فصل: فصل: مشتمل على بقايا من أحكام الإخراج من الحرز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: مشتمل على بقايا من أحكام الإخراج من الحرز:

11108- وقد تقدم القول في مقدار النصاب في صدر الكتاب، ومقصود هذا الفصل شيئان:
أحدهما: إخراج نصاب واحد من الحرز بدفعات. والآخر- اشتراك جمع في إخراج نصاب، أو نُصب.
فأما الفصل الأول: إذا نقب السارق الحرز وأخرج نصف نصاب واكتفى، واطلع صاحب الحرز على انتهاكه، فإذا عاد واستتم النصاب، لم يستوجب القطع، ووجهه بيّن.
وإن عاد الشخص وقد سُدَّ الحرز وأوثق، فنقب مرة أخرى، واستكمل النصاب بالدفعتين، فلا قطع؛ فإنه أخرج نصاباً واحداَّ بَسرقتين كل واحدة متميزة عن الأخرى، والفاصل بينهما عَوْد الحرز إلى ما كان عليه أولاً.
وإن لم يُسَدّ الحرز، ولم يشعر به، فعاد وأخرج ما كمل النصاب به، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها: أنه لا قطع لتعدد الفعل والإخراج، وقصور المخرَج في كل كرّة عن مقدار النصاب.
والثاني: أنه يجب القطع؛ فإن الحرز لم يُسدّ، ولم يشعر به فيفرض الانتساب إلى التقصير، فالفعلان في حكم الفعل الواحد. والثالث: وهو أعدل الوجوه أن الفعلين إذا تواصلا-من غير تخلل فصلٍ- يجب القطع، وإن انفصل أحدهما عن الثاني بزمان طويل، فلا قطع؛ وكان شيخنا يقول: لو أخرج مقداراً، وانطلق به وعاد، فهذا فصل بين الفعلين، وإن قرب الزمانُ وأسرع الكرّة، وهذا حسنٌ في إيضاح معنى الفصل بين الفعلين في هذا الوجه الثالث.
ومما يتصل بهذا المقصود ذاته أنه لو فتح كُندوجاً، فانثال الحب منه حتى بلغ نصاباً، فلا شك أنه يخرج شيئاً شيئاً، والحبات متقطعة لا تواصل فيها، وإذا قلنا: لو أخرج نصاباً بفعلين متواصلين من غير فاصل لا يجب القطع، فإذا كمل النصاب بالانثيال في فتح أسفل الكندوج، ففي المسألتين وجهان: أصحهما- وجوب القطع؛ فإن ذلك يعد خروجاً بدفعة، ولا يُعَد مقطعاً، والفعل في نفسه غير متعدد، وقد أوردنا مسألة الكُندوج فيما تقدم في غرضٍ آخر؛ إذ حكينا أن من الأصحاب من يقول: الإخراج فيما ينثال لا يتحقق، وذلك مزيف، وقد أوردنا المسألة الآن في غرض
التواصل والتقطع، والأصح التواصل أيضاً، ووجوب القطع.
ولو تعلق بطرف منديل وأخذ يجذبه شيئاً شيئاً، يجب القطع وفاقاً، إذا كان المنديل نصاباً، فليس خروجه شيئاً شيئاً من التقطع في الإخراج وجهاً واحداً. وقد أوردنا هذا في غرض آخر، وهو يعضد ما ذكرناه الآن؛ فإنا قلنا فيما سبق: إذا أخرج من المنديل ما لو فصله، لكان نصاباً، فلا قطع، لأن الذي أبرزه ليس له حكم المخرج من الحرز، ويتضح بهذا أن إخراجه في حكم فعلٍ واحد؛ إذ البعض من غير فصلٍ لا حكم له.
هذا أحد مقصودي الفصل.
11109- والثاني في اشتراك اثنين فصاعداً في الإخراج، فنقول: إذا دخل رجلان الحرز، وحملا معاً ما قيمته نصاب، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن تحقق اشتراكهما في الإخراج على أقصى الإمكان في التصوير، بخلاف ما لو اشتركا في قطع يدٍ، فإنا نقطع أيديهما، كما نقتلهما لو اشتركا في القتل.
