فصل: فصل: في الفرض ومعناه وما يتعلق به من التفاصيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في الفرض ومعناه وما يتعلق به من التفاصيل:

8470- فنقول: إذا حكمنا بأن المفوِّضة لا تستحق شيئاً بالعقد، فقد ذكرنا أنها تملك طلب الفرض. وأوضحنا ما فيه من ترددٍ واحتمالٍ على ما عليه الأصحاب، وعلى التخريج الذي ذكره القاضي.
والأصل المعتمد: أنها تملك طلب الفرض إذا فرعنا على أنها تستحق المهر بالعقد، فالذي ذكره الأئمة مع ذلك أنها تستحق طلب الفرض. وقد أوضحنا ذلك على طريقة الأصحاب، وذكرنا طريقة شيخنا أبي محمد.
ونحن الآن نرفع تفرّق الفكر بالتخريج، وطريق شيخنا، ونرد النظر إلى ما عليه الأصحاب، من أنها تملك طلبَ الفرض، وهذا متجه على قولنا: إنها لا تستحق بالعقد مهراً، فالفرض يفيدها لا محالة استحقاق المفروض. وإن قضينا بأنها تستحق بالعقد، فالفرض يفيدها تقرير نصف المهر، بناء على أنها إذا طُلقت قبل المسيس، لم تستحق شيئاً، ويسقط المهر كله.
ووراء ذلك كلام للأصحاب، وذلك أنهم قالوا: لو أرادت أن تطلب من المهر شيئاً وإن قل، لم تملكه ولم تجد إليه سبيلاً، وإنما لها طلب الفرض فحسب، وهذا الآن مشكل جداً، مناقضٌ لقولنا: إنها تستحق بالعقد المهرَ، وكان الوجه أن يقال: تملك طلب المهر، وتملك طلب الفرض. أما طلب المهر فمعلل بثبوت المهر، وأما طلب الفرض، فسببه تقرير نصف المهر، وهذا له التفات على مطالبتها بوطأة واحدة ليتقرر بذلك مهرها، ولكن ذلك مختلَفٌ فيه، وطلب الفرض على رأي الأصحاب متفق عليه، والسبب فيه أن الزوج قادر على الفرض متى شاء، والوطء أمر جِبِلِّيٌّ قد لا تساعد الطبيعةُ على المواتاة فيه، ولا عجز بالزوج أيضاً، ولكن وقته لا يتعين، فبعُد تمليك المرأة الطلبَ فيه في أي وقت تشاء، وما ذكره الأصحاب تصريح بإفساد القول بأنها تستحق بالعقد شيئاً، وأن هذا القول لا ثبات له، ولذلك لم يعرفه العراقيون، ولم يعرِّضوا بذكره أصلاً.
8471- فإذا تمهّد أصل الفرض فيما رسمناه، فنخوض بعد ذلك في تفصيل القول، ونقول: الفرض يقع من الزوج، فإذا وقع التراضي بمبلغ، فَفَرضه الزوجُ، ثبت، ويجوز أن يكون عينا معيّنة- نقداً أو عَرْضاً، ويجوز أن يكون ديناً ملتزماً في الذمة.
والمذهب الأصح: أن الفرض إذا كان يجري من الزوج، فلا يشترط علمُه وعلمُ الزوجة بمقدار مهر المثل، وإنما التعويل على رضا المرأة وفَرْضِ الزوج.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح الفرض من الزوج ما لم يكونا عالمين بمقدار مهر المثل، وهذا الوجه ضعيف، لا معوّل عليه، ولكنه مشهور في الحكاية.
وقد قال بعض المحققين: إن حكمنا بأن المفوضة لا تستحق بالعقد مهراً، فلا حاجة إلى معرفة هذا المِثْل؛ فإن الفرض ابتداءُ إيجابٍ على هذا القول، وإن حكمنا بأن المفوضة تستحق المهر بالعقد، فهو مهر المثل؛ فلابد من علمها بمهر المثل.
