفهم، وشهد له أنه قال على إثر هذا: "وإن لم يكن ببلده إبل" ولو كان يريد بإضافة الإبل إليه أوّلاً إضافةَ الملك، لكان نظم الكلام يقتضي أن يقول: إن لم يكن في ملكه إبل، فإبل بلده، وإن لم يكن ببلده إبل، فإبل أقرب البلدان.
وأما قوله آخراً: "فإن كانت إبل العاقلة مختلفة" أراد إذا كانت العواقل من قبائلَ مختلفةٍ اعتُبر إبلُ القبائل.
هذا وضعُ الكلام، والرجوع بعده إلى اعتبار إبل البلدة أو القبيلة. هذا أصل المذهب.
وأما إبل البلدة، فبيّن، وأما القبيلة التي يعنيها بالبلدة، فيعني بها قبائل العرب الناوية، وهي تنتوي ولا تستقر في قُطر...، فإبلها التي تسايرها.
فإن غلب صنف، علقنا الحكم به، وإن غلب صنفان أو أكثر، ولم يكن صنف واحد بحيث نحكم عليه بالغلبة، فالذي رأيت صغواً إليه أن الخيرة-والحالة هذه- إلى المعطي، لا إلى الطالب، فليفهم الناظر ما انتهى إليه.
وإن عدمنا الإبلَ في الناحية، لزم الرجوع إلى صنفٍ من الإبل في أقرب البلدان إلى تلك البلدة، هذا إذا كان التحصيل غير متعذر.
فإن تعذر النقل والتحصيل، وكان لا يتأتى ذلك إلا بمشقات، فيعدل عن الإبل كما سنصف ذلك عند نجاز الكلام، إن شاء الله تعالى.
وهذا موقف آخر محوج إلى نظر يجمع سرَّ الكلام، فما المعتبر في المشقة؟ ولا شك أن أدناها لا يُسقط الطّلبة بالإبل، وليس ينضبط أقصى المشقات، فما الوجه؟ قلنا: اعتقدنا التعذر على المذهب الجديد، فرجعنا إلى قيمة الإبل لا غيرها، فنعتبر ذلك المبلغ فننظر إلى ما يحتاج إلى بذله لنقل الإبل، فإن كان لا يزيد على قيمة المثل في مكان المطالبة، فيلزم تحصيل الإبل، وإن كانت مؤنة النقل تزيد زيادةً ظاهرةً، يعتبر مثلُها غبينة في الإبل لو حضرت، فلا يلزم نقلُها والحالة هذه؛ فإن هذا ضمُّ غُرم، فليكن الاعتبار بما وصفناه.
10577- ولو قال مستحق الدية: لست أطالبك الآن وأصبر إلى تيسر الإبل، فهذا محتمل، والأظهر أن الأمر في ذلك إليه؛ فإن الأصل الإبل، ويتطرق إلى هذا احتمال؛ من جهة أن الدراهم إذا أقرت، فإنها ليس كقيمة المثل عند عدم المثل؛ إذ لم يصر أحد من أصحابنا إلى أن الدراهم إذا بذلت عند تحقق التعذر، ثم فرض وجود الإبل، فلصاحب الحق ردُّ الدراهم والرجوع إلى الإبل، وقد اختلف الأصحاب في أن المثل إذا عدم مثله وصِير إلى القيمة، ثم وجد المثل، فهل نُثبت للمغروم له حق الرد والاسترداد؟ فمن هذا الوجه يجوز أن يقال: للجاني أن يكلفه قبض ما عليه لتبرئة ذمته، فإن هذا لو جرى، انقطعت الطلبات في المآل، وما أذكره تنبيهٌ، وليس يخفى على الفطن وجوه الاحتمال، وسأعضد هذا التنبيهَ بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
10578- قال العراقيون: إذا كان للغارم إبل وأصنافها مختلفة، أخذ من كل صنفٍ بقسطٍ. وهذا بنَوْه على اعتبار إبل الغارم، وقد ذكرنا مثلَ هذا الطريق عن المذهب.
ثم إن كان له ثبوت، فقد ينقدح فيه تخريج قولين:
أحدهما: الأخذ من كل صنفٍ كما ذكروه.
والثاني: الأخذ من أغلب ملكه إن كان في ملكه أغلب، وقد ذكرنا مثلَ هذين القولين في الزكاة.
فإن قيل: إذا اعتبرتم إبلَ الناحية وهي أصناف، فهلا خرجتم في كل صنف؟ قلنا: هذا إن كان ينقدح في الملك المحصور، فكيف ينضبط في إبل القطر، وكيف تتجه أقساط النسب إلى قيمة الإبل في القول الجديد اعتباراً بوقت العِزّة.
هذا معتمد الشافعي. قال فيما نقله المزني: "فإن أعوزت الإبل، فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قومها عمر رضي الله عنه" قال عطاء: "كانت لإبل حتى قومها عمر رضي الله عنه". قال الشافعي رضي الله عنه: "والعلم يحيط أنه لم يقوّمها إلا قيمةَ يومها". هذا نص الشافعي في لجديد.
ونص في القديم على أنا نأخذ في الذهب ألف دينار، ومن أهل الورِق اثني عشر ألف درهم، وله في المصير إلى هذا القدر تعلّقٌ بآثار وأخبار ذكرناها في (المسائل).
واختلف أصحابنا في تنزيل هذا القول، فمنهم من قال: هذا في عزّة الإبل، ففي المسألة عند عزتها قولان:
أحدهما: أن الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت.
والثاني: أن الرجوع إلى المقدار الشرعي من الدراهم والدنانير. هذا طريق.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى إجراء القول القديم مع وجود الإبل، وهذا القائل يردّ الأمر إلى اختيار الجاني، وفيه بُعد.
وإن لم يكن من القول القديم بدّ، فالوجه تخصيصه بحالة الغرم. قال المزني: "رجوعه عن القديم رغبة عنه إلى الجديد، وهو بالسنّة أشبه".
ثم الدنانير على قول التقدير من الذهب الخالص، وكذلك الدراهم من النقرة الخالصة، ولسنا نقنع بأحدٍ من الصنفين حتى يطبع ويسك، والخِيَرة على قول التقدير إلى المعطي بين الدراهم والدنانير، وإن رجعنا إلى قيمة الإبل، فالرجوع إلى النقد الغالب؛ اعتباراً بقيمة المتلفات، وإن غلب النقدان، فالخِيَرةُ إلى الجاني.
10579- ومن تمام القول في هذا التفصيل: أنا لا نأخذ قطّ معيباً من أصناف الإبل إلا أن يرضى المستحق، وإذا كنا نرعى البراءة من العيوب في الرقبة المعتقة في الكفارة، وليست عوضاً، والملك إلى الزوال بالإعتاق، فلأن نرعى السلامة عن العيوب في الديات وهي أعواض أولى، غيرَ أن السلامة المرعية في رقبة الكفارة هي السلامة عن العيوب المانعة من الاستقلال المؤثرة في العمل؛ فإن الغرض تخليص عبدٍ عن الرق ليستقل، لا ليصير كلاًّ على المسلم، وكل باب معتبرُه على حسبه.
فأما المرعي في عيوب الديات، فما يؤثر في المالية؛ فإنها أعواض، فكل عيب يُثبت الرد في البيع، فالسلامة منه معتبرة.
ولو كانت إبل الناحية عجافاً مِراضاً، أو كانت إبلُ الغارم كذلك-إن اعتبرنا ملكه-عدلنا عنه، وجعلنا عيبَ الإبل كعدمها، وليس هذا كأخذنا المعيب من الإبل المعيبة في الزكاة؛ فإن الزكاة واجبُ الأموال، فاعتبرت فيها صفة الأموال وهذا ظاهر.
ثم نقول: إن كانت الدية مخففة، قوّمت على صفاتها، وإن كانت مغلّظة قومت، ثم يظهر التفاوت تغليظاً وتخفيفاً في القيمة، كما كان يظهر في الأصل لو وجد.
وإن فرعنا على القديم، ورجعنا إلى المقدّر من الدراهم والدنانير، فالمذهب الأصح أن أثر التغليظ يسقط، وهذا من أصدق ما يدل على فساد هذا القول.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنا وإن قدّرنا نزيد للتغليظ ثلث المقدّر، فيصير الاثنا عشر ستةَ عشرَ ألفاً، أخذاً من قول ابن عباس.
وهذا لا أعتد به ولا أعده من المذهب.
10580- ثم ما ذهب إليه المحققون أنا نغلّظ دية المرأة على النسبة المتقدمة، ونغلّظ دية اليهودي، والنصراني، وهذا مجمع عليه بين الأصحاب، والغرض ما وراءه، قال هؤلاء: نغلظ دية المجوسي على قدره، فإنا إذا كنا نغلّظ أروش الجنايات وإن قلّت، فأبدال النفوس ينبغي أن تكون في معناها.
وكان شيخي أبو محمد يقول: التغليظ جارٍ في كل ما نطق الشرع فيه بالنسبة والجزئية، وقد ورد في الشرع أن المرأة على النصف من الرجل، واليهودي عند الشافعي على الثلث، ولم يصح في دية المجوسي لفظ النسبة، وإنما اتبع الشافعي قضاء عمر في ديته بثمانمائة درهم. قال رضي الله عنه: "نتبع هذا المقدار، ولا نوجب الأبل، وإن وجدناها" ويتفرع عليه ألا يغلظ، وهذا عندي كذلك.
والوجه القطع بتنزيل دية المجوسي منزلة سائر الديات في التغليظ والتخفيف، والرجوعُ إلى الإبل عند وجودها، وديتُه ثلث خمس دية المسلم، فإنها لم ترد بلفظ النسبة لطول الكلام فيه.
فهذا ما نراه مقطوعاً به في الباب، ولم أحك ما ذكرته عن شيخي إلا لتعتقدوا أنني نبهت على ما فيه من خلل، والمعتمد إجراء الديات قلّت أو كثرت على وتيرة واحدة في التغليظ والتخفيف، والتقويم والتقدير.
نعم، إذا وجب العبدُ غرةً عن الجنين، فذاك لا تفاوت قطعاً، وهذا بدل النفس؛ إذ لا يتصور فيه رعاية التفاوت أعني تفاوت التغليظ والتخفيف، والجناية على الجنين تفرض خطأً وشبهَ عمد، وإذا رجعنا إلى الإبل في بدل الجنين، عاد النظر في التخفيف والتغليظ، كما سيأتي أبدال الأجنّة.
فصل:
قال: "وفي الموضحة خمسٌ من الأبل... إلى آخره".
10581- قد مضى معظم الكلام في الشجّات في كتاب الجراح، فإنا وإن سقناها للقول في القصاص، فقد أتينا في أثناء الكلام بجمل من أحكام الديات، ونحن الآن نذكر ما يتعلق بالأروش في الشجات، وإن مست الحاجة إلى إعادة بعض ما مضى، أعدناه على قدر الحاجة.
والذي يجب تصدير هذا الباب به أن المقادير مستندها توقيف الشارع لا يهتدي إليها رأي، ولا يجري فيها قياس. نعم، قد يتأصل منها أصول، فيلتحق بها من طريق التشبيه والتقريب فروعٌ، وقد اعتمد الشافعي رضي الله عنه في تقدير أروش الأطراف كتابَ عمرو بن حزم، وقد أورد إسحاقُ في مسند عمرو بن حزم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً فيه: وفي أصابع اليدين والرجلين في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي الموضِحة خمسٌ من الإبل، وفي الجائفة الثلث، وفي المأمومة الثلث، وفي الأنف إذا أُوعي جدعاً مائةٌ من الإبل، وفي اليد خمسون من الإبل".
فيثبت من جهة النص تقدير أرش الموضحة بالخمس من الإبل، وهي إذا نسبت إلى الدية الكاملة، وقعت نصفَ عشرها، فالواجب في الموضحة من كل شخص نصفُ عشر ديته، على اختلاف المقادير، ولا حاجة إلى ذكر الديات في هذا الفصل.
ثم الكلام متعلق في الشجات وأروشها بأصولٍ لابد من تفصيلها، ونحن نأتي بها مفصلة: الأول، فالأول.
10582- فأهم ما نبتديه ذكر محل الموضِحة وفي كلامٍ كيِّسٍ: وقد تحقق لنا من مجموع كلامهم أن الموضحة محلها كُرةُ الرأس، ومنها الوجه، وهي مركبة على السالفة، وكل عظم اتصل بالجرح من القمة إلى تركّب الكرة، فهو موضِحة، وتفصيل ذلك: أما الأجزاء الثلاثة المشهورة من الرأس، فلا حاجة إلى ذكرها: كالهامة والفَوْدَيْن والقَذال والناصية، وما يتصل باستواء القفا في منحدر القَمَحْدُوة إذا اتضح العظم منه، فموضِحة، وهذه المواضع إذا عمرتها استبنت العظمَ في محل العَمْر، وما ينطبق عليه صدفة الأذن عظمة صلبة تسمى الخُششاء، كل ذلك محل الإيضاح، وليس من الرأس في أحكامٍ كالستر على المحرم، ومحل المسح من الرأس، وإذا تعدى تصور الإيضاح إلى الوجه والوجنة واللِّحى، فما ذكرته إشكال، ومحل الإيضاح من الوجه بيّن: منه الوجنة والجبينان، والجبهة، وقصبة الأنف، واللحيان في جهة المقابلة ومن جهة تحت، فهذا بيان محل الموضحة تفصيلاً وضبطاً.
وأما الرقبة نفسها، فالعظم الخصِّيص بها فقراتٌ يحيط بها الحلقوم، والمريء، والأوداج، من جهة المقابلة، والأعصاب والشجاج من جهة الفقار، ولا تعلق بوضوح العظم منها أرش مقدّر كسائر عظام البدن.
وإنما خص الشارع بتقدير الأرش شجات الرأس-فيما نظن- لأنها المنظر ومحل الجمال، ومجمع المحاسن، والشَّيْنُ عليها ظاهر الوقع.
هذا كافٍ في بيان المحل.
10583- والأصل الآخر في بيان وجوب اتباع الاسم، وذلك من غير نظر إلى الصغر والكبر، فيجب في الموضحة التي يقرعها المِيل ما يجب في استيعاب الرأس، والسبب فيه أنه لا ضبط ننتهي إليه إلا الاسم، وهذا هو المتعلق إذا انحسم الضبط والتقدير، وعلى هذا الأصل نبني تعدد الأروش عند تعدد الموضحة وانفصال بعضها عن البعض بالحواجز الكاملة، ولو فرض الاختلاف في الموضحة المتصلة من جهة المحل، فلا أثر لأجزاء الرأس في ذلك، فالموضحة التي تعم الناصية والهامة ليس لها حكم التعدّد، من جهة أنها على مسمّيَيْن.
فإن قيل: أي إشكال في هذا، وقد ذكرتم أن الموضحة المستوعبة للرأس واحدة؟ قلنا: قد يتخيل الفطن فرقاً بين أجزاء الرأس وبين جملته، وعلى هذا انبنى اتحاد الدية في النفس، وتعددها في الأطراف، فنصصنا على ما ذكرناه دفعاً لهذا الوهم. والأجزاء مختلفة في القصاص، حتى لا نقيم جزءاً من الرأس في القصاص مقام جزء من غير ضرورة، وهي متساوية في تصوير اتحاد الموضحة.
ولو اتصلت الموضحة من الناصية إلى الجبهة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الأرش لا يتعدد، لاتصال الجراحة واتحاد الاسم، ولا ينظر إلى تعدد المحل.
والوجه الثاني-يتعدّد لاختلاف المحل، وأنا لا نكمل في القصاص جراحة على الرأس الكبير من جبهة الجاني بعد استيفاء رأسه.
وإذا جمع الناظر ما ذكرناه من آثار الاختلاف في القصاص إلى ما نبهنا عليه الآن من اختلاف المحل في الدية، استبان ما بين البابين من بون.
ولو انتهت الجراحة إلى العظمة المعمودة وراء القَمَحْدُوة القريبة من مركب الكرة من الرقبة، فالأصح الاتحاد في هذا؛ فإن تيك العظمة من تتمة القِحف ذي الدوران ومن أئمتنا من جعل اتصال الموضحة بها كاتصالها بالجبهة، حتى تخرّج على الخلاف الذي قدمناه. وهذا الأصل متصل بالكلام في المحل.
والموضحةُ على الجبهة إذا انحدرت إلى الجبينين، فأراها واحدة، وإن هي اتصلت بالوجنة، ففيه تردد، والأظهر منع الاتصال الآن، تنزيلاً لما تقابَل به منزلة الرأس.
10584- الأصل الآخر: الكلام في الجراحة ووصفها وتقدير رفعها وارتفاعها، فمن أوضح موضعين من رأس إنسان وبينهما حاجز كامل أو لحم وجلد، فموضحتان، وفيهما أرشان، وإن كان الحاجز لحماً لا جلد عليه، أو لا لحم تحته، اضطربت مسالك الأصحاب في الطرق، ومجموعها أوجه: أحدها: أن الجلد دون اللحم، واللحم دون الجلد ليس حاجزاً، وللجرح حكم الموضِحة الواحدة؛ لأن الجناية أتت على الموضِحتين وما بينهما، فنَجْعل كأن الجناية بينهما إيضاح، ولو اتصل الإيضاح، لاتحد الأرش، فالمتلاحمة دون الموضحة، وهذا وجهٌ منقاس.
والوجه الثاني- أن الأرش يتعدد اتباعاً للاسم، وقد تحقق الحائل سواء كان جلداً مَحْضاً أو لحماً، والتعويل على الاسم عند هذا القائل.
والوجه الثالث: أن اللحم حائلٌ والجلد ليس بحائل؛ لأن اللحم ساترٌ للعظم تحته سترَ خلقة، فلا وضوح بالعظم الذي تحته، وإذا انقطع الإيضاح، تعدّد الاسم، فأما الجلد إذا لم يكن تحته لحم، فالعظم تحته بادٍ ووضوحه متصل.
والوجه الرابع-وهو أضعفها- أن الجلد المجرّد حاجزٌ، واللحم ليس بحاجز؛ فإن المرعي في الوضوح ما يبدو للناظر، وإن كانت الجلدة متصلة، فالعظم غيرُ بادٍ.
وهذا ليس بشيء.
هذا مجموع ما قيل في بيان الحواجز. ومن لم يجعل اللحم دون الجلد والجلد دون اللحم حاجزاً، هؤلاء اختلفوا في صورةٍ، وهو إن أوضح الرجل موضعين من رأس رجل، وبين الموضحتين حاجز قائم، ثم إنه أدخل حديدة من الموضحة إلى الموضحة، ثم استلّها، فهل يكون الحاجز في حكم المرتفع بهذا؟ فعلى وجهين ذكروهماً:
أحدهما: أنه لا يكون مرتفعاً، فإن الحديدة إذا استلّت انطبق اللحم على اللحم، وعاد الأمر إلى ما كان.
والثاني: أن هذا يكون رفعاً للحاجز، فإن الحديدة قد نفذت واتصلت الموضحتان، فإن فرض بعد هذا انطباق والتحام، فلا حكم لما يجري من بعدُ، والدليل أنا إذا لم نجعل اللحم بمجرده حاجزاً، فلو فرضنا موضحتين وبينهما لحم، وقلنا: الجراحة واحدة، فلو ألبست تلك اللحمة بالجلد، فقد كمل الحاجز الآن، ولا نقضي بتعدد الأرش بعد الحكم باتحاده، فإن طوارىء الالتحام لا تؤثر في الشجات، كما سنصف ذلك.
وإذا بان ما ذكرناه من إدخال الحديدة وتنفيذها من الموضحة، فقد ينشأ من ذلك صورة وفيها احتمال ظاهر عندي، وهو أن الرجل إذا غرز إبرة في رأس إنسان، وتحققنا انتهاء رأس الإبرة إلى العظم، ثم استلّها، فهل يكون هذا موضحة أم لا؟
أرى تخريج هذا على الوجهين اللذين نقلتهما في تنفيذ الحديدة في الحاجز بين
________
في الأصل: "عليه".
في الأصل: "أسبلها".
في الأصل: "وقد".
الموضحتين؛ فإن لم يكن رفعاً، فهذا ليس موضحة، وإن كان ذلك رفعاً للحاجز، فهذا موضحة، وترجع حقيقة التردد إلى أن الاعتبار بجرح يشق إلى العظم ويوضِحه فعلاً، أم الاعتبار بما سمي موضِحة مدركة.
ومما يتصل بهذا الفصل أن الجاني لو أدخل حديدة في رأس إنسان وجرها، فأوضح موضعاً وانملست الحديدة على موضعٍ، ثم غاصت، وأوضحت موضعاً،.
وفِعْلُ الجاني في حكم المتَّحد، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن هذه موضحة واحدة نظراً إلى اتحاد الفعل، وهذا خَرْمٌ لقاعدة المذهب الكلّية؛ فإذا تعدد الجرح، وتعدد الاسم، وكمل الحاجز، فالنظرُ بعد هذا إلى اتحاد الفعل، وتواصلُ الجراحات لا حاصل له، وقد قال هذا القائل: إنما تتعدد الموضِحة إذا رفع الحديدة من شجة ووضعها في أخرى، وهذا ليس بشيء.
10585- الأصل الآخر في رفع الحواجز وارتفاعها، فإذا أوضح الرجل مواضع من رأس إنسان، واتصلت الموضِحات بالحواجز، ثم تأكّلت وارتفعت بالسراية، اتحد الأرش، وزال تقدير التعدد، ونزل ارتفاع الحواجز بالسريان منزلة سريان قطع الأطراف إلى الروح، لا خلاف على المذهب في ذلك.
ولو عاد الموضح ورفع الحواجز بنفسه، فهذا مسلك النص، وتخريج ابن سريج في الأطراف والنفس، ومقتضى النص اتحاد الأرش، كما لو قطع يدي رجل ورجليه، ثم حز رقبته، وابن سريج خالف في الجراح، وأوجب على قاطع اليدين والرجلين، ثم القاتل بعد ذلك دياتٍ، ومذهبه يطّرد لا محالة في رفع الحواجز.
ولو أوضح موضعين عمداً، ورفع الحاجز خطأ، والتفريع على النص، ففي اتحاد الأرش وجهان، وكذلك الخلاف في الجراح والنفس، كما تقدم في أول الجراح، ولا فرق على الجملة.
ولو رفع الحاجز بين الموضحتين، رجل آخر، فلا خلاف أن الأروش لا تتحد في حق الجاني الأول، وهذا يناظر في الجراح والنفس ما لو قطع رجل يدي رجل، فجاء آخر وقتله، فلا خلاف في تعدد الدية عليهما؛ إذ لا نربط فعل شخصٍ بفعل شخص في هذه الأبواب، فلا جَرَمَ قلنا: على صاحب الموضحتين أرشان، وعلى رافع الحاجز أرشٌ ثالث.
ولو أوضح رجل موضعاً من رأس إنسان، فجاء آخر وابتدأ من منتهى جناية الأول، وأوضح، ثم هكذا حتى إذا استوعب الرأسَ جناةٌ، فعلى كل واحد أرش موضحة، بلا خلاف.
وإذا كان قياس مذهب ابن سريج أن يجعل أفعال جان واحد في تعديد الموضحة أولاً ورفع الحاجز ثانياً بمثابة أفعال جناة، فليت شعري ما يقول إذا استوعب جان واحد رأسَ إنسان بالإيضاح بموضحتين متواصلتين بأفعال متفرقة؟ ظاهر قياسه أنها موضحات إذا تعددن بالأفعال، وفيه احتمال على خلافٍ، فإنها في الآخر جنسٌ واحد، وليس كقطع اليدين والقتل، وليس كما إذا تحقق تعدد الإيضاح ثم فرض الرفع.
فلينظر الناظر، وليستدّ نظره إذا كُرِّر أعدادُ الموضحات في شخص، ولو اجتمعت أروشها، لزادت على دية، فالمذهب أنا نوجبها بالغةً ما بلغت، وأبعد بعض المصنفين وقال: نردها إلى دية، وهذا بعيد، والاختلافُ المذكور فيه مذكور في الأسنان، والأصح ثَمَّ أيضاًً أنا لا نبالي بالزيادة على مقدار الدية ولو قُتل الإنسان، الزيادة أولى؛ من جهة أن أعدادها في اعتدال الخلقة إذا قوبلت بالأروش زادت الأروش على الدية، وإطلاقُ الشارع ذكر الأروش في آحادها من غير تعرض لرده الزيادة إلى مقدار الدية مناقض لما قال هذا القائل، ولا ينبغي أن نفرع على الوجه الضعيف. وما ذكره هذا القائل في الموضحة ليس بعيداً في التفريع، ولكن التفريع على الضعيف مجتنبٌ.
فرع:
10586- إذا أوضح الرجل موضعاً من رأس إنسان، وجرّ السكين، فاتصل بالموضحة متلاحمة، فقد أجمع المحققون على أنا لا نفرد المتلاحمة بأرش، لأن الجراحة واحدة، ولو كانت المتلاحمة موضِحة، لما وجب إلا أرش واحد، وهو منفصلٌ عما قدمناه من موضحتين بينهما لحم؛ فإن اسم الموضحة متعدد ثَمَّ في وجهٍ، ولم أعرف في الصورة التي رسمتُ الفرعَ لها خلافاً بين الأصحاب، وهذا يدل على اتحاد الأرش في اللحم الحائل بين الموضحتين.
ولو أوضح قَمَحْدُوة إنسان، وجرّ السكين إلى القفا، فموضحة، وجرحُ حكومة، وإن جرها من الناصية إذا أوضحها إلى الجبهة وجرح الجبهة متلاحمة، فهذا يخرج على أن الموضحة لو اتصلت هل كان يتعدد الأرش فإن قلنا: لا يتعدد فالمتلاحمة على الجبهة تتبع الموضحة على الناصية، إذا اتصلت بها، فإن قلنا: لو اتصلت الموضحة على الناصية بإيضاح الجبهة، لتعدد الأرش، فتفرد المتلاحمة بحكومة. هذا وضع المذهب.
فصل:
10587- ذكرنا اختلاف قولٍ في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة، وكان شيخي رحمه الله يقول: أرش المتلاحمة يُبنى على وجوب القصاص؛ إن قلنا: لا قصاص في المتلاحمة، فأرشها حكومة، وإن قلنا: فيها القصاص، فإنا نطلب تقدير أرشها بالنسبة إلى السُّمك جهدنا، كما نطلب هذا المسلك في إجراء القصاص، وهذا عندي ليس يظهر له أثر؛ فإنا وإن لم نوجب القصاص إذا حاولنا الحكومة، فتحويمنا على النظر إلى النسبة، ولهذا نفصل بين متلاحمة غائصة وبين أخرى دونها، ولا نغفل على كل مذهب عن الفرق بين النصف الذي بقي إلى العظم وبين النصف الذي شُق، ونرى النصف الآخر أشرف، فإنه ينتهي إلى الإيضاح، وإذا كان هذا عمادنا في النظر، فليس يختلف المذهب بأن يجري القصاص أو لا يجري وأرش الجائفة مقدّرٌ ولا قصاص فيها، والقصاص جارٍ في الإصبع الزائدة وأرشها لا يتقدّر.
فرع:
10588- إذا ثبت أرش الموضِحة، فلم نستوف من الجاني حتى التحمت الموضحة واكتست، فالأرش لا يسقط بما يجري، باتفاق الأصحاب؛ فإن مبنى الباب على اتباع الاسم، ولو أوضح جانٍ ذلك الموضع الذي اكتسى، استوجب أرشاً جديداً، ولو أوضحنا رأس الجاني قصاصاًً، ثم اندمل موضع القصاص، فقد استوفينا الحق كَمَلاً. وهذا متفق عليه، والجراح قد تختلف في هذا المقتضى على ما سنجمعها في فصلٍ، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "وفي الهاشمة عشر من الإبل... إلى آخره".
10589- إذا أوضح العظمَ، وهشم العظمَ الذي أوضحه، لزمه عشرٌ من الإبل، فكان الايضاح مقابل الخمس، والهشم مقابل الخمس.
ومن أصحابنا من قال: لم يرد في الهاشمة حديث، وإنما جرى التقدير فيه من جهة الرأي والنظر.
ومن أئمتنا من روى عن زيد بن ثابت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشراً من الإبل".
ولو هشم الرجل العظم من الرأس ولم يوضح فيه؟ اختلف أصحابنا فيما يجب: فمنهم من قال: الواجب خمسٌ من الإبل، وهو أرشٌ مقدّر، ومنهم من قال: الواجب فيه حكومة، وسبب هذا التردد إذا انفرد الهشم ما حكيناه في الموضحة الهاشمة، فإن أوجبنا أرشاً مقدَّراً وهو المذهب، فلا خلاف أن في الموضحة الهاشمة عشراً، فإذا أُفرز منه حظ الموضحة، بقي على القطع مقدارٌ في مقابلة الهشم.
وإن فرعنا على أن الهشم إذا تحدد ولم يسبقه إيضاح، فموجبه حكومة، فهل تبلغ تلك الحكومة أرش موضِحة؟ تردد في هذا جواب القاضي، وهو موضع التردد؛ من جهة أن الموضحة الهاشمة فيها عشر وأرشُ الموضحة منها خمس، فلا يبعد بلوغها إذا انفردت خمساً، وفائدة هذا الوجه أنه لا يمنع أن تنقص حكومة الهشم عن خمس من الإبل، وسبب هذا التردد أنه تفريع على وجه ضعيف.
10590- وفي المنقّلة خمسةَ عشرَ، وقد روي ذلك عن النبي عليه السلام، والمأمومة جائفة، فلو أوضح رأسه واحدٌ، وهشمه آخر في محل الإيضاح، ونقّله آخر، وأمّه آخر، وكل ذلك على محلٍّ واحد، فعلى الأول خمسٌ من الإبل، أو القصاص، ولا قصاص في غيره مما جرى، وعلى الثاني تفاوت ما بين الموضحة والهاشمة على الأصح، وهو وجهٌ، والتقدير والتفاوت خمس من الإبل، وعلى الثالث تفاوتٌ ما بين الهاشمة والمنقّلة وهو خمس، وعلى الرابع تفاوت ما بين المنقلة والمأمومة وهي ثمانية عشر وثلث بعير.
وذكر الأصحاب صوراً يُرشد إليها ما مهدناه، فقالوا: في متلاحمة فيها موضحة أرشُ موضِحة بلا مزيدٍ، وفي موضحة فيها هاشمة عشرٌ بلا مزيد، وفي منقّلة فيها في حسابها هشم وإيضاح عشرٌ بلا مزيد، وسبب ذلك مأخوذ مما قررناه.
أما المتلاحمة إذا كان فيها موضحة، فلو كانا موضحة لم يجب فيها إلا خمس.
وهذا المسلك يطّرد في جميع ما ذكرناه.
10591- ثم ذكر الأصحاب ما يتصور في الوجه من الشجاج، أما الموضحة فتتصوّر فيه، وكذلك الهاشمة، والمنقّلة، وفي الجراحة التي تنفذ إلى داخل الفم والأنف خلاف سنذكره في فصل الجوائف؛ فإن قلنا: إنه جائفة، فقد تُصوَّرُ على الوجه أمثال شجاج الرأس.
والدامغةُ ليست من الجراح؛ فإنها توحي وتذفّف تذفيف حز الرقبة.
وإن لم نجعل الجراحة النافذة إلى داخل الفم جائفة، قال الأصحاب: إن نفذت من الوجه إلى الفم، فيجب فيها أرش منقلة وزيادة؛ فإن النفوذ في صورته يزيد على التنقيل، وإن نفذ الجرح من الخد إلى الفم، ففيه أرش متلاحمة وزيادة لصورة النفوذ.
وأعاد الأصحاب في آخر الفصل اختلافاً بين الجاني والمجني عليه، وقد قدمنا ذكره، فلا نعيده، وصورته أن يقول الجاني: ارتفعت الجراح بالسراية من جراحتي، وقال المجني عليه: بل رفعها أجنبي. هذا فن مضى مقرّراً.
فصل:
قال: "وفي كل جرح ما عدا الوجه والرأس حكومة إلا الجائفة... إلى آخره".
10592- لما تكلم في أحد القسمين وهو الجرح الذي يشق، واستوعب الكلام في شجاج الوجه والرأس، قال: كل جرح يشق على سائر البدن، فلا يتعلق به أرش مقدّر إلا الجائفة، فإن موجَبها ثلثُ دية المجني عليه.
والكلام فيه يتعلق بأصول: منها تصوّرها، فنقول: كل جراحة وصلت إلى باطن عضو يُعدّ مجوّفاً، فهي جائفة كالواصلة إلى البطن والصدر، وكالآمّة، وليس من تمام الجائفة أن تخرق المقابل، إذا وصلت إلى المعادات جائفةً، والواصلة إلى جوف عظم الفخذ ليست جائفة، وإن كان ذلك العظم مجوفاً، فإن العظم لا يعدّ مجوفاً، وكأن أرش الجائفة على مقابلة خطرها في وصولها إلى تجاويف البدن، وهذا لا يتحقق في الأعضاء التي تعد مصمتة.
والجرح الواصل إلى المثانة جائفة؛ وفي الواصل إلى ممرّ البول من القصبة وجهان:
أحدهما: أنه جائفة؛ لأن العضو يعد مجوفاً.
والثاني: ليس جائفة؛ فإن الجوف الحقيقي ما فيه قوىً محيلة للأغذية أو الأدوية، وليس ممرّ البول كذلك، والجراحة النافدة من العِجان إلى أصل الشَرْج جائفة.
وفي الواصلة إلى داخل الفم والأنف وجهان:
أحدهما: أنها جائفة؛ لأنها تُفسد العضو إفساد سائر الجوائف وتعطّل منفعته.
والثاني: أنها ليست جائفة؛ فإن داخل الفم والأنف في حكم الظاهر، وكذا الخلاف في خرق الأجفان، فإن الأجفان تنطبق على مضطرب الحدقة انطباق الشفاه على الأفواه.
فهذا بيان محال الجوائف.
10593- ولو أجاف رجلاً في مواضع، ففي كل جائفة ثلث الدية إذا كان بين الجوائف حواجز، والقول في رفع حواجزها وارتفاعها، كالقول في الموضحات وحواجزها حرفاً حرفاً.
ولو طعن رجلاً في بطنه، فنفذ السنان من الظهر، فالمذهب الأصح أن ذلك جائفتان، فإن النفوذ تحقق من الخلف.
وقال بعض أصحابنا جائفة واحدة؛ فإنها تعد جراحة واحدة، وهذا لا أصل له، فلسنا في الألفاظ العرفية، حتى نرجع إلى موجب العرف، وإنما ندير هذه المسائل على حقائق ماثلة، ولا شك أن ما جرى نافذتان إلى البطن، ولو طعنه في بطنه، ولم ينفذ، ثم طعنه على ظهره على محاذاة طعنة البطن والتقى النفوذُ، فلا ينبغي أن يعد هذا توسيعاً للجائفة الأولى، ولو قيل بذلك، لكان بعيداً.
ولا شك أن من ضرب بطن إنسان بمشقص وأجافه في موضعين بينهما حائل في الاتصال قال الشيخ أبو بكر: إذا جعلنا الطعنة النافذةَ جائفة واحدة، فالقياس عندي أن يجب فيه ثلث الدية وزيادة حكومة؛ فإن هذه الجراحة زائدة على الواصلة إلى الجوف، واقتضى ذلك مزيد حكومة، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن تلك الزيادة التي بجانبها حقيقتُها أنها جائفة أخرى؛ فإن مال إلى حقيقة هذا، فالوجه إيجاب ثلثي الدية، وإلا فلا وجه مع اعتقاد اتحاد الجائفة لإيجاب الزيادة، وهذا بمثابة ما لو أجاف بطن إنسان، ثم زاد، فوسع تلك الجائفة، فلا يجب في التوسع مزيدٌ.
10594- ولو أجاف شخصاً جائفة، فاندملت الجائفة، والتحمت، واكتست بالجلد، فالمذهب الصحيح أن أرش الجائفة لا يسقط بما جرى، قياساً على لتحام الموضحة، والجوائف في تفاصيلها كالموضحات.
ومن أصحابنا من قال: إذا التحمت الجائفة، لم يجب إلا حكومة على قدر الشَّين، وهذا القائل لا يستدّ له فرق بين الجائفة والموضِحة، ولا يُتصور عند هذا القائل ثبوت أرش الجائفة إلا بأن تفرض إجافةٌ من جانٍ، ثم يفرضَ من آخرَ حزُّ رقبة المجني عليه، ولا يتَصَور هذا زوالَ الجائفة إلا بالتحامها بخلاف الموضحة.
ولو أجاف رجلاً جائفةً، فخيطت الجراحةُ، وكادت تلتحم، فجاء إنسان، وقطع الخيط، فانفتقت، لم يلتزم قاطعُ الخيط شيئاً إلا التعزير؛ فإنه لم يجن على جرح.
ولو التحمت، وتم التحامها فجاء جانٍ، وجرح ذلك الموضع، فهو مُجيف ملتزم لثلث الدية، وهذا بيّنٌ، ولو التحم ظاهر الجرح، ولم ينتظم الالتحام بعدُ، فإذا جاء وفتق ما كان التحم، فلا يلزمه أرش جائفة، بل حكومة، وقد يفرض الالتحام من ظاهر دون الباطن، ولا يجب على الجارح والحالة هذه أرش جائفة، كما ذكرناه، وغرضنا فيما أجريناه الكلامُ على الجوائف.
فلو جرح الظاهرَ الملتحم، فأدى ذلك إلى اتساع الجائفة الأولى وانفتاق لحمٍ نامٍ وجلدٍ متصل بموضع الجناية ونفوذٍ إلى الباطن، فهذه جائفة تسبب إليها، والضمان يجب بالأسباب والسرايات.
ولو كان قطْعُ الخيط من الجائفة سبباً لهلاك المجروح، تعلق الضمان به؛ فإن الأسباب التي يتعلق الضمان بها قد تكون أبعد من هذا، وليس قطع الخيط من الجرح بأقلَّ من حفر البئر وغيره من الأسباب.
فصل:
قال: "وفي الأذنين الدية... إلى آخره".
10595- المذهب الذي عليه التعويل أن الدية تكمّل في الأذنين، إذا استؤصلتا ولم يبق شيء شاخصٌ من الصدفة، وفي إحداهما نصف الدية، هذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من خرّج وجهاً في أن الدية لا تجب في الأذنين، وإنما قال هذا الإنسان ما قال؛ من جهة غموض منافعها، والتعويل في كمال الدية على المنافع عندنا، والذي يقوّي هذا الوجهَ قليلاً أنه لم يجد لرسول الله صلى النه عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم إيجابَ الدية في الأذنين، وفي الكتاب إيجاب الدية في الأنف، كما رويناه في صدر فصل الموضحة، وقد روى بعض الفقهاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الأذنين الدية» وهذا مجازفة في الرواية، ولم يصح عندنا في ذلك خبر في كتب الحديث.
ولكن إلحاقَها بمثاني البدن من أعلى وجوه الشبه، وللشبه جريان إذا تقاعدت المعاني.
ثم الذي تخيله الفقهاء من منفعة الأذن أن صدفتها تجمع الصراخ، ومعاطفها تصون الصماخ، وهو غضروف يتأثر بالصوت تأثر الجلد الممدود على الطبل.
وفشا بين الأصحاب بعد الاختلاف في الأصل خلافٌ آخر، فقالوا: في الأذنين المستحشفتين وجهان إذا استؤصلتا:
أحدهما: فيهما الحكومة، فإن استحشافهما: سقوط حسّهما- بمثابة الشلل في الأعضاء.
والثاني: أنه يجب فيهما الدية؛ فإن المنفعة الكائنة في الحساستين ثابتة في المستحشفتين؛ فإن المعنى الظاهر جمع الصوت ورده إلى الصماخ وهذا لا يختص بالأذن الحسّاسة، وإن عُدّ حِسُّها من تمام منفعتها، على معنى أنها إذا أحست بدودةٍ، اشتغل صاحبها بطردها، فإن لم تكن حسّاسة، فلا يحصل هذا المعنى، فهذا خفي، والمنفعة الظاهرة جمع الصوت، وذاك لا يختلف بالاستحشاف والإحساس.
وعلى ذلك اختلفوا في أن من جنى على أذن إنسان واستحشفت أذنه من أثر الجناية، فهل يجب عليه الدية، كما يجب على من جنى على يدٍ فشلّها؟ فمن أوجب الدية الكاملة في الأذن المستحشفة، لم يوجب بالجناية المؤدية إلى الاستحشاف الديةَ، ومن لم يوجب الدية في الأذن المستحشفة قياساً على اليد الشلاء، أوجب فيما يؤدي إلى الاستحشاف الديةَ.
10596- ويجب في أذني الأصم الديةَ الكاملة؛ فإن السمع ليس حالاًّ في الأذنين، حتى نَفرض سقوطَ ديتها بزواله، وهذا يُسقط اعتبارُنا المنفعةَ
المقصودة، والجمال بمجرده لا يتضمن إيجاب الدية عندنا، ويتجه في الخلاف المصيرُ إلى أن الدية لا تكمل في الأذنين إن لم يثبت فيهما خبر، وإن ثبت خبر، اتبعناه؛ فإن إيجاب بدل الكل في الطرف ليس منقاساً في الأصل، والأصل المعتمد في تكميل بدل الجملة في الجزء توقيف الشارع، كما ذكرته في (الأساليب).
10597- وإذا ظهر المقصود في الأذنين، فنتكلم في السمع، فنقول: الجناية المزيلة للطيفة السمع توجب الديةَ الكاملة، وهو من أشرف المنافع، ثم لا يستريب ذو عقل أن لطيفة السمع ليست متعلقة بجِرم الأذن، وإنما هو في مقرها من الرأس، وقال العلماء: السمع من الآحاد، وليس من المثاني، بخلاف النظر، وذهب بعض الأصحاب إلى إلحاقه بالمثاني، وكأنه يتخيل لطيفتين لكل واحدة نفوذ في صوب أذن، كما يتحقق ذلك في البصر، وهذا مزيّف عند جماهير الأصحاب؛ من جهة أنهم اعتقدوا لطيفةَ البصر في جِرْم الحدقة والعين من المآقي، وليس السمع في الأذن، ولا ينتظم في الاستدلال على تعدده بتعدد الأذن دليل.
وهذا موقف يتعين إنعام النظر فيه في وجوه نبنيه عليها، على ما سنبين في سياق الكلام.
فإذا ادعى المجني عليه زوالَ السمع بالجناية، لم يصدَّق حتى يمتحن، وامتحانه بأن يراعى غفلاتُه، ثم يصاح به صيحة منكرة، فإن كان سميعاً، ظهر الأثر عليه، وتبين كذبه في دعوى الصمم، وإن لم يظهر الأثر عليه، ظهر صدقُه، ثم لا يُؤمن تماسكه، فمن الناس من يتماسك في مثل ذلك مع السمع، فنحلِّفه، وهذا غاية الإمكان.
ولو لم يدّع زوال السمع بالكلية، ولكن ادعى اختلالَه ونقصانَه، نظر: فإن ادعى النقصان في جهتي الأذنين، غمض التعلق بامتحانه، فإنه ليس ينكر أصلَ السمع، ولو صيح به فتأثر، أمكنه حمل تأثره على المقدار الباقي، فلا وجه إلا أن يعتبر النقصان الذي يدّعيه بسمع رجل في مثل حاله سنّاً واعتدالاً، ويكون غير مأووف السمع، ثم نقف على منتهى سمع هذا السليم المعتبر، فنأمر من يصيح به على مسافة، ثم يبعد حتى ينقطع سمعه من صراخه، ثم نضبط المسافة ونعود، فنعتبر سمع من ادّعى نقصان السمع، ونُبيّنُ مقدار النقصان بالمسافة في صياح
الصارخ به، ونوجب ذلك القدر من الدية، وليس في هذا الامتحان ما يوجب تغليب صدقه على القلب، فنحلّفه، فلا وجه إلا التعويل على الحلف، وهذه يمين لا مستند لها إلا ظهور الجناية، وإمكان اختلال السمع بها، ولو لم نسلك هذا المسلك، لتعطّل نقصان السمع، ولو قُدّر تحليف الجاني في هذا المحلّ، لهان عليه بناءً على أصل بقاء السمع، وكل ما يؤدي إلى تعطيل أثر الجناية، فهو غير محتمل من الشرع، وهذا أصلٌ ثابت في قواعد الحجج، وكل ما يمكن الوصول إلى اليقين فيه من غير تعذر ظاهر، فهو المطلوب، وإن عسر الوصول إلى اليقين من غير تعذرٍ ظاهر، وشرُف قدرُ المدعَى، فقد يقع الاكتفاء فيما لا تبلغ ديته ديةَ النفس بالإشهاد عليها كذلك، فإنها لا تستند إلى يقين نظر، ولو لم تثبت بالبينات، لأدى هذا إلى تعطل أعظم المقاصد في الدنيا، والشهادة على النفي مردودة، ثم هي على الضرورة مقبولة في الإعسار، وفي أنه لا ولد للميت سوى من حضر.
هذا مأخذ الكلام في ادعاء نقصان السمع.
ولو قال المجني عليه: لست أسمع بإحدى الأذنين أصلاً وعيّنها، قرب امتحانه بأن تصمّم الصحيحة، ونمتحنه في الأخرى حَسَب امتحان من يدعي زوالَ السمع أصلاً.
وإن ادعى نقصان السمع من إحدى الأذنين، ولم يدّع ذهابه، امتحنا هذه الأذن بالأخرى، وإن كان ذلك أقرب من الاعتبار بشخص آخر، فنصمم العليلة ونعتبر منتهى السماع في الصحيحة، كما تقدم، ثم نصمم الصحيحة، ونطلق العليلة ونضبط ما بين السمعين بالمسافة، ونوجب ذلك القسط من نصف الدية. هذا مسلك الكلام.
10598- والذي أشرنا إليه في صدر الفصل أن السمع ليس من المثاني، فهذا أوان بيانه، وحذف الأصحاب إطلاق القول بأن الجناية إذا أصمّت إحدى الأذنين، فالواجب نصف الدية؛ من هذا تخيل ما تخيل من قال: إن السمع ينقسم كانقسام البصر، وهو من المثاني، ومن تخيل من العلماء أن إحدى العينين إذا أخلّت انقلبت قوة البصر إلى العين الأخرى لست أدري ما رأيه في السمع إذا لم يبق في أذنٍ والذي أشرنا إليه مذهب مالك في البصر كما سيأتي.
وكان شيخي أبو محمد رضي الله عنه يمتنع من قطع القول بإيجاب نصف الدية في صمّ إحدى الأذنين، ويصير إلى أنا نعتبر ما نقص في السمع بحالة الكمال، ويقرّب القول في درك النقصان ونسبته إلى السمع قبل الآفة، وهذا الذي ذكره، وإن كان قياساً بيّناً إذا حكمنا بأن السمع ليس من المثاني، فاعتبار النظر عند صمم إحدى الأذنين أقرب إلى معرفة جزئيّة النقصان من ذرع المسافات في اعتبار النقصان والكمال، فالوجه ما ذهب إليه الجمهور من تعليق شطر الدية بصمّ إحدى الأذنين، لا لأن السمع من المثاني، ولكن لأن هذا معتبر قريب في مقدار النقصان.
فهذا بيان مضطرب الأصحاب في ذلك.
10599- ومن تمام الكلام فيه أن أهل البصيرة إذا قالوا: لطيفة السمع باقية في مقرها من الدماغ، ولكن ارْتتق بالجناية داخل الأذن ارتتاقاً لا وصول إلى زواله، والسمعُ باق بحاله، فهذا في حكم جنايةٍ على الأذن، أو على داخلها، وليس السمع حالاًّ في باطن الأذن، فكيف السبيل إذا تصورت المسألة كذلك؟
فنقول: سيأتي اختلاف الأصحاب في مسألة تناظر هذه: وهي أن المولود إذا كان ولد أصمّ، فإنه لا ينطلق لسانه وإن كان صحيحاً، وعلامةُ صحته وحركاتُه لا تخفى على ذوي البصائر، ولكن الصبي إنما ينطق متلقياً مما يسمعه، فإذا لم يسمع لم ينطق، ولو قطع اللسان منه، ففي وجوب الدية فيه خلاف، والأصح أنه لا يجب؛ لأن المنفعة المعتبرة في اللسان النطق، وهو مأيوسٌ منه. فهذا عضو صحيح تقاعدت منفعته لا لآفةٍ فيه، فالْتحق بالعضو المأووف.
فإذا ظهر هذا، عُدنا إلى مسألتنا، وقلنا: إذا لم يكن للسمع نفوذ، فهو متعطل بالكلية؛ فالوجه قطع القول بإيجاب الدية، وليس يخرج هذا على الخلاف الذي أشرنا إليه في لسان الصبي الأصم؛ فإن صحة لسانه معلومة أو مظنونة ظناً معتبراً في الشرع، ولسنا نثق ببقاء السمع والسلامة، فنبني الأمر على تقدير زوال السمع.
10600- فقد انتظم في السمع أمور بديعة: منها أنه ليس حالاًّ في الأذنين، وإنما هو لطيفة في مقرها من الرأس، وارتتاق منافذ الأذنين يوجب دية السمع، والمعاني التي لا تحلّ الأعضاء لا تضمن دياتها بالجناية على الأعضاء التي ليست محلاًّ لها، ومن البدائع أن السمع ليس من المثاني وله حكم المثاني، فإن الجناية التي تصمّ إحدى الأذنين موجبها نصف الدية، ولا تعويل على ما كان تردد قوله فيه، ثم أوجبنا مع هذا كلِّه الديةَ في أذن الأصم، فلا منفعة في الأذن تعقل إلا ردّ الصراخ إلى الصماخ، وهذه الأشياء مجموعها يتخيلها الفطن خارجة عن القوانين، والفقيه يتلقاها بالقبول؛
فإنها جارية على القياس اللائق بالباب.
فصل:
"وفي ذهاب العقل الديةُ... إلى آخره".
10601- الجناية المزيلة للعقل موجبها الدية الكاملة؛ فإن العقل أشرف المعاني، وهو مِلاك البدن، ثم لم يتعين للشافعي محلُّه، وأتى منه بهذا السبب ترددٌ في أمر نذكره في مساق الفصل.
قال رضي الله عنه: "إذا ظهر زوال العقل مرتباً على الجناية، وجبت الدية" ويمكن تقدير امتحانٍ فيه، إذا اتهمنا المجني عليه بالتشبه بالمجانين، وهو سهل لا عسر فيه، وذلك إذا اتبعناه وراقبنا خلواته، فقد نعثر منه على انتظامٍ في أفعال العقلاء وأقوالهم، فنمتحنه بهذا المسلك، فإن لم نعثر على أمرٍ مخالف لما ظهر منه، فيبعد الاعتصام باليمين أيضاًً، وهذا يناظر ما إذا ادّعى الصبي البلوغ، فإنا نصدقه؛ ولا نطلع على هذا إلا من جهته، فذهب المحققون إلى أنه لا يحلّف؛ من جهة أنه لو كان صادقاً، فلا معنى لتحليفه، فإن كان كاذباً، فهو صبي إذاً، والصبي لا يحلف سبق ذكر ذلك في كتاب الحجر، فإذا كنا لا نحلّف من يدّعي البلوغ لغائلة توجد من دوائر الفقه، فكيف نهجم على تحليف مجنون؟
ولو كان يجن أياماً ويُفيق أياماً، كان هذا من اختلال العقل، ثم رأى الأئمة اعتبار الإفاقة بالزمان من الجنون والعقل، وهذا أقرب معتبر ممكن، وإذا كنا نفرح باليمين حيث لا متعلق غيرها، فإذا ظهر إمكانه، تمسَّكْنا به، ثم إذا عقل أمكن تحليفه في زمان العقل إن اتهمناه في التشبه بالمجانين.
10602- قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قطع الجاني يدي رجل وزال عقله، فالواجب دية أو ديتان" فعلى قولين:
أحدهما: تجب ديتان، وهو الذي لا ينقدح غيره في القياس، فإنا نقطع بأن العقل ليس على اليدين، ومن الأصول الممهدة أنه إذا زال معنىً عند قطع عضو ولم يكن ذلك المعنى حالاًّ فيه، فإنا نوجب في العضو بدله، وفي المعنى الفائت أرشه.
والقول الثاني- أنا لا نوجب إلا ديةً واحدة، إذا قطعت اليدان وزال العقل؛ فإن العقل ليس له محل متعين حتى يجتنب موقعه، ولا يُعد مجتنبُ محله هاجماً عليه، وإذا كان كذلك، كان إضافة إلى عضو بتأويل إن كان قَطْعُ ذلك العضو مفضياً إلى زواله، والحلول الذي اعتبرناه سببه أن قطع العضو يزيل ذلك المعنى، فإذا هجمت الآلام أوشك أن يزول بها العقل، كما أن الروح ليس يتعين له محل، وإذا زال، تعينَ الحكمُ بالإدراج. ثم لفظ الشافعي يشير إلى أن الواجب ديةُ العقل وديةُ اليد مندرجةٌ.
وهذا فيه اضطراب؛ فإن الأطراف إنما تدرج تحت النفس؛ من قبل أنها تتعطل بفوات الروح، والأعضاءُ لا تتعطل بفوات العقل، فإن جوارح المجنون مضمونة بالديات، فليتأمل الناظر ذلك.
فلو أتبعنا دية العقل ديةَ اليد، كان بعيداً، ولو أتبعنا دية اليد ديةَ العقل، لم يكن على قياس إتباع الأطراف، وبهذا يظهر ضعف القول.
ولو قطع يداً، فزال العقل، والتفريع على القول الضعيف، فالواجب ديةٌ، فلو قطع يدين ورجلين، فزال العقل، وجبت ديتان، وهذا يُبَيِّن أن الأطراف لا تتبع العقل، كما تتبع الروح.
وذكر القاضي: أن الجراحة إذا لم يكن أرشها مقدراً، وترتب عليها زوال العقل، اندرج الأرش في دية العقل، قولاً واحداً.
وهذا ليس بشيء؛ فإن عدم التقدّر لا يغير من عوض المسألة شيئاًً، وليس لقول الإدراج في الأرش المقدر من الثبات ما يوجب هذا التفصيل، والوجه إجراء القولين في الأرش كان مقدراً أو غير مقدر.
فصل:
قال: "وفي العينين الدية... إلى آخره".
10603- لطيفة البصر مضمونة بالدية وهي من أشرف المعاني، واتفق علماؤنا على أنها منقسمة على العينين حالّةٌ فيهما، فتكون إذاً من المثاني، فإن ادعى المجني عليه ذهابَ البصر من عينيه، سهل اختباره، فنغافله ونقرب حديدةً أو غيرها من عينيه، وننظر هل يطرف؟ ويعسُر التماسك في هذا. ثم إذا كان لا يطرف، ولا يُتبع الشخص بصرَه، ولا يحدّق في صوب حدقتي من يخاطبه، ظهر صدقُه، ثم نحلفه مع هذا.
وإذا ادّعى نقصان البصر في العينين، أو في إحداهما، فسبيل الامتحان وضبط مقدار النقصان ما قدمناه في السمع، فلا نعيده.
والجناية على عين الأحول والأخفش إذا أزالت البصرَ، توجب الدية الكاملة، وإن لم تُزل إلا بصراً ضعيفاً، وهو بمثابة ما لو جنى على يد ضعيفٍ في البطش، فأشلها، فإنه يلتزم ما يلتزمه بإشلال اليد الأيّدة التامة القوة، وسأعقد في بيان هذا وأمثاله فصلاً، إن شاء الله.
10604- ثم ذكر الشافعي أن الجاني إن أنكر بصر المجني عليه قبل الجناية، فكيف الوجه؟ وهذا أمرٌ تقدّم ذكره، وغرضه بإعادته أن المجني عليه إذا أقام شاهدين على أنه كان بصيراً قبلُ، ثبت المقصود.
والشاهد يَعتمِد في الشهادة على البصر ما ذكرناه في طريق الامتحان، ويستبين بصرَ البصير بقرائن الأحوال على الضرورة، ثم ينبغي أن يجزم الشهادةَ في مجلس الحكم، وله أن يجزمها إذا وثق بالمخايل التي ذكرناها، ولو أنه لم يجزم الشهادة وذكر الأحوال التي ابتنى عليها علمُه بالبصر، فالقاضي لا يقضي به.
فإن قيل: إذا كان له أن يشهد تعويلاً على ما ذكر، ولا معوّل له في تحمل الشهادة غيرُه، فلم لم يعتمده القاضي؟ قلنا: لا تحيط العادة بما يفيد العلم من قرائن الأحوال، وهي تدق عن مدارك الأوصاف، وإنما يحيط بها العِيان، والقاضي لا يحلّ محل الشاهد فيما استفاده من العلم بزعمه، فليجزم الشهادة، ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه: أن الشهادة سبيل تحملها على منافع سائر الأعضاء تعويلاً على المخايل كما ذكرناه في البصر.
فصل:
قال: "وفي الجفون إذا استؤصلت الدية... إلى آخره".
10605- لا خلاف أن الدية تكمل في استئصال الأجفان وهي أربعة؛ ففي كل جفن ربع الدية وكل متعدّد على البدن ضمنت منه المنفعة وله أرش مقدر، فذلك الأرش يتوزع على الآحاد على مقتضى العدد، فإذا وجب في أصابع اليدين الدية، وهي عشرٌ، وجب في واحدة منها عُشر الدية، وهذا يجري مطرداً في كل ما يتعلق بجملته دية.
ومن الأعضاء ما لم يرد في الشرع تعليق الدية بجملتها، وقدّر إثبات المقدر في آحادها كالأسنان، ثم الدية إنما تكمل في الأجفان إذا استؤصلت، واستئصالُها بقطع جميع ما يتجافى حتى لا يبقى منها شيء، وإذا قطع العظم من جفنٍ، فقد تتقلّص المآقي، وهو معدود من الجفن لا تتم الدية دون استئصالها.
ولو جنى الجاني على الأهداب، فأفسد منبتها، غرِم الحكومة لا محالة، وإذا استأصل الأجفان بعد زوال الأهداب، أُلزم بالأجفان الديّةَ التامة لا شك فيه، وإذا استأصل الأجفان وعليها الأهداب، وألزم الدية في الأجفان، فهل يلتزم مع الدية الحكومة في الأهداب؟ ذكر العراقيون والقاضي وجهين:
أحدهما: أنه لا يلتزمها؛ فإنها على الأجفان، وقد ضمن الأجفان بديتها، والقياصُ أن نُتبع الأهدابَ كلها، ولا خلاف أن من أوضح رأس رجل استأصل قطعةً من جلد رأسه واللحم تحته، فلا يلتزم إلا أرش الموضحة، فإذا كنا نتبع شعرَ الرأس أرش الموضحة بلا خلاف، وجب أن نُتبع الأهدابَ الجفون.
والوجه الثاني- أنا نفرد الأهداب بالحكومة؛ فإنها عظيمة الوقع في الحال، وإذا زالت شوّهت العينين، وفيها منفعة على حال؛ فإنها تُسْبل في ثوران الرياح، فتدرأ الغبار ولا تمنع نفوذ البصر، وليست كشعر الرأس، فإنه ليس فيها منفعة بها مبالاة، فاتجه فيها أن تُتْبع. وكان شيخي يقطع بالتبعية.
ثم إذا أوجبنا في كل جفن ربعَ الدية، ففي بعض الجفن بعض الربع إذا أمكن نسبة ما قطع لما بقي. وبالجملة إنا نتشوف إلى التقدير جهدنا، طالما وجدنا إليه سبيلاً، ولا نتجه للحكومة إلا عند تعذر إمكان التقدير ثم إن الحكومة بالاجتهاد تنتهي إلى إثبات قدرٍ يراه مَنْ إليه الرجوع، ونوجب بحسب هذا في قطع بعض الأذن مقداراً إذا انتظم له النسبة، وقد يُشكل الأذن من جهة اختلاف خلقته وشخوص غضروفه ولو أردنا أن نعتبر شحمة الأذن بالصدفة الغضروفية ذات العضو، لم نتمكن منه إلا على وجه التقريب.
ففصل:
قال: "وفي الأنف إذا أُوعي مارنُه جدعاً الدية... إلى آخره".
10606- في الأنف الدية الكاملة، وتتم الدية بالمارن-وهو ما لان منه-فإذا استؤصل وانتهى القطع إلى القصبة، فلم يبق شيء-منه- شاخص في الوجه، كملت الدية فيه.
ثم المارن منخران وحاجزٌ بينهما، فلو قطع الجاني أحد المنخرين، وبقي الحاجز والمنخر الآخر، ففيما يجب في المنخر طرق للأصحاب: منهم من قال: فيه ثلث الدية؛ فإن أقسام المارن ثلاثة: منخران وحاجز، وفي كل قسم منفعة، ولا نظر إلى أقدار المنافع، كالأصابع؛ فإن منافعها متفاوتة وأروشها متساوية، هذا وجه.
ومن أصحابنا من قال: يجب في المنخر الواحد إذا قطع وإن بقي الحاجز نصفُ الدية؛ فإن المقصود من المنفعة في المنخر، والحاجزُ كالتابع، وهو يجري من المنخرين من حيث إنه منزلُهما منزلةَ الكف من الأصابع، فالدية تنقسم على المنخرين انقسامهما على المثاني، فالمنفعة لظاهر الأنف-بعد الجمال- منعُ الهوام من مصادمة الخيشوم المتصل بالعظم المُشاشي، ولا ينتفع الأجدع ما لم يتخذ أنفاً من جوهر من الجواهر، وهذه المنفعة ليس منها للحاجز بين المنخرين كبير وقع، ولعل أثر الحاجز في دفع الغبار وتعطيل ما يسيل من رطوبات الرأس، حتى يجري على
تدريج؛ ثم تدركه الأنفاس فيجف، ومنفعة الكف أظهر من منفعة ذلك.
وذكر بعض المصنفين وجهاً أن الواجب في أحد المنخرين حكومة، وهذا ساقط؛ فإنا ذكرنا أن ما تجب الدية فيه تجب أقدار الدية في أفراده، كما ذكرنا في الأجفان والأذن. وإن عَنَى بالحكومة أنا لا نوجب نصفاً ولا ثلثاً، ولكن نُثبت بالنسبة إلى ما بقي، فهذا أوجه الوجوه عندي، وعبارة الحكومة في هذا المعنى زللٌ، فليُعتقد هذا الوجه الثالث، على هذا النسق.
10607- ومما يتم به التفريع في ذلك أن من أوجب في المنخر الواحد الثلثَ-جرياً على ما ذكرناه في توجيه ذلك الوجه-يوجب في الحاجز إذا أفرد الثلثَ وغالب ظني أني سمعت الإمام يذكر ذلك، ولست واثقاً به على التحقيق، والذي صرح به الأصحاب أن واجب الوترة لو أفردت بالإبانة الحكومة، وهذا تخليط بإبطال الثلث.
ولو قطع قاطع القصبة بعد قطع المارن، وهي العظم يلتزم حكومةً، ولو قطع الجاني المارن والقصبة معاً، فظاهر المذهب أنه لا يلتزم إلا ديةً واحدة؛ فإن اسم الأنف يتناول الكل، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوجب في الأنف الدية.
ولو قطع قاطع شيئاًً من طرف المارن، فظاهر المذهب أن الدية مقسطة على المارن لا على الأنف من أصله، وسأجمع في هذا وفي الحشفة والذكر، والجملةِ واليدين، وما يظهر من السن مع سِنْخه فصلاً كاملاً في معناه، حاوياً لطرق الأصحاب.
ولو جنى الجاني على الأنف، فاستحشف، وسقط حسُّه، ففيه الخلاف الذي ذكرناه في استحشاف الأذن؛ فإن هذا العضو مستحشفاً وحساساً على حدٍّ قريب في المنفعة.
10608- ثم الشمُّ لطيفة مضمونة بالدية الكاملة كالسمع والبصر.
وفي بعض الطرق وجهٌ غريب أن الشم لا يضمن بالدية الكاملة، وعلى مزيله الحكومة. وهذا القائل يزعم أن الانتفاع بالشم من استنشاق الدماغ للطيب، والتأذي بالإنتان أكثرُ من التلذذ بالروائح الطيبة، وهذا خيال لا أصل له، وهو أحد الحواس فلا وجه إلا القطع بمقابلته بالدية الكاملة، وهذا الوجه حكاه صاحب التقريب وغيره من الأئمة.
وفي أنف الأخشم ما في أنف صاحب الشم، كما ذكرناه في أذن الأصم والسميع.
وإذا ادعى المجني عليه زوالَ الشم، امتُحن بأن يتغفل ونُدني-في غفلاته- من أنفه رائحةً ذكية طيبة أو منتنة، والغالب أنه يتأثر بها انبساطاً واستبشاراً أو انزواءً وانقباضاً، ثم نبني على ذلك ما قدمناه من خلافه مع الامتحان.
وإذا ادّعى نقصاناً في الشم، فليس معنا فيه معتبر-كما تقدم في السمع والبصر- فلا حاجة إلا الرجوع إلى المجني عليه، فنقول له: أنت أعرف بمقدار الخلل، فاذكره واحلف، يَغْرَم لك الجاني، وإن لم يذكر لنا مقداراً، وهو المدعي، وهو كمن يرى شيئاً مجهولاً وسبيله في نفسه أن يأخذ بالأقلِّ المستيقن.
وقد يخطر للناظر في أثناء هذه الفصول تقدير عَوْد بعض هذه اللطائف، بعد ظننا زوالها، وسأجمع ذلك كلَّه عند ذكر التفصيل في عَوْد السن من المثغور وغير المثغور.
فصل:
قال: "وفي الشفتين الدية... إلى آخره".
10609- لا خلاف في وجوب الدية في الشفتين، وهما من المثاني عندنا، وفيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية، ولا نفضّل العليا على السفلى، وقال مالك:
في العليا ثلثا الدية، وفي السفلى ثلثها.
ثم أول ما نُعنى به ذكر حدِّ الشفتين، وقد اختلف عبارة أصحابنا، فقال بعضهم: الشفة العليا حدّها في كمال الدية ما يستر اللثة وعُمورَ الأسنان في طول الوجه، ومن الشدق إلى الشدق في عرض الوجه، وكذلك القول في الشفة السفلى.
وعبر آخرون عن ذلك بعبارة أخرى، وهي أشفى مما ذكرناه، مع أنه لا خلاف في المعنى، فقال: الشفة العليا تتجافى في محاذاة الوترة من الأنف، ثم ترتق عندها، فنعبّر خطاً على مسامتة موضع الارتتاق والانتهاء إلى الشدق. وهذا موقع التعليل، فإنا على قطع نعلم أنا لا نبغي مزيداً عن موضع الارتتاق، فإذا وضح ذلك، فلا وجه للتعليل إذا جاوزنا هذا المحل، حتى نعوج الخط من طرفيه اعوجاج الحاجب بموضع الاتصال إذا سوَّرَ الناظرَ، فليعتبر، وهذا القول يتحقق في الشفة السفلى، فإنها ترتتق في جهة العَنْفَقة ثم نعتبر القطعَ من الجانبين على مسامتة منتهى التجافي إلى محاذاة الشدقين، ثم نعتبر القطعَ في طول الوجه إلى الشدق، كما صورناه في الشفة العليا، والذي أتخيله أن مَنْ راعى منتهى التجافي، فقوله يخالف قول من يعتبر انكشاف اللثة؛ فإن اللثة هي التي تستر سِنْخ السن، ووراء سنخ السن ما ليس مركبَ السن، ومنتهى التجافي وراء مركبات الأسنان.
وذكر شيخي رضي الله عنه أن الدية تكمل بقطع ما ينتؤ من الشفتين إذا انطبقتا، وهذا الفارق مقصود، وهو قريب، فإنا سنوضّح أن المرعي هذا القدر في الشفتين.
وإذا جمعنا هذه العبارات، انتظم منها خلاف ظاهر في المعنى، ولو قيل: إذا قطع من العليا ما لم ينطبق معه ما بقي على السفلى، مع تقدير السفلى، وقطع من السفلى ما لا ينطبق-مع تقدير العليا- على العليا حتى يحصل بقطعهما امتناع الانطباق، كان قريباً، ويمكن أن نعزي هذا إلى المذهب؛ فإني لم أقله حتى رأيت مرامز في كلام الأئمة تشير إلى مراعاة فَرْق الانطباق، ولم يختلفوا في أن الأجفان يراعى استئصالها، والسبب فيه أن منفعتها تستر الحدقة فحسب، ولا يتحقق كمال الجناية إلا بالاستئصال، وفي الشفتين منافع متصلة بالأجزاء المتصلة بها، وكان سببُ التردد ما نبهنا عليه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى أخذ شيء من الشدق، في عرض الوجه، وإنما المقطوع من الشفتين منحدر بالانتهاء إلى الشدقين.
فصل:
10610- إذا قطع الجاني شيئاًً من الشفة العليا أو السفلى، ولم نر ذلك-من طريق التقدير- الشفةَ الكاملة، ولكن تقلص محل القطع، وانكشف ما تحته انكشافاً، وبلغ الحدَّ المعتبر في استئصال الشفة، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة، فمنهم من نظر إلى القدر الذي قَطَع الجاني وإلى القدر الذي أبقاه ووزع الدية. ومنهم من قال: إذا انكشف ما اعتبرناه على كماله بسبب التقلّص، فهو كما لو انكشف بسبب القطع والاستئصال، فتجب الدية الكاملة إن حصل تمام الانكشاف، وهذا القائل يحتج بأن الدية تكمل بالقطع مرة وبإبطال المنفعة أخرى، والمنفعة المقصودة الظاهرة من الشفة سترُ ما تواريه الشفة، وإذا أورثت الجناية الانكشافَ التام فالجِرْمُ المتقلص ساقطُ المنفعة، بمثابة اليد الشلاء، ولو قطع رجل إصبعاً وأشل الأصابع الباقية، التزم تمام الدية، كذلك هاهنا، وهذا متجهٌ حسن.
فصل:
قال: "وفي اللسان الدية... إلى آخره"
10611- لا خلاف أن اللسان عضو شريف فيه دية، وقد نص الشارع عليه في الصحائف المشتملة على أروش الجنايات، وصَدْرُ الفصل أن اللسان عضو ديةٍ، ومنفعتُه المعتبرةُ في الأرش الكلامُ، وهذه المنفعة حالّةٌ فيه، وليست كالسمع بالإضافة إلى الأذنين، والشمِّ بالإضافة إلى الأنف، ولا التفات إلى الأطراف، ولكن المنفعة الظاهرة هي المعتبرة، ثم الكلام ينتظم من الحروف، وهي أصواتٌ منقطعة على مخارج لها، والحروفُ التي منها انتظام الكلام ثمانيةٌ وعشرون، ولام ألف حرفان كررا لغرض لا يليق استقصاؤه بما نحن فيه.
فلو فرضت جناية انتقص بها بعض الحروف، فيقع التوزيع على ما فات وبقي، ثم الذي صار إليه جماهير الأصحاب أن التوزيع على الثمانية والعشرين.
وذهب الإصطخرىِ إلى أن الحروف الحَلْقية تُستثنى من جملة الحروف، وكذلك الشفوية، وهي الميم والباء، ويقع التوزيع على باقي الحروف وهي اللسنية حتى إذا أبطلت الجناية حروفَ اللسان، كملت الدية، فإن أبطلت حروفَ اللسان والشفة والحلق، وجبت الديةُ الكاملة في حروف اللسان والحكومةُ في حروف الشفة والحلق.
وهذا الوجه مردودٌ عليه؛ فإن الكلام لا يتأتى دون اللسان، وهو الذي ينظم الكلامَ، وحتى ما يصدر من غير اللسان، فانتظامه موقوف على اللسان، والوجهُ إحالة جميع الحروف على اللسان، وتوزيع الدية على جميع الحروف الثمانية والعشرين، ومن حكى مذهب الإصطخري لم يتعرض للقاف والكاف، وليستا من حروف الحلق، وقد يعتقد أنهما ليسا من حروف اللسان، ولكن لعل الإصطخري ألحقهما بحروف اللسان، فإنه لا يتأتى الإتيان بهما إلا بالاعتماد على أصل اللسان وقاعدتِه وترقيها إلى الحنك الأعلى وبينهما تتحرَّفُ الكاف والقاف، ولم يتعرض ناقل مذهب أبي سعيد للفاء، وهذا أظهر من القاف والكاف؛ فإن الاعتماد في النطق بالفاء على الأسنان العليا والشفة السفلى وليس للسان فيه أثر محسوس.
والصحيحُ اعتبار جميع الحروف ونسبتها إلى اللسان، فليقع التوزيع على الثمانية والعشرين.
ومقصود الفصل وراء هذا لا تضبطه التقاسيم، فإنما نأتي عليه بالمسائل، فنأتي بها أرسالاً ونستوعب، إن شاء الله تعالى- كمالَ الغرض.
10612- فلو كان الرجل في أصل الخلقة بحيث لا يتأتى منه جملة الحروف، ولكنه كان يعبر بما يحسن منها عن جميع ما يبغيه ويحويه الضمير مثل إن كان لا يحسن إلا عشرين حرفاً، فإذا جنى جانٍ، وأفسد جميعَ الحروف، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنه يجب على الجاني الديةُ الكاملة؛ فإن مثل هذا الشخص سمّي ناطقاً متكلماً، وقد ينسب إلى ضعف في المنطق، وضعفُ منفعة العضو لا يحطُّ من الدية شيئاًً إذا فسدت المنفعة بالجناية، كما لو كان ضعيف البطش، فجنى عليه جانٍ أبطل بطشه، أو كان ضعيفَ البصر والسمع، وهذا مُطبق في المنافع جمع.
10613- وحقيقة هذا لا تبين إلا بأصل آخر تمهيده في أحكام اللسان، وهو مقصود في نفسه، ونبني عليه كمالَ الكشف، فيما ذكرناه من نقصان الحروف، فنقول: من استأصل جرْم اللسان قطعاً، فيسقط الكلام لا محالة، ولا يجب على الجاني إلا دية واحدة؛ وإن جنى على الجرْم والمنفعة كجرم اليد وبطشها.
ولو قطع الجاني عَذَبةَ اللسان، وأبطل جميع الكلام، استوجب الدية الكاملة، كما لو قطع أصبعاً من يد، فأشل اليدَ.
ولو قطع ربع اللسان، فأبطل نصف الكلام، وجب نصفُ الدية، ولو قطع نصفَ اللسان، وبطل ربعُ الكلام، فقد قطع الأصحاب بأنه يجب نصف الدية، فنظروا عند تفاوت المقطوع من الجِرم والفائت من الكلام إلى الأكثر، فإن كان المقطوع أكثر، فالمقطوع يقدّر بنسبته الواجبُ من الدية، وإن كان الفائت أكثر، فالاعتبار به.
أما إذا كان الفائت من الكلام أكثر، فاعتباره منقاس بيّن؛ فإن المنفعة هي المقصودة، فإذا فات شطرها، لم يخف تعليل إيجاب نصف الدية، ولو جنى على اللسان، فأذهب نصف الكلام من غير قطع، وجب نصف الدية، فلا خفاء بالقول في هذا الطرف.
فأما إذا قطع نصف اللسان، وذهب ربع الكلام، ففي هذا اعتياض قليل، ولا خلاف، وهو مشبه بما لو قطع أصبعين من يد رجل، ولم يسقط من منفعة بطشه خمساها، وكان صاحب اليد جاريَ الحركة، فالنظر إلى الأَجْرام التي قطعها، والواجب خمسا دية اليد.
وإذا تبين ما ذكرناه، ترتب عليه إيجابُ الأكثر، فإن كان الفائت من جرم اللسان أكثر، فهو المعتبر.
ثم ذكر أئمتنا عبارتين في ذلك، فقال بعضهم: ينظر إلى الأكثر، كما ذكرناه، ونوجب أغلظ الأمرين.
وقال أبو إسحاق: إن قطع نصف اللسان، فقد أبان من عضو الدية نصفَه، وسقط من المنفعة شيء، وإن قطع ريعَ اللسان وأمات نصفَ الكلام، وجب نصف الدية، لأنه أمات نصف اللسان أيضاًً، غير أنه قطع ربعاً.
ويظهر أثر هذا الاختلاف في مسألتين: إحداهما- أنه لو قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه، وأوجبنا نصف الدية، فإذا جاء آخر، وقطع ما بقي، وهو ثلاثة أرباع اللسان، فعلى طريقة أبي إسحاق يجب نصف الدية، فلا يلزمه إلا النصف في مقابلة النصف مع نصف الكلام، والحكومة في مقابلة الربع الذي لحقه الشلل تقديراً.
وغيرُه من الأصحاب يوجب على من يقطع ثلاثة الأرباع الباقية ثلاثة أرباع الدية؛ نظراً إلى أن الأكثر جرْمُ اللسان، ولا يستبعد هذا القائل أن نوجب في عضو قطعه شخصان في جنايتين أكثرَ مما نوجبه على القاطع الواحد إذا استأصل العضو بقطعٍ واحد، وسيأتي لذلك نظائر، إن شاء الله تعالى.
وهذا بيان المسألة الأخرى: لو قطع نصف لسانه وذهب ربعُ كلامه، فقد حكينا الوفاق على إيجاب نصف الدية، فإن جاء جانٍ آخر استأصل اللسان، فمذهب الجمهور أنه يلزم القاطع الثاني ثلاثة أرباع الدية نظراً إلى ما أمات من الكلام، وقد ذكرنا أن نظر هؤلاء إلى الأكثر في الجاني الأول والآخر. وأبو إسحاق يعتبر جرم العضو في هذه الصورة ولا يلتفت إلى كثرة المنفعة.
والأصح ما ذهب إليه الجمهور.
10614- فإذا تمهد هذا الأصل، صوّرنا بعده صورةً أخرى، ثم نعود إلى ما كنا فيه: إذا جنى جانٍ على اللسان من غير قطعٍ، وأذهب ربعَ الكلام مثلاً، فإنه يلتزم ربع الدية، فلو جاء جان وقطع اللسان من أصله، فعليه دية كاملة؛ نظراً إلى الأكثر على طريقة الجمهور، واعتباراً بجرم اللسان، وفيه المنفعة على مذهب أبي إسحاق، وهذا مسلك لأصلٍ لا نجد بُدّاً من ذكره، فنقول: من كان باطشاً يَضْعُف بطشه لآفةٍ، ثم أزال جانٍ البطشَ، فإنه ملتزم الديةَ الكاملة، وذلك يطّرد في جميع المعاني المضمونة بالديات، إذا لحقها نقصٌ ببعض الآفات.
ولو سقطت إصبعٌ من اليد بآفة، ثم قطعها قاطع، فأرش تيك الإصبع الساقطة محطوطة من دية اليد، وهذا نقصان حاصل بآفة، ونقصان البطش حاصل بآفة، والمقصود المضمون بالدية المعنى، والجِرم محلُّه، ثم تمهد في المذهب أن النقصان المعنوي غير معتبر في حق الجاني، والنقصان الحاصل في الجرم معتبر.
هذا إلى صورة أخرى: لو جرح رجل رأس رجل متلاحمة، وأتلف اللحم، فجاء آخر واستتم ذلك الجرح موضِحةً، فلا يلتزم الثاني أرش الموضِحة، فإنه لم يشق الشق كلَّه، بل حصل وضوح العظم بالمتلاحمة السابقة وما بعدها، فإذا آل الأمر إلى الدية، فإن أوجبنا في المتلاحمة أرشاً مقدَّراً، كما سبق في الشجاج، حططناه من أرش الموضِحة وإن أوجبنا في المتلاحمة حكومة، حططناها عن أرش الموضحة وأوجبنا الباقي.
ولو شج رجل رأس رجل متلاحمة، فالتأم الجرح واكتسى بالجلد، ولكن بقي ذلك الموضع غائراً، فلو انتحاه جانٍ وشقه إلى العظم، ففي هذا أدنى تردد؛ من حيث لم ينبت اللحم الذي مات، وإنما منتهى المتلاحمة باقٍ والأظهر أن حكم ذلك الجرح قد سقط، ولا حكم لما بقي فيه من إغماض، ولعل السبب فيما ذكرناه من اعتبار الجرم أن أثره محسوس، والمنفعة لا ضبط لها، فعسر الاعتبار فيها.
وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا إذا كنا نعتبر ما يفوت من المنفعة حتى نوجب مقدراً وحكومةً على الجاني المُعيب، فيسقط مع هذا الاعتلالُ بخروج المنفعة على الضبط، فإنا أوجبنا أرشاً على من يجني ويُذهب بعض المنفعة، فينبغي أن ينجرّ ذلك معتبراً في الحط عمن يجني من بعدُ، وهذا متّجهٌ جداً فيه، إذا كانت المنافع محدودة، كالكلام المترتب على حروف محدودة، فكان يجب أن يقال: إذا جنى جانٍ على اللسان، ولم يقطع منه شيئاًً، وأزال ربع الكلام، فلا يلتزم بعد ذلك قاطع اللسان إلا قسطاً من الدية سيّما على مذهب أبي إسحاق، فإنه يقول: سقوط بعض الكلام مع بقاء جِرم اللسان شَللٌ في جزءٍ من اللسان، فيلزم على هذا المساق ألا نوجب على قاطع اللسان بعد فوات ربع الكلام ديةً كاملة.
10615- فهذا مغاصٌ من المذهب لا يبينه إلا التفصيل، وسبيل التفصيل أن نذكر ما يتعلق بالأجرام: فإذا فرض في جِرم العضو نقصان، لم يخل: إما أن يَسقُطَ ما له أرشٌ مقدّر من جرم العضو، وإما أن ينتقص ما لا يقدّر أرشُه، فأما إذا سقط ما يتقدر أرشه، فهو محطوط من أرش الباقي، ولا فرق بين أن يكون بجناية جانٍ أو بآفة سماوية، ومثال ذلك الأنملة إذا سقطت أو قطعت، فلو فرض قطع اليد بعد سقوطها، فالأرش الذي يقابل الأنملة يُحط عن قاطع اليد؛ فإن الأجزاء المقابَلة بالأروش المقدرة منسوبة إلى أصل العضو، وقد كفانا الشارع بتقدير الأرش فيه إثباته الجزئية، فالأصبع من اليد خمسها، والأنملة ثلث خمسها، ثم إذا ظهرت الجزئية، فلا مبالاة بعدها بالمنفعة وقدرها.
وأما إذا أحدث نقصاناً لا يتعلق به أرش مقدر كفِلْقةٍ تبين وتنفصل من لحمة الأنملة، فهذا القسم ينقسم: فمنه ما لا يؤثر في المنفعة، والحكومة التي تجب فيه لمكان الستر، فما كان كذلك، لم يؤثر ما يتقدم منه في تنقيص دية العضو، حتى لو جرى ما وصفناه، ثم قطعت اليد، فعلى القاطع الديةُ الكاملة، ولا فرق بين
أن يتفق ما وصفناه بآفة سماوية، وبين أن يتفق بجناية جانٍ؛ فإن العضو إذا كان باقياً، وكانت منفعته تامة لا نقصان فيها، فيستحيل أن نَحطَّ عن قاطعه شيئاًً، وكأن الذي أزاله الشَّيْن ليس من خاصية هذا العضو.