وقال مالك يجب القطع على المشتركَيْن في إخراج النصاب، والفرق المعتمد يرجع عندنا إلى انفصال قاعدة عن قاعدة، فالطرف مصون بالقصاص، والمال مصون بالقطع، ولكن لم يشرع الشارع القطع في أقل من نصاب، لأن النفوس لا تتشوف إلى مصادمة الأخطار لأخذ المقدار النزر، وهذا المعنى يتحقق في الشريكين في سرقة نصابٍ؛ إذ لا يخص واحد منهما نصاب. وهذا المسلك لا يتحقق في الطرف وقطعه، ولو أخرجا ثلث دينار، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن أخرجا نصف دينار، لزمهما القطع؛ إذ يخص كل واحد منهما نصابٌ.
ولو دخلا، فأخرج أحدهما ربعاً والآخر سدساً، فعلى الذي أخرج ربعاً القطع، ولا قطع على مخرج السدس.
وإن اشتركا في الإخراج على الحقيقة، فلا قطع عليهما، والمرتجى في حقيقة الاشتراك التحقيق المعتبر في قطع اليد، وليس هذا كالنقب؛ فإن النقب ليس بسرقة، وإنما هو توصل إليها، والسرقة الحقيقية الإخراج.
فصل:
قال: "وإن سرق سارق ثوباً، فشقه... إلى آخره " ثم قال: "ولو كانت قيمة ما سرق ربع دينار فنقصت القيمة... إلى آخره".
11110- أما الفصل الأول، فمن فصول الغصب، فمن دخل الحرز، وأخذ ثوباً وشقه في الحرز طولاً أو عرضاً، فلا أثر لما فعل في تثبيت حق الملك له، وإذا أخرجه، وكانت قيمته معتبرة عند الإخراج نصاباً، فيجب القطع. والاعتبارُ في القيمة بحالة الإخراج، وأبو حنيفة قد يجعل الشق طولاً مثبتاً حق الملك للشاق، ويرتب عليه سقوط القطع، فإنه ملك الثوب في الحرز، وأخرج ملكه.
وكذلك لو ذبح شاة، فأخرج لحمها، أو تعاطى لحماً، فشواه وأخرجه مشوياً، فإن كانت قيمة المخرَج نصاباً وقت الإخراج، وجب القطع، ولا أثر لهذه التغايير عندنا كثيرة أو قليلة مع العلم بأن الاعتبار في القيمة بحالة الإخراج وإنما اختبط أبو حنيفة فيها، فجعل بعضها مملِّكاً.
11111- وأما الفصل الثاني فمعموده ومقصوده أن السرقة إذا تمت موجِبةٌ للقطع، فلو فرض طريان تغير بعد تمام السرقة، فلا أثر له، ولا يسقط القطع بما يطرأ بعد الوجوب، فلو تلف المسروق، أو نقصت قيمته: إما بالسوق، أو بطريان آفة، فلا يسقط القطع بشيء من ذلك.
ولو وهب المالك المسروقَ من السارق بعد تمام السرقة، فلا أثر لشيء من هذا، خلافاً لأبي حنيفة في مسائل أُخَر بيّنَّاها في الخلاف.
ومهما وجب حد، فلا أثر لما يطرأ بعد وجوبه في إسقاط الحد، وقد ذكرنا في كتاب اللعان أن من قذف شخصاً، فلم يحد حتى زنى المقذوف، فالنص أن القاذف لا يحد، بخلاف ما لو ارتد المقذوف، وقد قدمنا تفصيل المذهب في ذلك ثَمَّ، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.
إذا أقر المالك بأن المسروق كان للسارق، وهو في الحرز، فلا شك أن القطع يسقط، والمعنيّ بسقوطه تبيُّنُ عدمِ ثبوته في الأصل في ظاهر الحكم.
فأما إذا ادعى السارق أن المسروق كان لي، ولم يكن معه بيّنة، فظاهر كلام الشافعي أنه يسقط عنه الحد، ونفسُ دعواه تنتصب شبهة في إسقاط الحد عنه. ومن أصحابنا من خرج قولاً أن الحد لا يسقط.
ووجه النص أن الدعوى مسموعة، فإذا لم تكن بينة، فالقول قول المالك مع يمينه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على السارق، فإن حلف قُضي له بالملك، ولا خلاف في انتفاء القطع، إذا أفضت الخصومة إلى ما ذكرناه. وإن حلف المدعى عليه، فلو أوجبنا القطع، لكان وجوبه متعلقاً بيمين، ويستحيل إيجاب قطع السرقة باليمين.
وعبر الأصحاب عن هذا المعنى، فقالوا: السارق يصير خصماً في المسروق، ويستحيل أن يقطع في الشيء من هو خصم فيه.