والذي نراه في ذلك رأياً-وهو حقيقة الأمر- أنا إن فرّعنا على الأصح-وهو أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً- فإذا فَرَضَ الزوجُ، فالظاهر أنه لا حاجة إلى العلم بمبلغ المهر، ولكن ينقدح معه اشتراط العلم؛ فإنا لو قدرنا الفرض ابتداء إيجاب، كان ذلك خارجاً عن القانون؛ فإن العوض إنما يثبت بالعقد، وشرطه إيجاب وقبول، والقبول ليس معتبراً في الفرض اتفاقاً، ولو اعتُبر، فالمرأة ليست قابلة في عقد النكاح، والنكاح لا يمكن إعادته ما لم يُنقض، فمن ضرورة الفرض أن يكون له التفاتٌ على ما يجب بالوطء، والواجب به إن لم يجر فرضٌ مهرُ المثل. وبالجملة الفرض لا يضاهي قاعدة من قواعد الأعواض على رأي الشافعي. فمَن اشترط العلم بالمهر على هذا القول، فصدَرُه مما نبهنا عليه الآن.
ويتصل بهذا المنتهى أن المفروض لو كان أقل من مهر المثل، جاز على هذا القول، وكذلك لو كان عَرْضاً من العروض، مع العلم بأن مهر المثل لا يكون إلا نقداً. والسر فيه أن الشرعَ كما أثبت للمرأة طلب الفرض وَسَّع الأمرَ عند التراضي؛ حتى يستفيد الرجل البراءة عن مهر المثل قبل وجوبه بالمسيس إذا رضيت؛ فإن المهر المسمى في النكاح على التراضي، فكان الفرض دائراً على الرضا، ولكن إن رضيت، فالأمر على ما وصفنا.
وإن لم ترض إلا مهر المثل، فالوجه أن يقال: إن ساعدها، فذاك، وإلا رفعت الأمر إلى القاضي، وهو القسم الثاني في الفرض، كما سنصفه الآن، إن شاء الله عز وجل.
8472- ومما يتعلق بذلك: أن الزوج لو أراد أن يفرض لها من غير أن تطلب الفرض؛ فإن فرض لها أقل من مهر المثل، لم يثبت. وإن فرض لها مهر المثل من غير طلبها وتعرضها، فهذا محتمل جداً؛ يجوز أن يقال: يثبت؛ فإن الفرض ليس عقداً، ويظهر أن يقال: لا يثبت ما لم تطلب؛ فإن طلبها ينزل منزلة القبول في العقود.
ولو وقع التراضي على أكثر من مهر المثل، فيظهر على هذا القول أن يثبت؛ فإن المهر غير ثابت حالة الفرض، ويحتمل ألا يثبت الزائد إذا كان من جنس النقد الذي إليه الرجوع؛ فإنا على كل حال نلتفت إلى مهر المثل، فكأنه وإن لم يثبت بعدُ- فهو مستحق الثبوت. وهذا يشابه مسألة ستأتي-إن شاء الله عز وجل- في الجنايات، وهي: أن من صالَح على دم العمد على أكثر من دية، ففي ثبوت العوض كلام مأخوذ من التفريع على موجب العمد، أنه ماذا؟ وسيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
وإذا كان يثبت المشروط- وهو أقل، فيثبت أيضاً وهو أكثر. ولولا اعتراض شيء في الفكر لما أوردنا القول في ذلك، ولكن لو ثبتت الزيادة، لما ثبتت إلا عوضاً، وكيف يتصور ثبوت العوض من غير التفات إلى ما سيستحق من غير صيغة عقد؟
8473- ومما يتم به الغرض: أن المرأة لو قالت: "أسقطت حقي من طلب الفرض " فكيف الوجه فيه؟ فنقول: قد ظهر الاختلاف في أن الإبراء عما لم يجب وظهر سبب وجوبه، هل يصح؟ وعليه خُرِّج إبراء المرأة عن نفقة عدتها، فعلى هذا لو قالت: أبرأت عما سيجب لي من المهر عند الوطء؛ فالظاهر: خروج ذلك على الخلاف الذي ذكرناه الآن.