وبالجملة لا التفات إلى الشَّيْن، مع بقاء المنفعة والجرم المنتفع به.
10616- فأما إذا كان ذلك النقصان يؤثر في نقصان المنفعة، ويحط منها، فإن جرى ما وصفناه بآفة، ثم فرض القطع بعدها، وجبت الدية الكاملة على القاطع، ولا نظر إلى ما انتقص من المنفعة؛ فإن هذا لا ينضبط، والإنسان قد يقوى في بعض الأحوال ويضعف في بعضها بأعراض وأمراض، وتَتَبُّعُ هذه الأمور عَسِرٌ، لا سبيل إلى التزامه.
هذا متفق عليه.
وإن اتفق نقصانُ الجرم مع نقصان المنفعة من جانٍ، والموجَب الحكومة، فهذا أول مراتب الاحتمال: يجوز أن يقال: لا حكم لتلك الحكومة في حق القاطع بعدها، كما لو فرض النقصان بآفة.
ويجوز أن يقال: تلك الحكومة محطوطة من الأرش الذي يلتزمه القاطع؛ من جهة أنها حكومة في مقابلة شيء من المنفعة، فلو أثبتت الدية الكاملة على القاطع-وقد أثبتنا الحكومة على المقتصّ- فيكون ذلك تضعيفاً للغرامة في مقدار الحكومة، وتثنيةُ الغرامة بعيدة.
هذا تفصيل القول في الجناية على جرم العضو.
10617- فأما إذا كان الجرم باقياً، وسقط بعضُ المنفعة، لم يخل: إما أن يكون الساقط بحيث لا يتطرق إليه تقدير، فينقسم إلى ما يترتب على آفةٍ، وإلى ما يترتب على جناية جانٍ، فأما ما ترتب على آفة، فلا معتبر به، وديةُ العضو باقية بكمالها على الجاني عليه: إما بالقطع وإما بإذهاب المنفعة.
فأما إذا كان النقصان بجناية جانٍ والقدر خارج عن الضبط كما ذكرناه، ففي حطّ ذاك عن قاطع العضو أو عن مُذهب المنفعة ترددٌ أذكره، وهو متلقَّى من كلام المشايخ، ولا بأس لو نقلته وجوهاً: يجوز أن يقال: لا تحط الحكومة لا عن قاطعٍ، ولا عن مُذهب المنفعة.
ويجوز أن يقال: الحكومة محطوطة عن القاطع، حتى لا تُثنَّى الغرامة.
ويجوز أن يقال: هي محطوطة عن مُذهب المنفعة، وليست محطوطة عن قاطع العضو، والسبب فيه أن العضو إذا كان باقياً، فقد تعود منفعتُه إلى الكمال، وقاطع العضو يقطع الرجاء من هذا، فالدية تكمّل عليه لذلك، وأما مُذهب المنفعة، فليس كذلك، والذاهبُ بالجناية من المنفعة مقصودة.
هذا إذا كان الذاهب من المنفعة غير محدود.
وأما إذا كان الذاهب منها محدوداً، وجِرْم العضو باقٍ، فهو كالحروف التي هي أم الكلام، ومادة الكلم، فإذا ذهب نصفها، لم يخل: إما أن يذهب بآفة سماوية، أو بجناية جانٍ وألزمناه نصف الدية، فهذا موضع خلافٍ للأصحاب، وأبي إسحاق، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الدية تكمّل على قاطع اللسان، وقال أبو إسحاق: لا يلزمه إلا نصفُ الدية، وحكومةٌ: النصفُ في مقابلة ما بقي من الكلام، ونصفُ الجرم معدود معه، والحكومةُ على مقابلة نصف الجرم على تقدير ذهاب الحس، وهذا الذي ذكره فقيهٌ.
وهذا إذا قطع الجاني الثاني العضو.
فأما إذا أذهب بقية المنفعة، فلا يلزمه إلا بقيةُ الدية على خلافٍ، وهذا إذا كان زوال القدر المقدر من المنفعة بجناية جانٍ.
فأما إذا سقط نصف الكلام بآفةٍ أو خُلِقَ الرجلُ كذلك، ففي هذا خلاف بين أصحابنا: منهم من قال: يجب على القاطع تمام الدية، والنقصان الكائن بمثابة ضَعف البطش، والسمع، والبصر، من طريق الخِلقة.
ومنهم من قال: إذا تقدّر الفائت، لم يجب على الجاني كمال الدية، وحُطَّ ما يقابِل الناقص، وليس كنقص البطش والبصر؛ فإنّه لا ينضبط.
هذا مجامع الكلام.
10618- فإن قلنا: نحط النقصان، وكان سبب النقصان الآفة، ففي هذا فضل نظر، فإذا كان الرجل لا يحسن إلا عشرين حرفاً، ولكن كان فَطِناً متهدِّياً إلى مناظم الكلام، مستمداً من موارد اللغة، وكان يعبر بالعشرين عن جميع المعاني، ففي هذا وجهان:
أحدهما: أنه في حكم الكامل؛ فإنه يعدّ ناطقاً تاماً.
والثاني: أنه ناقص واقتداره على أداء المعاني ليس من كمال كلامه، وإنما هو من معرفته باللغة وذكاء قريحته، وفرط كَيْسه.
ولا يبقى على من يُنْعم النظر في هذا الفصل أمرٌ خافٍ في هذا الغرض، وهو أنا ذكرنا أن نقصان المنفعة إذا لم يكن منضبطاً، وكان حصوله بآفة، فلا اعتبار به، والدية تكمّل على قاطع العضو، ومُذهب المنفعة.
هذا أصلٌ طرده الأصحاب في الباب.
وقد يعترض فيه الضعيف النظر الذي يمكن الحكم بسقوط معظم بصره والفرضُ والتصوير في البطش وغيره من المعاني، ولا ينبغي للفقيه أن يرتاع من هذا، والدية كاملة في يد الهرِم، مع القطع أنه على أقلَّ من العُشر من بطشه في شبابه، ونقصان المنفعة بهذه الجهات كنقصان القوة الحيوانية، ومن أطبق أهلُ البصيرة على وقوعه في الموت، وصار بحَرَضٍ وقد شخصت منه الأبصار، وأنفاسُه تتعثر في شراسيفه، فلو حزّ جان رقبته، التزم القصاصَ أو الدية، فالمنافع إذا ضعفت، فإنها تحل هذا المحل.
وقد نجز تمام الغرض في هذا الطرف، وبالله التوفيق.
10619- ومما يتعلق بأصول الكلام في فصل اللسان أنه لو جنى جانٍ، على إنسان، فأذهب صوته، وكان اللسان على اعتداله منطاعاً في التقطيع والتردد في فضاء الفم، لو وَجَدَ صوتاً، فعلى الجاني المُذهب للصوت الديةُ.
ولو كان الصوت باقياً والحروف زائلة، وذلك بسبب عجز اللسان عن تقطيع الصوت، وهو ذهاب الكلام، ففيه الدية، ولو أذهب الصوتَ، وأشل اللسان، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا تجب إلا دية واحدة؛ فإن الكلام هو المعني، وقد زال ولزواله سببان:
أحدهما: انقطاع الصوت، والثاني: عجز اللسان.
ومن أصحابنا من قال: تجب ديتان؛ للجناية على منفعتين، وليس كما لو أزال إحداهما، فإن من أزال الصوت، فعَوْد الصوت لا يعيد الكلام، والمسألة محتملة جداً.
ولو صور متكلف صورة وقال: لو جنى جان على اللسان، ولم يُسقط حرفاً، ولكن صار عاجزاً عن تأليف حرف إلى حرف، ولا ينتظم الكلام إلا بتأليف الحروف؟ قيل له: هذا تكلف لا يتصوّر، فإن القادر على الحروف العاقل لا يتصور أن يعجز عن نظم الحروف.
وقد ظهر اختلاف أصحابنا في صورة تدنو من الأصل الذي نحن فيه وهو أن من ولد أصمَّ، فإنه لا ينطق، وإن قوي لسانُه، من جهة أن الصبي إنما ينطلق لسانه بالنطق لتلقِّيه ما يسمع، فإذا كان أصم، ولم ينطق، فلو قطع قاطعٌ اللسان مِمّن هذا وصفه، ففي وجوب الدية عليه وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا تجب؛ لأنه أخرس، وهو الأبكم حقاً.
والثاني: تجب الدية؛ فإن اللسان لا نقصَ به وسبب سقوط النطق زوال السمع.
ويترتب على هذا الآن أن جانياً لو جنى على صبي قبل مظنة النطق وأزال سمعه، وتعذر بهذا السبب نطقُه، فإن كنا نوجب الدية على قاطع لسانه، فلا يجب على مزيل سمعه إلا دية واحدة، وإن كنا لا نوجب على قاطع لسانه دية فالواجب إيجاب ديتين على الجاني، إذ جنى على سمعه، وأفسد لسانه، ولا يعترض على ذلك أنه لم يُفسد نطقاً، إذ لم يدخل وقت النطق، لأن إفسادَ العضو المتهيِّىء للمنفعة إتلافُ المنفعة، ولهذا قلنا: من قلع سن من لم يُثغر، فلم يَنبُت سنُّه، كملت الدية على الجاني، لا من جهة اعتدائه على السن، ولكن من جهة إفساده
للمنبت.
ولو كان الإنسان في الخلقة مقصوم الفقار ورجلاه سليمتان، لا آفة بهما، ولو كان ذا فقارَ، لمشى برجليه، فالميل الظاهر للأصحاب إلى إيجابِ الدية على قاطع رجلي من وصفناه، وقالوا بحسبه: لا يجب على كاسر الفقار إلا ديةٌ واحدة، ولا يلزمه ديةُ الرجلين، وإن تعطلتا.
والوجه عندي تنزيل الرجلين من المقصوم فِقارُه منزلةَ اللسان ممن ولد أصم ولا فرق بين الأصلين.
10620- ومما فرعه الأصحاب أن من أذهب بجنايته حرفاً، فقد سبق أنه يلتزم جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً من الدية، فلو تعطل بالحرف الذي أذهبه كلمة مثل أن يذهب الميم فيتعطل بذهابه النطق لمحمد، فقد أطلق الأصحاب القولَ بأنه لا يلتزم إلا ما يخصّ حرفاً؛ فإن الحروف هي الأصول، والكلام فروعها، ولو أُلزمنا الخرصَ فيما ينتظم من الكلام وفيما لا ينتظم، كان ذلك إلزام خَرْصٍ لما لا يتناهى بالقوى البشرية؛ فإن جهات المناظم لا يحدها الوهم، فليقع الاعتناء بالحروف.
ولكن ما يقتضيه الإنصاف على هذا أن لا نوجب الدية الكاملة بإذهاب عشرين حرفاً، ممّن لا يحسن غيرها لكنه ينظم بها كل صيغة.
10621- ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن الرجل إذا كان لا ينطلق لسانه بالثاء وكان ينطق بالسين، فجنى عليه جانٍ فأذهب مكنة السين من أسنانه ولكن نطق لسانه بالثاء، وصار يقول بدل السين الثاء، فقد قال العلماء: على الجاني أرش ما أذهبه، وما تجدد له من الحرف منحةٌ من الله تعالى، وهنا لابد من النظر في شيء وهو أن الثاء المستفادة هل تُضَمّ في التوزيع إلى الحروف التي كانت في اللسان قبل الجناية؟ هذا موضع النظر، فليتأمله الفطن.
10622- ولو جنى على لسان إنسان، فألزم لسانَه تمتمة أو فأفأة، والتمتام هو الذي يتردّد في التاء، ثم ينطق بها آخر الشيء، فليس على الجاني-وهو أثر جنايته- إلا الحكومة؛ فإنه لم يذهب الحرفَ، بل أضعف اللسان فيه.
ولو قطع الجاني فِلقةً من اللسان، ولم يسقط بسببها شيء من الكلام، فهذا يخرّج على القاعدة الممهدة في مراعاة المنفعة أو الجرم: من راعى الكلام، لم يوجب على القاطع إلا الحكومة، ومن راعى الجِرم، أوجب قسطاً بالنسبة إلى العضو، كما أوجبه على قاطع جزء من المارن أو جزءٍ من الحشفة، وهذا غير محبوب عند القياسين؛ فإن إيجاب قدرٍ من الدية، والمنفعةُ بحالها وتمامها، يلتزم إيجاب الدية الكاملة بقطع لسان الأخرس، وإن لم يؤثر القطعُ في إفاتة الكلام. فليتأمل الناظر ما ينتهى إليه.
فلو قطع فِلْقة من لسانه واقتضى الحال إيجابَ مقدارٍ حكومةً، فلو نبتت، وعاد اللسان إلى شكله في اعتداله، فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من نزل عَوْد اللسان إلى ما كان منزلةَ عود السن من بعد، وسيأتي شرح ذلك في فصول الأسنان، والجامع أن عود ما يقطع من اللسان ندوره في ندور عود السن من المثغور، وسأجمع، إن شاء الله، تفصيلاً فيما يعود، وأذكر فيه مواقع الخلاف والوفاق في النفي والإثبات.
ومن أصحابنا من قطع بأن عَوْد المقطوع من اللسان لا حكم له أصلاً، وأرش الجناية لا يزول قولاً واحداً؛ لأن هذا مما يُتحدّث به ولا يقع، فإن فُرض، كان بالغاً في الندور، والسن على الجملة من العائدات.
10623- ومما يتعلق بتمام الفصل القول في لسان الصبيان، فالذي ذكره الأصحاب فيه أنه إذا بدا في لسان الصبي مخايل النطق فكان يحركه تحريكاً صحيحاً بالضحك، والبكاء، والمصّ، قاللسان صحيح، والجاني عليه يلتزم الدية أو القصاص، كما يلتزم ذلك بالجناية على رجليه، قبل أن يستقل وينهض إذا ثبتت علامة الصحة في رجليه.
فإن لم يبد في لسان الصبي مَخيلة النطق، لم نحكم بوجوب الدية حملاً على غالب الحال، وإن لم يتبين فيه مخيلة الخرس. وكان شيخي يقول: إن بانت مخيلة الخرس، فالحكومة، وإن لم تبن علامة الخرس ولا علامة النطق، فالذي قطع به الأصحاب الحكومة وإن لم تبن علامة الخرس. وكان يقول: في قلبي من هذا شيء، وليس هذا وجهاً ولا احتمالاً، فاعلموه.
ولو قطع بعض لسان المجني عليه، فبلغ حالةً لو كان جميع لسانه باقياً، لتكلم بجملة الحروف، وقد تكلم الآن بما يتكلم به البالغ، لو قطع هذا القدر من لسانه، فيجب على الجاني ما يقابل الحروف الفائتة. ولو لم يتكلّم بما يتكلم به البالغ بما بقي من لسانه، ولو كان ناطقاً، لنطق بشيء مما بقي، فهذا علمه عند الله ظاهر في الخرس في الأصل، فالواجب الحكومة.
ولو اختلف الجاني والمجني عليه، فقال الجاني: كنتَ أبكم أو أخرس، فعليّ الحكومة، واعترف المجني عليه عن نفسه بأني كنت ناطقاً، فعليك الدية، فهذا مما مهدناه في اختلاف الجاني والمجني عليه، فلا نعيده.
فصل:
10624-الذوق إذا أفسده الجاني بالجناية، تعلقت به الديةُ الكاملة؛ فإنه من الحواس العظيمة النفع، وإذا ادعى المجني عليه بطلانَ حاسة الذوق، امتحن بأن يُلقم الأشياء المرة الشنيعة، فإن لم يظهر عليه أثر العبوس والتكرّه ظهر صدقه، ولابد من تحليفه إذا أراد الجاني، كما قدمناه. ويمكن أن يجري ما ذكرناه من الامتحان من حيث لا يشعر، فتوصف غفلاته ويلقم من حيث لا يشعر، ولا يؤخّرُ ممكنٌ في الامتحان.
والحواس بجملتها شريفة، والأصحاب مطبقون على تعليق الدية بكل واحدة، ولم يُؤثر الخلاف إلا في الشمّ كما تقدّم، والمذهب القطع بتعلق الدية بحاسّة الشم والخلاف في ذلك غير معتدٍّ به.
فصل:
قال: "وفي السن خمسٌ من الإبل... إلى آخره".
10625- الكلام في السن يتعلق بأصولٍ ونحن نقدمها ونذكر ما فيها، ثم إن شذّت فروع، أتينا بها، والله ولي التوفيق.
ففي كل سنٍّ مما هنالك من الحر المسلم خمسٌ من الإبل، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "في كلل سن خمس من الإبل" وهذا منقول عنه عليه السلام في كتاب عمرو بن حزم، هذا في الكامل بالذكورة، والإسلام، والحرية، ثم نأخذ النسبة ونتخذها أصلاً في الديات كلّها، فالخمس من الإبل تقع نصفَ العُشر من المائة، فنوجب في كل سن إذا قُلع من صاحبها نصفَ عشر ديته.
ثم إذا قَطَع الرجلُ من السن ما يظهر، وترك السِّنْخَ عليه، فلم يقلع، نُكْمل الأرش بقطع ما يظهر، وعلّتُه أن المنفعة التي تتعلق بالسن من العضّ والقطع وجَمْع الريق، وغيره، كله يتعلق بما يظهر من السن، فالظاهر من السن ينزل من السِّنخ منزلة الأصابع من الكف، ثم من قلع السن مع السنخ، لم يستوجب إلا الأرش، كما أن من أزال الأصابع استوجب الدية، ولو قطع اليدين من الكوع، لم يستوجب مزيداً بسبب الكفين.
وما ذكرناه متفق عليه، والتعليل في نهاية الوضوح.
10626- ولو قطع الجاني شيئاًً مماظهر من السن، فيجب فيه جزء مقدر من الأرش، ثم التوزيع يقع على الظاهر، أم على السن والسنخ؟ ولا شك أن الأمر يتفاوت تفاوتاً ظاهراً بيّناً، قالمقطوع لو نسب إلى الظاهر من السن، فقد يكون نصفَه، ولو نسب إلى السن مع أصله وسنخه، فقد يكون ثلثاً، أو ربعاً، فكيف السبيل في ذلك؟
فعلى وجهين مشهورين: أظهرهما-وهو الذي لا يتوجه غيره- أن التوزيع يقع على ما يظهر؛ فإنا إذا كنا نكمل الديةَ في الظاهر، فالذي يقتضيه القياس الحقُّ أن نوجب نصف الدية في نصف ما ظهر، وهذا كما أنا إذا كمّلنا الدية في الأصابع، فنوجب في بعضها بنسبة الأصابع، ولا ننسب موجب بعضها إلى الكف.
والوجه الثاني- أنا نوجب في المقطوع من السن بنسبته إلى جميع السن مع السِّنخ؛ فإنه لو قلع السن مع السنخ، لم نوجب فيه إلا الأرش، فالسنخ في هذا الوجه متّحدٌ مع السن، فليقع التوزيع عليه، وليس ما ظهر من السن مع السنخ بمثابة الأصابع مع الكف في المعنى الذي نحن فيه؛ فإن سنخ السن متصل مع الظاهر منه اتصال اتحاد، فهو أصل، ولا ينفصل ما يظهر مما يبطُن إلا بالظهور والبطون فحسب، والأصابع منفصلة عن الكف بمفاصلها؛ حتى كأنها منفصلة عنها خِلْقة، ثم هي مربوطة بالكف بالرُّبُط والأعصاب، وأيضاًً ففي كل إصبع أرش مقدر معلومٌ، وكل إصبع منقسم إلى أناملها: ففي كل أنملة منها أرشٌ مقدّرٌ معلوم، ولا مشابهة في المعنى الذي نحن فيه بين الظاهر والسنخ وبين الأصابع والكف. نعم، الكف إذا انبتّت مع الأصابع، لم تفرد بمزيد؛ لأن منفعتها الظاهرة أنها مَرْكَب للأصابع، وبها استقلال الأصابع، فاقتضى هذا فيها معنى التبعية إذا قطعت، كما أن السنخ مَرْكب الظاهر منه.
ولو قيل لمن يتخير التوزيع على السنخ: لم أوجبتَ تمامَ الأرش في الظاهر، ثم وزّعت على الجميع؟ فهذا تعييرٌ لا ينقدح له جواب شاف فيه، ولهذا كان الأصح الوجه الأول.
والممكن في الجواب أنه إذا قلع جميع ما ظهر، فقد ظهر المقصود، ولم يبق في السنخ منفعة بها مبالاة، فكمل الأرش في الظاهر، فإذا قطع بعض الظاهر، فالسنخ حافظه وحامله، فأمكن أن يقال: يقع التوزيع على ما بقي وعلى السنخ؛ فإن المنافع تتواصل عند بقاء البعض، فالتوزيع يقع على هذا النحو وإذا سقط جميع ما ظهر تتعطل منفعة السنخ بالكلية، هذا هو الممكن في توجيه هذا الوجه.
10627- ثم ألحق أئمتنا بما ذكرناه صوراً، ونحن نأتي بها مرسلة، ثم ندرّجها في ترتيب وضبط: ففي الحشفة الدية الكاملة، ولو استوعب الذكرَ قطعاً من أصله، لم تجب إلا الدية، ولو قطع جزئية من الحشفة، وجب بعض الدية، ثم التوزيع على الحشفة أو على الذكر من أصله؟ فعلى الوجهين المذكورين في السن والسنخ.
ومما ألحقه الأصحاب بما ذكرناه أن الحلمة من الثديين، يكمل فيها الموجب، ولو قطع بعض الحلمة، فالتوزيع على الحلمة أم على جميع الثديين؟ فعلى وجهين.
والصور تجتمع في أن أجزاء العضو متواصلة في الخلقة، وفي أن القطع
لو وقع من الأصل، لما وجب أكثر من الدية، أو الأرش المقدر المعلوم، ثم في
القطع للجزء الخلافُ الذي ذكرناه.
ولو قطع أنف رجل مع القصبة، ففي إيجاب مزيد على الدية بسبب القصبة خلاف حكيته، ولا خلاف أن الدية تكمل في المارن نفسه، فإذا قطع بعضاً من المارن؛ فإن رأينا إفراد القصبة بمزيدٍ لو قطع الجميع، فلا شك أن توزيع المقطوع من المارن يقع على المارن نفسه فحسب، وإن قلنا: لو قطع الأنف كله، فليس في القصبة مزيد، فإذا قُطع من المارن شيء، فالتوزيع على الكل أَمْ على المارن؟ فعلى وجهين كما ذكرناه في السن والذِّكر والثديين.
فإن بانت المسائل، فالأصح في جميعها التوزيع على المقدار الذي تكمل الدية فيه.
ثم هي مع ذلك مرتبة، فالوجه الأضعف في مسألة السن أثبت؛ فإن السنخ له اتصال عظيم، حتى إن منفعته تتعطل بقطع الظاهر.
وما وراء الحشفة له استقلال وانفراد، وفيه انتفاع ظاهر، فكانت الحشفة أولى بأن تفرد بنفسها، ويقع توزيع جزئها عليها لا على الذكر كله؛ فإن انفراد ما وراء الحشفة بالمنفعة يوجب استقلاله بنفسه، وعدم اعتبار الحشفة به.
وكذلك الحلمة مع الثديين.
وأبعد هذه المسائل في الوجه البعيد الأرنبة مع القصبة، فلهذا اختلف الأصحاب في أن جميع الأنف لو قطع هل يجب في القصبة مزيد.
هذا بيان هذا الأصل بما فيه.
10628- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك في السن- أن القاضي حكى عن نص الشافعي: أن من قطع بعض السن-ونزله على ما تقدم من اختلاف الأصحاب-فبقي من الظاهر بعضُه، فلو قلع قالع ما بقي مع سنخه، قال الشافعي: "ويفرد السنخ في هذه الصورة بحكومة، فيلزمه في السنخ حكومة على حيالها؛ والسبب في هذا أنا لو أسقطنا حكومة السنخ، لكنا أتبعناه بعضَ السن، والسنخ يتبع جميع الظاهر، وقد فرض قطع بعض السن في الصورة التي ذكرناها".
هذا هو النص وتوجيهه ما ذكرناه.
ويتجه فيه أخذاً من فحوى كلام الأصحاب وجهان آخران سوى ما ذكرناه منصوصان:
أحدهما: أن السنخ لا يفرد بشيء، فإنه مركب ما بقي، وسنخه يتبعه، كما يتبع الجميع لو فرض القلع في الجميع، وهذا متجه.
والثاني: أنه يسقط منه مقدار ويثبت مقدار، وبيانه أن الذي قطع من السن هو
النصف مثلاً، فيستقر على مقابلته نصف حكومة السنخ، فإذا قطع الثاني، سقط نصف الحكومة، واستقر نصفها فتوزع حكومة السنخ على ما طع أولاً، وعلى ما قلع مع الباقي من الظاهر.
ومما يجب الإحاطة به أن من قطع ظاهر السن، ثم قلع السنخ متصلاً أو منفصلاً، فالسنخ يفرد بالحكومة في هذه الصورة، كما أنه فرض مثل ذلك في لقط الأصابع أولاً، ثم رتب قطع الكف على اللقط.
ولو قطع من الحشفة مقداراً، وجب فيه ما تقدم، فلو قطع ثانٍ الذكرَ من أصله، ففي إفراد ما وراء الحشفة بالحكومة من الخلاف ما في السنخ، إذا سبق القطع في بعض السن، فهذا بيان أصلٍ واحد في أحكام السن.
10629- الأصل الثاني- الكلام في تفصيل المثغور وغير المثغور، وهذا من أعظم الأركان في الفصل، فنقول: من قلع سنَّ صبي لم يُثغر سنه، فلا نعجل في إيجاب شيء ونتأمل ما سيكون؛ فإن السن سيعود غالباًً، فإن عاد السن من غير نقص، لم يتجه على القاطع ديةٌ ولا قصاص، ونظر: فإن لم يبق شينٌ ولا أثر للقلع السابق، فهل يجب على القاطع شيء أم لا؟ فعلى وجهين سيأتي أصلُهما، والنظائرُ التي يجري الوجهان فيها.
ثم إذا أوجبنا شيئاًً، ولا شَيْن، ولا أثر، ففي مقداره واعتباره كلامٌ سيأتي مشروحاًً في باب الحكومات، إن شاء الله عز وجل.
وإن بقي شينٌ، فلا شك في إيجاب الحكومة، وتفصيلُ القول في الحكومة بين أيدينا.
وإن لم يعد السن، فقد بان أن القلع أفسد المنبت، فيجب فيه أرش كامل. وألحق معظم الأصحاب القول بأنه يجب القصاص على القالع في هذه الصورة إذا تبين فساد المنبت، فنقلع سنّاً من القالع-وإن كان مثغوراً- بهذا السن الذي لم يعد.
هكذا أورده القاضي وغيره من الأئمة.
وفي القلب من إيجاب القصاص شيء؛ فإن الدية إنما تكمّل إذا لم يَعُد السن الذي لم يثغر، لما ذكرناه من إفساد المنبت، وكأن عين السن الذي لم يثغر لا تتعلق به الدية حتى ينضم إلى تلفه إفساد المنبت، وعين السن من المثغور عضو قصاص، فمقابلته بإفساد المنبت لا تتجه.
وقد رأيت في تصرف المذهب ما يسوّغّ لي التوقفَ في إيجاب القصاص. فأما الأرش، فلا شك أنه يكمل إذا لم يعد السن.
ولو طالت المدة في ارتقاب عوْد السن الذي لم يثغر، فأوجبنا الأرش، ثم عاد، نسترد الأرشَ قولاً واحداً، ولا يدخل هذا في القولين في عود سن المثغور وهذا واضح.
10630- فأما إذا قطع سناً مثغوراً والقالع مثله، فلا شك في وجوب القصاص في الحال، والدية تكمل، يعني الأرش المقدّر، فلا توقف؛ فإن الأسنان المثغورة يندر عودها بعد القلع؛ فلا توقف إذاً فيها.
هذا أصل المذهب، ثم يبتدىء التفريع: فإذا عاد السن من المجني عليه، والسن مثغور، وكان العود بعد تقديم الجاني الأرش، فهل نسترد الأرش ن المجني عليه أم لا؟ فعلى قولين منصوصين:
أحدهما: أنا لا نسترد، فإن العوْد نادر، والنادر لا حكم له، والعائد نعمةٌ جديدة من الله تعالى، وقد تمت الجناية واستقر موجَبها فلا نُغيّر حكمَها بخلق جديد، ونعمة حادثة من الله تعالى وتقدّس. وهذا اختيار المزني. والقول الثاني- أنا نسترد الأرش، إن السن على الجملة يفرض عود جنسه على الجملة، فإذا تحقق العود، كان كما لو لم يسقط أصلاً، نادراً كان أو معتاداً.
والكلام ينبسط الآن بعض الانبساط، فالوجه أن نذكر ما يليق بهذا الموضع في تمهيد الأصل، وذكر النظائر، والإشارة إلى محل الوفاق والخلاف، ثم نعود بعد ذلك إلى تفريع القولين في الأسنان، والله المستعان.
10631- فنقول: من جنى على إنسان، فصار لا يبصر أصلاً، وربما يقتضي الحال الديةَ، لغلبة الظن في أن البصر زائل، فإذا غرّمنا الجاني الدية، ثم أبصر المجني عليه، فلا خلاف أن الدية مستردّة، وقد بان أن البصر لم يزل، وإنما حدئت غشاوة أو طرأ مانع ثم زال. هذا ما عليه بناء الفقه، فلا التفات إلى التعمق واسترسال الكلام.
ولو جنى جانٍ، فجرى الماء إلى إنسان العين فقُدح الموضع، وزال الماء، وأبصر من عليه الجناية، فالدية مستردة، كما ذكرناه.
وكذلك القول في إزالة لطيفة السمع في الظن وتقدير السلامة بعد ذلك؛ فإن هذه المعاني إن زالت، لم تعد أصلاً، وإنما تحدث موانع ظهورها، ثم تزول، وما ذكرناه جارٍ في الحواس كلّها.
ولو جنى جارٍ، فأذهب بطشَ اليد من المجني عليه، واقتضى الحال إلزام الدية فأبلّت اليد، وعاد البطش. فهذا كالإبصار بعد وقوع لحيلولة، هكذا ذكر الأئمة وهو مقطوع به؛ فإن الأعضاء إذا يبست أعصابها، وفسد حسها لا تعود، وهو الشلل تحقيقاًً، وفيه الدية، وإذا أتاها الخلل، وزال البطش من الدماغ، ثم زالت آفةٌ كانت، وانجلت شدّةٌ وقعت، وكانت مانعة من نفوذ القوة إلى الأعضاء، فهذا كالإبصار بعد امتناعه. فانتظم مما ذكرناه أن المعاني بجملتها إذا فرض العود فيها تسمية وإطلاقاً، فذاك ليس بعَوْد، ولكنا نتبين أنها لم تزُل، وإنما وقعت حوائل وموانع، ثم زال المانع، والمعاني بحالها.
ومن ذلك العقل؛ فإن من جنى على إنسان، فجُنّ المجني عليه، ثم أفاق وعقل، فنسترد الدية إن كنا أخذناها، فقد جرى القول فيها على ما تمهد.
10632- ثم يقابل هذا القسمَ الذي ذكرناه معارضٌ على حكم المخالفة والمناقضة، فنقول: من أوضح رأس رجلٍ، توجه القصاص أو الأرش، فلو التحم الجرح واكتسى باللحم والجلد، فقد رأيت الأئمة متفقين على أن الأرش لا يُسترد، قولاً واحداً، وحكم الجناية لا يزول بما فرض من الالتحام؛ والسبب فيه أن المرعي في الإيضاح حصول الاسم، ولذلك لم نفرِّق بين الموضِحة الصغيرة وبين الكبيرة التي تستوعب الرأس بالإيضاح، وقد تحقق الاسم، فاستقرت التسمية.
ثم الالتحام أمرٌ جديد، ولحم حادث أنبته الله تعالى وتقدس، والذي يحقق ذلك ويوضّحه أن الالتحام في الموضِحة معتاد غير نادر، فلو كان مسقطاً للأرش مغيِّراً لأمر القصاص، لأجريناه جَرْي السن الذي لم يثغر؛ حتى لا نعلِّق به-عند الالتحام- قوداً ولا دية، وربطنا الأرش بما إذا برز العظمُ وبقي ظاهراً يُنظر، وهذا غير واقع، وفيه حسم السبيل إلى موجَب الشِّجاج.
وتمام الغرض في هذا أن سن الصبي يسقط لا محالة في زمن قريب، وإذا قلع ثم عاد، كان ذلك بمثابة استعجال في السقوط، وكان إليه مصيره لو ترك، وجلدة الرأس لا تسقط، فإذا تحقق الاسم، فلا ننظر إلى ما يقع بعده من الالتحام، والمعاني إذا قيل: عادت، تبيّنّا أنها لم تزُل، وهذا لا يتحقق في الموضحة، فإنها واقعة قطعاً، ثم كما يغلب التحامها من المجني عليه، فكذلك يغلب في المقتص منه.
ويلتحق بهذا القسم أن الجائفة إذا التحمت وانسدّت، فالذي قطع به الأصحاب أن حكمها لا يزول؛ فإن المعول فيها على الاسم، كما أن المعول في الموضِحة على الاسم، وقد ذكر صاحب التقريب في الجائفة إذا التحمت وانسدت وجهين:
أحدهما: أن حكمها لا يزول كالموضِحة، والثاني: أن حكمها يزول، وهذا وجهٌ ضعيف، لا اتجاه له على الوجه المحكي.
10633- والذي عندي فيه أن ما ذكره فيه إذا وصلت الجائفة إلى الباطن بسكين أو غيره، ولم يزُل اللحم من البين، وإنما وُجد خرق، ثم التحم من بعدُ.
وهذا فيه احتمال؛ فإن الخرق قد زال، من حيث حدث من غير زيادة لحم لم تكن، وعندي أنه لو فرض مثل ذلك في الموضِحة، بأن غرز الجاني إبرة، وقرع العظمَ بها، فهذا إيضاح، فلو ارتتق مثل هذا الجرح واللحم، فالذي أراه طردُ الوجهين في هذه الصورة؛ إذ لا يجوز أن يعتقد الفرق بين الموضِحة وبين الجائفة أصلاً.
ولكن الذي يجب اعتماده في ترتيب المذهب أنه إذا زال اللحم، وحصلت الجراحة الموجبة للأرش في الشجاج أو الجوائف، ثم فرض زوال الجرح بنبات لحمٍ جديد، فالأرش لا يسترد أصلاً، وإن وجد خرق محدَّد في النوعين من غير إزالة لحم، ثم قدر التحامٌ من غير لحم جديد، ففيه الوجهان في الموضحة والجائفة جميعاً.
فهذا بيان هذا الطرف، وبين الطرفين عَوْد السن المثغور، وفيه القولان، والفرق بينه وبين الموضحة أن المتبع في الموضحة الاسمُ، كما تقدم ذكره، وقد جرى في جنس السن ما يجب القطع فيه بسقوط الأرش، وهو عوْد سن من لم يثغر سنه، والمثغور من جنس ما لم يثغر، فهذا هو أحد القولين. وإلا فالقياس الحق أن ما يحدث من خلقٍ جديد لا يغيّر حكم الجناية السّابقة، ولكن اعترض في الأسنان ما ذكرناه في السن الذي لم يُثغر.
فهذا بيان التغايير التي تحدث بعد الجناية.
10634- ثم إن المزني اختار أن عود السن المثغور لا حكم له، وهو نعمة جديدة من الله تعالى، واحتج في نظره ذلك بأن من قطع لسان إنسان، ثم عاد ونبت، فما وجب لا يسقط، فليكن عود السن المثغور كذلك.
وقد اختلف أصحابنا على طريقين فيما ذكر: فذهب الأكثرون إلى أحد القولين في عود اللسان، وهذا إن كان يتصور، فإنما يتصور في قطع فلقة من جانب من اللسان، وهو بعيد في التصوّر أيضاً.
ومن أصحابنا من سلم للمزني ما ذكره، وقال: إنما قلنا في السن المثغور ما قلناه اعتباراً بالسن الذي لم يُثغر، وليس في اللسان ما يناظر السن الذي لم يثغر؛ حتى نلحقَ اللسان به، فأجرينا القياس في اللسان، وفي الأسنان ما ذكرناه من السن الذي لم يثغر.
فهذا منتهى القول في هذه التقاسيم، والله أعلم.
10635- وقد عاد بنا الكلام إلى التفريع على القولين في السن المثغور، فنفرض صوراً، ونفرع حكمها على القولين، فنقول: وصفنا القولين فيه إذا قلع السن ممن ثُغر فغرم الأرش، ثم عاد السن من المجني عليه، ففي استرداد الأرش ما ذكرناه من القولين.
ولو اقتصصنا من الجاني، فعاد سنُّ المجني عليه بعد الاقتصاص، ولم يعد سن الجاني، فالمذهب أن القولين يفرعان، فيقال فيهما: إن قلنا: لا حكم لعود السن، فلا ننظر إلى العود، وقد جرى القصاص بحقٍّ، وإن أثبتنا للعود حكماً، فيغرم المجني عليه للجاني الذي اقتص منه أرش سنه الذي قلعه في ظاهر الأمر قصاصاً.
وحكى صاحب التقريب عن أبي الطيب بن سلمة من أئمتنا أنه قال: لا يجب على المجني عليه شيء في هذه المسألة؛ وذلك أنه إذا غرم الجاني الأرشَ، فردُّ الأرش ممكن عند عود السن، فأما إذا اقتص الجاني، فهذا لا يمكن ردّه، فلا تتعلق به تبعة، وهذا غلط صريح في القول الذي عليه نفرع، فسنّ المجني عليه إذا عاد، فقد بان أن قلع سن الجاني الذي قلعه على ظنّ القصاص، لم يكن بحق.
وقد ذكرنا عوْدَ سن المجني عليه، وقد غرم الجاني الأرش وإن فرض الاقتصاص منه.
10636- ونحن نصوّر الآن عود السن في الجاني، فنقول: إذا اقتصصنا من الجاني، وقلعنا سنه الذي قلعه من المجني عليه، فعاد سنه، فهذا يتفرع على أصل القولين في العود: فإن قلنا: السن الحادث نعمةٌ جديدة، فلا يتغير به حكم، وقد جرى الاقتصاص على وجهه، ولا أثر للعود المفروض.
وإن جعلنا للعوْد حكماً، فقد ذكر العراقيون وجهين: في أنا هل نقتص منه مرة أخرى؟ أحدهما- أنا نقلع سنه مرة أخرى، ولا نزال نفعل ذلك إذا كان السن يعود، ولا نبالي وإن قلعنا مائة مرة، وذلك أن القصاص في التحقيق إنما يجري لإفساد المنبت، فما لم يحصل لا يكون ما يجري اقتصاصاً.
والوجه الثاني-وهو الذي قطع به الأئمة المراوزة- أنا لا نقلع سنه مرة أخرى؛ فإن القصاص عقوبة مع مجازاةٍ لعدوان، والمماثلة مرعية في القصاص.
وهذا سرف عظيم ومجاوزة حدّ، فإذا نبت سنه، فقد فات الاقتصاص، والجاني يغرَم للمجني عليه أرش سنه، وكأن الاقتصاص لم يجر، وتعذر بسبب من الأسباب.
ولو قلع سنّه جانياً، فقلعنا سنّ الجاني قصاصاًً، فعاد سنهما جميعاً، فإن لم نجعل للعود حكماً، فقد تمت الجناية، وتمّ القصاص.
وإن جعلنا للعَوْد حكماً، فنقول: لما عاد سن المجني عليه، فنقول: كأنه لم يقلع، وإذا عاد سن الجاني، فنقول: كأنه لم يقتص منه، فيتفاصلان ولا طلبة لواحد منهما في أصل السن، وهذا من بدائع التفاريع؛ فإنا قد فرعنا على قولين مختلفين، فأفضى التفريع عليهما إلى مقصود واحد، فإنا إن قلنا: لا حكم للعود، فلا تداعي بينهما، وقد تمت الجناية، وتم القصاص.
وإن قلنا: للعود حكم، فكأن الجناية في أصلها لم تجرِ، وكأن الاقتصاص لم يجر. والله أعلم.
ومما نذكره في التفريع: أنا إذا لم نجعل لعود السن حكماً، فنقول: إذا جنى فقلع سناً، فإنا نبتدر ونقتص من الجاني، أو نغرّمه الأرش، ولا ننتظر أمراً؛ فإن أقصى ما يفرض عود السن ولا أثر له.
وإن قلنا: عود السن يؤثر، فهل نتوقف وننتظر العود، أم كيف السبيل فيه؟ ادعى المزني لما اختار أن عود السن لا حكم له أنا لا ننتظر، واحتج بذلك قائلاً: لو كان على عود السن معول، لانتظرناه، كما نفعل ذلك في الذي لم يثغر.
فذهب معظم الأئمة إلى أنا نخرّج الانتظار على القولين: فإن قلنا: يتغير الحكم بعود السن، فلابد من الانتظار، وهذا هو القياس الحق، ثم الرجوع في مدة الانتظار إلى مدة عود سن الصبي الذي لم يثغر.
ومن أصحابنا من وافق المزني في الذي ذكره وقال: إنا لا ننتظر العود لأنه إن وقع، فهو نادر جداً، فلا وجه لانتظار النوادر، وإنما يتعلق انتظار العقلاء بما لا يستبعد، والزائد عليه أنا لو انتظرنا مدة، فلن ينقطع توقع العود وإن طالت المدة، فالوجه قطع الانتظار أولاً، ثم إن اتفق عودٌ، أجرينا ما حكمنا فيه على ما يقتضيه القياس.
وقد انتجز غرضنا في هذا الأصل.
10637- ومن الأصول الكلامُ في أن الأسنان إذا استوعبت قلعاً، وزادت أروشها على مقدار الدية، فكيف الوجه؟ قال الشافعي رضي الله عنه: "والضرس سن وإنما سمي ضرساً" فجملة الأسنان على الاعتبار الغالب في الفطرة اثنان وثلاثون: أربع ثنايا: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل. وأربع رَباعيات، فوق وأسفل، وأربعة أنياب، كما ذكرنا، وأربعة نواجذ وأربع ضواحك، واثنتا عشرة طواحين، وهي التي تسمى الأضراس، وهذه الأسنان، وإن كانت متفاوتة فيما يتعلق بها من المنفعة، فهي متساوية في الأروش، ففي كل سن منها خمس من الإبل، إذا كمَّل
المجني عليه قلعها، كما تقدم ذلك، وهو كالأصابع فإنها متفاوتة في الصورة، والطول، والقصر، والمنافع، وأروشها متساوية، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأسنان سواء والأصابع سواء والثنية كالضرس: هذه كهذه».
ثم قال الأئمة في هذا المنتهى: الغالب أن الثنايا تكون أطول من الرَّباعيات، فإن كان ثنايا بعض الناس مثل الرَّباعيات أو أقصر منها، فكيف الحكم؟ ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا يجب في الثنية والحالة هذه تمام الأرش، كما إذا كانت الإصبع الوسطى مثل المسبِّحة، فلا يجب فيها تمام دية إصبع، ولذلك يجب في الثنية مقدار من الأرش: فنقدر الطول الذي كان ينبغي أن يكون، ويتوزع الأرش، ويسقط في مقابله ما عدمنا مقدارَه، ويبقى مقدار الباقي، وفي بعض التصانيف أنا نوجب فيه حكومة، وهذا غلط إلا أن يريد بها البعض على القياس الذي ذكرناه.
وكان يحتمل أن يجب تمام الأرش، وفي كلام الأئمة رمزٌ إليه، ووجهه أن زيادة الثنايا ليست مطردة؛ حتى يقال: خلافُه خارج عن عادة الخلقة، والناس على تفاوت عظيم في خلقة الأسنان، وليس كذلك الأصابع، على أني سأذكر في الأصابع إذا انتهيت إليه ما ينبغي.
10638- ثم نتكلم بعد هذا في استيعاب الأسنان في القلع، وتعدد أروشها، فنقول أولاً: إذا قلع الجاني سناً، وتركه حتى برأ واندمل، وزال أثر الجناية، ثم قلع سناً آخر، ثم هكذا إلى استيعاب الأسنان، فهاهنا نوجب في كل سن خمساً من الإبل.
ولو اشترك جماعة، فقلع كل واحد منهم سناً أو واحدٌ عشرين، وقلع الآخر الباقي، فيجب على كل واحد منهم الأروش بكمالها؛ فإنه لا يختص كل واحد بأكثر من الدية، وهذا نهايتها، ولو قلع قوم كل واحد سناً، وكذلك إن قلع سناً، وغرم أرشه، وقلع آخرَ وغرم أرشه وهكذا، حتى استوفى الأسنان، فالأروش تثبت، وإن زادت على الدية هذه صورة وحكى الأئمة الوفاق في وجوب تمام الأروش فيها.
ولو جنى جناية أسقط فيها جميع الأسنان دفعة واحدة، فهل نوجب الأروش بكمالها، أم لا نزيد على ديةٍ واحدة؟ فعلى قولين: أصحهما- أنا نوجب الأروش، وإن زادت على الدية، وهذا هو القياس.
والثاني: أنه لا يجب أكثر من دية واحدة؛ فإنها أعدادٌ متقابلة متعاونة على العمل كالأصابع وهذا لا يستدّ مع أن الأروش تزيد في الصور التي ذكرناها.
ولو قلع جانٍ واحدٌ، فقلع الأسنان واحداً واحداً، ولم يتخلل اندمالٌ، ولا غرامةُ أرش، ففي هذه الصورة طريقان:
أحدهما: القطع بإيجاب الأروش بالغةً ما بلغت؛ لتعدّد الأفعال وترتبها.
والثانية- أن المسألة تخرّج على القولين اللذين ذكرناهما.
10639- ومن الأصول في الأسنان أن اللحيين فيهما دية كاملة، وهي من مباني البدن، ولا يخفى ظهور وقعهما ومنفعتهما وعِظم أثرهما.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "الأسنان العليا في عظم الرأس، والسفلى في اللحيين" وقصد بذلك التعرض لأرش اللحيين، وهو أن من قلع لحيي شخص، وألزمناه الدية، فهل تلزمه أروش الأسنان مع دية اللحيين؟ فعلى وجهين: أحدها: أنها تتبع؛ فإن المتركب على الشيء إذا قُلع مع أصله، لم يفرد كل واحدٍ منهما بأرش الانفراد، والأقيس إثبات الأروش مع دية اللحيين.
10640- إذا ضرب سنَّ إنسان فاسودّ، فقد اختلف نصّ الشافعي فيه، فقال في موضعٍ: "يلتزم الحكومة" وقال في موضع يلتزم عقلها، فقال المزني: أجعل المسألة على قولين، واختار إيجاب الحكومة، واحتج بأن منفعة السن باقية: من القطع والمضغ وغيرهما.
فقال الأئمة: ليست المسألة على قولين، بل النصان منزلان على حالين: فحيث أوجب الدية أراد إذا سقطت منفعة السن، وحيث أوجب الحكومة أراد إذا لم تسقط منفعتها.
وفيما ذكروه نظر وبحث، فنقول: إن كان يتأتى المضغ والقطع ولم يحدث إلا اسوداد، فلا يلزم إلا الحكومة، وإن كان لا يتأتى بالسن ما ذكرناه، فربما يتعذر بسببه الانتفاعُ بما عداه، فقد سقطت المنفعة، وبقاء الجرم لا ينافي وجوب الأروش، كما لو ضرب يداً، فأشلها.
وإن اخضرّت السن أو انتبرت، وتقلقلت، وبان أنه من آثار الجناية، فإذا سقط، وجب الأرش في سقوط العضو على ما تقدم ذكره.
وإن كان يتأتى به القطع والمضغ ولكن على ضعف، فهذا بمثابة ما لو ضرب يد إنسان فأضعفها ولم تسقط منفعتها بالكليّة، فتجب الحكومة، ثم الحكومة على قدر ما فات، ولا سبيل إلى التقدير، فإنه لا ينضبط ما فات وبقي على وجهٍ لا يتأتى فيه شبهة من جهة التقدير، فإذا لم يتقدّر ما فات، لم يتأت تعبير عن عوضه، فأثبتنا الحكومة صادرةً عن النظر والاجتهاد، فهذا جميع ما يتعلق بهذا.
فالاسوداد المجرد لا يوجب الأرش بكماله. نعم، يتعلق به الحكومة، وستأتي أصول الحكومة، إن شاء الله عز وجل.
ثم حيث أوجبنا على الجاني حكومة، فلو جنى جانٍ وقلع ذلك السن، قال الأصحاب: على قالعه أرشٌ كامل، وإن أوجبنا على الجاني الأول أرشاً كاملاً، فنوجب على القالع حكومة، وهذا بيّن عند الأصحاب في الأصول. 10641- وفيه نظر عندي وبحثٌ: فإن من نَقَصَ السنَّ وأزال بعضَ منفعته، فالذي يضمنه في مقابلة ما أزاله-إذا ضمن- شيءٌ من المنفعة، فالقول بإيجاب تمام الأرش قد يُشكل على الناظر؛ وهذا السؤال قد يتجه فيما إذا جنى على يد إنسان، فأضعفها، وضمن الحكومة، ثم يترتب على ما ذكرته من الإشكال أمر القصاص، وقد قال الأئمة: في الصورة التي انتهينا إليها: لو قلع قالع ذلك السن، أو قطع تلك اليد فيلزمه القصاص، واليد الكاملةُ لا تقطع إلا بيدٍ كاملة.
فنقول: إذا ضعفت اليد خلقةً، أو ضعف السن، فلا إشكال في إتمام الأرش على الجاني، فإنا لَوْ لم نقل هذا، لوقعنا في عَماية لا تنجلي، فإن أفراد منافع الأعضاء لا تدخل تحت الضبط، فيكفي في إكمال أبدالها كمال الخلقة صورةً، وثبوتُ المنفعة على الجملة، ولا نظر إلى قدر المنفعة.
هذا في الضعف الذي يكون من طريق الخلقة ويستوي فيما ذكرناه الأصلي والطارىء إذا كان من طريق الخلقة، من غير فرض جنايةٍ وضمان.
فإذا فرض النقصان بجناية، وفرض الضمان، ففيه الإشكال، فإن قيل الفائت مضمون، فإذا وجب تمام الأرش، فهذا يتضمن تضعيف الضمان في القدر الذي تعلق الضمان الأول به. قلنا: الأمر كذلك، ولكن سرّ الحكومة أنا لا نوجبها في مقابلة مقدارٍ من المنفعة على التحقيق، ولكنا نقول: جنايةٌ مؤثرةٌ، وليس فيها تقدير شرعي، ففيها حكومة، ثم أقرب مسلك نلتفت إليه المنفعةُ اجتهاداً وتخميناً، وتعدّد الجناة قد يوجب مثلَ ذلك؛ فإن من قطع يدي رجل وحز رقبته، فالنص أنه لا يلزمه إلا دية واحدة، ولو قطع يديه إنسان، وقتله غيرُه، فديتان وفاقاً، وسنذكر هذا موضحاً في فصول الحكومات، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
10642- إذا تحرك سن الإنسان وتقلقل لهَرَمٍ أو لعلة، فقَلَعَه قالع، قال الأئمة: في وجوب القصاص والأرش الكامل قولان.
وهذا عندي فيه ترتيب؛ فإن تقلقل على وجهٍ يغلب على الظن أنه يثبت ولم تسقط المنفعة ولم تزُل، فهذا بمثابة مرض في العضو، فإذا قُلعت، فيجب لضمان، ويُقْطَع بالقود وبكمال الأرش.
وإن كان التحرك بحيث يغلب على الظن أن السن إلى السقوط لما به، ففيه قولان: أصحهما- وجوب القصاص والأرش الكامل؛ فإن المنفعة وإن قلّت وضعفت، فالعضو باقٍ، وقد قدمنا أن مثل هذا وإن نقص المنفعةَ لا يؤثر في إسقاط الصحة والحكم بالسلامة.
والقول الثاني- أن القود لا يجب؛ فإن السن انتهى إلى السقوط، وفي جنسه ما لا يتعلق به كمال الأرش؛ من حيث إن مصيره إلى السقوط، وهو سن الصبي الذي لم يُثْغر، وإنما خرج هذا القول لهذا الشبه، وإلا فلا خلاف في سائر الأعضاء أنها إذا اكتسبت ضعفاً، فهي كالأعضاء القوية.
ثم هذا التعلّق غير صحيح أيضاً؛ فإن المعتبر في سن الصبي أنه يسقط ويخلف، وهذا لا يتحقق في سن الشيخ؛ فإنه إن سقط، فلا خلف له.
فكأن الأعضاء تنقسم: فما ضعف وكان الغالب أنه يبقى صاحبه، فلا حكم لذلك الضعف، وما سقط إلى خلفٍ وبدل، فهو سن من لم يثغر سنه، وما يسقط غالباًً إلى غير خلف، وإن لم يظهر أثره، فهو عضو كامل في القصاص والأرش، فإن ابتدأ يتحرك، ففيه القولان، والأصح عندي الحكم بموجب الكمال.
فرع:
10643- إذا قلع سناً لم يُثْغَر من صبي، فقد ذكرنا أنا ننتظر من أمره العَوْدَ أو غُرْمه، فلو مات الصبي قبل أن يعود سنه، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين:
أحدهما: لا نكمل الأرش؛ لأن العود كان متوقعاً، فقطعه الموت.
والثاني: يلزم، فإن القطع قد تحقق، ولم يكن عود، ولا ننظر إلى تفصيل السبب الذي لأجله لم يعد السن.
ومما يتعلق بهذا المقام أنه لو قلع قالع سنَّ صبي، فجاء جانٍ وجنى على ذلك المنبت، فلم يعد السن، وقيل: لولا الجناية، لكان يعود السن، فهذا محلٌّ مشكل: يجوز أن يقال: يجب الأرش على القالع، ويجوز أن يقال: لا يلزم القالع إلا الحكومة، ثم ليس يظهر في هذه الحالة إيجابُ الأرش على الجاني الثاني وإن نفيناه عن الأول، وإيجاب الأرش بينهما لا يصير إليه فقيه.
ولو سقط سن الصبي بنفسه، فجنى جانٍ على المنبت، فلم يعد السن، فهذا مشكل أيضاًً، وقد يتجه إيجاب الأرش على الجاني؛ من جهة ظهور فساد المنبت ولم تتقدم جناية من قالع حتى تكون الإحالة عليها، والله أعلم، ولا قطع مع الاحتمال، ولا نَقْلَ نعتمده.
فرع:
10644- إذا بلغ الصبي في العاشرة وله سن بعدُ لم يُثغَر، فقلع سناً لم يُثْغَر مماثلاً لسنه، فهل نقلع سنَّ القالع جرياً على إجراء القصاص في الأعضاء الزائدة.
قال شيخي لما راجعته في ذلك: لا قصاص في الحال، فإن سن المجني عليه إن عاد، فقد لا يعود سن الجاني، فإن لم يعد سن المجني عليه، ورأينا القصاص فيه، كما تقدم، فنقطع سن من لم يُثْغَر، فإن لم يعد، فالسن بالسن. وإن عاد سنه، فهذا العود معتبر بلا خلاف، فنقول: لم يعد سن المجني عليه، وعاد سن الجاني، فهل نقلع سنَّه الثاني؟ فيه خلاف، ويظهر هاهنا أن نقلع ثانياً، فإن الأول لم يكن مثغوراً، وإن لم يقلع، ولا شك في إكمال الأروش في سن المجني عليه، فتأملوا، ترشدوا، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
10645- إذا انقلع سن إنسان وسقط، فاستعمل سناً من ذهب، وردّه إلى سنخ ذلك السن، فنشب اللحم به ونبت، وصار يَقطَعُ به ويمضغ، فلو قلع قالع هذا السن، فقد اختلف قول الشافعي في أنه هل يجب على القالع حكومة أم لا؟ فأحد القولين- أنه لا حكومة لأنه لم يكن جزءاً من الحيوان، والثاني: تجب الحكومة لما كان فيه من المنفعة، والتعلق بالآدمي، وفي المسألة احتمال بيّن لو تُصوّرت، وعندي أنها لا تتصور ولا يتصور أن يلتحم اللحم على الذهب والله أعلم.
فهذا ما حضر ذكره في أصول أحكام الأسنان.
فصل:
قال: "وفي اليدين الدية... إلى آخره".
10646- في اليدين الدية، وقد قال عليه السلام: «في اليدين الدية، وفي الرجلين الدية» ثم يجب في اليد الواحدة نصف الدية، والديةُ تكمل بلَقْط الأصابع، فإن قُطعت اليد من الكوع، لم نزد شيئاًً وفاقاً، وفي كل إصبع عشرٌ من الإبل، ولا فرق بين إصبع وإصبع، وقيل: كان عمر رضي الله عنه يفاوت بين الأصابع في الأروش، فبلغه أن الرسول عليه السلام قال: «الأصابع سواء، والأسنان سواء» فرجع إلى الاستواء، وترك ما كان عليه.
ولكل إصبع في اعتدال الخلقة ثلاثة أنامل إلا الإبهام، فإن لها أنملتان عندنا، وفي كل أنملة من الأنامل الثلاثة ثُلُث الإصبع، وفي أنملة واحدة من الإبهام نصف دية الإبهام، والكفُّ يتبع الأصابع.
ولو قطع اليدَ من المرفق، ففي الساعد حكومة زائدة، وكذلك إذا قطع من الكتف، فالتبعية إنما تثبت في الكف، كما ذكرناه، ولو قطع القاطع من المنكب، فالقصاص جارٍ فيه، فإنه مفصل لا يتعذر استيفاء القود منه، كما قدمناه في كتاب القصاص.
ولو جنى على يده، فأشلها، وجب كمال دية اليد؛ لإزالة المنفعة، ولا يجري القصاص في المنافع؛ فإن إجراء القصاص غير ممكن فيها.
ولو كسر يد إنسان فجبره، فجاء الجبر معوجاً، وجبت الحكومة، فلو قال الجاني: أنا أكسره، وأجبره مستوياً، حتى يقلّ الغُرم عليه، لم يكن له ذلك، ولو فعله وانجبر مستوياً، لم يسقط عنه ما وجب أولاً، وتجب حكومة جديدة بالكسر الجديد. وهذا القول في اليد.
10647- ويجب في الرِّجْل ما يجب في اليد، والقول في أصابع الرجل كالقول في أصابع اليد سواء، وقد يعترض إشكال فيها، فإن أصابع اليد إذا لُقطت وتُركت الكف، فمن قطعَ الكفَّ، فعليه حكومة في الكف.
ولو قطعت أصابع الرجل، فإن معظم منافع الرجل باقية؛ فإن المقصود منها المشي، وهو باقٍ، وإن المقصود من اليد البطش ومعظم البطش في الأصابع، ولكن اتفق العلماء على أن القدم من غير أصابع بمثابة الكف من غير أصابع.
وفي رِجْل الأعرج كمالُ الدية؛ فإن سبب العرج في الحِقْو أو الفخذ، وقد يكون تشنج في العصب، فلا تنتقص الدية بالعرج أصلاً.
10648- ثم قال: "وإذا كان بيد رجل كفَّان... إلى آخره".
ما قدمناه في اليد والرجل بمثابة الأصول، وهذا أول الخوض فيما يكاد يغمض، ونحن بعون الله تعالى نأتي منه بالبيان الشافي.
فليعلم الناظر أنه لا يتصور أن يكون على معصم واحدٍ كفان أصليتان، ولا على ساقٍ واحد قدمان أصليتان، فلابد وأن تكون إحداهما زائدة، أو تكونا ناقصتين في مقابلة يد واحدة، كما قدمنا تصوّر ذلك في الأصابع، في كتاب القصاص، وكل ما يتعلق بهذا الفصل قد سبق مستقصىً في الجراح.
ولا يتأتى استيفاء حكم القصاص دون ذكر أحكام الديات، فلذلك تقدم لُباب هذا الفصل فيما تقدم، ونحن نذكر ما نراه زائداً، وما في إعادته ما يفيد. فإذا كانت إحدى الكفين أصلية، والأخرى زائدة، وقد تبين الأصلى من الزائد، ففي الأصلي الدية، والقود، وفي الزائد الحكومة.
ونحن نجمع ما يدل على الأصلية منهما: فإن كانتا على سَنَنٍ واحد، وأصابع كل واحدة كاملة، فإن كانت إحداهما باطشة، والأخرى ضعيفة، فالأصلية الباطشة، وإن كانت الباطشة منحرفة والمستدة ضعيفة، فالأصلية الباطشة، فأَوْلى معتبر في ذلك البطشُ.
ولو كانتا جميعاً تبطشان، ولكن إحداهما أقوى بطشاً، فهي الأصلية، وإن استويا في أصل البطش.
وبالجملة لا نعدل بالبطش شيئاً، والسبب فيه أن البطش هو ما خلقت اليد له وهذا أمثل شاهدٍ على تأصل العضو، وتفرّعه على الأعضاء الرئيسة.
ولو استويا في الاستداد والبطش، ولكن إحداهما ناقصة الخلق، والأخرى كاملة، فالكاملة هي الأصلية. هكذا ذكره العراقيون.
ولو كانت إحداهما على اعتدال الخلق والأخرى عليها إصبع زائدة، فقد قال العراقيون: لا يؤثر ذلك في تمييز الأصل عن الزائد، وقال القاضي: اليد الزائدة هي التي عليها الإصبع الزائدة؛ فإن ذلك يدل على تشويش الخلق والفطرة، وهذا بعيد لا يثبت له، وكل ما ذكرناه يقع للاستواء في البطش، وإلا فأصل البطش وزيادته مقدم على كل صفة معتبرة.
ولو كانت إحدى اليدين ناقصة بإصبع، وهي مستدة باطشة، والأخرى مائلة حائدة عن السنن، وهي كاملة الخلق، وهما متساويتان في البطش، فالأصلية هي المستدّة لاستدادها أم المنحرفة لكمال خلقها؟ هذا فيه احتمال عندي، والله أعلم.
10649- فإن لم تتميز إحداهما عن الأخرى بوجهٍ، وكانتا باطشتين، فمن قطعهما، وله يد واحدة، قُطعت يده قصاصاًً بهما، وللمجني عليه مزيد حكومة لزيادة الخلقة.
ولو قطع قاطع إحداهما والقاطع معتدل، لم نقطع يدَه، وعليه نصفُ دية اليد، وزيادة حكومة؛ لأن المقطوع على صورة يدٍ كاملة، وقد تمهد هذا فيما تقدم. ولو كانت إحداهما باطشة فقطعها، أوجبنا فيها دية اليد، فلو اشتدت الأخرى لمّا قطعت الباطشة، وبطشت هذه الأخرى، واشتدت اشتداد الأصليات، فهل نسترد من المجني عليه من الأروش ما يردّ المغروم إلى مقدار الحكومة، أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نسترد؛ فإنا لو لم نفعل هذا، لأبقينا له أصلية وقد غرمنا له فيما تقدم بدل أصلية.
والثاني: أنا لا نسترد، وقد مضى ما مضى، فلا نتَّبعه بالنقض، ولا نتعقبه.
وهذا الخلاف يقرب من القولين في عَوْد السّن المثغور، وقد غرّمنا القالع دية السن، فإن قلنا: عودُه نعمة جديدة، ولا يتغير حكمُ ما مضى بهذا، فلا نسترد في مسألتنا.
وإن قلنا: نسترد ثَمّ إلى مقدار حكومة إن بقي سن، فنسترد فيما نحن فيه.
وإذا اشتدت اليد الباقية وبطشت، فلا خلاف أنها لو قطعت الآن، تعلق بقطعها القصاصُ والديةُ التامة.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن اليد المقطوعة الأولى لو كانت على نصف البطش، وكانت لا تتميز عن يده، فغرَّمنا القاطع نصف أرش اليد، وزيادة حكومة، على ما تقدم، فإن بقيت اليد الباقية على ما عُهدت عليه أولاً، فلا إشكال، وإذا ازدادت الباقية من القوة، ما لو كانت عليه ابتداء، لحكمنا بأنها الأصلية، فتصير هذه أصلية حتى لو قطعت، لاستوجب قاطعها الأرشَ الكامل والقصاصَ، وهل نسترد من أرش الأول ما يردُّ الأرشَ إلى مقدار الحكومة؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه.
10650- ومما ذكره صاحب التقريب في أطراف المسألة أن من له يدان على معصمٍ باطشتان، لا تعتضد إحداهما بالأخرى، فلو قطع هذا الشخصُ يداً واحدة من معتدل، فلا نقطع منه اليدين جميعاً، لزيادة الخِلقة، ولو قطع ذلك المعتدل اليدين جميعاً منه، فإنا نوجب القصاص عليه في يده الفردة، ونثبت عليه مزيد حكومة لزيادة الخلقة.
ولو قطع المعتدل إحدى يديه، فلا يلزمه القَود، كما تمهد هذا فيما مضى من كتاب الجراح، فلو غرّمناه نصف الأرش وزيادة حكومة كما تقدم، ثم إنه عاد وقطع يده الأخرى، فإن قنع بالأرش، لم يخف حكمه، وكان الجواب إيجابَ مثل ما أوجبنا أولاً.
وإن قال: أريد الآن القصاص من اليد الفردة من القاطع، فهل يجاب إلى القصاص الآن؟ فعلى وجهين ذكرهما:
أحدهما: أنه لا يجاب؛ فإن القصاص يتعلق بقطع يديه جميعاً، وقد سبق منه أخذ أرش اليد عن يدٍ، وأخذُ الأرش يتضمن إسقاط القود لا محالة، ولا يعود إلى القود بعد سقوطه. الوجه الثاني- أنه يطلب القصاص وعذره فيما أخذه من الأرش أنه يقول: لم يكن القصاص ممكناً لمّا قطع إحدى اليدين، فاخترت الأرش لتعذر القصاص، لا لإسقاطه، والآن لما قطع الثانية أمكن القصاص، وأنا على طلبه، فأرد ما أخذته من الأرش إلى مقدار حكومة.
هذا تمام ما أردناه في ذلك.
فصل:
قال: "وفي الأَليتين الدية... إلى آخره".
10651- يجب تمام الدية في الأَليتين، وهما من المثاني والمنفعة فيهما بيّنة في القعود والركوب، وفي إحداهما نصف الدية.
والذي يجب الاعتناء به بيان منتهى القطع الموجِب للدية: اتفق الأئمة رضي الله عنهم على أنا لا نشترط إيصال الحديدة إلى العظم الكائن تحتها، والمعتبرُ قطع ما يدخل تحت اسم الأَلْية، ولا مزيد على ما ذكره الشافعي رضي الله عنه، فيُكتفى بما إذا قُطع ما يكون مُشرفاً ناتئاً على الظهر والفخذ، والناس يتفاوتون في مقدار النّاتىء حَسَب تفاوتهم في أجرام سائر الأعضاء، ئم الفخذ من الحِقو إلى الركبة يأخذ في الاستدقاق والنحافة، والمرعيُّ في تمام القطع ألا يبقى إشرافٌ، وهو بالإضافة إلى الظهر، وبالإضافة إلى أصل الفخذ، وهذا بيِّنٌ في الذّكْر والكلام، ولكنه عسر في الإيقاع والفعل، ولهذا اتفق الأصحاب على أن القصاص لا يجري فيهما، فإنه ليس مَفْصلاً يتأتى فيه مراعاة المساواة، وليس له مَردٌّ من عظم وراءه؛ فلا يجري القصاص فيه أصلاً.
10652- ثم قال رضي الله عنه: "ولا عين أعور... إلى آخره".
أراد الرد على مالك فمذهبنا أن من قلع عينَ أعور يلزمه نصف الدية فحسب، وقال مالك: فيها تمام الدية، وصار إلى أن قوة الإبصار تنصبّ بجملتها إلى العين الفردة، وهذا الذي ذكره خيال لا تعويل على مثله، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوجب في العينين الدية" فإيجاب الدية الكاملة في إحدى العينين مخالفٌ لحكم الرسول عليه السلام.
10653- ثم قال: "ولو كسر صُلبه، فصار لا يطيق المشي... إلى آخره".
الصلب من أعضاء الدية، فمن كسر صلبَ إنسان، فمن أعراضه ألا يطيق المشيَ، فإن تحقق الكسر، وخرج المشي عن الإمكان وجبت الدية الكاملة، وإن لم يسقط إمكان المشي بالكلية، ولكن ضعف وتثاقل، أو صار بحيث يمشي مستعيناً بعكازه، فلا تجب الدية، ولكن تجب حكومة على قدر التأثير، وهذا بمثابة ما لو جنى على اليد، فنقص من بطشها.
فإن قيل: الماشي بعكازه يعتمده، فلا مشيَ منه، قلنا: هذا محالٌ، فإن من كسر صلبه على التحقيق لا يتأتى ذلك منه أصلاً، بل الاعتماد على العكاز إنما يتأتى ممن معه قيامٌ من صلبه.
ومما ذكره الأئمة في هذا أنه لو كسر صلبه، فقد تعطلت منفعة رجليه، فلا يلزمه دية الرِّجل؛ فإنها صحيحة لا آفة بها، وتعطل المشي فيها ليس من جهة الجناية عليها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وهو بمثابة ذهاب العين؛ فإنه ينتقص بسببه انتفاع الإنسان بمعظم أعضائه، ولا تجب إلا دية العينين.
ولو كسر صلبه، فسقط بسببه مشيه، فقد ذكر أئمتنا فيه وجهين.
والجملة المعتبرة في ذلك أن من جنى على عضو، فسقطت المنفعة الكائنة في ذلك العضو، فلا شك أنا نفرد تلك المنفعة بموجَبٍ، بل إن ما وجب في العضو ما وجب إلا لاتصافه بتلك المنفعة؛ فإن الأعضاء تُعنى لمنافعها، لا لأجزائها.
ولو جنى على عضوٍ، فتعطل به عضوٌ وهو صحيح لا آفة به، فهذا تعطيل، والتعطيل لا يوجب ضماناً إلا في المحل المجني عليه، فإذا ذهب منيُّه والمجني عليه صلبه، فقد اشتهر خلاف الأصحاب في ذلك، والوجه عندي أن نقول: ليس للمنيّ محل مخصوص من البدن، وإنما هو مادة ترسلها الطبيعة من الاعتدال الصحيح بالحلو والدسم نحو أوعية المني في الخُصية وما يتصل بها. فأما التعرض للصلب، ففيه نظر، والله أعلم.
10654- ثم قال: "ودية المرأة وجراحها... إلى آخره".
المذهب الذي عليه التعويل أن جراح المرأة من ديتها بطريق النسبة كجراح الرجل من ديته، فإذا كان في يد الرجل نصفُ ديته، فالواجب في يدها نصفُ ديتها، والواجب في إيضاحها نصف عُشر ديتها، وهذا مطرد فيما قلّ وكثر.
وللشافعي قول في القديم: "أن المرأة تعاقل الرجل في ثلث الدية" ومعناه أنها تساويه في المقدار، ففي إصبع منها عشر من الإبل، كما في إصبع الرجل، وفي إصبعين عشرون، وفي ثلاث أصابع ثلاثون. والمعتبر في المعاقلة ثلث دية الرجل، لا ثلث ديتها، ولو قطع أربع أصابع منها، فعشرون، ففي ثلاث أصابع ثلاثون، وفي أربع أصابع عشرون.
ولست أدري للمصير إلى المعاقلة معنىً، ومتمسكاً. والظن به أنه وجد آثاراً من الصحابة، وكان يرى في القديم تقديمَ قول الصحابة على القياس والرأي، وإلا فلا معنى لما ذكرناه، ثم لو قطع ثلاث أصابع، فلم يتفق تغريم الجاني الأرش حتى قطع إصبعاً أخرى، رجعت الأروش إلى عشرين، وإن لم تكن الجنايات متواصلة.
وهذا يناظر ما لو أوضح الرجل مواضع من رأس إنسان وتعلقت به أروشها، ثم انعطف الجاني عليها ورفع الحواجز، فالأروش ترجع إلى أرش موضحة واحدة.
وكذلك في ستةٍ من أسنانها ثلاثون بعيراً، فإذا قلع سابعةً، عادت الأروش إلى سبعةَ عشرَ بعيراً ونصف بعير.
فصل:
قال: "وفي ثدييها ديتها وفي حلمتيها ديتها... إلى آخره".
10655- الحلمتان من المرأة مضمونتان بكمال الدية، وهما من المثاني، وفي الواحدة نصف ديتها، والحلمة ما يلتقمه الصبي، والأروش تكمل باستئصال ما يتجمع ناتئاً من رأس الثدي ولونها في الغالب يخالف لون الثدي، وحواليها دائرة على لونها من سترة الثدي، وليست تلك الجلدة من الحلمة، ولو قطع قاطع ثدييها بعد قطع الحلمتين، فعليه في كل ثدي حكومة لا تبلغ أرش الحلمة.
10656- ونحن نجمع الآن مسائل قدمنا بعضها، فنعيد ما قدمنا، وننظم المسائل حتى تُلفى مجموعة.
اضطرب الأصحاب في قطع المارن وقصبة الأنف، واستئصال الذكر من أصله، وقلْع السن من سنخها، واستئصال الثدي وعليه الحلمة، فمن استأصل هذه الأعضاء نكتفي منه بدية واحدة، أو نجمع عليه دية وحكومة، أم كيف السبيل؟ وجملة المسائل متفقة في أن الدية تكمل دون الاستئصال فيها، فإن على من قطع المارن تمامَ الدية، وإن أبقى القصبة، وكذلك من قطع الظاهر من السن، التزم الأرش الكامل، وعلى من قطع الحشفة الديةُ، ودية المرأة تكمل بقطع الحلمتين، وقد اجتمعت المسائل فيما ذكرناه، واجتمعت أيضاً في أن من انفرد بقطع المقدار الذي تكمل الدية فيه، ثم وُجد من جانٍ آخر الاستئصال، فعليه الحكومة، وهذا لا شك فيه.
10657- وإذا وجد استئصال العضو الكامل من شخص واحد، فللأصحاب طرق أشرنا فيما تقدم إلى بعضها، ونحن الآن نعيدها، ونستكمل تمام الطرق: فمن أصحابنا من طرد في جميع المسائل وجهين:
أحدهما: لا يجب على المستأصل إلا دية تندرج الحكومة تحت الدية، ويطرد هذا في المارن والقصبة، وغيره من الأعضاء، قال بعض المصنفين: هذه الطريقة هي المرضية.
ولست أرى الأمر كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في كل سن خمسٌ من الإبل، ولم يتعرض لقَطْع ما ظهر وتَرْكِ السنخ باطناً، والأولى مل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قد يجري مثلُه في العرف، وقلعُ السن قد يتفق، فأما قطع الظاهر منه، فلا يكاد يقع إلا أن يُتعمد، فمن أوجب في السن المقلوع أرشاً وحكومة، فقد راغم قول الشارع. ومن أصحابنا من قال: لا يجب على من يستأصل الثدي مع الحلمة، والذّكَرَ مع الحشفة، ويقلع السن من سِنْخه إلا دية واحدة، وفي استئصال الأنف مع القصبة وجهان: أصحهما- إيجاب دية في المارن، وحكومة في القصبة. وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من أوجب على من قلع السن من سنخه الأرش والحكومة وجهاً واحداً، وذكر الخلاف فيما عدا هذه المسائل، واعتل بأن السِّنخ أصلٌ، فكان له حكم الانفراد، وهذا لا يصح مع ما ذكرناه.
ولو خُلّينا والقياس، لقلنا: في جميع هذه المسائل يجب القود والحكومة على المستأصل؛ لأنه جمع بين ما تتمّ الديةُ أو الأرش المقدَّر فيه، وبين ما تجب الحكومة فيه لو أفرد بالجناية، ولكن هذا المعنى على اتجاهه لا يجري؛ فإن من قطع اليد من الكوع، لم يلزمه إلا ما يلزم لاقط الأصابع، وهذا متفق عليه، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في السن، نصٌّ لا يقبل التأويل، كما ذكرناه؛ فامتنع إجراء ذلك المعنى، ولم يبق إلا تشبيه هذه المسائل بالأصابع والكف؛ فإن طريق المعنى إذا انتقض وأمكن التعلق بالشبه فالتعلق به من الوجه.
ويلي هذه الطريقةَ النظرُ في التجانس في الأجزاء، وموجب ذلك الاكتفاء بالمقدّر في الذكر، والثدي، والسن، وإفراد القصبة في الأنف بالحكومة.
ثم إذا كنا نوجب على الجاني باستئصال العضو دية وحكومة، فلو قطع مما تكمل الدية به بعضَه، فالتوزيع يقع على محل الدية فحسب، وإن كنا لا نوجب على المستأصل إلا ديةً واحدة، فإذا قطع من محل الدية شيئاً، فالتوزيع على جميع العضو أو على محل الدية؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما فيما سبق. هذا بيان هذه المسائل.
10658- وفي حلمتي الرجل قولان: منصوص، ومخرَّج، فالمنصوص أنه لا تجب فيهما إلا حكومة؛ إذ لا منفعة في حلمتي الرجل يعتد بها.
وفي المسألة قولٌ آخرُ مخرّج: أن الدية تكمل في حلمتي الرجل، فإنهما موجودتان صورةً من الرجل وجودهما من المرأة، فينبغي أن يتعلق بهما دية
كالمرأة. ثم تحت حلمة الرجل لحمة-إن لم يكن هزيلاً- تسمى الثُّنْدوة، وليست من الحلمة بمثابة ثدي المرأة من حلمتها، ولو قطع الجاني ثُندُوة الرجل وعليها الحلمة، وجرينا على القول المخرج في إيجاب الدية في حلمة الرجل، فالثندوة مفردة بالحكومة، بلا خلاف؛ فإنها ليست مع حلمة الرجل كعضو واحد، وهذا بيّن لمن تأمّل.
10659- ولو جنى الرجل على ثدي المرأة جناية، لم يبق لأجلها اللبنُ ودروره، وامتنعت منفعة الإرضاع لذلك، وقال أهل الصنعة: ذهبت منفعة الإرضاع بذلك، فلا يجب على الجاني إلا حكومة، هكذا ذكره القاضي.
ولو جنى رجل على رجل جنايةً، فانتزع منه الماء، وقال أهل البصر قد أبطل منيّه، وهذا وإن أورده الفقهاء عسر في التصوير؛ فإن تُصور، فقد قيل: على الجاني الدية، فإنه أبطل منفعة عظيمة، وحاولوا الفرق بين إبطال الإرضاع وبين إبطال المني، وقالوا: اللبن ليس شيئاً موجوداً في الجبلة وإنما يَطْرى ثم يزول، واستعداد الطبيعة للمنيّ صفة لازمة للفحول، فإذا أبطلها، لم يمتنع أن يلتزم الدية. هذا ما بلغنا في ذلك والله أعلم.
10660- ثم قال: "وفي إسْكَتَيْها، وهما شُفراها ديتُها... إلى آخره".
في إسكتي المرأة وهما شُفراها، والشفران حرفا الفرج، ويلتقيان على المنفذ.
والذي يجب الاعتناء به في هذه الصورة تصوير الشُّفرين، وقد ذكرنا في الأَلْيتين قولاً ضابطاً، لا يغادر إشكالاً، ونحن نحرص أن نذكر في تصوير ما نحن فيه ما يقرب من اللسان، فنقول: الشُّفران يلتقيان، وهما على نعت النتوء في الملتقى، والدية تتعلق بقطع الناتىء منهما، وإن ظن ظان أنهما يلتقيان من غير نتوء، فقد أبعد في التخيل؛ إذ لو كان كذلك، لما انتظم تصوير قطع الشفرين؛ فإن وراءهما حائطا الفرج، وهما ينطبقان ويلتقيان لا فضاء بينهما، فإذا اتصل الشُّفران على استواء من غير نتوء ووراءهما لحمُ داخلِ الفرج من الجانبين، فلا ينتظم مع هذا قطع الشفرين.
ولو فُرض قطع الحرف الذي تنقطع البشرة عليه من الظاهر واللحم الباطن، لأمكن فرض قطع الشفرين بقطع جلدة مستدقة من كل حرف، هو ملتقى البشرة والباطن، ونحن على قطع نعلم أن العلماء لم يعلّقوا الدية بهذا المقدار.
وإن ظن سبَّاق إلى الظواهر لا يعرّج على درك الأسرار والبواطن أن قطع الشُّفرين هو الذي يزيل انطباق أحدهما على الآخر، فهذا لا يتأتى تصويره إلا مع تصوير قطع لحم كثير من الباطن، ونحن لا نستريب في أن ذلك ليس مرادَ العلماء، فمعنى الشفرين إذاً ما ذكرناه.
ثم يجب في شفري القرناء والرتقاء ما يجب في شفري من لا علة بها؛ فإن منفعة الشفرين أظهر في وجوهٍ غيرِ الوقاع، وتلك الوجوه تستوي فيها من تجامَع من النساء ومن لا تجامَع. ولو قطع جانٍ شُفري المرأة البكر فأزال بالجناية جلدة البكارة، فعليه الديةُ في قطع الشفرين، وأرشُ البكارة، فهو لا يندرج تحت دية
الشفرين، لأن جلدة العذرة ليست في محل الشفرين، بل هي منفصلة عنها.
فصل:
"ولو أفضى ثيباً، كان عليه ديتها... إلى آخره".
10661- اختلف أصحابنا في معنى الإفضاء، فذهب بعضهم إلى أن مُعْتَبَره يصيّر المسلكين واحداً، وقال قائلون: هذا بعيد عن التصور، ولا يتأتى رفع الحاجز بين مسلك البول والغائط بآلة الاستمتاع، فالإفضاء أن يصير مسلك الجماع ومدخلَ الذكر ومجرى البول واحداً، ففي الفرج مسلكان: واحد مدخل الذكر والآخر مخرج البول، فإن البول يأتي من المثانة ومدخل الذكر يُفضي إلى الرحم.
ثم إذا أفضى الرجل زوجتَه أوْ أفضى أجنبية، فعليه كمال ديتها. وفصل أبو حنيفة بين أن يفضي زوجته وبين أن يفضي أجنبية، واعتقد أن إفضاء الزوجة مترتب على الوطء المستحق، فلم يكن مضموناًً.
ولو أفضى امرأة، فاسترسل بولها وحلّ أُسْرَها، فهل يجب مع الدية حكومة لاسترسال البول؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجب؛ فإن ذلك في الغالب من توابع الإفضاء. والوجه الثاني- أنه يجب لاختلاف المحلّين.
ولو أكره أجنبية، ووطئها وأفضاها، غرم المهرَ وديةَ الإفضاء.
ولو زنا بمطاوعة زانية، فأفضاها، غرم دية الإفضاء أيضاًً؛ لأن دية البضع إذا جعلناه بمثابة إذنها، فالإذن في الوطء لا يكون تسليطاً على الإفضاء، كما ذكرناه في المنكوحة.