ووجه القول الآخر- أن الدعوى العريّة لا أثر لها، ولا وقع لها، ولو فتحنا هذا الباب، لاتخذ السراق دعوى الملك ذريعة إلى إسقاط حق الله تعالى، واللائق بقاعدة الشافعي إسقاط الذرائع الهادمة للقواعد إذا كان الوصول إليها متيسراً لا عسر فيه.
ثم ذكر الشيخ في شرح التلخيص صوراً في استكمال هذه الأصول، ونحن نأتي عليها، فلو ادعى السارق أن الدار التي سرقتُ منها ملكي، غصبها المسروق منه، فدعواه الملك في الحرز-على الوجه الذي ذكرناه- كدعواه الملك في المسروق.
وكذلك لو قال: هذا الذي سرقتُ منه مملوكي، فهذا يخرج أيضاً على الخلاف المقدم.
والجملة في ذلك أنه إذا ادعى الملك في شيء لو تحقق ما قاله، لسقط عنه الحد، فمجرد الدعوى فيه تُسقِط القطعَ على النص، وفيه القول المخرّج.
11112- ومما يليق بذلك أنه لو اشترك اثنان في سرقة نصابين، ثم ادعى أحدهما أن المال بمجموعه ملكي، فيسقط القطع عنه تفريعاً على النص، أما شريكه، فإن صدقه فيما ادعاه، فيسقط القطع عنه أيضاً، وإن كذبه، وقال: كذب في دعواه، وقد سرقنا هذا المتاع من ملك المدعى عليه، فالمذهب أنه يجب القطع على الشريك المكذب، ووجهه ظاهر؛ فإنه لم يدع شبهة، ودعوى غيره لا تنتصب شبهة في حقه.
وذكر القفال وجهاً آخر أنه لا يجب القطع عليه؛ تفريعاً على النص؛ فإنه قد صدر في الملك دعوى لو صدقها، لسقط عنه القطع، فكذلك إذا كذب، كما لو قال المسروق منه: هذا ملك السارق، فكذبه السارق، وقال: إنما أنا سارق، فالقطع يسقط مع تكذيب المسروق منه، وبمثله لو سرقا كما ذكرنا، فقال أحدهما: هذا المال لشريكي وكذبه صاحبه، فالقطع يسقط عن المدعي على النص، وهل يسقط عن المكذب الذي أنكر الملك؟ فعلى وجهين كما ذكرناه، ولا فرق بين المسألتين.
وكل ذلك تفريع على النص.
ولو سرق العبد شيئاً من حرز مثله، ثم ادعى العبد أن الذي سرقته كان لسيدي، فإن صدقه السيد، اندفع الحد على النص، وإن كذبه السيد، فهل يندفع عنه الحد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يندفع؛ فإنه ليس يدّعي الملك لنفسه، وإنما يدعيه لسيده، وقد كذبه سيده، فخرجت المسألة على وجهين. هذا بيان هذه المسائل.
فصل:
" وإن أعار رجلاً بيتاً... إلى آخره".
11113- من أكرى داراً من إنسان، فأحرز المستأجر بها ملكه، فلو سرق ملكه الآجر، وجب القطع عليه، وثبوت الملك في رقبة الدار لا يكون شبهة في درء الحد عن المكري؛ لأن المستأجر ملك منفعتَها بعقد الإجارة وإنما الإحراز بمنفعة الدار، وحق سكونها والإيواء إليها.
ولو استعار رجل حرزاً وأحرز به ماله، فسرق المعير مال المستعير، ففي المسألة أوجه: أحدها: يلزمه القطع، كالمكري مع المكتري، والثاني: لا يلزمه القطع؛ فإن المستأجر مَلكَ منفعة الدار، والمستعير لم يملكها، بل استباحها، وللمعير حق الرجوع في العارية متى شاء. والوجه الثالث: أنه إن قصد به الرجوع في العارية، فدخل الدار على هذا القصد، ثم أخرج ما وجد، لم يُقطع، وإن لم يقصد بدخول الدار الرجوعَ في العارية، قُطع، واستشهد القفال في اعتبار القصد وعدمه، بأن قال: لو دخل مسلمٌ دار الحرب فوطىء حربية، فإن قصد به قهرها وتملكَها عند إمكان ذلك، لم يكن ما صدر منه زنا، ولو علقت منه، صارت أم ولد بعد جريان الملك على رقبتها، وثبت النسب. وإن لم يقصد تملكها وقَهْرَها، كان الصادر منه زناً، ولو تعلقها لم تصر أم ولد.
ومال أئمة المذهب إلى الوجه الأول؛ فإن المعير وإن كان يملك الرجوع في العارية فإذا أراد ذلك، تعين عليه إمهال المستعير ريثما ينقل امتعته، فيظهر هاهنا أن العارية تُثبت تأكد الحق للمستعير، فلا يهجم على نقضه.
11114- ومما يتصل بذلك أن من غصب حرزاً، وأحرز به ماله، فلا شك أن المغصوب منه لو دخله، وأخرج منه شيئاً، فلا قطع عليه، لأنه يستحق دخول الحرز عاجلاً، غيرَ آجل.
ولو دخل الحرز المغصوبَ غيرُ المغصوب منه، وسرق منه، فقد قال القفال: لا قطع على السارق، لأن ملك الغير لا يصير حرزاً له، وهو جانٍ متعد. وهذا قاله تخريجاً.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على خلاف ذلك، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: ما ذكرناه، والثاني: أن القطع يجب. ويمكن أن يقرّب هذا من التردد في أن الواحد من المسلمين إذا رأى عيناً مغصوبة في يد غاصب، فهل له إزالة يده عنها حسبةً؟ وفيه خلاف تقدم.
ونظير ما نحن فيه أن من غصب من إنسان مالاً وأحرزه بحرزه المملوك، فدخل المغصوبُ منه الحرزَ، وأخذ المال المغصوبَ منه، وأخذ من مال الغاصب ما بلغ نصاباً، وأخرجه من الحرز، ففي وجوب القطع عليه وجهان:
أحدهما: لا يجب؛ لأنه أبيح له التهجم عليه والدخول في حرزه لانتزاع المغصوب من يده؛ فلا حُرمةَ لحرزه في حقه.
والثاني: يلزمه الحد لإخراجه مالَ الغاصب من حرزه، فلا شبهة له في المخرَج.
ولو غصب رجل مالاً، ودخل غيرُ المغصوب منه، وأخذ ذلك المال المغصوبَ، ففي وجوب القطع على هذا الآخذ خلاف يلتفت على ما ذكرناه من أن من رأى عيناً مغصوبة في يد إنسان، فهل له أن يأخذها منه قهراً ليردها على المغصوب منه؟ فعلى خلافٍ مشهور.
ولو دخل ربُّ الوديعة دارَ المودَع، وأخذ وديعته وأخذ معها مال المودَع، فيجب القطع؛ فإنه ليس له الهجوم على حرز المودَع، بل يسترد منه الوديعة بطريق استردادها. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا أدخل المغصوب منه متاعاً دار الغاصب، وأخذ متاع نفسه ومتاعاً للغاصب معه، لا يختص بما إذا أخذ متاع نفسه، ولكن لو أخذ متاع المغصوب منه، وترك متاع نفسه، فالوجهان جاريان، والخلاف مستمر، كما تقدم.
ولو استعار الرجل عبداً ليرعى له غنماً، ثم إن سيد العبد تغفَّل العبد وسرق من الغنم ما يبلغ نصاباً، ففي ذلك طريقان:
أحدهما: ينزل ذلك منزلة ما لو دخل الدار المستعارة، وأخذ مال المستعير؛ فإن الدار المستعارة حرز مال المستعير، ومراقبة العبد المستعار حرز مال المستعير، فلا فرق.
ومن أئمتنا من قطع بوجوب الحد على السيد؛ فإن التعويل في إحراز الغنم على لحظ الراعي، وهذا لا يضاف الملك إليه، ومعتمد الحرز في الدار الدارُ.
وللمالك حق طروقها، فبان الفرق. ويجوز لصاحب الطريقة الأولى أن يقول: العبد لا يُحرز عن مولاه بصدق اللحاظ ما يحرزه عن الأجانب.
فصل:
قال: "وإذا سرق عبداً صغيراً لا عقل له... إلن آخره".
11115- تصوير سرقة العبد الصغير بأن يُلقى نائماً في الحرز، فيحمل أو يخرج أو يلقى مسقطاً، فيربط ويحمل، والمجنون والأعمى الذي لا يعقل بهذه المثابة، فلو دعا هذا الذي لا يعقل، ولا يميز فاتبعه، وخرج من الحرز، فهو كبهيمة يدعوها فتتبع الدعاء، وتخرج، وقد ذكرنا في هذا تردداً للأصحاب.
ولو كان العبد يعقل عقل مثله، فتصوّر سرقته بأن يحمل مضبوطاً، فأما إذا خدعه، فخرج مختاراً مخدوعاً، فهذا ليس بسرقة بلا خلاف، وإنما هو خيانة.