10662- ومما ذكره الأصحاب في ذلك، أن من استكره امرأة بكراً، وافتضّها، فقد قال الشافعي: يغرم مهر مثلِ البكر، وأرشَ البكارة، قال القاضي: هذا مشكل، لأنا إذا أوجبنا مهر مثلِ البكر، فقد أدخلنا أرش البكارة تحت المهر، فإذا ضممنا إلى ذلك أرشَ البكارة، كان ذلك تضعيفاً للغرم، وإيجاباً له من وجهين، ولا سبيل إلى ذلك.
وكان شيخي يحكي أن الشافعي رضي الله عنه قال: يجب المهر وأرش البكارة، ثم كان يقول من عند نفسه: هذا بمثابة إيجابنا مهرَ مثل البكر، وكنا نقول: قد لا يكون كذلك، فإنه إذا كان في بيتٍ وأهل نسب مهرٌ، فلا يختلف مبلغه بالبكارة والثيابة، فلو اقتصرنا على إيجاب مهر مثل البكر، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل العُذرة وجلدة البكارة. هذا ما كنا نتردد فيه.
فأما نقل النص مقيداً بإيجاب مهر مثل البكر، وإلزام أرش البكارة، فلم أسمعه إلا من نقلٍ يؤثر عن القاضي.
فقد تحصَّل من ذلك أن الجمع بين إلزام أرش البكارة وإيجاب مهر مثل البكر، حيث يختلف مهر مثل البكر والثيب، لا معنى له. وإن كان مهر البكر ومهر الثيب لا يختلف، هذا يشعر بأن البكارة لا قيمة لها في محل الكلام، فيقع التفصيل في جنايةٍ لا أثر لها، في تنقيص.
وسيأتي تفصيل القول في هذا الجنس، إن شاء الله عز وجل.
ولو أفضى امرأة بكراً بخشبة، غرم أرش البكارة وديةَ الإفضاء، ولا يدخل أرش البكارة فيها، لاختلاف المحل، ولو أزال الزوج بكارة زوجته بإصبع أو خشبة، فالذي ذهب إليه أكثرون أنه لا يغرم بسبب إزالة البكارة شيئاً، لأنها مستحقة له بطريق الوطء، فإن استوفاها بجهة أخرى، فقد أساء. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أرش البكارة؛ فإنها في التحقيق غيرُ مستحَقة للزوج مقصودةً، فإنما الذي يستحقه الزوج الاستمتاع، غير أنه لا يصل إليه إلا والبكارة تزول، فإذا لم يستمتع وأزال البكارة كان جائفاً.
فصل:
قال: "وفي العين القائمة واليد والرجل الشلاء... إلى آخره".
10663- ذكرنا فيما تقدم قواعدَ القول في الأروش المقدرة، وإن شذ شيء، فسنستدركه إن شاء الله في آخر الباب.
وهذا الفصل معقود لبيان الحكومة، وذكر أصلها وتفصيلها، والحكومة عبارة عن موجَب جُرح ليس له أرش مقدر من جهة التوقيف، ثم مبنى الحكومة على أن تُحطَّ عن دية العضو الذي يُقدّر محلاً لجناية الحكومة، وسيتضح ذلك، إن شاء الله.
وبيان ذلك بالأمثلة أن موجب الإصبع عشر من الإبل، ولو فرضت جناية على الإصبع، فأتى على طولها، فحكومتها لا تبلغ ديةَ الإصبع، والجناية على اليد إذا كانت بحيث تناولت الأصابع، تحط حكومتها عن دية اليد، وتعليل ذلك أن الجراحة إذا وقعت على عضو مفدًّى بأرش مقدرٍ، فيستحيل أن يجب فيها والعضو قائم ما يجب في العضو إذا فات بالجناية.
وشبه الأئمة قولهم في هذا الأصل، بالتعزير والحد، والرضخ والسهم، فإن التعزير محطوط عن الحد، والمرضَخ محطوط عن السهم، ولا حاجة إلى هذا الاستشهاد مع ما قدمناه.
ثم جراحات الحكومة يُتأنّى بها إلى أن تندمل، فإن بقي شَيْنٌ له أثر في التنقيص، جعلناه المعتبر في الحكومة.
10664-والحكومة أن يفرض المجروح عبداً سليماً عن ذلك الشَّيْن ونعرف مبلغ قيمته مع تقدير سلامته، ثم نُقوّمه مع ما به من الشين ونضبط التفاوت، ونعرف النسبة، فإن كان الناقص عُشراً أوْ أقل، أوجبنا تلك النسبة من الدية، ونحن مع ذلك نلتفت إلى مقدار الأرش المقدر الذي حقّقنا حطَّ الحكومة عنه، فإن كان ما رأيناه محطوطاً عن الدية التي نرعاها، فهو المراد، وإن كان ما اقتضاه التقدير مثل ذلك الأرش المقدّر، أو أكثر، فلا بد من الحط عن ذلك القدر.
ثم يجب النظر في مقدار المحطوط فلا يجوز أن يقال: نكتفي في الحط بأقل القليل، فإن أمور الجنايات وأحكام الدماء لا تجري إلا على ترتب وتحقق، فلو قال قائل: نضبط النقصان الحاصل بالجناية على العضو مع بقاء العضو، ثم نقدر النقصان بفوات العضو، ثم ندرك ما بين النقصانين ونحط مثلَ تلك النسبة بأن نعتبر نقصان الجزء عن الجزء ونقصان الكل عن الكل. فهذا وجه من الرأي جيد. وإن كان فيه اعتبار النقصان في اليد، واليد مقدّرة الأرش.
ولكن هذا محتمل، إذا ضاق مسلك النظر، وليس هو بأبعدَ من تقدير الحرّ عبداً وردِّ الأمر بعد ذلك إلى الدية، وتحكيم القيمة فيها.
فهذا قول كلّي على أصل الحكومة.
10665- ولو كانت جراحة الحكومة بحيث لو اندملت، لم تُعقب شيناً ولم تترك نقصاً، فهل تجب الحكومة والحالة هذه؟ اختلف أصحابنا في المسألة على وجهين:
أحدهما: أنه لا يجب شيء أصلاً، وهو ظاهر القياس؛ لأن المعتمد في الحكومات اعتبار النقصان، وبناء النسبية عليه، فإذا لم يكن نقصان أصلاً، فلا معنى لإيجاب شيء، مع انعدام الموجِب.
ومن أصحابنا من قال: لابد من إيجاب حكومة؛ لأن الجناية على الدم خطيرة لا سبيل إلى إحباطها، ولأجل ذلك أثبت الشرع ضمان الحر وإن لم يكن الحرّ مالاً، ولكن لما عظم خطره وارتفع قدره، بَعُد أن يقع تلفه محبَطاً، فكان إيجاب العوض فيه للتعظيم، وهذا المعنى محقق في الجناية وإن لم تُفضِ إلى شَيْن.
التفريع:
10666- إن قلنا: لا ضمان أصلاً، فلا كلام، وإن أوجبنا الضمان، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: هو مفوّض إلى اجتهاد الإمام، بقدر ما يليق بالحال، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فهو عريٌّ عن التحصيل، وللفقيه أن يقول إن كان الإمام يوجب ما شاء، فهذا بعيد، وقصاراه تطريق الاحتكام في الغرامات.
وإن كان الإمام يُسند نظرَه إلى رأي، فهو المطلوب، فلنبحث عنه، فهو مرادنا: من أصحابنا من قال: نعتبر هذه الجراحة بحالتها الأولى، وهي مؤلمة أوْ مدمية، ثم نقول: كيف تقدير قيمة العبد وبه الألم، فنفرض قيمته، ثم نبني عليه تقدير الحكومة على الرأي الممهد في معرفة التفصيل، وبناء النسبة عليه.
وهذا القائل يستدل على هذا بأن الجناية إذا ثبتت، لم يبعد تقدير عوضِها وإن اندملت؛ فإنا لم نعدم مثالَ ذلك في الجراحات والأروش المقدرة، فإن من أوضح رأس إنسان، ثم التحم الجرح واكتسى باللحم والجلد، لم يسقط أرش الموضِحة، وقد ينتهي الاندمال إلى حالةٍ لا يبقى فيها من النقصان شيء.
وكأنا في الجراحات التي تُبقي شيناً نعتبر النهاية، ولا إشكال في الاجتهاد، وإذا لم تُبق شيناً وعسر الإهدار، فلا وجه إلا اعتبار حالةِ الجناية، فهذا ما قيل.
وفي النفس من هذا حزازات؛ من قِبل أنا إذا اعتبرنا حالة الجناية، فكيف نعتبرها؟ أنقول: ما قيمة العبد والتقدير على أن الآلام لا تزول؟ أو نقول: نعتبر حالة الجناية مع تقدير زوال الآلام؟ إن قلنا: كم قيمة العبد والآلام لازمة، فهذا باب من الظلم، ولا ينبغي أن نقدر الشيء إلا بما هو عليه.
وإن قدرنا زوال الآلام، فسيقول المقومون: إذا كانت الآلام ستزول والشين لا يبقى ولا أثر لوجود الألم في القيمة، فليس ينقدح هذا، ولا وجه إلا المصير إلى أنه لا يجب شيء أصلاً، وصحة المذاهب وفسادها بالتفريعات.
10677- ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا لطم الرجل لطمة، فهذه وما في معناها لا توجب غُرماً أصلاً، وليس هو في محل النزاع، ولا خلاف، وقد قال من أراد عقد مسائل الباب: كل جناية تُبقي شيناً، فالمعتبر في حكومتها الشين، وإن كانت لا تبقي شيناً ولم تكن بحيث تؤلم في الابتداء، فلا يتعلق بها حكومة، وإن كانت تؤلم في الابتداء ولا تبقي شيناً، ولا ألماً آخراً، فهذا محل الخلاف في أن الحكومة هل تجب أم لا؟
ثم إن أوجبناها، ففي مقدارها الخلاف الذي ذكرناه، وسنجيب عنه، إن شاء الله عز وجل.
وهذا ليس بضبطٍ كامل في محل الخلاف.
ونحن نذكر منه مسائل أُخر، ثم نحرص على الجمع: قال الأئمة: إذا قلع إنسان سنّاً شاغية، وكانت تزيد قيمته بالقلع، فهل يجب بهذه الجناية شيء أم لا؟ فعلى وجهين. ثم إن أوجبنا شيئاً، ففي اعتباره ومقداره الخلاف، وكذلك لو قطع إصبعاً زائدة، ولم ينتقص بها منفعة، وذلك قد يزيد في قيمة العبد، ففيه الخلاف، وذكر الأصحاب إفساد منبت لحية المرأة.
فهذا مجموع المسائل.
10668- فخرج مما ذكرناه أن الجناية التي تُبقي شيناً ونقصاً موجبها في الفنون التي نحن فيها الحكومة، واعتبارها بحالة الاندمال.
وكل جناية تُبقي شيناً في الخلقة، ولكن لا تفضي إلى نقصان في المنفعة أو الخلقة، ففيها الخلاف.
وما لا تزيل خلقة ولا تعقب شيناً ونقصاً، فإن كانت لا تؤلم إيلاماً به مبالاة فلا يتعلق بمثل هذا شيء.
وإن كانت تؤلم ابتداء إيلاماً ظاهراً، ثم لم تعقب نقصاناً وشيناً آخِراً، ففيه الخلاف. فهذا حصر هذه المسائل.
10669- وعندي في ذلك بقايا: منها أن الذي لا يزيل خِلقةً، ولا يُعقب نقصاً لا يكفي فيه أن تكون مؤلمةً ابتداء، ولكن ينبغي أن يكون غيرَ مأمون العاقبة، ثم إذا اتفقت السلامة، فلا يُدرأ الضمان بالكلية، وإنما شرطت هذا حتى يكون للكلام ثبات. ويقال: يجوز أن يَنْقُصَ وقد يبرأ من غير بقاء نقص، فيقال: من جُرح وكان بحيث لا يقطع الناظر أنه يبرأ من غير نقيصة، بل كان يتردد، فكم قيمة عبد هذا نعته؟ فالخطر يَنْقُص من قيمته.
ثم يجوز أن يقال-على بُعدٍ- ذلك النقص المعلّق بالغرر لا يزول، وإن زال الغرر وانتفى النقص، وهذا الذي ذكرناه احتمالٌ؛ فإن الغرر طَرْدُ حكم الظن إذا زال، واستعقب الأمن أن يزول حكمه، ولكن ما ذكرناه معقول على حال، وإذا علل باحترام الآدمي وامتناع تعطيل ما فيه غرر، كان كلاماً بعيداً.
10670- ومما أجراه الأصحاب في ذلك أن لحية المرأة إذا أفسد الجاني منبتها، ولم يَشِنْها، بل زادها جمالاً، وأزال عنها شَيْناً، فإذا رأينا إيجاب الحكومة تفريعاً على الوجه البعيد، فلا طريق إلا في تقدير هذه اللحية بغلام، ثم ننظر إلى النقصان إذا زالت اللحية، فنوجب في المرأة هذا الاعتبار. ولا حاصل لقول من يقول الالتحاء ينقُص قيمَ المُرد من الغلمان؛ فإن ما ذكرناه في لحيةٍ تنبت في أوانها، وعدم اللحية في الرجال في أوان نباتها نقص بيّن وشينٌ ظاهر، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "سبحان من زيّن الرجال باللحى والنساء بالذوائب".
ثم الذي نراه في مثل ذلك أن نضبط النقصان في الرجال، ثم نحط عنه أرش لحية المرأة؛ فإن التسوية بين من تشينه اللحية وبين من تزينه اللحية أمرٌ خارج عن الاعتدال، ثم لست أجد ضبطاً في مقدار الحط، وليس الرجوع إلا إلى بوادر خاطر المجتهد. ويعسر هذا. ولم يعتبره الأصحاب، ونزلوا لحية المرأة منزلة لحية الرجل، وهذا بعيدٌ وكل ما نخبط فيه، فسببه أنه تفريع على أصلٍ فاسد.
والقياس الحقُّ أن كل جراحة لا تنتهي إلى نقصٍ، لا يتعلق بها موجَب.
ثم قال الأصحاب: ما ذكرناه من الخلاف في هذه المسائل إنما يجري في الحر المجني عليه.
10671- فأما إذا كان المجني عليه عبداً، وقد جُرح ولم تعقب الجراحة في انتهائها نقصاً وشيناً، فلا يجب على الجاني شيء؛ فإن المعتبر فيه النقصان، ثم الحر معتبر به بعد تعديل النسبة، والعبد نفسه لا يتجه فيه ضمان، إذا لم يتحقق به نقصان.
والذي أراه في ذلك أن هذا يخرّج على القولين في أن الواجب من العبد ما ينقص من قيمته، أم نقول: تتقدّر أروش جراحِه (بجزءٍ من قيمته نسبته إليها نسبةُ الواجب في الحر إلى ديته)؛ فإن قلنا: المعتبر فيه النقصان، فلا يجب في هذه الجراح شيء إذا لم تُفضِ إلى نقصان وكذلك القول في الجناية على البهائم. وإن كنا نثبت أروشاً مقدرة في جراح العبد، فنقول: في يديه تمام قيمته، وإن لم ينقص من القيمة إلا نصفها، فهذا القياس يقتضي أن نوجب في الجرح الحكومة وإن لم يُفض إلى نقصٍ أصلاً.
وهذا تأسيس القول في أصول الحكومة.
10672- ثم عزا الأئمة رضي الله عنهم إلى الشافعي رضي الله عنه جملاً من أعضاء الحكومة، فنذكرها اتِّباعاً: ففي العين القائمة حكومة، لا تبلغ ديةَ العين المبصرة.
وفي اليد الشلاء، والرِّجل الشلاء حكومةٌ، والشللُ يبين بالقَحَل وذبولِ الجلد وسقوط الحركة بالكلية، ومن آثار الشلل أن تُبسَطَا ولا تقبلا الانقباض، أو تنقبضا ولا تعودا للانبساط.
ولا تكون يد المفلوج على هذا الحد في الاستحشاف، والشللُ يقع في العضو ويخرجه عن الاستعداد للانطباع، ويد المفلوج لا نقص فيها، وإنما النقص في القوة الإرادية، وقد يفرض في الأعصاب المحركة، والرُّبُط، والأوتارُ التي على العضل أغلال يتأتى الانتقاص منها للمعالجات، فما كان كذلك لا يكون منتهياً إلى حد الشلل.
وأنا أقول: في هذا العضو الصحيح: إذا سقطت منفعته الكبرى بسبب اختلال عضوٍ آخر فلا تجب دية ذلك العضو؛ فهذا بمثابة ما لو كُسر صلب الإنسان فيمتنع عليه المشي لا محالة، والمنفعة العظمى في الرجل المشيُ، ثم لا يجب على كاسر الصلب دية الرجلين، وإن عطّلهما بما فعل. هذه منزلة.
وفي معارضتها الشلل المحقّق وهو استحشافٌ يقع في العضو، كما وصفناه، يخرجه عن التأثير والانطباع، وبينهما يد الفالج، فإذا أطبق أهل البصر على أنها لا يعود عملها، واليد صحيحة، فإذا كان الخلل في الأعصاب من جهة تمددها واسترخائها، فلا يبعد إلحاق العضو بالشلل، وفيه احتمال وتردد بين ما ذكرناه وبين تعطل الرجل بكسر الصلب.
وإن قال أهل البصر: الخلل كله في الدماغ، فيظهر تشبيه ذلك بكسر الصلب مع الرجلين.
ثم إذا سقطت الحركات من اليدين والرجلين ورأينا ذلك خللاً في الأعضاء وشللاً، فنوجب حكومة لكل الأعضاء.
وإن رأينا صرفَ ذلك إلى الدماغ، فتجب دية واحدة؛ لأن الجناية أبطلت القوة المحركة، وإذا كان يجب في إلسمع إذا أزيل، وفي الشم ديةٌ، فإزالة القوة المحركة بالدية أولى.
هذا قولنا في اليد الشلاء، وما في معناها.
ثم واجب اليد الشلاء لا يبلغ ديةَ يدٍ، ولا يبعد أن يزيد على دية إصبع، فإنا فرضنا الشلل في الأصابع والكف، فليقع اعتبارها بجملة دية اليد.
وفي الكف التي لا أصابع عليها حكومة، واختلف أصحابنا في أنها تُحَط عن دية إصبع، أو تحط عن دية يد، فمنهم من قال: هي محطوطة عن دية إصبع، وهذا هو الأظهر، والكفان محطوطتان عن ديتي أصبعين، ومنهم من قال: حكومتها محطوطة عن دية يدٍ؛ فإن غَنَاءَها ومنفعتها تزيد على منفعة إصبع دفعاً وأخذاً وقبضاً.
10673- والشعورُ بجملتها إذا أفسدت منابتها، ففيها الحكومات؛ خلافاً لأبي حنيفة. ثم بيان أقدار الحكومات ما ذكرناه.
وإذا أزال لونَ عضو بأن ضربه، فاسودّ أو اخضرّ، فموجبه الحكومة، ومذهبنا أن المعتمد في إيجاب الأروش المقدرة المنافعُ على الجملة، ثم لا تتعلق أيضاً بكل منفعة، فأما الجمال المحض إذا أزيل، فلا يتعلق بإزالته أرشٌ مقدر، وأبو حنيفة قد يعتمد الجمال المحضَ في إيجاب الدية، وهذا معتمده في إيجاب الديات في صنوف من الشعور.
10674- ومما يغمض في أصول الحكومات، والمقرّر من بناء الأمر على المنافع أن الأصحاب أكملوا الدية في أصابع الرجلين، كما أكملوها في أصابع اليدين، مع العلم بالتفاوت بين الأصابع والأصابع في المنفعة؛ إذ معظم عمل الآدمي بأصابع يديه، وأصابع الرجلين لا تدنو من أصابع اليدين، ثم الإشكال الأظهر أنهم أوجبوا في القدمين إذا قطعت أصابعهما ما أوجبوه في الكفين، ولا يخفى أن المشي يبقى ما بقي القدمان، ولا يسقط بسقوط أصابع الرجلين إلا الإسراع في المشي، وأين يقع هذا من الاحتواء والقبض والبسط وتعاطي آلات العمل المتعلقة بأصابع اليدين؟ ولكن هذا يخرّج على اتّباع الأصول الكلية، وترك التفريع على ضبط الأقدار.
ولهذا الأصل أوجبوا في الأذنين على الرأي الظاهر ما أوجبوه في العينين، وإن كانت منافع الأذنين لا تقع موقعاً إذا نسبت إلى منافع العينين واليدين، ولكن لما عسر ضبط أقدار المنافع حَسم الشرعُ النظرَ إليها، وأجرى الأجناس من الأعضاء مجرىً واحداً في تكميل الدية.
هذا ما أردنا بيانه في أصول الحكومة.
10675- ثم قال الشافعي: "وفي الترقوة جَمَلٌ، وفي الضِّلَع جَمَلٌ... إلى آخر الفصل".
ذكر الشافعي رضي الله عنه في موضعٍ أن الترقوة فيها جمل، وفي الضِّلع جمل، وقال: قلّدتُ فيه عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه أوجب في كل واحد منهما جملاً، وقال في موضع آخر: فيهما حكومتان على أصول الحكومة، وجعل المزني في المسألتين قولين، وأخذ يوجّه الحكومة، واختلف أصحابنا: فمنهم من وافق المزني، وجعل المسألة على قولين: أقيسهما- إيجاب الحكومة.
والثاني: إيجاب المقدار تأسياً بقضاء عمر رضي الله عنه.
ومن أصحابنا من قطع بالحكومة، وجعل قضاء عمر حكومةً وافقت جَملاً، وحمل نصَّ الشافعي على هذا المحمل، وهذا هو المسلك المرضي الذي لا يسوّغ غيره.
وقد روي: "أن زيدَ بنَ ثابت أوجب في العين القائمة مائةَ دينار"، ثم لم يذهب أحدٌ من الأصحاب إلى أن المائة تقدير في العين القائمة.
والوجه القطع بأن ما ذكره في الترقوة والضِّلع مآلٌ في الحكم، وليس تقديراً مثبوتاً يجب اتباعه، وقد يجوز لمن يسلك طريق القولين أن يشبه أقضية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحكومات أنها متبعة كما اتبعت أقضيتهم في إثبات أمثال الصيود، ولم أسمع أحداً يُجري القولين في العين القائمة؛ لمذهب زيد بن ثابت؛ ولعل السبب فيه أن ذكر الدنانير مشعرٌ بالتقريب والاجتهاد، بخلاف ذكر الجَمَل؛ فإنه بالتوقيف أشبه. والعلم عند الله.
10676- ثم قال رضي الله عنه: "ولو جَرحه، فشان وجهَه... إلى آخره".
إذا جرح رأسَه وأوضحها، وشان ما حواليها، فلا يجب إلا أرشُ موضِحة، فإن متصل الشين لو كان إيضاحاً، لما وجب في الموضِحة وإن استوعبت الرأس إلا أرشٌ واحد، فالشين المتصل لا يزيد على الإيضاح، ولو كان مكان الشين إيضاح، لما وجب إلا أرش موضحة واحدة.
ولو اتسع الشين حتى انتهى إلى القفا، فهذا ما تردد فيه أصحابنا: فمنهم من قال: لا يجب فيه إلا أرش الموضحة، كما لو لم يبعد الشين من محل الإيضاح.
ومن أصحابنا من قال: يُفردُ الشين، فإنه تعدى محلَّ الإيضاح، ونحن إنما أتبعنا الشينَ الإيضاحَ، لأنا قدرنا إيضاحاً بدل الشين، فوجدنا الأرش يتّحد في الإيضاح، ونزلنا الشين الذي هو الأدنى منزلة الإيضاح الذي هو أعلى، وهذا لا يتحقق إذا كان الشين على القفا، ولا يتحقق هذا أصلاً.
هذا إذا كان الجرح على الرأس، وكان مقدَّر الأرش كالموضِحة.
فأما إذا كانت الجراحة على الرأس، وكانت متلاحمة، فهذا ينبني على أن أرش المتلاحمة هل يتقدّر أم لا؟ وفيه قولان ذكرناهما، مبنيان على أن القصاص هل يجري في المتلاحمة. فإن قلنا: إن أرش المتلاحمة يتقدر، فإذا ظهر شينٌ حوالي الجراحة، فقد اختلف أصحابنا على وجهين: منهم من قال: نُتبع الشينَ المتلاحمة، كما أتبعنا الشينَ الموضِحة؛ فإن الجراحتين متساويتان في تقدير الأرش، ولو اتسعت المتلاحمة، كان كما لو اتسعت الموضِحة.
ومن أصحابنا من قال: لا نتُبع الشينَ المتلاحمة، وذلك أنا، و إن قدّرنا أرشها؛ فإنا في تقدير الأرش على ظنٍّ وتخمين؛ فإنا نقدّر سمك الجراحة، وهذا لا يتوصّل إليه إلا باجتهاد وفكرٍ، فيجب إلحاق هذه الجراحات بجراحات الحكومة التي لا تتقدر أروشها.
10677- ونحن نذكر الآن تفصيلَها، فنقول: إذا كانت الجراحة في موضع لا يتقدر أرشها، فظاهر النص أن الجراحة إذا شانت ما حواليها، فننظر إلى الأكثر إذا اندملت الجراحة: فإن كان الجرح أكثرَ من الشين، أوجبنا موجَبَ الجرح، وإن كان الشين أكثر أوجبنا حكومة الشين.
وهذا النص مشكلٌ جدّاً؛ وذلك أن الجراحة إذا اندملت، وظهر شين حواليها، كتغير لون، أو استحشافٍ، فالمصير إلى الفرق بين الجراحة والشين لا معنى له، فإن الجراحة إذا اندملت، فمحلها-إذا بقي الأثر- شينٌ، ينطلق على أثرٍ مُتكَرَّه يؤثِّر مثله في نقصان القيمة، ثم إنه ينقسم، فقد يكون تغيّر لون، وقد يكون نحولاً واستحشافاً، وقد يكون ثُغرة تبقى، ولا ينبت اللحم فيها، وقد يكون تغيّرَ لون، وقد يكون لحمةً زائدة، فهذا كله يسمى شيناً، فإذا اندملت الجراحة، وبقي في موضعها أثر وحواليها شين، فهذا التفصيل فيه لبس؛ فإن كل شين وإن اختلفت صفاته، فالوجه المقطوع به أن السراية إذا انتهت، وبقي الأثر، فتجب الحكومة في الأثر الباقي، وليس للإتْباع وذكر الأقل والأكثر معنى، وقد اختار القاضي هذا المسلك، وهو الذي لا يجوز غيره.
10678- ثم نسرد ما ذكره الأئمة: قالوا: ننظر إلى أثر الجرح، يعني ما بقي على محل الجراحة من نقصان عن الاستواء أو زيادة على اعتدال الخلقة، وننظر إلى الشين حوالي الجراحة، فإن كان أثر الجرح أكثر حكومة، أوجبنا تلك الحكومة، وأتبعناها حكومة الشين المتصلِ بالجراحة.
وإن كان موجب الشين الذي هو حوالي الجراحة أكثر من حكومة الأثر الباقي في موضع الجرح، فنوجب حكومة الشين، ونتبعُها حكومةَ الجرح، هكذا ذكره الصيدلاني وشيخي أبو محمد رضي الله عنه.
والممكن في توجيه ذلك أن الجرح إذا انتهى وبقي أثره، وظهر شَيْن حواليه، فهذا بمثابة ما لو قطع إصبعاً شلاء، وأوجبنا فيها الحكومة، فهل يستتبع ذلك الإصبع قسطاً من حكومة الكف؟ فيه اختلاف وتردد، تقدم ذكره في كتاب الجراح، فيجب أن يكون الجرح وموضعه بمثابة الإصبع الشلاء، والشين المتصل بمثابة ما ذكرناه من جزء الكف، وهذا يخرج على القاعدة التي قدمنا تمهيدها، وهي أن موجَب الحكومة هل يستتبع الحكومة أم لا؟ وفيها التردد الذي ذكرناه، والدية قد تستتبع الحكومة كالأصابع، قد تستتبع الكف.
ثم ينشأ مما ذكره الأصحاب في الجراحة والشين أن الشين إذا كانت حكومته أكثر استتبع الجرح، ويخرج من ذلك أن المقدار الذي يقابل الإصبع الشلاء من الكف إذا كانت حكومته أكثر من حكومة الإصبع الشلاء، فيجب أن تكون حكومة ذلك الجزء من الكف تُسقط حكومةَ الإصبع الشلاء، فإن المسألة مفروضة فيه إذا قطع الإصبع، وذلك القدر الذي يقابله من الكف، وهذا التفصيل لابد منه، والجرح والشين بمثابة الإصبع الشلاء مع القدر الذي يقابلها من الكف إذا قدر القطع فيهما.
10679- وانتظم مما ذكرناه في مسألة الجرح والشين خلافٌ بين الأئمة: الصحيح- أن نرفع طريق الإتباع بالكلية، وننظر إلى أثر الجرح والشين، ونوجب الحكومة في الجميع، وهذا يناظر قولَنا: إنا لا نتبع الكف الأصابع الشلاء، بل نوجب الحكومة في الجميع.
والوجه الثاني- أنا نتُبع الأقلَّ الأكثر من الشين والجرح، ويطرد هذا في الكف والإصبع، فنُتبع الأقلَّ الأكثرَ.
ثم يعترض في هذا المنتهى أنه لو فرض استواء حكومة الشين وموضع الجرح، والتفريع على أنا لا نوجب حكومة الجميع، بل نُتبعُ. هذا فيه احتمال، والظاهر أنا نوجب الحكومتين، وإن فرعنا على الإتباع؛ فإنه ليس أحدهما أولى بالإتباع من الثاني، والأظهر ما تقدم.
والمسلك الحق الذي لا يستدّ غيره إيجاب الحكومتين في الصور كلها.
هذا تمام الكلام في قواعد الحكومات.
فصل في نوعين
10680- أحدهما- في ذكر موجبات قد تشذّ وتنسلّ عن ذكر الفقه.
والثاني: في ذهاب منفعة عضو والجنايةُ على غيرها. فأما النوع الأول، فقد تقدم ما تتعلق به الديات في الجراح وهذا الكتاب، ولكنا نذكر ما نرى ذكره، فإن كنا ذكرناه فيما تقدم، لم تضرّ الإعادة.
فمما نورده أنه لو أذهب ماءه ومنيّه، التزم الدية، ولو أذهب شهوته للوقاع، فقد قال الأئمة: يجب في انبتات الشهوة الديةُ، فهذا يدل على أن إذهاب الشهوة مع بقاءالماء يوجب الدية.
وهذا لا يتصوّر؛ فإن المني إذا كان باقياً، فيبعد إذهاب الشهوة، وإن بعد أن نتبين أن الجناية هي التي أثرت في إذهاب الشهوة، حتى يناط به الدية، ويجب أن يقال: إذا ذهب بالجناية شهوتُه للطعام، تجب الدية، بل هذا أولى إن صح تصوّرُه والوصولُ إلى درك إبطاله بالجناية، والله أعلم.
ولو ضرب لِحْييه، فأذهب منفعة المضغ، وجبت الدية، وإن بقيت اللحيان والأسنان، وهذا واضح. وهو بمثابة ما لو جنى على اليد، فأشلها.
ولو كسر رقبته، فكان لا ينساغ الطعام والشراب، فتجب الدية حكماً لها.
ولو جنى عليه، فأذهب صوته، فالدية التامة وإن بقيت مخارج الحروف، وعندي أني ذكرت هذا في مسائل الكلام، وهذا واضح. ولو قيل: تعطل الكلامُ بإذهاب الصوت، فهل تزيدون على دية واحدة؟ قلنا الغرض الأظهر من الصوت الكلامُ، فكأن الدية إنما وجبت لأجله، والكلامُ معنيٌّ في وجوه: منها أن اللسان إذا قطع، فالدية تكمل بسبب الكلام، ولو عطلت الحروف بسببٍ آخر سوى قطع اللسان، فالجواب كذلك، وإذهاب الصوت من أسباب تعطيل الكلام.
10681- ومما ذكره الشيخ أبو علي رضي الله عنه نه لو سلخ الرَّجُلَ من قَرْنه إلى قدمه، لوجبت الدية الكاملة، ثم قال: فلو فرض قطع اليدين بعد هذا مثلاً، فسلْخُ الجلد يوزع بالتقدير والمساحة على جميع اليدين حتى يتبين مقدار كل عضو منه، فيحط حصته من اليدين، فنوجب الدية على قاطع اليدين إلا المقدار الذي يخص الجلد المسلوخ، هكذا ذكره رضي الله عنه، ولم أره إلا له.
10682- ومما يتعلق بتتمة هذه الفصول التي ذكرناها أنه إذا أزال معنىً من هذه المعاني ظاهراً، وقال أهل النظر: إنه سيعود على قرب، فننتظر. وإن قالوا: يعود بعد زمان طويل، ولم يضربوا في ذلك مدة، ولكنهم أطلقوا إمكان العَوْد، فالذي وجدته للأصحاب في ذلك أنا نوجب الأرش، ثم إن فرض العَوْدُ، رددناه، وعلى هذا يجري زوال البصر وغيرُه، في مثل الصورة التي ذكرناها، وهذا ذكره صاحب التقريب على هذا الوجه، وهو متجه لا يسوّغ غيره. والله أعلم.
ولو ضربوا مدةَ إمكان العَوْد، فقد قيل: لابد من انتظارها، وهذا يجب أن يفصّل: فإن ذكروا مدة يغلب على الظن انقضاءُ العمر في مثلها-وتصوير ذلك بعيد- فالوجه إيجاب الأرش، كما لو أطلقوا، ولم يضربوا مدة. وإن ذكروا مدة يقرب رجاء البقاء إلى مثلها، فلا يبعد الانتظار والحالة هذه.
10683- ومما يتعلق بذلك أنه إذا أذهب منفعةً لا يتصور معها طول البقاء، وقد قيل: لا يتصور البُرء، ففي هذا فضل نظر وتدبّر، ويفرض فيه إذا كان الطعام والشراب لا ينفذان-والمجنيُّ عليه لا يبقى إذا كان هكذا- فهذا فيه نظر، وقد تقرر أنه لو قطع اليدين والرجلين، فسرت الجراحات إلى النفس، صارت نفساً، ولم يجب إلا دية واحدة، فماذا نقول في امتناع نفوذ الطعام والشراب؟ يجوز أن يقال: إذا أفضى إلى الموت بسبب الجوع والعطش، فهذا بمثابة سراية الجراحات؛ حتى لا تجب إلا دية الجملة، ويجوز أن يقال: ليس ذلك من قبيل السراية، فيجب دية في إفساد هذه المنفعة، أو في كسر الرقبة، وتجب دية في إزهاق الروح على تخريج ابن سريج؛ فإنه يقول: من قطع يدي رجل، ثم حزّ رقبته، وجبت ديتان، وهذا هو القياس.
وإن فرعنا على النص، فلا شك أنه تجب دية واحدة، فإنه لو قطع أطرافه ثم قتله، لم يلزمه على النص إلا دية واحدة، وامتناع وصول الطعام إليه بمثابة قتله إياه، والمسألة محتملة جداً. ونصُّ الأصحاب على إيجاب الدية بسبب إفساد هذه المنفعة- مع القطع بأن البقاء لا يطول مع امتناع نفوذ الطعام والشراب- دليلٌ على أنهم اعتقدوا أن هذه الدية لا تندرج تحت دية الروح والعلم عند الله.
فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
10684- فأما الكلام في إسقاط منافعَ بسبب جنايات على أعضاء فكل منفعة كانت في عضوٍ، فإذا فرضت الجناية على العضو، لم يَخْفَ أن المنفعة لا تفرد بديةٍ؛ إذ الدية إنما تجب في ذلك العضو بسبب تلك المنفعة، وهذا بمثابة البطش في اليد، والبصر في العين، فأما إذا قطع الأنف وأزال الشم، فديتان، ولا إدراج؛ فإن لطيفة الشم ليست في الأنف، وكذلك إذا قطع الأذنين وأزال السمع، أو ضرب الرأس، فأزال البصر.
واختلف الأئمة في مسائلَ نذكرها، ثم أقرّب القول جهدي فيها: قالوا إذا كسر صُلبَه، فأزال منيّه، ففي المسألة وجهان، وهذا الخلاف بنَوْه على اعتقادهم أن مقرّ الماء الصلب أخذاً من قوله تعالى: {بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} [الطارق: 7] ولست أرى الأمر على التردد في أن الدية تعدد، فإن المنيّ لو كان من منافع الظهر، لما وجب على من كسر صلب إنسان لا منيّ له الدية، كما لو قطع يداً شلاء، أو فقأ عيناً عمياء، ولا خلاف في وجوب الدية.
10685- ومما ردد الشافعي رضي الله عنه قوله فيه زوالُ العقل، فقال: إذا قطع يدي رجل أو رجليه أو ما يفرض من الأعضاء، فزال العقلُ، فهل نُدرج حتى لا نوجب إلا ديةً واحدة؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنا لا ندرج، وهو الذي لا ينساغ في مسلك المعنى غيرُه؛ فإنا نقطع بأن العقل ليس من منافع اليدين، وهما من الأعضاء الظاهرة.
والقول الثاني- أنه لا يجب إلا دية واحدة؛ فإن العقل لا يُدرَى محلُّه على التعيين، فمهما زال بسبب الجناية على عضو، وجب سلوك طريق الإدراج فيه، ثم إن قطع يديه، فزال العقل، فدية واحدة، وإن قطع إحدى اليدين، فزال العقل، وجبت دية واحدة، فندرج الأقل وهو أرش يدٍ تحت الأكثر وهو الدية الكاملة.
وهذا القول ضعيف؛ فإن محل العقل بين القلب والدماغ لا يعدوهما، فكيف يفرض الإدراج في الأعضاء الظاهرة، ولكن القولان مشهوران، كما ذكرنا.
فهذه جمل ترشد إلى المقاصد في هذا الفن، والله أعلم.
10686- ويخرج منها أن كل منفعة لو زالت، لصار العضو عضو حكومة، فهي تستتبع العضو لا محالة، وكل منفعة تحققنا أنها في محلٍّ سوى العضو المجني عليه كالشم والأنف، فلا يكاد يخفى أن لا إدراج فيه، وإذا ظهر على الجملة محل كون منفعة في عضو، ولم يتحقق تحقّقَ كون البطش في اليد، والبصر في العين، وكان العضو الذي فيه النظر تكمل الدية فيه دون تلك المنفعة، فقد يختلف الأصحاب في مثل ذلك، كالمني والظهر، وأما العقل، فليس لي فيه إلا حكاية القولين، وإلا فالعقل أبعد عن اليدين من الشم عن الأنف، والله أعلم.
فصل:
"ودية اليهودي والنصراني ثلث الدية... إلى آخره".
10687- الكفار في غرضنا ثلاثة أقسام: منهم من له كتاب، وهم اليهود والنصارى، فدية الرجل منهم ثلثُ دية المسلم عندنا، وأبو حنيفة يوجب مثلَ دية المسلم، ومالك يوجب نصف دية المسلم، وقد ذكرت في (الأساليب) وغيرها مسلكَ المذهب وطريقَه، ثم لا خلاف أن الذمي والمستأمنَ ذا العهد المؤقت في هذا بمثابة واحدة.
وقد قيل: السامرة من اليهود، فإن لم يكونوا معطِّلة، فديتهم دية اليهود، وقيل: الصابئون من النصارى، وإن صح ذلك، فديتهم ديةُ النصارى، وقد استقصيت القول في ذلك في كتاب النكاح.
والقسم الثاني- من له شبهة كتاب، وهم المجوس، فدية المجوسي خمس دية اليهودي، وإن أردتَ، قلت: دية المجوسي خمس ثلث دية المسلم.
والقسم الثالث من الكفار- من ليس له شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان، ولا يتصور لهم عهد مؤبد، وإنما يعرض الضمان فيهم إذا كانوا مستأمنين، قال الأئمة في الزنديق المعاهَد دية المجوسي، فلا أقل منه، وإذا تعذر الإهدار لمكان العهد، ولا سبيل إلى الحط من أقل الديات، وهو دية المجوسي؛ إذ لا توقيف معنا في الحَطِّ من هذا المبلغ، فهذا هو الجواب.
ولا يُفرض للمرتد عهد، بل هو مقتول بكل حال، وإن تحرف طائفة من المرتدين، ومست الحاجة إلى مراعاة طرف الإيالة منهم من ترتيب إقامة الحرب، فإذا أتانا رسول منهم، فإنا لا نتعرض له، فإذا قُتل، فلا ضمان أصلاً، وكان شيخي أبو محمد رضي الله عنه يتردد في الزنادقة إن لم يسبق منهم التزام الإسلام أصلاً، ولا يُبعِد أن يُلحقوا بالمرتدين في جميع أحوالهم، وكان يقول: يحتمل أن يكونوا كعبدة الأوثان في إيجاب أصل الديات في معاهدتهم، والعلم عند الله.
10688- فأما الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام، فلابد من تفصيل المذهب فيهم بعد قول الشافعي: "لم يبق من لم تبلغه الدعوة" ولكنا صورنا ذلك على بُعد حَمْلاً على اتساع الدنيا، فسبيل التفصيل فيهم أن نقول: من كان متمسكاً منهم بدين من أديان النبيين، ولم تبلغه دعوة تخالف ما عليه، فلا يجوز التعرض لهم قَبْل الدعوة أصلاً، فلو قتل قاتلٌ واحداً منهم قَبْل الدعوة، فقد قُتل سعيداً في ظاهر الحال، فإنه كان متعلقاًً بدين الحق، ولم يبلغه دعوةٌ أخرى، حتى يُتبين إنكارٌ منه أو قبول. قال القفال: إذا كان القاتل مسلماً، توجه القصاص، فإن المقتول ليس بكافر.
وذهب غيره إلى أن القصاص لا يجب؛ لأنه وإن لم يكن موصوفاً بالكفر، فليس موصوفاً بالإسلام قبل التزامه، فإن أوجبنا القَوَد، فلا شك أنا نكمل الدية، وإن لم نوجب القود، ففي الدية وجهان:
أحدهما: نوجب الدية الكاملة.
والثاني: أنا نوجب دية أهل الدين الذي هو عليه، فإن كان على دين موسى، فثلث دية المسلم.
وإن لم يكن متعلقاًً بشريعةٍ، ولكن ما كانت الدعوة بلغته من ملة من الملل، فالوجه القطع بنفي القصاص.
ونقل المعتمدون عن القفال إيجابَ القصاص على المسلم بقتله، وفيه بُعد في هذا المقام. فأما الدية، فقد حكى الأصحاب نصين عن الشافعي:
أحدهما: أنه تجب الدية الكاملة.
والثاني: يجب أقل الديات، وهو دية المجوسي، فمن أصحابنا من أجرى القولين على ظاهر اختلاف النصين، وتوجيههما: أنا في قولٍ نقول: سعيدٌ معذور، وفي قولٍ نقول: لا تعلق له بدين أصلاً.
ومن أصحابنا من قال: ننزل النصين على حالين، فحيث أكمل الدية أراد إذا كان متعلقاًً بدين حق، لم يُغَيَّر، وحيث نوجب أقل الديات أراد إذا لم يكن متعلقاًً بدين أصلاً.
10689- ونحن نوضح بعد ذلك قسماً آخر وبه تمام البيان، فنقول: إذا صادفنا هؤلاء متعلقين بدين موسى مثلاً، وكان الدين مغيّراً، فإذا لم تبلغهم دعوةُ نبينا عليه السلام، فالوجه أن نُبلغهم الدعوة، فإن قتل المسلمُ واحداً منهم قبل الدعوة، فلا قصاص مذهباً واحداً، لتعلقهم بالدين المغيَّر، وأما الدية، ففيه احتمال وتردد: يجوز أن يقال: لا يجب الضمان أصلاً، إذ لا عهد ولا ذمة، فهم في منزلة الحربي، وإن امتنعنا من قتلهم، فهو بمثابة انكفافنا عن قتل نساء أهل الحرب، وذراريهم ثم لو قُتلوا، فلا ضمان أصلاً.
ويجوز أن يقال: على من قتل واحداً منهم قبل الدعوة الضمان، وهو ظاهر النص؛ فإن امتناع قتالهم ينزل منزلة العهد لهم، وليسوا كالنساء من الحربيين، فإنا انكففنا عن قتلهم من جهة أنا رأينا الاشتغال بالمقاتِلة أهمّ، ورأينا استنماءهن للاسترقاق، وا لأطقال يجرون معهم.
ثم إن أوجبنا الضمان، فظاهر النص يشير إلى أنا نوجب أقلَّ الديات، وإن كان متعلقاًً باليهودية التي عليها اليهود، لضعف سبب الحرمة والانكفاف، والظاهر عندي إيجابُ دية يهودي إن صح القول بالضمان. فهذا تفصيل القول في الذين لم تبلغهم الدعوة والله أعلم.
فصل:
قال: "وبقول سعيد بن المسيب أقول: جراحُ العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته... إلى آخره".
10690- قد ذكرنا أن العبد إذا قُتل، فهو مضمون بقيمته بالغةًَ ما بلغت، ولو زادت على ديات، ومقصود الفصل الكلامُ في أروش الجراح على العبد، فالمنصوص عليه للشافعي في الجديد أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، ففي يديه كمال قيمته، وفي اليد الفردة نصف القيمة، وفي موضِحته نصف عشر قيمته، وفي أنملة من مسبّحته ثلث عشر قيمته، وهذا مطرد في الجراح، بلا مناقضة. وخرّج ابنُ سريج قولاً للشافعي في أن الواجب في جراحه ما ينقص من القيمة، وسبيل الجراح عليه كسبيل جرح البهائم، وهذا أخذه ابن سريج من قول الشافعي في أن العاقلة لا تحمل قيمة العبد المقتول خطأ، كالبهائم، وقد نص الشافعي على ما خرّجه في القديم، فحصل في المسألة قولان.
توجيههما: من قال يجب ما نقص تعلّق بأنه مملوك مقوّم، وقيمة جملته لا تتقدر، فلتكن أطرافه كذلك. وهذا القول معتضد بالقياس المعنوي.
ومن قال: تتقدر جراح العبد، فمتعلقه الشبه الخاص؛ فإن العبد آدمي، وقد أثبت الشرع في يدي الحرّ تمام الدية، وغَناء يد العبد من العبدكغَناء يد الحر من الحر.
ثم قال الأئمة: تحمُّل العاقلة قيمة العبد على قولين، وجريان القسامة في العبد على قولين، فهذه المسائل الثلاث مجراها واحد، تقدُّر البدل، وتحمل
العاقلة، وجريان القسامة.
ومما تجب الإحاطة به في قاعدة المذهب أن القصاص يجري في العبد وفاقاً، والسبب فيه أن حرمة روح العبد توجب صونَه بالقصاص، ويتعلق بحرمته الكفارة.
10691- وإذا آل الأمر إلى أحكام المال، فأما قيمة الجملة فمردودةٌ إلى السوق؛ فإنه يتقوّم، وأما تفاصيل الأحكام في الجراح وغيرها، فعلى التردد الذي ذكرناه.
ثم إن قطع ذكر عبد وخُصيتيه، فهذا يخرج على القولين: إن رأينا تقدير أروش جراحه، فيجب قيمتان، كما تجب فيهما ديتان من الحر. وإن أوجبنا ما ينقص من القيمة، فقد لا ينقص ما جرى، بل يزيده، فقد قال بعض الأئمة: هذا يخرّج على الخلاف في شَيْن الجرح على الحر إذا لم ينقص شيئاًً في تقدير الحكومة، فهل يجب شيء أم لا؟ ثم التفصيل كما مضى.
والقياس عندي ألا نوجب شيئاًً إذا لم يظهر نقصانٌ أصلاً؛ فإنا نفرع على إلحاق العبد في ذلك بالبهائم، ولست أعرف خلافاً أن من خصى بهيمة وزادت قيمتها، لم يلتزم شيئاً إذا سلمت البهيمة.
ومن الظواهر التي نذكرها أنا إذا أوجبنا في الجراح على قولِ المقدرات، فقد يعترض في العبد ما لا يتصور في الحر، وبيانه أن العبد إذا كانت قيمته ألفَ درهم، فمن ابتدره وقطع اإحدى يديه التزم خمسَمائة، وإن نقص من القيمة أربعمائة، فإذا قطع قاطع آخر يده الأخرى، وقيمته عند قطع يده ستمائة فعليه ثلاثمائة، ومثل هذا لا يتصور في الحر؛ فإن بدله لا ينتقص.
وقد نُحْوَج أيضاًً على قول التقدير في بعض الصور إلى اعتبار النقصان، فإن من اشترى عبداً فقطع يديه في يد البائع، فلا يمكننا أن نقابل اليدين بتمام القيمة، إذ لو فعلنا هذا، لجعلنا المشتري قابضاً المبيع، وهذا يستحيل القول به مع بقاء العبد في يد البائع، فلا يتأتى من ذلك إلا اعتبار النقصان. والله أعلم. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع.
فصل:
قال: "وقيل جناية المعتوه والصبي... إلى آخره".
10692- اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن الصبي إذا عمد وقتل فهل لفعله حكم العمد أم لا؟ وأحد القولين أنه لا يثبت له حكم العمد، والثاني: أنه يثبت له حكم العمد.
توجيه القولين: من قال: لا يثبت له حكم العمد، احتج بانتفاء القصاص عنه مطلقاً من غير استثناء، ومن نصر القول الآخر، احتج بالعِيان، والعمدُ في الحقيقة يصدر عن الصبي؛ فإن العامد هو الذي له رويّة قبل فعله، وفكرُه منعطف عليه بعد فعله، وهذا يتصور من الصبي المميز، وذكر الشافعيُّ المجنونَ والصبي في قَرَن واحد فيما ردّد فيه القولَ في تصوّر العمد.
والمجنون ينقسم إلى ما له أدنى تمييز، ويتصور منه ما ذكرناه من الرويّة والفكر، فيقع منه العمد، كما صورناه من الصبي.
ثم قال الأئمة: فائدة العمد إذا وقع منه أمران:
أحدهما: وجوبُ القصاص على شريكه في القتل، ونزوله مع الشريك منزلة الأب إذا شارك أجنبياً في القتل.
والثاني: أن تجب الدية في ماله إن كان عامداً، ولا تُضرب على عاقلته، فلا يتخلف-إذا أنشأ العمدَ- فعلُه عن فعل المكلف إلا في القصاص، كما ذكرناه.
ومما يتعلق بما ذكرناه أنا إذا لم نجعل الصبي عامداً، ففعله في حكم الخطأ المحض، وفائدته ألا تتغلظ الدية على العاقلة، فإن من يتصور منه شبه العمد يتصور منه حقيقة العمد، والصبي الذي لا تمييز له أصلاً لا عمد له، وكذلك المجنون، ولا يخفى أن الصبي ذو عقل، وهو بعقله متميز عن المجنون الذي وصفناه بالتمييز، ولكن ذلك القدر كافٍ في تصور العمد حسّاً، والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو صاح برجل، فسقط من حائط... إلى آخره".
10693- إذا صاح ببالغٍ على طرف جدارٍ، نُظر: فإن كان متبيّناً متماسكاً، فواجهه رجل وصاح في وجهه عِيانا، فسقط من الحائط وهلك، فلا ضمان على الصائح أصلاً؛ فإن مثل الرجل الذي وصفناه لا يسقط من الجدار بصيحة وإن اشتدت.
وإن لم يواجهه ولكن أتاه من ورائه وتغفّله، فصاح من حيث لا يحتسب، فسقط، لم يجب القود عليه بلا خلافٍ فيه، وفي وجوب الضمان وجهان، وربما كان يقول قولان: أظهرهما- أنه لا يجب وفي بعض التصانيف: "أن من أصحابنا من طرد القولين في وجوب الضمان فيه، إذا واجهه ولم يتغفله" وليس هذا من مواقع الظنون حتى يجري التردد فيه على مسالك الظن الفقهية، وإنما يتعلق المقصود فيه بأمور تتعلق بالعِيان.
وقد مهدنا في ابتداء الجراح ما يكون عمداً محضاً وما لا يكون منسوباً إلى الجاني، وما يعد شبه عمد، وأوضحنا المعنى المعتمد في هذه الأقسام. وهذه مشتملة على سقوط شخص من غير أن يعلَقَ به آلةٌ من الجاني أو تحاملٌ منه، ولكن الإنسان في غفلاته قد يسمع صوتاً ويهتز ويرتعد، ويكون تحركه سبباً للسقوط من موضع عال لا دفعَ في موقعه، ويكون وقوع الارتعاد والخروج عن التماسك أمراً ضروريّاً لا يدفعه المقصود.
ثم رأى الأئمة أن الرجل الكبير إذا واجهه الصائح، ولم يلحقه الصوت على غفلة لا يسقط، فإن سقط، كان أمراً قدريّاً، يقال في مثله: اتفق سقوطه، وأدركه قضاء الله، ولم يكن سقوطه بسبب الصيحة، وهو بمثابة ما لو ضرب رجلاً أيِّداً بيدٍ ضربة لا يتصور أن يهلك بها، فإذا اتصل بها هلاكه، قيل: وافق الهلاك غيرَ منسوب إلى الضارب، ثم التغفّل والصيحة على غفلة مما تردد فيها الرأي، واحتمل إمكان السقوط منه، فجرى ذكر القولين، وفي طرد القولين في المواجهة لم نُبعد الارتعاد، وزوال التمسك، ولا شك أن هذا يختلف باختلاف الأشخاص، ويثبت من يثبت، ويرق الجبان الذي يستشعره في أدنى شيء.
10694- ثم قال الأئمة: إن صاح بصبيٍّ، وهو على طرف جدار: واجهه بالصيحة أو بغفلة، وجب الضمان، فقطعوا بوجوب الضمان، وذكروا وجهين في وجوب القصاص ورتّبوا الوجهين على ما إذا احتفر بئراً في مضيق كان يطرقه إنسان، ويغلب أن يقع فيه، فإذا وقع، ففي وجوب القصاص خلاف رمزنا إليه فيما تقدم، وسنعيده في مسائل البئر، إن شاء الله عز وجل.
ومسألة سقوط الصبيّ من طرف الجدار أولى من مسألة البئر في المضيق بوجوب القصاص؛ فإن التردي يقع بفعلٍ من الذي يتخطّى ويقع، والصبي إذا صيح به، أخذته هزّة ورعدة تُزيل إمساكه، فكان هذا أولى بالنسبة إلى الصائح.
وما ذكره الأصحاب في صبي لا يميز، أو كان ضعيف التمييز، بحيث يبعد منه أن يتماسك، فلو كان مراهقاً، فهو في معنى الكبير، والكبير إذا كانت تعتريه الوساوس، وكان مرعوباً بحركة أدنى شيء قد يكون في معنى الصبي.
وانقضى ما علينا في ضبط الأصول وردّ الوقائع إليها.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر أن الصور تفرض على وجه واحد، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، والتعويل على ما يقع، ثم يحكم الفقيه في كل حالة بما يليق بها، والصوت يلتحق بالضرب الذي يتعلق بالظاهر، فإن كان مما يقصد به الهلاك غالباًً، فهو موجب للقود.
وإن كان لا يغلب الهلاك منه، ولكن يمكن أن يصار إليه، فهو شبه عمد، وإن رجع التردد إلى ظن الناظر، فهذا يثور منه الخلاف، وبيانه أن الإنسان إذا كان يقطع بأن وقوع الهلاك ممكنٌ من هذا، ولم يقطع بأن هذا الواقع وقع بما جرى، فكون السبب مما يمكن وقوع الهلاك به معلوم، واتفاق الوقوع مظنون، فهذا موضع القطع، وإن وقع الفكر في أن هذا يمكن انتساب الهلاك إليه، فهذا النوع من التردد يثمر خلافَ الفقهاء، وهذا مما يجب إنعام النظر فيه.
ولو صاح على صبي، وهو على الأرض، فمات، فقد أجرى بعض الأئمة هذا مجرى السقوط عن الجدار في التفصيل، وهذا غير سديد؛ فإن الارتعاد والسقوط أظهر في الإمكان من الموت بالصوت من غير فرض سقوط.
وإذا صاح بالصبي وأزال عقله، فالأمر على ما ذكرناه، وهذا أقرب إلى الإمكان من الموت.
وزوالُ العقل والموت لا يفرضان من الكبير المتماسك؛ فإن وقع، حُمل على موافقة القدر، وليس كالسقوط من حرف الجدار؛ فإن الإمكان قد يتطرق إليه في بعض الصور.
وقد تمهد للناظر مسالك النظر.
10695- ولو طلبه رجل بسيفه، فولّى وهرب وألقى نفسه إلى ماءٍ أو نارٍ، أو ألقى نفسه من شاهق، فلا يجب الضمان في هذه المواضع؛ فإن المطلوب أهلك نفسه بفعله، والذي كان يحاذره من الذي يتبعه الهلاكُ، وقد أوقع بنفسه ما كان يحذره من المتبع، وهذا بمثابة ما لو أكره رجل رجلاً على قتل نفسه، وقال: إن قتلت نفسك، وإلا قتلتك، فإذا قتل نفسه، لم يضمنه المكرِه، لما أشرنا إليه.
ولو طلبه بسيفه في فلاة، فولّى، فتلقاه سبع وافترسه، فلا يضمنه المتبع؛ فإن هذا مضاف إلى السبع، وفعلِه، ولم يوجد من المتبع إهلاك، وليس هذا كما لو أغرى به سبعاً في مضيق، كما تقدم التصوير فيه، أو كما لو أنهشه حيّة وذلك بيّن.
ولو كان المطلوب على سطحٍ، فولّى، فسقط من السطح، قال الأئمة: إن كان المطلوب أعمى أو بصيراً، ووقع ذلك في ظلمة الليل، فهذا يتميز عما قدمنا ذكره، من إلقائه نفسه في ماء أو نار أو من شاهق، فإنه في تلك المسائل أهلك نفسه، وقصد إلقاء نفسه؛ فجرى الجواب كما تقدم، وفي هذه المسألة سقط ولم يُسقط نفسَه قصداً، ولسنا ننكر أنه بتخطيه ووضعه للرِّجل على الهواء سَقَط، ولكنه لم يقصد ذلك، فأضيف ما جرى إلى من ألجأه.
وليس ذلك بدعاً؛ وقد وضح أن من تردى في بئر محفورة في مخل عدوان فالسبب مضاف إلى حافر البئر، وإن كان المتردي هو الذي تخطى في جهة البئر حتى تردّى، فنجعل اتباع الطالب في الصورة التي ذكرناها بمثابة احتفار البئر، وهذا يؤكد كون التغرير سبباً في إيجاب الضمان، وقد أجرينا ذلك في مسألة تقديم الغاصب الطعامَ إلى إنسان في (الأساليب) وغيرها من المصنفات في الخلاف.
10696- ومما ذكره الأئمة أنه لو طلبه بسيفه، فعدا على الأرض، فتردّى في بئر، فإن كان في ليلةٍ ظلماء، فهو كما ذكرناه في السقوط من السطح، وإن كان ذلك نهاراً، فإن ردّى نفسه في البئر، فقد مضى هذا، وهو بمثابة ما لو ردّى نفسه من شاهق، وإن لم يُردِّ نفسه، ولكنه لم يتأمل البئر بين يديه، فتردّى والبئر مفتوحة، فالذي ذكره الأئمة أن الضمان لا يتعلق بالطالب وفعله، وقد ذكرنا ذلك في التردّي من السقف نهاراً.
ويعترض في هذا إشكال، وهو أن الفقهاء أطلقوا أن من تردّى في بئر محفور في محل عدوان، تعلّق الضمان بعاقلة الحافر، ولم يفصلوا بين أن يتفق ذلك نهاراً أو ليلاً، وهذا يقتضي أن يقال: إذا كان المطلوب محمولاً مُلْجأً على العَدْو، فهو لا يتفرغ والحالة هذه إلى تأمل المخطَى الذي يعدو فيه، فكان يجب أن يضاف تردّيه إلى طلب الطالب إياه بالسيف، وليس إلى الضمان بحفر البئر من غير فرق بين الليل والنهار في وقوع التردي، ولا يبعد حَمْل التردِّي على اتباع الطالب، حتى يتمهد عذر المتردِّي في ترك التحفظ.
وهذا فيه نظر؛ فليس الحمل على الهرب بأبعد من أن يكون سبباً من حفر البئر في أصله.
وإن قيل الضمان بحالٍ على حافر البئر، فهو بعيد أيضاًً؛ فإن التخويف بالسيف أحق بأن يحال عليه التردِّي من حفر البئر، فليتأمل الناظر ذلك.
وقد قال الأصحاب: لو طلبه بسيفه، فقدّر أن يتخطّى بئراً، فغطاه، فانهار فيها، فالضمان يتعلق بطلب الطالب، وهذا يدل من كلام الأئمة على أن البئر إذا كانت مفتوحة، فالتردي منسوب إلى المتردِّي من حيث ترك التصوّن، وإذا كان البئر مغطاة، فالتردِّي محال على المُلجىء الطالب.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنا إن قلنا في المتردي في البئر المحفورة: إذا تردّى نهاراً لا يضمن أو نفصل بين البصير والأعمى نهاراً، فينتظم الكلام في المسائل على نسق. والذي نتخذه مذهباً الفرق بين الليل والنهار، وبين أن تكون البئر مغطاة أو مفتوحة، وهذا متجه لا بأس به، وبقي النظر في حفر البئر والتردِّي فيه إذا انتهينا إلى مسائل البئر، أنعمنا النظر في ذلك، إن شاء الله عز وجل.
10697- ومما ذكره الأئمة رضي الله عنهم أنه لو اتبع إنساناً على سطح فولّى، فانخسف به السطح، فلا يتعلق بالطالب ضمان، بخلاف ما لو كان الهارب في الطريق، فتخطى بئراً مغطاة، فانهار، فإن الضمان يتعلق بالطالب. ثم فرق الأصحاب بأن البئر المغطاة ليست محلّ مقام وتخطٍّ، فإذا ألجأ الطالب المطلوبَ إليه، فقد تسبب إلى إهلاكه، وليس السطح بهذه المثابة، فإنه محل تردّدٍ وإقامة، فإذا اتفق الانخساف فيه، لم يكن الطالب منسوباً إلى الإلجاء إلى سبب الهلاك.
وهذا فيه إشكال؛ فإنه لاينخسف موضع في السقف-وإن أُضعف، فقد صار ذلك الموضع في معنى البئر المغطاة-ولو كنا نقول: إن علم الطالب أن على طريق المطلوب بئراً مغطاة، فحينئذ يتعلق بفعله الضمان، وإن لم يعلم، لا يتعلق به الضمان، لكان ما ذكرناه في السقف سديداً، وإن كنا لا نفرق في البئر المغطاة بين أن يعلم الطالب بها وبين ألا يعلم؛ فإنه يجدّ في طلبه متعرضاً للفداء ملتزماً بسلامة العاقبة، وهذا هو الفقه.
فقياس ذلك يقتضي أن يقال: إذا انخسف السقف لضعف موضع منه لم يشعر به، فيجب أن يتعلق الضمان بهذا الطالب، فهذا تمام الكشف في ذلك.
10698- ومما ذكره الأصحاب أن السلطان إذا هدّد امرأة حاملاً، وتوعدها بشيء بلغه منها، فأَجْهَضَتْ جنيناً، تعلق الضمان بذلك، كان هذا للإمام، فحقه في توعده بمثابة ما لو عزّر الإمام إنساناً، فهلك فيه، وسيأتي تفصيلٌ في كتاب الحدود-إن شاء الله عز وجل- وقد روي: "أن عمر بنَ الخطأب رضي الله عنه أرسل إلى امرأة بلغه منها فجورٌ وهددها، وكانت ترقَى في سلّم، فسقطت وأجْهَضَتْ. جنيناً، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاورَ. فقال عبد الرحمن: إنك مؤدِّب ولا شيء عليك، فقال علي: إن لم يجتهد، فقد غشك وإن اجتهد، فقد أخطأ، أرى عليك الغرة" وغرض هذا الفصل مما ذكرناه أن هذا مما يعد من الأسباب المؤدية إلى الهلاك.
ولو توعد رجلاً، وكان المتوعِّد مهيباً، فإذا وقع الوعيد من المتوعَّد موقعاً، وأفضى إلى هلاكه، فالضمان يتعلق به؛ فإن وقوع الهلاك من هذا السبب ليس بدْعاً، والذي يوضح ذلك ويحققه أن من أكره إنساناً على قتلٍ، فأحكام الإكراه تثبت بوعيد يصدر من المكرِه قد يفي به وقد لا يفي، ولكن إذا غلب على الظن وفاؤه به، كان بإكراهه قاتلاً، وفي المكرِه التفصيلُ المشهور.
ثم هذه الأسباب التي ذكرناها، وقضينا بكونها مضمّنة، فهي تقع شبه عمد على ما سنعيد في باب من العواقل مراتب الأفعال في وقوعها عمداً وخطأ وشبهَ عمد، ونوضح حكمَ كلِّ مرتبة، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
10699-إذا أخذ صبياً حُرّاً وتركه في مَسْبَعة ولم يقدمه إلى سَبُع ضارٍ، وتركه في مضيعة، فافترسه سبع: فإن كان الصبي بحيث يتأتى منه المشي والانتقال عن المَهْلكة، فاتفق هلاكُه في تلك البقعة، فلا ضمان على حامله، فإنه لم يُهلكه، ولم يصدر منه سبب يعد مهلكاً، وإنما الذي انتسب إليه التضييع، واليد لا تثبت على الحرّ، فامتنعت أسباب الضمان.
ولو كان الصبي بحيث لا يتأتى منه الحركة والانتقال، وقد ألقاه في مضيعة، فهلك فيها بسبع، فقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أن الضمان يجب، لأن هذا سبب ظاهر في الإهلاك عُرفاً، ولعله أبلغ من احتفار بئر في مسلك الطارقين.
والوجه الثاني- أنه لا يغرم؛ فإن اليد لا تثبت على الحر ولم يوجد منه سبب هو أهلكه.
10700- وقد ذكر العراقيون صورة متصلة بما نحن فيه، فقالوا: لو سُلّم صبي إلى إنسان سباح ليعلمه السباحة، فأخذ يعلّمه، فغرق، فالواجب الضمان متعلقاًً بأستاذه، وزعموا أن ذلك من الأستاذ نازل منزلة ما لو كان يؤدبه، فأفضى التأديب إلى الهلاك، وزعموا أن اليد تثبت على الصبي الحر، ثم قالوا: لو كان بالغاً، فهلك، فلا ضمان؛ فإن البالغ يستقل بنفسه، ولا تثبت اليد عليه.
والذي ذكروه في البالغ سديد، لا منازعة فيه، فأما ما ذكروه في الصبي، فإن ألقاه في الماء، وكان يعلمه السباحة، فإلقاؤه إياه يوجب الضمان، على تفاصيل ذكرناها في صدر كتاب الجراح، وإن أشار عليه من غير إكراه، فدخل الماء، وهو مهلك، فهذا فيه احتمال، والذي ذكره العراقيون توجيه الضمان، وشبهوه بالتأديب، وأطلقوا في أثناء كلامهم أن الصبي تثبت عليه يد الأستاذ، وثبوت اليد غير سديد، أما ربط الضمان بإلزامه التعليم وعدم الاستقلال للصبي بنفسه، فغير بعيد، وقد قالوا: إذا كان بالغاً، لم يجب الضمان أصلاً، ويحتمل أن يقال:
لا يجب الضمان في الصبي المميز في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لم يوقع بالصبي فعلاً، وإنما الصبي دخل الماء من غير إكراه، والمسألة محتملة وسنذكر في باب حفر البئر سرّ القول في الأسباب التي يتعلق الضمان بها، ونكثر الأمثلة والمسائل، إن شاء الله.
فصل:
قال: "ويقال: لسيد أم الولد... إلى آخره".
10701- ونتكلم في القن إذا جنى، ثم نذكر أم الولد إذا جَنَتْ. فأما العبد القن إذا جنى أو أتلف مالاً، فما يلزمه من المال يتعلق برقبته لا محالة، ثم السيد له مسلكان:
أحدهما: أن يسلم العبد ليباع في الجناية.
والثاني: أن يفديه. فإن أراد أن يفديه، فبم يفديه؟ فعلى قولين مشهورين:
أحدهما: أنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش أو قيمة العبد. والقول الثاني- أنه يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ وإن زاد على القيمة.
توجيه القولين: من قال: نفديه بالأقلّ وهو المنصوص عليه في الجديد احتج بأن الأرش إن كان أقل، فلا يخفى أنه لا يلتزم غيرَه، وإن كانت القيمة أقل، فلا يلتزم أكثر منها، فإنه لو سلم العبد ليباع، انقطعت الطّلبةُ عنه، فإذا أراد أن يفديه، فلا يلزمه إلا قيمة بيعه، ولم يسلمه.
ومن نصر القول القديم، فلا تعلق له إلا أن العبد لو سلم وبيع فربما يشتريه زَبُونٌ بأكثر من قيمته. فإذا منعه-ثم لا منتهى يقف عنده في توقع ما يُشترَى به- فالوجه أن نقول: يجب الأرش بالغاً ما بلغ.
10702- وقال القاضي: ينبغي أن يُتلقى القولان من التردّد في أن الجناية هل يتعلق أرشها بذمة العبد أم لا تعدو رقبتُه؟ وقد ذكر أصحابنا في ذلك وجهين:
أحدهما: أن الجناية يتعلق أرشها بذمة العبد ورقبته مرتهنة.
والثاني: أنه لا يتعلق بذمته.
ومن أدنى آثار الخلاف في ذلك أنه لو عتق يوماً من الدهر، وكان بقي من أرشه شيء، فهل يطالب بتلك البقية أم لا؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه. فالوجه الثاني- أنه لا يطالب إذا عتق؛ فإن الأرش لو كان يتعلق بذمته، لما تعلق برقبته كسائر الديون التي تلزم الذمة في المعاملات الصادرة عن إذنٍ، وقد يقول هذا الإنسان: ذمة العبد إنما يتعلق بها الحقُّ إذا امتنع تعلقه بالرقبة.
وما ذكرناه من تردد الأصحاب أخذوه استنباطاً من القواعد، ولا نص للشافعي فيه، ثم زعموا أن القولين مأخوذان من هذا الأصل، ومعناه أن حقيقة القولين ترجع إلى ذلك، ووجهه أنا إن منعنا تعلق الأرش بالذمة، فلا وجه إلا التعلق بالرقبة.
وإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد فيد السيد بمثابة الضمان عن العبد. ومن أراد التخليص من دين، فينبغي أن يضمنه بكماله وتمامه، وكأن الأرش لزم ذمة العبد، وصارت الرقبة مرهونة بجميعه، فإذا أراد السيد فكَّ الرقبة، فلابد من أداء جميع الدين، حتى تنفك الوثيقة.
وقال بعض الأصحاب: الخلاف في أن الأرش يتعلق بالذمة، وهذا أصل يبين تفريعه، وهذه العبارة مختلة؛ فإن المصير إلى أن الأرش يتعلق بالذمة ليس فرعاً لأصل، وإنما هو حقيقة القولين ومعناهما.
هذا حاصل ما ذكروه. وفي البناء خلل؛ من جهة أن الأصح أن الأرش يتعلق بذمة العبد وأن العبد يطالب إذا عتق، والأصح أن السيد يفدي بأقل الأمرين، فلا ينتظم البناء للوجه الذي ذكرناه، والأولى الاقتصار على التوجيه الذي ذكرناه في صدر الفصل.
10703- ومما يتعلق بالتفريع على هذا الأصل أن السيد إذا جنى عبدُه، فهل يلزمه أن يفديه؟ فعلى القولين: فإن سلمه ليباع، فلا يلزمه غيره، وإذا قال: اخترت فداه، فهل يلزمه الوفاء به أم هو على خِيرته إن شاء وفا، وإن شاء سلم العبد؟ ظاهر المذهب أنه بالخيار، ولا يصير ملتزماً وإن اختار.
ومن أصحابنا من قال: إذا قال: اخترت الفداء، لزمه الوفاء بما قال، ولا يشترط هذا القائل أن يقول: التزمت، بل إذا قال: اخترت، كفى ذلك، وكذلك لو قال أنا أفديه، فصيغة الوعد الجازم كافية، وإذا لم نشترط الالتزام، فقوله: اخترته بمثابة قوله: أنا أفديه.
10704- ثم مما فرعه هؤلاء أن جارية لو جنت، فوطئها مولاها، فهل يكون الوطء اختياراً أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يكون اختياراً، كما لو وطىء البائع الجارية المبيعة في زمان الخيار، فإن وطأه يكون اختياراً للفسخ ولو وطىء المشتري، كان ذلك اختياراً منه لإلزام العقد.
والثاني: أنه لا يكون الوطء اختياراً؛ فإن تعلّق الأرش لم يثبت باختياره وقصده، والخيار يثبت شرطاً، وخيار المجلس وإن كان شرعاً، فهو مترتب على عقد ثبت اختياراً، وكل ذلك خبطٌ، لست أرى الاعتداد به، والمذهب أن الفداء لا يلزم باختياره.
ومما يتفرع على هذا المنتهى أنا إذا قلنا: لا يلزم الفداء بالاختيار، فلو قال: التزمت الفداء، فهل يلزم ذلك؟ إن قلنا: الأرش لا يتعلق بالذمة، ولا يفيد لفظ الالتزام شيئاًً، فإن الأرش يبقى برقبة العبد، وللسيد الفداء إن شاء.
فإن قلنا: الأرش يتعلق بذمة العبد، فهل يصح ضمانه حتى لو قال أجنبي: ضمنت الأرش، يلزمه الوفاء به؟ هذا فيه تردد عندي، مأخوذ من كلام الأئمة، يجوز أن يقال: يصح الضمان، كما يصح الضمان عن الميت المعسر الذي لم يخلف شيئاًً، والعبد يرجو أن يعتق ويتمول وآماله متوقعة، وإن صح الضمان عن الميت المعسر، فلأن يصح عن العبد أولى.
ويجوز أن يقال: لا يصح الضمان؛ فإنا وإن أطلقنا الذمة، فهو على تقدير التوقع والترقب بتقدير العتاقة، ولو لزم ذمّةَ العبد دينٌ غيرُ متعلق برقبته، ففُرض ضمانه، فالضمان في هذا النوع أولى بالصحة من الضمان في الأرش، ولا خلاف أنه يصح ضمان ما يتعلق بكسب العبد، وهو مايلتزم بإذن السيد، كالمهر في النكاح الصحيح، والوجه تصحيح الضمان عن العبد مهما حكمنا بتعلق الأرش برقبته، هذا فيه إذا كان الضامن أجنبياً.
فأما إذا كان الضامن هو السيد، وذكر لفظاً مضمونه الالتزام، فهذا عندنا مرتبٌ على ضمان الأجنبي، ولعل الأصح أنه يصح منه الضمان والالتزام لتعلق ذلك بملكه.
والله أعلم.
10705- ومما يتعلق بتمام التفريع في ذلك أنه لو أعتق السيدُ العبدَ الجاني، وقلنا: إنه ينعقد العتق فيه، فالأصح أنه لا يلتزم إلا الأقل، والسبب فيه أن أجنبياً لو قتله، لم يلتزم أكثر من قيمته، وإعتاق السيد بمثابة إتلافه، فيبعد أن يلتزم السيد بإعتاقه مملوك نفسه أكثر مما يلزمه الأجنبي بقتله، وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من أجرى في الإعتاق القولين أيضاًً، ويصير السيد بالإعتاق ملتزماً للأرش-على أحد القولين- بالغاً ما بلغ.
ولو قتل السيد العبدَ الجاني، فالوجه القطع بأنه لا يلتزم إلا الأقل في هذا الباب، ومن أصحابنا من أجرى القولين فيه إذا قتله، وأما إذا باع العبدَ الجاني، فقد ذكرنا في كتاب البيع تفصيلَه على بيانٍ شافٍ، فليطلب في موضعه.
ولو قتل أجنبيٌ العبد الجاني، والتزم قيمته، فيتعلق حق المجني عليه بقيمة العبد حسَب تعلقه برقبته، ثم السيد على التخيير في ذلك، كما أنه متخير في الرقبة، فإن سلم البدل بعينه، فهو كتسليمه العبد، وإن أراد أن يؤدي الأرش من سائر ماله، فله ذلك، كما للوارث أن يفعل ذلك في أعيان التركة المستغرَقة، وكل ما ذكرنا في العبد القن إذا جنى.
10706- فأما أم الولد إذا جنت، فبيعها غير ممكن، ولكن أجمع أئمتنا على أن السيد يلزمه الفداء، وهذا مما يغمض تعليله؛ من جهة أن السيد تصرّف في ملك نفسه، واستولد جاريته، فإلزامه الفداء بسبب جناية تصدر منها بعد الاستيلاد بعيدٌ عن قياس الأصول، ولكنه متفق عليه بين أصحابنا.
ثم إذا ألزمناه الفدية، فقد اختلف أصحابنا فيما يلتزمه، فذهب المحققون إلى القطع بأنه لا يلتزم إلا الأقل، ومن أئمتنا من قال: فيما يلتزمه السيد قولان كالقولين في العبد القن؛ فإنه بالاستيلاد السابق، صار مانعَها من البيع عند الجناية. ثم ذكر الشيخ أبوعلي أن القيمة المعتبرة في الفداء للمستولدة هي قيمة يوم الاستيلاد، واعتل بأن قال: إنما صار السيد مانعاً يوم الاستيلاد، وذلك المعنى لا يتجدد، فينبغي أن نعتبر قيمة يوم الاستيلاد، وهذا الذي ذكره غيرُ متجه عندي، والذي كان يرتضيه شيخي أن الاعتبار بقيمتها يومَ الجناية؛ فإن اعتبار قيمةٍ متقدمة على الجناية بعيد عن التحصيل. نعم، يجوز أن نجعل السيد بالاستيلاد المتقدم مانعاً حال وقوع الجناية، وهذا أقيس وأفقه مما ذكره الشيخ أبو علي.
فقد تحصّل وجهان كما ذكرناه: على طريقة شيخي نعتبر قيمته وقت الجناية، فإن الفداء في المستولدة بالجناية، ولا حاجة إلى تقدير اختيار الفداء، فإنه لا وجه له غير الضمان.
10707- ومما نفرعه على جناية المستولدة أنه لو جنت أم الولد، ففداها، ثم جنت مرة أخرى، فهذا يستدعي تقديم حكم العبد القن في تكرر الجناية، فنقول: إذا جنى عبدٌ مراراً، فلا يخلو إما أن يجني ويفديه ثم يجني، وإما أن تصدر منه جنايات ولا يتخللها الفداء.
فإن جنى مراراً، ولم يتخلل الفداء، ثم توجهت الطلبة، فأروش الجنايات وإن كثرت بمثابة الجناية الواحدة، فيجري القولان في أنه بكم يفديه؟ أحدهما- أنه يفديه بأقل الأمرين من الأروش والقيمة مرة واحدة. والقول الثاني- أنه يفديه بالأروش بالغة ما بلغت، أو يسلم العبد ليباع في الأروش.
فإن جنى العبد، ففداه السيد على القولين كما تقدم، فإذا جنى مرة أخرى، فأراد فداه على الترتيب الذي فداه في المرة الأولى، فلا أثر لما تقدم ولكل جناية حكمها، وإن تقدم فداء الجناية المتقدمة، والسبب فيه أنه مانعٌ عند كل جناية منعاً جديداً، فيقتضي كلُّ منع فداءً مستقلاً، هذا حكم العبد إذا تكررت منه الجناية.
فأما المستولدة إذا تكررت منها الجناية، فلا يخلو إما أن يتخللها الفدية أو لا يتخللها الفداء، فإن اجتمعت جنايات ولم يتخللها الفداء، فجميع الجنايات كجنايةٍ واحدة، كما تقدم.
فإذا جنت أم الولد جناية أرشُها مثلُ قيمتها، ففداها المولى، ثم جنت جناية أخرى أرشها مثل قيمتها أيضاً، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أنه لا يلزم السيد أن يفديها مرة أخرى بعد ما بذل قيمتها في الفداء، فإنه إنما التزم الفداء لأن الاستيلاد في حكم الإتلاف والاستيلاد لا يتكرر، ولا يتعدد، فعلى هذا يشارك المجني عليه الثاني الأولَ فيما أخذه، يشتركان فيه، كما سنذكره في التفريع.
والقول الثاني- أن السيد يلزمه أن يفدي مرة أخرى، ولا يسترد من الأول ما أخذه وتنزل المستولدة منزلة العبد القن، وقد ذكرنا أن العبد إذا تكررت منه الجناية، وتخلل الفداء تتجدد الجناية.
توجيه القولين: من قال لا يلزم السيد أكثر من القيمة مرة واحدة، استدل بما ذكرناه من اتحاد سبب الضمان وهو الاستيلاد، ومن نصر القول الثاني احتج بأن السيد مانعٌ عند كل جناية بحكم الاستيلاد السابق، فيتعدّد، المنع على هذا التقدير.
التفريع على القولين:
10708- إن قلنا: إن الفداء يتعدد، فلو جنت أم الولد، ففداها بمثل قيمتها، فجنت مرة أخرى، فيفديها كما فداها أولاً، ولا يُسترد من الأول شيء مما أخذه.
وإن قلنا بالقول الثاني فإن كان الفداء الأول مثلَ القيمة، فقد انتهى غُرْم المولى، فإن جنت مرة أخرى جناية توجب القيمة، فالثاني يشارك الأول ويسترد منه نصفَ ما أخذ، ولا يتميز الأول بسبب تقدّمه، بل يقسمان الفداءَ الأول على قدر أرش الجنايتين، فإن كان الأرش الأول ألفاً والثاني ألفاً، فهو بينهما نصفان، وإن كان أرش الجناية الأولى ألفاً والأرش الثاني خمسَمائة، فالألف المبذول بينهما ثلث وثلثان، وعلى هذا البابُ وقياسُه.
ومما يليق بما نحن فيه أن الذي غَرِمه أوّلاً إن لم يبلغ تمام قيمة المستولدة، فجنت جناية أخرى، فيجب على المولى تتمة القيمة، ثم يضم الآخر إلى الأول ويقسم بينهما على أقدار الأروش.
وبيان ذلك بالتصوير أن الجناية الأولى كان أرشها خَمسمائة وقيمتها ألفٌ، وقد غرم المولى خَمسمائة، فجنت جناية أخرى أرشها ألف، فيغرم المولى خَمسمائة، ولا يزيد، ثم يأخذ المجني عليه الثاني من الألف الذي غرمه المولى-بدفعتين- ثلثاه، وهو ستة وستون وستمائة درهم وثلثا درهم.
وقد بان الغرض بما ذكرناه، نبهنا بالمسائل التي صورناها على أمثالها.
10709- ثم إن المزني اختار من القولين أن السيد يغرَم بكل جناية أرشَها، أو ما يقتضيه الفداء فيهما ابتداء، ولا يسترد المتأخر من المتقدم شيئاً.
وقال: إذا ملك المجني عليه الأولُ الأرشَ الذي سُلّم إليه، فيبعد أن يقال: يُنقض ملكه بسبب جناية أخرى تتفق، وأتى بلفظه المعهود منه في الإعراب عن نهاية الاستبعاد. وقال: "نقضُ ملك الأول ليس بشيء".