ولو حمل العبدَ المميِّز بالسيف على أن يخرج من الحرز، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن هذا سرقة، كما لو استاق دابةً، فامتنعت عليه فضربها.
والثاني: أنه لا يكون سارقاً لمكان اختيار المكرَه المميز، والدابة وإن كانت مختارة، فيسقط أثر اختيارها بالكلية إذا سيقت بالسوط والعصا.
ثم العبد الصغير حرزه دار المولى، أو حريم داره، إذا كان مطروقاً بحيث يعد العبد مصوناً، وإن فارق الدار والحريم، فهو ضائع.
ولو أخرج من الحرز صبياً حراً نائماً أو مضبوطاً مكرهاً، فالكلام في الثياب التي عليه، وللأصحاب فيها وجهان:
أحدهما: أنها مسروقة يتعلق بسرقتها القطع.
والثاني: أنها ليست مسروقة، وهي في يد الحر وإن كان صغيراً ضعيفاً، فهذان الوجهان يجريان في أن ثيابه في غير صورة السرقة هل تدخل تحت يد غاصب الحر وحامله؟
11116- ولو كان المخرَج مستقلاً بنفسه، وعليه ثيابه، فهذا يستدعي تقديم
مسألة هي مقصودة في نفسها، ويتعلق بيان هذا الفصل بها، وهي أن من كان راقداً على بعير وتحته أمتعته، والبعير مملوك له، فإذا أخذ سارق زمام البعير، ونحاه عن سَنَن الطريق، حتى أفضى به إلى الموضع الذي يريده، فهل نجعله سارقاً للمتاع والبعير؟
حاصل ما ذكره الأصحاب أربعة أوجه: أحدها: أنه سارق، لأنه احتوى على البعير وما عليه.
والثاني: أنه لا يكون سارقاً؛ فإن يد مالك البعير والمتاع قائمة عليه، وإنما تتحقق السرقة عند إزالة يد المالك عن ملكه. وعبر بعض الأصحاب عن هذا، فقالوا: "السرقة إخراج المال من الحرز " والحرزُ مصون في هذه المسألة بالمحرِز، فلا تفريق، ولا إخراج.
ومن أصحابنا من فصل بين أن يكون الراكب ضعيفاً والآخذ أقوى منه، وبين أن يكون الراكب قوياً، فإذا تيقظ لم يقاومه من قاد بعيره، فقال: إن كان ضعيفاً، فالقائد سارق، وإن كان قوياً، فليس بسارق؛ فإن التعويل في الإحراز حيث يكون المتاع ملحوظاً بالمنعة من اللاحظ، فإن من يكون في يده متاع في الصحراء، ولا مستغاث بالقرب منه، فالمتاع-وإن كان ملحوظاً بلحظٍ- ضائعٌ غيرُ محرز.
ومن أصحابنا من قال: إن كان الراكب عبداً، فالبعير والعبد جميعاً مسروقان.
هذا ما رأيناه للأصحاب، فنقلناه على وجهه، ودون المنقول بحثٌ عن أمورٍ: منها- أن ما ذكرناه من التردد في تحقيق السرقة يجب أن يكون مترتباً على التردد في أن يد القائد هل تثبت على البعير وما عليه؟ ويجب إجراء الخلاف في هذا على نسق واحد.
11117-و لا يتم الغرض إلا بمسائل نُطلقها: منها- أن من احتمل عبداً قوياً وأخرجه من الحرز في حالة نومهِ، وكان لا يقاوم العبد إذا تيقظ، فهل نقضي بثبوت اليد على العبد أوّلاً، حتى إن فرض تلفٌ قبل التيقظ يجب الضمان؟ الوجه عندنا القطع بثبوت اليد، وإن كانت عرضةً للزوال، والقول الجامع فيه أن المنقول لا يتوقف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والاستمكان من قدرة المقاومة عند طلب الاسترداد، وما ليس منقولاً، فلا معنى لليد فيه إلا الاستيلاء. هذا قولنا في اليد.
وأما تحقق السرقة، ففيه نظرٌ، لأن مثل هذا العبد محرز بيد نفسه، ومع احتمال ضعفه، فليس منتهياً من صون إلى ضياع، وينشأ من هذا كلام تمس الحاجة إلى مثله في القواعد، وهو أن من جلس نبَذةً حيث لا مُستغاث يجاب إليه، ومتاعه ملحوظ فتغفله ضعيفٌ وأخذه منزلاً، ولو شعر به صاحب المتاع، لطرده، فهل نقول: هذا من حيث عُدّ ضائعاً في حق قويٍّ، فلا قطع على آخذه وإن كان ضعيفاً، لأنه يعدُّ المال في مضيعةٍ، أم القول في ذلك ينقسم ويختلف على حسب اختلاف الآخذين؟
الرأي الظاهر عندي أن المال مصون عن الضياع في حق الضعفة، معرض للضياع في حق الأقوياء، ولا يمتنع انقسام الأمر في بابه، فإنا وضعنا أصل الحرز على الانقسام بالإضافة إلى صنوف الأموال، فلا يبعد أن يكون منقسماً بالإضافة إلى الآخذين وهذا محتمل جداً.
11118- ومما يجب التنبه له أن ثياب الحر الذي هو لابسها تحت يده، فلو حمل حراً، وحبسه، فتلفت عليه ثيابه، فلا ضمان، وأبعد نقلة المذهب، فحكَوْا وجهاً أن يد الغاصب تثبت على الثياب، وهذا بعيد في الحر المستقل.
وقد صرح أصحاب المذهب بنقل الوجهين في الثياب التي على الحر الصغير.
وشببوا بإلحاق الحر الضعيف البالغ بالحر الصغير، فانتظم في الحر الصغير وجهان؛ من حيث إنه لا يستحفظ ولا تصلح يده للحفظ، فلما كان كذلك تثبت يد آخذه عليه على وجهٍ. ومن أشار إلى أن اليد لا تثبت على ثياب الحر الصغير، نظر إلى الجنس، واستدل بثبوت يد اللقيط على ملكه؛ فإن كون الثياب على الصغير يدل على ملكه فيها على ما تقرر ذلك في مسائل اللقيط وما عليه من شعار أو دثار، والحر الضعيف المستقل ممن يجوز أن يؤتمن ويستحفظ، فكان أولى بألا نثبت يد آخذه على ثيابه، والحرّ المستقل القوي بعيد كل البعد ثيابُه عن يد آخذه.
ويترتب على هذا المجموع أنا إن لم نُثبت اليدَ في صورة، لم نثبت السرقة، وإن أثبتنا اليدَ ومن عليه الثياب قويٌ مستقل بالمقاومة، ففي ثبوت السرقة وجهان، والثياب التي على الإنسان أبعد عن يد آخذه من الحمل الذي تحته والبعير؛ فإن ثياب الإنسان في حكم جِرمه، فهذا حكم ما أردناه في ذلك.
11119- وإذا كان راكب البعير المقود عبداً، فهذا يلتفت على ما مهدناه من أن العبد القوي إذا أخرج، فهل تثبت اليدُ عليه، وإن ثبتت، فهل تتحقق السرقة فيه؟ وليس يخفى بعد هذا التمهيدِ والتنبيهِ تفريغ، ولسنا نكثِّر بعد الوضوح.
ثم قال الشافعي: "ويقطع العبد آبقاً وغيرَ آبق... إلى آخره".
11120- إذا سرق العبد في إباقه، وجب القطع بالسرقة، خلافاً لمالك وإياه قصد الشافعي بالرد، ومسلك المعنى واضح، وقد روي أن ابن عمر أبق له عبد، فسرق، فرفعه إلى سعيد بن العاص أمير المدينة، فقال: إنه آبق، ولا قطع على آبق، فقال: في أي كتاب الله وجدتَ، وفطع يده.
فصل:
قال: "ويقطع النبّاش إذا أخرج الكفن... إلى آخره".
11121- إذا نَبَش قبراً في بيت وثيق يعدّ حرزاً، وأخرج الكفن من القبر، ثم من البيت، وجب القطع عليه؛ إذا بلغ المأخوذ نصاباً. وإن نبش قبراً في مقبرة محفوفة بالعمارة يخلُف الطارقين عنها في زمان يتأتّى في مثلهِ النبش، أو كان عليها حراس مرتبون، فهي بمثابة البيت.
وإن كانت المقبرة على طرف العمارة، فإن كان لها حارس، فهي محرزة، وإلا فوجهان:
أحدهما: أنها ليست محرزة.
والثاني: أنها محرزة لأن الطروق ليس نادراً فيها، ومن يتعاطى النبش ظاهرٌ غير مستتر، وينضم إلى ذلك مهابة المدافن في النفوس.