فيقال له: أما إلزام المولى أصل الفداء، فمشكل من طريق المعنى جدّاً، كما تقدم ذكره في صدر الفصل، ثم إن لم يكن من الفداء بد، فالزيادة على قيمةٍ واحدة ولم يوجد الاستيلاد إلا مرة واحدة بعيد. وإذا أوجبنا ألا نزيد على قيمة المستولدة في تغريم المولى، وهذا قياس بيّن، فالتزاحم بعد هذا القياس ليس ببعيد؛ إذ لا يستقيم بعد ما مهدناه- غيرُه.
ورب شخص يملك شيئاً في ظاهر الأمر، وهو موقوف مراعى، وهذا بمثابة ما لو كان حفر رجل بئراً في محل ضمان وعدوان، ومات وخلف ألف درهم، فتردى في البئر-بعد اقتسام الورثة الألفَ-متردٍّ قيمتُه ألف، فتُنقض قسمة الورثة، وتُصرف الألف إلى جهة الغرامة، فهذا نقضُ ما في أقل التصور، فلو تردّى في البئر بهيمة أخرى قيمتُها ألف، فإنا نجعل الألف بين الجهة الأولى والثانية، وهكذا لو تعددت جهات الضمان وتجددت، فلا نزال ننقضُ ونعيد القسمةَ، ولا نجعل للمتقدم مزيةً، بسبب تقدمه، ولا تحديد من المضارب في مقدار التركة. هذا بيان مأخذ المسألة في الصور والحتم.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا اصطدم الراكلبان على أي دابة كانت... إلى آخره".
10710- إذا التقى ماشيان واصطدما وماتا، فعُلم أن كل واحد منهما مات بقوّة نفسه وقوة صاحبه؛ فإن الصدمة تقع بالقوتين جميعاً، ثم ما يقابل قوة الإنسان، فهو هدر من جانبه وما يقابل قوة صاحبه، فهو مضمون، ثم إذا تأصل ذلك، فلا وجه للنظر في تفاوت القوتين، واختلاف تأثيرهما في الصدمة، فإن ذاك أمر لا يدخل تحت الضبط، وهو بمثابة قولنا: إذا جرح رجل رجلاً مائة جراحة من غير تذفيف وجرح المجروح نفسه جراحة واحدة، وحصل الزهوق محالاً على الجراحات، فالحكم أنه يُهدَر نصفُ الدية، ويجب نصفها.
هذا مأْخذ الباب، وموجب ما ذكرناه يتضمن أن نُهدر ما يقابل فعلَ كل واحد منهما في حق نفسه، ونوجب ما يقابل فعل الثاني، وموجَب ذلك التنصيفُ لا محالة.
10711- فإذا تمهد أصل الباب قلنا: إذا اصطدم ماشيان على غير عمد وهلكا، فيهدر نصفُ دية كل واحد منهما بسبب فعله، ويجب دية نصف كل واحد منهما على عاقلة صاحبه؛ فإن مسائل الباب تتصور في الخطأ وشبه العمد، كذلك تتصور الوقائع في العادة المطردة.
ولو اصطدم راكبان على دابتيهما، وهلكا، وهلكت الدابتان، فيهدر من كل واحد نصفُ ديةٍ، ويهدر نصفُ قيمة دابة كل واحد منهما، ويجب نصف قيمة كل دابة في مال الآخر، ويجب نصف دية كلِّ واحد منهما على عاقلة الآخر؛ فإن الدية محمولةٌ معقولة، بخلاف قيمة الدابة.
ويجب على كل واحد منهما كفارةٌ بسبب تأثير فعله في قتل الثاني. ومن حيث شارك كلُّ واحد في قتل نفسه، فيجب عليه كفارةٌ أخرى بسبب سعيه في إهلاك نفسه إن قلنا: على من قتل نفسه الكفارة، ففيه اختلاف مشهور سيأتي مشروحاً-إن شاء الله عز وجل- فإذاً يجب على كل واحد منهما كفارةٌ بسبب سعيه في إهلاك صاحبه، وفي إيجاب كفارة أخرى وجهان مأخوذان من أن من قتل نفسه هل تلزم الكفارة في تركته أم لا؟ ثم قد يعترض في قسمة الديتين التقاصُّ إن كانتا متساويتين، وإن كانتا متفاوتتين فإجراء التقاصّ في مقدار التساوي، والزيادة على التساوي تجب في مال الآخر.
وما ذكرناه كله من جليات الفقه وقواعده، ولا يخفى بعد تمهيدها تخريج المسائل عليها، إن شاء الله عز وجل.
10712- ونحن نذكر ثلاثة أنواع من الكلام تجري مجرى الأصول: أحدها: أنا لا ننظر إلى المصطدمين في القوة والضعف، حتى لو كان في إحدى الدابتين، و ذلك من الماشيين بمثابة صدور جنايتين من جانيين، ثم قد ذكرنا أنه إذا كثرت جناية أحد الشريكين وقلت جناية الآخر، وآل الأمر إلى المال، فالدية موزعة عليهما بالسوية، فإنا لا نجد ضبطاً في التوزيع والتقسيط، فلا وجه إلا الحكم بالمقابل وعدم الالتفات إلى أقدار القوة والضعف.
ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه في محاولة تحقيق هذا شيئاً أجراه مثلاً، فقال: "لو كان أحدهما على فيل والآخر على كبش، فاصطدما، فالإهدار في الشطرين وإثبات الضمان في الشطر الثاني على ما ذكرناه " ولم يرد الشافعي بهذا تصويراً على التحقيق؛ فإن الكبش لا يركب، ولا يفرض تصادمه للفيل.
والذي يجب اعتباره في ذلك أن الدابة وإن كانت ضعيفة، فينبغي أن نَفْرِض لصدمتها أثراً مع قوة الدابة الصادمة، فأما إذا قطعنا بأنه لا أثر لها أصلاً، فلا يناط بحركتها حكم، وهو بمثابة ما لو جرح رجل جراحات ناجعة، ويفرض من الثاني الإبرة يغرزها في جلدة العقب فهذا لا أصل له، والقتل محال على الجارح. وإن كان لا يبعد تقدير تأثير، فلا نظر إلى التفاوت بعد ثبوت أصل التأثير، ولا يشترط أيضاً القطع بالتأثير؛ فإن من جرح رجلاً مائة جراحة ضعيفة، فقد لا نقطع بأن هذه الجراحة لها أثر، ولكن إذا كنا نجوّز أن نثبت لها أثراً، كفى التجويز في ذلك، ورجع الحكم إلى التشطير بين الجانيين، هذا أحد الأنواع.
10713- النوع الثاني- أن نصوّر ما يقع عمداً أو ما يقع خطأ، وهذا يفرض على ثلاثة أوجه، فإن اصطدم الفارسان، وكانا مقبلين وقصدا الصدمة، وحققا قصديهما، فالذي صدر من كل واحد عمدٌ محض، والواجب القصاص والتخريج على شريك النفس، وقد مضى التفصيل فيه إذا جرح رجل رجلاً، فجرح المجروح نفسه، فإن قلنا بالقصاص، فقد فات محل القصاص، فسقط القصاص، والرجوع بعد سقوطه إلى المال، ثم يهدر على ما ذكرناه نصفُ دية كل واحد منهما، ونصف دية كل واحد منهما في مال الثاني؛ فإن فعليهما عمدان.
فأما إذا اصطدما مقبلين، ولم يعتمدا الصدمة، ولكن اتفق الاصطدام فهذا ملتحق بشبه العمد، فأما الإهدار في النصفين، فعلى ما قدمنا، ويجب نصف دية كل واحد منهما مغلظاً على عاقلة صاحبه.
فأما إذا اصطدما مدبرَيْن ولم يشعر أحدهما بصاحبه، ولكن كانت الدابتان ترجعان القهقرى، فاتفق اصطدامهما، فهذا ملتحق بالخطأ المحض. أما الإهدار في النصفين فعلى ما مضى، ونصف دية كل واحد منهما مخففاً على عاقلة صاحبه.
هذا بيان الأحوال.
واصطدام الأعمش كاصطدام المدبرَيْن، واصطدام البصيرين في جنح الليل يشابه اصطدامَ الأعمش إن كان لا يبصر أحدُهما صاحبه.
والغرض مما ذكرناه التنبيهُ على الفصل بين العمد، والخطأ، وشبه العمد.
10714- والنوع الثالث من الكلام فيه إذا غلبت الدابّةُ راكبها، وجرى الاصطدام وهما مغلوبان، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه لا حكم لفعلهما، وإذا هلكا وهلكت دابتاهما، كان بمثابة ما لو هلكا بآفة سماوية، ولا ضمان، ولا تراجع.
والقول الثاني- أن حكم فعليهما غيرُ منفي؛ فإنهما نُسبا إلى ركوب الدابتين، وهذا لا ينحط عن حفر البئر في محل العدوان، فإن قلنا: لا حكم لفعليهما، فلا ضمان عليهما، ولا على عواقلهما، وإن حكمنا بأن لفعليهما حكماً، فنجعل الاصطدام بلا اختيار بمثابة الخطأ المحض.
10715- ثم قال الشافعي رضي الله عنه والأصحابُ: إذا فرض الاصطدام، فسقط به من سقط، فلا فرق بين أن ينكبَّا على وجوههما، وبين أن يستلقيا، وبين أن ينكب أحدهما، ويستلقي الثاني. وقال أبو حنيفة: إن انكبا، فلا يجب الضمان على واحدٍ منهما، والسبب فيه أنا نتبين أن من ينكب سببُ انكبابه تحاملُه وفرطُ قوته وكثرةُ اعتماده على صاحبه، فإذا كان السقوط على هيئة الانكباب، دلّ هذا على أن فعل كل واحد منهما لم يؤثر في حق صاحبه، فنجعل كلَّ واحد منهما انفرد بإهلاك نفسه.
أما لو استلقيا، فيجب دية كل واحد منهما بكمالها على عاقلة صاحبه، وذلك أن وقوع كل واحد منهما على هذه الهيئة يدل على أنه سقط بتحمل صاحبه، وذلك أن سقوط كل واحد منهما بتأثره بالمعنى الذي يؤدي إلى الاستلقاء، فلم يقع الاستلقاء لواحد منهما إلا لتحامل الثاني عليه.
ولو انكب أحدهما واستلقى الثاني، فذهب الأصحاب إلى أن الغرم في حقهما جميعاً، ويهدر النصف من دية كل واحد منهما. ويجب النصف على عاقلة الآخر.
وحكى الشيخ أبو علي رضي الله عنه عن التلخيص أنه صار إلى مذهب أبي حنيفة وأهدر المنكبَّيْن وأوجب كمال دية المستلقيين، وقال: إذا انكب أحدهما واستلقى الثاني، فدية المنكب هدر، ودية المستلقي بكمالها على عاقلة المنكب، ثم قال الشيخ: ذهب معظم الأصحاب إلى تغليطه ونسبتِه إلى الوقوع في مذهب أبي حنيفة.
وأبعد بعض أصحابنا، فصار إلى موافقته، وهذا غريب جداً مخالف للنصوص مبطل لقاعدة الباب ومتعرض للمعنى الصحيح بالإبطال.
فإن قال قائل: ما ذكره أبو حنيفة محتمل في الانكباب والاستلقاء، فما الذي يدفعه؟ وما هو معتمد المذهب على مناقضه؟ قلنا هذا خيال لا أصل له؛ فإنه إن كان تُصوّر الانكباب منهما جميعاً، فهو من أثر الصدمة، ولو قوي أحدهما، لاستحال أن يقوى الثاني على مصادمه فاعترافه بأن وقوعه هذا بسبب الصدمة أصدق شاهد على أن انكبابهما من فعليهما، ولو لم يكن كذلك، وقُدّر صحةُ ما قال، لكان هذا في معنى جمع نقيضين وضربين، فاستبان أنهما إذا سقطا، فسقوطهما محال على الصدمة والصدمة بينهما، وهي حاصلة بقوتهما ثم ما يقع في الحركات والاعتمادات لا يدخل تحت الحصر، فقد يتحامل الإنسان ويتفق له أثناء تحامله عثرةٌ، وكذلك من يصادمه، فالبحث عن كيفيات الحركات لا معنى له، وليس إلا الإحالة على الصدمة، والصدمة بينهما، وكذلك القول فيه إذا استلقيا.
قال أئمتنا رضي الله عنهم: قياس ما حَكَى عن صاحب التلخيص أن الرجلين إذا كانا يتجاذبان حبلاً بينهما، فينقطع الحبل، فإن استلقيا، فلا غرم، وقد هَدَرَ البدلان جميعاً، فإن هذه السقطة تحال على قوة المستلقي، فإنه كان يعتمد إلى وراءٍ في جذب الحبل، وهو على مناقضة الاصطدام في الإقبال، وقياس مذهبه أنهما لو انكبَّا، فيجب كمالُ دية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه.
وكل هذا خبط. والأصل ما قدمناه من رد هذه المذاهب بجملتها، واعتناق مذهب الشافعي في إحالة السقطتين على الصدمة، والصدمة تقع بين المصطدمين لا محالة.
10716- ثم علينا تفصيل مذهبنا في جذب الحبل، فنقول: إن تجاذبا حبلاً، فانقطع وماتا، نظر: فإن كان الحبل لأحدهما، وكان الثاني يظلمه بجذبه، فإذا ماتا، فدية المالك يجب نصفها على عاقلة الظالم، ودية الظالم هدَرٌ. أما إهدار دم الظالم، فبيّن؛ فإنه كان يجذب ما ليس له جذبه، فدُفع وصُدَّ، فإن أدى ذلك إلى إهلاكه، فليس هذا بأبدع من أن يقصد إلى إنسان، فيدفع عنه ويأتي الدفع عليه فيهلكه.
وأما قولنا: تهدر نصف دية مالك الحبل، فسببه أنه شارك في قتل نفسه، ففعله محسوس، فلئن كان هدراً في حق الظالم، فوقوعه في حق المظلوم لا يتخيل أن ينكر، فتنخَّل منه الجواب الصحبح، وهو تشطير دية مالك الحبل، وإهدار الظالم.
ولو كان الحبل مشتركاً بينهما، وكانا غاصبين للحبل وتجاذبا، فانقطع الحبل وماتا، فهو كاصطدام الماشيين والراكبين، وقد سبق التفصيل فيه.
وإنما الذي أردنا التنبيه عليه تفصيل المذهب في الحبل وكونه مملوكاً لأحدهما على ما اقتضاه التصوير.
وقد انتجز القول في أصول الباب.
10717- ونحن بعد هذا نذكر تفصيل القول في المصطدمِين؛ فإن الحكم يختلف، فإذا اصطدم حرَّان راكبان أو ماشيان، فالتفصيل ما قدمناه.
10718- ولو اصطدم عبدان، فإن كانت القيمتان متساويتين يسقط أحدهما بالثاني على قول التقايض، وإن كانت القيمتان متفاوتتين، فيجري التّقاصّ في قدر المساواة والمقدار الفاضل يسقط أيضاًً بسبب فوات المحل، وما ذكرناه من تقدير التقاصّ يجوز أيضاًً على تقدير تعلق شطر القيمة بالرقبة، وثمرة الكلام انتفاء الغرم، كيف فُرض العبدان.
10719- ولو اصطدم حر وعبد، فماتا، فالتشطير على ما قدمناه، فيسقط لا محالة نصف الدية ونصف القيمة.
ثم إذا فرعنا على أن العاقلة تحمل قيمة العبد، فنقول: يجب نصف قيمة العبد على عاقلة الحر في قولٍ، أو في مال الحر في القول الآخر، وتجب نصف دية الحر في نصف القيمة، وقد يُفضي الأمر على هذا الترتيب إلى تفصيلٍ نذكره.
فنقول: إن قدرنا الوجوب في المال، فيتقاصّان في القدر الذي يستويان فيه، فإن كانت القيمة أكثر، فالفضل لمالك العبد، وإن أوجبنا على العاقلة نصفَ قيمة العبد، فنصف دية الحر تتعلق به، ويؤول حاصل الأمر إلى أن ورثة الحر يأخذون من عاقلته مقدار نصف الدية، وسبب ذلك وجوبُ نصف قيمة العبد أولاً من عاقلة الحر، ثم نصف دية الحر متعلق بها، فرجع الحاصل إلى أن ورثة الحر يأخذون من تركة الحر بمقدار نصف الدية، ولكن السيد يطالب العاقلةَ أولاً بنصف قيمة العبد، ثم يؤدي إلى ورثة الحر؟ نصفَ دية الحر، فإن شاء أخرجه من سائر ماله واستبقى لنفسه ما أخذه، وإن شاء، وفّر نصفَ الدية من نصف القيمة.
10720- وقد يتعلق بهذا المنتهى مساءلةٌ عن أصلٍ، وهو أن العبد إذا جنى، وتعلق الأرش برقبته، فجاء أجنبي، وقتل هذا العبدَ، فلسيد العبد مطالبته بالقيمة، فلو امتنع عن مطالبته، فهل يثبت للمجني عليه مطالبةُ قاتل العبد الجاني بالقيمة؛ حتى تكون وثيقةً بحقه؟ ولمالك العبد الجاني الخِيَرة؛ وكذلك لو قتل أجنبي العبد المرهون فللمالك مطالبتُه بالقيمة بحق الملك، وهل يثبت للمرتهن مطالبة القاتل؟ الوجه عندنا في هذه المسائل إثباتُ حق المطالبة للمجني عليه والمرتهنِ، والذي يحقق ذلك أن الراهن لو قتل العبد المرهون، فالمرتهن يطالبه ببدل القيمة ليكون رهناً، فإذا كانت المطالبة تتوجه على المالك نفسِه من جهة المرتهن، فلأن تتوجه على الأجنبي أولى.
ثم هذا القياس يُثبت لورثة الحر مطالبةَ عاقلة الحر بمتعلَّقهم من قيمة العبد، فإن نصف قيمة العبد وإن كان ملكاً لمالك العبد، فيتعلق به حق توثق ورثة الحر.
فخرج من ذلك أن ما ضرب على العاقلة، فهو ملك مالك العبد، ولكن يتعلق به نصفُ دية الحر تعلّقَ الأرش برقبة الجاني.
10721- ولو اصدمت حرتان حاملان وماتتا، وانفصل الجنينان ميتين بسبب الاصطدام، فيهدر نصف دية كل واحدة من الحرتين، ويجب نصف دية كل واحدة منهما على عاقلة الأخرى، على القياس الممهّد في الباب.
وأما الجنينان فلا يهدر شيء منهما، بل يجب الغرمان بكمالهما، والسبب فيه أن تلف كل جنين حصل بسببين:
أحدهما:فعل أمه الحامل به، والآخر صدمة الأخرى، والسببان جميعاً مضمّنان. أما تضمين الصادمة الأخرى، فبيّن، وأما تضمين الأم، فلائح أيضاً، والأم لو جنت على نفسها، وأجهَضَتْ جنيناً، وعالجت واستبلّت، فعليها الغرة، وهي لا ترث والحالة هذه من الغرة شيئاً؛ فإنها قاتلة، وليس للقاتل من الميراث شيء.
فظهر أن كل واحد من الجنينين مضمون بكماله، غيرَ أن الجناية على الجنينين شبهُ عمد أو خطأ، على ما سيأتي تفصيل كمال أحكام الأجنة-إن شاء الله تعالى- فيجب على عاقلة كل واحدة من الحرتين نصف غرة جنين تلك الحرة التي تلزم عاقلتها بجنايتها على جنين نفسها، ويجب عليهم أيضاً نصف غرة جنين الحرة الأخرى بجناية هذه عليه بالصدمة، فنجمع على كل عاقلة غُرةً كاملة، وهي نصفا غرتين.
هذا بيان اصطدام الحرّتين.
وأما الكفارة، فإن رأينا إيجاب الكفارة على الإنسان بسبب قتله نفسه، فعلى كل واحدة من الحرتين أربعُ كفارات: كفارتان بسبب جنايتها على نفسها وعلى جنينها، وكفارتان بسبب الجناية على الحرة الأخرى وجنينها.
وإن قلنا: لا يجب على الإنسان الكفارة بسبب قتله، فعلى كل واحدة ثلاث كفارات: واحدة بسبب جنايتها على جنينها، واثنتان بسبب الجناية على الحرة الأخرى وجنينها، وسنمهد في الكفارات أن طائفة لو اشتركوا في قتل إنسان، وجب على كل واحد منهم كفارة كاملة.
10722- ولو اصطدم أما ولد، فلا يخلو أن تكونا حاملين أو حائلين، فإن كانتا حائلتين وكانتا لسيدين، فيهدر نصف كل واحدة منهما، لما تقرر في الباب، فننظر: فإن كانت قيمتاهما متساويتين، والتفريع على قول التقاصّ، فيسقط حقاهما بالتقاصّ، ولا مرجع لكل واحد منهما على الآخر.
وإن كانت القيمتان متفاوتتين، مثل أن كانت قيمة واحدة مائة وقيمة الأخرى مائتان، فهذه المسألة وأمثالها هينة في مأخذ الفقه، ولكن قد يُحْوِج النظر فيها إلى أدنى تأمل.
وليقع التفريع على ما هو المذهب، وهو أن السيد يضمن أم الولد إذا جنت بأقل الأمرين من القيمة وأرش الجناية، فسبيل الخوض في الكلام أن نقول: هَدَرَ النصفُ من كل واحدة، ثم على صاحب المستولدةِ القليلةِ القيمة مائةُ درهم، فقد استوت القيمةُ والأرش، فالواجب على السيد مائةٌ.
ومما يجب التنبه له أن المستولدة، وإن كانت مصدومة، فهي صادمة والصدمة مضافة إلى جملتها، وإن كان نصفها مضموناً، فهذا لا يمنع من إضافة الجناية إلى جملتها، فإن من جُرح، ثم إنه جَرح، فكونه مجروحاً لا يمنع تعرضه لحكم الجراحة التي صدرت منه.
ومن أسرار هذا الفصل أن العبد الذي قيمته خمسون وهو قيمته حالة جنايته، فإن خطر لناظر أن المستولدة القليلة القيمة قيمتها خمسون، لأنها قد صُدمت وأثرت الصدمة في بعضها، قيل: هذا خيال لا تحصيل له؛ فإن مسألة الصدمة تفرض في وقوع الاصطدام بين شخصين من غير فرض تقدم وتأخر، ولما وجدت الصدمة بينهما كانت القيمة حالة الصدمة مائة، ولهذا قلنا تعتبر القيمة بالمائة.
وقد نعود إلى هذا بكلام أبْينَ منه.
وأما سيد المستولدة الكبيرة القيمة، فإنه لا يغرم إلا خمسين؛ فإنه الأرش، فيجتمع مائة على واحد، وخمسون على الآخر، فيقع التقاص في مقدار خمسين، ويبقى لسيد المستولدة الكبيرة القيمة خمسون درهماً على سيد المستولدة القليلة القيمة.
ولو كانت قيمة إحداهما مائة وخمسين، وقيمة الأخرى مائة، فيهدر من كل واحدة نصفها، وعلى مالك القليلة القيمة خمسة وسبعون درهماً إلى أن نذكر التقاصّ، وعلى مالك الكبيرة القيمة خمسون، وكما قدمنا، الأرشُ أقلّ في هذه المسألة من قيمة الجانية، ثم يقع خمسون بخمسين قصاصاًً، ويبقى لمالك الكبيرة القيمة على الآخر خمسة وعشرون درهماً.
هذا قياس الباب.
وإن كانت قيمة إحداهما مائة وقيمة الأخرى خمسون فهَدَرَ من كل واحدة نصفها على القاعدة المعلومة، وعلى مالك القليلة القيمة خمسون، وعلى مالك الأخرى خمسة وعشرون.
وعقْد الباب هو أنه مهما تفاوتت قيمتاهما، فإنا نوجب لسيد الكثيرة القيمة على سيد الأخرى نصفَ التفاوت، ويتقاصّان في الباقي، فإن كانت قيمة إحداهما مائة والأخرى مائتان، فالتفاوت بينهما بمائة، فحاصل الجواب أن لصاحب النفيسة نصفُ هذا المقدار الذي حصل التفاوت به.
وإن كانت قيمة إحداهما مائة وخمسين وقيمة الأخرى مائة، فالتفاوت خمسون، ولصاحب الكثيرة القيمة نصفُ هذا المقدار الذي وقع التفاوت به وهو خمسة وعشرون، ويقع التقاصّ في الباقي.
هذا كله إذا اصطدمت أما ولد، وكانتا حائلتين.
10723- فأما إذا كانتا حاملين بولدين حرين، واصطدمتا وهلكتا وأَجْهضَتا جنيناً، فلا يخلو إما أن يكون للجنين وارث سوى المولى، أو لم يكن له وارث سوى المولى، فإن لم يكن له وارث سوى المولى، وكانت المستولدتان متفقتي القيمة، فقد هَدَرَتَا وهَدَرَ الجنينان على أصل التقاصّ؛ لأن أرش جناية كل واحدة منهما كأرش صاحبتها وقيمتها، أما التساوي في القيمة، فبئن، وأما أرش الجناية، فنعني به الغرة، والغرتان لا محالة متساويتان؛ فإن الجنينين حران.
وإن كانتا مختلفتي القيمة، فإن كانت قيمة إحداهما مائة وقيمة الأخرى مائتان، فالأرش لا يتفق لا محالة، فالتي قيمتها مائة جنايتها على الأخرى مائة ونصف غرة، فنفرض قيمةَ نصف غرة عشرين درهماً مثلاً، والتفريع على أن السيد لا يلتزم إلا الأقل، وقيمة المستولدة القليلة القيمة مائة، وما يتعلق بجنايتها مائة وعشرون، فيستحق سيد الكبيرة القيمة على سيد القليلة القيمة مائةَ درهم، وهي قيمتُها؛ لأنها أقل من أرش الجناية، وسيدها يستحق على سيد الكبيرة القيمة سبعين درهماً، خمسون نصف قيمة المستولدة، وعشرون نصف الغرة، والأرش أقل من قيمة الجانية في هذا الجانب، فيقع التقاص في سبعين، وبقي لسيد الكبيرة القيمة ثلاثون.
هذا كله إذا لم يكن للجنين وارث سوى المولى، فأما إذا كان للجنين من الجانبين وارث سوى المولى، ولا يتصور وارث للجنين مع الأب إلا أم الأم في هذه الصورة، وإذا كان لكل جنين أم أم، فإنها تستحق سدس الغرة، ولا يضيع من حقها شيء؛ فإن الجنين من كل جانب تلف بجناية أمه إذا صَدَمت وبجناية الأخرى، ويجب على السيدين أن يضمنا لأم الأم سدسها: هذا يضمن نصف سدس غرة، وهذا يضمن نصف سدس، فيكمل للجدة سدسها على الترتيب الذي ذكرناه.
10724- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو ركب صبيّان دابتين، واصطدما، وهلكا، وهلكت دابتهما، فلا يخلو إما أن يركبا بأنفسهما أو يُركبهما غيرُهما، فإن ركبا بأنفسهما، ثم جرى ما ذكرناه، فيهدُر من كل واحد منهما ومن دابته النصف، ويجب نصفُ قيمةِ كل دابة في مال الآخر، وأما نصف الدية، فإن اصطدما مدبرين، فالدية مخففة، فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه مخففاً، فإن اصطدما مقبلين، فحكم الدابة ما ذكرناه، وأما الدية فشطرها من كل واحد على القياس الذي قدمناه، والكلام في التغليظ والتخفيف.
وهذا ينبني على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ وفيه القولان المشهوران، فإن قلنا: لا عمد للصبي، فلا يقع فعله أيضاًَ شبهَ عمد؛ فإن شبهَ العمد إنما يتصوّر ممن يتصور منه العمد المحض، فالدية مخففة تجب على كل واحد منهما نصفُ دية الآخر مخففاً، كما قدمناه.
وإن قلنا: للصبي عمدٌ، فالاصطدام الواقع منهما على صفة الإقبال شبه عمد، فيجب على عاقلة كل واحد نصفُ دية صاحبه مغلظاً.
هذا إذا ركب الصبيان بأنفسهما، فيما بينهما.
10725- فأما إذا أركبهما مُركبٌ، لم يخل ذلك المُركب إما أن يكون وليّاً أو أجنبياً فإن أركبهما أجنبي، فما يتلف أبداً منهما مضمون على الأجنبي، حتى لو أركب أجنبيٌّ صبياً دابةً، فرفست إنساناً، أو أتلفت شيئاًً، فضمانه على المُركب.
فإذا اصطدما، لم يهدر من الصبيين شيء، ونظر، فإن كان المركب واحداً، فقيمة الدّابتين في ماله، ودية الصبيين على عاقلته.
وإن أَركب الصبيين مُركبان أجنبيان، فلا يهدُر شيء من الدابتين والدّيتين، ويضمن كلُّ مُركب نصفَ الدابّة التي أركبها الصبي، وهذا هو النصف الذي يُنسب تلفه إلى صدمة الصبي؛ فإنه محال على إركاب من أركبه، والمُركب الآخر يضمن نصف هذه الدابة، فتصير كل دابة مضمونة على المُركبين نصفاً نصفاً، والديتان لا تَهدُِران أيضاًً، ويجب على عاقلة كل واحد من المُركبين نصفا ديتين، على حسب ما ذكرناه في القيمتين.
10726- هذا إذا كان المُركب أجنبياً وأما إذا كان أركبهما وليان، فإن كان على خلاف المصلحة، وقد تعدّيا فالتعدّي يضمِّنهما كما يضمّن الأجنبي، وإن كان إركاب الولي محموولاً على المصلحة، فاتفق منه ما ذكرناه، فهل يتعلق الضمان بالوليين؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يتعلق الضمان بالوليين، ويصير كما لو ركب صبيان بأنفسهما، وقد مضى التفصيل فيه إذا ركبا بأنفسهما، ووجه ذلك أن ما يفعله الولي، فهو محمول على المصلحة إذا أمكن الحمل عليها، فإذا أفضى إلى تلفٍ، فهو محمول على الوفاق.
والوجه الثاني- أن الضمان يتعلق بالوليين؛ فإن إركاب الصبيين، وإن كان لمصلحة مضمونة، فالغررُ فيه بيّن، ولا يسوّغ مثل هذا إلا على شرط ضمان السلامة في العاقبة.
وهذا غير سديد، والأصح الأول.
ثم الوجهان عندي فيه إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركب الولي الطفلَ دابة شرسة جموحة، فلا شك أنه يتعرض للضمان.
وإن مست حاجة مرهقة إلى إركاب الصبي في نقلة لابد منها، فهذا-وإن أفضى إلى الهلاك- لا يوجب الضمان، وهو بمثابة ما لو عالج الولي الصبي بالفصد عند إشارة الأطباء بذلك، فإذا أفضى إلى الهلاك، فلا ضمان، والوجهان فيه إذا ظن السلامة، وكان لزينةٍ أو حاجة قريبة، فينتظم إذ ذاك الخلاف، وما من مسألة من مسائل اختلاف الأصحاب إلا وفيها غائلة يتعين البحث عنها.
فصل:
قال: "وكذلك لو رموا بالمنجنيق... إلى آخره".
10727- إذا رَمى رجل بحجر المنجنيق إنساناً، وقصده بعينه، وكان مما يتأتى القصد فيه على التعيين، فهذا عمدُ قودٍ، وإن رمى بالحجر طائفةً وقصدَهم، وكان لا يتأتى قصد واحد منهم بعينه، ولكن كان يعلم أن الحجر يصيب واحداً منهم، فإذا أهلك واحداً منهم على الوجوه التي ذكرناها، فلا يجب القصاص عليه؛ لأنه لم يقصد شخصاً متعيناً، وإنما يتحقق العمد إذا قصد بفعله شخصاً معيناً وأماته، وكان ذلك الفعل إنما يقصد به ذلك المعيَّنُ، وهو يُفضي إلى القتل غالباًً.
ولهذا قلنا: إن من أكره رجلاً على أن يقتل رجلاً من رجالٍ، وقال: إن لم تقتل واحداً منهم، قتلتك، فإذا قتل واحداً منهم، لم يكن مكرِهاً، ولم يجب القصاص عليه، وكما خرج المكرِه عن حقيقة الإكراه الموجِب للقصاص، كذلك يخرج الرامي عن كونه عامداً إذا كان لا يقصد شخصاً بعينه.
وقد يختلج في نفس الفقيه من هذا شيء، سيما إذا كان القوم محصورين في موضع، وقد سدد الجاني عليهم، وكان على علم بأنه لو أراد، لأتى على جميعهم واحداً واحداً، فقصد ذلك واعتمده، وأتى عليهم، وحقق قصده فيهم، فإذا تُصورت المسألة بهذه الصورة، فالذي أراه وجوبَ القصاص على الرامي.
وإنما يستدّ ما قدمته لو قصد أن يصيب واحداً منهم لا بعينه، أو عدداً مخصوصاً منهم، فإذ ذاك يتجه ما ذكره الأصحاب.
وعلى هذا أقول: لو أكره رجل رجلاً على أن يقتل جماعة، وأخبره أنه إن بقَّى واحداً منهم، قتله، فإذا قتلهم وحقق ما استدعاه المكرِه، فالقصاص يجب على المكرِه، وإن كان المكرَه في كل قتل يُقدم عليه غيرَ محمول في عينه على القتل، من جهة أنه كان يُقدم على من يريد منهم إلى الاستيعاب والإتيان عليهم أجمعين.
10728- ومما يتعلق بما نحن فيه أن عشرة لو اجتمعوا على حذف المنجنيق ورَمْي الحجر بالآلة العتيدة للرمي، فرجع الحجر على الجانقين وقَتَلهم، وقد اشتركوا في الرمي، فصار انقلاب الحجر عليهم مُحالاً على أفعالهم، فقياس الباب في ذلك أن نهدر من دية كل واحد منهم عُشرها ويبقى تسعةُ أعشار دية كل واحد من الجانقين على عواقل أصحابه، ولو رجع ذلك الحجر على واحد منهم وقتله، فَهدَرَ عُشرُ ديته بمشاركته إياهم في الرمي، وبقي تسعة أعشار ديةٍ على عواقل الباقين وهذا بيّن لا غموض فيه.
10729- قال: "وإذا كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فدية الصادم هدر، ودية صاحبه على عاقلة الصادم" هذا نصه هاهنا، ونص على أنه إذا نام في الطريق أو قعد، فتعثر به إنسان وماتا فتجب دية الصادم بكمالها على عاقلة المصدوم، وتهدُر ديةُ المصدوم، فمقتضى النصين مختلف؛ فإنه جعل الصادم هدراً والمصدوم مضموناً بكماله في نص، و في نصٍّ آخر جعل المصدوم هدراً والصادم مضموناًً بكماله، ولكن إحدى المسالتين مفروضة في القائم الواقف، وفيها أهدر الصادم، والمسألة الأخرى في النائم والقاعد، وفيها أهدر المصدوم.
فمن أصحابنا من جعل في المسألتين قولين بالنقل والتخريج:
أحدهما: أن دية الصادم هدر في المسالتين؛ فإنه المتحرك الفاعل، فيجب إحالة الهدَرَ عليه، فهَدَر هو في نفسه، ويجب ضمان المصدوم على عاقلته.
والقول الثاني- أن المصدوم يهدر؛ فإن الجادّة للطروق، فمن وقف بها، فموقفه بين أن يمتنع وبين أن يكون على شرط السلامة؛ فإن الطرق مهيأة معدّة للطارقين، وما عدا الطروق في حكم ما لا يقصد.
ومن أصحابنا من أجرى النصين على ظاهرهما، وهو الذي صحّحه القاضي، والفرق أن وقوف الواقف إنما لا يخرج عن المقصود المطلوب في الطريق، وقد يقف الواقف لانتظار واحد، أو للاسترواح بعد إعياءٍ وكلالٍ، أو لنفض غبارٍ؛ فلا ينسب الواقف في وقوفه إلى الخروج عن مقصود الطريق.
وأما النوم والقعود، فليسا من مقاصد الطرق، لأنها لم تهيأ لهما؛ فانتسب النّائم والقاعد بالنوم والقعود في الطريق إلى التفريط، ثم يخرّج القعود والنوم على قياس نصب الأحجار في الطرق الواسعة والضيقة، على ما سيأتي تفصيل هذه الأجناس، وما يوجب الضمانَ منها وما لا يوجب، عند ذكر حفر الآبار، إن شاء الله عز وجل.
فهذا مجموع ما ذكره الأصحاب.
10730- وقد انتظم من كلام الأصحاب أن الفعل في التحقيق صادر من الصادم لا غير، ولكن تردد النظر في أن الوقوف والقعود والنوم من باب التعدِّي بنصب الأحجار واحتفار الآبار، حتى يضمن المصدومُ الصادمَ أم لا؟ فرجع التردد إلى هذا: فمن جعل المصدوم متعدّياً أو منتسباً إلى عدوان أهدره في نفسه، وأوجب ضمان الصادم.
ومن الأصحاب من لم ينسب الواقف والنائم والقاعد إلى العدوان، والفعل على هذا صادر من الصادم، فعليه الضمان، فهو يهدر في نفسه.
فمضمون الفصل خارج عن مقتضى التصادم؛ فإن التصادم فعلان صادران من المصطدمَيْن هاهنا، فترتب عليه التشطير في الإهدار والضمان، وهذا المعنى لا يتحقق في مضمون هذا الفصل، فليتنبه الناظر له.
ومن فرق بين القائم والقاعد، فهذا أيضاً خارج عن مقصود الباب، والغرض منه راجع إلى تفصيل من يكون معتدياً في حالاته ومن لا يكون معتدياً.
10731- ولما ذكرنا اصطدام المستولدتين لمالكين أشرنا إلى إشكال، ورمزنا إلى الجواب عنه، ثم رأينا أن نؤخر استقصاءه إلى انقضاء قواعد الاصطدام، حتى يكون التعرض له بعد الإحاطة بأصول الاصطدام، وهذا أوان الوفاء بالموعود، فنقول: إذا اصطدم أمّا ولد لمالكين، وكانت قيمتاهما متفاوتتين، فلا شك أن النصف من كل واحدة يهدر لانتسابها إلى الصدمة، ثم بنينا تلك المسائل بأجمعها على أصل التقاصّ، وعلى أن الفداء يقع بأقل الأمرين على الأرش أو القيمة، ثم أنهينا الكلامَ إلى تضمين مالك المستولدة القليلة القيمة، وقلنا: إنه يمثل في ضمانه نصف قيمة المستولدة الكثيرة القيمة، وهو الأرش، والنصف ساقط لصدمها، فهذا هو الأرش، ثم قلنا: سيد القليلة القيمة يغرم الأقل من الأرش أو تمام قيمة المستولدة القليلة القيمة، وعللنا ذلك بأن الصدمة جرت من جملة المستولدة لا من بعضها، فاعتبرنا في المعادلة بين الأرش وبين القيمة تمامَ قيمة المستولدة.
وهذا وضع ابتداء الإشكال، فنذكر الإشكال في صيغة سؤال، ثم نوضح الجواب عنه، فيتم الغرض في هذا الفن، إن شاء الله عز وجل.
فإن قيل: لم اعتبرتم تمام قيمة المستولدة القليلة القيمة في المعادلة بين القيمة والأرش، وهي كما صدمت، فتحصل صدمتها مع النقصان فيها؟ وأصل الاصطدام يتضمن إسقاط النصف من كل صادم، وإذا كان يُسقط نصف القيمة فكيف نعتبر تمام قيمتها غير مصدومة؟ ولا شك أن قيمة المستولدة الجانية يهدر نصفها.
وهذا السؤال واقعٌ، والجواب عنه يوضح الغرض.
فنقول: الصدمة من طريق العقل صدرت من جملتها حساً، كما ذكرناه، وأما النقصان بالصدمة، فتجوّزٌ من جهة سيد الكثيرة القيمة، والنصف الذي يضاف تلفه إلى فعل الصادم لا يتغير الحكم بتلفه، وهو بمثابة ما لو جنت المستولدة، وماتت حتف أنفها، ولو فرض ذلك، لوجب الضمان على السيد، فإنه إنما يضمن الفداء لتقدم الاستيلاد، والمنعُ حصل بذلك الاستيلاد المتقدم لا غير، فانتظم من هذا أن المستولدة جنت بجملتها، وضمن سيد المستولدة الكثيرة القيمة نصفها، وأهلكت المستولدة القليلة نصفَ نفسها، وإتلافها نفسها، لا يحط الضمان عن مولاها، فلم يبق إشكال؛ لأنه يجب عليه تمام قيمتها، وذلك ما أردنا أن نبين.
فصل:
قال: "وإذا اصطدمت السفينتان فتكسرتا... إلى آخره".
10732- إذا اصطدمت السفينتان، فلا يخلو إما أنهما اصطدمتا بفعل القائمين بهما المُجريَيْن لهما، أو حصل الاصطدام بدون فعليهما، فإن اصطدمتا بفعل المُجريَيْن، نُظر، فإن كانا متبرعَيْن بحمل الأمتعة والركبان، وما كانا أجيرين، فلا يخلو إما أنهما تعمدا الصدم، أو توانيا، أو اختبطا، فإن تعمدا الصدم، فلا يخلو: إما أن يتعمدا صدماً يغلب الكسر منه والغرر منه، أو يتعمدا صدماً لا يغلب الكسر منه.
فإن تعمدا صدماً يغلب الكسر منه، وكان في كل سفينة عشرة أنفس، فإذا اعتمدا، أو اصطدما قصداً اصطداماً يُفضي إلى الهلاك، فقد أهلكا عشرين نفساً إهلاكَ قصاص، وكان هذا كما لو اشترك رجلان في قتل عشرين نفساً، فيجب لأولياء القتلى القصاص عليهما، ثم وقع الإهلاك معاً.
ونحن لا نرى القتل بالجميع، فنُقرع بين أولياء القتلى، فمن خرجت له القرعة سُلّم إليه القائمان بالسفينتين المُجريان لهما، وقُدِّرا كالقاتل الواحد، وقُتلا بشخصٍ واحد؛ فإنهما اشتركا في قتل واحدٍ من ركبان السفينة، ثم يجب عليهما تسعةَ عشرَ دية فتؤدَّى الديات من تركتهما، فلكل واحد من القتلى سوى القتيل الذي قُتل القائمان به نصف الدية في تركة كل واحد من القائمَين، فنجمع على تركة كل واحد منهما تسعَ ديات ونصف، وعلى كل واحد منهم في تركته عشرون كفارة، لأنهما اشتركا في قتل عشرين، وعلى كل واحد منهما نصفُ قيمة ما في السفينتين من الأموال، فلا يهدر من المال شيء؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا لم تكن الأموال للقائمَيْن بالسفينتين. وهذا بيّن.
والسفينتان مملوكتان للمجريَيْن فَهَدَرَ نصفُ كلّ واحد لانتساب مالكها إلى الصدمة، ويجب على كل واحد نصف قيمة سفينة صاحبه على القياس المعلوم في باب التصادم وأقاويل التقاصّ، فإن استوت القيمة، وفرعنا على التقاص، سقط ضمان السفينتين، وإن تفاضلتا، فعلى الذي قيمة سفينته أقلُّ الفضلَ للّذي قيمةُ سفينته أكثرُ.
هذا إذا تعمدا الصدم، وكان ذلك الصدم مما يغلب الإهلاك منه.
10733- فأما إذا تعمدا الصدم، وكان الغالب أنه لا يُفضي إلى الأهلاك، فالذي جرى منهما شبه عمد، فلا قود، ولا تجب الدية في مالهما، وإنما تجب مغلظة على العاقلة، ولا يَهدُُِر من الديات شيء، ولا من الأموال التي حملاها في السفينتين، وضمان المال على المُجريَيْن.
10734- فإن جرى ما جرى خطأ، فهو كما ذكرناه، إلا أن الديات تكون مخففة، وباقي التفريعات، كإيجاب الكفارات مجراةٌ على القواعد والأقيسةِ التي مهدناها.
10735- ولو كان القائمان بالسفينتين أمناء أو أجراء، يعملان لمالكي السفينتين، فحكم العاملَيْن بإذنهما حكم القائمَيْن في الأقسام التي ذكرناها، من العمد المحض وشبه العمد والخطأ، ويتعلق بهما من الحكم ما يتعلق بالقائمَيْن لو كانا هما المجريين، والقصاص عليهما في حالٍ مع الديات، والديات على عواقلهما في حال، ويضمنان شِحنة السفينتين بكمالهما، لا يضيع منها شيء، فإن شِحنة كل سفينة تلفت بإجرائها مجرى السفينة الأخرى، فلا يفوت من الضمان شيء، ويضمن الأجراء السفينتين بكمالهما لا يضيع منهما شيء.
وفي هذا المعنى تنفصل مسألة الأجراء عن مسألة القائمَيْن المالكَيْن للسفينتين، فإن المالكَيْن يهدر نصف سفينة كل واحد منهما، فإن فعل المالك في ملكه يهدُر على التفصيل الذي تقتضيه قاعدة الصدمة، والأجيران ليسا مالكين للسفينتين، فإن قيل: إذا فرض من الأجيرين خطأ، فلِمَ نُضمّنهما؟ قلنا: الأجير يضمن العمدَ والخطأ، وإنما يختلف القول فيما يتلف تحت يد الأجير من غير فعل من جهته.
فإن قيل: أليس يختلف قول الشافعي في الأجير المشترك إذا قَصَرَ الثوب وخرقه؟
قلنا: إن تعدى، ضمن، وإن جاوز حد القِصارة المطلوبة منه، فأدى مثلُ تلك القِصارة إلى عيب، فهذا ليس إتلافاً غيرَ مأذون فيه، وما نحن فيه مفروض فيه إذا جرى الاصطدام منسوباً إلى فعليهما، وليس في استئجارهما ما يتضمن إذناً فيما جرى من الاصطدام، وهذا واضح لا خفاء به.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الاصطدام بسبب فعليهما، وكانا يُجريان السفينتين عمداً أو خطأً.
10736- فأما إذا جرى ما جرى وهما مغلوبان: غلبهما الرياح، وسقط اختيارهما في الإجراء من كل وجه، فنفرض الكلام فيه إذا كان يتولى أمر السفينة مالكها، وهو مجريها، فاتفق ما وصفناه، ثم نذكر لو كان المجري أجيراً: فإن كان المجريان-كما ذكرناه- القائمَيْن المالكَيْن، وكانا متبرعين من غير أجرة، فهل يتعلق بهما الضمان إذا غُلبا، وسقط اختيارهما، والمسألةُ في ركبان السفينة وما فيها من شِحنة حَسَب ما مضى، لم يتغير منه شيء إلا الغلبة، ففي المسألة قولان منصوصان:
أحدهما: أن الضمان لا يتعلق بهما أصلاً. والقول الثاني-يتعلق بهما الضمان كما لو كانا مجريَيْن باختيار فاختبطا.
ثم قال أئمتنا: قد ذكرنا قولين في اصطدام الفارسين إذا غلبهما فرساهما، فنرتّب السفينةَ على الدابة، ونجعل ما يجري بغلبة الرياح أولى بإسقاط آثار الضمان؛ فإن البحر إذا هاج، فيغلب سقوطُ الاختيار، وليس ذلك أمراً نادراً، وهو وجه الخطر في ركوب البحر، وسقوطُ اختيار الراكب بالكلية يعد من النوادر.
ثم ذكر العراقيون في تصوير الغلبة، وسقوط الاختيار وجهين:
أحدهما: أن معناه أن تهيج الرياح حيث لا يتسنّى مدفع ولا يتأتَّى إمكان صرف ودفع الاصطدام ولا يشترط في تصوير هذه الحالة ألا تتقدم حالة اختيار أصلاً.
هذا وجه من الذي ذكره الأئمة.
وذكروا وجهاً ثانياً في تصوير الغلبة فقالوا: إنما يثبت حكم الغلبة إذا كانت السفينتان في المرسى، فهيَّآ قلوعهما واقتلعا الأوتاد، وهمّا بالإجراء، فهاجت ريح غالبة لا تقابَل باختيار، وجرى ما جرى، فليس في هذه الصورة لهما جَرْيٌ وتقدم اختيار، أصلاً، فيخرّج القولان والحالة هذه.
وأما إذا عُهد منهما فيما تقدم من الوفاق اختيار، ثم سقط الاختيار، وجرى هذا طارئاً، فهذا يلتحق بالخطأ، كما تقدم تصوير الخطأ.
هذا ما ذكره العراقيون في التصوير، وطريقه أن يقال فيما يراعى في التصوير: ألا يتجاريا على مقتضى الاختيار، بحيث يفرض الاصطدام لو هاجت الرياح واغتلم البحر، فإنهما إذا اختارا أن يتجاريا والبحر عرضة للهَيْج، فليس ذلك نادراً منه، فهذا منهما تسبّب إلى الصدمة ظاهر.
فأما إذا لم يجر منهما اختيار في التجاري، وجرى ما جرى من اقتراب السفينتين واصطدامهما-بعد الاقتراب- ضرورياً، فهذا محل القولين، فينتظم أوجه في تصوير القولين، ويترتب عليهما اختلاف الأصحاب في الأقوال: أحد الوجوه-أن الغلبة مهما جرت، فلا حكم للاختيار قبل جريانها، وإنما الاعتبار بالحال. والوجه الثاني- أنا نشترط ألا يتقدم اختيار بالإجراء أصلاً، وهذا أحد ما ذكره العراقيون، وهو سرف، والوجه الثالث: ألا يتقدم اختيار في المجاري، ولو اقتربت السفينتان اقتراباً يغلب من حاله سقوط الاختيار في الصرف فلا يجوز أن يكون في مثل هذا اختلاف؛ فإن الاقتراب المفرط سببٌ إلى الاصطدام، فهذا منتهى القول في تصوير الغلبة.
التفريع:
10737- إن قلنا: يجب الضمان وإن غلبت الرياح وسقط الاختيار، فهو محمول على الخطأ المحض، فيجب.
وإن كان المُجريان للسفينة أمينين متبرعين، فجرى ما صورناه من الغلبة، فتفصيل القول في سقوط الضمان وثبوته على المُجريَيْن كتفصيله فيه إذا كانا مالكين، ولا يخفى التفريع.
وإن كان المجريان أجيرين، واتفق ما صورناه من سقوط الاختيار، فإن أثبتنا الضمان والمجريان مالكان للسفينتين أو أمينان، فيثبت الضمان، وهما أجيران، وإن قلنا: لا يتعلق الضمان والمجريان مالكا السفينتين، فإذا كان المجريان أجيرين-وليقع الفرض فيه إذا كانا أجيرين مشتركين- فهذا ينبني على أن الأجير المشترك يده يد ضمان أو يد أمانة، وفرّعنا على أن الغلبة تُسقط أثر الاختيار، فلا شيء والحالة هذه على الأجير. وإن قلنا: يد الأجير يد ضمان حتى لو تلف تحت يده ما سلم إليه بآفة سماوية يجب عليه الضمان، فهذا الحكم يقتضي أن نوجب الضمان عليهما في
الأموال المشحونة في السفينتين.
_________
في الأصل: "لغلب من قاله".
في الأصل: "ولا".
في الأصل: "بأن".
في الأصل: "فهذا فهو محمول".
في الأصل: "المحدثان".
في الأصل: "قال".
في الأصل: "العلة".
في الأصل: "أتلف".
وهذا حيث انتهى التفريع إليه ضمانُ يدٍ، لا فعل.
ثم إنا نوجب ما ذكرناه في الأموال التي ليس مُلاَّكها معها؛ إذ لو كان معها ملاكها، فلا يجب الضمان على الأجير بحكم اليد؛ فإن المالك إذا كان حاضراً، فاليد له في ملكه، ولا يد للأجير مع يده، ونحن نفرع على سقوط اختيار الأجير بالكليّة، وإخراجِهِ عن كونه فاعلاً أو منتسباً إلى الفعل، وإنما يبقى الضمان على قاعدة تضمين الأجير ما يتلف تحت يده من غير فعل منه، وعلى هذا لا يجب عليهما ضمان النفوس، لأن اليد لا تثبت على الأحرار.
10738- ولو كان في السفينة عبيد، فهذا يختلف بالقصد والغرض، فإن حملهم لنقلهم، وما كانوا مستحفظين من جهة ملاك الأمتعة والأموال، فهم تحت يد الأجير، وحكمهم حكم الأموال، وإن كان ملاك الأموال استحفظوا عليها العبيدَ في السفينة، فلا ضمان في الأموال؛ فإنها تحت أيدي العبيد، ويد العبد إذا استحفظ بمثابة يد المولى، وقد ذكرنا أن الملاك لو كانوا شهوداً، لم يجب الضمان على الأجيرين، فكذلك عند وجود العبيد الحفظة؛ فإنهم نُصبوا مستقلين بالأيدي، ومن يثبت له يد على شيءلم يكن تحت يد غيره.
هذا بيان الأجيرين، والتفريع على سقوط الاختيار وحكمه.
10739- فأما إذا جعلنا المغلوب في حكم الفاعل، فيتعلق الضمان بالأجيرين على حسب ما ذكرناه، فيما تقدم، ثم لا يبقى الضمان تمهيداً لعذر الأجير، ولا ينزل ما يُفرض من تلفٍ بمثابة ما لو خرق الثوبَ القصارُ، وقد قال أهل الصنعة: القِصارة المستدعاة في الثوب المسلَّم إليه تخرِق لا محالة ومعنى ذلك أن التلف محالٌ على أمرٍ مأذون فيه، وهذا لا يتحقق بسببٍ فيما يتلف بالاصطدام؛ فإنه ليس في الإذن في إجراء السفينة بما فيها ومن فيها إذن لأسباب الصدمة.
وهذا المقدار كافٍ في التفريع؛ فما لم نصرح به، فقد نبهنا عليه بتمهيد الأصول.
10740- ومما يتعلق بتمام هذا الكلام، أنا إذا رأينا إسقاط الضمان عند جريان الغلبة، فلو اختلف مُجري السفينة-وهو مالكها والقائم بها- وركبانُ السفينة، فقال الركبان: الاصطدام جرى بفعليهما، وادعى القائمون الغلبةَ وسقوطَ الاختيار، فقد قال الأصحاب: القول قول المجريَيْن، فإن الأصل براءة الذمة عن إطلاق الضمان، وليس ما ادعاه القائمون من الغلبة أمراً بدعاً في البحر.
ولو فرّعت الدعوى على الأجيرين، فإن قلنا: يد الأجير يد ضمان، فلا معنى لهذا الاختلاف فيما يتعلق بضمان اليد، وإن قلنا: لا يجب ضمان اليد على الأجير، وإنما يجب عليه ضمان ما يتلف، فالقول قول الأجيرين أيضاًً؛ فإن الأصل براءة الذمة كما ذكرناه في القائمَيْن المالكَيْن للسفينة.
فصل:
قال: "وإذا عرض لهم ما يخافون به التلف... إلى آخره".
10741- مضمون الفصل في إلقاء الأمتعة في البحر: إذا التطمت الأمواجُ، وعلت السفينةَ، فإن ألقى مالك المتاع متاعَه في البحر بنفسه من غير استدعاء آخر منه، فلا ضمان على آخر، ولا يجد مرجعاً، ولا فرق بين أن يكون ذلك في حال خوفِ الغرق، وبين أن يكون في حالة السكون، وغلبة السلامة.
ولو اضطر إنسان في شدة المخمصة، فتقدم إليه مالك طعام، وأوجره من طعام نفسه، وأنقذه مما به من الضرورة وشدة الخوف، فهل يرجع عليه بقيمة الطعام؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرَهما في أثناء الأبواب، وسنعيدهما في كتاب الأطعمة.
فإن قيل: إذا ألقى متاعه، وكان ذلك سبباً لإنقاذ ركاب السفينة، فهلاّ كان هذا بمثابة إطعام المضطر في صورة الوجهين؟ قلنا: المسألة مصورة فيه إذا كان ملقي المتاع في السفينة، وكان يهلِك لو لم يُلق، كما كان يهلِك أصحابه، وحقٌّ عليه أن يخلِّص نفسه عما عرض من خوف الهلاك، فإذا ألقى المتاعَ والحالةُ هذه، فهو ساعٍ في تخليص نفسه، ومؤدٍّ أمراً واجباً عليه في نفسه لنفسه، فلا يرجع بالضمان على أحد، وهذا لا يتحقق في إطعامه المضطرَّ؛ فإن صاحب الطعام لا خوف عليه، فتمحّض الإطعامُ تنجيةً للمضطر، وتخليصاً له، وهذا مما اتفق الأصحاب
عليه.
ولو كان صاحب المتاع في سفينة أخرى، وكانت سفينته خفيفة، وثقلت سفينةٌ فيها أمتعته، فألقى منها متاعه، ونجا بسببه ركبان السفينة، فالذي دل عليه كلام الأئمة أنه لا يُضمّنهم وإن سعى في نجاتهم.
والفرق بين ما ذكرناه وبين ما لو أطعم مضطراً طعاماً من عند نفسه، وقد ظهر اختلاف الأصحاب في المضطر، وفرض الأئمة ذلك فيه إذا أوْجرَ المضطرَّ من غير إذنٍ واستدعاءٍ من جهته، وليس يبعد من طريق القياس تنزيل مسألة إلقاء زيادة الشِّحنة منزلة الإيجار، لكن ظاهر النقل يخالف هذا، وطريق الفرق أن الطعام وصل إلى المضطر قطعاً، ووقع منه الموقع وغذاه، وما ألقاه في البحر بخلاف ذلك.
وهذا لا يستدّ مع انعدام الإذن في الموضعين جميعاً.
ولا خلاف أنه لو أطعم من ليس مضطراً ونفعه الطعام لا يغرَم شيئاً.
10742- ولو قال لراكب سفينة: ألق متاعك في البحر، ولم يكن المستدعي في تلك السفينة، فإذا ألقى متاع نفسه باستدعائه، فلا شيء على المستدعي، ولا ضمان أصلاً.
وإن قال: ألق متاعك وأنا ضامن، فالضمان لا يلزمه؛ إذ هذه المسألة لها صورتان: إحداهما- ألا يكون ثمَّ خوفٌ، فإذا قال: ألق متاعك وأنا ضامن، فهو بمثابة ما لو قال لإنسان: اخرق ثوبك، واقتل عبدك، وأنا ضامن، فإذا فعل المالك ذلك، لم نُلزم الضامن شيئاً؛ فإن المالك أتلف ملك نفسه باختياره، ولم يرجع منه نفع إلى الضامن، وهذا مغنٍ بوضوحه عن تكلف البسط فيه، وذلك صورة.
والصورة الثانية- أن يكون راكب السفينة مشرفاً على الهلاك لو لم يُلق متاعَه، فلو قال- والحالة هذه: ألق متاعك وأنا ضامن؛ فإنما استدعى منه أمراً هو واجب عليه؛ فإنه يجب عليه أن ينجّي نفسَه بإلقاء المتاع، فقد فعل ما هو واجب عليه نحو نفسه، فكان هذا بمثابة ما لو قال للمضطر: كل طعامك وأنا ضامن، فإذا أكله، لم يرجع على المستدعي بشيء.
ولو كان للإنسان متاع في سفينة وفيها راكب، وقد أشرفت على الغرق، فقال رجل لمالك المتاع-ولم يكن مالك المتاع في تلك السفينة- فقال له رجل: ألق متاعك الذي في تلك السفينة في البحر، وأنا ضامن، فإذا ألقاه، ضمن المستدعي في الصورة التي ذكرناها؛ فإن المستدعي التمس بذلك نجاة أقوام، فكان غرضاً صحيحاً، ولا يمتنع بذل المال لمثل هذا الغرض، والأجنبي يختلع المرأة عن زوجها بمالٍ يبذله، وإن كان لا يحصل له في مقابلة ما يبذله شيء، ولكن يسوّغ الشرع ذلك الافتداءَ، وإفادةَ التخليص، فالذي يقبل التخليص من الهلاك أولى، وهذا متفق عليه.
وقد صورنا المسألة فيه إذا لم يكن صاحب المال في السفينة المشرفة على الغرق، ورجعت النجاة على الركبان الذين ليس المتاع لهم.
10743- ولو كان صاحب المتاع في السفينة المشرفة على الهلاك، فقال قائل ليس في السفينة: ألق متاعك في البحر، وأنا ضامن، فإن لم يكن في السفينة غيرُه، فإذا ألقى، لم يرجع بشيء على الضامن، وقد قدمنا ذكر هذا، وأوضحنا أنه فعلَ واجباً عليه، ورفْعُ اللوم وتأديةُ الواجب عليه.
وإن كان معه في السفينة رجل آخر، وقد استدعى المستدعي الإلقاء، وضمن، فقد ذكرنا أن ما يرجع إلى نجاة غير المالك، فهو مضمون، وقد اجتمع في هذه المسألة نجاة مالك المتاع ونجاة غيره، فإذا ألقى المتاع باستدعاء الضامن ما حكمه؟ قال القاضي رضي الله عنه: لا يجب على المستدعي إلا ضمان نصف المتاع؛ فإنه قد رجع نصف الفائدة إلى مالك المتاع، ولو كان حقاً عليه أن يُلقي المتاع وينجو، فما يرجع إليه لا يضمنه الضامن، كما لو كان منفرداً، ولو كان في السفينة عشرة، وصاحب المتاع عاشرهم، فإذا قال: ألق متاعك، وأنا ضامن، فألقى، فالضامن يلتزم تسعة أعشار المتاع، ويسقُط العُشر، وهو ما يرجع إلى المُلقي.
فقيل للقاضي: إن كان المسقط للضمان في حصة المُلقي أنه يجب عليه أن يلقي، فينجو، فإذا كان معه راكب آخر، فحقٌّ عليه أن يخلص نفسه، وهو لا يتخلص إلا بإلقاء جميع المتاع، فوجب ألا يضمن الضامن شيئاًً؛ فإن إلقاء جميع المتاع حتمٌ عليه لنجاة نفسه، فإن جاز أن يلتزم الضامن نصفَ المتاع، لأجل الراكب الذي ليس صاحب المتاع، فينبغي أن يلتزم تمام القيمة لأجله أيضاً، فإن ذلك لا ينجو إلابإلقاء تمام المتاع.
فقال القاضي: هذا محتمل، فنجعله وجهاً، ونقول: في المسألة وجهان:
أحدهما: أن الضامن يلتزم الجميع، وهذا الذي ذكره وجهاً مجرداً، هو منصوص الشافعي، وإليه صار الأصحاب. ووجهه أن هذا الضمان يستقلّ بأدنى فائدة، وقد تقرر في قاعدة الفصل أن الإلقاء إذا أفاد نجاة غير المُلقي يجوز ضمانه، وهذا الإلقاء يُفيد نجاة غير مالك المتاع، ولا يحصل نجاةٌ إلا بإلقاء الجميع، فلهذا التعلق يجب أن يصح الضمان في الجميع؛ فإنه إن كان يُنظر إلى نجاة المُلقي، فيجب سقوط الكل؛ لأن نجاته تحصل بإلقاء الكل، هذا وجه.
قال: والثاني-وهو الأصل عنده- أن الضمان يقسط على المُلقي والركبان كما ذكرناه، وسبيل جوابه عما ذكرناه في الوجه الأول أنا إن أضفنا الإلقاء إلى صاحب المتاع، فموجبه سقوط الضمان، وإن أضفناه إلى غيره، فموجبه تمام الضمان، وإذا تقابل الوجهان على النفي والإثبات، فأصدق مسلك في ذلك التنصيفُ.
هذا بيان الوجهين وتوجيههما.
10744- ولو قال واحد من ركبان السفينة: ألق متاعك في البحر على أني ضامن، وكان مالك المتاع في السفينة، فالضمان من المستدعي صحيح، كما أنه صحيح ممن ليس في السفينة، بل هو بالصحة أولى، وغرض المستدعي إنقاذ نفسه، وتجويزه متجه لا يحتاج إلى تكلف.
وإذا قال من ليس في السفينة: ألق متاعك، فمأخذ تجويزه الحِسبةُ والسعيُ في إنقاذ الغير، وهو وإن كان ظاهراً، فالسعي في إنقاذ النفس أولى وأقوى، ثم يرد في ذلك أنه يضمن الجميع أو يضمن ما يخصه وغيرَه من الذين ليسوا ملاك المتاع؟ فيه الوجهان المحرران الآن.
10745- ولو قال واحد من الركبان-بعد هذا- على ثبوت جميع الضمان: ألق متاعك في البحر على أني ضامن وركبانُ السفينة. قال الشافعي: "ضمنه دونهم" قال المزني: وجب أن يضمن بحصته، وظاهر ما نقله عن الشافعي أنه إذا قال: إني ضامن وركبانُ السفينة، أنه يصير ضامناً بجميع المُلقَى على الكمال.
وأما إضافة الضمان إلى الركبان، فسنذكره بعد الفراغ من هذا الغرض، فإنه إذا جرى من المستدعي اللفظُ المحكي، فقد أضاف الضمان إلى نفسه، وإلى الركبان، ويقتضي ذلك التقسيطَ، فلا يلتزم إلا حصةَ نصيبه لو وزعت قيمة الملقَى عليه وعلى الركبان.
وسبيل الكلام في المسألة أن المستدعي إن صرح بما يقتضي انفرادَه بضمان الجميع، فلا شك أنه مطالَب بالجميع، وإن صرح بلفظٍ يقتضي التقسيط، فالأمر محمول على التقسيط، فالضمان إذاً يقبل التقسيط، ويقبل الانفراد، ولا يمتنع أن تُضمن جملةُ الدَّيْن الخاص على الانفراد، فيكون كل واحد منهم مطالَباً بجميع الدين، كما تقرر في كتاب الضمان، فإذاً لا نزاع في فقه المسألة، وإنما التردد في موجب الألفاظ، فلو قال: أنا وركبان السفينة ضامنون، فقدّم الركبان ونفسه على ذكر الضمان، فهذا لا يحمل على انفراد هذا الشخص بالضمان في جميع الملقَى، إلا أن يقول: أردت ذلك، فيؤاخذ بموجب إرادته؛ فإن الانفراد ممكن، واللفظ محتمل، وإن زعم أنه أراد التقسيط، وادُّعي عليه الانفراد، فالقول قوله مع يمينه، ولا يكاد يخفى فصل الخصومة فيه.
هذا إذا قال: أنا وركبان السفينة ضامنون.
فأما إذا قال: أنا ضامن وركبان السفينة، واقتصر على هذا، أو قال: أنا ضامن وركبان السفينة ضامنون، ففي هاتين اللفظتين وجهان:
أحدهما: أنه لو حمله على التقسيط قُبل منه، وهذا اختيار المزني.
والثاني: أنه لا يُقبل منه، فإنه وصف نفسه بالضمان إضافة إلى الملقَى، ثم ذكر بعد ذلك الركبان وضمانَهم، فإذاً استقل الكلام الأول بإضافة الضمان، ولو فرض الاقتصار عليه، لكان متضمناً ضماناً تاماً في الجميع، فذكْرُ الركبان بعد ذلك لا أثر له، وليس كما لو قال: أنا وركبان السفينة ضامنون، فإنه لم يفرد نفسه بالضمان.
هذا وجه الكلام فقهاً ولفظاً.
ثم من أصحابنا من جعل الوجه الآخر المنصوص عليه، ومذهبَ المزني مخرّجاً معدودين من المذهب، ومنهم من قطع بما ذكره المزني وأوّلَ لفظ الشافعي، فقال: أراد أصل الضمان، ولم يتعرض للتقسيط ونقيضه، والقول في ذلك قريب.
10746- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا أضاف الضمان إلى الركبان فإضافته تحتمل الإخبار عن ضمانٍ سبق منهم، فيكون إقراراً منه عليهم، فإن اعترفوا، كانوا مؤاخذين بالإقرار، وإن أنكروا، فالقول قولهم.
وإن قال: أردتُ إنشاء الضمان عنهم، ولم أرد الإقرار، فقد أطلق الأصحاب أنهم إن رضوا، ثبت.
وهذا بعيد عن التحصيل إلا على مذهب الوقف، وقد ذكرنا أن من أصحابنا من يثبت وقف أبي حنيفة في العقود جُمَع، وقد قدمنا مراتب الوقف في كتاب البيع، فإن لم نصحح هذا النوعَ من الوقف، فلا مساغ لهذا.
ولو قالوا: رضينا، لم يكن قولهم رضينا إنشاء ضمان، وإنما هو إجازة، وإذا منعنا الوقف، أبطلنا الإجازة.
وذكر القاضي هذا الذي ذكرناه، ورأى ما رأيناه، فلا وجه لغيره.
ولو قال إلى رجل: طلقتُ زوجتك وأعتقتُ عبدك، فقال: رضيت، لم ينفذ العتق والطلاق، مع سلطانهما، وهذا واضح من الوجه الذي ذكرناه، والضمان على إلقاء المال-وإن ذكر في فصل حاوٍ- فهذا أصلٌ في نفسه ليس يضاهي سائر جهات الضمان إلا على تقريب، وكلّ ما كان كذلك يعظم الزلل فيه، وإنما ظن من ظن من أصحابنا أن الرضا كافٍ؛ من جهة أنهم لم يرَوْا لهذا الضمان معتمداً منقاساً، فإن معوّل الضمان على التزام مال مستقر، وليس هذا النوع على هذا النسق، والأمر وإن كان كذلك، فأصل الضمان محمول على الحاجة الحاقة والضرورة، فإذا تمهد أصل الحاجة، فخلاف الأصول لا يحتمل، و كذا مخالفة القياس في التفصيل من غير حاجة.
10747- ومما يجب الإحاطة به أن من ألقى متاعه، وقد ضُمن له، فالمتاع لا يخرج عن ملكه، حتى لو لفظ البحرُ المتاعَ بعد النجاة، وألقاه بالساحل، واتفق الظفر به، فهو على ملك مالكه الأول، فإن الذي جرى ليس تمليكاً وتملكاً، وإنما هو ضمان مال على مقابلة حيلولة قريبة من أن تكون موئسة، ثم إذا رجعت عين المال إلى مالكها، فللضامن استرداد ما بذل.
وهذا يناظر تضميننا الغاصب قيمة العبد المغصوب إذا أبق، فلو رجع بعد بذل القيمة، استرد ما غرم، وردّ العبدَ، ثم لو كانت القيمة بعينها باقية، فهل يسوّغ لآخذها ردُّ بدلها، أم يتعيّن عليه ردُّ عينها، هذا مطردٌ في كل مال يناظر ذلك، وهو مستند إلى القرض؛ فإن من استقرض شيئاً، ثم أراد المقترض مطالبته بالقرض، فكانت العين المستقرضة قائمة وأراد المستقرض إبدالها بمثلها، وأراد المقرِض استرداد تلك العين، ففي المسألة اختلاف قدمناه في باب القرض.
10748- ومما يليق بالفصل أن من استدعى في الإلقاء لو قال: ألقِ متاعك، ولم يقل: على أني ضامن، ولكن اقتصر على الاستدعاء في صورة لو صرح فيها بالضمان، لألزمناه، فهل يصير بمحض الاستدعاء ضامناً؟ فعلى وجهين مبنيين على ما لو قال من عليه الدين لإنسان: اقض ديني، ولم يقيد إذنَه بالرجوع عليه، فإذا امتثل أمره وقضى دينه، فهل يملك الرجوعَ عليه؟ فعلى وجهين، وقد نجز الفصل وجيزاً، مع التنبيه على جميع أطراف الكلام.
فصل:
قال: "ولو خرق السفينة... إلى آخره".
10749- مضمون الفصل ثلاث مسائل: إحداها- أن يخرق الرجل السفينة خرقاً يترتب عليه الغرق غالباً، فإذا اعتمد ذلك، لزمه القود في محله، والدية المغلظة في ماله إن سقط القود، ويلزمه الكفارة، وضمان الأموال التي في السفينة. المسألة الثانية- أن يخرق السفينة خرقاً لا يغلب الغرق في مثله، فاتفق الغرق منه، فهذا شبه العمد، ولا يكاد يخفى حكم شبه العمد.
المسألة الثالثة- ألا يتعمد الخرق، ولكن كان يُصلح السفينة أو يتعاطى فيها عملاً، فمال، فدفع قَدُومَه في يده إلى السفينة وخرقها، فغرقت وغرق من فيها، فهذا خطأ محض، وحكمه: أما المال والسفينة، فالضمان فيهما ثابت في العمد وشبه العمد والخطأ المحض، والكفارة تجب بسبب إهلاك النفوس، فإن تعددوا، تعددت، والقود في العمد المحض، والدية تتغلظ في شبه العمد على العاقلة، وتخفف عليهم في الخطأ المحض.
فرع:
10750- السفينة إذا كانت مملوءة من الأمتعة، فجاء واحدٌ بِعِدْلٍ، ووضعه فيها، فغرقت، فالضمان واجب، وفي تحديده وجهان:
أحدهما: أنه يجب عليه كل الضمان، والثاني: يجب عليه قسط من الضمان، والوجهان مبنيان على أن من رمى صيداً، ولم يثخنه، ولكن أثّر الرمي فيه، وهو في امتناعه ينطلق، فرماه آخر، فأزمنه-ولولا ما لحقه من الرمي الأول، لما أزمنه الثاني-ففي ملك الصيد وجهان:
أحدهما: أنه ملك الثاني؛ فإنه هو الذي استعقب الزَّمَن. والوجه الثاني- أن الصيد ملكهما جميعاً، وهو الأقيس، والأصح.
إن حكمنا بأن تمام الضمان يجب على الذي وضع العِدْل الأخير، فلا كلام، وإن قلنا: يجب عليه بعض الضمان، ففي مقداره وجهان:
أحدهما: يجب عليه نصف الضمان، والثاني: يجب عليه بحصته توزع على العِدل الذي وضعه، والأمتعةِ التي كانت فيها، ويقع التوزيع على مقدار الأوزان. والوجهان مبنيان على الجلاّد إذا كان يجلد قاذفاً ثمانين، فزاد سوطاً، فالضمان يجب، وفي قدره قولان:
أحدهما: أنه النصف.
والثاني: أنه جزء من أحد وثمانين.
وإذا كنا نقسط فيما نحن فيه، فينبغي ألا نغفل وزنَ السفينة في نفسها؛ فإن لوزنها أثراً في التغويص، وقد قدمنا هذا الفرع في أثناء الكلام، فإن زدنا بياناً، فهو المراد، وإن كررنا، فلا.
باب العاقلة
قال الشافعي رضي الله عنه: "لا أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة... إلى آخره".
10751- أجمع المسلمون على أن دية شبه العمد والخطأ مضروبة على العاقلة، والأصل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وتمام الحديث ماروي عن حمَل بن مالك بن ربيعة، قال: "كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وفي رواية بمِسْطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المقتولة على عاقلة القاتلة"، وفي الجنين غرة عبد أو أمة.
والعاقلةُ مشتقة من العقل يقال: عقلت فلاناً إذا أدّيت عنه الدية، فالعقل مصدر عَقَلَ يَعْقِلُ، فالعقل الديةُ نفسها، وسميت الدية عقلاً لأنها تؤدّى من الإبل، فكانوا يعطونها بالعقال، وهو ما يعقل به.
وأجمع النظار وأرباب الأقيسة أن ضرب العقل على العاقلة معدولٌ عن القياس، لأنه مؤاخذةُ الغير بجناية الغير، وموجب القياس إيجاب الدية على الجاني، وإن كان مخطئاً، فإنا نوجب عليه قيمة ما يتلفه من المال في ماله، مخطئاً كان أو عامداً.
والمقدار الذي ذكره العلماء في المعنى الذي فهموه من غرض الشارع-وإن كان لا يستد على السبر اعتبارُه- أن العرب كانت تتناصر ويذبّ بعض العشيرة عن البعض، بالنفس والمال، ويناضل البعض دون البعض، فورد الشرع بإعانة المخطىء إذا ورد منه زلل، وقد كانوا يتعاطَوْن استعمالَ الأسلحة للتدرب بها، ولا يبعد إفضاء استعمالها في وجوهٍ من الخطأ، فهذا ما تخيله الناظرون على البعد، وإنما ذكرناه لأنا
في تفصيل المسائل قد نعتضد بأطراف هذا المعنى.
10752- ثم الدية المضروبة على العاقلة تجب على العاقلة أم يَلْقى وجوبُها القاتلَ ثم العاقلة يتحملون عنه.
توجيه القولين: من قال: إنها تَلْقى العاقلةَ، احتج بظواهر الأخبار، فإنه روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة".
ومن قال: الوجوب يلقى القاتلَ، استدل بأنا إذا قلنا به، فقد استمسكنا بطرفٍ من قياس الأصول، وجعلنا التحمل في حكم الإعانة، كما يؤدّى الدينُ عمن تحمّل بحَمالة في إصلاح ذات البين من سهم الزكاة، وقد قدمنا مثلَ هذا التردد في زكاة الفطر، إذا أدّاها الغير عن الغير، وأشرنا إلى قريبٍ منه في كفارة الوقاع في نهار رمضان في حق المرأة تفريعاً على أحد القولين.
وما ذكرناه من تردد في القول هاهنا من الملاقاة لسنا نُسنده إلى منصوص صاحب المذهب نقلاً صريحاً، وإنما نتلقاه من تصاريف كلامه في التفريعات، ومعناه الذي يجريه في أثناء كلامه، ونظيرُه كثير؛ فإن النقل يقع تارةً لفظاً وتارة من جهة المعنى والاستنباط، وسيأتي في مسائل الباب أثرُ هذا الاختلاف.
10753- ثم لم يختلف المذهب أنا إذا تمكنا من ضرب العقل على العاقلة، فلا نضرب شيئاً منه على القاتل، وقال أبو حنيفة: عليهما؛ فهو أحد العواقل، فلو كان الجاني صبياً، أو امرأة، أو مجنوناً؛ فلا شيء عليه، لأنه لا يعقل عن غيره مع نقص من النقائص التي ذكرناها، فلا يعقل عن نفسه، ومعتمد مذهبنا الحديثُ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، فأضاف جملة الدية إلى العاقلة، فكان هذا كما لو وصى لزيد ولأولاد بكر بمال، فلا يصرف من الوصية لأولاد زيد شيءٌ، ولا إلى بكر.
ثم مذهبنا كما لا يضرب شيء من العقل على القاتل، كذلك لا يضرب شيء منه على عمودي نسبه، فليس على أبوي القاتل وأجداده شيء، وليس على ابنه وأولاده شيء، خلافاً لأبي حنيفة، وقد ذكرنا متعلَّقَ المذهب في هذه المسألة في (الأساليب) وغيرها من المجموعات.
10754- فإذاً العاقلة المتحملة هم الذكور البالغون العقلاء من عصبات القاتل، ما عدا عمودي النسب، ويُقدم الأقرب فالأقرب، وأقرب العصبات بعد استثناء العمودين الإخوةُ أولادُ الأب، وهل نقدم أخاً على أخ بقرابة الأمومة؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يقدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب، كما يقدم عليه في عصوبة الميراث.
والثاني: لا يقدم عليه؛ فإن قرابة الأمومة لا أثر لها في التحمّل، ولها أثر في الميراث، فلا يبعد أن تستعمل ترجيحاً في العصوبة.
ثم بعد الإخوة بنوهم، وكما اختلف القول في الأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، كذلك اختلف القول في ابن الأخ من الأب والأم، وابن الأخ من الأب، والقولان يجريان على هذا النسق في الأعمام وبنيهم إن وجد من بعضهم إدلاءٌ بقرابة الأم مع قرابة الأب، وانفرد من في درجته بقرابة الأب.
10755- ثم بعد هذا نقول: ترتيب العصبات في تحمل العقل بالنسب كترتيب العصبات في الميراث إلا في شيئين:
أحدهما:متفق عليه في المذهب- وهو استثناء عمودي النسب، والثاني: مختلف فيه، وهو الترجيح بقرابة الأمومة؛ فإن هذا معتبر في عصوبة الميراث، وهو مختلف فيه في تحمل العقل، والضرب على الإخوة للأب والأم، ثم الإخوة للأب، ثم بني الإخوة للأب والأم، ثم بني الإخوة للأب، ثم على الأعمام للأب والأم، ثم على الأعمام للأب، ثم على بني الأعمام للأب والأم، ثم على بني الأعمام للأب، ثم على أعمام الجد، على الترتيب المذكور في عصبات النسب.
ثم سبيل التقديم في عصوبة الميراث تخصيصُ الأقرب، وحرمانُ الأبعد بالكلية، ولا يجري الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ فإنا نبدأ بالأقربين، فنضرب على كل واحد مقداراً من العقل، على ما سيأتي الشرح عليه من بعدُ-إن شاء الله عز وجل- فإن استوعب الواجبَ من العقل، فذاك، وإن بقي شيء، لم نفضّه على الأقربين، بل انتقلنا منهم إلى من يليهم وهكذا نفعل إلى حصول الغرض. وعند أبي حنيفة يسوي بين القريب والبعيد، ويضرب عليهم بالسوية.
10756- ثم نقول: إن عدمنا عصبة النسب، فالمعتِق، ثم عصبات المعتِق ثم معتِق المعتِق، ثم عصبات معتق المعتق، فإذا عدمنا-على هذا الترتيب الذي ذكرناه في معتق الجاني- وإذا لم نجد من له نعمة الولاء على الأب، انتقلنا إلى من له نعمةُ الولاء على الجد، فنضرب على معتِق الجد ثم على عصباته، وهكذا الترتيب إلى حيث ينتهي.
ثم قال الأصحاب رضي الله عنهم: إذا لم نجد معتِق الجاني، ووجدنا عصباتِه فلا نضرب على أب المعتق، فإنه ثبت أنا لا نضرب على عمودي نسب الجاني شيئاًً، وهذا خارج عن القياس عندنا؛ من جهة أنا لم نضرب على الجاني نفسه، فلم نضرب على عمودي نسبه، ونحن نضرب على المعمَق لو كان حياً، فلا يبعد أن نضرب على أبيه وابنه، وعن القفال وجهان:
أحدهما: أنا نضرب عليهما.
والثاني: لا نضرب عليهما، وإليه صار معظم الأصحاب. والمتعلق فيه ما روي: "أن مولىً لصفية بنت عبد المطلب جنى، فقضى عمر رضي الله عنه بأرش الجناية على علي رضي الله عنه ابن أخيها، وقضى بالميراث لابنها الزبير". 10757- ثم قال الشافعي: "ومن في الديوان، ومن ليس فيه سواء... إلى آخره".
قصد بذلك الرد على أيى حنيفة؛ فإنه صار إلى أن الذين يجمع أسماءهم ديوانٌ، فإذا جنى بعضهم ضُرب العقل على أهل الديوان، وإن لم يكونوا على تواصل في النسب والولاء.
وهذا لا أصل له من خبر ولا نظر، ولم يكن الديوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أبي بكر، وإنما أحدثه عمر رضي الله عنه في آخر عهده.
10758- ثم قال: "ولا أعلم مخالفاً بأن الصبي والمرأة لا يحملان شيئاًً... إلى آخره".
الصبيان والمجانين والنسوان لا يضرب عليهم من العقل شيء، وإن كانوا موسرين، وهذا لا يُعرف فيه خلاف، ولعل المرعيّ فيه أنهم ليسوا من أهل النّصرة بالسيف، وهذا الباب في التناصر مخصوص بأهل القتال.