وإن كان القبر منبوذاً في مضيعة، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن الكفن ضائع غيرُ محرز، وسمعت شيخي يحكي وجهاً أنه محرز، وكنت أستبعده حتى رأيته مختاراً للقاضي، واستمسك فيه بما لا يليق بقدره، فإنه قال: لا يعد الكفن مُضَيَّعاً، وهذا الذي ذكره ليس لصون الكفن، وإنما هو لضرورة الحال، وأشار إلى استشعار المهابة من القبور ولا ثبات لمثل هذا.
فهذا منتهى الكلام فيما يحرز من القبور، وفيما لا يعد محرزاً.
11122- فإن قيل: لو وضع في القبر شيء من جنس الكفن، فهل يكون محرزاً؟ قلنا: إن كان في بيت فبلى، وإن كان معرضاً للبلى.
وإن كان في مقبرة صونُها باللحظ والطروق، فالمذهب أنه ليس محرزاً؛ رجوعاً إلى العادة؛ فإن الأكفان اجتمع فيها ضرورة الدفن، ومسيسُ الحاجة، والصونُ بالطارقين، فلا يمتنع في حكمة الشرع التغليظ على النباش تحقيقاً للصون، وهذا لا يتحقق حيث لا ضرورة.
وحكم بعض الأصحاب بكون المدفون في القبر محرزاً إذا كان من جنس الكفن، وهو بعيد لا تعويل عليه.
وإن فرض إسرافٌ في الكفن، نظر: فإن كان من جهة الزيادة على الأعداد المرعيّة في الرياط، فالزائد ليس محرزاً على الرأي الظاهر، والاحتساب في الأعداد المرعية بما يلي الميت إلى الانتهاء إلى الحد المعتبر في الكمال.
وإن كان الإسراف من حيث القيمة، ونفاسة الثوب، فقد قال الأصحاب: يجب القطع بأنه كفن، وكان شيخي إذا روجع في ذلك تردد؛ إذ لا حاجة إلى تعريض الديباج ودِقّ مصر للبلى، وقد ذكرنا أن الحاجة مرعيةٌ في الباب، والأصح غير هذا.
ثم إنما يجب القطع على النباش إذا فصل الكفن عن القبر بالكلية، فإنه بجملته حرز، ولا يقع الاكتفاء بالفصل عن اللحد.
11123-وتكلم الأصحاب في مالك الكفن، وحاصل المنقول عنهم أوجه: أصحها- أن الكفن ملك الورثة غيرَ أن الميت أحق به لكونه متعرّضاً لحاجته، ولا يملك الوارث النزعَ والإبدال بعد المواراة؛ لما فيه من الهتك، وغض الحرمة، ودليل هذا أن الميت لو افترسه السبع فالكفن المطروح للورثة.
ومن أصحابنا من قال: الكفن ملك الميت؛ لأنه مستغرَق بحاجته وإبقاء الملك له كما في إبقاء الدين عليه، مع وقوع اليأس من طلبته. وهذا القائل يعتذر من افتراس السبع، ويقول: إذا انقطعت حاجة الميت، فلا مصرف أقرب من الورثة، ويَرِدُ عليه أن الميراث مستند إلى حالة الموت، وتعتبر تلك الحالة في الوراثة، ولا يعتبر ما بعدها، وقد يعترض على ذلك التعلق بأسباب العدوان كاحتفار البئر في الحياة، وفَرْضِ التردّي فيها بعد الموت، ولا يخفى هذا المحالّ.
ومن أصحابنا من قال: الكفن ملكٌ لا مالك له.
ثم قَطْع السرقة واجب على النباش على الوجوه الثلاثة.
11124- فإن قلنا: الملك للوارث، فحق المخاصمة له، وإن قلنا: الملك فيه لله تعالى، فقد قال القاضي: المخاصمة للإمام، ومن يقيمه الإمام. وإذا قلنا: الملك للميت، ففي من يخاصم وجهان:
أحدهما: أن الوارث يخاصم.
والثاني: أن الإمام يخاصم، والمخاصَمة التي أطلقناها سيأتي شرحها في باب جحد السرقة، فإنا لا نقيم القطع ما لم يُخاصِم مخاصم عن المسروق، وإذا قلنا: يخاصم الوارث والملك له، فهذا قياسٌ بيّن، وإن قلنا: يخاصم الإمام، ففيه إشكال؛ فإنا إنما نتردد في محل ملك الكفن وهو مدرج فيه، وأما إذا أخذه النباش، فيجب أن يقال: للوارث أن يبدله بمثله أو بخيرٍ منه كما لو فرض الافتراس، فإن ذهب من يصير إلى أن الملك للميت، أو لله إلى أن تلك الأكفان يجب ردها بأعيانها، فهذا كلام عري عن التحصيل وإن صح هذا، فالتفريع في تعيين المخاصم صحيح، والوجه عندي أن للوارث أن يبدله، فعلى هذا يجب القطع بأنه المخاصم لا غير.
هذا إذا كُفِّن من ماله الذي خلفه.
11125- فإن كفن من مال بيت المال، فعلى النباش القطع إذا أخذ ذلك الكفن بخلاف ما لو سرق من مال بيت المال؛ فإن فيه تفصيلاً يأتي، إن شاء الله تعالى، والفرق أن المال في بيت المال عرضة للحقوق كافّة، وإذا صرف شيء منه إلى كفن ميت، فقد انقطع عن ذلك المقدار الحقوقُ العامة، وهذا كما لو صرف إلى فقير ثوب ليستتر به فإذا اختص به وملكه، قطع سارقه، وإن كان لا يقطع لو أخذه من بيت المال.
ثم الخصومة إلى الإمام.
ولو افترسه سبع، عاد ملكاً لبيت المال، وهذا فيه توقيف؛ من جهة أنا ذكرنا أن الأصح أن الكفن المأخوذ من التركة مبقَّى على ملك الوارث، فيلزم من هذا القياس أن نقول: الكفن مبقى على ملك بيت المال، وإنما للميت فيه حق الاختصاص، فيتجه أن نقول: لا قطع على سارقه إذا كان بحيث لو سرق من بيت المال لم يقطع، وإذا فرعنا على أن الكفن المأخوذ من التركة ملك الوارث، فلو نبش الوارث وأخذ، لا قطع عليه، ولو أخذه ابنه، فكذلك.
11126- ولو كفن الميتَ رجل محتسب، فإذا سرق سارق ذلك الكفن، استوجب القطعَ، والخصومةُ إلى ذلك المحتسب، هكذا ذكره المحققون. وفيه بحث يُطلع على سر الفصل، وذلك أن الكفن إذا كان مأخوذاً من التركة، انتظم الوجوه الثلاثة فيها، ومن جملتها أن الملك للميت، وهذا منزل على أن ذلك القدر مستبقىً على ملكه لحاجته.
وإذا جرى التكفين من بيت المال أو كفّنه محتسب، فتقدير استدامة ملكٍ كان في الحياة غير ممكن هاهنا إذا لم يكن الكفن ملكَه في حياته، وابتداء تمليك الميت عسر على غير مذهب الاستدامة، فينقدح في الملك وجهان إذا كان المكفِّن محتسباً:
أحدهما: أن الملك باقٍ للمحتسب، والثاني: أنه زائل عنه، وليس مضافاً إلى الميت، بل هو ملكٌ لا مالك له، فعلى هذا يعود ما يتفرع على هذين الوجهين، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يخرج زوال الملك حتى يكون الكفن ملكاً لا مالك له، فإن ابتداء إزالة الملك على هذا الوجه عسر، فعلى هذا لا يبقى إلا الحكم ببقاء ملك المحتسب، وهذا الوجه وهو مصير الكفن ملكاً لا مالك، فقد يظهر خروجه إذا كان التكفين من بيت المال، فإنه معتدٌّ لهذه الجهات، وليست هي مضافة إلى مالك متحقق.
فانتظم من ذلك طرق: إحداها- أن الأوجه الثلاثة تجري في المحتسب المكفِّن، وفي بيت المال، كما ذكرناه في كفن التركة. والطريقة الثانية- أنه يتخلف من الوجوه تمليك الميت. والأخرى- أنه يتخلف القول بأنه ملكٌ لا مالك له أيضاً، ولا يبقى إلا مسلكٌ واحد، وهو تبقية الملك على ما كان عليه قبل التكفين، والطريقة الأخرى- الفرق بين بيت المال وبين المحتسب، كما تقدمت الإشارة إليه.
فرع:
11127- من جمع من البذور المبثوثة في الأرض ما يبلغ نصاباً، والمكان مصون صَوْنَ مثله، ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما- الوجوب، ووجهه بيّن.
والثاني: لا قطع؛ لأن مقرّ كل حبةٍ في حكم الحرز لها، فمن جمع من الحبات ما يبلغ نصاباً بمثابة من يسرق مالاً من أحرازٍ ولا يسرق من حرزٍ نصاباً كاملاً.