وذكر العراقيون وجهين في الزّمِن الموسر إذا كان لا يُرجى زوال ما به: أحد الوجهين- أنه يضرب العقل عليه؛ فإنه من جنس الرجال وهو عاقل بالغ.
والثاني: لا يضرب عليه، لأنه ليس من أهل النصرة، والدليل عليه أنه يرضخ له، كما يرضخ للصبيان والنسوان.
فصل:
قال: "وتؤدي العاقلة الديةَ في ثلاث سنين... إلى آخره".
10759- العقل المضروب على العاقلة يكون مؤجلاً، لا محالة، وابتداء الأجل يكون-إذا كان المعقول دية النفس- من وقت الموت وزهوق الروح، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه قال: ابتداء المدة من وقت قضاء القاضي، إذا فرض الترافع إلى مجلس القضاء، حتى قال: إذا مضت ثلاث سنون من وقت وقوع القتل، ولم يتفق الترافع إلى مجلس الحكم، فلا شيء على العاقلة، بل يفتتح القاضي عند الارتفاع إليه ضَرْبَ المدة، ولا اعتبار بما مضى.
وهذا زلل لا أصل له، والمدد تنقسم: فمنها ما يثبت في العقود، وهو إلى ضرب العاقدَيْن، فإذا فرض ضرب أجل في عوض يقعُ، ثم لو شرط الخيار فيه، فابتداؤه محسوب من وقت العقد أو انقضاء الخيار؟ فيه اختلاف مشهور بين الأصحاب، والظاهر أنه محسوب من وقت العقد، وهذا يضاهي اختلافَ الأصحاب في أن خيار الشرط يحسب ابتداؤه من وقت العقد أو من زمان خيار المجلس، وكل عقد لا خيار فيه، فالأجل المضروب في عوضه محسوب من وقت العقد. ومن الآجال آجال الزكوات، وابتداؤها من وقت حصول النصاب الزكوي في ملك من هو من أهل الزكاة، وتفاصيل القول في الآجال مضت على الاستقصاء في كتاب الزكاة.
ومن المدد سنة الجزية، وفيها تفصيل حسن ليس بالهين وسيأتي في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل.
والأجل الذي يتعلق بضرب القاضي عندنا هو أجل العُنة لا غير، والسبب فيه ارتباطه بوجوب التعرف عن عُنّة الزوج، حتى نتبين أن الزوج يُقرّ بها أم ينكرها.
وهذه المقدمات لا تجري إلا في مجالس القضاة.
ومدة الإيلاء من وقت الإيلاء، فإن ابتداءها لا يستند إلى معنىً مجتهد فيه يتعلق بمجلس القضاة.
ومدّة الجناية من وقت وقوعها، ولا حاجة إلى فرض اجتهاد في وقت المحسوسات.
10760- ولو قطع قاطع إصبعَ رجل، فسرت الجراحة إلى كفه، فسقطت، فلأصحابنا وجهان في ابتداء المدة المعتبرة في الطرف-على ما سيأتي تفصيل القول في أروش الأطراف، ومُددها إذا فرض ضربها على العاقلة- من وقت سقوط الكف، أم كيف الوجه فيه؟ فمنهم من قال: ابتداء المدة من وقت سقوط الكف؛ فإنه مستقرّ الجناية، وهذا ضعيف.
ومنهم من قال: أرش الإصبع يعتبر ابتداءُ مدته من وقت قطع الإصبع، وأرش الكف من وقت سقوط الكف، وهذا هو الصحيح.
ولا خلاف أن من قطع يد رجل أو يديه، فابتداء المدة من وقت القطع، ولا نتوقف إلى اندمال الجراحة، وإن كنا قد نقول: المطالبة بالدية قد لا تتوجه إلا بعد اندمال الجراحة، والسبب فيه أنا إن توقفنا في المطالبة بأروش الأطراف، فسبب توقفنا أن نتبين منتهى لجراحة.
وأما ابتداء المدة، فليس وقتَ طَلِبة، وإذا اندملت الجراحات، استبنا أن أروشها ثبتت من وقت القطع، ولا يجوز قياس المطالبة بضرب المدة، ولو انقضت والجراحة بعدُ سارية، ففي مطالبة العاقلة من الخلاف ما في مطالبة الجاني إذا كان عامداً.
فصل:
قال: "ولا يقوّم نجمٌ من الدية إلا بعد حلوله... إلى آخره".
10761- مقصود هذا الفصل وفصول بعده يبنى على ما نوضحه، فنقول:
الاعتبار بآخر السنة في صفة المتحمل، فإن كان في آخر الحول فقيراً، لم يُضرب عليه من العقل شيء في هذه السنة، وإن كان غنياً فيما مضى من السنة، فالاعتبار إذاً بالوقت الأخير الذي هو منقرض السنة، وكما نعتبر آخر الحول في أصل العقد، فكذلك نعتبر هذا الوقتَ في المقدار المختلِف بالغنى والتوسط، كما سنصف ذلك على الاتصال بهذا.
ولو مضى بعض السنة، ومات من هو العاقلة، لم نضرب على تركته شيئاً، وليس كما لو مات الذمي في وسط السنة، فإن المسألة تخرج على قولين فيه:
أحدهما: أنا نطالب بقسط من الجزية، والفرق أن الجزية لها شبهٌ بالأجرة، وكأن دار الإسلام هي المكراة منهم، كما سيأتي هذا في موضعه-إن شاء الله عز وجل- وهذا المعنى غير مرعيّ فيما نحن فيه.
ويخرج من هذا أنا لا نحكم بأن الدية تجب على العاقلة مؤجلة، بل نقضي أن ابتداء وجوبها في آخر السنة، وهذا فيه تعقيد؛ فإن الدية إن كانت واجبة، فلتجب على العاقلة، ولتكن مؤجلة عليهم، وإن لم تكن واجبة، فهذا يبعد عن قياس الأصول، فإن موجِبَ الدية القتلُ، وقد وقع، وكان الأصل وجوب الدية، وهذا أصل بدعٌ لا نظير له.
والأوجَه عندنا في ذلك أن نقول: وجبت الدية بالقتل، وهي متأصِّلة، ولكنا لا نضيف وجوبها إلى العاقلة، فإن كانوا فقراء، تبينا أن وجوبها لم يتعلق بهم، ولكنها متعلّقة ببيت المال، والدليل عليه أنا لا نتأنّى بها في حق بيت المال عند افتقار العاقلة في الحول الأخير.
وإذا لم يكن في بيت المال مال، فقد نقول: العقل مأخوذ من القاتل على ما سنذكر ذلك متصلاً بهذا.
فإذاً ما يجب تحصيله أن الدية وجبت بالقتل مؤجلةً، والتوقفُ في الجهة التي يضاف الوجوب إليها، فالإبهام في هذا لا في أصل الوجوب.
ومن تمام القول في ذلك: أن العاقلة إذا كانوا أغنياء في آخر الحول، استقرت عليهم الحصص من الوظيفة الضرورية، فلو افتقروا بعد هذا، لم يسقط عنهم ما استقر في ذمتهم، ولم نعدل عنهم إلى بيت المال؛ فإن بيت المال لا يتحمل عن العاقلة ما استقر عليهم، كما لا يتحمل سائر الديون عمن استوجبها وأفلس بأدائها، ولو ماتوا بعد استقرار حصصهم، فهي مستوفاة من تركاتهم استيفاء الديون المستقرة. 10762- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لا نقوّم على العاقلة نجماً من الإبل إلا في آخر الحول... إلى آخره" وهذا بناه على ما هو الأصل المشهور في أن أصل الدية الإبل، والحاجة تمس إلى تقويم الإبل على العاقلة؛ فإن الحصة التامة على الواحد منهم نصفُ دينار في كل سنة، فلابد من تقويم ما يحلّ من الدية، حتى نتبين فض الدية عليهم، كما سنبين أقدارها، فأبان رضي الله عنه أنا في هذا التقويم نعتبر الوقت الذي نعتبر فيه اليسار والافتقار، والتوسط والغنى، وهذا جارٍ على القياس الذي مهدناه.
فصل:
قال: "ولا يحملها فقير... إلى آخره".
10763- دية الخطأ وشبهِ العمد لا تحمل على الفقراء عندنا، ولا فرق بين أن يكون معتملاً وبين أن يكون غيرَ مُعتَمِلٍ، خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنه حكم بضرب العقل على الفقراء وهذا مذهبه في ضرب الجزية، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله.
والضريب مضروب على الغنيّ والمتوسط، وقد استعمل الأصحاب هذه الألفاظ، وأطلقوها: أما الفقر فأقرب مُدرك له الفحصُ عن مقدار المضروب، فنعتبر الغنى عنه، ونعتبر الاحتياج إليه، فأما الغنى والتوسط، فلفظان مطلقان لم يتعرض لبيانهما أحد، ولا يمكننا أن نقول: الغني من تجاوز حد الفقر، فيسقط المتوسط من الوسط، وإن رددنا المتوسط والغني إلى أسماء النِّسب حتى نقول: هؤلاء متوسطون بالإضافة إلى من فوقهم، فهذا وإن كان تَحْويماً على المقصود، فليس فيه شفاء، وليس الغنى والتوسط من الألفاظ التوقيفية حتى نسلك فيها طريق الاتباع، فما الوجه؛ وكيف السبيل؟
أما الفقير، فلا يمكن وصفه بالذي يستحق سهمَ المساكين، فإذا أخرجنا المعتمِل من التحمل مع العلم بأن المكتسب الذي يرد كسبُه عليه بُلغتَه وحاجتَه لا يأخذ من سهم الفقراء والمساكين شيئاً، ولا يُضرب عليه من العقل شيء؛ إذ يبعد أن يكلف أن يكتسب ويؤدي أرش جناية غيره، والتحملُ موضوع على فضلات أموال العاقلة، لا على طاقتهم واستمكانهم من تحصيله، هذا أصل الشافعي رضي الله عنه، والفِطرة لا تجب على الكسوب عن نفسه، ثم عمن يفرض التحمل عنه، فكيف نقدّر الضربَ على من لا يملك ويقدر على الكسب، وإن قلنا: الفقير الذي لا مال له، اعترض علينا النظر فيمن يملك مسكناً وخادماً، وانتشرت أطراف الكلام في الأمور التي قدرناها في الكفارات المرتبة.
فالوجه أن نقول: ما تتحمله العاقلة، فسبيله المواساة، وهذا الضرب يجب أن يكون واقعاً وراء حاجةِ تحمّل المُواسي، ويجب ألا يكون لما يقدّر له أرش أثر وموقع في الباذل، ويخرج من هذا الأصل أنا لا نكلفه أن يبيع شيئاً من مسكنه الذي يؤويه وأهله، ويجب أيضاً ألا نكلفه أن يبيع من عبده الذي تمس حاجته إلى خدمته، كما قدمنا ذلك في الكفارات المرتبة، وبيان الانتقال فيها من الأصل إلى البدل، والأصل المرعيّ ما ذكرناه من رعاية المواساة من غير أن تكون مجحفة.
وهذا هو الذي فهمه الأولون من العلماء الذين قربت أعصارهم، حتى حملهم على ما نصفه في مقدار ما يحمل كل واحد من العواقل، فقالوا: على الغني في آخر كل سنة نصفُ دينار، ولا مزيد، وعلى المتوسط ربعُ دينار، ولا نعرف في ذلك أثراً ثابتاً ولا خبراً، ولكنهم علموا على الجملة المعنى الذي أشرنا إليه من رعاية المواساة، واستبانوا أنها لا تليق إلا بفضلات الأموال التي لا يحيف بها هذا المقدار. 10764- وأنا أقول الآن والله المستعان: لست أعرف ضبطاً من جهة التوقيف- لفظاً ولا معنىً- يشير إلى بيان الغِنى أو إلى تقريب قول فيه؛ فإن الغنى والتوسط من أسماء النِّسب، وهي لا تنحصر ولا تنقصر، فالرجل ذو الثروة الضخمة بالإضافة إلى من فوقه قد يكون متوسطاً، وهو بالإضافة إلى من تحته غنيّ.
فأقصى ما يتخيله الإنسان في ذلك على الجملة أمور نشير إليها، ثم أذكر ما يتعلق بمقتضى العقل في ذلك، فأقول: قد يخطر للناظر أن المتوسط هو الذي يقع في الدرجة العامة والطبقة العليا من طبقات المتصرفين في البلاع الذي يرقيهم عن رتبة الفقر، والغنيّ هو الذي يقع في رتبة الاختصاص، ويعدّ من الأفراد، فيقع المحتاجون طرفاً، والمخصوصون يقعون طرفاً إذا قرّبنا القول فيه، والغنيّ من أشرنا إليه.
هذا وجهٌ، وهو بعيد لا سبيل إلى اعتقاده؛ فإن ضرب العقل إنما هو في التحقيق يغرِّم عصبات القاتل أروشاً، وتقسيمهم إلى الأغنياء والمتوسطين من الأمور العامة، فحمل الأغنياء على المتوحدين في الناس الذين يُرْمَقون بالاختصاص بالرتبة العليا لا وجه له، وليس لنصف دينار من المقدار في استدعاء اليسار ما يجب الحمل على المنفردين في كل قُطر، فهذا لا سبيل إلى اعتقاده، وإنما ذكرناه في صدر المباحثة على عادتنا في هذا المجموع، حتى يزول عن الفكر ما لا حاجة إليه.
وإن قال قائل: ننسب عاقلة كل إنسان، ونجعل أفرادهم مرتبةً، ونسميهم الأغنياء، ونجعل المنحطين عنهم بالإضافة إليهم متوسطين إذا لم يكونوا أصحاب حاجات، فهذا لا أصل له؛ فإطلاق الغنى يشير إلى ما الناس عليه، وقد يكون الأغنياء على التقريب الذي أشرنا إليه في العصبات دون أوسط الخلق، فلا وجه إذاً لذلك، فلا يُفضي التعلق به إلى وجهٍ شافٍ.
10765- والأقرب عندي أن نأخذ رتبة الغنى مما بلغنا من قول الأصحاب في المقدار الموظف على الغني في الزكاة، والمقدارُ نصف دينار، وأقل ما نعتبر في المقام الذي انتهينا إليه الزكاة؛ فإنها على التحقيق مواساة، فالوجه أن نقول: من فضل عن جهات حاجاته: من المسكن والمملوك وغيرها، مما يتعلق به الاعتبار في الكفارات المرتَّبة- مقدارُ عشرين ديناراً، فيجوز أن يكون هو المعنيّ بالغني.
فإذاً سنعيد التفصيل: فالتحكم بهذا المقدار نسبةً متلقى من مقدار المأخوذ، ومضاهاة هذا الباب بباب الزكاة في التحمل والمواساة، وقد شهد لذلك اعتبار النسبة، وإن كانت القاعدتان تختلفان في التفاصيل.
فإذا لم نجد ضبطاً واضطررنا إلى التمسك بتقريبٍ، فأقرب الأمور أن يتلقى محل الإشكال في المسألة ممّا وجدناه فيها، وهو مما نصصنا عليه، غير أنا نوجب الزكاة على من ملك عشرين ديناراً، وإن كان في اختلالٍ من حاله، وضعف من عياله؛ نظراً إلى مقدار الملك ونشترط في الزكاة أموالاً مخصوصة، حتى لو ملك الرجل من العقار أموالاً لها مقدار في النفوس، فلا تستوجب الزكاة، والسبب في ذلك أن الزكوات من حقوق حالاتهم وحاجاتهم، وصفة الزكاة على الضبط، وأما ضرب العقل على العاقلة، فمواساة بعد استغناء، فلا نكتفي فيه بملك، بل نشترط أن يفضل من جهات الحاجات هذا المقدار، ثم لا نشترط تملك الأجناس المخصوصة الزكاتية؛ فإن المواساة تعلقت بعين الباذل المُواسي، وليست من حقوق أمواله، والوظائفِ الشرعية المتعلقة بأعيان الأموال.
فينتظم من ذلك أن الغني المخاطبَ بإخراج نصف دينار هو الذي يفضل من حاجاته هذا المقدار، والمتوسط هو الذي ترقّى عن الحاجة، ويقع ملكه دون المقدار الذي ذكرناه.
10766- ثم الذي ذكره الأصحاب أن نصف الدينار مأخوذ من أقل الزكاة، وربع دينار مأخوذ من نصاب السرقة، ولست أنسب ربع دينار إلى حساب العشرين، حتى يقال: المتوسط من يكون على شطر الغنيّ في فاضل ماله، هذا لا سبيل إلى التحكم به، ولكن يكفي في رتبة التوسط أمران:
أحدهما:التعلِّي عن الحاجة، والانحطاط عن رتبة الغنى، على ما شرط ألا يصير ببذل الربع إلى درجة الحاجة؛ فإن مبنى الباب على المواساة من غير تعريض من يواسي للضرار، والاقتصارُ على هذا المقدار النزر أصدق شاهد فيما ذكرناه.
فهذا هو الذي اعتلقه فهمي، وليس عندي فيه نقلٌ، ولا تحويم عليه، وإنما ذكرتُه أخذاً من المقدار الذي صادفته منصوصاًً عليه للاصحاب، وعلمتُ قطعاً أنهم لم يُعنَوْا ببيان ما تورطنا فيه، وفوّضوا الأمر فيه إلى درك الفاهم، فهذا منتهاك، والرأي بعده للموفّقين، المستجمعين لاستحقاق النظر في مضايق الشريعة. والعلم عند الله. فهذا ما أردنا ذكره في ذلك.
10767- ثم مما يجب الاعتناء به إذا فضضنا على الأغنياء الواقعين في الدرجة من أغنياء العاقلة ما ذكرناه، ثم انحططنا، ففضضنا على المتوسطة ما ذكرناه، فإن وفّى ما نأخذه من الواقعين في الدرجة العليا بمقدار الأرش، فهو المُنى، وإن لم يفِ رَقَيْنا منه إلى من هو أقرب إليه من العواقل، ونحن في ذلك كله نضرب على الغنيّ والمتوسط ما ذكره الأصحاب، ثم نرقى منهم إلى من هو أبعد منهم، ولا نزال نفعل ذلك ونرقى من درجة إلى درجة، حتى نستوعب الأقارب، ثم نرقى إلى أصحاب الولاء، ثم إلى عصباتهم.
فإذا لم يبق من العاقلة الخاصة أحدٌ على الترتيب الذي ذكرناه، وفضل من الوظيفة المطلوبة في آخر السنة شيء، فإنا نضربه على بيت المال على السهم المرصد للمصالح؛ فإن هذه الجهة هي الجهة التي تنصبّ إليها تركات الذين لا يخلّفون من خواصّ الورثة أحداً، وكل جهة تُثبت الوراثة، يتعلق بها تحصيل مواساة إذا كانت تضاهي جهة العصوبة، وهكذا تكون جهة التوريث بالإسلام؛ فإن العصوبة معناها استغراق آخر ما يفضل عن الفرائض من غير تقدير، فقد تحققت جهة العصوبة، إن نظرنا إلى قاعدة موضع الشرع على التناصر بين المسلمين.
10768- وإن لم نجد في بيت المال مالاً يفي به السهم المُرصد للمصالح العامة، فللأصحاب وجهان:
أحدهما: أنا نضرب العقل على القاتل.
والثاني: أنا
لا نضرب عليه أصلاً.
قال الأئمة: والوجهان مبنيان على أن الوجوب هل يلاقي القاتلَ، ثم العاقلة تحتمل عنه، أم الوجوب لا يلاقيه أصلاً؟ وفيه قولان قدمنا ذكرهما في تأصيل الباب.
فإن قلنا: الوجوب لا يلاقيه، فإذا عدمنا العاقلة، ولم نجد في بيت المال مالاً، لم نضرب عليه شيئاً، وإن قلنا: الوجوب يلاقيه، فإذا عدمنا من يتحمل عنه، طالبناه، والوجهان على هذا الترتيب مذكوران في الطرق.
وقد قطع القاضي رضي الله عنه بأنه لا يطالب القاتل إذا عدمنا العاقلة، أو صادفناهم محتاجين، وأخذ يفرق بين هذا وبين ما إذا لم يجد الزوج ما يخرجه عن فطرة زوجته، فهل يجب عليها أن تخرج الفطرة عن نفسها؟ فيه اختلافٌ مذكور في صدقة الفطر، وأتى بكلامٍ لا استقلال له في طلب الفرق بين هذا وبين القاتل خطأ.
وهذا الذي ذكره غير سديد، والأصحاب كلهم على ذكر الخلاف كما أوردناه.
التفريع:
10769- إن حكمنا بأن القاتل لا يؤاخذ بالدية أصلاً، ولم نجد في بيت المال مالاً، فلو حدث مالٌ في بيت المال لهذا المصرف، فهل يؤدَّى منه العقلُ؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحد الوجهين- أنا لا ناخذ من المال الحادث في بيت المال شيئاً، وذلك أنّ سبيل تحمل بيت المال كسبيل تحمل العاقلة الخاصة، فمن كان فقيراً من العواقل المختصين في آخر السنة المضروبة، لم نضرب عليه شيئاًً، فإن استغنى بعد ذلك، لم نضرب عليه ما فات ضَرْبُه بسبب الفقر؛ فإن الاعتبار بآخر السنة، ومن كان غنياً في آخر السنة، ثم افتقر، فما ضربناه عليه دينٌ مستقر في ذمته يطالَب به إذا وَجَد في حياته، ويؤدَّى من تركته بعد وفاته. فإذا كان فقيراً في الجزء الأخير في السنة فطريان الاستغناء بعده لا يرد إليه ضرباً أسقطناه عنه تعلُّقاً بآخر السنة في النفي والإثبات.
فكذلك إذا لم نصادف في آخر السنة مالاً في بيت المال يصلح لهذا المغرم، فقد سقط ذلك عن هذه الجهة، فإذا فرض بعد ذلك وجدان مال، لم يعد التعلّق ببيت المال. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أنا ناخذ من بيت المال العقلَ مهما حدث مالٌ للمصالح صالحٌ للمغارم، وليس بيت المال في ذلك كسبيل العواقل المختصين إذا كانوا فقراء، ثم استغنَوْا؛ وذلك لأن سهم المصالح لا اختصاص له بمصلحةٍ، وكذلك لا اختصاص له بوقتٍ وأوان، ولا يجري فيه من التأقيت والتخصيص ما يجري في حقوق العواقل المختصين، وكذلك نضرب في كل سنة جميع ما يبقى عن التزام الخواص بالغاً ما بلغ، ولا نقدّره بمقدار، فكما لا يتقدّر المضروب على بيت المال، فكذلك وجب ألا يسقط عنه التحمل بالمسلك الذي يُسقط التحمل عن العاقلة الخاصة.
وهذا قد يعارضه أن أصل التأقيت مرعيٌّ في بيت المال؛ فإن من قتل خطأ، ولا عاقلة له على الاختصاص، فالدية مضروبة على بيت المال، في ثلاث سنين، كما أنها تضرب على العواقل المختصة-لو كانوا- في ثلاث سنين.
ويمكن أن يقال: إذا لم نجد في بيت المال مالاً، فما ذكرناه من الخلاف في أنا هل نضرب على القاتل يُوجَّه من الخلاف الذي ذكرناه في أنه لو تجدد في بيت المال مال، فهل نأخذ العقل منه؟ فإن قلنا: نأخذ العقل مما تجدد، فلا نغرِّم القاتل؛ فإن جهة التحمل مرقوبة، وإن قلنا: لا نضرب العقل على ما تجدد في بيت المال، فلا يبعد أن نضرب على القاتل؛ فإنا لو لم نفعل ذلك، لأدى إلى تعطيل العقل وإهدار الدم، وإسقاط حقوق أولياء الدم.
10770- ومما يتصل بذلك أنا إذا رأينا تغريم القاتل حيث ذكرنا ذلك تتأجل الدية عليه بأجلها على العاقلة؛ من جهة أن دية الخطأ وشبه العمد، لا تجب شرعاً إلا مؤجلة، ثم إذا مضت سنة، ولم نجد من يحمله سوى القاتل؛ فإنه يؤدي هذه الوظيفة وهي ثلثٌ، فنُجري القاتل في رجوعنا عليه عند فقدان جهات التحمل مجرى ببت المال، وقد ذكرنا أن بيت المال يتحمل ما يفضل عن تحمل المختصين، وذلك أنا لو لم نضرب على القاتل، لعطّلنا العقل، والذي نحاذره التعطيلَ، إذا ضربنا البعض وتركنا البعض، فالذي تركناه تعطيلٌ، وتعطيله ما نحاذره.
10771- ومما يتصل بتمام الكلام لبيان المراد في ذلك أن من أقرّ أنه قتل خطأً، فإن أنكرت العاقلة، فإن لم تقم بينة، فالعاقلة لا يكلّفون العقلَ، وإقرار الجاني غير مقبول عليهم، وهذا مستدٌّ على قواعد الأصول، وقال الرسول عليه السلام: «لا تحمل العاقلة عمداً، ولا اعترافاً» وفي بعض الروايات: «لا تحمل العاقلة الخاصة» وكذلك لا نضرب على بيت المال؛ فإنّ إقراره كما لا يُقبل على عواقله المختصين به، فكذلك لا يقبل على بيت المال.
ثم اتفق الأصحاب وراء ذلك على أن العقل مأخوذٌ من المُقرِّ، ولم يخرّجوا هذا على الخلاف في أنه هل يلاقيه الوجوب، ثم العاقلة تتحمل، أم لا يلاقيه الوجوب أصلاً.
وكان لا يبعد عن القياس أن يقال: إذا قلنا: الوجوبُ لا يلاقي القاتلَ، فهو لم يقر على نفسه بشيء، وإنما أقر على عواقله، وإقراره عليها مردودٌ، وليس القتل لو ثبت عليه موجباً أمراً، حتى يُفرضَ التحمل عنه، وهذا المذهب لابد منه عندي لو صح المصير إلى أن القاتل لا يلاقي الوجوب، وقد ذكرنا في البناء على هذا أنا لو غرّمنا العاقلة، لم نغرم القاتل، فلابد أن نخرّج قولاً أن المُقِر بالقتل الواقع خطأً غيرُ مطالب بالعقل بناء على ما ذكرناه. ولست أحمل تَرْكَ الأصحاب لهذا إلا على ظهوره عندهم، وطلبهم أن يفرّعوا على القول الآخر.
ثم إذا طالبنا المقر، فالدية مؤجلة عليه كما تتأجل على العاقلة لو اعترفوا، فيطالَب في منقرَض كل سنة بثلث الدية.
10772- ثم ذكر صاحب التقريب وجهين في أن المقر على أي وجه يطالَب؟ أحد الوجهين- أنه يطالب على تقديره أصلاً في الالتزام.
والثاني: أن سبيل مطالبته كسبيل مطالبة من يعدِم الأصل، ولا يجد بداً من إقامة بدل مقامه، واستشهد لبيان الوجهين، فقال: إن قدرناه أصلاً، فهو بمثابة المستقرض يطالَب بالقرض، والمتلِف يطالَب بقيمة ما أتلفه، وإن أحللناه محل البدل، فهو بمثابة الغاصب إذا أبق العبد المغصوب من يده؛ فإنا نطالبه بقيمة العبد للحيلولة الواقعة، والقيمة تقع بدلاً عن المطلوب الأصلي، حتى إذا رجع العبد، ردّ العبدَ واسترد القيمة، ولا يظهر لما ذكرناه من التقدير كبيرُ أثرٍ في حق القاتل المقر إذا أنكرت العاقلة، فإنه يغرم من كل وجه، على أي تقدير.
وأثر ما ذكرناه يظهر في صورةٍ، وهي أن العاقلة لو أنكرت لمّا أقرّ القاتل، فإذا غرّمنا القاتل كما تقدم، فلو عادت العاقلة واعترفت، فلا شك أنهم يغرمون، ولكن الكلام يختلف على التقدير، فإن جعلنا القاتل الأصلَ في الغرم، فولي القتيل لا يرد ما أخذه من القاتل أصلاً؛ فإنه أخذه منه، وهو أصلٌ لا بدل، نعم، القاتل عند اعتراف العاقلة يرجع عليهم بما غرم، لا وجه غيره.
وإذا أحللنا القاتل محل البدل، فولي القتيل يرد ما أخذه من القاتل عليه، ويبتدىء، فيطالب العاقلةَ بحقه، وهذا أثرٌ ظاهر إذا تُصوِّرت المسألة بالصورة التي ذكرتُها.
10773- وقد قدمت في أثناء الكلام أنا إذا حكمنا بأن الوجوب لا يلاقي القاتل، فإذا أقر، لزم أن يخرّج على ذلك قولٌ أنه لا يطالب، ولم آت بهذا على ثبتٍ من النقل، وإنما قلته قياساً، لكنه احتمالٌ لم أذكره وجهاً، والذي ظننته من كلام الأصحاب ما يظهر.
فأقول: إذا أقر بالقتل وأنكر العاقلةُ، فالدية مأخوذة منه قولاً واحداً؛ فإنا لو لم نقل ذلك، لتعطلت الدية، وأفضى نقيض ذلك إلى إهدار الدم-وقد عسر الضربُ على العاقلة- فلا وجه إلا مؤاخذة المُقر.
وكان الأصحاب يقولون: الوجوب لا يلاقيه إذا وجدنا مسلكاً في التحمل عنه، فأما إذا لم نجد متحمِّلا، فلا وجه إلا تنزيل الدية على المقر، ووجهه أن التحمل ينزل منزلة ما لو كانت المرأة في حِبالة الزوج وهو من أهل تحمل الفطرة، فيخرج في هذه الحالة اختلافٌ في أن الوجوب هل يلاقيها؟ وإذا كانت خليّة عن الأزواج، فعليها أن تُخرج الفطرة عن نفسها؛ إذ لا متحمِّل عنها، فإذا ثبت القتل بالإقرار وأنكر العواقل، كان ذلك مشبّهاً بحالة المرأة الخليّة عن الزوج. هذا مساق كلام الأصحاب.
وإن افتقر العواقل ولم يكن في بيت المال مال هل نضرب عليه العقل؟ فلما لم ينقطع الترقب بفقدان المتحمل، ترددنا في الضرب على القاتل. هذا مقتضى النقل، وما ذكرته احتمال لائح، وإشكالٌ قائم.
10774- والذي يوضح ذلك أن الأصحاب قالوا: لو قتل الذمي إنساناً خطأ، ولم نجد له عاقلة خاصة، فلا سبيل إلى ضرب العقل على بيت المال، فإن قيل: هلا ضربتموه، فإنه لو مات ولم يخلّف وارثاً خاصاً، فماله موضوع في بيت المال، فاضربوا العقل الذي يلزم بالقتل الصادر منه خطأً على بيت المال، كما وضعتم مالُه في بيت المال؟ قلنا: مالُه ليس يؤخذ إرثاً، وإنما يؤخذ فيئاً، ويصرف إلى أهل الفيء، كما يصرف إليه كل مال يُتلقى من الكفار من غير إيجاف خيل وركاب، والغرم من جهة التحمل يتبع جهة الوراثة على طريق العصوبة، وهذا المعنى مفقود في الذمي؛ فإن جهة الإسلام لا يرث بها إلا موتى الأشخاص المسلمين.
ثم إذا لم نضرب العقل اللازم بالقتل الصادر منهم خطأ على بيت المال وأيسنا من تقدير ذلك، فالعقل مأخوذٌ منه، لم يختلف الأصحاب فيه، وكذلك لو كان للذمي أقارب مسلمون، وقد صدر منهم قتل على سبيل الخطأ، فالدية مأخوذة منهم.
10775- وإذا اتفق الأصحاب على ما ذكرناه، تبين منه أن العقل لا يعطَّل: أما القاتل، فإذا انحسم مسلك التحمل، فإن كان مأيوساً منه، فليس في المذهب تردد في أخذ الدية من القاتل، كما ذكرناه في الذمّي، وإن كان تعذر التحمل لفقدان المال في بيت المال، ففي هذا تردد متلقًّى من أنه لو حدث في بيت المال مال، فهل يُضرب عليه العقل أم لا؟
وإذا ثبت القتل بالإقرار، فهذا بين مسألة الذمي وبين فقدان المال في بيت المال؛ من جهة أن العاقلة إذا أنكروا وأصروا على ذلك مالَ جوابُ الأصحاب إلى أن القاتل المقر مطالَب بالدية، ثم ردّدوا الجواب في أن العاقل أصل في الغرم أو هو في حكم البدل، وقد ذكرنا ذلك. ولما أمكن فرض الإقرار بعد الإنكار، تطرق إليه احتمالٌ من غير نقلٍ أشرت إليه في أن المقر يجوز ألا يطالب على قولنا لا يلاقيه الوجوب، والمذهب ما نقلتُه لا الاحتمال الذي أبديته، فهذا سر الفصل أتينا به بادياً معلناً.
ثم مهما طالبنا القاتل بدية الخطأ، فهو مؤجل عليه على حسب تأجيله على العاقلة، غير أنه يؤاخذ بثلث الدية على الكمال في آخر كل سنة، والواحد من العاقلة لا يطالَب بأكثرَ من نصف دينار.
فصل:
قال: "وتحمل العاقلة كلَّ ما كثر أو قل... إلى آخره".
10776- المذهب الصحيح الذي عليه التعويل؛ أن العاقلة تحمل أروش الأطراف، كما تحمل دياتِ النفوس، وحكى العراقيون قولاً غريباً أن العاقلة
لا تحمل أروش الأطراف-كما لا تحمل متلفات الأموال- أصلاً؛ فإن التحمل يختص بأبدال النفوس إذا هلكت، وكأن هذا القائل يجعل التحمل من خصائص أبدال النفوس كالقسامة، ووجوب الكفارة، وقد يعتضد بأن ضرب العقل معدول عن القياس، وليس فيه إلا الاتباع، والشرع لم يرد إلا بتحمل أبدال النفوس، وهذا قول مهجور، لم يعرفه المراوزة، ولا أصل له، فلا نعود إليه.
10777- وإذا تبين أن أروش الأطراف تحملها العاقلة، كما تحمل دياتِ النفوس، فالأصح أنهم يحملون ما يقلّ وما يكثر، ولا يختص التحمل بمقدارٍ، هذا هو المنصوص عليه في الجديد.
ونَصَّ الشافعيُّ في القديم على أن العاقلة تحمل ثلث الدية الكاملة، فما فوقه، ولا تحمل ما دون الثلث، لأن ما دون الثلث قليل، وإذا بلغ الثلث، فهو على حد الكثرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد: "الثلث، والثلث كثير" والمذهب الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن العاقلة تحمل ما قلّ وما كثر من مقدارٍ في طرف القلة والكثرة.
وعند أبي حنيفة تتحمل العاقلة أروش الموضِحة إلى الدية الكاملة فما فوقها، فأما ما دون الموضِحة، فلا تحمله العاقلة.
10778- ثم من أصول الباب التعرض لبيان الآجال المرعية في ضرب أقدار الأروش على العاقلة، والنظر في أن الآجال هل تزيد بزيادة الأقدار، وهل تنقص بنقصانها، وفي الطرق اختباط ظاهر، ونحن نسوق المسلك البين في ذلك على وجهه، ثم نذكر ما نراه خارجاً عن القانون.
فنقول: دية الحر هي الدية الكاملة، وهي مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثُ الدية، على الترتيب الذي ذكرناه في الأغنياء والمتوسطين، والضرب على الأقربين الأدنَيْن، ثم الترقي منهم إلى ألا يبقى أحد من عصبات النسب، ثم الترقي إلى الموالي وعصباتهم، كما مضى، فإن فضل من الثلث شيء، ضربناه على بيت المال.
10779- ثم اختلف أصحابنا، فقال قائلون: المرعي في ذلك أن يكون المضروب على العاقلة ديةَ نفس محترمة مضمونة معقولة، ولا نظر إلى لمقدار.
ومن أصحابنا من عدّ الدية الكاملة المقدار المعتبرَ المرعيَّ.
ثم ينبني على هذا الاختلاف مسائلُ، وهي تنقسم: فمنها ما يتعلق بأبدال النفوس، ومنها ما يتعلق بأروش الأطراف، فأما ما يتعلق بأبدال النفوس، فدية المرأة نصف دية الرجل، فمن اعتبر في إثبات الأجل الأقصى كونَ المضروب على العاقلة بدل نفس، فهذا المعنى موجود في دية المرأة، فتُضرب عليهم في ثلاث سنين.
ومن اعتبر المقدار، حطَّ من الأجل لانحطاط المقدار، ثم قال: مقدار ثلث الدية الكاملة مضروب على العاقلة في سنة، وهو ثلثا دية المرأة، فيبقى ثلث ديتها، وهو مقدار سدس دية الرجل الكامل، فنضرب ذلك في سنة أخرى.
ومن الأصول المتفق عليها أن المقدار المضروب وإن قل في نفسه فلا بد من تأجيله، ولا يتصور أن ينقص أجل في الضرب على العاقلة عن سنة.
وما أجراه الأصحاب رضي الله عنهم في صور الخلاف-من اعتبار المقدار أو اعتبار بدل نفس محترمة- لابد وأن يكون له مأخذ محقق؛ فإن الأصول وعواقد مذهب الإمام تعتضد وتتأيد بأصل في الشرع لا يدافَع، وقد صح في حديث الجاريتين لما ضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، فأجْهَضَتْ وماتت، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم العقل على العاقلة، وروي مطلقاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالعقل على العاقلة في ثلاث سنين، فقال الشافعي في بعض مجاري كلامه:
لم تنقل مسألة واقعة قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب العقل على العاقلة إلا واقعة الجاريتين، فأمكن من ذلك أن نضرب عقل المرأة على العاقلة في ثلاث سنين، ثم إذا ثبت ذلك، اطرد منه أن بدل كل نفسٍ مضروبٌ في ثلاث سنين.
ويمكن أن يقال: قول الراوي: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم" تأسيسُ شرع منه، وليس تنفيذَ حكم في قضية للمسلمين، على أن الدية الكاملة مضروبة في ثلاث سنين، فينشأ من التردد في الأخبار اختلافٌ اتخذه الفقهاء رسماً مرجوعاً إليه في إجراء الخلاف والوفاق.
ثم إذا لاح ما ذكرناه نخرّج عليه أن دية المجوسية-وإن كانت أقل الديات- خارجة على الخلاف: فمن راعى في تكميل الأجل ثلاثَ سنين النفسَ المحترمةَ ضرب هذه الدية في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلثها.
ومن اعتبر المقدار جعل شَوْفَه الديةَ الكاملة، وضرب هذه الدية في سنة، فلا أقل من سنة، وإن قل قدرُ المحمول، ويطّرد الخلاف الذي ذكرناه في غرة الجنين، فإنها بدل نفس، فلا نُحلُّها في الترتيب الذي نُجريه محل أرش الطرف وفاقاً.
10780- ومما نرى إلحاقه بهذا المنتهى شيئاًن:
أحدهما: أن جماعة لو اشتركوا في قتل نفس، فقتلوه خطأ أو على شبه العمد، وكانت حصة كلِّ مشارك أقلَّ من ثلث الدية، فكيف السبيل؟ ظاهر المذهب أن حصة كل واحد مضروبة على عاقلته في ثلاث سنين في آخر كل سنة ثلث قيمتها، وذلك، أنهم بمثابة القاتل الواحد، فنجعل جميعَهم في حكم القاتل الواحد، ونجعل عواقلهم كعواقل شخص واحد، ولو كان كذلك، لكنا نقضي بثلث الدية في آخر كل سنة على جميعهم، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه.
وذكر أئمة الخلاف وجهاً آخر أنا نعتبر في حق كل شريك ما يلزم، فإن كان ثلثاً أو أقل من الثلث، ضربناه على عاقلته في سنة، وهذا يتضمن استقضاء الدية واستيفاءها من العواقل في سنة واحدة، وغالب ظني أني سمعت شيخي يذكر هذا الوجه، وقياسُه ليس بعيداً إذا قلنا: الاعتبار بالمقدار، وكل شخص متميز عن مشاركيه، وعاقلته متميزون عن عواقل أصحابه، والأصحُّ ما صح نقله عن أئمة المذهب.
هذا آخر ما أردنا أن نذكره.
10781- الثاني- أن رجلاً لو قتل نفوساً، فكيف السبيل في تأجيل دياتهم على عاقلته؟ قال الأئمة: إن قلنا: الاعتبار بالمقدار، فقد زاد الملتَزم على الدية الكاملة، فإذا كان قَتَل ثلاثةَ أنفس، فالملتزم مضروب على العاقلة في تسع سنين على ما نبين تفريعَه.
وإن قلنا: الاعتبار بالنفس، فلو قتل نفساً واحدة، لكان الملتزم مضروباً على العاقلة في ثلاث سنين؛ فإذا قتل نفوساً، فعلى هذا الوجه وجهان:
أحدهما: وهو الأفقه أنا نضرب جميع الديات على عاقلته في ثلاث سنين، فإن كل نفس متميزة عن غيرها، وبدل كل نفسٍ متأجل بثلاث سنين، وهذا بمثابة ديون مجموعةٍ على شخص، فإذا انقضى كلّ الأجل تصرّم بانقضائه آجال كل الديون، وهذا ما لا ينساغ في مسلك الفقه غيره.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت دية نفس في ثلاث سنين، فدية ثلاث نفوس في تسع سنين.
وهذا رديء، لا اتجاه له.
والذي أوثره الترتيبَ على هذا، فأقول: إن قلنا: الاعتبار بالنفس، فالنفوس الثلاث في ثلاث سنين من غير التفات إلى المقدار، وإن قلنا: الاعتبار بالمقدار ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نزيد على ثلاث سنين في قدر الديات على الاعتبار بالمقدار، والثاني: أن كل نفس متميزة عن غيرها، فلا وجه لضم البعض إلى البعض وتكثير المقدار بها؛ فإن كل نفس متميزة عن غيرها، وليس هذا كما سنذكره في قطع اليدين والرجلين؛ فإن الأروش متعلقة بشخص واحد، وزادت مقاديرها، فنفصل المذهب فيها، وهو بين أيدينا.
10782- ولو قتل رجلٌ امرأتين، فالذي يقتضيه الترتيب الذي أجريته أنّا إن اعتبرنا النفس، فالديتان في ثلاث سنين كدية المرأة الواحدة، وإن اعتبرنا المقدار، فوجهان:
أحدهما: أنا نضرب الديتين في سنتين، فإن مقدار كل دية نصف الدية الكاملة، ولا نضم دية إلى دية.
والوجه الثاني- أنا نضم دية إلى دية في المقدار، ونضربها في ثلاث سنين؛ فإن دية امرأتين كدية رجل. ومن سلك الطريقة الأولى قال: إن قلنا: باعتبار المقدار، فالدية في ثلاث سنين، وإن قلنا باعتبار النفس، فوجهان:
أحدهما: أنهما في ثلاث سنين.
والثاني: أنهما في ست سنين.
ولا يخفى على كل من اعتلق طرفاً من الفقه سقوط هذا الترتيب. وهذا يوضح وجوب الجريان على ما ذكرته.
ثم إذا قتل ثلاثة رجال كوامل، وفرعنا على الأصح، وهو أن الديات مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين، فعلى العاقلة في آخر كل سنة الثلث من دية كل نفس، فيجتمع عليهم في منقرض كل سنة مقدار دية كاملة من النفوس الثلاث.
وإن قلنا: إنها مضروبة عليهم في تسع سنين، فنضرب على العاقلة عند انقضاء كل سنة التُسع من كل دية، فيجتمع الثلثُ وهو ثلاثة أتساع ثلاث ديات.
10783- ومما لا يضر التنبيه له أنه لو قتل جماعةً في حالة واحدة مثلاً، فالأمر على ما وصفناه، فإن قتلهم على ترتيب في ثلاثة أيام مثلاً، فإن أقررنا كلَّ نفسٍ بحكمها، فدية كل نفس مضروبة على العاقلة في ثلاث سنين. وابتداء الأجل في كل ديةٍ من وقت اتفاق القتل.
والجملةُ المُغنية أن كل نفس تعتبر على حالها، وإن قلنا: إذا قتل النفوس زادت آجال الديات على ثلاث سنين؛ فإن تفاوتت تواريخ القتل، فقَتَلَ ثلاثَ أنفس في ثلاثة أيام، كما صورنا، فإذا انقضت سنة من القتل الأول، التزم العاقلةُ من ديته ما يلتزمونه من تلك الدية، لو وقع القتل في النفوس معاً، ثم إذا تم الحول بمضيّ يومٍ آخر، التزموا من الدية الثانية مثلَ ذلك، فإذا مضى يوم آخر، التزموا من الدية الثالثة ما التزموه من الأولى، وهكذا إلى انقضاء الأجل الثالث.
10784- ولو قتل عبداً خطأ، فقد اختلف القول في أن العاقلة هل تحمل قيمة العبد؛ أحد القولين- أنها تحملها وهو الأقيس؛ لأن نفس العبد بمثابة نفس الحر في القصاص والكفارة، فلتكن بمثابة نفس الحر في كون بدلها معقولاً.
والقول الثاني- أن العاقلة لا تحمل قيمة العبد؛ فإنها بدلُ مال، وهذا يقرب مأخذه من إيجابنا في أطراف العبد ما ينقص من قيمته، وقد روى الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا اعترافاً» وغالب ظني أن الصحيح الذي أورده أئمة الحديث: «لا تحمل العاقلة عمداً ولا اعترافاً» فلو صح النقل في العبد عسُر التأويل.
فإذا قلنا: قيمة العبد غيرُ معقولة، فهي مضروبة في مال القاتل عاجلاً تامّاً لا ننحو بها نحو الديات، بل نسلك بها مسلكَ قِيمِ البهائم إذا أتلفها المتلف.
وإذا قلنا: معقولة، فإن كانت على قدر الدية الكاملة، فلا شك أنها مضروبة عليهم في ثلاث سنين، على اعتبار المقدار والنفس، وإن كانت القيمةُ أكثرَ من دية الحر فإن نظرنا إلى النفس، اعتبرنا ضرب القيمة على العاقلة في ثلاث سنين من غير مزيد، فإن النفس متحدة، ولئن كان في هذا إجحاف، فيعارضه أن المجوسية مضروبة عليهم في ثلاث سنين.
ومما يتمسك به هذا القائل أنا لا ننقص الأجل قط عن سنة، وإن قلّ قدر الأرش، اتباعاً للتوقيف، فينبغي أن لا يزيد على ثلاث سنين؛ ليعتدل القول في الطرفين، ويتسق الاعتبار في الأدنى والأكثر.
وإن قلنا: الاعتبار بالمقدار، فقد قال هؤلاء: نزيد على ثلاث سنين، حتى إن كانت قيمة العبد ديتين كاملتين، ضربناها في ست سنين، وهكذا على هذا القياس: نزيد في الأجل إذا زاد المقدار.
وإن زادت القيمة على الدية الكاملة بمقدارٍ يسير، فذلك الزائد مضروب في سنة كاملة؛ لما ذكرناه من وفاق الأصحاب على أنا لا نضرب شيئاًً في شقص من السنة قط، ويمكن أن يقال: سببه أن مكاسب الإنسان تسير إلى الأثمان في كل سنة، فاعتبرت هذه المدة في التحمل عن القتل حتى نقدّر امتدادَ يد العاقلة إلى ما يواسون به، وذلك لا يختلف بقلة المحمول.
وقد نجز الكلام في النفوس وأبدالها.
10785- ونحن الآن نستفتح القول في أروش الأطراف، ونقول: أولاً هي معقولة محمولة، فإن انحطت عن النفوس بانتفاء الكفارة عنها، وعدم جريان القسامة فيها، فهي في معاني النفوس في الاحتياج إلى المواساة، والجِراحُ دون النفس يكثر بكثرتها العقلُ، هذا هو المذهب الذي عليه التعويل، وحكى العراقيون قولاً عن القديم أن العاقلة لا تحمل أروش الأطراف أصلاً، وهذا إن كان يتأتى تكلُّفُ توجيهه، فليس معتداً به.
ثم إذا تبين أن الأروش مضروبة على العاقلة، فلا فرق بين ما يقل وما يكثر، والمقدارِ النزر والكثير هذا مذهبنا.
وقال مالك رضي الله عنه: لا تحمل العاقلة من الأروش ما يبلغ ثلث الدية الكاملة، فإن زادت حملوا حينئذ، وعُزي إلى الشافعي قول في القديم مثلُ مذهب مالك، وهذا بعيد غير معتد به، وقد كررت مراراً أن القول القديم لا يحل عدّه من مذهب الشافعي، مع رجوعه عنه.
ثم التفريع عليه أن مقدار الثلث المحمول على الجاني لا يُحمل منه شيء، فإن زاد الأرش على هذا المقدار، فالكامل محمول على العاقلة، وكان يليق بالقياس أن يقال: قدر الثلث أبداً على الجاني، والزائد عليه معقول محمول؛ وهذا يخالف وضعَ الشافعي في الجديد، فإنه لم ير ضربَ شيء على الجاني لما رأى ضرب ما قل وما كثر على العاقلة، فلا تعويل على هذين القولين الغريبين: أولهما- أن الأروش لا تضرب على العاقلة، والثاني: أن مقدار الثلث لا يضرب على العاقلة.
ومن لم يضرب أروش الأطراف على العاقلة فما عندي أنه يخالف في إثباتها معجّلةً، كقيم المتلفات، فلا ينبغي أن نفرع على الأصول الضعيفة.
10786- وقد عدنا إلى المسير، فأول ما نذكره أن من قطع يدي رجل مسلم حر، فموجب اليدين دية كاملة، فالذي رأيت لمعظم الأئمة القطعُ بأنها مضروبة على العواقل في ثلاث سنين قولاً واحداً؛ فإنا إن اعتبرنا المقدار، فالواجب بالغٌ مقدار دية كاملة، وإن اعتبرنا كونه بدل نفس-والأرش ليس بدل نفس، ولكنه مشبه به قدراً وكيفية وجنساً- فلما أثبتنا في اليدين دية النفس، وجب أن يثبت لها جميع أحكام الدية، وهذا هو الذي لا يستقيم في مساق الفقه غيره.
وذكر شيخي أبو محمد وجهاً عن بعض الأصحاب أنا لو اعتبرنا كون الواجب بدل نفس، فنضرب الأروش-وإن بلغ ديةً، أو زاد- على العاقلة في سنة واحدة، وهذا وإن تكرر سماعي له منه، فلست أرى الاعتداد به.
ولو قطع يد مسلم كامل؛ والتزم نصف الدية، فإن اعتبرنا المقدار، فالأرش مضروب على العاقلة في سنتين: نضرب مقدار ثلث الدية في آخر السنة الأولى ونضرب السدس الباقي في آخر السنة الثانية، وليس الواجب بدل نفس، فنخرّجَ وجهاً آخر أنه مضروب في ثلاث سنين.
ولو قتل امرأة، فديتها مضروبة في ثلاث سنين على أحد الوجهين، إذا اعتبرنا النفس ولم نعتبر المقدار.
ولو قطع يدي امرأة، فالأرش مضروب في ثلاث سنين، على هذا الوجه الذي نفرع عليه، فإن الواجب في يدي المرأة ديتها.
ولو قطع رجل يدَ المرأة، فأرشها مضروب في سنة واحدة، بلا خلاف، فإن أرش الطرف إذا انحط عن مبلغ دية المجني عليه، فليس إلا اعتبار المقدار، فهذا ما يجب الإحاطة به.
10787- ولو قطع يدي رجل كاملٍ ورجليه، فمن اعتبر المقدار، ضرب الأروش في ست سنين، ومن اعتبر حرمة النفس أجرى وجهين:
أحدهما: أن الأرش وإن زاد على بدل النفس، فهو مضروب في ثلاث سنين؛ لأن الأطراف وإن كثرت أروشها لا تزيد حرمتها على حرمة النفس. والوجه الثاني- أنا نضرب الأروش في ست سنين، لأنها بلغت ديتين، فإذا كنا نضرب ديةً في ثلاث سنين، وجب أن نضرب مقدار ديتين في ست سنين.
وقد ذكرنا أن من قتل رجلين كاملين، فنضرب ديتيهما في ثلاث سنين، وهذا الذي نحن فيه من وجهٍ يشابه قتلَ نفسين، نظراً إلى وجوب ديتين، ومن وجهٍ ينقطع عنه، لأن من قتل نفسين، فكل نفس متميزة عن غيرها، وموجب القتل فيها ضرب الدية-من وقت وَقَع القتلُ- في ثلاث سنين.
وإذا قَطَع من كاملٍ يديه ورجليه، فالأروش وإن بلغت ديتين، فهي متعلقة بشخص واحد مجنيٍّ عليه، فيجوز أن يؤثر مقدار الكثرة في إيجاب الزيادة في الأجل؛ فإن المجنيّ عليه إذا كانت الأروش في حكم الموجَب الواحد لا تميز فيه، فاتجه المزيد في الأجل عند المزيد في المقدار.
وهذا فيه لطفٌ، من جهة أنا إنما نفرعّ على اعتبار بدل النفس، لا على اعتبار المقدار، وإذا أحللنا مقدار ديةٍ محل بدل نفس، فيحتل مقدار ديتين محلّ نفسين، ثم لا تميز؛ فإن المجني عليه واحدٌ، بخلاف ما إذا قتل نفسين.
10788-وقد ذكرنا عن شيخنا أبي محمد وجهاً أن أروش الأطراف مضروبة في سنة واحدة بالغة ما بلغت، فيجتمع في قطع اليدين والرجلين من كاملٍ-إن كان يُعتد بما حكاه- أوجه ثلانة: أحدها: أن الأروش مضروبة في ثلاث سنين.
والثاني: أنها مضروبة في ست سنين.
والثالث: أنها مضروبة في سنة واحدة، وهذا بعيد جداً.
وقد اجتمع في الفصل أقوال غريبة: أحدها: أنا لا نضرب أروش الأطراف على العاقلة، حكاه العراقيون.
والثاني: أنا لا نضرب مقدار ثلث الدية، حكاه أبو علي وغيره. والثالث: أنا نضرب أروش الأطراف في سنة واحدة بالغة ما بلغت.
فصل:
قال: "ولا تحمل العاقلة ما جنى الرجل على نفسه... إلى آخره".
10789- إذا كان الرجل يتعاطى أمراً، فأفضت آلةٌ كانت في يده إلى طرفٍ من أطرافه، وأفسدته، فهذه جناية منه على نفسه، وهي هَدَرٌ، وقال أحمد وإسحاق: إذا جنى على طرف نفسه جناية خطأ، وجب الأرش على عاقلته له، يستوفيه منهم لنفسه، وإن قتل نفسه مآلاً، وجبت الدية على عاقلته للورثة. وحكى صاحب التقريب قولاً مخرجاً قديماً في الغريب عن الشافعي أنه قال: جناية الرجل على طرف نفسه خطأٌ مضروب على عاقلته يستوفي أرشَها لنفسه، وهذا على نهاية البعد، لم أره منقولاً إلا عن طريق صاحب التقريب، والممكن في توجيهه أن العاقلة ألزمت أرش جناية الإنسان، حتى كأنهم جَنَوْا بأنفسهم، فموجب الشرع أنه لا يغرم إلا من تعلق به سبب الغرم، فإذا كانوا يتحملون أرش جنايته على
غيره، حتى كأنهم جنَوْا بأنفسهم، فإذا فرضت الجناية من الإنسان على نفسه، قُدّر كأنها صدرت من العاقلة، ولو كان هذا القول منقولاً في قتل الإنسان نفسه خطأ، لكان أوقع إذا فرعنا على أن الدية للقتل تجب للورثة ابتداء، فيكون في قتله نفسه في حكم جانٍ على ما هوحق غيره.
ولكن صرّح صاحب التقريب بنقل القول في الطرف، ولا شك أنه إذا أجراه في الطرف يجريه فيه إذا قتل نفسه، بل هذا أولى.
ولا تعويل على ما ذكرناه، والمذهب القطع بأن جناية الإنسان على نفسه مهدرة؛ فإنا إنما نقدّر التحملَ بعد اعتقاد وقوع الفعل مضموناً، ويبعد أن تكون جناية الإنسان على نفسه مضمونة.
10790- ثم ظهر اختلاف الأصحاب أن من قتل نفسه هل تجب الكفارة في تركته؟ وهذا الخلاف متجه؛ لأن الكفارة تجب للجناية على حق الله، وحقُّ الله في دم من قتل نفسَه ثابت فلا يمتنع أن يلتزم الكفارة، ومن لم يوجب الكفارة اعتصم بأن الفعل في وضعه مهدَر، وضمان الكفارة يتبع فعلاً مضموناًً. وهذا قولٌ لا يتجه؛ فإنا قد نوجب الكفارة المحضة، وسيأتي شرح هذا في باب الكفارة.
باب عقل الموالي
قال الشافعي: "ولا يعقل الموالي المعتقون... إلى آخره".
10791- اسم المولى ينطلق على المعتِق مستحق الولاء، وعلى المعتَق الذي عليه الولاء، وللمولى معانٍ لسنا لاستقصائها في وضع اللسان، ثم سمى الفقهاء المعتِق الذي هو مستحق الولاء المولى الأعلى، وسمَّوْا المعتَق الذي عليه الولاء المولى الأسفل، ولا خلاف أن المولى الأعلى يتحمل العقل عن المولى الأسفل، ولا خلاف-إذا أفضى التحمُّلُ إليه- على الترتيب الذي ذكرناه من قبلُ، ولست أضمن الآن بيان وجوه الولاء والأحكام المتعلقة بها في هذا المقام، ولا فيما قدمنا، وسيحصل كمال الوضوح وشفاء الغليل في باب الولاء من كتاب العتق.
والمولى الأسفل هل يتحمل العقل عن المولى الأعلى؟ على قولين:
أحدهما: أنه لا يتحمل عنه، كما لا يرثه، وهذا مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يتحمل؛ لأن المولى الأعلى إذا كان يتحمل عن الأسفل وهو المنعِم، فلأن يتحمل المنعَم عليه عن المنعِم أولى، قالوا إذا ثبت التحملُ في حق الأعلى وتحمله عن الأسفل، ثبت تحملُ الأسفل عن الأعلى، وليس كذلك الميراث؛ فإن استحقاق الإرث-إن استحق- يختص بمن يستحق الولاء، أما العقل، فالتحمل من قبل المواساة والإعانة والنصرة، ويبعد أن تثبت النصرة على الأعلى للأسفل، ولا تثبت النصرة على الأسفل للأعلى.
10792- ثم ذكر الأئمة رضي الله عنهم جملاً من الكلام في تحمل من يستحق الولاء، فنأتي بما أوردوه، ونُتبع إحالة البيان التام على باب الولاء، إن شاء الله.
فمما ذكره الأصحاب أنه إذا أعتق العبدَ المشتركَ الشركاءُ فيه، ثم جنى المعتَق، فلا نضرب على المعتِقين إلا ما نضربه على معتِقٍ واحد ينفرد بإعتاق العبد الخالص؛ وذلك أنه لم ينفرد واحد منهم باستحقاق الولاء التام، بل الولاء مفضوض عليهم، كما كان الملك مشتركاً بينهم، والتحمل في حق المعتِق يتبع الولاء، فإن كانوا أغنياء ضُرب عليهم نصف دينار في آخر السنة، وإن كانوا متوسطين، ضرب عليهم ربع دينار، وإن كانوا مختلفين: منهم الموسر ومنهم المتوسط، فنضرب على الموسر قسطاً من نصف دينار، ونضرب على المتوسط قسطاً من ربع دينار.
ولو انفرد الإنسان بالملك والإعتاق، ثم مات وخلف عَصبةً، فإذا جنى المعتَق جنايةً، فأفضى ترتيبُ العصبات إلى ضربها على عصبة المعتِق، فنضرب على كل واحد منهم حصةً تامة على حسب يساره وتوسطه: نصف دينار، أو ربع دينار.
وقد يعترض في هذا سؤال، وهو أن المعتِق لو كان حياً، لما ضربنا عليه إلا حصةً واحدة، والضرب على عصباته جاء من قِبله، فهلا ضربنا ما كان يخصه لو كان حياً على جميع عصبته، كما لو أعتق الشركاء عبداً مشتركاً؟ وسبيل الجواب عن ذلك أن الولاء في حق عصبة المعتِق ليس أمراً موروثاً حتى نُقدّر فضَّه على الورثة، أو على العصبات منهم، وينزلون حينئذٍ منزلة المشتركين في الإعتاق، ولكن العصبة يرثون بالولاء، ولا يرثون الولاء، وكان السببُ المورّث لهم انتسابَهم إلى من له الولاء، فيصير الولاء في حقهم مشابهاً للنسب، ومن يتحمل لأجل النسب يتحمل نصف دينار، ولو خلف ورثةً تحمَّل كلُّ واحد نصفَ دينار إذا كانوا موسرين.
وإن أردنا قولاً ضابطاً في ذلك، قلنا: كل واحد من عصبات المعتِق يتحمل ما كان يتحمله المعتِق، إذا اتفقا في اليسار والتوسط، وإن اختلفا في هذه الصفة، تغير المقدار لاختلاف الحال.
ولو أعتق جماعة عبداً مشتركاً بينهم، ثم مات واحد منهم، أو ماتوا جميعاً، وخلّفوا عصبات، فتَحْمِل كلُّ واحدة من العصبات ما كان يتحمله المعتِق لو كان حياً، حتى إذا كان يخصه نصف سدس دينار تحمل كلُّ عصبته هذا المقدار، مع الاستواء في التوسط واليسار.
10793- ومما يجب التفطن له في هذا المقام أنا إذا كنا نضرب على عصبات الجاني، فنبدأ بالأقربين منهم، فإذا فضل المضروب عن حصصهم، صرنا إلى الذين يبعدون، ثم هكذا، حتى لا نغادر من الأباعد أحداً، فإن فضل شيء، ضربناه على بيت المال.
فلو كان للجاني عصبات من جهة النسب، فاستوعبناهم على مراتبهم، وكان على الجاني ولاءٌ، نضرب على مُعتِقه حصةً إذا فضلت من أصحاب النسب، فلو قال قائل: إذا ضربنا على المعتِق لمّا أفضى الضرب إليه حصته، فهل نضرب على عصباته حصصاً على مراتبهم في القرب والبعد؟ قلنا: قيّد الأئمة الضرب على عصبات المعتق بموت المعتِق، وهذا يمكن تعليله بأن العصبات لا حق لهم في الولاء، ولا حق لهم بالولاء فيقعون من المعتَق في حياة المعتِق موقع الأجانب، فإذا مات، ورثوا بالولاء، وصار الولاء لهم لحمة كلحمة النسب، فإذ ذاك نضرب عليهم.
ولا يتجه إلا هذا، والأصول وإن كانت تدل على أن الولاء لا يورث، بل يورث به، فهو من حقوق الأملاك، وإنما يثبت الاختصاص به بعد موت المعتِق.
ثم الاختصاص على وجوه: قد يكون اختصاصاً يسمى ملكاً، وقد يكون اختصاصاً لا يوصف بالملك، وعلى أي وجه فرض الحق، فالحق يثبت متجدّداً للعصبة بعد موت المعتق، ثم إذا لم يكن معتِقٌ، وضربنا على عصباته، فهل نخصص بالضرب الأقربين ولا نتعداهم أم نتعداهم إلى الأباعد على ترتيب الرُّتب، كصنيعنا في عصبات النسب؟ هذا فيه تردد ظاهر: يجوز أن يقال: يُستَوْعبون استيعاب عصبات النسب؛ فإن الولاء كالنسب منهم، ويجوز أن يقال: نخصص الأقربين؛ فإنهم المختصون بالولاء والإرث.
والمسلك الأول أوضح؛ فإن مسائل الولاء دالّةٌ على أن الولاء لا يورث، بل يورث به، وهو كما ذكرنا بمثابة النسب، ويرث ابن المعتِق لا لأنه وارث، ولكن لأنه منسوب إلى الولاء بجهة مورثه.
فرع:
10794- ذكر ابن الحداد فصلاً في تحمل العقل يتعلق بجرّ الولاء- والقول في الجرّ سيأتي في موضعه-إن شاء الله- ولكنا ننجز ما يتعلق بباب التحمل، فنقول: إذا نكح العبد معتَقَةً، فولدت في حالة رقه ولداً، ثبت الولاء عليه لموالي الأم، فلو أعتق مالك الأب الأبَ، انجرّ الولاء من موالي الأم إلى معتِق الأب. هذا أصل الجرّ.
قال ابن الحداد: لو قتَل هذا الولدُ في حال رق أبيه إنساناً خطأ، فالدية على موالي الأم، فلو فرض عتق الأب بعد ذلك، وجرى الحكم بانجرار الولاء كما تقدم من الحكم به، فالضرب على موالي الأم لا يتغير.
وهذا فيه سؤال، في الانفصال عنه إبداءُ تحقيق: وذلك أن القتل إذا جرى في حالة رق الأب، فابتداء المدة من وقت القتل، ولكن قد قدمنا في أصول ضرب العقل أنا نعتبرآخر السنة في افتقار العاقلة ويسارهم وتوسطهم.، وهذا يعني أن الوجوب إنما يتقرر في آخر الحول، ولو كان كذلك، وجب ألا نضرب على موالي الأم؛ فإن آخر السنة يوأفيهم ولا ولاء لهم، بل الولاء ينجرّ عنهم، وما ذكرنا من أن الضرب عليهم يتحقق من وقت القتل، ثم يكون المضروب مؤجلاً، وهذا يخالف ما قدمناه، ويلزم على مساقه أن يصح من مستحق الدية إبراء العواقل قبل انقضاء السنة، وهذا
منقاس حسن. وإنما المسلك اعتبار اليسار عند منقرض السنة.
وإذا أردنا أن نقدر اعتبار اليسار في آخر السنة ونحكم في هذه المسألة على موالي الأم، والولاءُ مجرور عنهم ونفرق بين المسألتين؛ فلا نجد إلى الفرق سبيلاً، ولم يتعرض الشيخ أبو علي لهذا بل صرح باعتبار القتل في حالة الولاء، فالوجه تقرير ما أطبق عليه الأصحاب في الطرق من اعتبار اليسار في آخر الحول، وترديد الكلام في صورة الجرّ؛ فإن الاعتراض على مذهب إمامٍ في فرعٍ أهون من التعرض لما رئي متفقاً عليه. فهذا منتهى ما في ذلك.
ثم يستدّ بعد هذا التنبيه إتمام التفريعات.
10795- وما ذكرناه فيه إذا قتل ذلك المولود قتل خطأ، ثم يفرض عتق الأب، فلو جَرَحَ والولاء لموالي الأم جرحاً على سبيل الخطأ، ثم أُعتق الأب، وتقدر موتُ المجروح بعد انجرار الولاء، فنقول: أرش الجرح مضروب على موالي الأم، وما بعده إلى تمام الدية لا يضرب على موالي الأم؛ فإن الموت وقع بعد انجرار الولاء عنهم، ولا يضرب على معتِق الأب؛ لأن الموت وقع بجراحةٍ تقدمت على انجرار الولاء، والسرايةُ منتسبة إلى الجراحة، فمن حيث وقع الموت بعد الجرّ، لم يحتمل تمامَ الدية موالي الأم، ومن حيث ترتب القتل على جراحةٍ قبل الانجرار، لم يحتمل الديةَ موالي الأب.
ثم إن كانت الجراحة الجارية قبل الجرّ مقدرةَ الأرش كالموضِحة وقطع إصبع أو يد أو جائفة، فالأرش المقدر مضروب على موالي الأم، وما زاد عليه إلى تمام الدية يضرب في مال الجاني.
هكذا ذكره الأصحاب، وقطع به الشيخ في الشرح، وفيه إشكال نورده في معرض السؤال.
فإن قيل: إن تعذر ضرب ما يزيد على الأرش على موالي الأم، وموالي الأب للمعنى الذي ذكرتموه من وقوع الموت بعد الجرّ من وجهٍ، واستنادِهِ إلى الجرح الواقع قبل الجرّ من وجهٍ آخر، مع أن الضرب على العاقلة معدول عن القياس مُعرَّضٌ للسقوط بأدنى شيء، كما تتعرض العقوبات للاندفاع بالشبهات، فهلا قلتم: ما زاد على الأرش مضروب على بيت المال؛ فإنه إذا تعذر الحمل على موالي الأم والأب، فإن هذا التعذر بمثابة إعسارهم، وبيت المال معتمدٌ لتحمل الدية إذا عسر ضربها على الأخصّين، ومن إثبات العسر في الضرب على الموالي في الجانبين ما ذكرتموه؟ قلنا: هذا السؤال متجه جدّاً، ووجهه ما أوردناه في أثناء السؤال، ولست أُبعد أن يكون ما جاء به الشيخ جرياً منه على ظاهر الكلام في مسألة سنشير إليها بعد الفراغ من هذه.
10796- وهي أن ذمياً لو أوضح رأسَ إنسان، ثم أسلم وسرت الجراحة، ومات المجروح، فالأرش مضروب على العاقلة الذمية، وما عداه مضروب على مال الجاني، لا نضربه على الذميين لوقوع القتل بعد الإسلام، ولا نضربه على المسلمين لانتساب القتل إلى جُرح مضى في الشرك، ولا سبيل إلى ضربه على بيت المال؛ فإن بيت المال لا يتحمله للعلّة التي لا يتحمله لأجلها الأقربون المسلمون؛ فإن بيت المال لا يتحمل أثر جراحة جرت في الشرك، كما أن الأقارب المختصين من المسلمين لا يتحملون أي جناية جرت في الشرك.
وهذا لا يتحقق في مسألة جرّ الولاء؛ فإنه لا مانع من تحمل بيت المال إلا تقديرُ الولاء، وقد تعذر الضرب على أهل الولاء أو كانوا معسرين.
ثم إنْ تكلف متكلف توجيه ما ذكره الشيخ، فالممكن فيه تدافع جهتي الولاء فيما فيه الكلام، مع أن الشخص ممن يُتَحمل عنه، فإذا لم تتحمل الجهة الخاصة، لم يتعدها التحمل إلى الجهة العامة، وهذا تلفيق عبارة، ثم يجب أن نطرد هذا في المقدار الذي نقدّر ضربه على الموالي لو ضرب عليهم، ولا يُتمارى في ضرب الزائد على ذلك المقدار على بيت المال.
ولو كانت الجراحةُ الجارّةُ قتلاً جراحةَ حكومة، فالذي أطلقه الأصحاب أن المضروب على موالي الأم حكومةُ تلك الجراحة، وكيف تنضبط الحكومة من غير اندمال؟ فلو قلنا: نقدر الرقَّ والتقويمُ على ما أفضت الجراحة إليه، ولا نقدر قيمة العبد إن اعتبرنا المآل فهو في التحقيق ضربُ الدية عليهم، فإن اعتبرنا الاندمال في الجرح، كان تقديراً على خلاف الحس، فالوجه أن نقول: إن كانت الجراحة مقدّرة الأرش، فنستمسك بالمقدّر الشرعي، وإن كانت غير مقدرة، فنجعل الانجرار كالاندمال في الجرح، ونعني أن نفرض وقوف الجراحة حيث انتهت إليه من النقص من
غير زيادة.
ويترتب على هذا لطيفة عظيمة الوقع في الفقه، وهو أن الجراحة لو كانت مقدرة الأرش، فسرت بعض السراية، ثم فرض الجرّ، فلا يفرض على موالي الأم إلا المقدّر، ولا أثر لتلك السراية إذا لم يسقط بها عضو.
وإن كانت الجراحة غير مقدرة الأرش، فسرت بعضَ السراية، ثم فرض الجرّ، اعتبرنا الجراحة وسرايتها إلى وقت الانجرار، وليس ما جاء به بدعاً؛ فإن السراية تتبع الجراحات المقدرة الأروش. وقد ذكرنا أن سراية الجرح الذي لا يقدر أرشه هل يتبع؟ وهو الأصل المعروف بالجرح والشين، وظاهر القياس أنا لا نتُبع السرايةَ جرح الحكومة قط.
10797- ومما فرعه الشيخ، ولزم فيه الكلام لو قطع يدي رجل خطأ، ثم فرض جرُّ الولاء، وسرت الجراحة وأفضت إلى الموت، فالدية بكقالها مضروبة على موالي الأم؛ فإن مقدار اليدين دية كاملة.
ثم يعترض هاهنا كلام من طريق التقدير عريٌّ عن فائدة ترجع إلى المغارم، وهو أن المضروب على موالي الأم أرش اليدين أم دية النفس؟ وهذا لا يتجه وقد قَطَع إحدى اليدين، فإنا نقول: الواجب ديةٌ أو بعضها على موالي الأم، وهاهنا إذا أوجبنا الدية على موالي الأم، والقتلُ وقع بعد الجرّ، لكان ذلك خارجاً عن القاعدة، وهذا قريب.
والوجه عندنا أن نقول: المضروب عليهم دية النفس؛ فإنهم إنما يمتنعون عن التحمل إذا كان الموجَب يزيد بالموت.
ونقول على هذا الأصل: لو قَطَعَ من الحر اليدين والرجلين، ثم فرض الجرّ والموت بتلك الجراحات، فالواجب ديةٌ واحدة، وهي مضروبة على موالي الأم.
ومما يتفرع على هذه النهاية أنه لو قطع اليدين قبل الجرّ، ثم فرض الجرّ، فعاد، وقتل ذلك الشخصَ خطأ، فإن فرعنا على ظاهر النص، فلا يجب إلا دية واحدة، وهي مضروبة على موالي الأم، ونجعل القتل الواقع بعد الجرّ بمثابة الموت المترتب على سراية تلك الجراحة، ولو سرت الجراحة التي موجَبها ديةٌ إلى الموت بعد الجرّ، لكنا نوجب تمام الدية على موالي الأم، وهذا متضح لا يعارضه إشكال.
وإن فرعنا على مذهب ابن سريج، وأوجبنا ديتين، فيجب دية على موالي الأم ودية على موالي الأب إن اتسع عددهم لتحملها.
ولو قطع يداً قبل الجر ويداً بعد الجر، ووقع القطعان خطأ، وفرض الموت من الجرحين، فيجب نصف الدية على موالي الأم ونصفها على موالي الأب، والتعليل بيّن؛ فإنه جرى قبل الجر وبعده ما يقابل دية، ولا نظر بعد ذلك إلى السرايات.
10798- ولو أَوْضَح قبل الجر، وقطع يداً بعد الجرّ، وفرض الموت من الجرحين، فلا يجب على موالي الأم إلا أرش المُوضِحة، ولا يجب على موالي الأب إلا أرش اليد، والباقي كما ذكره الشيخ في مال الجاني، وتعليل ذلك بيّن أيضاًً، فإنا ندير هذه التفريعات على مبالغ المقدرات.
ولو قطع يداً قبل الجرّ وقطع يداً ورجلاً بعد الجرّ، وفرض الموت، فقد يظن الظان أن الدية توزع أثلاثاً على موالي الأب والأم؛ فإنه قد وجد قبل الجرّ ما أرشه نصف الدية، ووجد بعد الجرّ ما أرشه دية، ولو اندملت الجراحات، لضربنا على موالي الأم نصف الدية، وعلى موالي الأب دية، فإذا فرض الموت، وجب توزيع ديةٍ على دية ونصف.
وهذا الظن زلل؛ من جهة أن الجراحات إذا أفضت إلى الموت، فلا معنى لتخيل مزيد على دية، حتى يقع التوزيع عليه، بل تبيّنا أن الواجب دية، ثم استقر على موالي الأم نصفها، فيجب على موالي الأب نصفها.
وستأتي مسائل لابن الحداد في آخر الكتاب-إن شاء الله- فيها يبين حقائق التوزيعات على الجراحات من جانٍ واحد، ومن جناةٍ.
هذا منتهى القول في جرّ الولاء.
10799- وما ذكرناه فيه يجري في طريان الاسلام على الجاني مع فرض جرح في الشرك، والنظر يتردد فيما على عاقلة المسلمين، والفروع التي قدمناها والصور التي أوردناها تعود في طريان الإسلام، غير أنا لا نستريب في أن ما لا نضربه على العاقلة المسلمة لا نضربه على بيت المال، وقد تقدم تقرير هذا بما فيه مَقْنَع. وقد ذكرنا في كتاب الجراح طرفاً من الكلام في طريان الردة بعد نفوذ السهم، وزوالِها قبل وقوع السهم في المرض، وهو كاملٌ في فنه، ولا نعيده.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا جنى رجل بمكة وعاقلته بالشام... إلى آخره".
10800- نقل المزني في هذا الباب مسألتين: إحداهما- أن من جنى وله عواقل غُيَّب هم الأقربون، ولو فرض الضرب عليهم، لاستوعب الضرب عليهم المبلغَ المطلوب، ولكن في الضرب عليهم وهم غُيّب مسيسُ حاجةٍ إلى انتظار زمان، وللقاتل من الأقارب طائفةٌ حضور، فهل للسلطان أن يضرب على الحضور؟ في المسألة قولان:
أحدهما: وهو الأقيس أنا لا نضرب على الحضور، ونجعل وجودهم كعدمهم، ونسعى في الضرب على الغُيَّب، والقاضي إن أراد قضى عليهم، وإن أراد أثبت القتل، وكتب إلى قاضي الناحية التي بها الغيّب، حتى يكون هو القاضي عليهم. هذا هو الوجه، وهو طريق السعي في إثبات الحق عليهم.
والقول الثاني- أن للسلطان أن يضرب على الحضور؛ فإن هذا الباب مبناه على المواساة، وعلى تحصيل الغرض بطريق التناسب، ولهذا يتعدى الأقارب إلى الأباعد إذا فضل من الواجب شيء بعد حصص الأقربين، فإذا كان يعسر الوصول إلى الغيّب، فلا يمتنع على قاعدة الباب الضربُ على الحضور.
وتمام البيان في ذلك يتعلق بشيئين:
أحدهما: أنا إن جرينا على القياس، لم يخف الحكم، و إن قلنا بجواز الأخذ من الأباعد الحضور، فيجب ألا نُجري هذا في كل غَيْبةٍ، وإن كانت مسافة القصر، فإن الضرب سهل على من يبعد عن مكان القتل بمرحلتين، وكذلك لو زادت المسافة، فلابد من رعاية التعذر، وأقرب معتبر في هذا التعذر عندي متلقّى من الأجل الشرعي، فإن كان يمكن تحصيل الغرض من الغيّب في مدة سنة، فليس الأمر متعذراً، وإن كان لا يتوصل إلى الضرب عليهم في سنة، فيمكن أن نقضي عند ذلك بالتعذّر، ويجري فيه القولان.
ومما ينشأ من هذا الموضع أن العواقل لو لم يشعروا بالجناية حتى مضت سنة، أُخذ العقل منهم إذا وجدناهم عند منقرض السنة على الصفة المرعية في الضرب.
ومما يترتب على هذا-وهو الأمر الثاني- أنا إذا فرّعنا على الأخذ من الأباعد، فليس لأولياء القتيل الانفراد به، بل يجب صدَرُ ذلك عن الإمام؛ فإن مبناه على تعذر يدٍ، ومُدرَك هذا يقتضي إثباتاً كإثباتنا رَفْع النكاح بالإعسار بالنفقة.
هذا بيان إحدى المسألتين. وفي تحقيقها بقية سأذكرها على إثر المسألة الثانية إن شاء الله.
10801- وهي أن الأرش إذا قل قدره، وكثرت العواقل، ولو فضضنا ذلك المقدار على عددهم، لاحتجنا إلى تعب في التقسيط والجمع، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه يُفضّ عليهم، كما لو اجتمعوا، فأتلفوا ما قيمتُه نصفُ دينار، وإذا ثبتت الحقوق، لم يختلف الأمر فيها بتقدير الفضّ والقسمة. والقول الثاني- أن الإمام يُحصّل ذلك من بعضهم؛ فإن الباب مبنيٌّ على التيسير، فله أن يسلك المسلك الأيسر. وقد يتجه عندنا في هذا القول أن نقول: الواجب نصف دينار، أو ربع دينار، وهو على واحد منهم لا بعينه، فيعيّنه من إليه التعيين.
ثم إذا تبين هذا، فإن فرّعنا على القول الأقيس، فلا كلام، وإن فرعنا على القول الأخير، فهل نقول: لوليّ القتيل أن يطالب من شاء منهم، أو لابد من تعيين السلطان؟ هذا فيه تردد، ويجوز أن يقال: يجب أن يكون صَدَرُ التعيين من السلطان؛ حتى يكون أقطع للخصومة وأنفى للنزاع.
ويجوز، أن يقال: لولي القتيل أن يطالب من شاء؛ فإن المسألة إذا فرضناها في كونهم موسرين لا تستند إلى اجتهاد؛ فالسلطان إذا عين، لم يكن تعيينه عن اجتهاد، وإنما يكون عن وفاق، وبهذا يضعف هذا القول.
وقد قال الأصحاب لما فرعوا على القول القديم في أن جماعة لو قتلوا واحداً لا نقتل إلا واحداً منهم: إن ولي القتيل يعين من شاء منهم.
10802- والذي وعدته من تمام البيان ما نصفه الآن، فنقول: إذا وظف الإمام على بعض العواقل، فقد انقطع الأمر، ولا تبعةَ، ولا رجوعَ، وإذا ضربنا على الأباعد الحضورِ، ثم حضر الغُيّب، فليس يبعد أن يرجع الأباعدُ عليهم، ويكون ما بذلوه مُنزَّلاً على حكم النيابة، ويجوز أن يقال: انفصل الأمر بتقديمهم، فلا مراجعة ولا تبعة.
باب عقل الحلفاء
قال الشافعي: "ولا يعقل الحليف إلا أن يكون مضى بذلك خبر... إلى آخره".
10803- وليس هذا ترديد قول منه، ولكن لما كان مدار هذه الأبواب على الأخبار، لم يُبعِد لمتانة دينه-مع وفور حظه في الحديث- أن يصحَّ خبرٌ لم يبلغه، فقدّر الكلامَ كما أشعر به ما ذكرناه، ومضمون الباب أن التحالف لا حكم له لا في ثَبَتِ الإرث، ولا في ضرب العقل، وإنما يُتلقى ضرب العقل من القرابة، كما سبق تفصيلها، أو الولاء، أو الجهة العامة، ولا مزيد.
فصل:
قال الشافعي: "إذا كان الجاني نوبياً، فلا عقل على أحد من النوبة... إلى آخره".
10804- قد ذكرنا أن التعويل في ضرب العقل على النسب أو الولاء، فإن لم يكونا، فالرجوع إلى بيت المال، فإذا جنى رجل مجهول غريبٌ جنايةً، ولم نعرف له مناسباً ولا مولىً، لم نضرب العقل على أهل بلده، ولا على الجنس الذي يعود هو إليهم، كالنوبي إذا جنى-وهو كما وصفناه مجهول الحال- فلا نضرب أرش جنايته على النوبة، كذلك القول في طبقات الخلق، وإذا لم نجد له من هو مختص به، فالضرب على بيت المال، ثم على السلطان نظرٌ في البحث عن المختصين به، فإن لم يجدهم، ضرب في بيت المال.
ثم لو انتسب هو إلى أقوام، راجعناهم، فإن اعترفوا، ففي ثبوت الانتساب بالاعتراف تفاصيل قدمناها في كتاب الأقارير، فإن من ادعى أنه ابن فلان، فاعترافه مع الإمكان يُثبت النسب، وإن ادعى أخوّة معين واعترف ذلك المعيّن، لم يثبت النسب إلا أن يكون كلَّ الورثة، ولا معنى للخوض في ذلك.
ومنشأ هذا المنتهى أن النسب إذا لم يثبت بالإقرار بالعمومة والأخوة، فهل نضرب عليهم العقلَ مؤاخذة لهم بالأقارير؟ هذا يُخرَّج على أن أحد الورثة إذا قال: هذا أخونا، هل يؤاخذ بإقراره في تسليم حصة ما في يده إليه، أم لا؟ فيه كلام بيّنٌ مقرر في موضعه، وإذا كنا نُحوَجُ إلى تطويل الكلام بالمباحثات في مواضع الحاجات، فينبغي أن نقبض الكلام إذا لم تكن حاجة.
فصل:
قال: "وإذا حكمنا على أهل العهد ألزمنا عواقلهم... إلى آخره".
10805- إذا قتل الذمي مسلماً خطأ، فالعقل مضروبٌ على عاقلته الذمية، وإن قتل ذمّي ذميّاً، تعلق التفصيل بأنا هل نحكم عليهم إذا ترافعوا إلينا؟ ثم إذا ضربنا على عواقلهم، فلا نطالب كلَّ واحد منهم إلا بما نطالب به الواحد من المسلمين، فإن فضل من الأرش فاضلٌ، فهو مضروب في مال الذمي الجاني، ولا مطمع في ضربه على بيت المال، وهذا تمهد قبلُ، وذلك أنه لو مات ولا وارث له، فماله مأخوذ لا على سبيل الخلافة عنه والوراثة، بل نأخذه كمالٍ انجلى الكفار عنه من غير قتال، حتى قال المحققون: ما نأخذه من تركة الذمّي الذي لا وارث له مخمّس كالأموال التي نظفر بها من غير قتال، فنصرف خمسَه إلى أهل الخمس، وأربعة أخماسه إلى أهل الفيء، كما تقررت مصارف الفيء في كتابها، وهذا لا شك فيه.
ولو كان للذمي الجاني أقارب حربيون، فهم كالمعدومين، وإن قَدرَ الإمامُ على الضرب عليهم، فينبني على أن اختلاف الدار هل يمنع التوارث؟ إن قلنا: نعم، فيمتنع الضرب أيضاًً. وإن قلنا: لا، ففيه وجهان، لانقطاع المناصرة باختلاف الدار، وإن كان له أقارب ذميون غُيَّباً، فإن تيسّر الرجوع إليهم، فذاك، وإن تعذّر لطول المسافة، فهل نأخذ من الذمي الجاني؟ فعلى قولين، كما ذكرناه في الأباعد الحضور والأقارب الغُيّب. وإن كان تعذر الضرب عليهم عن امتناع، فليسوا أهل الذمة.
ولو فرض ما ذكرناه في المعاهدين-وهم أصحاب العهود المؤقتة- فهم كأهل الذمة إذا كانت مدة عهودهم لا تقصر عن أهل الضرب، وإن كانت مدتهم سنة والعقل في ثلاث سنين، أخذنا منهم حصة السنة، ورجعنا في الباقي إلى القاتل.
ولو كان القاتل يهودياً وأقاربه نصارى أو على العكس، فللشافعي رضي الله عنه قولان: أقيسهما- أنا نضرب عليهم-وإن اختلفت مللهم- إذا جمعهم الكفر، كما نورث البعض من البعض وإن اختلفت أديانهم، والقول الثاني- أنا لا نضرب موجَب جنايةِ كافرٍ على من ليس من أهل ملته؛ فإن ضرب العقل مبناه على التناصر، وهذا مفقود عند اختلاف الملل.
ومما فرعه الأئمة في ذلك أن الذمي إذا جنى، ولم نجد له عاقلة من الكفار، حيث تجب الدية، فالدية مأخوذة من ماله، ثم هي تتأجل عليه حَسَب التأجل على العاقلة، وليس لقائل أن يقول: الآجال أثبتت في حقوق العواقل تخفيفاً عليهم، فإذا طالبنا القاتل، فلا أجل؛ لأن أصل الأجل ثابت، وهذا كما أن الدية إذا تغلظت بشبه العمد، ضربت على العاقلة، وإن كانوا لا يستحقون التغليظ عليهم.
10806- ثم قال الأئمة: إذا كنا نضرب العقل على الذمي، فلو وجدنا له أباً أو ابناً، فهل نضرب عليهما؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنا لا نضرب عليهما؛ فإنهما ليسا من العواقل. ومن أصحابنا من قال: نضرب عليهما، فإنا بنينا منع الضرب على أب القاتل وابنه على منع الضرب على القاتل نفسه، فإذا كنا نضرب على القاتل، لم يبعد أن نضرب على أبيه وابنه، وهذا ضعيف لا أصل له.
فإن قلنا: لا يضرب عليهما شيء، فلا كلام، وإن قلنا: يضرب عليهما، اختلف أصحابنا في المقدار المضروب: فمنهم من قال: لا يزيد ما نضربه على كل واحد منهما على نصف دينار على قياس الضرب على العواقل.
ومنهم من قال: الدية مضروبة على القاتل وابنه وأبيه أثلاثاً؛ فإن هذا ليس على قياس الضرب على العواقل.
ومما يبلغ مني المبلغَ التام حاجتي إلى نقل كلام رجل كبير مع القطع ببطلانه، كرأيٍ في هذه المسألة، فإن الضرب على الأب والابن في نهاية البعد، ثم الضرب على الجاني وعليهما أثلاثاً لا تخييل فيه، فضلاً عما عليه التعويل، ولا وقع للتلفيقات اللفظية.
فرع:
10807- قد قدمنا في أصول المذهب أن الابن لا يضرب عليه شيء من العقل، فلو كان الرجل ابنَ الجاني وكانَ ابنَ عمه أو كان معتقه، فهل يُضرب عليه شيء من العقل لجهة العمومة أو للولاء؟ ذكر العراقيون والشيخ وجهين: أقيسهما- أنه يضرب عليه، ويجعل كأن البنوة لم تكن، وهذا كما أن الابن يزوِّج أُمَّه بالقضاء والولاء، ويزوجها إذا كان ابنَ عمها، ويقال: البنوة لا تقبل الولاية، ولكنها لا تنافيها بجهةٍ أخرى.
والوجه الثاني- أن الابن لا يتحمل؛ فإنه بعضُ الجاني، ويعظم عليه الضرب على بعضه، كما يعظم عليه الضرب في نفسه، وهذا لا يختلف بأن يكون ابن عم أو لا يكون كذلك، فرجع حاصل الخلاف إلى أن البنوة تنافي تحمل العقل أم لا تقتضي تحمل العقل؟
باب وضع الحجر حيث لا يجوز وضعه، وميل الحائط
قال الشافعي رضي الله عنه: "لو وضع حجراً في أرضٍ لا يملكها... إلى آخره".
10808- القتل قد يقع بالمباشرة من القاتل، وقد يقع بالأسباب، فأما الواقع منه بالمباشرة، فقد تقدمت أقسامه، وغرض هذا الباب الكلام في الأسباب، ونحن نجعل حفر البئر في صدر الباب معتبراً، ثم نلحق به ما في معناه بذكر ضابطٍ جامع.
فإذا احتفر الإنسان بئراً، لم يخل من أحوال: إما أن يحفرها في ملك الغير غصباً واعتداء، وإما أن يحفرها في ملك نفسه، فإن حفرها في ملك نفسه، فتخطّى الملك متخطٍ وتردى فيها، فلا ضمان إذا لم يكن من صاحب الملك دعاء إلى الطروق.
ولو احتفر البئر في ملكه، ودعا إنساناً إلى تخطي ملكه، والدخول فيه، فإذا دخله، فتردى في البئر، لم يخل: إما أن تكون البئر محتفرة في طريق ضيقة، لا مدخل إلى الملك غيرُها، ولا محيص للداخل عن التردِّي في البئر، وإما ألا تكون البئر محتفرة في مضيق، ويمكن الازورار عنها، مع دخول الملك، فإن لم يكن الازورار ممكناً مع الدخول، ولا يتم الغرض في هذا التصوير إلا بفرض تغطية البئر؛ كي لا يرى رسمَها الطارق، أو تقدير الدعاء في ظلمة، فإن كان كذلك، فهو بمثابة تقديم الطعام المسموم إلى الضيف وقد مضى القول فيه مفصلاً. ومن أصحابنا من جعل الصورة التي ذكرها الآن أولى بوجوب الضمان من تناول الطعام المسموم؛ فإن التناول والازدراد تعاطٍ بفعلِ المتلف، بخلاف الطروق، فإن التردي يقع لا عن اعتمادٍ إليه.
ولو كانت البئر مائلةً وأمكن تقدير الازورار عنها، فإذا فرض من المالك الدعاء إلى دخول الملك، فدخلها المدعو وتردّى، فللأصحاب طريقان: منهم من قطع بانتفاء الضمان؛ فإن أصل الاحتفار لم يكن مستنداً إلى عدوان، وكان حق الداخل أن يتحفظ أو يتصوّن في أحواله، وهذا هو المسلك الأصح.
ومنهم من جعل في الضمان قولين على الترتيب الذي سيأتي في البئر المحتفرة في الطريق الواسعة إذا تردى فيها المتردي.
وتمام البيان في ذلك أن البئر إذا غُطِّي رأسُها، ثم فرض الدعاء إلى التردد، فالضمان في هذه الصورة قريب، والأوضح إيجابه؛ لأنه يناسب تقديم الطعام المسموم، فلئن كان يفرض من الداخل ميل وانحراف عن منهج السير، فتقرر على الوفاق تخطي البئر، فالحالة على الجملة حالة إلباس. ولو قدم الرجل أطعمة إلى إنسان، وفي بعضها سم، وكان من الممكن ألا يتعاطى المسموم، ويكتفي بغيره، فإذا تعاطاه، فأمْر الضمان مرتب على ما إذا قدم إليه طعاماً مسموماً متّحداً، والصورة التي ذكرناها آخراً أولى بانتفاء الضمان إذا نسب إلى تقديم الطعام الفردِ المسموم.
10809- ثم إنا نذكر في هذا القسم ما يتعلق بتصرفات المُلاّك في أملاكهم الخاصة فيما يتعلق بالضمان، فنقول: إذا احتفر بئراً في داره وكانت مَفيضةً للفضلات، فانهارت البئر، وأفضت إلى تردي أساس جدار دار الجار، وترتب على ذلك انتقاض الجدار، فلا ضمان، وهذا مما اتفق أصحابنا عليه.
والسبب فيه أن الأملاك لا تستقل دون البالوعات والآبار، ولو أوجبنا الضمان بسبب ما تُفضي إليه المرافق لعظُمَ الأمر، ثم يعارض إسقاطَ الضمان أن الجار لا يُمنع من مثله في ملك نفسه، فاقتضى الشَّرَع بينهم الإرفاقَ، وتمهيدَ الارتفاق، والتسويةَ بين الناس، ثم كل مالك في الغالب ضنين بملك نفسه، والخلل من ملكه يتعدى إلى ملك غيره، فهذا الشَّرَع يعوِّل على الثقة بالملاك من الاحتياط لأملاكهم، مع ما قررناه.
ثم اتفق المحققون على أن هذا مشروط بمراعاة الاقتصاد، وردّ الأمر إلى الاعتياد، فلو ملك الرجل حجرة متضايقة الخط، فاتخذ من عرضها بئراً، وسيّبها، وفي فِنائها الحجرة وحواليها، فهذا ما نمنع منه، ولو فعله، كان متعدياً، ولكن الرجوع فيه إلى العادة ولا يبعد ضبطه؛ فإن ذلك لا يعد ارتفاقاً، وقد يجري فيه أن ملك المالك يتلف به، فهذا إتلاف الملك وليس ارتفاقاً بالملك.
وعلى هذا إذا أجّج ناراً لطبخٍ أو إيقاد تنّور أو ما أشبهها مما يُعتاد، واتفق طيران شرارٍ إلى كوخ أو إلى دار وشبّب حريقاً، فلا ضمان.
وإن أجج ناراً ضخمة لا تحتمل تيك الدارُ مثلَها، فأفضت إلى حريق يجب الضمان.
وكذلك القول في سقي البساتين، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من هذا في حفظ حريم القنوات، ومجموع ذلك يرجع إلى اتباع العادة.
فإن وقعت صورة من الصور على تردد في أنها على الاعتياد أم ليست عليه، فهي مردودة إلى نظر النظار، فقد يتحد وجه الرأي فيها وقد ينشأ خلاف، كما يجري مثل ذلك فيما يُبنى على العادات، وانتهى كلام الأصحاب في ذلك إلى أن قال القفال: لو أوقد النارَ في السطح، أو في مكان قريب منه واليوم ريح، وقد يغلب على الظن انتشار شرار من النار، فالاعتياد غالب في التحريم من إيقاد النار في مثل هذا المكان والزمان، فإذا تساهل، ولم يَتَحرَّ عُدّ مقصّراً.
وإن أشعل النار والهواءُ مطمئن، ثم هاجت الرياح قبل استمكانه من إطفاء النار، وكان تهيجها على هذا النسق نادراً، فلا ضمان.
وإن احتفر بئراً في أرض خوارة، ولم يطوها بالطوب، فهي إلى الانهيار، ولا يفعل ذلك إلا مسرفٌ أو أخرقُ.
وكل ما لا يفعله القيِّم في ملك الطفل نظراً له، ولو فعله وأفضى إلى تلف ملك الطفل يضمن، فإذا فعله المالك المُطْلَق، فأفضى إلى تلف ملك جاره، كان ذلك مبنياً على الخروج عن العادة، غيرَ أن القيّم يقصُر فعله على حد الحاجة، والمالك لا يؤاخذ بهذا. وإنما غرضنا في الاستشهاد والتسوية أن الحاجة لو مست، وترك الاحتياط في طريق التمهيد والتحري، فإذ ذاك يضمن، كما أشرنا إليه، وبدون ما ذكرنا يتبين الفطن المراد.
وعليه بنى الأئمة ما لو وضع حجراً على سطحه، أو حُرْديّاً فأسقطتها الريح، فإن كان ما فعل على الاعتياد، فلا ضمان فيما يتولد من سقوطها، وإن كان على خلاف الاعتياد، وجب الضمان.
10810- ولا ينبغي أن يظن الفقيه أن منفعة المتصرف تُرعى، فقد يفعل ما لا منفعة له فيه، ثم لا ضمان إذا أفضى إلى التلف، إذا لم يكن في طريق التلف مقصراً.
10811- ومما يتصل بهذا القسم أنه لو بنى جداراً على ملكه ولم يُمله، فسقط الجدار من غير انتسابه إلى تقصير، فلا ضمان أصلاً، وإن مال الجدار إلى جانب ملكه، فتركه مائلاً، فسقط في ملكه، ثم طارت رأسه إلى خارج الملك، وأفسدت شيئاًً، فلا ضمان.
ولو بنى الجدار مائلاً إلى الشارع أو بناه مستنداً، فمال إلى الشارع، ثم سقط، فسنذكر هذا في القسم المشتمل على التصرف في أرض الشارع وهوائه، فانتظم مما ذكرناه أن التصرف المقتصد في الملك لا يوجب الضمان ولا مثنوية في ذلك إلا في الصيد الحرمي إذا تردى في بئر محتفرة في ملك، فإن من أصحابنا من أوجب الضمان، وقد مضى ذلك في كتاب المناسك.
10812- فأما إذا احتفر بئراً في موات، فليس احتفاره تعديّاً، ولو تردّى فيها متردٍّ، فلا ضمان، ولا فرق بين أن يقصد باحتفار البئر تملكها وبين ألا يخطر له ذلك، فلا مؤاخذة عليه فيما يتصرف به في الموات، كاحتفار بئر، أو أخْذ ترابٍ أو جمع أحجارٍ، ونصب صُوىً وأعلامٍ، وإذا احتفر في موات الحرم بئراً، وتردى صيد، ضمنه إجماعاَّ.
10813- فأما إذا احتفر في ملك الغير غاصباً، أو نصب فيه حجراً، فهو معتدٍ بفعله، ولو فرض ترتب التلف على ما صدر منه، وجب الضمان، وقد ذكرنا احتفار البئر في الأرض المغصوبة وما يتعلق به أمرُ المالك بطمِّها، ورضاه بتركها، ولم نغادر من أطراف الكلام شيئاً إلا أتينا عليه في كتاب الغصوب.
10814- فأما الكلام في الشوارع والمواضع المشتركة التي تحقق تعلّقُ حقوق العامة بها، فالكلام ينبسط في هذا الطرف، وقد يمتزج بالأملاك، فنذكر احتفار البئر أولاً، ثم نذكر ما يلتحق به.
فنقول: إن كانت الطريق أو الشارع ضيقةً على الساكن، فاحتفر بئراً فيها، وقد يجري في الظنون جرياناً ظاهراً التردي فيها، أو التأذي بها فهذا اعتداء، وإذا ترتب عليه تردي الطارق-على ما سنصف ذلك بعد نجاز الكلام في ذكر أسباب العدوان- تعلّق الضمان به، فإن استبد الحافر، ضمن، وإن راجع فيه من إليه الرأي ضمن؛ فإن الحفر في صورته عدوان، وإذن الوالي فيه مخالف لموجب الشرع، فإن
اعتمده، فقد ظلم وإن ظن ظناً جائزاً، فقد أخطأ.
وإن كانت الطريق واسعة لا يشق على الطارقين-مع الاتساع-حفرُ البئر، فإذا فرض الاحتفار على هذا الوجه، لم يخل: إما أن يكون لمنفعة عامة تعود إلى عامة الخلق، وإما أن يكون لمنفعة يبتغيها الحافر.
وإما أن يفرض الاحتفار في غير منفعة، فإن كان الاحتفار لمنفعة المسلمين، مثل أن يفرض احتفار بئر ليستقي الناس منها، أو يفرض احتفار بئر يتسرب إليها فضلات المرازيب، يُصوّر بإذن الوالي ومن غير إذنه، وللأصحاب طريقان: منهم من قال: إن كان بإذن الوالي، فليس عدواناً، ولا يتعلق به ضمان، وإن كان بغير إذن الوالي، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه عدوان يتعلق به عند فرض ترتب التلف عليه الضمانُ، والثاني: أنه ليس بعدوان.
توجيه القولين:
10815- من قال: إنه ليس بعدوان وجه ذلك بانتفاء الضرر، وتحقق النفع، وألحق ذلك بوجوه المعروف التي يُستَحَثُّ العامة عليها، ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن حقوق العامة ثابتة على الاشتراك، ووجوه النفع والضرر لا ينضبط فيها وجه الرأي، والتصرف في الشارع على الجملة تصرفٌ في محل حق الناس عامة؛ فليس للأفراد حق الاستبداد. هذا مسلكٌ.
ومن أصحابنا من عكس هذا الترتيب، وقال: إن انفرد بالاحتفار من غير مراجعة مَن إليه الأمر، ثم فرض التردي، وجب الضمان، وإن راجع الوالي، وفرض الاحتفار بإذنه، ثم تردى في البئر المحفورة متردٍّ، ففي وجوب الضمان قولان.
والطريقة الأولى أمثل؛ فإن الحفر إذا كان للمصلحة، وكان صَدَرُه عن إذن الناظر في المصالح نظراً في الرأي الكلي والجزئي، فيبعد تقدير الضمان، ولو أقر الإمام ابتداء باحتفار بئر، ثم فُرض التردي فيها، فلا يصير إلى إثبات الضمان-والحالة هذه- إلا جسورٌ، غير خبير بوضع الإيالة الكلية، والمصلحة الجزئية، ولا نأمن أن صاحب الطريقة الثانية يجعل احتفار الإمام-إذا أفضى إلى تلف متردٍّ- من الأسباب التي تضرب مثلاً لما يُفضي إلى هلاكٍ من غير استحقاق. وفي غلطات الأئمة كلامٌ طويل، وترتيب وتفصيل، وهو يأتي، إن شاء الله عز وجل.
ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه من الترتيب فيه إذا كان الغرض من الاحتفار مصلحة عامة، فأما إذا قصد الحافر مصلحة نفسه في احتفاره، فأفضى إلى تردٍّ وهلاكٍ، فإن انفرد، لم يختلف العلماء في وجوب الضمان، وإن استأذن الوالي، ثم فرض التردي، فالذي قطع به الأئمة، أنه يجب الضمان عليه، وفي بعض التصانيف حكايةُ وجه في نفي الضمان إذا كان الحفر بإذن الوالي في الطريق الواسعة، فإن رجع الحفر فيها إلى الحافر، ثبت الضمان. وهذا بعيد عن التحصيل.
فإن قيل: إذا أثبتم الضمان، فهل يجوز للوالي أن يأذن فيه؟ قلنا: لا بأس عليه لو أذن فيه، إذا كان الغالب على الأمر أنه لا يجر ضرّاً، وهذا بمثابة ما لو أذن للإنسان أن يهىء لنفسه مقعداً في وسط الشارع، وأن يرفع دِكّة، وقد يضع حجراً أو قد يحفر زُبية، فيردّ فيها الأمتعة، وكل ذلك سائغ.
أما البناء الذي إذا تطاول إلى أعلى أوشك أن يُظَنّ مستحَقاً، فلا يسوّغ، وقد مهدنا معظمَ هذه القواعد في كتاب الصلح.
فأما إذا احتفر حفرة لا غرض فيها للناس ولا له، وتؤذي الطارقين، فهو عدوان لا شك فيه.
والتحقيق الجامع للفقه يجري بعد نجاز الرسم للمسائل.
10816- ومما يليق بهذا المنتهى تصرف الناس في هواء الشارع، وذلك بإخراج القوابيل من الأملاك، وإخراج المرازيب: إن لم يكن على العامّة ضرر من إخراج الأجنحة والقوابيل، فلا نَمْنَع من إخراجها.
وقد ذكرنا تفصيل الضرر المرعي باعتبار الفرسان والركبان في كتاب الصلح، فلا نعيده، ونكتفي بإجمال القول، والإحالةُ في التفصيل على ما تقدم.
ثم من أخرج قابولاً مضرّاً على المارة مضيّقاً عليهم، فهو منقوض عليه، وإن لم يكن مضرّاً، فلا اعتراض عليه، ولا حاجة تُحْوِجُه إلى مراجعة الوالي بخلاف التصرف في الشارع نفسه؛ فإنه محل الطروق، ومتعلق استحقاق الاستطراق، ولا استحقاق للطارقين في الهواء، وإنما المرعي فيه أن لا يجرّ عليهم ضرراً في طروقهم.
ثم من كان معتدياً في إخراج فسقط خراجُه وأتلف شيئاًً، أو أهلك حيواناً، فلا شك في وجوب الضمان، فإن لم يكن معتدياً بإشراع الجناح، فانقضّ وسقط على شيء فأتلفه، فالذي أطلقه الأصحاب وجوب الضمان، وأجمعوا على قولٍ جامعٍ في هذه الفنون، فقالوا: من تصرّف في هواء الشارع بما يرجع إلى غرضه ومقصوده الخالص ضامن لسلامة العاقبة، وإن كان فعله مشروعاً.
ثم قالوا: إذا أخرج ميزاباً، فاتفق سقوطه وإفضاؤه إلى تلفٍ، ففي وجوب الضمان وجهان:
أحدهما: لا يجب الضمان أصلاً.
والثاني: يجب.
ووجه قول من قال: يجب الضمان: القياسُ على الجناح المشترع، والجامع رجوع شغل الهواء إلى منفعة المتصرف فيه.
ومن نفى الضمان، قال: الحاجة ماسة إلى إخراج المرازيب، ولا تستقل الأبنية المزاحمة للشوارع المتخللة بين الأملاك من مرافق الأملاك، وإنما هي ازدياد في اتساع أرفقة البيوت والعرصات، ولا يمتنع أن يكون تجويزها مشروطاً بسلامة العاقبة، فإن قلنا: لا يجب الضمان، فلا كلام.
وإن حكمنا بإيجاب الضمان، فلو تقطّع القدر البارز في هواء الشارع وأُبين وسقط، وبقي المقدار الذي كان ثابتاً في الملك، فما يَتلفُ في ضمانه على هذا الوجه. وإن تقلع المرزاب وسقط بجملته، وأفضى إلى التلف، فالذي ذكره الأصحاب أنه يجب بعض الضمان في مقابلة ما كان بارزاً، ويسقط ما يقابل الذي كان في الملك.
ثم اختلفوا في كيفية التقسيط، فذهب الأكثرون إلى التنصيف كيف فرض الأمر، وعلى أي قدر صوّر البارز والداخل في الملك، وهذا هو القياس المرتضى في هذا المنتهى.
ومن أصحابنا من قال: نضبط وزن الخارج ونردّ ما كان داخلاً في الملك ونوزع الثبوت والسقوط عليهما.
وهذا بعيد؛ فإنه إذا ضرب رجلان رجلين بعمودين متفاوتين في الرزانة والثقل وأفضت الضربات إلى الهلاك، فالدية نصفان، فإن كان صاحب الوجه الأخير يسلم هذا، فلا جواب له عنه، وفي هذا الرمز تنبيهٌ للفطن، وهذا يشير إلى زيادة أسواطٍ في الحد، وقد تقدم خلافٌ فيه، وسيأتي مستقصًى في الحدود، والذي لا ننظر فيه إلى أعداد الجراحات، فإنها غائرة غير مضبوطة الآثار.
10817- ومن التصرفات في الشوارع جمع الكناسات، وطرح قشور البطيخ، ورش الماء: أما طرح قشور البطيخ، وما في معانيها، فللأصحاب فيه طرق: منهم من قال: لا ضمان فيها على الطارح؛ لأن الشوارع كما قررنا من مرافق الأملاك، ولو مُنع الملاك من طرح الكناسات والفضلات في الشوارع الواسعة، لضاقت عليهم الأملاك، وقد تمس الحاجات إلى تكلّف صور لا استقلال بها.
ومنهم من قال: يتعلق الضمان بها، لأن المقصود الذي ينسب الشارع إليه الاستطراقُ، وكل ما يؤثر فيه إن كان ظاهراً، فهو ممنوع، وإن كان خفياً، يجرّ على الندور ضرراً على طارقٍ، فهو مقرون بشرط سلامة العاقبة.
ومنهم من قال: إن جمعت هذه الفضلات في الزوايا أو في الأوساط التي لا ينتهي إليها المارة غالباًً، فلا يتعلق بها ضمان، إذا أفضى إلى تلف نادرٍ، فإن طرحت على متن الطريق وسَرَارةِ الشارع، فهي من أسباب الضمان.
والوجه عندنا القطع بأن الإلقاء على متن الطريق سببُ الضمان، وردّ التردد إلى الإلقاء على الأطراف، والمواضع التي لا ينتهي إليها المارة في الغالب.
وأما رش الماء، فإن كان لغرض صحيح كتر طيب التراب، حتى لا يثور الغبار، فهو وجه في مصالح المارة، إذا لم ينته إلى التزلّق، فلو خَرَّ بعير-والحالة كما وصفناها- ففي تعلق الضمان به خلاف، وإن انتهى إلى حد التزلّق، فهو في معنى طرح قشور البطيخ، والعادة المألوفة فيها أنها تجمع في الزوايا، ثم إذا كثرت، نُقلت.
والضابط في هذه الأجناس أن ما يجاوز الاعتياد عدوان، وما يقع على حد الاعتياد، ففيه تردد في وجوب الضمان عند الإفضاء إلى التلف.
10818- وممّا تشتدّ الحاجة إليه ويظهر فيه إسقاط الضمان، ولا يخلو عن خلافٍ في إيجابه هو إتلاف البهائم.
والوجه عندنا أن نقول: البهائم الطارقة إذا كانت تبول وتروث، ثم فرض تزلق بعض المارة بأبوالها وأرواثها، فلا ضمان على أصحاب الدواب؛ فإن هذا مما لا يمكن التصون منه، وفي إثبات الضمان فيه- منعٌ من المرور والطروق، فإن كان يتجه نفي الضمان في اشتداد الحاجة، فهذا أولى الصور، وقد ذكر الأصحاب فيها وجوب الضمان على من يستاق البهائم، والذي ذكرته مأخوذ من كلام الأئمة عند اعتبارهم الضرورة الخاصة، والحاجة البيّنة في إسقاط الضمان، وإذا كانوا يُسقطون الضمان في المرازيب لحاجات الأملاك؛ فلأن يسقطوا الضمان في هذه الحالة أولى.
وأما ضمان ما يَتْلَف إذا كان يركب الدابة، فجفلت أو عضت، فهذه الأشياء تُنسب إلى خُرْق الفارس، فإنه بين أن لا يحسن صون مركوبه، وبين أن يركب دابة نَزِقة لا تنقاد لمثله، وعلى أي وجه فرض، فهو مقصر.
10819- فهذه جمل في أسباب الضمان، ولكنها مرسلة لا تثبت في حفظ الفقيه ما لم تنخرط في سلك الفقه، والضبطِ الجامع المعروف المشتمل على تبيين المنازل والمراتب، ونحن نقول والله المستعان: ما يشرع من تصرفات الملاك في أملاكهم لا يجرّ ضماناً قط، وليس مقروناً بشرط سلامة العاقبة.
وما يجري في الموات لا يجري عدواناً، ولا يتضمن ضماناً.
وأما ما يجري في الشوارع إن كان ممنوعاً، ثم أفضى إلى تلفٍ، فهل يجب الضمان به؟ حاصل المذهب فيه أقوال: أحدها: يتعلق الضمان به.
والثاني: لا يتعلق، والثالث: يفصل بين أن يكون صادراً عن إذن الوالي وبين ألا يكون صادراً عن إذنه.
فأما ما يجري من المارة في أنفسهم كبول البهائم وروثها في أنفسها، فقد سبق الكلام فيه: نقلاً وتنبيهاً، والرَّمحُ والرَّفسُ والعضُّ يتعلق بالراكب والسائق والقائد، وفي هذا باب يأتي.
وأما ارتفاق الملاك بالشوارع، فالممنوعُ منه سببُ الضمان، والمجوَّز منه ينقسم إلى الارتفاق من غير اشتداد الحاجة، وإلى ما تشتدّ الحاجة فيه، فأما الارتفاق المحض، فإن كان مسوّغاً، فهو على مذهب الأصحاب مقرون بشرط السلامة كالأجنحة والقوابيل إذا سقطت، وما اشتدت فيه حاجات الأملاك، ففي ثبوت أصل الضمان فيه خلاف كالمرازيب، وعلى هذين القسمين إخراج القمامات وطرح القشور.
10820- ويتعلق بهذا المنتهى كلام متردد بين تصرف الملاك في أملاكهم، وبين ارتفاقهم بالشارع: فمن بنى جداراً على ملكه، وأمال طرفَه إلى الشارع، فالطرف الممال بمثابة الجناح.
ولو بناه غير مائل، فمال وسقط من غير استمكان من الاستدراك، فلا ضمان؛ فإن الباني تصرف في ملكه على الاعتياد.
وإن بنى الجدار مستوياً، فمال وأمكن تقويم الجدار؛ فإنه إن بقي مائلاً زمناً، ولم يتفق تقويمه ولا نقضه حتى تهدّم وخرّ ملقى، ففي وجوب الضمان على صاحب الجدار وجهان: أصحهما- وهو الذي يدل عليه ظواهر النصوص أن الضمان لا يجب؛ نظراً إلى أصل البناء، فإنه كان ارتفاقاً بالملك على ما يجب. ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان؛ لأنه كما مال أمكن استدراكه، وإن كان في حكم ما يبني كذلك، وقد ذكرنا أنه لو بُني مائلاً، كان المقدار المائل الشاغل لهذا الشارع بمثابة الجناح، وهذا مذهب أبي حنيفة، غيرَ أنه يُفصل:
تفصيلاً لا يساعده عليه أصحاب هذا الوجه الثاني، ويقول: إذا أشهد على صاحب الجدار إنسانٌ شاهدين، ونبهه على صورة الحال ثم فرض السقوط بعده، وجب الضمان، وإن لم يجر إشهاد، لم يجب الضمان، وهذا لا يصير إليه أحد من أئمتنا.
وكنت أود لو فرق فارق بين أن يعلم صاحب الجدار، ثم يفرض انتسابه إلى التقصير وبين ألا يعلم، ولم أر هذا لأحد من أئمة المذهب.
وقد انتهى رسم المسائل في أسباب الضمان، وذكر معاقد المذهب في كل مرتبة والتنبيه على تعاليل التفاصيل.
10821- ونحن نختم هذا الفن بنوع آخرَ مجموعٍ وجيزٍ، فنقول: اللائق بالفقه بالكلتاب أنه لا يجب بسبب فعل مباح على التحقيق ضمانٌ، والذي أطلقه الفقهاء من أن تعزير الزوج زوجته، والمؤدب تلميذه مباح، مشروط بسلامة العاقبة، كلام عري عن التحصيل؛ فإن التعزير المباح هو المقدار الذي لا يفضي إلى الهلاك، فإن أفضى إليه، تبين أن المعزِّر جاوز الحد: إما في قدر الضرب، وإما في توقِّي ما يجب أن يتوقى من البدن، وإما في ترك النظر في زمان أو حال المضروب المؤدَّب، فنتبين أن فعله ليس مباحاً، ولكنه خطأ، ولو علمه واعتمده، لكان عدواناً على التحقيق، وقد أجرينا أن إخراج القابول مباح مشروط بسلامة العاقبة.
والذي يجب تنزيل هذا عليه أن من تصرف في ملكه لا يجب عليه من التحفظ الحدُّ الذي يجب على من يُخرج القابول، ثم يتعين أن يرعى في دوامه ما يصونه عن السقوط، فماذا فرض سقوطه، دلّ ذلك على تقصير في البناء، أو تقصير في مراعاة الصَّوْن في الدوام، فإذا تعلق الضمان به، أفضى إلى العلم بمجاوزة حد الأباحة المحضة ابتداء أو دواماً.
وهذه الحدود غير مرعية في الأملاك، ولو قال الملاك: هذا وضع الشرع، وتبينا من هذا المنتهى أن من أخرج القابول، وتناهى في الاحتياط، فجرت حادثة لا تُتوقّع من وجه، أو صاعقة تندر وسقط القابول، فلست أرى إطلاق القول بالضمان.
فلينظر من أدرك هذا المغاص في ذلك. واللهُ العليمُ.
وهذا نجاز الأسباب التي هي أسباب العدوان على الجملة.
10822- ونحن نعقد بعد هذا فصلاً في تفصيل الضمان وما يوفيه بما يُكمل البيان- إن شاء الله عز وجل- فنقول: إذا حفر حافرٌ بئراً في محل عدوان، فإذا أطلقنا هذا اللفظَ، فالمراد به الحفرُ الموجب للضمان، فإذا تردى متردٍّ في مثل هذا البئر، وجبت ديته على عاقلة الحافر، ووجبت الكفارة على الحافر.
فإن تردت بهيمة، فالضمان في مال الحافر، ولو كان مات الحافر وقسمت تركته، فالضمان الذي كان يتعلق بماله لو كان حياً يتعلق بتركته بعد وفاته، ولو كانت قُسِّمت وتطاول الزمان، فالضمان يتبعها، ثم لا يؤاخذ المتردّي بتخطيه، وإن كان سببُ الهلاك تردّيه، بل يحمل الضمان على الحافر.
وهذا يكاد يخرم قاعدة السبب والمباشرة؛ فإنا مهدنا في الأصول المتقدمة أن المباشرة مقدمة على السبب، إذا لم يكن السبب غالباً، أو في معنى الملجىء، ولا محمل لهذا في الأقيسة الجزئية إلا تغليظ الأمر على المعتدين، وزجرهم عن أسباب العدوان، ثم لم يفرق أحد من الأئمة بين أن يتفق التردي ليلاً أو نهاراً.
ولا ينضبط هذا الأصلُ، ما لم نجدد العهدَ بمسألة ذكرناها في باب الاصطدام، ولا نُخلي إعادتها عن إفادةٍ وذكر زيادة.
10823- قال الشافعي: "إذا صدم الماشي واقفاً، فمات الصادم والمصدوم، فالصادم ضامن لدية المصدوم" وهو في نفسه هدرٌ في حق المصدوم، ولسنا نعني بإضافة الضمان إلى الصادم الضرب على ماله، وإنما نعني ارتباط الضمان بعاقلته، ولكن التحفظ عسر في أثناء الكلام، وقال الشافعي: "لو تعثر ماشٍ بقاعد على الطريق فدية الصادم على عاقلة القاعد والقاعد المصدوم هدر" وقد قدمنا اختلاف أصحابنا في ذلك، وذكرنا أن منهم من نقل وخرّج وأجرى في المسألتين قولين:
أحدهما: أن الضمان على الصادم منهما، والثاني: أن الضمان على المصدوم منهما على التأويل الذي ذكرناه في إضافة الضمان. ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وفرق بين حالين كما سنعيد على حسب حاجتنا في هذا الفصل.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً في أنه يجب تمام دية الصادم، وتمام دية المصدوم، ولم يصر أحد إلى تنزيلهما منزلة المصطدمَيْن؛ فإن المصطدمين مشتركان في فعلين متماثلين، وهذا متحقق في الصادم والمصدوم في مسألتنا، وكان هذا القائل يجعل الصادم متعدياً على نوعٍ، ويجعل المصدوم متعدياً على نوع آخر، ولم يجعل النوعين بحيث يتحقق الاشتراك بهما، وهذا على بُعده لطيف المأخذ، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى تنزيلهما منزلة المصطدمين.
10824- فإذا تجدد العهد بهذه المسألة؛ فإنا نقول بعدها: الظاهر في قانون المذهب الفرق بين أن يكون المصدوم قائماً أو قاعداً، وكيف لا نقول هذا، والنص مصرح بهذا، والنقلُ والتخريج عندي تكلف، وسبب الفرق أن المنفعة المقصودة في الطريق المرور والطروقُ، ويغلب على المار أن يقف لانتظارٍ، أو تأمل، أو نفض ثوبه، أو للاسترواح، فبالحري أن يكون الوقوف في حكم الجزء من المرور، فإذا كان كذلك، فلا اعتداء فيه أصلاً.
وأما القعود، فإنه يبعد أن يكون ملتحقاً بالمرور، بل هو قطع المرور، والوقوف أناةٌ في المشي، على أن من قال القائم كالقاعد، قال: رب مارّ يعيا ويكلّ، ويحتاج إلى انتظار، ويؤئر القعود، فمن سلك هذا المسلك ألحق القعود بحاجات المرور.
وإنما قدمنا جميع ذلك لغرض، وهو أن من نصب حجراً، فتعقّل به إنسان من المارة، وجب الضمان على ناصب الحجر، والتعقل بالقاعد كالتعقل بالحجر، ثم لا خلاف أن نصب الحجر مُضمِّنٌ وفي القعود التردد الذي ذكرناه، والسبب فيه أن القعود مما يطرى على المارة، ونصب الحجر لا تعلق له بأغراض المرور والطروق.
10825- ثم إنا نندفع بعد هذا في تفاصيل أسباب الضمان، وتقديم البعض منها على البعض، والتسوية بين ما يجب فيه التسوية، فلو احتفر إنسان بئراً في محل عدوان، ونصب ناصب على شفير البئر حجراً، فتعقل المارّ بالحجر، وتردّى في البئر، فقد أجمع الأصحاب على أن الضمان على صاحب الحجر؛ فإنه سبب دفعه إلى البئر، والسبب كالمباشرة، فنجعل كأن مباشرَ نَصْبِ الحجر باشر دفعَه، ولو فرض ذلك، لكان الضمان على الدافع، وإن كان الهلاك لا يحصل لولا البئر، ودَفْعُ الدافع، فإن البئر يصير بمثابة الآلة يصادفها مباشر القتل، فيقتل بها، ولولاها لما تأتى القتل، ولا ضمان على من هيّأ الآلة.
ولو نصب ناصب حجراً، ونصب آخر أمام الحجر سكيناً، فتعقّل المار بالحجر، ووقع على السكين، وهلك بسبب ما ناله من جرح السكين، فالضمان على ناصب الحجر.
وقال الأئمة: لو استمسك الرجل بنصاب سكين، وكان بين يديه إنسان واقف، فجاء آخر من ورائه، فدفعه على السكين، فإن لم يحرك صاحب السكين يده في صوب المدفوع، بل أثبتها، أو اكتنّت يده، فالضمان على الدافع، هكذا قال الأصحاب، وإن حرك يده قدُماً في صوب الملقَى عليه، فيجب الضمان عليه حينئذ. ونحن نرسل هذه المسائل، ثم ننعطف عليها بالبحث والتنبيه على أغلب الوجوه، إن شاء الله.
ولو ألقى رجل رجلاً من عُلوّ، فتلقاه إنسان واقفٌ بالسيف، وقدَّه نصفين، فالذي أطلقه الأصحاب أن الضمان والقصاص على القادّ.
ومما ذكروه أن من حفر بئراً معتدياً، ونصب ناصب في أسفل البئر سكيناً، فتردى وصار في البئر، وهلك بالسكين، فالضمان على حافر البئر، وهذا جارٍ على قياس الدفع الذي ذكرناه في الحجر إذا فرض التعثر والوقوع في البئر، أو فرض التعثر به والتعثر بالسكين، المنصوب أمامه.
ولو حفر حافر بئراً وجعلها عشرة أذرع، فجاء آخر وعمقها، فتردى المار في البئر، وهلك، فما ذكره الأصحاب من قياس الدفع ينبغي أن يكون الضمان على المبتدىء بالحفر، فإنه في محل الدافع، وذهب بعض الأصحاب إلى أن الضمان مشترك، وهذا وإن كان يمكن توجيهه، فهو هادم لما قدمناه في الحجر والسكين، والحجرِ والبئر، والسكينةُ التي ذكرناها في الدفع قوية.
فإذا بيّنتُ هذه المسائل، فلا نأخذ في غيرها حتى ننعطف عليها بالتنقيح والتصحيح، ثم نأتي بعدها بما يليق بالترتيب:
10826- فمما ذكرناه الحجر والبئر، وتقدير الحجر كالدافع، وهذا وإن كان متفقاً عليه، ففيه سؤال: فالحجر سببٌ في الدفع وليس دفعاً، والبئر سبب في الهلاك وليس إهلاكاً، فلا يبعد من طريق القياس أن يقال: اجتمع السببان، فيشترك المتسببان في الضمان، وليس من الإنصاف أن نجعل الحجر كالدافع المباشر، ونجعل البئر على حقيقة السبب، فإن قدرت سبب الدفع دفعاً، فقدِّر سببَ الهلاك إهلاكاً.
ولو ألقى ملقٍ إنساناً على سكين بيد إنسان، فتلقاه صاحب السكين، فالهلاك منهما، والضمان عليهما، فهذا وجهٌ في الإشكال بيّن.
وما ذكره الأئمة رضي الله عنهم من إلقاء الواقف على السكين القائم أظهر إشكالاً من هذا؛ فإن رَمْي السكين وإسقاطَه ممكن، والاستمساك به والتحامل عليه ليدوم منتصباً كيف محطُّه، فإن كان هذا مفضياً حيث يتفق الدفع والاعتمادُ على وجهٍ لا يمكّن صاحبَ السكين فيه من طرح السكين، فإذ ذاك يجوز أن يُكفَى الضمان، وهذا مما لا أستريب فيه، ولست أردّ على من مضى ولكن أحمل كلامهم على الصورة الأخيرة- ومن أعظم الدواهي ما وقع من الخلل في نقل النقلة.
أما مسألة الحجر والبئر، فلا شك أن المذهب فيها ما ذكره الأصحاب، والشافعي صوّر تلك المسألة، فلا مزيد على ما قال الأصحاب، والإشكال قائم في التعليل إلى أن يحلّه ذو فكر صائب.
وأما مسألة القد، فقياسها بيّن؛ فإن القتل على الحقيقة إنما صدر من القادّ، وليس الملقي في حكم المشارك له، بل هيأ له القتل، فكان الملقي كالممسك، الذي يقرّب الشخص بإمساكه لسلاح من يقتله.
وفي بعض التصانيف حكاية وجه غريب أن القاتل هو الملقي، وهذا بعيد لا أصل له، ولم يقل أحد باشتراكهما.
وقد انتهى غرضنا في هذا الفن نقلاً وبحثاً.
10827- ثم قال الأصحاب: لو احتفر إنسان بئراً في محل عدوان، ثم جاء السيل بحجر، فانتصب على شفير البئر، فتعقّل به متعقل، وتردّى، فالمتردي هدرٌ؛ لأن الحجر كالدافع، وليس انتصابه مضافاً إلى ضامن، فلا وجه إلا الإهدار، ويلزم من هذا المساق أن كل من احتفر بئراً فجاء آخر وجعل على حافة البئر أيَّ نتوءٍ، ولو كان هذا البئر في مضيق من الطريق، فمن تعثر بالنتوء، وسقط في البئر، فلا ضمان على حافر البئر، ونُرتِّب عليه أن الضمان إنما يجب على الحافر إذا تردى المتردِّي بخطوه في البئر، هذا لابد منه، إذا تمهد الأصل المقدم، وكذلك إذا وضع الحجر على شفير البئر، وفرض التعقل والتردي، فلا ضمان أصلاً.
فرع:
10828- إذا طرحت قشور البطيخ في الطريق وجرينا على أنها سببُ الضمان على الجملة، فقد ذكر صاحب التلخيص تفصيلاً نستاقه على وجهه، ثم نذكر وجه الصواب، قال: "قشر البطيخ إذا طرح، فإن كان الوجه المطعوم منه يلي الأرض والوجه الآخر يلي الهواء، فإذا وضع المارّ رجله عليه وتعثر، نظر: فإن لم يتحرك القشر، فلا ضمان، والتعثر والتكفؤ محمول على عثرة المار؛ فإن الوجه الذي لا طعام عليه لا يُزلّق، والوجه الذي عليه الطعام لم يتحرك حتى يُحملَ التزلقُ عليه، فكان سقوط المارّ غيرَ مضاف إلى القشر.
وإن تحرك القشر، وهو على هذه الهيئة تحت القدم، وسقط المار، وجب الضمان؛ لأن كل ذلك محمول على مزلّة تحت القدم، ثم التعثر مرتَّب عليه.
ولو كان الوجه المطعوم بحيث يلي الهواء، والوجه الآخر يلي الأرض، فوضع المارُّ قدمه عليه، فإن تحرك القشر تحت القدم، وسقط المار، فلا ضمان، والأمر محمول على عثرةٍ وِفاقيّة؛ فإن القشر إذا تحرك مع القدم-والذي يلي الأرض لا ينزلق- فلا مزلق من جهة القشر، وإنما الرجل انساق للحركة متعرضاً فيها.
وإن كثر القشر-وهو على الهيئة التي ذكرناها آخراً- وانملس القدم، فهو محمول على تزلق الطعام البادي للهواء".
هكذا ذكر صاحب التلخيص وطائفة من طوائف الأصحاب.
وذهب معظم المحققين إلى إبطال هذا التفصيل في الصورتين والمصير إلى أنَّ الضمان يجب، فإن القشر سبب التعثر حيث فرض الأمر، ولا يُنْكر ظهور الإحالة عليه، وما ذكره في الصورة الأخيرة من أن القشر إذا تحرك، فلا ضمان في ذلك، فإنه في الغالب يتحرك بوطأة الواطىء، وينعصر من الرطوبة عليه ما يزلق الجلد، فلا خير في هذا التفصيل.
وما ذكره في الصورة الأولى أمثل قليلاً إن كان الوجه البارز للهواء خشناً لا يفرض التزلق عليه، والغالب أنه مما يفرض التزلق عليه، إما لملاسته-فإن ذلك غير منكر في أجناس البطاطيخ- وإما لكونه رَخْصاً حاوياً رطوبة.
فإن كان نشفاً خشناً والوجه المطعوم مما يلي الأرض، فلا يبعد اعتبار التحرك.
10829- وخرج من مجموع ما ذكرناه طرقٌ: منها ما حكيناه عن صاحب التلخيص في التفصيل.
والطريقة الثانية- وهي التي ذهب إليها معظم المحققين أنا لا نفصل بين التحرك وعدمه، وبين أن يكون الوجه بادياً أو كان مما يلي الأرض.
والذي ذكرناه قبلُ من تصويبه في اشتراط التحرك إن كان الوجه البادي نشفاً، فهو لو تفصل على هذا الوجه، لم يبعد.
ويتعلق بتمام البيان أن من رش الماء، حتى انتهى إلى مبلغ تزلُّقٍ، فهو من أسباب الضمان، كما تقدم، ولكن يشترط أن يضع المتعثر قدمه على موضع الزلق من حيث لا يشعر، فإن وضع قدمه عليه وهو يعاين الأثر المزْلق فتزلّق، فلا ضمان أصلاً، وهذا يجري في وطء القشور كيف فرضت، وهو بمثابة ما لو وضع الساقط قدمَه على شفير البئر وهو معاين فإذا تردى، فلا ضمان على الحافر، وإن كان الرش غير منته إلى الزلق، وكان فيه منفعةٌ ظاهرة، فهو كاحتفار البئر لمنفعة المسلمين، وقد مضى التفصيل فيه وانتجز بهذا القول في مضمون الباب.
فصل:
10830- إذا احتفر رجل بئراً في محل عدوان، فتردى فيها متردٍّ، وانجرّ عليه ثانٍ، ثم سقط ثالث على الثاني، إلى أي عدد يُفرض.
فلا يخلو إما أن يتفق التساقط من غير جذب، وإما أن يتفق بين المتساقطين جذب، وذلك بأن تزل قدم الأول، فيجذب ثانياً، ثم يجذب الثاني ثالثاً.
فإذا تبين الغرض في هذا العدد، نبني في الزوائد عليه.
فإذا كانوا ثلاثة- وقد جذب الأول الثاني، والثاني الثالث، وانهاروا في البئر، فإن تفاوتت مساقطهم، ولم يقع أحد على أحد، وماتوا بسبب التردي- فالجواب بيّن: أما الأول فديته على عاقلة الحافر، ودية الثاني على الأول؛ فإنّ جذبه عمدٌ محض، ولولا فوات الأول، لتكلمنا في القصاص عليه، وتجب دية الثالث على الثاني.
10831- وأول ما تجب الإحاطة به قبل الخوض في نقل المذاهب أنه قد اجتمعت أسبابٌ في إهلاك هؤلاء، يجمعها البئر والجذب.
ثم اختار الأئمة المعتبرون في هذه المسألة مذهبَ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وذلك أنه قال: الأول مات بسبب صدمة قعر البئر، وسببِ سقطةِ الثاني ووقوعِه عليه، وسببِ سقطة الثالث، فإنه وإن وقع على الثاني، فلا شك أن ثقله يؤثر في الأول، فهلاكه مضاف إلى ثلاثة أشياء: أحدها: صدمة البئر، والثاني: ثقل الثاني، والثالث: ثقل الثالث، وقد انتسب الأول إلى سبب واحد من هذه الأسباب الثلاثة، وهو سقوط الثاني عليه؛ لأنه جذبه وكان سقوطه بسببه، فخرج منه أن الدية تثلّث، فالثلث فيها على عاقلة الحافر، ويهدر الثلث، ويجب الثلث الثالث على عاقلة الثاني؛ لأنه جذب الثالث، فكان تثقيلُ الثالث الأولَ مضافاً إلى جذب الثاني.
وكأنا نؤثر أن نصوّر ذلك على وجه شبه العمد، حتى ينتظم الكلام على نسق واحد.
وأما الثاني، فهلاكه مضاف إلى جذب الأول إياه، وإلى جذبه الثالث، فهدر النصف من ديته لمكان جذبه، ويجب النصف من ديته على الأول بجذبه إياه.
والأمر يطول في الفرق بين العمد وشبه العمد، والضرب للعاقلة وخاصّ مال الجاذب، وليس ذلك من غرضنا الآن.
وأما الثالث، فهلاكه مضاف إلى جذب الثاني لا غير، فيجب تمام ديته على الثاني إن تعمد.
هذا مذهب علي.
وإن زاد العدد، لم يخف التفريع، فلو كانوا أربعة ووجد الساقط على الصورة التي ذكرنا من الجذب ووقع البعض على البعض، فقياس ما ذكرناه أن هلاك الأول مضاف إلى البئر وإلى ثقل الثاني والثالث والرابع، وإذا تخيلنا هذه الأسباب الأربعة، فننظر ما يضاف فيها إلى الأول فإذا هو جذبه الثاني، فنهدر ربع ديته، ويجب ربع ديته على عاقلة الحافر، وربعها على عاقلة الثاني لجذبه الثالث، وربعها على عاقلة الثالث لجذبه الرابع.
وهلاك الثاني بجذب الأول إياه، وبثقل الثالث والرابع وهي ثلاثة أسباب، واحد منها مضاف إليه، وهو جذبه الثالث، فهدر ثلث ديته، ويجب ثلثها على الجاذب الأول، وثلثها على الثالث لجذبه الرابع.
وأما الثالث، فهلاكه مضاف إلى سببين:
أحدهما: جذب الثاني إياه، والثاني جذبه الرابع، وهذا يقتضي التنصيف، فنُهدر نصفاً لجذبه الرابع، ونوجب نصفاً على الثاني.
وأما الرابع فسبب هلاكه شيء واحد، وهو جذب الثالث إياه، فلا مهدر في حقه، وتمام ديته على الثالث.
هذا بيان مذهب علي وهو مختار أئمة المذهب.
10832- وذهب أكثر الأصحاب إلى وجهين آخرين سوى ما أوضحناه من مذهب علي وهو اختيار الجمهور، ونحن نذكر الوجهين كما وجدناهما، ثم نُتبع ذلك تحقيقَ ما نحكي.
من أصحابنا من قال: إذا كان الفرض في ثلاثة فَهَدَرَ الأول والثاني جميعاً، فأما دية الثالث، فإن نصفها يضاف إلى الأول، ونصفها يضاف إلى الثاني.
والذي ذكره الأصحاب في توجيه ذلك: أن الأول لا يضاف هلاكه إلى البئر، فإنه لما جذب الثاني، فقد جنى على نفسه جناية مباشرة، وحفر البئر تسبُّبٌ بعيدٌ، وإن وجدنا مباشرة، أسقطنا معها أثر السبب، وإذا خرج النظر إلى البئر من البئر، فهلاكه مضاف إلى ثقل الثاني، وإلى ثقل الثالث، أما ثقل الثاني، فهو الذي جذبه وحوّله إلى نفسه، وأما ثقل الثالث، فهو من وجه مضاف إلى الأول، فإنه جذب الثاني، وجذب مجذوبه، فصار الأول هالك أيضاًً، لأنه جذب الثالث، فكان هذا مباشرة منه، فسقط جذب الأول له، وأما الثالث، فإنه مضاف هلاكه إليهما جميعاً: إلى الثاني؛ من حيث إنه جذبه، وإلى الأول من حيث جذب جاذبه.
وهذا الوجه ليس مما يضعف فيه وجه الظن والرأي، بل هو خطأ على تحقيق؛ من جهة أنه أهدر الثاني بالكلية، وهلاكه بجذب الأول له، وجذبه الثالث، ولئن كان يخطر لذي نظر إسقاط أثر البئر بمباشرة الجذب، فإسقاط أثر جذب الأول، وهي مباشرة بجذب الثاني الثالثَ غيرُ معقول.
ثم قال هذا القائل: الثالث يضاف هلاكُه إلى جذبين، فكيف يستدّ إضافة هلاكه إلى جذبين مع أنه لا يضاف هلاك الثاني إلى جذبين، فلا حاصل لهذا. وقد نجز أحد الوجهين الزائدين على مذهب الجمهور.
والوجه الثاني- أن حفر البئر لا يُحْبط اعتباره، ولا نُخرج البئر من الإحالة عليه، فأما الأول، فهلاكه بصدمة البئر، وثقلِ الثاني والثالث، غيرَ أن ثقل الثاني حصل بجذبه، وثقلُ الثالث حصل بجذبه اتصالاً به، فجذْبُ الثاني جاذبُ مجذوبه وهو الثالث، فديته بين الحافر وبين الإضافة إليه نصفان، فهدر نصفها، ويجب على عاقلة الحافر نصفها.
وأما الثاني فيهدر نصف ديته بجذبه الثالث، ويجب نصف ديته على الأول بجذبه إياه.
وأما الثالث فقد قال: إن تمام ديته على الثاني لأنه جاذبه.
وهذا فيه خلل ظاهر، فإنه في تنصيف دية الأول أضاف إليه جذبه الثاني والثالث، ولما انتهى إلى الثالث أضافه إلى الثاني بالكلية. وهذا متناقض، فهذا ما تلقيناه على تثبت.
وبقي بعد النقل والبحث الثقةُ بأن المذهب ما نقله الناقلون عن علي بن أبي طالب، وهو الذي اختاره جماهير الأصحاب.
10833- وقد ذكرنا ما هو باطل قطعاً في مجال الوجهين المحكيين بعد قولِ الجمهور، وعلينا أن نتعرض لما هو بمحل الظن، ثم نبني عليه ما يجب أن يقال لو ثبت ذلك المظنون، وحدث ما هو باطلٌ قطعاً.
فمما يتعلق بهذا القسم أن الأول لما جذب الثاني- والمسألة في ثلاثة- وجذب الثاني الثالثَ، فمن قال: الأول جذب الثاني، وجذب مَنْ جذب الثالث، فهو منتسب إلى جذبهما، فقوله غيرُ بعيد عن الظن، ولكن لابد من تفصيلٍ فيه، فإنْ جذب الأول الثاني، فهوى الثاني هُويّاً لا يملك التماسك، فانتساب التعلق بالثالث بعد أن زلت به القدم ونسبة الثالث إلى الأول محال، فإنه تمم جذب الثاني وأزاله عن اختياره، ثم افتتح هو بعد ذلك جذبَ الثالث، وكان جذب الثالث محالاً على محض قوة الثاني.
وإن تعلق الثاني بالثالث، ثم جذب الأولُ الثاني، وهو متعلق أبه،، فهذا
محل النظر؛ من جهة أن الأول أنشأ جذب الثاني وهو متعلق بالثالث، فأثرت قوتُه في جذبهما، ولكن إحالة انجذاب الثالث على الثاني أولى، لاستمساكه به، مع إمكان تركه إياه، وهو على حالٍ محتمَلٌ؛ سيّما إذا فرض نفيه عن الأول، فيقع الثاني والثالث قبل أن يفرض إعمال الاختيار في حلّ اليد، فهذا مما يجول فيه الظنُّ.
ومما يتعلق بالمظنونات بعضَ التعلق ما أحدثناه في سياق أحد الوجهين المذكورين بعد مذهب الجمهور من قولنا: إن أثر البئر يسقط بالجذب، وقد أشرنا إليه إذ قلنا: البئر في حكم السبب، والجذب المفضي إلى سقوط المجذوب في حكم المباشرة تغلب السبب، وهذا تخيّلٌ، والأولى إلحاقه بما يُقطع ببطلانه، وذلك لأن وقوع الأول في البئر وما يناله من أثر الصدمة ليس مما ينكر، وهو واقع حساً، وقد حكم الشرع بأن حافر البئر في حكم المُردي للمتردي، فكيف نحكم بانعدام أثر الصدمة بسبب جذبةٍ ننظر إليها؟ فهذا إذاً خبالٌ لا حاصل له.
10834- وتنخّل مما ذكرنا أن المذهبَ الأولُ، ولا يصح على السبر غيرُه.
والذي يختلج فيه الظن نسبة الثالث إلى جَذْبةِ الأول في صورة واحدة ذكرناها، وهي أن يجذب الأول الثاني وهو متعلق بالثالث على مفاجأة، فصار الظاهر أن الأول تسبب إلى جذب الثالث، فإن جعلنا متسبِّباً، وقد أبطلنا ما عدا ذلك، فوجه التفريع- مع الاقتصار على هذا المظنون، وإسقاط ما سواه، فيما قدمناه- أن نقول- والفرض في ثلاثة: الثاني والثالث في حق الأول كشخص واحد يُقْتل، ولو جذب شخصاً واحداً، لقلنا ديته نصفان نصفه على عاقلة الحافر، ونصفه مهدر.
وأما إذا أردنا النظر إلى الثاني والثالث، فهلاك الثاني بجذب الأول، وبثقل الثالث، والثالثُ على كل حال مجذوب الثاني، وإن كان مجذوب الأول، فمضاف بثلاث إلى تسببين، وهو كما لو جرح الرجل رجلاً جرحين، وجرح ذلك المجروح نفسه جرحاً واحداً، فالهلاك مضاف إلى مهدر ومُضمِّن وهذا يقتضي التشطير لا محالة.
وأما الثالث، فيضاف إلى جذب الأول والثاني، فتكون ديته نصفين، يضاف نصفٌ إلى الأول، ونصفٌ إلى الثاني.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
وكل هذا والمسألة مفروضة في جذب البعض بالبعض.
10835- فأما إذا تهافتوا في البئر من غير جذب، وسقط الثاني على الأول، والثالث على الثاني، فهذا فيه فقهٌ غائص، والوجه ذكرُه في شخصين أولاً، ثم لا يخفى ما بعده، فإذا سقط متردٍّ، وتبعه الآخر، فلا شك أن هلاك الأول في ظاهر الحال يضاف إلى صدمة قعر البئر، وإلى سقوط من سقط عليه، ولكن يتعارض في سقوط الثاني كلامان:
أحدهما: أن سقوط الثاني مضاف إلى حفر البئر، حتى كأن حافر البئر أسقطه، وآيةُ هذا أن ضمانه واجب على حافر البئر، وموجَب ما ذكرناه إيجاب دية الأول بكمالها على حافر البئر، ويعارض هذا أن المتردي الأول يقول: هذا الثاني أسقط نفسه في البئر لما وضع القدم على هواء البئر، ولو كان عامداً لم نشك في ذلك، فسقوط العمد لا يغير حكم التلف، ومقتضى الضمان المترتب عليه، نعم، قد يختلف الأمر في متعلق موجب الخطأ والعمد، وليس ذلك من غرضنا الآن.
والأولى أن نقول: إذا كان تردّيه مضموناً على الحافر ضماناً مستقراً، فكيف يصير سبباً للضمان في حق هذا المضمون، والمسألة محتملة، والإشكال فيها بالغ.
وفي كلام الأصحاب ما يشير إلى التردد، فيجوز أن يقال: لا ضمان على الثاني
الساقط على الأول، لا تعلقاً، ولا قراراً، لما ذكرناه آخرأ، ويجوز أن يقال: الثاني
في منزلة المغرور بالإضافة إلى الحافر، وهو فاعل متسب، لتلف، فتعلق الضمان به لفعله، ويثبت الرجوع على حافر البئر، كما تقدّم في المكرَه على إتلاف المال إذا طولب في وجهٍ، ثم يرجع على المكرِه، والأولى الوجهُ الأول، وهو قطع الطّلبة بالكلية، فإنه مضمون ضمان قرار على صاحب البئر، فهو في حركته غير منتسب إلى تردية بوجه، وقد ضمن له تردّيه فكيف يصير ترديه مضمّنه؟
ولكن رأيت للأصحاب تردداً في هذا، فأتيتُ بالممكن فيه، وإلا فلا استرابة بأنه لا تعلق بالمتردِّي، لا طلباً، ولا قراراً.
ثم لو قدرنا الطلب على عاقلته ولا عهد لنا بتغريم العاقلة، ثم إثبات الرجوع لهم، فإنهم لا يغرمون قط إلا غرم قرار.
فرع:
10836- لو أن رجلين كانا يتخاصمان، فانتهى الأمر إلى أن شهرا سيفيهما، وتقاتلا، وماتا مقتولين، ثم ادّعى ورثة كل واحد من القتيلين أن صاحبه كان دافعاً، والآخر كان قاصداً فمآل الأمر يتحالفان، ولا يستفيدان إذا حلفا شيئاًً بتحالفهما، وإنما يفرض اليمين لتقدير نكول أحدهما، وحلف الثاني.
ولو سئلنا عن حكم وقوع هذه المسألة التي سنصفها وقيل لنا: إذا التقى رجلان بسيفيهما، وظن كل واحد منهما أن صاحبه قاصدُه، فقصَدَ كل واحد منهما الدفعَ، وانتهت الحال إلى منتهىً يغلب على الظن أنه الهلاك إن لم يبادر دفع سيف صاحبه- ومعلوم أن ما نطلقه من العلم نتجوّز به، فإذا قلنا: إذا علم المقصودُ أن سيف القاصد لا يندفع عنه إلا بالسيف، لم نعن بهذا حقيقة العلم، وإنما أردنا ظنّاً غالباًً- فإذا تبين أن الظن الغالب يكتفى به، وعليه يخرج تصوير الإكراه على القتل أيضاًً، وإن كنا لا نقطع بأن المتوعد بالقتل كان يقتل لا محالة، ولكن إذا غلب الظن، كان ذلك إكراهاً، والغرض مما ذكرناه أن كل واحد منهما يظن ظناً غالباًً أن صاحبه سيبادره، ولم يكن البيان ممكناً.
فأول ما نذكر في ذلك أنه: هل يجوز لكل واحد منهما أن يدفع سيفَ صاحبه عنه كما صورناه والحالة هذه، والذي نراه أن لكل واحد منهما أن يبذل جهده في دفْع سيف صاحبه عن نفسه؛ فإن الاستسلام لا يجب أصلاً، ويجوز دفع السيف إن لم يجب، وليس الغرض من تجويز دفع السيف منعَ الظالم عن ظلمه، وإنما الغرض أن يصون روحَ نفسه عن السيف الواقع به، والسيف كما صورنا يقع به عن قصد، إما على طريق الابتداء أو عن إرادة دفع.
والذي يحقق هذا أن مجنوناً لو قصد إنساناً بسيفه، دَفَعه المقصودُ وإن كان المجنون لا يوصف بكونه ظالماً، فيخرج منه أن للإنسان أن يدفع السيفَ عن نفسه، ثم يترتب عليه أنه إذا كان لا يتأتى دفعٌ إلا بوضع السيف، فيجوز وضعه، ثم يخرج من ذلك أنه لا ضمان أصلاً، ويصير كل واحد منهما-وقد الْتبس الأمر- في حق صاحبه كبهيمة صائلة.
ثم إذا قلنا: لكل واحد منهما أن يبتدر صاحبه فدية كل واحد منهما هدر.
هذا ما نراه في ذلك، وغالب ظني أني وجدت لبعض الأصحاب نصّاً في هذه المسألة، وسأحرص على طلبه، وإلحاقه.
على أن الكلام استقرّ في هذا على حدٍّ لا يجوز تقدير الخلاف فيه، ولو فرض شيء على خلاف ذلك، فهو هفوة من قائله.
باب دية الجنين
قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الجنين المسلم بابويه أو بأحدهما غرّة... إلى آخره".
10837- من جنى على حامل بجنين حرٍّ محكومٍ بإسلامه تبعاً، فأجهضت بسبب الجناية الجنينَ، فأصل الباب أنا نوجب عليه غرّةً عبداً أو أمةً، والأصل في ذلك ما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمة" وعن حَمَل بن مالك بن النابغة أنه قال: "كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وفي روايةٍ بمِسْطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقتولة بالدية وفي الجنين بغرةٍ عبدٍ أو أمةٍ، فقالوا: كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهلّ، ومثل ذلك يُطلّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسجعاً كسجع الجاهلية»، وروي أسجعاً كسجع الكهان، وقضى بالدية والغرة على العاقلة " وأصل الغرة متفق عليه.
وذكر من يحرص على ذكر معاني القواعد أن المعنى في إيجاب الغرة أن الجنين شخصٌ كان يرجى له كمال الحال بالحياة، فإذا فوته الجاني، لم نوجب كمال الدية لأنه لم تتحقق الحياة للجنين؛ فنوجب على مقابلة هذا التفويت حيواناً كامل العمل يثبت عوضاً عما فوت.
فهذا هو الأصل في إثبات قاعدة الباب، ولا حاجة عندنا إلى المعنى الذي ذكره المتكلّفون في إيجاب الغرة، والإجماعُ والنص الوارد كافيان.
فصل:
قال: "وأقل ما يكون جنيناً أن يفارق المضغة... إلى آخره".
10838- قال الأئمة: الأحكام المتعلقة بالأجنة خمسة: الغرة، والكفارة، وأمية الولد، وانقضاء العدة، والإرث منه.
أما الجنين إذا انفصل ميتاً، فلا يرث في نفسه، فإنه إنما يرث من ثبتت له الحياة يقيناً، وإذا أسقطت المرأة جنيناً بدا فيه التخليق والتخطيط، فيثبت به وجوب الغرة، والكفارة، وأمية الولد، وانقضاء العدّة، ثم الغرة تكون مضروبة على الورثة على فرائض الله، ولا يشترط أن يبدو جميع التخليق أو معظمه، ولكن إن بدا منه شيء في طرف من أطراف الجنين، كفى ذلك، ومن جملته الظفر والشعر، والتخليق بُدُوُّ صور الأعضاء، ولو كان لا يتبين تميّز الأعضاء، ولكن بدت مراسمها بخطوط، فذلك كافٍ.
ولو قال القوابل: التخطيط بادٍ، وقع الحكم به، إذ هو يعدّ من العلامات التي مهرن في معرفتها، وهي كافية.
ولو أسقطت المرأة لحماً، ليس عليه تخطيط، وقالت القوابل: إنه ليس لحم ولد، فلا حكم له، وإن قال القوابل: إنه لحم ولد، فهذا فيه اختلاف
النصوص، وقد ذكرتها في كتاب العدّة، وذكرت اختلاف طرق الأصحاب فيها، فلا أُعيد ما قدمته.
والذي نزيده مسألتان: إحداهما- أنها لو ألقت عَلقة أو مُضغة، لم تنتظم انتظام اللحم، فلا حكم لما ألقته، ولا يتعلق به أمية الولد، ولا وجوب الغُرة عند فرض الجناية، ولا وجوب الكفارة، وإن قالت القوابل: ما ألقته أصل الولد.
ولكن إن قطعن بذلك ولم نُثبت شيئاًً من الأحكام التي ذكرناها، فهل يعلّق بقطعهن انقضاء العدة فحسب؟ فعلى وجهين نقلهما بعض من يوثق به عن القاضي، وهذا بعيد؛ فإن ما ألقته أصلُ الولد وأصلُ الولد لا يسمّى حملاً. هذا إذا ألقت علقة أو مضغة.
فأما إذا ألقت لحماً وقلنا: الرجوع إلى قول القوابل، فلو قلن: ليس لحم ولد، لا يتعلق به حكم، ولو قلن: لا ندري، فلا تعلَّق به أمية الولد، ولا وجوب الغرة، ولا الكفارة، وهل يتعلق به انقضاء العدة؟ قيل: لا، وهو الأصح؛ لأنا نفرع على اتباع قول القوابل، ولو قلن: إنه ليس لحم ولد فلا يتعلق به انقضاء العدة، فإذا قلن: لا ندري، فالأصل بقاء العدة.
فخرج مما ذكرناه في هذا الفصل أن القوابل لو قلن في العلقة: إنها أصل ولد، ففي انقضاء العدة بوضعها خلاف، ولو شككن في اللحم، ففي تعلق انقضاء العدة به وجهان للعراقيين، والخلاف في المسألتين جميعاً بعيد، والوجه أنه لا يتعلق به انقضاء العدة.
فصل:
قال: "وكذلك إن ألقته من الضرب بعد موتها... إلى آخره".
10839- إذا جنى على حامل، فألقت جنينها ميتاً وهي حيّة، فلا شك في وجوب الضمان، ولو ماتت الأم بالجناية أولاً، ثم ألقت جنينها بعد الموت من أثر الجناية، فالضمان واجب، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، فإنه قال: إذا ألقت بعد موتها كان كما لو لم تُلْق أصلاً، ولو لم تلق الجنين وماتت والحمل بها في ظاهر الظن، فلا يجب على مقابلة الجنين شيء اتفاقاً، والمسألة مشهورة في الخلاف.
فصل:
قال: "ولا شيء لها في الألم... إلى آخره".
10840- إذا جنى على حامل، فألقت جنينها، فالجنين مضمون إذا كان إلقاؤه
بسبب الجناية، وينظر إلى الأم التي بقيت، فإن كان قد جرحها الجاني، فعليه أن يقدم لها حكومة الشين، كما مضى استقصاء ذلك في الحكومات والديات، وإن جرى جرح بها، ثم اندمل، ولم يبق شينٌ، فهذا ما مضى في كتاب الديات، ولا اختصاص له بالجناية على حاملٍ؛ فلا معنى لإعادته وذكْرِه.
وإن ضربها ولم يجرحها، ولم يوجد إلا إيلامٌ مجرّد، ثم زال، فالظاهر أنه لا يجب بسبب ما جرى عليها شيء.
ومن أصحابنا من أجرى الإيلام بلطمة أو غيرِه إذا زال أثره بمثابة الجرح يندمل ويزول أثره، وهذا بعيد لا أصل له، ولا معوّل عليه.
ولست أقصد إلى الإعادة، وإن رمزت إلى معاد، فللجريان على (السواد) أو لمزيد تبيين.
فصل:
قال: "ولمن وجبت له الغرة ألا يقبلها دون سبع أو ثمان... إلى آخره".
10841- هذا الفصل يشتمل على تحقيق القول في الغرة، ومعناها، وصفتها، وبدلها عند تقدير عدمها، ونحن نأتي في مضمون الفصل بما نراه أقربَ إلى البيان، وإن قدمنا فصلاً في (السواد) أو أخرناه، فلا بأس به:
أولاً- ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غرةٌ عبدٌ أو أمة»، فاتفق الأصحاب على أن الاختيار في تعيين عبد أو أمة إلى الجاني، ولا اختيار في الذكورة والأنوثة لمستحق الغرة.
ثم أول ما يجب ذكره بعد هذا ترددٌ عظيمُ الوقع في قيمة الغرة، مع أن الغرة هي المؤداة-ولسنا نريد بدلَها عند عدمها- فالذي دل عليه كلام معظم نقلة المذهب أنا لا ننظر إلى قيمة الغرة، ولا نشترط فيها شيئاً مخصوصاً سوى البراءةِ من العيوب على ما سنصفها، ولا يبعد بعد ذلك أن تكون عبداً قيمتُه خمسة دنانير، ولا نخصص جنساً عن جنس، ولا نعتبر ما يغلب في البلد أو يُعدّ وسطاً، وهؤلاء يتمسكون بإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة عبد أو أمة.
ومن تتبع كلام الأئمة، لم يخْفَ عليه ذلك من نصوصهم الصريحة.
وقال القاضي: الرقيق المخرَج غرةً يجب أن يكون على مقدار خمسٍ من الإبل، أو على مقدار خمسين ديناراً، واحتج على ذلك أولاً بما روي من لفظ الغرة، والغرة من كل شيء خياره، وغرة مال الإنسان خير ما فيه، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين عبد أوْ أمة، ولكنه قال: "غرة عبد أو أمة" ثم قال: مبلغ الشيء يعرف ببدله عند فقده، وإذا كنا نرجع إلى خمسٍ من الإبل، كما سنصف، فيستحيل ألا يكون العبد على مقدارٍ من الإبل، حتى يقال: الأصلُ الغرة، ونجوِّز أن تكون قيمتُه ديناراً، فإذا عُدِم، فلابد من خمس من الإبل، ولهذا الأصل عَضَدُ تأييدٍ
لا يمكن ذكره الآن، وسيبين في أثناء هذا الفصل، وإذا انتهينا إليه، نبهنا عليه على ما يجب-إن شاء الله عز وجل- وهذا معرفته من المقاصد الجلية، ولم يهتم به أصحاب المذهب على ما ينبغي.
10842- فإن أخذنا بقول الأصحاب، واشترطنا أن يكون الرقيق المخرج سليماً عن العيوب على سَنَنٍ مخصوص، وإن شرطنا ما ذكره القاضي في التقريب لا ينفع ما ذكر، بل الوجه أن نبوح بأن الغرة ينبغي أن تكون بحيث يؤخذ بها خمس من الإبل المجزية في الدية، فإنّ الكلام في الأعواض لا ينتجز بالتقريبات إذا لم ينزل على أقل اقتضاء الأسماء المطلقة. هذا لابد منه.
10843- ثم إنا نخوض بعد هذا في تفاصيل معنية في ذواتها، وهو ينبني على ما مهدناه، فنقول: الجنين الحر المحكوم له بالإسلام، هو أكمل الأجنة، والغرة ثابتة فيه، فلو كان الجنين محكوماً له بالكفر والحرية، كجنين نصرانية من نصراني، فإذا فرضت الجناية المفضية إلى القتل، فقد اضطرب الأصحاب في طرقهم في أن الغرة هل تجب فيه؟ فالذي قطع به شيخي والصيدلاني وصاحب التقريب وبعض المصنفين أن الغرة لا تجب فيه أصلاً، ويختص وجوب الغرة بالجنين الحر المسلم، فإن لم يكن، فلا غرة، وإنما الواجب فيه عُشر دية الأم على ما سنفصله في التفريع.
ونقل من يوثق به عن القاضي أن الغرة هي الواجبة في الجنين الحر المسلم، فإن
فرض الجنين حراً كافراً، فيجب فيه جزء من الغرة، نسبته من الغرة كنسبة دية أصل الجنين من الدية الكاملة، فإن كان الجنين الكافر نصرانياً فدية النصراني ثلث ديهَ المسلم، ففي الجنين النصراني ثلث الغرة، وإن كان الجنين مجوسياً، فدية المجوسي خُمس دية النصراني، وقد ذكرنا أن الواجب في الجنين النصراني ثلث الغرة، فالواجب في الجنين المجوسي خُمس ثلث الغرة؛ فإن الديات هكذا تجري نِسبُها.
وهذه الطريقة منقاسة؛ فإن الغرة من الجنين بمثابة الدية من الشخص التام، وإذا تناسبت الديات على نحوٍ، لم يبعد تناسُب الغرة على ذلك النحو.
ولكن لم أر هذا لأحد من الأصحاب، ووجه الخلل فيه أنه هجوم على القياس في أمور الدّية من غير ثَبَتٍ من طريق التعبد، والأصل في الديات التعبّد.
وذكر العراقيون مسلكاً ثالثاً، وقالوا: يجب في الجنين النصراني عبد كامل قيمته من دية النصراني كنسبة خمسة من الإبل إلى مائة من الإبل.
فقد حصل مما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها: أن الغرة لا مدخل لها في بدل الجنين الكافر أصلاً، فلا يجب فيه عبد ولا جزء من عبد، وهذه الطريقة هي التي يعرفها المراوزة. والوجه الثاني- إيجاب جزء من الغرة، حكيناه عن القاضي، والوجه الثالث: أنه يجب في الجنين الكافر عبدٌ ناقص القيمة، نسبته إلى دية الكافر كنسبة خمس من الإبل إلى دية المسلم الكامل.
وما ذكره العراقيون من إيجاب عبد في الجنين الكافر منسوبٍ إلى دية الكافر تصريحٌ منهم بأن العبد الذي يجب في الجنين المسلم، يجب أن يكون منسوباً إلى الدية الكاملة؛ إذ لو لم يكن ذلك كذلك، لكان الواجب في الجنين المسلم مثلَ الواجب في الجنين الكافر، ويمكن أن يقال: لو لم ترع النسبة، فقد يُخرِج الجاني على الجنين المسلم عبداً خسيس الجنس، قليلَ القيمة، يقل قدره عن عُشر دية النصرانية، وهذا لا سبيل إلى اعتقاده.
فصار ما ذكره العراقيون عضداً وتاييداً لما حكيناه في وجوب المناسبة بين الغرة الواجبة في الجنين المسلم، ولا نُلْزَمُ التفريعَ المستتبع الذي ذكرناه في التسوية بين الجنين المسلم والكافر، لأجل هذا لم نجعل لوجوب الغرة مدخلاً في الجنين الكافر.
10844- وقد يرد سؤال يعسر دفعه، وهو أن عشر دية النصرانية قد يكون أكثر من عبد عند من يفرض إجزاءه في بدل الجنين المسلم، فيجب من هذا التسوية أو تفضيل الجنين الكافر.
وهذا سؤال واقع، والممكن في دفعه أن الغرة للجنين بمثابة الدية، وإيجاب جزء من دية الأم بنسبة الغرة التفاتٌ إلى الغرة، وإخراج له عن أن يكون معتبراً في نفسه. وهذا يوجب انحطاطاً عن اعتبار الشيء في نفسه. ولا نظر إلى التفاوت في المالية، وهذا بمثابة إيجاب دياتٍ قيمةَ مملوك، ولكنه غير مقدر، بل هو مقوّم معتبر بغيره، والحر معتبر في نفسه، وهذا واضح، فإن الغرة إذا عدمت، فقد نرجع في بدل الجنين المسلم الحر إلى خمس من الإبل، وهو عبد، وجزء من دية الأم.
وإذا نظر الناظر فيما نقلناه، ثم فرعناه، لاح له أن الغرة التامة في الجنين الكامل بالإسلام والحرية يجب أن تكون منسوبة إلى الدية، ولا يجوز الاكتفاء بأي عبد كان، وإن كان بريئاً عن العيوب في جنسه. فهذا من أركان الفصل، وقد نجز.
10845- ومما نتكلم فيه القولُ في سن العبد، وفي سلامته من العيوب، وليقع التزامه باشتراط السلامة من العيوب، فنقول: اتفق الأصحاب على أنّ العبد المعيب غير مجزىء إلا أن يرضى المغروم له، ثم المرعي في العيب الذي يُثبت حق الرد كالمرعي فيما يثبت الردّ بالعيب في البيع، وهذا على هذا الوجه متفق عليه في الطرق.
فإن قيل: إذا كنتم تنسبون الغرة إلى الدية، فاحكموا بإجزاء معيب قيمته واقعة من الدية على النسبة المطلوبة. قلنا: لا حاصل لهذا السؤال، فإن الرد بالعيب وإن كان مبنياً على اعتبار الأغراض المالية، فلا يقع الاكتفاء باعتبار القيمة المجردة، فإن من اشترى عبداً واطلع منه على عيب، وكانت قيمته مع العيب الذي به زائدة على الثمن بأضعاف، فللمشتري الرد واستردادُ الثمن، وإن كان ذلك العبد المعيب مطلوباً منه بأضعاف الثمن. وهذا أصل متفق عليه، نعم، قد تتمحض المالية في بعض المواضع، وذلك إذا اشترى قيّم الطفل له عَرْضاً، ثم اطلع على عيب قديم به، وكان مع ما به من العيب مطلوباً بأكثر من الثمن، فليس له الرد، بل يجب رعاية الغبطة للطفل.
وإذا لم تكن المسألة مصورة كذلك، فالرد لا يتوقف ثبوته على القيمة، فإن الإنسان استحق سلامة المشترى مغبوناً كان أو مغبوطاً، فإذا لم يحصل له المستحَق، فله حق الرد، كذلك الغرة تثبت عوضاً فلا يُلزَم مستحِقُّها الرضا بمعيب، وإن كان حق المالية حاصلاً، والدليل عليه أنه لو بذل بدلَ الغرة، مع القدرة على تحصيل الغرة، لم يقبل منه.
10846- فإن قيل: إن كان ما ذكرتموه دفعاً للسؤال على اعتبار نسبة الغرة إلى الدية الكاملة، فماذا تقولون على قولكم يُجزىء أي عبد فرض من غير أن تنسب قيمته إلى الدية، ولو اطلع مستحق الغرة على عيب فرده، فالمردود عليه يشتري عبداً لا عيب به، وهو أخس من المسترد، وأقل قيمة منه؟
قلنا: هذا غير متجه، لما قدمنا ذكره من أن الأغراض المالية لا يتمحض اعتبارها في العيوب، وتصوُّر كون البدل أقلَّ من المعيب المردود بمثابة كون الثمن المسترد أقلَّ من العبد المعيب، وقد ينطبق على هذا في التمسك أن من استحق شيئاً موصوفاً في ذمة إنسان، فجاء به معيباً، فللآخر رده، وإن كان المردود شريف الجنس، وكانت قيمته مع ما به أكثرَ من قيمة ما سيأتي به سليماً من العيب.
فإذا ثبت الفرض على المسلكين، فالمشكل في ذلك أن اسم العبد ينطلق على المعيب انطلاقه على السليم، فإذا لم يكن العبد على قدر من المال معتبر، فاستنباط اشتراط السلامة عسر. وقد قيل: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم العبد باسم الغرة، والغرة اسمٌ للبريء السليم، وهذا يعارضه أن الغرة اسم للخيار في الجنس والنوع، لا أنه اسم للبريء، ثم القواعد متفاوتة في النقائص المانعة من الإجزاء، فالمرعيّ في النقص المانع من الإجزاء في الكفارة ما يؤثر في العمل تأثيراً ظاهراً، فإن لم يكن مؤثراً، لم يمنع الإجزاء وعليه خرج في النقائص المانعة من الإجزاء في الضحايا ما يؤثر في اللحم، أو فقد العين والأذن، كما سيأتي في الضحايا، والمعتبر هاهنا ما يؤثر في إثبات حق الرد في المعاوضات، وقد أوضحنا ذلك في كتاب البيع.
وقد نجز القول في العيب.
10847- فأما الكلام في السن، فإنه يقع في الطرفين.
ونحن نوضح القول في العبد الصغير، ثم نبين المذهب في العبد الكبير: فأما الصغير الذي لم يظهر تمييزه، ولم يبلغ سبعاً أو ثمانياً؛ فإنه لا يجزىء، وذلك أنه مأخوذ عوضاً، وأخذه يُلزم صاحبه التزام مؤنة خاصته، وهو مشقة بيّنة، فنزل الصغر منزلة العيوب.
ومما يجريه الأئمة في الكلام أن آخذ الغرة ينبغي أن يكون متمكناً من الانتفاع باستخدامه، فإذا لم يحصل له هذا الغرض، كان الماخوذ كلاَّ ووبالاً عليه، والعبد في الكفارة يخالف في أصله وضعَ الغرة، فإن من أعتق عبداً رضيعاً ليس به عيب يمنعه من العمل إذا استقلّ، فإعتاقه مجزىء؛ فإن الغر تخليصه من الرق حتى يستقل، ولا يكون كلاًّ على غيره.
وأما الغرة، فإنها عوض تُبتغى المالية منه، فالصغر المُحوِج إلى المؤنة في حكم العيب، وقد ذكرنا تفصيل القول في العيب. فهذا كلام في هذا الطرف.
10848- فأما العبد الكبير، فقد قال بعض الأئمة: لا تجزىء جارية في الغرة استكملت عشرين، ولا يجزىء غلام استكمل خمسة عشر، فإن الجارية يظهر تغيّرها بسبب أثر السن إذا أبرّت على العشرين، والغلام يظهر تغيره باستكمال الخمسة عشر، فهذا ما ذكره العراقيون. وقال قائلون: نعتبر العشرين في الجنسين، فإن النمو والازدياد إلى هذا الحد، وبعده التراجع والانحطاط. وقال الشيخ أبو حامد: الكبر المانع هو الهرم المؤثر في حل القوى، وتضعيف المُنّة، وتابعه جماهير الأصحاب.
ومن أراد الغاية، لم يخف عليه أن الكلام في هذا الطرف من السن مضطرب؛ فإن الهرَمَ إن كان يؤثر في العمل، فليس العمل معتبراً في هذا الباب، وإنما نعتبر العمل ووفورَه وسقوطَه في عبد الكفارة، وليس ذلك معتبراً في الغرة، والدليل عليه أن العيب المانع من الإجزاء في الغرة ما لا يكون مؤثراً في العمل بشين في الوجه والطرف وما أشبهها.
فالذي يجب اعتباره في السن على الطريقة المرعية اتخاذ العيبِ والسلامةِ منه حَكماً في الباب.
ونحن نطرد غرضنا في ذلك على ما لاح وظهر من وجوب كون الغرة مناسبةً للدية بالجزئية التي قدمناها، فكل سن كان عيباً، فليس كذلك، فإن اطراد الإنسان من نشوئه إلى انقضائه بمثابة أنواع الآدميين.
ثم لا يتعين في الغرة نوع، فالملتحي نوعٌ وقد لا يصلح لما يصلح له الأمرد، ويصلح الأمرد لما لا يصلح له الملتحي وهذا يتحقق في أنواع العبيد. ثم تقاعُدُ نوعٍ غير مقصودٍ عن النوع الآخر لا يُلحقه بالمعيب، فاقتضى ذلك ألا نعتبر ما اعتبره بعض الأصحاب من استكمال العشرين والخمسة عشر، وكذلك الكهل الذي وخَطه الشيب، يصلح لما لا يصلح له مَنْ دونه من الأمور الخطيرة التي تنافي نَزَقَ الشباب.
والهَرَمُ لا يمنع إجزاءه ما لم ينته الهرم إلى العيب، ولا ضبط لما ينتهي إلى العيب إلا ما يُظهر الضعفَ وسقوطَ المُنة؛ فإن هذا نقصٌ وراء التنويع والتجنيس، ولا يتصور أن يكون مقصوداً، والصغر دون سن التمييز يلتحق بالعيب؛ من حيث إنه يُلزم مؤنةً.
فلينظر الناظر إلى ذلك يَرشُد.
وليعلم أن العبد إذا كانت قيمته منسوبة إلى الدية، فلا ضرار من جهة المالية، ولا عيب في الصنف، وإن فرض انعدامٌ في غرضٍ خِلقةً ووجودُ غرضٍ، فالأطوار والتارات كالأصناف، ومن تخيل مجاوزة نضارة الشباب عيباً، فليس على بصيرة؛ فإن ذاك إن كان كذلك إنما يتحقق في عبد معيّن ونوع مخصوص، فأما إذا كان تعيين النوع والصنف إلى المخرِج، والماليةُ مرعية، والأطوار كالأصناف، فلا وجه لما تخيله أولئك.
هذا حاصل الكلام في قيمة الغرة، في عَيْبه وسلامته، ثم في سنه.
10849- ثم نحن نذكر بعد هذا التفصيلَ فيه إذا عُدِمت الغرة، فإن الرجوع عند عدمها إلى ماذا؟ أولاً-نعتبر في العبيد ما يعم في البلد أو يكثر في يد الغارم، بخلاف ما ذكرناه في الإبل الواجبة في الدية، ومطلق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «غرةٌ عبد أو أمة» يدل على ذلك، وتصوير العدم كتصوير العدم في إبل الدية، وقد قدمت ذلك مشروحاً في أول كتاب الديات.
ولا معدل عن الغرة مع وجودها، كما لا معدل عن إبل الدية مع وجودها، إلا أن يرضى به الباذل والمستحِق، ثم يكون ذلك اعتياضاً، والقول في هذا كالقول في إبل الدية حرفاً حرفاً.
وقد ذكرنا ثمَّ أن المنصوص عليه في الجديد أن إبل الدية إذا فقدت، قوّمت ووجبت قيمتها بالغة ما بلغت، وذكرنا قولاً آخر أن الرجوع إلى مقدرٍ، وهو من الدنانير ألفُ دينار، ومن الدراهم المسكوكة من النُّقرة الخالصة اثنا عشر ألفاً.
وقد اختلف أئمتنا في ترتيب المذهب في الغرة. فمنهم من قال: الترتيب هاهنا كالترتيب إذا فقد إبل الدية، حتى يكون الرجوع إلى قيمة الغرة في قولٍ مصحح، وإلى مقدّرٍ سنصفه في القول الآخر.
ومنهم من قال: الترتيب يجب على العكس. والأصح هاهنا الرجوع إلى مقدّر إذا فقدت الغرة.
وفي المسألة قولٌ بعيد أن الرجوع إلى قيمة الغرة.
هذا ما ذكره الأصحاب.
10850- وأنا أقضي العجب ممن يستمر على مثل هذا الكلام، ولا يخطر له اختلاج فكر يجاذبه إلى طلب الحقيقة، ونحن نقول: إن كان العبد المأخوذ غرةً، منسوباً إلى الدية بالجزئية المقدمة، فلا يتصور إلا التقدير في إثبات البدل، وليس كالإبل؛ فإنها أصل لا نستبدلها، فإن اعتبرت قيمتها، فُهِم ذلك، واختلف بارتفاع الأسعار وانحطاطها، وإبل الدية مضبوطةُ النوع والسن مشروطةٌ بالسلامة، فأما العبد، فلا صنف له، فإن نسبت قيمته، فقيمته مقدرة أبداً، وإن قيل لا ينسب العبد إلى الدية، ولا ضبط للعبد بالإبل، فلست أرى لرد الأمر إلى رأي الغارم ليقدّم أي عبدٍ شاء معنىً.
10851- ووراء ما ذكرناه نوعان من الكلام، بهما تمام البيان:
أحدهما: أنا إذا أوجبنا قيمة عبد، ولم ننسبها إلى الدية، فنعتبر قيمة عبد ابن سبعٍ، سليم عن العيوب، من أخس جنسٍ يفرض.
وإن اعتبرنا نسبة العبد إلى الدية، فقد يعترض فيه سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: تقويم العبد مذكور مشهور، وهو قول معزي إلى الشافعي، فما وجهه؟ هلا قطعتم بالرجوع إلى المقدر؟
وهذا سؤال واقع، والجواب عنه أن الإبل إذا عدمت، فالأصح أن الرجوع إلى قيمتها، والخلاف يؤول إلى أنا إذا أردنا القيمة، فنقوّم عبداً يؤخذ به خمس من الإبل، ونرجع إلى خمس من الإبل، ويكون هذا التردد بسبب كون العبد أصلاً في الباب، ويستفيد به الباذل أنه يبذل الدراهم، فتؤخذ منه مع وجود الإبل، ولسنا نعتقد على هذا المسلك الأصحِّ أن التقدير المالي يختلف، وإنما يرجع أثر التقويم إلى ما ذكرنا من جواز الرجوع إلى القيمة مع وجود الإبل.
فلو فقدت الإبل، فلا أثر لقولنا: إنا نقوّم العبد بالإبل. نعم، إنما صححنا الرجوع إلى البذل عند عدم الإبل، لأنا نقع في الدراهم والدنانير، مع انضباط القيمة، فبعُدَ هذا، وكان الرجوع إلى الإبل أقرب منه بخلاف الإبل إذا فقدت في الدية؛ فإن القيمة غير منضبطة، وكان الأصل فيها التقويم؛ فإن الألف دينار لا أصل لها، وإنما صار إليها صائر من حيث رأى في الواقع تقويم الإبل بألف دينار، وإنما يُحمل ذلك على وفاق في القيمة، والرجوع إلى خمس من الإبل مضبوطة شرعاً، وهذا منتهىً لا يفضي إليه إلا فَهِمٌ ومَنْ شاركنا في مأخذ الكلام في الفقه.
وتمام البيان فيه أنا إذا صححنا أن الرجوع إلى الإبل، انقلب هذا إلى الترتيب الذي ذكرنا في فقدان الإبل في أصل الدية، فالقول الأصح أنا نرجع إلى قيمتها بالغة ما بلغت. وفي المسألة قول في القديم أنا نوجب نصف عشر ألف دينار وهو خمسون ديناراً، وقد نجز مقصود الفصل منقحاً كما ينبغي.
فصل:
قال: "فإن كانت أمه مجوسية وأبوه نصرانيّاً... إلى آخره".
10852- قد ذكرنا التفصيل في الجنين المحكوم بإسلامه الحرّ، وذكرنا موجب الجنين الكافر، إذا تمحض الكفر فيه، بأن كان متولداً من نصرانيّ ونصرانية، أو يهودي ويهودية، والغرض لا يختلف، بأن كان متولداً من بين نصرانية ويهودي؛ فإن دية اليهودي كدية النصراني.
وهذا الفصل مقصودٌ فيما إذا كان متولداً من بين من يقل ضمانه ويكثر ضمانه كالمتولد من مجوسي ونصرانية، فإذا فرض الجنين كذلك، فأسقطته الجناية فالمذهب الظاهر أنا نعتبره بأكثر الأبوين ديةً، وأغلظهما في الضمان. وقال أبو الطيب بن سلمة: نعتبر بأخسّ الأبوين ضماناً، وحكى صاحب التقريب وجهاً آخر أنا نعتبره بدية الأب، فإن الانتساب إليه.
10853- وقد ذكر الأئمة في مسالك إتباع الوِلْدان جامعة نذكرها ونختتمها بتوجيه الاختلاف.
قالوا: من الأحكام ما يتبع المولود فيه الأبوين، أيَّ واحد منهما، وهو الإسلام، لأنه عالٍ مغلَّب يثبت من أي جهة أتى، ويلتحق بذلك أخذ الجزية في أصلهما، فإذا كان الشخص متولداً من بين من تؤخذ الجزية منه ومن لا تؤخذ الجزية منه، فالجزية مأخوذة من المتولد؛ تغليباً لحقن الدم.
ومن ذلك تحريم اللحم، فالمتولد من بين من تحرم ذبيحته ومن تحلّ محرّمٌ، لما صح من تغليب الحظر.
ويلتحق بهذا سقوط الزكاة فالمتولد من بين الظباء والأغنام لا زكاة فيه.
ومنه وجوب الجزاء في المتولد كما مضى في موضعه، ويلتحق به امتناع جزاء الصيد بالمتولد وامتناع التضحية وعدم استحقاق السهم من المغنم بسببه كالبغل فهذا قسم، وتجمع مسائله بما يثبت في الشرع تفصيله.
ومن الأقسام ما يتبع المولود فيه الأبَ، وهو النسب وكل ما يتلقى من النسب، وذكر الأئمة من ذلك قدرَ الجزية إذا كان الأب قد ألزم أكثر من دينار، فالغلام مطالب إذا بلغ بمثله، وسيأتي ذلك في موضعه من الجزية، إن شاء الله عز وجل.
ومما يتصل بهذا القسم الكفاءة؛ فإن المرعيّ فيها نسب الأب.
ومن الأقسام ما يتبع المولود فيه الأم وهو الملك والحرية، وغير ذلك، قال الشافعي: ولد كل ذات رحم بمثابتها يكون ملكَ مالك الأم، لا حظ منه لمالك الفحل.
ومن الأقسام ما يراعى فيه الأغلظ، ويتصل بذلك سن اليأس من الحيض إذا فرعنا على أن الاعتبار نساء العشيرة، حتى لو كانت نساء العشيرة من قبل الأب ينقطع حيضتهن على رأس الستين، وينقطع حيض نساء العشيرة من قبل الأم على رأس السبعين، فيعتبر السبعين، ولو كان الأمر على العكس، فالمعتبر الأغلظ، كما ذكرنا.
والسبب فيه أنا نعتبر أقصى امرأة في العشيرة، وهذا يجمع الجانبين، فمنه انتظم تصوير الأغلظ، وفي مهر المثل نعتبر نساء العصبات، وقد مضى في ذلك باب مفرد.
وفي مناكحة المتولد بين من يحل مناكحة جنسه وبين من لا يحل مناكحة جنسه قولان، وكذلك القولان في استحلال ذبيحة أحدهما أنا نعتبر أغلظ الجانبين، فتحرم المناكحة والذبيحة.
والقول الثاني- أنا نعتبر في الحُكْمين المذكورين جانبَ الأب فقط، وقد قدمنا القولين بما فيهما من توجيه وتفريع في كتاب النكاح.
أما القول في توجيه الاختلاف الذي ذكرناه في بدل الجنين المتولد بين من تخف ديته وبين من تغلظ ديته، فمن قال بظاهر المذهب، وهو أن الاعتبار بأغلظ الجانبين أو أكثرهما دية، احتج بأن الغرض الأظهر من إيجاب هذه الأعواض الزجر عن الإقدام على الإتلاف. وهذا المعنى إذا كان متضمناً حقنَ الدم، والمنعَ من الإهلاك، فيليق به التغليظ.
ومن قال بمذهب أبي الطيب، احتج بأن الأصل براءة الذمة، والوجه ألا نوجب إلا الأخف والأقل.
ومن قال نعتبر جانب الأب قال: إذا تعارض اعتبار براءة الذمة والاحتياط لحقن الدم وجب بعد تعارضهما النظر إلى من نسب المولود إليه وإنما ينسب إلى الأب.
فهذا مجموع القول في هذا الفصل.
فصل:
قال: "ولو جنى على أمةٍ حامل... إلى آخره".
10854- مقصود هذا الفصل أن الاعتبار بيوم الإلقاء إذا فرضت تغايير، وكان الجنين حرّاً في أصله، وكان حرّاً يوم الإلقاء.
وبيان ذلك أن من جنى على ذمية، وهي حامل بولدٍ كافر، فأسلمت، ثم ألقت الجنين بسبب الجناية، فنوجب فيه غرة تامة باعتبار يوم الإلقاء، وهذا قياس مطرد، وهو اعتبار المآل في استقرار الأقدار في الأروش، وقد مهدنا هذا الأصل في كتاب الجراح.
ولو جنى على أمةٍ وكانت حاملاً بولد حربي، فأسلمت، ثم ألقت جنينها، وقد جرى الحكم بإسلامه، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بأن الضمان لا يجب، وهو طريق أبي علي، ومنهم من ذكر وجهين في وجوب الضمان في الجنين: أصحهما- أن الضمان لا يجب، والثاني: أن الضمان يجب.
وتحقيق القول في ذلك يستدعي رمزاً إلى تجديد الذكر بأصولٍ قدمناها في أول الجراح، فنقول: ما يجب القطع به من أن من جرح حربياً وأسلم ومات، فلا ضمان على الجارح لمصادفة الجرح المجروحَ في حالة كونه هدراً إذا فرض النزاع في موجب الغرة، فإن سلم الجناية، وسلّم الإجهاضَ، ولكن قال: لم يسقط بسبب الجناية، فإن اتصل الإجهاض بالجناية، قُطع بصدقها. والقول في ذلك كالقول فيه والمجني عليه إنسان اتصل موته بالجناية، وكانت تلك الجناية مما يفرض الموت بها، فالقول قول ولي المجني عليه أنه مات بالجناية، وإن لم يتصل الإلقاء بالجناية، نظر: فإن كانت المرأةُ المجنيُّ عليها زوجةً صاحبةَ فراش وظلت متألمة حتى ألقته، فالقول قولها، وعليها اليمين.
وإن لم تكن صاحبةَ فراش وتخللت المدة، وكانت سليمة في تلك المدة، فالقول قول الجاني.
والصور كثيرة، ولست أرى في تكثيرها فائدة؛ فإنّ فَرْض الاختلاف في سقوط الجنين وإضافته إلى الجناية، كفرض الاختلاف بين الجاني وبين المجني عليه، إذا فرض الاختلاف في أنه مات بالجناية أو مات بسبب آخر، وقد مهدنا تلك الصور على أكمل وجه في البيان.
ولم أر بين فرض النزاع في إلقاء الجنين وبين فرض النزاع في أداء السراية إلى موت المجني عليه فرقاً، ولو أردت البيان التام، لأعدت تلك الصور، ولا سبيل إلى إعادتها، فأنا ذاكرٌ هاهنا ما أراه مختصاً بهذا الأصل.
10855- فلو جنى عليها، فألقت جنيناً على الاتصال، فقد ذكرنا أن الإلقاء مضاف إلى الجناية، وإن فرض نزاع، فالقول قول المرأة، ولو قالت القوابل: ألقت الجنين إذْ كان حان وقت الولادة، وقد اتصل الانفصال بالجناية، فلا أثر لقول القوابل إذا قلن: إنما انفصل الولد لأنه كان قد حان وقت الولادة، لأن هذا أمر لا يطلع عليه القوابل؛ من قِبل أن الولد قد ينفصل عند انقضاء أمده وقد-لسبب- يتأخر انفصاله، ثم يتفاوت الأمر في هذا تفاوتاً عَظيماً، فسقط قولهن، ووجب الرجوع إلى اتصال الانفصال بالجناية، كما قدمنا ذكره.
ولو سلم الجاني أنها ألقت الجنين بسبب الجناية، ولكنه ادّعى أنها ألقته ميتاً، وقالت المرأة: بل ألقيته حياً عليه أثر الجناية، ثم مات، فالقول في هذه الصورة قول الجاني؛ فإن الأصل عدم الحياة وبراءة الذمة.
ولو سلم لها أنها ألقته حياً بجنايته، وادعى أنه مات بسبب آخر، فهذا مما يجب التأنّي فيه، فنقول: إذا ثبتت الجناية، واتفق اتصال موت المجني عليه بالجناية التي يُفضي مثلُها إلى الهلاك، فالموت مضاف إلى الجناية. ولو ادعى الجاني أن الموت حصل بسبب آخر، فعليه إثبات ذلك السبب، وهذا من الصور التي لم نذكرها، وأحلناها على تقريرنا لهذا الأصل على كتاب الحرابة.
ولو اعترف في مسألتنا بالجناية عليها، وأقر باتصال انفصال الولد، وحصل موت الولد بعد أن انفصل حيّاً متصلاً من غير تخلُّل مدةٍ، فتجب الدية كاملة.
10856- وإذا لم ينفصل الجنين، لم يختلف العلماء في أنه لا يجب بسبب الجنين شيء، فإنا لم نتحقق وجوده، والأصلُ براءة الذمة، وإنما نتحقق وجودَه بانفصاله.
فلو انفصل بعضه وبقي ناشباً- والمعنيّ بالانفصال الخروج لا الانقطاع-فقد تحققنا وجود الجنين، وظهر استناد الأمر إلى الجناية، فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا ضمان أصلاً، لأن الجنين لم ينفصل، وخروج بعضه لا حكم له، وقد نستيقن الحملَ واضطرابه في البطن، ثم إذا لم ينفصل لا نوجب شيئاًً، كذلك إذا ظهر بعضه وهذا نسبه بعض المعتمدين إلى القفال.
وذهب المحققون من الأصحاب إلى إيجاب الغرة؛ لأنا تحققنا تلف الجنين، مع استيقان وجوده، ولا أثر للانفصال إلا استيقان الوجود، وقد تحقق هذا في خروج البعض.
ولا خلاف أنا لا نحكم بانقضاء العدة؛ فإن انقضاء العدة مربوط بفراغ الرحم، وإنما يتحقق الفراغ إذا تم الانفصال.
وهذا الذي ذكرناه في انفصال بعض الجنين ميتاً. فلو ظهر بعضُه واستهلّ ثم مات وجمد، فمن يعتبر الانفصال لا يوجب في هذه الصورة شيئاً، والمسألة فيه إذا بقي ناشباً وماتت الأم، فإن الانفصال مشروط في أصل الضمان، فإذا لم يتحقق الانفصال، لم يجب شيء.
ولو استهل وطرف كما ظهر البعض، ثم جَمَد وانفصل ميتاً، فهذا يخرّج على الخلاف الذي قدمناه: فمن اعتبر الانفصال، قال: لا حكم لذلك الاستهلال الذي جرى، ومن اعتبر التيقن يقول: قد تيقنا الحياة، فتجب الدية الكاملة إذا كان الموت بعد الظهور والاستهلال، ولو سمعنا صراخ الجنين في البطن، فلا حكم له وفاقاً.
ومما يتصل بهذه الجملة أنه إذا ظهر بعضُ الولد-وكان يستهلّ- فجاء إنسان فاحتز رقبته، فإن قلنا: الاعتبار بحصول الانفصال، فلا نوجب على الذي قتل القصاص والدية الكامل. وإن بنينا على التيقن، أوجبنا القصاص عليه، إذا كانت الحياة مستقرّة.
ومن الصور المرتبة على ما قدمنا أنه إذا قدّ امرأةً حاملاً بنصفين، ومر السيف على الجنين وقدّه في الرحم، وبدا ذلك لنا، ولم ينفصل، فمن اعتبر الانفصال، لم يوجب بسببه الغرة، ومن اعتبر الاستيقان أوجب فهذه المسائل كلها مدارة على طلب اليقين في طريقة واشتراط الانفصال في طريقة.
فصل:
قال: "ولو خرج حياً لأقل من ستة أشهر... إلى آخره".
10857- إذا جنى على امرأة حامل، وانفصل الجنين حيّاً وعليه أثر الجناية، ومات، فتجب الدية الكامل على الجاني، ولا فرق بين أن يكون انفصاله لزمن يعيش الولد إذا انفصل في مثله كالستة الأشهر، فأكثر، وبين أن يكون انفصاله لزمنٍ يقول القوابل: لا يعيش الولد بمثله.
واعترض المزني وقال: "هذا عندي سقَطَ من الكاتب"، والوجه ألا نوجب إلا غرة؛ فإن هذه الحياة فانية لا حكم لها، والجاني يلتزم الغرة لمنع الحياة المستقرة.
وقد أجمع أصحابنا على مخالفته؛ فإن الحياة إذا ثبتت فالنظر إلى أنها تبقى لهذا الزمن أم لا تبقى- كلامٌ عريّ عن مأخذ الفقه، لا مستند له من تحقيق، وفي لفظ السواد تردد، ونحن نذكره على وجهه، ونذكر القدر الذي يقع الاستقلال في شأنه.
قال الشافعي: "لو خرج حيّاً لأقلّ من ستة أشهر وكان في حال لم يتم لمثله حياةٌ قط، ففيه الدية تامة" أما الكلام الذي ذكره، فمصرح بوجوب الدية، وإن قيل: لا يتم للجنين في مثل تلك المدة حياة. وقولُه بعده: "وإن كان في حال يتم فيه لأحد من الأجنة حياة، ففيه الدية" فوافق الكلامَ الأول. وحاصل الكلامين أن الدية تجب سواء انفصل لمدة تتمّ في مثلها الحياة، أو انفصل في مدة لا يتم في مثلها الحياة، فوقع الكلامان من غير رابط، مصرّحَيْن بالتسوية ولا مِرْية فيه، فإنه رضي الله عنه ذكر القسمين، وحكم فيهما بحكم واحد، فاقتضى ذلك التسوية.
واستدل المزني بمفهوم الكلام الأخير، وقال: لما قال: "إن كان في حال يتم فيه لأحدٍ من الأجنّة حياة، ففيه الدية" فمفهومه أنه إذا كان لا يتم في مثله الحياة لا تجب الدية.
ولا معنى لهذا التَّطريق، وصَدْرُ الكلام صريح في إيجاب الدية، وإن كانت الحياة لا تتم، فما الذي يُطرِّقُ إلى الكلامين خروجهما عن صيغة التسوية مع اشتمالهما على مقصود التسوية؟
10858- ثم استكمل أصحابنا الكلام في ذلك، فقالوا: إذا جنى جانٍ، فأسقطت المرأة جنيناً حيّاً عليه أثر الجناية، ثم مات، وظهر انتساب موته إلى الجناية، وجب دية كاملة على عاقلة الجاني.
ولو كانت المسألة بحالها، فانفصل الجنين حيّاً، فابتدره إنسان وقتله، نُظر: فإن كانت الحياة مستقرة، وجب على القاتل القصاص، أو الدية الكاملة؛ فإن الذي صدر منه عمدٌ محضٌ.
وإن انفصل وهو في حركة المذبوح، وعليه أثر الجناية، فابتدره إنسان وحزّ رقبتَه، فلا شيء على هذا الثاني، والدية بكمالها على عاقلة الجاني الأول، والذي هو في حركة المذبوح في حكم الميت، وقد قدمنا استقصاء هذا في كتاب الجراح.
ولو كان في الجنين المنفصل حياة مستقرة، وأوجبنا القصاص على من قتله، فهل نوجب على الجاني حكومة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يجب عليه الحكومة، كما لو جرح إنساناً جرحَ حكومة، فجاء آخر، فاحتز رقبته، فعلى الجارح حكومة.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني شيء، فإنه لم يتحقق من جنايته على الجنين أثر للجناية. قلنا: نعم، ولكن لا مطلع على اتصال الجناية به، ولا أثر يوجد عليه، ويمكن تقديره من جهة الخلقة أو بسبب آخر، غير أنا إذا لم نجد من نحيل عليه، فلا سبيل إلى التعطيل.
10859- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن الجنين لو انفصل حياً، ولم تفرض جناية من جانٍ، فلو ابتدره إنسان وحز رقبته، فإن كانت فيه حياة مستقرة، فلا شك في وجوب القصاص على القاتل.
وإن كان في مثل حركة المذبوح، فاحتز إنسان رقبته، ولم تتقدم جناية، فيجب القصاص أيضاًً، وهو بمثابة ما لو حز رقبة إنسان مشرفٍ على الموت واقعٍ في السكرات وقد تقدم ذلك كله.
والغرض الذي يجب التنبه له في هذا المقدار أن خروجه لدى الولادة وما يلقَى من عُسر في الانفلات والانفصال، والحملُ كجناية متقدمة مفضية إلى الهلاك.
10860- ولو جنى على حربية حاملٍ، ثم أسلمت، وألقت بجنينٍ بلا حراك، فإن الذي عليه مجرى الظنون أنه مباح الدم، وقد ذكرنا في ذلك خلافاً بعيداً، حيث ذكرنا هذه المسائل أوائلَ الجراح، فالتفريع الآن على أن الضمان لا يجب على الجارح.
فلو رمى إلى حربي، فأسلم الحربي، وأصابه السهمُ مسلماً، ففي وجوب الضمن وجهان- على قولنا: لو جَرحَ الحربيَّ ثم أسلم، ومات لا يضمنه، وسبب الاختلاف أن الرَّمْي إنما يصير جناية عند مصادفة السهم المجني عليه، ولقد كان مسلماً إذ ذاك، وليس كذلك إذا وقع الجرح بالحربي، ثم فرض الإسلام من بعدُ.
وإذا تبين ما ذكرناه في الرّمْي والجرح، عدنا إلى جرح الحربية الحامل وإفضاء الجرح إلى الإجهاض بعد إسلام الحامل، وجريان الحكم للجنين بالإسلام تبعاً، فمن أصحابنا من أهدر الجنين، فإن الجراحة وقعت بالحربية وهي مهدرة، فصار كسريان الجراحة الواقعة بالحربي إلى روحه، فالسريان إلى الجنين كالسريان إلى روح المجروح.
ومن أصحابنا من جعل الجناية المتصلة بالأم في حق الجنين بمثابة الرمي، وقد ذكرنا في الرمي إذا جرى في حالة الإهدار وحدوث الإصابة في حالة الضمان وجهين، فرجع حاصل الكلام إلى تردد الأصحاب في إلحاق هذه المسألة في حق الجنين بالجراحة أو بالرمي، كما قدمنا، والأصحُّ انتفاء الضمان.
ولو جرح مرتدة حاملاً، فإن كان ولدها مسلماً، فألقته بالجناية، وجب الضمان إذا كان مسلماً حالة الجناية.
10861- وإن كانت علقت بولدها من مرتد، ففي ولد المرتدة من مرتد قولان:
أحدهما: أنه مسلم، فإنه جرت الجناية والجنين مسلم، فيجب الضمان، ولا حاجة إلى تصور إسلام المرتدة قبل الإجهاض، فإن قلنا: ولد المرتدة من المرتد مرتد، فإذا ضُربت حتى أَجْهَضَت جنينها، فلا ضمان، فإن أسلمت ويثبت الإسلام للولد تبعاً، كانت كالحربية الحامل إذا اتصلت الجناية بها وأسلمت، ثم ألقت، وقد مضى تردد الأصحاب فيها.
فصل:
"ويغرَمها من يغرَم ديةَ الخطأ... إلى آخره".
10863- والمراد أن بدل الجنين مضروب على العاقلة أبداً، فإنه ترتب وجوبه على خطأ أو شبه عمد، ولا يتصور اعتماد الجنين بالجناية عليه، فإن قيل: لم لا يتصور ذلك؟ قلنا: لأن حياة الجنين غير معلومة في الأصل، بل وجوده غير معلوم، ثم ليس مباشراً بالجناية، فاتفق العلماء على أن العمد المحض لا يتصور فيه.
ثم إن كان الواجب غرة، فهي مضروبة على العاقلة، وقد تقدم أنها مضروبة عليهم في سنة أو سنتين، والذي جدده الشافعي في هذا الفصل أن قال: إذا كانت أعداد العاقلة وافية بالتزام الغرة، فالإمام يضرب عليهم الغرة.
فلو قالوا: نبذل قيمتها، أفهل يقبلها، مستحقها، قيل: لابد من تحصيل
الغرة، ثم الإمام بالخيار: إن أحب أن يلزمهم أن يحصّلوها بالحساب المعلوم
بالتوظيف عليهم، وكل واحد يبذل حصته، ثم يسعَوْن أفي ابتياع، الغرة، فإنه إنما
يضرب على العاقلة ما وجب بالجناية، وكذلك نقول أفيما وجب، إذا ضربنا الدية
عليهم، فيتقسط عليهم قيمة الإبل، ثم عليهم أن يجمعوها ويحصّلوا بها الإبل. فإن أراد الإمام أن يتولى شراء الغرة، فهذا من جهات إعانته، والأصل أنهم مطالبون بالغرة، إذا وفت أعدادهم، ولو قال الإمام: إليَّ بالدنانير وأنا أشتري بها الغرة، فلهم أن يقولوا: الإبل نحن نشتريها، وهذا بعينه يجري في الإبل.
ولو كانت أعدادهم لا تفي إلا بنصف الغرة، فالواجب عليهم نصف قيمة الغرة، لا قيمة نصف الغرة، بين العبارتين بون عظيم، فإنا لو أوجبنا عليهم نصف قيمة الغرة، وقد يؤخذ نصف العبدبما يقل عن نصف قيمته، فيكون هذا عيباً وتنقصاً، وإذا أوجبنا نصف قيمة الغرة، فمعناه أن نعرف قيمة غرة مجزئة، كما تقدم وصفها، ثم نضرب نصف ذلك المبلغ على العاقلة، ثم إذا كان في بيت المال مال، فيُكَمَّل من بيت المال، ونحصّل غرّة مما ضربناه على العاقلة، ومما ضربناه على بيت المال.
فصل:
قال: "وإن أقامت البينة أنها لم تزل ضمنة من الضرب... إلى آخره".
10863- إذا جنى على حاملٍ، فأتت بولد ألقته مجهضاً، وقالت: هذا الولد ألقيته بجنايتك، فقال المدَّعى عليه: استعرتيه، أو لقطتيه، فالقول قوله مع يمينه، وعليها البينة؛ لأن الأصل براءة الذمة.
ولو سلم لها أنه ولدها، ولكن أنكر الجناية عليها، فالقول قوله، وعليها البينة؛ فإن الأصل براءة الذمة وعدم الجناية، فإن سلم لها الإلقاء، وسلم الجناية، وادعى أنها ألقته بسبب آخر، فإن ألقته عقيب الجناية، فالقول قولها؛ إذ الظاهر معها، ولابد من يمينها؛ إذ لا يقبل القول بغير يمين، وإذا ألقته بعد مضي مدة من وقت الجناية، فهو المصدق باليمين؛ لأن الظاهر معه، إلا أن تقيم بينة أنها لم تزل ضَمِنة متألمة من الجناية حتى أسقطت، ولا تقبل هذه الشهادة إلا من رجلين.
فإن سلّم أنه ولدُها، وأنه جنى عليها، وأنها ألقته بسبب جنايته، ولكن اختلفا: فادعت أنه مات بعد أن انفصل حياً حياة مستقرة؛ فتجب الدية كاملة، وادعى هو أنه انفصل ميتاً، فتجب الغرة، فالأصل عدم الحياة، ولها إقامة البينة، ويكتفى بأربع نسوة إذا ادعت الموت على القرب، لأن اطلاع الرجال عليه عسير.
ونقل الربيع قولاً آخر أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين، أما إذا اعترف بدوام الحياة إلى وقتٍ لا يعسر اطلاع الرجال عليه؛ فلا تقبل شهادة النسوة ذلك أن خروج الولد وانسلاله في السبيل الذي يسّره الله له، بمثابة تردّدات الأحياء في مداخلهم ومخارجهم، فهذا ما ينبني الأمر عليه.
فصل:
قال: "ولو ضربها، فألقت يداً... إلى آخره".
10864- إذا جنى على حامل، فألقت يداً أو عضواً آخر وماتت، وجبت الغرة على الجاني في محل الغرة، وهذا من معاقد المذهب، لم يختلف الأصحاب في وجوب الغرة بكمالها، وإن لم ينفصل جنينٌ تام؛ فإنا استيقنّا كون الجنين، إذ اليد الواحدة لا تخلق، ثم انضم إلى الاستيقان ما هو انفصال، وليس كما لو ظهر من الجنين شيء، ولم ينقطع ولم ينفصل فإنا ذكرنا اختلاف الطرق فيه، والأصح في القياس إيجاب الغرة، ثم أيضاًً لما ذكرناه من الاستيقان.
ولا تنفصل الصورة التي ذكرناها عن التي تقدمت إلا بتحقق الانفصال في هذه الصورة، وهذا ليس فرقاً قويّاً؛ فإن الانفصال لم يتحقق في الجنين بجملته، وإنما تحقق في عضو من أعضائه، ولو كنا نوجب قسطاً من غرة، لظهر الفرق، فأما وقد أوجبنا بسبب انفصال إصبع غرة تامة، فلا وجه لذلك إلا التعويل على الاستيقان، وهذا يوجب التسوية بين أن يظهر عضوٌ ولا ينقطع، وبين أن ينقطع وينفصل.
ولو ألقت المرأة يدين أو أربعة أيدي أو أكثر، فلا نوجب إلا غرة، لأنا لا نبعد أن يكون للجنين أربعة أيدي، وكذلك لو ألقت رأسين، فلا نوجب إلا غرة، وقيل: كان ببغداد امرأة لها رأسان، فنكحها الشافعي بمائة دينار، وأنسأ صداقها، ونظر إليها، وطلقها. ولو ألقت بدنين، فغرتان، فإنه لا يبقى للاحتمال وجه، ولا طريق إلا الحكم بتعداد الجنين.
ولو ألقت يداً ثم ألقت الجنين، لم يخل إما أن يكون حيّاً أو ميتاً، فإن كان ميتاً، فالواجب غرة واحدة، سواء كان على الجنين أثر انقطاع اليد عنه أو لم يكن عليه؛ إذ قد يفرض الاتصال به ثم الالتحام وانمحاء الأثر في البطن.
10865- ولو انفصل حياً تامّ الخلقة واستمرت الحياة، فيجب في اليد المنفصلة حكومة، ويحمل الأمر على تقدير يد زائدة.
ولو انفصل حياً، وليست عليه إلا يد واحدة، فنوجب على الجاني نصفَ الدية، يعني على عاقلته.
ولو ألقت يداً، ثم ألقت جنيناً بفرد يد، ومات من أثر الجناية، فيجب دية كاملة، ويندرج أرش اليد تحته.
ولو ألقت يداً، ثم انفصل الجنين بعده حياً بفرد يد، فقد قال صاحب التقريب: نرجع إلى القوابل فإن قلن: لا تتصوّر اليد إلا بعد الحياة، فنوجب على عاقلة الجاني نصف الدية، وإن قلن: يخلق الله اليد، ثم تنسلك فيها الروح، أو شككن في ذلك، فنوجب حينئذ في اليد نصف غرة، وهذا التفصيل لصاحب التقريب، والذي عليه الجمهور أنه لا معنى لمراجعة القوابل، ولا مطلع على حقيقة هذا، وإنما نربط حكمنا بجنين حيٍّ أسقطت الجناية يده، فيجب نصف الدية.
باب جنين الأمة
10866- هذا الباب مقصود في نفسه، ونمهد به قاعدةَ القول في الأجنة، فنقول أولاً: إذا جنى على أمةٍ حامل بجنين رقيق، فالواجب في الجنين عُشر قيمة الأم عند الشافعي رضي الله عنه، ولا فرق بين أن يكون ذكراً أو أنثى إذا انفصل ميتاً. وإن انفصل حياً ومات من أثر الجناية، اعتبرت قيمته يوم الانفصال.
ثم أطلق الأصحاب القولَ في أن الواجب في الجنين الرقيق المنفصل ميتاً مأخوذٌ مما يجب في الجنين الحرّ، فإنا إذا رجعنا إلى الإبل، فإنا نوجب خمساً من الإبل، وهي عُشر دية الأم الحرة المسلمة.
وقال قائلون: الجنين في حكم الجزء من الأم، وقد ذكرت في الأساليب وغيرها من المجموعات المشتملة على التشوّف إلى الحقائق: أن الجنين الرقيق ليس جزءاً من الأم الحرة، ولكن المقدار الذي وجب بالشرع فيه مثلُ عشر قيمة الأم، أو مثل عشر دية الأم، فكيف يستدّ اعتقاد الجزئية مع القطع بأن ما يجب في الجنين الحر ليس مصروفاً إلى الأم، كما نصرف إليها أرش أطرافها. ولكن الواجب موروث مقسوم على الورثة، وقد ذكرنا ميراث الأجنة، ومن يتصور أن يرثهم في كتاب الفرائض.
فخرج مما ذكرناه أن الواجب في الجنين لو انفصل حياً ومات على الفور، فقد تكون قيمته ديناراً، وإذا انفصل ميتاً، فقد أوجبنا مثل عشر قيمة الأم، فقد تبلغ خمسين ديناراً، فيؤدي مجموع ما ذكرناه أن يكون الواجب في الجنين المنفصل ميتاً أكثر من الواجب في الجنين المنفصل حياً، وسبب ذلك أنا لم نتمكن من اعتبار الجنين في نفسه إذا انفصل ميتاً، ولم يرد في الجنين الرقيق نصٌّ نتبعه، ووجدنا تقدير الحياة عسراً، فكان أقربُ معتبر أن ننظر في الجنين الحر، وإلى بدله المنسوب إلى دية الأم، فأفضى التقدير إلى ما ذكرناه.
وإنما كان يبعد تفضيل الميت على الحي لو كنا نعتبر الميت بنفسه، ومن هذا ظن ظانون أن الواجب في الجنين الرقيق عُشر قيمة الأم، على التحقيق. وهذا محال؛ فإنه إنما يجب جزء من بدل الأصل فيما هو جزء من الأصل، ويستحيل أن نعتقد أن الجنين مقدر على هذا التقدير، لما أشرنا إليه من أن الأمر لو كان كذلك، لاختصت الحرة الحامل بغرة جنينها اختصاصها بأروش أطرافها لو قطعت.
10867- ومما يتعلق بتحقيق أصل الباب أن الجنين لو كان حراً والأم رقيقة، فالواجب في الجنين غرة، كما لو كانت الأم حرة، فإن قيل: كيف التقدير والتعلق به، وقد ذكرتم أن بدل الجنين معتبر ببدل الأم تقديراً وإن لم يكن جزءاً منها تحقيقاًَ؟ قلنا: قد أبان الشرع بدل الجنين الحر المسلم، فاعتبرنا بيان النسبة التي ذكرناها، فجعلنا بدل الجنين المملوك من الأم الرقيقة كبدل الجنين الحر من الأم الحرة.
وتكلّف الأصحاب في هذا المقام أمراً أغناهم الله عنه، فقالوا: إذا خالف الجنين الأمَّ بالحرية، لم يمكننا أن نوجب فيه جزءاً من القيمة؛ فنقدّر الأم حرّة حتى تكون مساويةً للجنين في الحرية، ثم نوجب ما ذكرناه من عُشر الدية.
وهذا لا حاجة إليه؛ فإن ما وجدنا نصاً فيه، وجب الاكتفاء به، واعتبارُ غير المنصوص بالمنصوص، فالأصل ما قدمناه من اتباع النص، وإذا كان الواجب غرةً، فلتكن دية الأم غرراً إذا كانت حرة، فليس الانتساب بالجزئية أصل الباب. وفي هذا القدر مقنع.
ولو كانت الأم نصرانية، والجنين مسلماً بإسلام الأب، فنوجب في الجنين الحر المحكوم بإسلامه غرة للنص، ومن اعتبر تقدير المساواة يزعم أنا نقدّر الأم مسلمة-كما قدمناه في تقدير الأم الرقيقة حرة- وهذا من باب تلقِّي الأصول عن المفرَّع عليه. والمنهجُ الحق تأصيل النصوص وإلحاق المسكوت عنه بها، كما قدمناه.
10868- ولو كان الجنين المنفصل كامل الخلقة، وكانت الأم زمنة، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: نقدر الأم كاملةً، ونقوّمها، ثم ننسب بدل الجنين إليها بجزئية العُشر، كما فصلنا ذلك في الحرّيّة والإسلام.
ومن أصحابنا من قال: لا نقدر سلامة الأم، بل نقوّمها على ما هي عليه، ونوجب في الجنين عُشرَ قيمتها.
وهذه المسألة والتي بعدها بهما غموض، فليتدبر الناظر مأخذ الكلام فيهما؛ وذلك أنا وجدنا في الجنين الحر نصاً متبعاً، فلم نتخذ التقدير أصلاً معتبراً، وإذا كان الكلام في الجنين الرقيق، فنضطر إلى التصرف في النسبة المأخوذة من القيمة، هذا وجه من الغموض.
والوجه الآخر- أن سلامة خلقة الجنين لا معوّل عليها إذا انفصل ميتاً؛ فإن خلقة الجنين لا تعويل عليها، ما لم نتحقق اتصال الروح بها، وإنما تتعلق سلامة الأعضاء بكمال منافعها لا بصورها، ولو انسلكت الروح ربما كانت لا تنفذ في عضوٍ أو أعضاء، فتَسْلم صورُ الأعضاء وتنفكّ عن اللطائف والمقاصد، ولا مطّلع عليها، فلا تعويل على خلقة الجنين.
وإذا أحاط المحيط بما ذكرناه أجرينا بعده خلاف الأصحاب، فمن راعى سلامة الأم، تمسك بما قدمناه في الحرة، وعضَّده بأن الجنين ليس جزءاً منها، بل هو معتبر بها، وإنما يصح اعتباره بها، إذا كانت الأم مساوية للجنين.
والأصح عندنا ما قدمناه من أن خلقة الجنين لا تعتبر، وإذا كان في الرق والدين بمثابة الأم، فلا نظر إلى الخلقة، وليس كذلك الحرية والإسلام؛ فإنهما حكمان ثابتان، وقد يعارض هذا أن الإسلام إنما يتصف به ذو روح ثم يرفع حكمه بعد الموت، والحريةُ كذلك، فإذا لم نتحقق انسلاك الروح، لم يثبت حريةٌ ولا إسلام.
وهذا غير سديد، فإنا إذا كنا نثبت الإسلام لمن نعرف قطعاً أنه لا يعرف، فلا يبقى بعد هذا للروح أثر، والحرية عدم الرق، فهذا منتهى الكلام في صورة واحدة.
10869- الصورة الثانية مفروضة فيه إذا كان الجنين زمناً. والأم سليمة الأطراف، وقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة على نحو ما ذكرناه، وقد ذهب بعضهم إلى أنا نوجب عُشر قيمة الأم، ولا اعتبار بزمانة الجنين، وهذا هو الوجه عندنا.
وذهب آخرون إلى أنا نقدر الأم زمنة بمثل زمانة الجنين، ثم نقوّمها على هذا التقدير، ونوجب في الجنين عُشر القيمة والأم زمِنة رعايةً للتسوية.
وفي هذه الصورة مزيد إشكال؛ من قِبل أن ما يفرض من نقصان في الجنين يمكن إحالته على الجناية، وإذا كان ذلك ممكناً، فلا يصفو الكلام في تصوير زمانة الجنين، فإن أمكن التصوير، فالوجه مع ذلك ألا نعتبر خِلْقة الجنين لما مهدنا.
فإن جرينا على ترك اعتبار خلقة الجنين، فلو انفصل من الأم عضو فماذا نوجب، ونحن لا نُبعد أن يكون الجنين المجني عليه في البطن على زمانة ونقصان خِلقة؟ ولئن كان هذا السؤال لا ينقدح في الجنين الحر-فإن أبدال الأحرار لا تختلف بالزمانة والسلامة- فهو منقدح في الجنين الرقيق.
والذي أراه أن الأمَة إذا أسقطت بسبب الجناية، استحقت القطع والإعراض عن تقدير خلقة الجنين في هذه الصورة، فلو أُلزمنا ذلك، وقلنا: لا نوجب إلا الأقل، ولا نسفل درجة من غيرثبت، فأين الموقف؟ وإلى أي حد يصور نقص الجنين؟
وهذا لو خضنا فيه، أفضى إلى ألا نجد مبلغً في واجب الجنين، وقد أسقطت الأم يداً، فلا وجه إلا تقويم الأم، وإيجابُ عُشر قيمتها، ثم كما لا نعتبر الصفة من السلامة إلى نقيضها، والأم سليمة، فكذلك لا نعتبر في هذه الصورة سلامة الأم، والأم زمنة، بل نترك هذه التقديرات، ونقوّم الأم على ما نصادفها عليه.
ولا يتجه إلا هذا، والملقى عضو.
10870- ومما يتعلق بتمام البيان في فقه الباب أنا إذا اعتبرنا قيمة الأم، أوجبنا في الجنين الرقيق عشرها، فظاهر النص " أنا نعتبر قيمة الأم يوم الجناية " وقال المزني: "يوم تُلقيه"، وقد وافق المزني طائفةٌ من الأصحاب، منهم الإصطخري، واحتج المزني في توجيه ما اختاره، بأن الاعتبار بيوم الإلقاء في مقدار القيمة أيضاًً.
ومن نصر ما عليه الجمهور-وهو ظاهر النص- احتج بأن قال: من جنى على عبد قيمته بالسوق يوم الجناية مائة، فمات من تلك الجناية، وقد تراجعت قيم العبيد، ولو فرضناه سليماً يوم الموت، لكان لا يساوي إلا خمسين، فالواجب على الجاني مائة، وسبب ذلك أنا نغرِّم الغاصب أقصى قيمةً من يوم الغصب إلى يوم التلف، لمكان يده العادية، واتصال الجناية في هذا المعنى أقوى من اتصال اليد، فإن اليد ليست سبب الهلاك، والجناية سبب الهلاك.
وإذا ثبت ذلك في العبد، فليكن حكمُ الجنين المنسوب إلى الأم مُجرىً على هذا القياس. وهذا القائل يفصل بين ما يفرض من التفاوت في القيمة وبين ما يطرى من الجناية أو الإسلام على الجنين، ويقول: إذا عَتَق الجنين، فقد كمُل بنفسه واختص بصفة لا توصف الأم بها، فنقطع حقيقة التبعية، ويجب اعتبار الحرية يوم الإلقاء، وهذا لا يتحقق في الجنين المملوك.
وما أطلقه الأصحاب في هذه المسألة لا يغني ولا يَشفي الغليل، ونحن نوضح حقيقة المسلكين، ونستعين بالله.
10871- أما من اعتبر يوم الجناية، فيعارضه سؤال، وفي الجواب عنه بيان حقيقة المسألة؛ وذلك أن قائلاً لو قال: إذا كنا نجعله بالجناية كصاحب العدوان باليد، فلا معنى لتخصيص يوم الجناية؛ فإنا لا نخصص في حق الغاصب يوم الجناية بالذكر والحكم، بل نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التلف، والجواب: أن الأمر كذلك في الجراحة، ولم يقصد الشافعي بذكر يوم الجناية قَطْعَ الاعتبار عما بعده، فلا نظن يتحقق إسقاط اعتبار قيمته يوم الوضع إذا كانت تلك القيمة أكثر من قيمة يوم الجناية، وغرض الشافعي بذكر يوم الجناية بيان ابتداء وقت الاعتبار، فمبتدؤه من وقت الجناية ومنتهاه يوم الإلقاء، والمعتبر أعلى قيمة من يوم الجناية إلى يوم الإلقاء.
هذا بيان هذا المذهب.
وأما ما ذكره المزني وتابعه عليه شرذمة من الأصحاب، فيترتب عليه أن الأم لو ماتت، ثم انفصل الجنين بعد الموت، فلا سبيل إلى اعتبار يوم الانفصال؛ فإن الأم لا قيمة لها، بتقدم يوم الموت، والأحرى أن نعتبر حياتها يوم الإلقاء، وننظر محل القيمة على هذا التقدير، والعلم عند الله تعالى.
وهذه المسألة تبين نهايتها بفروع لابن الحداد في أحكام الأجنة، ونحن نأتي بها على الاتصال، إن شاء الله تعالى.
فصل:
10872- إذا جنى جان على حامل بجنين حر، فظهر الجنين وبه حياة، فأبرزه إنسان وحز رقبته، واحتمل أنه صار بجناية الأول إلى حركة المذبوح، واحتمل أنه لم يصر بجنايته كذلك، والثاني صادفه في حياة مستقرة، فإذا احتمل الأمران كذلك، فننظر إلى الدعوى، فإن ادعى مستحق البدل أن الأول صيّره إلى حركة المذبوح، فهذ إبراء منه للثاني، وإن ادعى أن الأول خلّفه مستقراً، فقد أبرأ الأول إلا عن الحكومة، وفيها خلاف قدمناه.
وإذا أبرأ الثاني وادعى على الأول أنه صيّره إلى حركة المذبوح، فأنكر الأول، فالقول قول الجاني؛ فإن أصل الحياة متفق عليها عند الانفصال، وقد جرى من الجاني ما يمكن إحالة القتل عليه، فلا وجه إلا تحليف الجاني، فإن حلف برىء، وقد برىء الثاني، وإن نكل ردت اليمين على المدعي.
فإن أبرأ الأول وادعى على الثاني أنه جنى على المولود وفيه حياة مستقرة، وقد أبرأ الأول إلا عن الحكومة، وفيها خلاف ثَمَّ-فالقول قول هذا الثاني؛ فإن استقرار الحياة غير معلوم، وقد جرى من الأول ما يمكن إحالة القتل عليه.
هذا هو الأصل إن أجرينا الدعاوى على قياسها المطرد.
ولكن إذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فقد تردد قتيلٌ بين شخصين، والحالة حالة اللوث؛ فلمن يستحق البدل أن يُقسم على من يعيّن منهما، فإن اللوث قد تحقق منهما، وسنذكر في كتاب القسامة أن ظاهر اللوث إذا ثبت في حق جماعة في مجلس القاضي، فلا يشرط أن يثبت عند القاضي تعيين اللوث في المدعى عليه منهم.
فهذا مقر المسألة. ولولا اللوث وأصل القسامة، لكانت الدعوى تُفْصل على حسب ما قدمنا ذكره.
فصل:
10873- إذا كان بين زيد وعمرو جاريةٌ مشتركة، وهي حامل من الزنا أو النكاح، فجنيا عليها معاً، وأعتقاها بعد الجناية معاً، فألقت الجنين من الجناية، فقد قال ابن الحداد: يغرَم كل واحد منهما ربع غرةٍ للجنين، فإن جناية كل واحد صادفت ملكه وملك شريكه، فهَدَر جنايتُه في نصيبه، ويكون سبب الضمان جنايتُه في ملك صاحبه، وقد وقعت جناية زيد سابقةً على ملك نفسه وملك عمرو، كذلك وقعت جناية عمرو.
ثم إذا غرم زيدٌ ربعَ الغرة، وكذلك عمرو، فقد قال: يصرف الثلث مما تحصّل من الغرامة إلى الأم العتيقة؛ فإنها ترث الجنين، فتستحق مما غرمه السيدان الثلث ويصرف الباقي إلى عصبة الجنين، ولا يستحق واحد من السيدين شيئاً، فإنه إنما يغرم كل واحد منهما بجنايته على ملك صاحبه، ويستحيل أن يغرم الجناية على ملك الغير، ثم يرجع إليه منه شيء.
وتمام الجواب في المسألة أن يقال: قد غرم زيدٌ بسبب الجناية على ملك عمرو، فينبغي أن يقال: إن الذي غرمه زيد وهو ربع الغرة، فلعمرو منه الأقل من ربع عشر قيمة الأم أو ربع الغرة، وهذا أصح القولين في كيفية رعاية ما يستحقه السيد إذا صادفت الجناية رقاً ثم يعقب العتقُ، وليقع الاختصار على هذا القول، وكذلك القول فيما يغرمه عمرو لزيد، فلزيد منه الأقل كما قلناه، فإن لم يفضل شيء فلا شيء للأم، ولا لورثة الجنين، وإن فضل شيء مما ذكرناه، فالثلث من الباقي للأم والباقي لعصبة الجنين، وإن لم يكن له عصبة من الأقارب، فلا نصرف ما يورث من الغرة إلى المعتِقَيْن، فإنهما قاتلان، فلا يرث القاتل.
وهذا الذي طردناه سديد حسن، ولكنه تفريع على أن ما يصادف الجنينَ المملوك من جناية المالك، فهو هَدَرَ.
ولبعض الأصحاب مذهب أن المالك إذا جنى على مملوكه ثم أعتقه، ضمن السراية، وهذا الوجه يجوي لا محالة في الجنين المملوك.
فإذا قلنا: لا يهدر جناية المالك عليه، فإذا جنيا على الجارية المشتركة كما صورناه وأعتقاها، فألقت الجنين حراً ميتاً، فيغرم كل واحد منهما نصف الغرة، ثم لا استحقاق منهما على سبيل الإرث نسباً، ولكن يجب أن يقال: إن زيداً غرم نصف الغرة، ونصف ما غرمه في مقابلة ملك نفسه، وهو ربع الغرة، وهو لا يستحق منه شيئاً، لأنه ملزَم غارم، وكيف يستحق ما غرمه، ولا يستحق شريكه منه، فإنه على مقابلة جناية ملك نفسه، فيخلص ذلك للورثة، وهو ليس منهم، وأما الربع، الذي غرمه على مقابلة الجناية على ملك الثاني، فليغرم منه الأقل من ربع عشر قيمة الأم أو ربع الغرة، كما قدمنا ذكره، وهذا يجري في حق كل واحد منهما.
وهذا الوجه ضعيف، لا أصل له، والصحيح إهدار الجناية فيما يقابل ملك الجاني.
فصل:
10874- إذا مات رجل، وخلف زوجة وأخاً لأب وأم، وكانت الزوجة حاملاً بولد من الميت، وخلف عبداً، فلو ضرب العبد بطن الزوجة، وألقت الجنين ميتاً، فلا ميراث للجنين؛ فإنه انفصل ميتاً.
ثم تلخيص القول في هذه المسألة أن يقال: لو قدرنا الغرة واجبة على جانٍ، لكان ثلثها للأم، وهي زوجة الميت والباقي وهو ثلثان للعم وهو أخو الميت.
فإذا كان الجاني هو العبد، وهو مشترك بين مستحقي الغرة لو قدرناها واجبة، وليقع الفرض فيه إذا لم يكن مستحق غيرهما، فنقدر كان الغرة تعلقت برقبة العبد، فللأم ثلث الغرة، وللأخ ثلثاها، فأما الأم، فقد ملكت ربعَ العبد فسقط ربع الغرة؛ إذ لا تستحق على ملكها شيئاًً، ويبقى نصف سدس الغرة فاضلاً عن قدر ما ملكت من العبد.
وأما الأخ فقد استحق من العبد ثلاثة أرباعه، وكان يستحق على التقدير ثلثي الغرة، فما ملكه من العبد أكثر من قدر استحقاقه من الجنين، فيسقط استحقاقه ويبقى في رقبة العبد ما فضل للأم، من الغرة، وهو نصف سدس الغرة، فيفدي الأخ نصيبه من العبد على قياس الفداء وإنما انتظمت المسألة كذلك لاختلاف الحصتين من ميراثين، والازدحام على رقبة العبد.
ولو كان بين رجلين عبد مشترك، وهو بينهما نصفان، فقتل عبداً آخر بينهما، وهو نصفان أيضاًً، فلا طلبة لواحد منهما على الآخر.
ومثله لو كان العبد بينهما نصفين، فكان بينهما عبد آخر مشترك بينهما ثلثاه لزيد وثلُثه لعمرو، فقتل العبد المنصف بينهما هذا العبد. فيتفاوت الأمر باختلاف حصص الشركة في العبدين، فلنقِسِ المثال، ولننظر ولا خفاء.
وقد نجزت مسائل الأجنة. وذكر ابن الحداد فروعاً أخرناها إلى كتاب الديات، ونحن نأتي بها مبينة، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
نقدّم على المسألة التي حكاها ابن الحداد نصاً للشافعي عن مسألةٍ، قال رضي الله عنهء: "لو قصد رجل مال رجل أو نفسَه فدفعه بضربةٍ، فولّى القاصد هارباً، فاتبعه المقصود، وجرحه وهو مولٍّ جراحة أخرى، فرجع عليه القاصد مرة أخرى، فضربه على حدِّ الدفع ضربةً ثالثة، ومات القاصد من الجراحات الثلاث" قال الشافعي: يغرم الدافع ثلث الدية، ويهدر ثلثاها؛ فإنه وجدت منه ثلاث ضربات: اثنتان منها هدر، وقد توسطتهما جراحة مضمونة.
قال الأصحاب: هذا الذي ذكره الشافعي إذا توسطت ضربة مضمّنة بين ضربتين، فأما إذا جرح الدافعُ القاصدُ جرحين متواليين على حد الدفع، ثم ولى فضربه ضربة ثالثة، فالدية على تنصيف، والجرحان المتواليان كالجرح الواحد، فهدر نصف الدية ويجب نصفها. هذا ما حكاه الشيخ أبو علي عن الأصحاب.
ثم قال الأئمة على قياس النص لو جرح مرتداً جراحة، ثم أسلم المجروح، فجرحه ذلك الجارح في إسلامه جراحة، ثم ارتد، فجرحه في الردة جراحة أخرى، ثم أسلم فمات من الجراحات الثلاث فينبغي أن يُلزَمَ ثلث الدية ويُهدر ثلثاها.
ولو جرح مرتداً جرحين في دوام الردة ثم أسلم، فجرحه جراحة أخرى ومات من الجراحات، فهدَرَ نصف الدية، ويجب نصفها، وهذا عن قياس قول الشافعي في مسألة الدفع.
10875- ثم ابن الحداد ذكر مسائل، ونحن نأتي بها واحدة واحدة منها: أنه لو قطع رجل يد مرتد، ثم أسلم ذلك المرتد، فعاد ذلك القاطع، مع ثلاثة من الجناة، وقطعوا في الإسلام يده الأخرى فمات.
قال ابن الحداد: هؤلاء أربعة من الجناة جَنَوْا في حالة الإسلام، فأقول: أقدر قيمة الدية بين الأربعة، فعلى الثلاثة الذين لم يجنوا إلا في الإسلام ثلاثة أرباع الدية على كل واحد ربعها، ويقابل الذي جنى في الردة والإسلام ربع، ولكن قد صدرت منه جنايتان: إحداهما- هَدَر فيوزع الربع عليهما، فيهدر نصفه، وهو الثمن، ويلزمه ثمن الدية.
هذا مسلك ابن الحداد وهو حسن متجه، ووجهه بيّن.
ومن أصحابنا من قال: توزع الدية على الجراحات والجنايات في هذه المسألة، دون الجناة، وقد ثبتت خمسُ جنايات: واحدة في الردة وأربع في الإسلام، وواحدة من الخمس هدر، وأربع مضمونة فتكون الدية أخماساً ويهدر خمسها عن الكافة، ونوجب على كل واحد خمس الدية، وهذا القائل يضرب الإهدار على جميعهم، ويسوِّي بينهم في الالتزام، ووجهه أن جراحة الردة سارية وسرايتها مُحبَطة، وكأن كلَّ واحد جنى على من فيه حكم الإهدار.
10876- وبمثله لو جنى عليه ثلاثة في الردة فقطعوا يده، فأسلم، فعادوا مع رابع وقطعوا يده الأخرى، فعلى مذهب ابن الحداد تقسم الدية في تأسيس المسألة على رؤوس الجناة وهم أربعة، فيخص كل واحد منهم ربع الدية، فأما الذي انفرد بالجناية في الإسلام، فعليه الربع الكامل؛ إذ لم يصدر منه جناية في حالة الإهدار، وأما الباقون، فيقابل كل واحد منهم الربع، ولكن صدر من كل واحد جرحان: هَدَرٌ ومضمون، فيتوزع الربع عليهما، فيهدر نصفه، ويبقى نصفه، وهو الثمن.
ونقول على المذهب الآخر: الجنايات سبعٌ ثلاث في الردة، وأربع في الإسلام فنجعل الدية أسباعاً، ونهدر منها ثلاثة أسباع الدية وتبقى أربعة أسباعها، وهم أربعة على كل واحد منهم سبع الدية.
10877- وبمثله لو جنى أربعة في الردة، ثم عاد واحد منهم مع ثلاثة آخرين وجنَوْا في الإسلام وهم أربعة، فأما على طريقة ابن الحداد، فتوزع الدية تقديراً أولاً على عدد الجناة، وهم سبعة، فنجعل الدية أسباعاً، فأما الذين لم يجنوا إلا في الردة، فيقابلهم ثلاثة أسباع الدية وتهدر، فتبقى أربعة أسباع الدية، فعلى الثلاثة الذين جَنَوْا في الإسلام دون الردة ثلاثة أسباع الدية، على كل واحد سبعها، ويقابل الذي جنى في الإسلام والردة سبع، فنهدر نصفه، ويبقى عليه نصف السبع.
وعلى مذهب الآخرين نقول: التوزيع على الجنايات وهي ثمانٌ، أربعٌ في الشرك وأربع في الإسلام، فيهدر من الدية ما يقابل الأربع في الردة، ويجب على الذين جَنَوْا في الإسلام، وهم أربعة أربعة أثمان الدية، والمجموع نصف الدية.
10878- ويمثله لو جنى أربعة على مرتد، فلما أسلم عاد واحد منهم وجنى عليه جناية أخرى لم يشاركه فيها أحد: فعلى مذهب ابن الحداد نوزّع الدية على الجناة، وهم أربعة، فنقابل الذين جنَوْا في الردة بثلاثة أرباع وتهدر، فيبقى الربع مقابلاً للذي جنى في الردة والإسلام، فيوزع على الجرحين، فنهدر نصفه ونبقي نصفه، وهو الثُّمُن.
وعلى مذهب الآخرين توزع الدية على الجنايات، وهي خمسٌ: أربع مضت في الردة، فهدر أربعة أخماس الدية، ويجب خمسها على الذي جنى في الإسلام.
فإن جرحه اثنان في حالة الردة، فأسلم، فعادا وجرحاه في الإسلام، فيتفق المذهبان في هذه الصورة: أما ابن الحداد، فيعتبر التوزيع على الجناة، وهما اثنان، فيقابل كل واحد منهما نصف الدية، ولكن صَدَرُه في كل واحد جناية مضمونة وجناية مهدرة، فيلزمه ربع الدية، وعلى المذهب الآخر يقسم على الجنايات، وهي أربع: جنايتان في الردة، وهما مهدرتان، وجنايتان في الإسلام، فيتفق قياس المذهبين.
وهذا بيان ما ذكره ابن الحداد في مسائله.
10879- ثم ذكر الشيخ أبو علي تفريعاً على هذا الأصل الذي مهدناه وحكاه عن الأصحاب، قالوا رضي الله عنهم: لو جنى على حر خطأً، ثم جنى عليه عمداً، ومات من الجرحين، فتجب دية نصفها مغلّظ: مثلث، ونصفها مخفف: مخمس.
ولو جنى على حر خطأ، ثم عاد وهو مع ثانٍ وجنيا عليه عمداً، فمات من الجراحات، فقياس مذهب ابن الحداد أن الدية توزع عليهما نصفين، نصفها مغلّظ على الذي لم يجن إلا عمداً، والنصف الثاني يقابل من جنى خطأ وعمداً، ثم ينقسم ذلك على حالته فيكون النصف منه وهو ربع الدية مغلظاً والنصف منه مخففاً.
ولم يذكر الشيخ قياس مذهب الآخرين، وقياسُهم أن يقال: أما الدية فتنصف بينهما بلا خلاف فيه، ولا معتبر بصدور جنايتين من أحدهما وجناية من الثاني؛ فإن جميع الجنايات مضمونة، ولو جنى مائة جناية مضمونة والآخر جناية واحدة، فالدية بينهما نصفان، وإنما يُفضي التفريع إلى التوزيع على الجنايات إذا كان بعضها هدراً، ولكن قياس هؤلاء في التغليظ أن يتغلظ ثلث الدية على كل واحد منهما، ويكون الثلث الباقي مخففاً عليهما، فعلى كل واحد نصف الدية ثلثاه مغلظ وثلثه-وهو سدس الدية- مخفف.
فإن قيل: فكيف يستفيد الذي لم يجن إلا عمداً تخفيفاً فيما التزمه، ولم يصدر منه إلا العمد؟ قلنا: كما أنه استفاد في مسائل الردة عند هذا القائل الإسقاطَ عنه كما تقدم.
فصل:
10880- إذا قطع عبدٌ يدَ حر في رقه، فأعتق السيد العبدَ الجاني، فعاد بعد الحرية مع جانٍ آخر، وقطع يده الأخرى، فمات من الجنايات، فتجب الدية الكاملة، ثم يجب نصفها على الذي جنى في الحرية، وذلك أنه مهما صورت الجنايات من جانِيَيْن، والجناياتُ كلها مضمونة، فتوزع الدية على الجانيين، ولا نعتبر عدد الجنايات أصلاً، وإنما يضطرب المذهب إذا كان بعض الجنايات هدراً، فإذا ثبت أن نصف الدية على الذي جنى في الحرية، فالنصف على العتيق، ثم نصف النصف في مال المعتَق، والباقي قد تعلق برقبته ابتداءً، فلما أعتقه السيد، التزم الفداء، ثم فيما يلزمه عند الإعتاق كلام فصلناه، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل:
10881- لو جنى عبدعلى حر جناية، ثم جاء إنسان وقطع يد العبد، ثم إن العبد بعد ما قطعت يده، جنى على حرٍّآخر، وماتوا عن آخرهم في الجنايات. فأما الذي جنى على العبد، فيلتزم تمام قيمته، وأما الحران، فالقيمة تصرف إليهما، ولكن قال ابن الحداد: يسلّم أرش اليد إلى ولي الحرّ الأول، لا يشاركه فيه الثاني، ثم يتساهمان في بقية القيمة، والأمر على ما ذكره؛ فإنه جنى على الأول بجميع يديه، فقطعت يده، وجنى على الثاني ولا يد له، فيستحيل أن يستحق وليُّه شيئاً من أرش تلك اليد، ولم تكن موجودة وقت الجناية.
ثم الأصح في هذه المسألة أن ما يعتبر في أرش اليد ما نقص من قيمة العبد، فنصرف إلى الحر الأول ما نقص من قيمة العبد بسبب قطع اليد ثم يشتركان في بقية القيمة، فيضارب ولي الحر الأول بما بقي له من الدية، ويحسب عليه أرش اليد لا محالة ويضارب وفيُ الحر الثاني في بقية القيمة بتمام الدية.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يصرف إلى ولي الأول نصفُ القيمة جواباً على أن جراحه تتقدّر أروشها، ثم يتضاربان في الباقي، قال الشيخ أبو علي هذا غلط في هذه الصورة، فإنا لو قلنا به، لزمنا أن نقول: إن العبد لو جنى، ثم قطع قاطع يديه معاً، ثم جنى مرة أخرى على حرٍّ آخر كما نسبوه، وماتوا جميعاً، إن تمام قيمة العبد تصرف للأول، وليس للثاني منها شيء؛ لأن تمام القيمة أرش اليدين، وهذا ما لا سبيل إليه. فيتعين في هذا المقام اعتبار نقصان القيمة.
ولو كانت المسألة بحالها، فجنى على حر، ثم قطعت يده، فجنى على حر آخر، ثم جاء إنسان وقتل العبد، تذفيفاً، ففي هذه الصورة ندفع إلى الحر الأول نصفَ القيمة، ويستقيم التفريع.
ولو قطعت يداه، ثم جاء آخر وقتله بعد الجناية الثانية، فنسلم إلى الأول تمام قيمته، ثم على الذي قتله تجهيزاً قيمته، ويستقيم الجواب.
وفي المسألة الأولى إذا مات بالسراية، فلا يجب إلا قيمة واحدة، فيؤدي إلى استحالة في التفريع كما سبق.
فرع:
10822- قد تقدم حكم الجنين المسلم والذمي، فإذا اشترك مسلم وذمّي في وطء ذمية، فأتت بولد، فإن ألحقه القائف بالمسلم، ضمنه الجاني بكمال الغرة؛ لأنه انتفى عن الذمّي، وإن ألحقه بالذمي، لم يلتزم الجاني إلا بدلَ الجنين الذمي، وإن التبس الأمر وتوقفنا إلى انتساب المولود، لم يلزم الجاني في الحال شيئاً حتى يتبين المستَحَق، وهذا واضح لا خفاء به.
ولسنا من الصلف على حدٍّ ندعي انتهاء النظر نهايته في أمثال هذه المعاصات.
غير أن نستفرغ الوسع فيما ننتهي إليه، وطريق الفقه مذلل لكل ذي فطنة.
كتاب القسامة
10883- القسامة من القَسم، وهو اسم استعمل مصدراً للإقسام على خلاف القياس الجاري بين الفعل والمصدر، فإن المصدر المنقاس كقولك: أفعلَ يُفعل الإفعال، فإذا زادت حروف الفعل على الثلاثة، اطرد قياس مصدره، وإنما تضطرب مصادر أبنية الأفعال الثلاثية، فمصدر أقسم يُقسم الإقسامُ، واستعملت القسامة، وهذا تُسميه النحاة الاسم المقام مقام المصدر، ونظيره أكرم إكراماً وكرامة، والفَعالة تقع في أبنية مصادر الأفعال الثلاثية المجرّدة، وهو يكثر في مصادر فعُل يفعُل كالعبالة، والضخامة،، والقسامة، والوسامة حسنُ الوجه مع الوضاءة والتلألؤ.
ولا اختصاص في اللغة والشرع للقسامة بالأيمان الجارية في الدماء، ولكن تواضع الفقهاء على استعمال هذه اللفظة في الأيمان المتعلّقة بالدماء، واستعملها أصحابنا في الأيمان التي تقع البداية فيها بالمدّعي.
10884- واعتمد الشافعي رضي الله عنه في الكتاب بقصة عبد الله بن سهل، روى بإسناده عن سهل بن أبي حَثْمة أن عبد الله بن سهل ومُحَيِّصة بن مسعود خرجا إلى خيبر نهاراً، وتفرقا في حوائجهما بعد العصر، فأخبر محيصة أن عبد الله بن سهل قتل وطرح في فقير أو عين، ورآه يتشحط في دمه، فأتى اليهود وقال: إنكم قتلتموه، فأنكروه، وقالوا: ما قتلناه، فرجع إلى قومه وأخبرهم بالقصة فقام حُويِّصة ومُحَيِّصة وهما عمّا المقتول ومعهما عبد الرحمن بن سهل أخو المقتول ولقوا النبي صلى الله عليه وسلم في رجال من قومهم، فذهب مُحَيِّصة ليتكلم، لأنه كان صاحب القصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كبِّر كبِّر» يريد السنَّ، أي يتقدم الأكبر منكما، فتكلم حُويّصة، ثم أخوه محيّصة، ثم عبد الرحمن بنُ سهل، فقال النبي عليه السلام: «إما أن يدوا صاحبكم أو يؤذَنوا بحرب» فكتبوا إلى اليهود، فكتبوا في الجواب: والله ما قتلناه، فقال صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» فقالوا: كيف نحلف على أمرٍ لم نشاهده؟ فقال عليه السلام: «تبرئكم اليهود بخمسين يميناً» فقالوا: إنهم ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، قال سهل لقد ركضتني منها ناقةٌ حمراء.
فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن القتل إذا وقع وظهر اللوث كما سنصفه، فالبداية في التحليف بالمدعي، وكانت البداية بالأيمان مشروطة بالعلامات الدالة على صدق المدعي، وهذا هو الذي يسمى اللوث؛ والمرعيُّ في ذلك حقنُ الدماء، وكفّ أيدي المغتالين، وأكثر ما يقع القتل-والرعايا تحت الإيالة والسياسة- اغتيالاً، وَيعزّ إثباته بالشهادة، فاحتاط الشرع، وأثبت البداية بالأيمان مشروطة بظهور اللوث المصدِّق، ثم غلّظ الأمر بتعديد الأيمان، حتى لا يجازفَ المدَّعي ولا يهجم.
10885- وهذا يناظر في قاعدة الشريعة اللعان، وقد ذكرنا في كتابه أن اعتماد الزوج في القذف واللعان بَعدَه على لوثٍ يظهر عنده تلطيخ المرأةِ الفراشَ، وألفاظ الملاعن على صيغ الأيمان، وقد وقعت البداية بمن هو في مقام المدَّعي.
ولكن بين القسامة وبين اللعان فرقٌ، وذلك أن لا ابتداء بالمدعي ما لم يظهر اللوث عند القاضي، ولا يشترط إظهار الأسباب الدالة على الزنا عند القاضي، والسبب فيه أن الإقدام على الخبائث يخفى غالباً، ولا يطلع عليه إلا مُداخل، فوقع الاكتفاء باطلاع الزوج، ثم بَعُدَ أن يفضح الزوج نفسَه، فحلّ ذلك محل ظهور اللوث عند القاضي، حتى يحل في حق المدعي محل اليد، في حق المدعى عليه في الخصومات المالية.
وكان اللوث بيّناً في قصة عبد الله بن سهل، فإن اليهود ما زالت تضمر غوائلها للمسلمين، وقد جرى القتل في حيطتهم المحيطة بهم.
10886- ثم ذكر أصحابنا صوراً في اللوث نرسلها حتى يتعلق بها فهم الطالب تعلقاً كلياً، ثم نستقبل تفصيلها وضبطها جهدنا، فمما ذكره الأصحاب في صور اللوث أن يتفرق جماعة فينحصرون عن قتيل، فيغلب على القلب أنهم قتلوه، أو بعضهم. ومن دخل على جماعة من الأعداء ضيفاً فوُجد قتيلاً فيما بينهم، كان ذلك لوثاً. وإذا تقابل صفان فوجد قتيل في أحد الصفين، فهذا لوث في لواء الذين كانوا يقاتلون هؤلاء.
وقال بعض المتصورين: إذا وجدنا قتيلاً في سكة منْسَدّة الأسفل وفيها أعداء
للقتيل، فهذا لوث، وإذا وجدنا قتيلاً في صحراء، وعلى رأسه رجل قائم متشحط بالدم وبيده سكين، فهذا لوث.
وإذا وجدنا قتيلاً في شارع منفتح، أو في صحراء، ولم نجد بالقرب منه أحداً، فلا لوث في هذا القتل.
10887- فإذا فهم اللوث على الجملة، فإنا نخوض بعد هذه التوطئة في إيضاح اللوث، وأول ما نرى البداية به أنه إذا ظهر عند الحاكم لوثٌ مع جماعة محصورين، وكان المدعي يدعي القتل على واحد منهم، فالقاضي يبدأ بالمدعي ويحلّفه، ولا يشترط أن يظهر عند القاضي عين المدعى عليه بالقتل، بل يكتفى أن يكون العين من جملة اللوث، والسبب فيه أن اللوث الذي أطلقناه آيل إلى علامة ظاهرة في تصديق المدعي، ولا يشترط أن يبلغ مبلغ التحقيق؛ فإن القاضي لا يتحقق عنده أمرٌ إلا ببيّنة أو إقرار، فلو قامت بينة، لثبت القتل بها، وكذلك الإقرار من
القاتل.
وإذا كاِن كذلك وقد شملت العلامة المسماة باللوث جماعة، ففي حق كل واحد قسط من اللوث، وذلك كافٍ، والتعيين تخصيص، والأيمان مشروعة لإثباته.
والذي يحقق ذلك أن اللوث لو تعلق بواحد، فلا يقين، والبداية بالمدعي، فكذلك إن اشتمل اللوث جماعة.
ووراء ذلك سر مصلحي، وهو أن تعيين واحدٍ من جمع مما يعسر إظهار اللوث فيه على التخصيص، وإذا ثبت أصل اللوث-والتغليظ على المدعي، بتعدد اليمين- كفى وأقنع، وهذا ذكرناه نقلاً من كلام صاحب التقريب، وصرح به القاضي، ودل عليه فحوى كلام الأئمة، والتعليل ظاهر فيه ممّا أوضحناه، والقتلُ الذي جرى في خِطة اليهود لوث تعلق بجمع، والرسول صلى الله عليه وسلم أثبت التحليف بدايةً بالمدعين، ولو آل الأمر إلى الحلف وإقامة الخصومة، لعينوا. هذا ما يقتضيه ترتيب الخصام، وكان اللوث معلوماً مع جمع اليهود القاطنين لتلك الحِلّة.
10888- فإذا تمهد ما ذكرناه، فلو علم القاضي اللوثَ بنفسه بأن عاين بعضَ ما نصصنا عليه في تصورات اللوث، بنى عليه، ولا يخرّج هذا على اختلاف القول في أن القاضي هل يقضي بعلمه؛ فإن هذا ليس قضاء منفذاً، وإنما هو إقامة حجة معتضدة بظاهرٍ مغلِّب على الظن.
10889- ثم قال الأئمة: لو شهد جمع من النسوان والعبيد عند القاضي بوقوع القتل، على حسب ما يدعيه المدعي، فهذا لوث، وإن كانت شهاداتهم لا تقبل، وهذا الذي ذكره الأصحاب فيمن يعتمد قولهم من النسوة والعبيد.
ولو أنهى القتلَ إلى القاضي جمعٌ من الصبيان، وظهر من كثرتهم وإتيانهم من كل صوب أنهم ليسوا محمولين على مقالهم، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن هذا إظهار اللوث
والثاني: أنه لا عبرة بأقوالهم، فإنا لو كنا نكتفي بالغلبة على الظن من غير ضبطٍ في المسلك المغلِّب، للزم أن يقال: العدل الرضا المرموق بالأمانة الذي لم نجرب عليه خيانة على طول الزمن إذا ادعى وعيناه منهملتان، فقد يغلب على الظن صدق مثله، ومن أحاط بما ذكرناه في قرائن الأحوال من كتاب الأخبار لم يخف عليه ما رمزنا إليه. ولكن لا تعويل على هذا.
ولا ينتهي الأمر إلى الاكتفاء بكل ظن.
وتردد الأئمة في جمع من الفسقة لا يفرض منهم التواطؤ على الكذب، فقال بعضهم: إذا أخبروا القاضي بوقوع القتل، ثبت اللوث وجهاً واحد؛ فإن أقوالهم على الجملة معتبرة، وعباراتهم صالحة للعقود والحلول، والصبي مسلوب العبارة، لا حكم للفظه، ولا أثر لقوله.
ومن أصحابنا من ذكر في إخبار الفسقة وجهين.
وإذا جمعنا الفسقة إلى الصبيان، انتظم فيهم ثلاثة أوجه: الأول- القبول.
والثاني: الرد. والثالث: الفصل بين الفسقة وبين الصبيان.
10889/م- وهذا الفصل عندي يحتاج إلى مزيدٍ في الكشف، فأقول: إن أخبر القاضي عدلٌ واحد-تقبل شهادته- بوقوع القتل على صيغة الإخبار، فهذا يُثبت اللوث؛ فإنا لا نشترط في ثبوته مراسم الخصومات، ورعايةَ ترتيبها، وكنت أود لو قيل: كل من تقبل روايته يَثْبت اللوث بقوله، ويخرج منه الاكتفاء بقول امرأة ثقة، وعبدٍ موثوق به، فإن لم يظهر الثقة ولا نقيضها، فنُحْوَج إلى تظاهر الأخبار على وجه يغلِّب انتفاءَ التواطؤ، هذا إذا ما أطلق أصحابنا في النسوة والعبيد العددَ، والبعدَ عن إمكان التواطؤ، ولم يأتوا بالتفصيل الذي ذكرته.
وليس فيما ذكروه أيضاً الاكتفاء بإخبار عدلٍ، فإنهم ذكروا شهادة شاهد، والشهادة تختص بصفة وترتيب محل مخصوص في المنازعة، وإذا كان التسامع بصدور القتل من شخصٍ عند وجود القتيل بالقرب منه لوثاً كافياً، فإخبار عدل واحدٍ عن وقوع القتل في عينه ليس ينحط عنه، ولو روى خبراً أجرى فيه حكما قُبل، واعتمد في تأسيس الشرع.
وينتظم من مجموع ما ذكرناه مسلكٌ أحببتُه واخترتُه، ومسلك الأصحاب شهادة ولو من واحدٍ، أو ما يقرب من حد التواتر من جمع ليسوا من أهل الشهادة والله أعلم بالصواب.
10890- ثم قسم الأصحاب اللوث قسمين: فقالوا: قسم يظهر اللوث في معين، وهذا بمثابة أن يرى القاضي شخصاً متضمخاً بالدم، قائماً على قتيل وبيده سلاح فالذي ثبت مختص بمعين، كما قدمنا تصويره، وبنينا عليه أن القاضي يكتفي به ولا يُحوِج المدعي إلى إثبات ظهور اللوث مختصاً بمن يدعي عليه.
ولو شهد شاهدان على أن فلاناً قتل أحد هذين المقتولين، لم يكن ذلك لوثاً يسوِّغ اليمين للمدعي، ولو شهدا أنه قتل القتيلَ أحدُ هذين الرجلين، فقد قال القاضي: هذا لوث يسوّغ للمدعي القسامة فيه، إذا عين أحدهما.
وهذا فيه نظر، وفي الطرق ما يخالف هذا؛ من جهة أنهما لم يثبتا للرجلين سبباً حاملاً على القتل، بخلاف ما لو ثبتت عداوةٌ منهما ثم استبهم القتل بينهما؛ فإنهما شهد الشاهدان على قتل منهما: من أحدهما، وهذا لا يظهر لوثاً ثابتاً حيالهما، والمسألة محتملة.
وذكر العراقيون وجهين فيه إذا ثبت أصل اللوث في القتل، ولم يثبت لوث في وقوعه عمداً، وذلك بأن نرى مزدَحماً، ثم يفرض تفرقهم عن هلاك، ولم يتحقق منهم عداوة، وجوزنا أن يكون القتل عن ضغط وزحمة من غير عمد: أحد الوجهين-أن له أن يحلف على أصل القتل
والثاني: ليس له ذلك؛ فإن القتل يتردد بين أن يغرم الدية فيه، كما يتردد هو في نفسه بين أن يكون عمداً أو خطأ، فعلى هذا يعسر منه إثبات القتل المطلق؛ فإن الضرب على العاقلة مشروط بنقيض العمد، كما أن الضرب على القاتل مشروط بالعمد المحض. و يردُّ الوجهَ الثاني- أن أصل القتل يثبت لتحقق اللوث.
ولا خلاف أنه لو أراد أن يحلف على العمد، ولم يظهر في العمد لوث لم يمكن من ذلك.
وفي هذا الفصل بقية سنشرحها عند ذكرنا صفات الدعوى.
10891- ثم إن ادعى المدعي القتل خطأ، وحلف، فالدية على العاقلة، وإن ادعى العمدَ المحض، فالدية مغلظة في مال المدعى عليه إذا حلف.
وهل يُسلَّط على الدم بأيمان القسامة إذا حلف المقسِم على العمد المحض؟ فعلى قولين: المنصوص عليه في القديم أن القود يثبت بأيمان القسامة إذا حلف المقسِم؛ لأنها حجة من المدعي في إثبات القتل، فأشبهت البيّنة، وهذا قد يعتضد بأن الغرض من إثبات حق البداية عصمةُ الدماء عن اغتيال المغتالين، وإنما تتحقق العصمة بإيجاب القصاص، وإذا كنا نوجب الرجم على المرأة بلعان الزوج، لم يبعد أن يناط القصاص بأيمان القسامة.
والمنصوص عليه في الجديد أن القود لا يثبت، ولا ينبغي أن ننتهي في الاحتياط للدم إلى سفكٍ من غير ثَبَتٍ، وليس ما نحن فيه كاللعان؛ فإنها بامتناعها عن اللعان حققت من نفسها الزنا، مع ما تحقق من لعان الزوج، ولو ثبت القصاص بأيمان القسامة، لم يجد المدَّعى عليه ما يدرؤه.
وقد ينتهي الكلام في قواعد اللوث إلى القضاء على الخصم بقول المدعي من غير أن نُثبت للمدعى عليه ما يدرؤه.
وقد انتهى الكلام في قواعد اللوث، وموضع البداية.
10892- فإن لم يظهر لوث عند القاضي، جرينا على قياس الخصومات، وحلّفنا المدعى عليه، ثم اختلف قول الشافعي في أنا نحلّفه خمسين يميناً، أو نكتفي بيمين واحدة قياساً على سائر الخصومات التي تجري الأيمان فيها.
أحد القولين- أنا كما نجري على القياس في البداية بالمدعى عليه، وجب أن نجري على القياس في الاكتفاء باليمين الواحدة، وليس هذا كما إذا بدأنا بالمدعي؛ فإن اليمين حادت عن ترتيبها، وصورتُها تصْديقُ المدعي بقول المدعي، فاحتيج فيه إلى تغليظ وتأكيد.
والقول الثاني- أنا وإن بدأنا بالمدعى عليه، فإنا نحلّفه خمسين يميناً، ونطرد هذا العدد في الخصومات المتعلقة بالدماء، سواء يجري التكليف على ترتيب سائر الدعاوى أو وقعت البداية بالمدعي.
وإذا حلّفنا المدعى عليه، فنكل عن اليمين، فاليمين مردودة على المدعي، واختلف القول في أنا هل نكتفي بيمين واحدة إذا هي رُدت على المدعي، أم نقول: لابد وأن يحلف خمسين يميناً على نحو ما تقدم؟ والضابط أن اليمين متعددة على المدعي إذا وقعت البداية به، فإن البداية مخالفةً في وضعها ترتيبَ الخصومات، وفي تعددها والاكتفاء بواحدة منها قولان، وهذا يجري في اليمين الموجهة على المدعى عليه، وفي اليمين المردودة على المدعي بعد نكول المدعى عليه.
ولو كان القتل المدعَى خطأ، فأقام المدعي شاهداً عدلاً، فأراد أن يحلف معه لإثبات الدية؛ فإن المال يثبت بالشاهد واليمين، فإذا كان القتل خطأ، فالمقصود منه المال، وإذا أراد أن يحلف مع الشاهد، فيحلف يميناً واحدة أم خمسين يميناً؟ فعلى القولين المقدّمين.
10893- وذكر الأصحاب على الاتصال بهذا أمراً في ظاهره اختلاط، ونحن نورده على وجهه، ثم نبين طريق التحقيق فيه. قالوا: إن أقام المدعي شاهداً واحداً وأراد أن يحسبه ويقدرَه لوثاً وما كان ثبت اللوث عند القاضي بجهةٍ أخرى، فإنه يحلف بعد ظهور اللوث بالشاهد الواحد خمسين يميناً، وإن أراد ألا يُقيمه لوثاً، ويحلف معه على قياس اليمين مع الشاهد، فله ذلك.
فهذا فيه اضطراب: فأما إن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد الواحد خمسين يميناً، فلا فائدة في هذا التقسيم، ولا معنى لإرادته إثباتَ اللوث، أو إقامة اليمين مع الشاهد؟ فإذا كانت الألقاب تتم ولا تقبل مزيداً، فلا حاصل لها ولا معنى لنفيها وإثباتها، فإن قلنا: إنه يحلف مع الشاهد يميناً واحدة والقتل خطأ، فلا معنى لتقسيم إرادته، ويكفيه يمين واحدة، فإذا رغب في مزيد، لم يحلِّفه القاضي؛ فإن الحجج إذا قامت، ثبت نتائجها، ولم يختلف الأمر بمقصود المدعين إذا كانوا مصرّين على الدعوى. نعم، إن كان المدعَى قتلاً عمداً، وقلنا: القصاص يناط بأيمان القسامة، فيثبت اللوث بالشاهد الواحد، فإن أراد القصاص حلف خمسين يميناً، وإن اقتصر على يمين واحدة، لم يثبت القصاص.
ثم من ادعى قتلاً عمداً، وأقام شاهداً وامرأتين، أو أقام شاهداً وحلف يميناً واحدة تفريعاً على أن اليمين الواحدة كافية مع الشاهد، فالقصاص لا يثبت، وفي ثبوت المال تردد، سيأتي في باب الشهادة على الجناية.
فهذا مما يجب تحصيله في ذلك، ووضوحه مغنٍ عن الإطناب فيه.
10894- ثم ذكر الأصحاب على الاتصال بنجاز القول في اللوث ومعناه أصلاً، ونحن نذكره موضّحاً، فنقول: إذا أقام اللوثَ، ونكل المدعي عن أيمان القسامة لما عُرضت عليه، فيحلف المدّعى عليه، وفي تعديد اليمين عليه قولان، فإن حلف، انقطعت الخصومة إلا أن يقيم المدعي بيّنة، فنقدم البينة العادلة على اليمين الفاجرة.
وإن نكل المدعى عليه في اليمين، فهل ترد اليمين على المدعي؟ فعلى قولين- أطلق الأصحاب حكايتهما:
أحدهما: أنا لا نرد عليه؛ فإنه قد نكل عن اليمين في هذه الخصومة، ولو رددنا عليه، لكانت صيغة يمين الرد كصيغة أيمان القسامة، والخصومة متحدة، والمقصود واحد.
والقول الثاني- أنا نرد عليه اليمين، فإنه نكل عن اليمين عن تكلف، وهذا مقام آخر، فصار تعدد المقام كتعدد الخصومة وتعدد المقصود.
وكان شيخنا يقول: هذان القولان مبنيان على أن يمين الرد هل تتعدد أم لا؟ فإن قلنا: إنها لا تتعدد، فاليمين مردودة عليه، فإن نكوله عن أيمان القسامة محمول على رغبته عن كثرة الأيمان، وطلبِه الاقتصارَ على يمين واحدة.
وإن قلنا: إن يمين الرد تتعدد كما تتعدد أيمان القسامة، فلا ترد اليمين عليه لما ذكرناه من اتحاد المطلوبِ والخصومةِ، واستواءِ كيفيات الأيمان.
وقال قائلون: إن قلنا: يمين، الردّ يتعدد فالقولان جاريان.
ثم هؤلاء سلكوا مسلكين:
أحدهما: أن المقام يتعدد كما ذكرناه في توجيه القولين.
والثاني: أن المدعي معتمده في أيمانه اللوث، فربما يبغي استظهاراً بنكول المدعى عليه، فإن نكوله من العلامات الواضحة على صَدَرِ القتل منه.
فانتظم مما ذكرناه مسلكان:
أحدهما: تطبيق القولين في الرد على القولين في أن يمين الرد هل تتعدد.
والمسلك الثاني- أنا إن قلنا: يمين الرد تتّحد فَتُردُّ، وإن قلنا: تتعدّد فعلى قولين.
وقال قائلون: إن قلنا: يمين الرد تتعدد، فلا رد قولاً واحداً، وإن قلنا: تتحد، ففي الرد قولان:
أحدهما: أنها تُرد لغرض الاتحاد.
والثاني: أنها لا ترد؛ فإن تكرير الأيمان على الصدق لا يضر، وإن فرض ردٌّ، فاليمين الواحدة في معنى الأيمان.
10895- والذي أراه في هذا-وفيه تحقيق واضح يستدعي تقديم مقدمة- وهو أن المدعى عليه في سائر الخصومات إذا ظهر نكوله عن اليمين، فاليمين مردودة على المدعي، ولو أظهر النكول، ثم رغب في اليمين-قبل اتفاق الرد- لم نبال برغبته، وسيأتي معنى ظهور النكول في موضعه، إن شاء الله، فإن رددنا اليمين، وأظهر المدعي النكولَ عن يمين الرد، ثم رغب فيها، فهل نحلّفه؟ فيه اختلاف بين الأئمة.
والضابط الذي تمس الحاجة إلى ذكره أن كل نكول يتعلق به حق حلف حالف بعد النكول، فذلك النكول إذا ظهر، فلا عوْد من الناكل، وكل يمين لا يمين بعدها في مراتب الخصومات، فالنكول عنها هل يُبطل حقَّ الناكل؟ فيه خلاف.
10896- عدنا إلى غرضنا من المسألة فنقول: تُعدّ أيمان القسامة يمين المدّعي فإذا نكل عنها، رُدت إلى المدعى عليه، فينفذ حكمُ النكول عن أيمان القسامة بتحليف المدعى عليه، وإذا نكل المدعى عليه، فترتيب الخصومة يقتضي أن يكون بعد نكوله ردٌّ، فهل نعود للمدعي وقد جرى منه النكول أولاً؟ والردُّ آخراً إلى من ترد عليه اليمين فينكل، ثم يحلف، والسر فيه أن الشرع لما حلَّف المدعي، فكأنه ردّ اليمين عليه، ولكنه يحمل نكوله لحق حلف المدعى عليه، فإذا أسقط المدعى عليه حقَّه، فهل يعود إلى حقه؟ فيه الخلاف الذي قدمته، ولولا هذا، لما استقام إلى اليمين بعد النكول عنها.
ولو ادعى القتلَ حيث لا لوث، ونكل المدعى عليه عن اليمين، وعرضنا اليمين على المدعي، فنكل عن يمين الرد، ثم ظهر اللوث، فهل له أن يحلف يمين الابتداء؟ ذكر الأصحاب في ذلك قولين، ووجهوهما على ما تقدم.
ولو أقام شاهداً واحداً في دعوى مال، فلم يحلف معه، وحلّفنا المدعى عليه، فهل ترد اليمين على المدعي، وقد امتنع عن اليمين مع الشاهد؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا لم يكن في دعوى المال شاهدان، رددنا اليمين على المدعي بعد نكول المدعى عليه، فنكل عن يمين الرد، ثم أقام شاهداً وأراد أن يحلف مع شاهده، فهل له ذلك؟ فعلى ما تقدم من القولين.
قال الأصحاب: الأصل في هذه المسائل أن من نكل عن يمينٍ في خصومة لا يحلف تلك اليمين بعينها، في ذلك المقام من تلك الخصومة، وهل يحلف في مقامٍ آخر من تلك الخصومة مع اتحاد المقصود؟ فعلى الخلاف المقدم.
هذا ما ذكروه ولا يحيط الناظر بحقيقة القولين في هذه المسائل، ما لم يُحط علماً بما قدمته، وسيأتي ما رمزت إليه موضّحاً في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "وللولي أن يقسم على الواحد وَالجماعة... إلى آخره".
10897- إذا عين المدعى عليه في دعوى القتل، استمرت الخصومة على نحو ما تقدم، واستمر الأمر إلى ظهور اللوث وثبوته، ووضعُ الباب على أن تعيين المدعى عليه لابد منه، وقال أبو حنيفة لا يشترط تعيين المدعى عليه في صحة القسامة ويُحضر خمسين من صلحاء المَحِلة في خبطٍ لسنا نذكره.
فإن ادعى على جماعة، وزعم أنهم اشتركوا في القتل، عيّنهم؛ إذ نيطت الدعوى بهم.
ولو ادعى القتل على جمع لا يتصور اجتماعهم على القتل، فالدعوى باطلة؛ لأنه ادعى ما يحيله الحس.
ولو ادعى وقد أشار إلى جمع محصورين- أعلم أن قاتل أبي منكم، ولا أدري أيكم، فأحلفكم واحداً فواحداً، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: ليس له ذلك؛ فإن اليمين تترتب على الدعوى، وإذا لم تتعلق الدعوى الجازمة بالمحلَّف، لم ينتظم تحليفه، والثاني: له أن يحلفهم كذلك، لأنه يتطرق به إلى إظهار غرضه، ومن كان صادقاً منهم، فلا عليه لو حلف.
وقال بعض المصنفين: إن قال: قاتل أبي واحد منهم، فليس له أن يحلّف أحداً منهم، فإن قال: قتل أبي هؤلاء أو واحد منكم، ففي المسألة وجهان حينئذ. وهذا لا أصل له، ولم يصر إلى هذا التفصيل أحد من الأصحاب، بل اتخذ الوجهين فيه إذا قال: قاتل أبي واحد منهم، والذي يُبطل التفصيل الذي حكيناه أنه إذا لم يعلق دعواه جزماً، بل رددها بين الجمع والواحد، فلا فائدة في ربط الدعوى بالجمع، إذا كان على الترديد.
10898- ثم طرد الأصحاب هذا الخلاف في غير الدم، على تفصيل سنذكره الآن، فإذا قال: استلف مني واحد من هؤلاء ديناراً أو ثوباً وَصَفَه، وأعلم أنه فيهم، ولست أعرفه بعينه، فهل له أن يحلِّفهم؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
وكذلك إذا أضلَّ متاعاً بين جماعة فاختزله واحد منهم، فأراد أن يدعي على الإبهام، فهو على الخلاف.
فأما إذا أقرض ماله إنساناً، ثم سها عنه، فقال: المستقرض منِّي في هؤلاء، وقد نسيت عينه، فليس له أن يخصّ واحداً منهم؛ فإن القتل، والإتلاف، والغصبَ والاختزال مما لا يتعلق باختياره، ولا يبعد ألا يحيط بعي، من فعل، فأما الإقراض فصدوره عن اختياره، وكذلك المبايعة وما في معناهما، فإذا نسي وهو المقصر؛ فليس له أن يحلّف من غير تعيين.
هذه هي الطريقة المرضية.
وذكر الأئمة طريقين أُخريين: إحداهما- أن ما ذكره من التحليف والدعوى لهم مختص بالدم؛ لأن للشرع اعتناء بصيانة الأنفس لتعرضها للاغتيال وعِظم قتلها واشتداد العناية بحفظها؛ ولهذا بدأنا بالمدعي عند ظهور اللوث، ولا نبدأ بالمدعي في مالٍ عند ظهور اللوث، وتصوير اللوث في الأموال ممكن.
ومن أصحابنا من أجرى الخلاف في الخصومات المتعلّقة بالأموال، كما أجراه في الدم، وطرد هذا الخلاف فيه إذا قال: استقرض واحد منهم وأنسيت عينَه؛ فإن النسيان ليس بدعاً.
فانتظم مما ذكره الأصحاب طرقٌ: إحداها- طردُ الخلاف في الخصومات الأخرى والثانية- إجراء الخلاف في الدم فحسب، والأخرى- إجراء الخلاف في الدم وغيره إلا في الإقراض، وما يتعلق بالاختيار من المعاملات، وما حكيناه عن بعض التصانيف مزيف غير معتد به.
10899- ونعود إلى تفريع الخلاف في الدم، فنقول: إذا أبطلنا الدعوى، فلا كلام، وإن جوزنا تحليفهم واحداً واحداً، فإن حلف الكل، انتهت الخصومة من هذه الجهة، وإن حلف الكل إلا واحداً منهم، فقد أطلق الأصحاب القول بأن للولي إظهار اللوث، ولو أراد المدعي أن يقسم على الناكل، أقسم عليه، وليس هذا ردّاً لليمين؛ حتى يجيء القولان في تعديد يمين الرد، لأن يمين الرد إنما تفرض في الدعوى الجازمة، إذا توجهت على المدعى عليه، وهذا المعنى مفقود في هذه الصورة.
ولو نكلوا من عند آخرهم، فلا يتبين اللوث في حق المدعي؛ فإنه ذكر أن القاتل واحد منهم، وقد استوَوْا في النكول، فإن ظهر عنده على الاختصاص لوثٌ في حق واحد، وعجز عن إظهاره في مجلس الحكم، فله أن يقسم بأن النكول الصادر منهم لوث في حق الجميع، وإذا ظهر لوث في حق جمع، فلا نشترط ظهورَه في حق من يعينه المدعي، وهذا فيه احتمال، لأنه في الابتداء أبهم الدعوى، ولم يظهر ما يوجب تعيّن واحد منهم للاختصاص بلوث، ولا يبعد أن يقال: ليس له أن يقسم على واحد منهم، ما لم يُظهر عند القاضي لوثاً مختصاً به، وليس كما لو عين المدعى عليه ابتداء، وكان اللوث شاملاً للجميع. وهذا الذي ذكرناه فيه إذا تعيّن عنده لوث في حق واحد، وقد نكلوا، فماذا يفعل هذا المدعي؟
فإن قلنا: لا يقسم المدعي، فلا فائدة في عرض الأيمان عليهم؛ فإنهم لا يعجزون عن النكول، إذ ليس في مذهب الأيْمان الإجبار على اليمين، والقضاءُ بالنكول لا وجه له، وقد عسر الرد، فلا يبقى لفرض اليمين فائدة. وإن كان الأمر كذلك، فنتبيّن من هذا المنتهى في التفريع بطلانَ أصل المذهب في عرض اليمين، ولاح وجوب القطع بأن المدعي إذا لم يعيّن المدعى عليه، بطلت دعواه فيما إذا قال قائل: إذا نكلوا، فللمدعي أن يقسم على من شاء منهم، فهو ناكل.
وإن قال: كنت أظن أن القاتل منهم واحد، فإذا نكلوا، كان نكولهم لوثاً عندي في أنهم مشتركون في القتل، فهذا يخالف قولَه الأول، ويجوز أن يقال: دعواه جرت على الترديد، وأشعرت بإشكال الأمر عليه، ولا يمتنع أن نقول: يُثبت الآن نكولُهم أنهم مشتركون، وهذا بعيد جداً. ولكن لا يستقيم التفريع على الوجه الضعيف في قبول الدعوى على الإبهام إلا على الالتزام. هذا منتهى التفريع.
10900- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "وسواء كان به جرح أو لم يكن... إلى آخره".
لا يشترط وجود الجراحة في ثبوت القسامة، فإذا صوروا هالكاً لا جرح به، ثبت للولي أن يقسم عليه، إذا ظهر اللوث. وأبو حنيفة يشترط وجود الجراحة ليحلف رجال المحِلة، وإياه قصد الشافعي بالرد.
ومعتمد المذهب أن القتل ممكنٌ من غير جرح، ولو كان يقول: إن لم يكن عليه أثر من جرح، أو ضغطٍ في مجرى النفس، أو تورّم في الخصيتين، فالهلاك محمول على الموت حتف الأنف، لكان ذلك مذهباً يجب البحث عنه، فأما مذهبه إنه لو بدا أثر التعلّق والتخنيق في رقبته، فلا حكم لذلك ما لم نجد جرحاً.
فإن قيل: ما قولكم فيه إذا صودف ميتاً، ولا أثر أصلاً؟ وقد قيل: الأخذ على الفم والأنف إلى انخناق النفس يسوّد وجه الميت ويثور الدم صُعُداً، فإذا لم نفرض أثراً أصلاً، فالحمل على الموت الوفاقي ممكن. قلنا: هذا فيه بعض النظر، ولم أر انتهاء تفصيل الأصحاب إليه، والموت فجأة ليس أمراً بدعاً، فيخرّج على هذا الاحتمال أن اللوث في القتل شرطُه ظهورُ أثرٍ، والمعنى المتلقى من فحوى كلام الأصحاب حملُ الأمر على القتل، ولئن كان الدم قد ينعكس إلى مقرّه، بعد أن فاضت الروح، فالأمر محتمل، والعلم عند الله.
فصل:
قال: "وإن أنكر المدعى عليه أن يكون فيهم... إلى آخره".
10901- مقصود الفصل أنه إذا ثبت اللوث على الحدّ الذي ذكرناه، فقال المدعَى عليه: كنت غائباً في الوقت الذي عينتَه للقتل، فقد قال الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم: لا يقسم المدعي ما لم يَثْبُت حضور المدعى عليه، فإن أقام بينة على حضوره ساعة قد ظهر اللوث، أقسم حينئذ، والسبب فيه أن اللوث وإن كان ظاهراً، فالغَيْبة ممكنة، ومن نيط به لوث لا يقتضي ذلك اللوثُ استمرارَه على الإقامة والحضور.
وفي هذا سؤال: فإن قائلاً لو قال: إذا كان بحيث يبعد تقدير القتل إلا من جهة المدعى عليه، لاختصاصه بمعاداته، فينبغي أن يكون ذلك لوثاً في غيابه أيضاً، هذا المقيسُ، فأدنى ما يلزم عليه أن يقال: إذا وجدنا في مَدْرجةٍ أو شارعٍ ميتاً فنحيل قتله على من عهد معادياً له.
وليس الأمر كذلك وفاقاً؛ فإن الحكم بأن هذا لا يقتله إلا من يُعرف معادياً له لا معنى له؟ إذ قد يتفق القتل من سكران، أو ممن يتهمه على أمر، وقد يحاول إنسانٌ سلبَ ثوبه فيمتنع، فيأتي عليه بسلاح، ووجوه القتل شتى، وإنما تخصيصه بأهل المعاداة في محلّهم الخصّيصة بهم لاقتضاء اللوث هذا المعنى، والغيبةُ والحضور أمران يجريان على التناوب من الناس.
وخرج من مجموع ذلك أن القاضي لا يتركه يقسم، وإن ظهر اللوث حتى يظهر عنده حضور المدعى عليه، فإن صرّح بدعوى الغَيْبة أُحوج المدعي إلى إثبات الحضور، وإن لم يكن مع المدعي بينة على حضوره، فالقول قول المدّعى عليه في الغيبة مع يمينه، فإن حلف، فلا قسامة، ولكن دعوى الدم قائمة واليمين معروضة على المدعى عليه.
10902- ولو ادعى رجل على رجل قتلاً في غير مقام اللوث، فقال المدعى عليه: أَثْبت حضوري، ثم حلّفني، ليس له ذلك؛ فإن الدعوى المرسلة يجب الجواب عَنها، والجواب عنها إذا لم يكن إقراراً، كان إنكاراً مضاداً للدعوى، فليحلف. نعم، لابد من إثبات الحضور في القسامة ليثبت اللوث.
ولو أقام المدعي في مقام اللوث بينة على الحضور، فأقام المدعى عليه بينة على الغيبة، فقد قال الأصحاب: بينة الغيبة مقدمة، واعتلّوا بأن بينة الغيبة معها مزيد علم، وبينة الحضور يحمل قولها على دوام الحضور.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الغيبة معناها كونٌ في مكان آخر، والحضور معناه كونٌ في هذا المكان، ومن ضرورة لكون في مكان تعيّن انتفاء لكون في غيره، فإذاً كل بينة تشتمل على إثباب من ضرورته نفيٌ، فلا يجوز ترجيح بيّنة الغيبة لذلك.
نعم، يجوز أن يقال: لو تداعيا حضوراً وغيبة، فالقول قول من يدعي الغَيبة مع يمينه.
ومهما أقام متداعيان بيّنتين-ولو لم تكن البينة، لصَدَق أحدُهما- فبينة من يُحلَّف ويصدَّق تقدم، كبينة الخارج والداخل، ثم سنذكر اختلاف الأصحاب في بينتي الخارج والداخل: فمنهم من يرجح بينة الداخل لقوة جانبه، ومنهم من يحكم بتساقط البينتين، ومرد الأمر إلى تحليف المدعى عليه، وهذان الوجهان جاريان في الغيبة والحضور من مسألتنا، وترتب على جريانهما أن المدعى عليه هل يحلَّف على الغيبة مع قيام البينتين؟ فعلى وجهين كما ذكرناه في الداخل والخارج.
10903- ومما يتصل بهذا أن المدعى عليه لو كان محبوساً أو مريضاً، لا حراك به، سيما في مثل القتل، إذا أظهر المدعي اللوثَ، وكان المدعى عليه في ذلك الوقت على ما وصفناه، ففي هذا طريقان: من أصحابنا من قال: إن اقترن هذا والعلمُ به بأيمان القسامة، فلا قسامة، فإن اللوث يضعف بها جداً.
وإن فرضت القسامة، ثم تبين بعد جريان الأيمان أن المدعى عليه كان محبوساً، فهل نحكم ببطلان القسامة تبيُّناً؟ ذكر الأصحاب في ذلك وجهين: أصحهما- أنا نتبين بطلان القسامة. ومن أصحابنا من أجرى الوجهين وإن اقترن العلم بكونه محبوساً بإنشاء الأيمان.
ولسنا نعني بهذا العلم تحققَ بقائه في الحبس؛ فإن ذلك لو كان كذلك، لانتفى القتلُ قطعاً، ولكن المعنيّ به أن يكون حبسه ظاهراً في تلك اللحظة، كما نطلق أن فلاناً محبوس، ويجوز أن يكون معلناً بالحبس في وقت إطلاقنا لذلك، فليفهم ذلك على هذا الوجه.
فإن لم يكن من إجراء الخلاف بدٌّ، فلا معنى للفرق، والوجه طرده في الصورتين؛ فإن ما يمنع من الإقدام على الأيمان يوجب بطلانَها إذا تبين من بعدُ.
هذا والوجه القطع بسقوط اللوث بهذا؛ فإن ما يظهر من لوث فالبقاء في الحبس أظهر منه، وإذا ظهر ذلك يسقط اللوث بمعارضة ما يضاده.
ومن أسرار الفصل أنه إذا ادعى-واللوث ظاهر- القتلَ على الشخص، فلم يتعرض المدعى عليه للحضور والغيبة بالنفي والإثبات، ولم يتعرض المدعي للتصريح بذكره، فكيف الوجه في ذلك؟ أولاً- إذا ادعى أنه قتله، فقد ادعى حضوره، وإنما النظر في سكوت المدعى عليه عن دعوى الغيبة وهل يُظهر حضورَه، فلو كان غائباً لذكر ذلك، وفي المسألة احتمال على حال.
10904- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أنظر إلى دعوى الميت... إلى آخره".
أراد بذلك الرد على مالك فإنه قال: لو وجدنا جريحاً متشحِّطاً في الدم، مشرفاً على الهلاك، فقال: خذوا فلاناً بدمي، فإنه قاتلي. قال: يقبل قوله، ويؤخذ ذلك الشخص بقوله، ونحكم عليه بالدم، فإنه لا يكذب في هذه الحالة.
وهذا كلام عري عن الإحاطة بقواعد الشرع " فإن الكذب ممكن، والحكم على الغير بالدعوى المجردة محال، ولو كان يقول: هذا لوث، فيقسم الولي، لكان أمثل، على أنه لو قُتل به، فهو باطل، فإن اللوث لا يثبت بالدعوى.
10905- ثم قال: "ولورثة القتيل أن يقسموا وإن كانوا غُيّباً... إلى آخره".
إذا كان الولي المقسم غائباً، ثم حضر وأراد أن يقسم عند ظهور اللوث، فله ذلك " لأن معتمده اللوث، ولا يشترط أن يكون فرعاً من القتيل، وإذا كان كذلك، فقد يثبت عنده بقول الأثبات والثقات ما يقسم عليه، أو باعتراف القاتل، وغيرِ ذلك من الوجوه، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن المقسم لا يكتفي باللوث الذي يكتفي القاضي به، بل ينبغي أن يعتمد أمراً أقوى من اللوث.
ثم الذي يمكن ضبط هذا الكلام به أن يثبت عنده ما لو كان قاضياً، لقضى بالقتل به، وهذا إقرارٌ أو قولُ عدلين، ولا يشترط مقامُ الشهادة، فإن الشهادة لا تقوم إلا في مجلس القاضي، ولا يشترط لفظُ الشهادة أيضاً، وإن كنا قد نشترط لفظ الشهادة في الإشهاد على الشهادة، فليتأمل الناظر هذه المضايق.
فإن قيل: هلا قلتم: يقع الاكتفاء باللوث الذي تبنى عليه البداية؟ قلنا: البداية نقلُ حجة من جانب إلى جانب، والأمر فيه قريب، والإقدام على الإقسام تعرّضٌ لإثبات القتل.
هذا ما لاح لي في كلام الأصحاب.
وفي كلام بعضهم ما يشير إلى الاكتفاء باللوث، وهو ساقط غيرُ معتد به.
ثم ألحق الأئمة بهذا الوليَّ لو كان جنيناً وجرى القتلُ، أو كان نطفةً قارّةً في الرحم، لم تتخلق، ثم انفصل وأراد الإقسام، فله ذلك، ثم البناء فيه على ما قدمناه.
10906- ثم قال رضي الله عنه: "وينبغي للحاكم أن يقول: اتق الله... إلى آخره".
إذا أردنا البداية بالمدعي، ينبغي أن يحذِّره القاضي ويقول: اتق الله، ولا عليه لو استقرأ قارئاً قولَه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا...} [الآية آل عمران: 77] ونؤثر في اللعان تحذير المتلاعنين، وذكرنا من قبل تخصيصَ كلمة اللعن والغضب بالأخذ على فم من يريد الجريان بها.
فأما ما عدا هاتين الخصومتين، فهل نؤثر للقاضي أن يحذر الخصم من الإقدام على اليمين الفاجرة؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنا نؤثر ذلك في كل يمين معروضة.
والثاني: أنا نؤثر للقاضي ذلك في الدماء، والفروج، والأمور الخطيرة، والضابط أن تكون الأيمان مغلّظة، على ما سيأتي كيفية التغليظ في موضعه من الدعاوى إن شاء الله، وما قل قدره من الأموال بحيث لا يسوغ التغليظ فيه فلا خلاف أنا نؤثر للقاضي التحذير من اليمين، وهذا على ظهوره فيه جريان التحذير من اليمين في الأمر الحقير مما قد يراه الناظر أهمّ، ولكن التحذير ركن التغليظ، وهو في معنى التفخيم والتعظيم، وإلا فلا منع للإنسان من حجته التي أثبتها الشارع له، بحيث لا يسوغ إلا شرع التحذير من اليمين.
فصل:
10907- إذا ادعى على رجل أنه قتل موروثه مع عدد لم يذكر مبلغهم، فإن كان القتلُ قَتْلَ مالٍ، فلا خلاف أن دعواه مردودة، فإنه لم يبيّن ما يخص المدعى عليه من المال، وإن كان القتل قتل عمد، بحيث يوجب القود لو ثبت بالإقرار أو البينة، فإن قلنا: لا يُستحق الدم بأيمان القسامة، فلا تسمع الدعوى؛ فإنه لا غرض والحالة هذه إلا إثبات المال، والقدر المدعى مجهول.
وإن قلنا: يثبت القود، فهل تُقبل الدعوى والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أن الدعوى مسموعة، فإن القصاص يثبت على هذا للمدعي كثر الشركاء أو قلّوا، عُرف عددهم أو جُهل. والوجه الثاني- أن الدعوى لا تسمع؛ فإن الأمر قد يؤول إلى المال.
والوجه عندي في هذا أن ينبني الخلاف على أن موجب العمد القود المحض، أو القود أو الدية:
أحدهما: لا بعينه؟ فإن قلنا: موجبه القود المحض، فالوجه القطع بقبول الدعوى؛ فإن الموجب هو القود لا غير، فإن ثبت المال، فعن تصرّفٍ في القود، وإن قلنا: موجب العمد أحدهما لا بعينه، فيحتمل الوجهان حينئذ.
فصل:
10908- إذا قال المدعي: جرح فلانٌ موروثي فلاناً، ومات من جرحه، فاعترف المدعى عليه بالجرح، وزعم أنه مات بسبب آخر، فإن سلّم قصر الزمان، فعليه أن يثبت سبباً، وإن لم يُثبت، قضي عليه بالقتل.
وإن ادعى طولَ زمان لا يكون فيه الجرح سبباً، فلا يخلو إما أن يكون الجرح في محل اللوث، وإما ألا يكون، فإن لم يكن الجرح في محل اللوث، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن القول قول المدعي؛ فإن الجرح سبب الموت على الجملة، فمن ادعى تعليقه به، ظهر صدقه مع يمينه. والوجه الثاني- أن القول قول المدعى عليه، فإن الأصل عدم الموت وبراءة الذمة.
وإن كان اللوث ظاهراً، فقد قطع العراقيون بأن المدعي مصدَّق، وهذا عندي هَوَسٌ؛ فإن الجرح متفق عليه، وليس المدعي يدعي غيرَه، ويدعي إفضاء الجرح إلى الموت، وقصر الزمان وطوله لا يختلف بقيام اللوث، فلو قال عدل واحد: مات على قرب من الزمان، ثبت اللوث في موضعه، ولا يثبت قرب الزمان إذا قلنا: القول قول من يدعي التراخي، فلا وجه لهذا التفصيل كيف فرض، والوجه إجراء الخلاف من غير تفصيل.
وهذا الذي ذكروه طرفٌ من اختلاف الجاني والمجني عليه في هذه الأنواع، وقد مضت هذه الفصول مستقصاة في موضعها على أبلغ وجه في البيان، فلا حاجة إلى الإعادة.
فصل:
10909- إذا ادعى رجل على رجل أنه انفرد بقتل أبي في الوقت الفلاني، فأقام المدعى عليه بينة أنه كان غائباً في ذلك الوقت، اندفعت الدعوى عنه، فلو أقر أحدٌ: بأني كنت شريكه في القتل، أو قال: أنا كنت المنفرد بقتله دون من ادعى عليه، فلو أن المدعي صدق هذا المقِرّ، وأراد مؤاخذته، بإقراره، وزعم أنه غلط في دعواه الأولى، فهذا ينبغي أن يدرج في تمهيد قاعدةٍ، فنقول: إن ادعى عليه أنه منفرد بالقتل، ثم ادعى مشاركةً أو انفراداً على خلاف دعواه الأولى، فالدعوة الثانية مردودة.
ولو أقر شخص بما يخالف الدعوى الأولى، فصدَّقه المدعي ونسب نفسه إلى الزلل أو تعمد الكذب، فالمذهب أن له مؤاخذة المقر؛ فإنهما اجتمعا على التصادق، وكذبه ليس أمراً بدعاً.
ومن أصحابنا من قال: ليس له مطالبة المقر؛ لأن دعواه إقرار منه ببراءة هذا المقر، فنؤاخذه بموجب قوله الأول، وسيأتي استقصاء ذلك في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولسيد العبد القسامة من عبده... إلى آخره".
10910- اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن العبد إذا قُتل، فهل للسيد أن يقسم عليه إذا كان القتلُ قَتْلَ لوث، فقال في أحد القولين: لا يقسم عليه؛ لأن مطلوبه المال. وقال في القول الثاني: يقسم عليه؛ فإن القسامة أثبتت تغليظاً لأمر الدم، واحتياطاً فيه، ودم العبد مضمون بما يصان به دم الحر؛ فإنه يتعلق القصاص به، ويُثبت خاصية النفس وهي الكفارة.
والقائل الأول قد يعارض ما ذكرناه بالأطراف؛ فإن القسامة لا تجري فيها وإن كانت مصونة عن الجناة بالقصاص، وسبيل الجواب عن الأطراف ما ذكرناه، من تعلق الكفارة بقتل العبيد.
وهذان القولان يقربان من القولين في أن قيمة العبد المقتول خطأ هل تضرب على عاقلة القاتل؟ وقد مضى ذكر ذلك.
ويجوز أن يقال: ليس هذا مأخوذاً من الضرب على العاقلة؛ فإن العواقل يتحملون أروش الأطراف، وإن كانت القسامة لا تجري فيها.
وذهب بعض أصحابنا إلى القطع بإجراء القسامة في قتل العبيد، نظراً إلى تعلق الكفارة بقتلهم.
ثم القول في الإقسام على بدل المدبّر، وأم الولد إذا قتلا كالقول في العبد القنّ، والمكاتبُ إذا قُتل، فإنه يموت رقيقاً والكتابة تنفسخ.
10911- ثم قال الشافعي: "ويُقْسم المكاتب في عبده... إلى آخره".
إذا فرعنا على الأصح، وهو أن القسامة تجري في قتل العبد، فالمكاتَب إذا قُتل عبدُه قَتْل لوثٍ، كان له أن يقسم، فإن أقسم ثم عجز ورَقَّ، اكتفى سيده بأيمانه وأخذ القيمة، وإن نكل المكاتب عن اليمين، ثم عجز، لم يكن له أن يُقسم، ولو لم يتفق منه إقدام على الإقسام ولا نكول، فقد قال الأصحاب: للسيد أن يقسم، وشبهوا ما ذكرناه من الأحوال بنظائرها في الوارث والموروث، فقالوا: إذا قُتل عبد لإنسان، فأقسم عليه، فقد ثبتت قيمته، فإذا مات المقسِم، قام ورثته مقامه في استيفاء ما استحقه. وإن نكل السيد عن أيمان القسامة ومات، وأراد
ورثته أن يقسموا، لم يكن لهم ذلك، ولو لم يتعرض السيد حتى مات، فللورثة أن يبتدروا القسامة.
وعلى الناظر في ذلك أدنى توقف؛ فإن القسامة مقصودها إثبات القتل، ولقد جرى القتل ولا حق للورثة يُنزلهم منزلة الموروث لو بقي، وعلى هذا الأصل أثبتت عُهد العقد، فإن وارث المشتري يرد المشترَى بالعيب، وإن لم يكن هو المشتري، وإنما استفاد الملك بالإرث، وملكُ الإرث لا مرد له، ولكن الحقوق تورث كالأملاك على تفاصيلَ يعرفها أهلها، والمشتري كما يورّثهم الملكَ ورثهم حقوق العقد، كذلك كانت القسامة حقاً للموروث، فإذا مات قبل الإقدام عليها ورث الورثةُ حق القسامة، وإذا كان هذا في المواريث، فالسيد في عبد مكاتَبه أقربُ إلى خلافة الموروث؛ فإن المكاتب رقيق السيد قنّاً، فإذا عجز، قام السيد مقامه، وليس كذلك إذا نكل، فإن الحق بطل بنكوله حيث كان الحق له.
10912- ومما يجب التعرض له ضبط ما يساوي العبد فيه الحر، وما يختلف فيه فيما يتعلق بالقتل، والغرض التساوي في القواعد لا التكافؤ في الأشخاص، فنقول: قتل العبد كقتل الحر في القصاص والكفارة، والعبد كالحر في أن إقراره مقبول فيما يوجب القصاص عليه، وأطرافه في القصاص كأطراف الحر، واختلف القول في ضرب قيمته على العاقلة، وكذلك اختلف القول في جريان القسامة، وظاهر النص أن أطراف العبد من قيمته، كأطراف الحر من ديته، وفيه قول خرجه ابن سريج أن الواجب في أطرافه نقصان القيمة، وبدله غير مقدّر شرعاً، بخلاف بدل الحر، فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
فصل:
قال: "ولو قُتل عبد لأم ولدٍ... إلى آخر الفصل".
10913- نُقَدِّم على الغرض تجديدَ العهد بأن العبد هل يملك بالتمليك؟ وفيه قولان ذكرناهما توجيهاً وتفريعاً في كتاب البيع، ونحن نفرع على القولين في غرضنا، ثم نخوض في مقصود الفصل، فنقول: إذا ملّك السيد عبده عبداً فقُتل العبد الثاني قتلَ لوثٍ، فإن قلنا: لا يملك العبدُ، فإذا ملّك السيد عبدَه عبداً يُقسم على القول الأصح، فمن قُتل عبدٌ من عبيده.
وإن قلنا: العبد يملك بالتملّك، فأول ما نذكره أن من ملّك عبده عبداً أو عَرْضاً من العروض، فأُتلف ذلك الذي يملكه العبد، والتُزِمت القيمة بالإتلاف، فهل نقول: يزول ملك العبد المملّك، وتكون القيمة ملكاً للسيد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: وهو الأفقه أن القيمةَ ملكُ السيد، فإنه لم يملك عبده إلا العينَ، وقد فاتت العين، والقيمةُ مملوك آخر تَخْلُفُ العينَ المتلَفة، وملك العبد عُرضةُ الاسترداد، فلو لَحِق العبدَ تغيّر بعتقٍ أو بزوال الملك إلى متملك آخر، فما كان ملّكه مولاه يتخلّف عنه، وينقلب إلى ملك المولى، فقياس هذا أن التغير في العين بالإتلاف والرجوع إلى القيمة يوجب انقطاع ملك العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا ينقطع ملك العبد، وحقه قائم في قيمة العين المتلفة إلا أن يرجع السيد فيها.
فإن قلنا: لا ملك للعبد في قيمة العبد المقتول، فيثبت للمولى حقُّ القسامة؛ فإن القيمة تثبت له، وانقطع ملك العبد عنه.
وإن قلنا: القيمة ملكُ المالك، فهل له أن يقسم؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يقسم لبقاء ملكه في القيمة، والثاني: أنه لا يقسم لضعف ملكه، والقسامة تستدعي ملكاً قوياً وسلطنة واستيلاءً، وليس القِنّ في هذا بمثابة المكاتب؛ فإن المكاتب له حق الاستقلال في تصرفاته، وإنما يمتنع عليه التبرعات على تفاصيلَ مشهورة.
ثم فرع العراقيون على الوجهين وقالوا: إذا قلنا: لا يقسم، فالسيد لا يقسم أيضاً، فإن حصل القتل كما ذكرناه، فاسترجع المولى القيمة، فإنها تنقلب إلى ملكه، فإذا عادت القيمة إلى ملكه، فقد قالوا: لا يقسم السيد؛ فإن العبد لما قتل، لم يكن ملكاً للسيد، فلم تنقلب القيمة إليه، ولما رجعت، فهذا حق جديد يثبت له، فلا يقسم.
وفي المسألة أدنى احتمال، فيجوز أن يجعل السيد كالخَلَف عن العبد كما ذكرناه في الوارث والموروث. وهذا فيه نظر: يجوز أن يقال: إن جوزنا للعبد أن يقسم، فإذا استرد السيد القيمة، فله أن يقسم على مذهب الخلافة، وإن قلنا: ليس للعبد أن يقسم، فليس للسيد أن يقسم أيضاً؛ فإن هذا الحق لم يثبت للعبد، فكيف يخلفه السيد فيه بخلاف الوارث والموروث، وليس من الفقه أن نصور موروثاً ليس من أهل القسامة يورث، فإن حق القسامة ثابت له، ولكنه عاجز عن استيفائه، فيخلفه الوارث ويستوفيه إذا كان أهلاً للاستيفاء، فإذا ثبتت هذه المقدمة، عدنا إلى
مسألة الكتاب.
10914- لو قتل عبدٌ لأم الولد، ولم نُرد عبداً تملكه أمُّ الولد؛ فإنه على الجديد نُفرّع، ومذهبه أن أم الولد لا تملك، وإن ملّكها المولى، فالمعنيُّ بقوله: لو قتل عبدٌ لأم الولد أن يقتل عبدٌ هو برسم أم الولد يُدعى بها ويعزى إليها، فإذا قتل مثل هذا العبد-والتفريع على الجديد- فإنها لا تقسم، ويقسم المولى؛ فإن العبد مملوكُه، وإن قتل عبد من عبيد المولى-ولا أثر لكونه برسم أم الولد إذا قلنا: إنها لا تملك-فلو أوصى السيد بقيمة ذلك العبد لأم الولد، والثلث وافٍ، فالوصية صحيحة؛ لأنها تستحقها بوفاة المولى، وهي تَعتِق بالوفاة، فلو أقسم المولى، ثم مات، صرفت القيمة إليها.
وإن لم يقسم حتى مات، ولم يفرض منه نكول، قال الشافعي: والأصحاب معه: للورثة أن يقسموا، وإذا أقسموا، صرفت القيمة إليها.
فإن قيل: كيف يقسم الورثة وأم الولد إذا قبلت الوصية، ملكت القيمة، والورثة إذا أقسموا بالوراثة، كانوا مقسمين على قيمة هي ملك غيرهم، فكيف ينتظم هذا؟
وهذا السؤال ليس مما يستهان به، وسبيل الجواب عنه أن الورثة خلفوا الميت، ولا تختص خلافتهم عنه بما يملكون إرثاً؛ فإنه لو مات ولم يخلف تركة، وكان عليه دَيْنٌ فإذا قضاه الوارث، فعلى مستحق الدين أن يقبله، بخلاف ما لو تبرع أجنبيّ بقضاء دين الميت؛ فإنه لا يجب على مستحق الدين قبوله.
وغالب ظني أني رأيت لبعض الأصحاب خلافاً في الوارث أيضا-إذا لم يخلِّف مَنْ عليه الدين شيئاً- وينزله منزلة الأجنبي المتبرع بقضاء الدين.
فيرجع تحصيل القول في تعليل إقسام الورثة إلى أن الموروث إذا أوصى، فيظهر في غرض الوارث التشهِّي في تحقيق مراده، وتنفيذ وصيته، فثبت لهم- لظهور هذا الغرض بحق خلافة الوراثة- الإقسامُ، والدليل عليه أنهم يقسمون إذا لم تكن وصية، مع القطع بأنهم لم يكونوا ملاك العبد لما قتل في حياة الموروث، ويقسمون ويستحقون، وما كان ثبت شيء من استحقاقهم بالقتل، وإذا ثبت القتل، تضمّن ثبوتُه استنادَ ثبوت حق الموروث إلى حالة القتل، وكأنهم تم ترتيب إرثهم على ثبوت حقه، وهذا لا يحال إلا على حق الخلافة. هذا هو الممكن في تعليل إقسام الورثة.
10915- وأمُّ الولد وإن كانت قد قبلت الوصية، وملكت القيمة لا تقسم ابتداء، لأنه ليس تستحق القيمة بخِلافةٍ، وإنما تستحقها بوصية، وقتُ نفوذها الموتُ، ولسنا ننكر أن الوصية يترتب نفوذها على ثبوت ملك الموصي، ولكن انتفت الخلافة، فلو حلفت حلفت على أمرٍ ناجزٍ لا استناد له.
ومن ظن أن إقسام الورثة يؤخذ من ثبوت الملك لهم في الموصى به أولاً، فقد أبعد، فإنّ الشافعي قطع القول بإقسام الورثة، واتفق الأصحاب على ذلك، وأقوالهم مختلفة في ملك الموصى به قبل قبول الوصية، ثم يلتزم هذا القائل أن يقسموا قبل القبول، ولا يقسموا بعده، وهذا لا صائر إليه، ولا قائل به.
ثم لو فرعنا على أن الملك للورثة قبل القبول، فهو أضعف الأملاك حتى قيل: إنه تقدير ملك، وليس يتحقق، وسبب التقدير أنا لا نجد بداً من إسناد الملك إلى مالك قبل القبول، والإقسام على تقدير الملك بعيد، ولم نذكر هذا ليكون مذهباً، ولكن كشفنا إمكاناً وأبطلناه، وانتظم اتفاق الأصحاب على أن الورثة يقسمون قبل القبول وبعده.
فإن قيل: لو أوصى رجل لرجل بعين من أعيان ماله، ثم مات الموصي، وادعى مدَّعٍ استحقاقاً في العين الموصى بها، فهل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية، أم كيف السبيل فيه؟ قلنا: هذا فيه تردد، وفضل نظر: يجوز أن يقال: الوارث يحلف حتى إذا انتهت الخصومة، استُحقّت الوصية.
ويتجه أن يقال: إذا قبل الموصى له الوصية، ثم ظهرت الدعوى، فالخصومة تتعلق بالموصى له؛ فإنه مَلَك العين، واستبدَّ بها في ظاهر الحال، فيتعلق النزاع به، وتتوجه الدعوى عليه، وليس كصورة القسامة، فإنها من خواص القتل، وحقها أن تستند إلى القتل، ولا ترتبط دعوى الاستحقاق إلى ما تقدم، فيحمل الأمر على الحال، وهذا فقيهٌ حسن.
وإذا قلنا: تتعلق الخصومة بالموصى له بعد القبول، فيتردد الرأي في تعلق الخصومة بالورثة قبل القبول. وهذا الآن يُحوج إلى مزيد نظر، وستأتي الدعاوى في الوصايا وغيرها في موضعها-إن شاء الله عز وجل- وإنما نجّزتُ هذا القدرَ لتميز مسالة القسامة عما عداها.
10916- ويعود-الآن بنا- الكلامُ إلى القول في القسامة، فإن أقسم الورثة، صرفت القيمة إلى أم الولد، ولو نكل الورثة عن أيمان القسامة، فهل لأم الولد أن تُقسم وتأخذ القيمة؟ فعلى قولين:
أحدهما: ليس لها ذلك؛ لأنها تأخذ ما يثبت ملكاً للموصي وليس إليها إثبات ملك الموصي.
والثاني: لها أن تحلف؛ لأن مآل الاستحقاق إليها.
وهذان القولان يجريان فيما لو أقام الوارث شاهداً واحداً على إنسانٍ بدين لأبيه، وكان الأب مديناً، فإذا لم يحلف الوارث، فهل يحلف الغرماء؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يحلفون؛ لأن إثبات الملك ليس إليهم، والثاني: أنهم يحلفون؛ لأن مصير الملك إليهم؛ فإن ما يثبت تركةً للمديون، فهو مصروف إلى ديونه، فإن قيل: هلا رتبتم تحليف أم الولد على تحليف الغرماء، وجعلتم أم الولد أولى بالحلف من جهة أن استحقاقها تعلق بعين القيمة، فهي تقسم على ما ملكته، وهذا لا يتحقق في التركة وحقوق الغرماء؛ فإن الغرماء لا يملكون التركة، بل للورثة أن يؤدوا ديونهم من أموال أنفسهم ويستخلصوا التركة؟
قلنا: هذا على حالٍ وجهٌ في الفرق، ولكن لا فقه فيه؛ فإن حصول الملك في القيمة لا يوجب حق الإقسام، ولو كان على هذا معول، لأقيمت أم الولد ابتداء دون الورثة، ولكن القسامة تُثبت القتل؛ إذ هي من خصائصه، ولا حق للمستولدة حال أثبتنا للورثة القسامة، فليس يتحتم عليهم أن يحلفوا، وإن كانوا على بصيرة وعلم، ولا تجب الأيمان قط.
ولو ظن ظان أن في إقسامهم تنفيذَ وصية، وعليهم القيام بتنفيذها، كان ذلك كلاماً مضطرباً، فإن الذي على الورثة ألا يمنعوا ولا يمتنعوا، فأما أن يسعَوْا ويبذلوا من عند أنفسهم أمراً بالتنفيذ، فهذا غير محتومٍ عليهم.
10917- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو لم يقسم الورثة، لم يكن لهم ولا لها شيء إلا أيمان المدعى عليهم " هذا لفظ الشافعي مست الحاجة إلى إيراده لتعلق الأصحاب به لاستتمام الكلام في المسألة: فإذا لم يقسم الورثة، وقلنا: لا تقسم أم الولد، أو قلنا إنها تقسم، فمن الذي يوجه اليمين على المدعى عليه، ويثبت له حق الانتصاب في مقام الدعوى والطلب؛ فإن القسامة وإن لم تجر، فالخصومة لا تتعطل؟ ظاهر النص أن لأم الولد الطلبُ، وللورثة الطلب، ونصُّ الشافعي في صدر الفصل يدل على أن أم الولد لا تقسم، وإن نكل الورثة عن القسامة، فليفهم الطالب هذين من كلام الشافعي.
10918- وإذا ثبت هذا، عدنا إلى تصرف الأصحاب في الدعوى وتوجيه الطلب، قال طوائف من المحققين: الدعوى وتوجيه اليمين على المدعى عليه مأخوذ من القسامة، وقد قلنا: للورثة أن يقسموا، فلهم أن يطلبوا اليمين من المدعى عليه؛ فإنهم إذا تسلطوا على أيمان القسامة للعلّة التي ذكرناها، فلهم حق الدعوى وطلب اليمين لتلك العلة، هذا قولنا في الورثة.
فأما أم الولد، فإن قلنا: إنها تقسم لو نكل الورثة، فيثبت لها حق الدعوى والطلب، وإن قلنا: إنها لا تقسم، فليس لها حق طلب اليمين؛ فإن طلب اليمين إنما يثبت لمن نحلِّفه يمينَ الرد لو فرض نكول المطالَب، فإن قلنا: أم الولد لا تحلف، لم يكن لطلبها اليمين معنىً، فإنها لو طلبت، لنكل الخصم، ثم لا يُقضى بالنكول، ولا ترد اليمين.
وإن قلنا: اليمين مردودة عليها، فينبغي أن تكون من أهل أيمان القسامة أيضاً.
هذا مسلك الأصحاب.
والمسلك الحق عندنا أنه يثبت حق الطلب لأم الولد، وهذا نصّ الشافعي، فأنه قال: "ليس لها ولا لهم إلا أيمان المدعى عليهم " وقد ذكرنا أن النص دال على أن أم الولد لا تقسم، فاقتضى مجموع ذلك أنها وإن كانت لا تقسم، فلها طلب اليمين من المدعى عليه، وتعليل ذلك من جهة المعنى أن القسامة مقصودها إثبات القتل، وهي من خواص القتل لا يثبت بها غيره، وأما إذا استقر الملك في القيمة، فادعته أم الولد بعد قبول الوصية، فإنما تدعي ملكاً لها محققاً، ولا حاجة في تجويز الدعوى إلى إثبات جهة الاستحقاق، ثم الوجه إذا جوزنا لها أن تحلّف المدعى عليه أن تردّ اليمين عليها إذا نكل المدعى عليه، وليس تحليفها يمين الرد بمثابة أيمان القسامة؛ لما أشرنا إليه من أن القسامة لا تُثبت إلا القتل، ويمين الرد يثبت الملك الناجز من غير حاجة إلى الالتفات على سابق.
والذي يكشف الحق فيه أن الدعوى في الملك تُسمع مطلقة، ودعوى الدم لا تسمع مع أيمان القسامة مطلقة، بل يجب التعرض في أيمان القسامة للتفصيل، وإذاً الصحيحُ عندنا أن أم الولد تطلب يمين المدعى عليه، وإذا نكل، ردت اليمين عليها ولا تعلق لهذا بالقسامة؛ فإن أيمان القسامة من خصائص القتل، وطلب يمين المدعى عليه والإقدام على يمين الرد بعد نكوله من أحكام الخصومات المتعلقة بالملك الناجز وهي المالك للقيمة.
ثم من تمام الكلام في هذا أن من بنى حق طلبها على أنها تقسم، لزمه أن يقول: إنما تدعي المستولدة وتطلب اليمين إذا لم يطلب الورثة، حتى يترتب طلبها على تركهم، كما أنها لا تحلف أيمان القسامة ابتداء، وإنما تحلف إذا نكل الورثة، هذا لابد منه.
وإذا قلنا: لها حق الطلب، وإن كانت لا تقسم، وهي الطريقة المرضية، فتبتدىء الطلب والدعوى من غير حاجة إلى انتظار إعراض الورثة عن الطلب.
10919- والذي يغمض في هذه الطريقة طلب الورثة ودعواهم، وليس الملك لهم، وقد ذكرنا أن هذه الخصومة متعلقها الملك الناجز، ولا ملك لهم، وإنما الملك للمستولدة، ولكن الشافعي رضي الله عنه نص على أن لهم أن يدّعوا ويطلبوا، واتفق الأصحاب على ذلك، وأنا أذكر وجهه بتوفيق الله.
فأقول: دعواهم تصدر منهم على وجه لو أرادوا الإقسام لأقسموا، فإذا نكلوا، بطلت اليمين لتتميم خصومة القسامة، فلهم أن يقسموا للخصومة، حتى لو كان القتل بحيث لا تثبت القسامةُ فيه، فيبعد حينئذ أن يثبت لهم ابتداء الدعوى إلا على تأويل السعي في تنفيذ الوصية، وتحصيل غرض الموروث، وهذا الطرف في نهاية الاحتمال؛ فإن الورثة إذا لم يقسموا في محل القسامة، وقلنا أم الولد لا تقسم، فقد قال الشافعي بعد ذلك: "لهم ولها أن يحلِّفوا المدعى عليه " وإذا فرض النكول عن أيمان القسامة، التحقت الخصومة بصورة لا قسامة فيها. هذا وجه، ويحتمل غيره وقد نبهنا على جميع المسالك.
فصل:
قال: "ولو جرح رجل، فمات مرتداً... إلى آخره".
10920- إذا جرح مسلم مسلماً، فارتد المجروح ومات، أو قتل مرتداً، بطلت القسامة هكذا نقل المزني، وهو صحيح، ولكنه اعتل بعلة فاسدة، فقال: بطلت القسامة، لأن ماله فيء، وهذا التعليل غير سديد، والقسامة لا تبطل به، والمعنى المعتمد في إبطال القسامة أنه إذا مات مرتداً، فقد مات وروحه مهدرة غير محترمة، وإنما يجب الضمان بالجرح، والقسامة لا تجري في أروش الجراحات، فهذا تعليل بطلان القسامة.
ولو جرح مسلماً، فارتد، ثم عاد إلى الإسلام ومات مسلماً من سراية الجراحة، فالقول في وجوب القصاص، ثم في وجوب الدية تقدم مستقصىً في أول الجراح.
والقدر الذي تمس الحاجة إلى إعادته أنا إن أوجبنا القصاص في النفس، فلا شك في وجوب تمام الدية، ثم لا ريب في جريان القسامة، وإن لم نوجب القصاص، ففي كمال الدية خلاف، وإن لم نوجب الدية الكاملة، ففي مقدار ما نوجب خلاف.
فإن أكملنا الدية، جرت القسامة في محلها على شرطها، وإن أوجبنا بعضاً من الدية، ففيما نقله بعض الأثبات عن القاضي أن القسامة لا تجري، وهذا صحيح عندنا، والوجه إجراء القسامة، لأن الواجب ضمان الروح، فإن أهدرنا البعض بسبب اقتضى الإهدار، فالذي أوجبناه هو في مقابلة الروح.
وإن طلب طالب لما حكيناه عن القاضي وجهاً، فالممكن فيه أن القسامة تثبت مائلة عن سَنَنِ القياس، وإنما صح النقل فيها إذا كانت الروح محترمة مضمونة بكمالها، وإذا تطرق الإهدار، وكان البعض من الروح هدر، والبعض مضمون، وهذا غضٌّ ظاهر من حرمة النفس، فيلتحق هذا الضمان بالأطراف.
فإن قيل: ماذا ترون في الكفارة في هذه الصورة؟ قلنا: الظاهر وجوب الكفارة؟ فإنا نقول: إذا اشترك جماعة في قتل إنسان، فيجب على كل واحد منهم كفارة تامة، وإن لم ينتسب إلى تمام القتل، فيجب أن يكون الأمر كذلك هاهنا، وقد يَفْصِل الفاصل بأن جملة الروح محترمة في مسألة الشركاء وتبعيضها عسر، وهاهنا جملة الروح ليست محترمة، وإيجاب الكفارة والحرمة غير تامة بمثابة تقدير الكفارة في الأطراف وهذا بعيد.
والوجه إيجاب الكفارة. نعم، سنذكر قولاً بعيداً في أن الشركاء تلزمهم كفارة واحدة مفضوضة عليهم، فعلى هذا إذا تبعضت الدية إهداراً وإيجاباً، أمكن أن نقول على القول البعيد: يجب بعض الكفارة على قدر الواجب من الدية، وكل ذلك بيان الطرق، والأصل ما قدمناه.
ولو جرح رجل مرتداً ثم أسلم، فجَرحَه بعد الإسلام جراحة أخرى، ومات من الجرحين، فالدية تتبعض، وفي القسامة من الكلام ما تقدّم والكفارة تساوق القسامة في موجب هذه القاعدة، فلو قال قائل: إذا مات مسلماً، فهو محترم حالة ثبوت الموت، قلنا: ومع ذلك يجب قسط من الدية، ولو لم يُجدّ جرحاً بعد الإسلام، ومات من الجرح الذي جرى في الردة فهو هدر، وإن مات مسلماً فهذا منتهى القول في ذلك.
فصل:
قال: "فإن جرح وهو عبد، ثم أعتق، ثم مات حراً... إلى آخره".
10921- هذه المسألة تستند إلى أصولٍ: منها- إن القسامة هل تجري في العبيد، وقد قدمنا في ذلك قولين. ومنها- إن الأيمان هل توزع على المدّعين، أم يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً؟ وهذا سيأتي مستقصىً في بابٍ، إن شاء الله. ومنها- إن العبد إذا جرح فعَتَق، ثم مات، فكم يستحق السيد من ديته؟ وقد مضى هذا مستقصًى في كتاب الجراح.
10922- فنعود ونقول: عبدٌ قطعت يدُه، ثم عَتَق ومات، فعلى الجاني ديةُ النفس؛ نظراً إلى المآل، ثم إذا كانت الدية مثلَ نصف القيمة، أو أقل، فالكل للسيد، ولا حق للورثة.
فإن جرت الجناية مع اللوث، ومست الحاجة إلى إثباتها بأيمان القسامة، فالمذهب الظاهر أن السيد يقسم ويستحق.
والأَوْلى في الترتيب أن نقول: إن أثبتنا للسيد حقَّ القسامة على عبده المقتول على رقه، فلا شك أنه يُقسم فيما نحن فيه، وإن قلنا: لا يقسم السيد على عبده الرقيق، فهل يقسم إذا جرت الجناية في الرق وأفضت إلى الهلاك في العتق؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يقسم؛ لأنه إنما يستحق بجهة الرق، فلا نظر إلى حصول العتق في المآل، ولو كان بالعتق معتبر، لقطعنا استحقاقه؛ فإن السيد يبعد أن يستحق من دية حرٍّ بحق الرق السابق، وإن أثبتنا الاستحقاق، كان ذلك استدامةً لحكم الرق، فتكون القسامة على هذا الشخص بمثابة القسامة على العبد القِنّ.
ومن أصحابنا من قال: يقسم؛ فإن القتيل حر، ثم لا نظر إلى السبب الذي به يستحق المولى ديته، وإنما الاعتبار بالحال التي مات عليها.
وهذا التردد للأصحاب يشير إلى غامضة في المذهب قد تناهينا في بيانها، وهي أن الواجب دية، والدية بدل حر، والرق قد زال بالعتق، وأخْذ أرش جزء من الرقيق من دية حر مشكلٌ، والقدر الذي يتعلق بهذا الكتاب ما أتينا به، والباقي مذكور في موضعه من كتاب الجراح.
هذا إذا كانت الدية مثل أرش الجناية على الرقيق أو أقل منها، والتفريع على أصح القولين فيما للسيد، فلا معنى للتطويل بذكر القول الآخر.
10923- ولو كانت الدية أكثرَ من حق السيد، فالفاضل من حق السيد مصروف إلى ورثة هذا العتيق، والتفريع على أن السيد يقسم، والورثة لا شك يقسمون، وينشأ من هذا الموضع اختلاف القول في أن كل واحد منهم كم يحلف؟ وفيه قولان: سيأتي ذكرهما في بابٍ مفرد:
أحدهما: أن كل واحد يقسم خمسين يميناً، قلّت حصته أو كثرت، والقول الثاني- أنهم بجملتهم يقسمون خمسين يميناً، وسيأتي كيفية الفضّ وما يقتضيه من بيان.
ولو نكل بعض من أثبتنا له حقَّ القسامة عن اليمين، فإن كان التفريع على أن كل واحد يحلف خمسين يميناً، فلا إشكال، ويحلف من يريد خمسين يميناً، ويستحق حصته، وإن قلنا: نفُضُّ خمسين يميناً عليهم، فإذا نكل بعضهم، فأراد الباقون أن يقتصروا على ما كان بحصتهم من أعداد الأيمان لو توافقوا على الإقسام، لم يكن لهم ذلك، بل إن أرادوا إثبات حصصهم، فليُخرجوا الناكلَ من الاعتبار، ولْيحلفوا فيما بينهم خمسين يميناً، حتى لو نكل الورثة وأراد الولي أن يقسم، فليقسم خمسين يميناً؛ فإنه لا سبيل إلى إثبات استحقاق شيء من بدل الدم بدون الخمسين، وكل
ذلك يأتي مشروحاً من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فاصل
قال: "ولو لم يقسم الولي حتى ارتد... إلى آخره".
10924- الولي إذا ورث دية القتيل، ثم ارتد، فأراد أن يقسم وهو مرتد، فهذا ينبني على أقوال ملك المرتد، فإن قلنا: ملك المرتد لا يزول بالردة، وإنما يزول إذا قتل أو مات مرتداً، فيُقسم في ارتداده، وتثبت الدية.
وإن قلنا: ملكه زائل، فإذا عاد إلى الإسلام، تجدد ملكه بعد الزوال، فلا يتصور منه أن يقسم في ردّته.
وإن فرعنا على أن ملكه موقوف، والشافعي في معظم مسائله يفرع على قول الوقف، وظاهر النص أنه يحلف، ثم إن عاد، فالملك له في الدية، فإن أصر "حتى مات أو قتل على ردته، تبينا أن ماله فيء، وصرفنا الدية مع جميع أمواله إلى أهل الفيء.
وهذا فيه إشكالان: نبدأ بأوقعهما- ظاهر النص يدل على أن الدية تثبت لأهل الفيء بأيمان المرتد، وهذا إن كان تفريعاً على قول الوقف، فهو مشكل جداً؛ فإنه إذا مات مرتداً، تبيّنا أن ملكه زال بنفس الردة، والأيمان التي أجراها في الردة وقعت بعد زوال ملكه، فيبعد كل البعد أن تثبت الدية لأهل الفيء بأيمانه، وظاهر النص يدل على التفريع على قول الوقف؛ فإنه إذا ارتد وأقسم وُقفت الدية، ثم ذكر مصرف الدية في العاقبتين.
فمن أصحابنا من قال: هذا تفريع من الشافعي على أن الملك لا يزول بالردة، وقوله: وُقفت الدية محمول على حجر السلطان على المرتد، وإن قلنا: لا يزول ملكه والعلماء يطلقون الوقف، ويريدون به ضرب الحَجْر، فتستمر المسألة، وتخرج على سَنَن القياس في العاقبتين: عاد إلى الإسلام أو مات على الردة.
ومن أصحابنا من أجرى هذا على قول الوقف، ثم حاول الانفصال عن الإشكال، فقال: الولي وإن ارتد، فهو الوارث أولاً، والقسامة تستند إلى حالة القتل، وليست خصومة ناجزة، ويشهد لهذا قولنا: للورثة أن يقسموا على قيمة العبد المقتول، وإن كانت موصى بها لأم الولد.
وهذا على حالٍ مشكل؛ فإن ما قدمناه في ورثة السيد محمول على سعيهم في تنفيذ وصيته، ويبعُد حملُ الأيمان للمرتد على تثبيت شيء لأهل الفيء. هذا أحد الإشكالين.
10925- الثاني أنه لو أقسم-والتفريع على قول الوقف- ثم عاد إلى الإسلام، فقد يعترض في هذه الحالة أنا إذا كنا نفرع على قول الوقف، فكيف يجوز للمرتد أن يقدم على القسامة، وهو على التردد في أنه مالكٌ للدية أم لا؟ وهذا أهون.
والأصحاب مجمعون فيما أظن على أنه يقسم في حالة الردة ولا بُعد في جريان الأيمان على التردد في الاستحقاق، وسيأتي لهذا نظائر في إقسام الورثة وفيهم خنثى أو بعضهم غُيّب، فإنا قد نحلّف الشخص خمسين، وهو على تردد في استحقاق بعض ما أقسم عليه، والأمر على الجملة محمول على استدامة ملكه، وعدّ الردة الطارئة عارضاً مُزالاً بالسيف؛ فإن المرتد لا يترك على إصراره.
وسيكون لنا إلى هذا عودة إن عدنا لما استشهدنا به من أحكام الورثة.
فصل:
قال: "والأيمان في الدماء مخالفة لها في الحقوق... إلى آخره".
10926- قد ذكرنا اختلاف القول في أن القتل إذا لم يكن مقترناً بلوثٍ ظاهر، واقتضى الحال البداية بالمدعى عليه، فإنا نحلّفه يميناً واحدة، أو خمسين يميناً؟ فأحد القولين أنا نحلّفه خمسين يميناً، تغليظاً لأمر الدماءِ، وتفخيماً لشأنها على أي وجه فرضت البداية، فإنا إن كنا نرى التغليظ على المدعي إذا وقعت البداية به احتياطاً حتى لا يقدم على الأيمان مجازفاً، فيجب أن نحتاط للدماء في تحليف المدعى عليه؛ حتى لا يُقدم على اليمين الواحدة مستهيناً بها، وقد نص الشافعي على هذا القول هاهنا.
والقول الثاني- أن اليمين الواحدة كافية، والعدد في أيمان القسامة في مقابلة إمالتنا للأيمان عن منصبها وجانبها الثابت في الحكومات، فإذا جرت الأيمان على قياس الخصومات، فلا معنى لتعديدها، فإن عدد اليمين قريب من عدد الإقرار، وقد ذكرنا أن الأقارير لا يشترط تعددها، وقد يتوجه هذا أيضاً بأن العدد في أيمان القسامة مأخوذ من النصّ معدول عن القياس، ولا يتعدى بها موضعها.
10927- ومما ذكره الأئمة أن المدعى عليه لو اعترف بالقتل وأنكر كونه عمداً وأقر بصَدَر القتل منه خطأ أو على صورة شبه العمد، فإذا أراد المدعي تحليف المدعى عليه على نفي العمد، فهل تتعدد الأيمان؟ قالوا: إن قلنا: لا تتعدد اليمين على أصل القتل، فلا تتعدد على صفة القتل، وإن قلنا: اليمين تتعدد على أصل القتل لو أنكره، ففي تعدد اليمين في صفة القتل وجهان؛ فإن الموصوف آكد وأحرى بالتعظيم من الصفة.
وهذا فن من الكلام لا أرغب فيه ولا أقيم لمثله وزناً؛ فإن الصفة إذا كانت تُثبت القصاص لو ثبتت، فقدرها عظيم، وأصل القتل لو ثبت خطأ، فماَله الدية والكفارة، ولو اعترف المدعى عليه بالقتل، وقلنا: القود يناط بأيمان القسامة، وقد جرى اللوث مقترناً بالقتل، فلا خلاف أن المدعي يقسم خمسين يميناً على إثبات كون القتل عمداً، فإن قيل: كيف يقوم اللوث على العمد؟ قلنا: وهل يقوم اللوث إلا على العمد؟
ثم إذا كان يقسم على أصل القتل وكونه عمداً، فإقرار المدعى عليه بالقتل وادعاء الخطأ لا يمنعه من الإقسام، وهذا بيّن لا خفاء به.
فإن لم يكن لوثٌ وقد اعترف المدعى عليه بالقتل خطأ، فإن اعترفت العاقلة أيضاً فالدية مضروبة عليهم، وإن أنكروا، فالدية مضروبة على المدعى عليه في ماله، فلو أنكر الدعوى ولم يقر، وعرضنا عليه اليمين فنكل، ورددنا اليمين على المدعي فحلف يمين الرد، فالدية تثبت. والمسألة مفروضة فيه إذا كان المدعَى خطأً.
10928- ثم الدية تضرب في مال المدعى عليه، أو على عاقلته؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في المسألة قولان مبنيان على أن يمين الرد تنزل منزلة البينة أو تنزل منزلة إقرار المدعى عليه، فإن قلنا: إنها كالبينة، فالدية مضروبة على العاقلة، كما لو شهدت بينة عادلة على وقوع القتل خطأ، وإن قلنا: يمين الرد بمثابة إقرار المدعى عليه، فالدية مضروبة على المدعى عليه إذا أنكرت عاقلته، كما لو أقرّ.
هذه طريقة أيضاً مشهورة.
والذي ذهب إليه المحققون أن الدية لا تضرب على العاقلة، وإن قلنا: يمين الرد تنزل منزلة البينة؛ والسبب فيه أن يمين الرد لا يجوز أن تقدّر مشبهة بالبينة في حق غير المستحلَف، وسر ذلك أن الخصومة لا تعلق لها بالعاقلة، فيبعد تنزيل غير البينة منزلة البينة في حقوقهم، ولا يمتنع أن يكون المدعى عليه عالماً بأنه لو أقر، لضربت الدية على ماله، فينكر، ثم ينكل ليحلف المدعي يمين الرد، فيكون ذلك تذرعاً منه إلى ضرب العقل على العاقلة من غير بينة حقيقية، مع إصرارها على الإنكار.
فإن قيل: إذا كنتم ترون أن يمين الرد لا يكون كالبينة في حق العاقلة، فهل لتنزيلها منزلة البينة حكم؟ وهل ينتج ذلك فائدة؟ قلنا: نعم، سنبين ذلك في الفصل المتصل بهذا؟ فإذ ذاك نجمع بين ما أنكرناه الآن وبين ذكر الفائدة.
10929- ثم قال الشافعي: "وسواء في النكول المحجور عليه وغير المحجور عليه... إلى آخره".
أراد الشافعي بالمحجور عليه السفيه الذي اطرد الحجر عليه. فنقول: إقراره بموجبات العقوبات من القصاص والحدود مقبول، كإقرار المطلَق الرشيد.
ولا يقبل إقراره بالأموال في المعاملات، وفي قبول إقراره بإتلاف الأموال قولان، وقد ذكرنا ذلك معقوداً مجملاً، ثم مبيّناً مفصلاً في كتاب الحجر، وإنما أعدنا هذا الطرف لغرض سنوضحه، إن شاء الله.
وقال العراقيون: إقراره بديون المعاملات مردودة في الحال، وبعد انطلاق الحجر عنه، فلا يؤاخذ به إلا أن يجدد بعد الرشد إقراراً.
وإقراره بالإتلاف على قولين: فإن لم نقبله في الحال، فإذا انطلق الحجر عنه، فهل يؤاخذ به؟ فعلى قولين.
وهذا كلام ركيك، فإنه لو كان يؤاخذ إذا رشد، لكان مؤاخذاً به في سفهه؛ فإن المطلوب حقه في السفه والرشد.
فلو ادعى ماع على السفيه قتلَ خطأٍ، فأنكر، فعرضنا اليمين عليه، فنكل وحلف المدعي يمين الرد، فإن قلنا: إن إقراره بالقتل خطأً مقبولاً، فلا شك أنه يثبت عليه، والدية مأخوذة من ماله إذا لم تعترف العاقلة.
وإن قلنا: لا يقبل إقراره في القتل الواقع خطأ، فهل يثبت القتل بيمين الرد أم لا؟ قال الأصحاب: هذا يخرج على أن يمين الرد بمثابة الإقرار أو بمثابة البينة: فإن أحللناها محل الإقرار، لم نثبت القتل بها، فإن التفريع على أن القتل لا يثبت بإقراره إذا كان خطأ؛ فإنه في معنى إتلاف المال.
وإن قلنا: يمين الرد ينزل منزلة البينة، فالقتل خطأ يثبت على المحجور.
10930- وهذا أوان الوفاء بما وعدنا من تحقيق هذين القولين وإبانة فائدتهما، فنقول: القولان جاريان في حق المحجور؛ فإن يمين الرد يجوز أن تكون حجة في حق المدعى عليه؛ فإن الخصومة متعلقةٌ به، وفي هذه الصورة بعينها يبعد أن تضرب الدية على العاقلة مصيراً إلى أن يمين الرد كالبينة، وقد صار صائرون إلى تخريج الضرب على العاقلة على القولين، وهذا هو الذي زيّفه المحققون، فقد لاح الغرض في هذه الصورة لاشتمالها على مدعى عليه يحلف، ولا يقبل إقراره على العواقل الذين لا تتعلق الخصومة والطلب بهم، فجرى القولان في حق المحجور عليه، واضطرب الأصحاب في حق العاقلة.
فإن قيل: إذا كنا لا نقبل إقرار المحجور عليه، فلم نحلّفه؟ قلنا: إقراره غير مقبول بالاتفاق، والتحليف تحقيق الإنكار، وقد يستفيد بحلفه انقطاعَ الخصومة عنه.
ثم إذا اقتضت هذه المقدمات عرضَ اليمين عليه، فللعرض عاقبتان: إحداهما- الحلف والأخرى-النكول- فيبعد أن تثبت إحداهما دون الأخرى- والوكيل بالخصومة، كان من أهل الإنكار، وقد يكون إنكاره سبباً لثبوت الحق، إذا كان القاضي لا يقبل الشهادة إلا مترتباً على إنكارٍ مقبول، ولكن لا نظر إلى هذا، فإن قاعدة الخصومة الإنكار، ثم ينشأ من نكول المحجور عليه التردد في أن يمين الرد هل تكون كالبينة أم لا؟
هذا منتهى القول في ذلك، وهو طرف لم نجد بداً من ذكره، وأصلُه وقاعدتُه تأتي على الاستقصاء في الدعاوى والبينات-إن شاء الله عز وجل- نعم، إن قلنا: يمين الرد بمثابة الإقرار، فتعرض اليمين على المحجور عليه عساه يحلف، وإن نكل، لم ترد اليمين على المدعي، لأنه لا فائدة في الرد؛ إذ لو حلف يمينَ الرد، لم يستفد بها شيئاً، ثم إذا قلنا: لا ترد اليمين، فهل يحلف المحجور عليه؟ ما ذهب إليه أهل التحقيق أنه لا يحلّف، إذ لا يستفيد المدعي بتحليفه فائدة، فلا معنى في تحليفه؟ من أصحابنا من قال: الحق للمدعي، فإن قنع بيمينه، فلا معترض، وإن لم يُرد تحليفَه، فلا حرج عليه. والظاهر أنه إنما يحلف إذا قلنا: إنه يقبل إقراره، أو قلنا: يمين الرد كالبينة، فأما إذا لم يقبل إقراره، ولم نجعل يمين الرد بمثابة البينة، فالتحليف ملغى لا فائدة فيه، ولا أصل له.
ثم ذكر المزني طرفاً من المحاجّة بين الشافعي وأصحاب أبي حنيفة في قاعدة القسامة، ولسنا له.