فإن قيل: ثبوت المهر يتعلق بتعبد الشرع، فكيف يسقط بإسقاطها؟ قلنا: الإبراء في الأعواض نازل منزلة الاستيفاء، وليس هذا الذي ذكرناه بمثابة ما ذكره القاضي من تسليطها إياه على الوطء من غير مهر، فإن معناه أن ترضى بانعدام المهر، وإجراء الوطء على حكم التعرية، والإبراءُ الذي ذكرناه، معناه: تقدير ثبوت المهر مع إسقاطه بعد ثبوته.
فإذا تقرر هذا، عدنا إلى القول في إسقاطها حقَّ طلب الفرض، فنقول: هذا لغو لا حاصل له؛ فإنها إذا لم تُسقط المهر-على التقدير الذي ذكرناه- فلا يسقط حق الطلب، كما يسقط حق طلب المرأة التي آلى عنها زوجها، في أمثلة لذلك معروفة.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً.
8474- فأما إذا فرّعنا على أنها تستحق بالعقد المهرَ، فلو وقع التراضي على مقدار مهر المثل، فلا كلام. وإن وقع التراضي على أكثر من مهر المثل؛ فالذي أراه: امتناع هذا، كما إذا صالح عن دم العمد بأكثر من الدية، والتفريع على أن الموجَب الدية أو القَوَد أوْ أحدُهما لا بعينه، فإن وقع التراضي على أقل من مهر المثل؛ فالذي قطع به الأصحاب: أن ذلك يصح. وخروج ذلك على حمل الاقتصار على هذا المقدار على إسقاط ما يتمم به مهر المثل، وعلى هذا خُرِّج جواز الفرض بما دون مهر المثل.
فإذا تقرر ما ذكرناه، فالذي جرّ هذا الكلام كلَّه، القولُ في أنا هل نشترط علم الزوجين؟ وقد فرعنا ذلك على القول الأول، وتفريعه على هذا القول: أن المفروض إن كان دون مهر المثل قطعاً، فلا حاجة إلى العلم بمقدار مهر المثل، وإن أمكن أن يكون المفروض أكثر من مهر المثل، ولم يكن من جنس مهر المثل، فالوجه: ألا نشترط العلم بالمهر. وإن كان المفروض من جنس مهر المثل، ويمكن أن يكون أكثر، فيتجه اشتراط العلم.
فهذا تمام البيان في ذلك و الأصحاب أطلقوا وجهين.
8475- ومما نذكره الآية: القول في تأجيل المفروض، وقد ذكر معظم الأئمة أن المفروض يقبل التأجيل، وفي بعض التصانيف ذكر الوجهين، والتحقيق فيه: أنا إن فرعنا على أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً؛ فالظاهر: ثبوت الأجل إذا وقع التراضي به، فإن المفروض على هذا القول واجبٌ مبتدأٌ، وإن كان له التفات على موجب العقد.
ويحتمل أن يقال: لا يثبت الأجل فيه؛ فإن الفرض ليس عقداً تاماً، وأشبه شيء به الفرض، ثم لا يثبت الأجل فيه.
وإن فرّعنا على أن المفوضة تستحق بالعقد المهر، فهل يقبل الأجل، وكيف وجهه؟ فنقول: الأجل على هذا القول بعيدٌ، ولكن ليس ينحسم الاحتمال فيه، مع جواز الاقتصار على أقل من مهر المثل، وجواز العدول عن جنس مهر المثل.
وكنت أود لو كان الفرض على هذا القول اعتياضاً عن المهر الواجب بالعقد، ثم كان يترتب عليه ما يليق به، ومن أوائله: اشتراط الإيجاب والقبول، قياساً على الاعتياض، عن جميع الأعواض، أو كان يخرّج على الاعتياض عن الثمن في الذمة، ولكن أطبق الأصحاب على إجراء الفرض على نسق واحد على القولين، وهو محمول عندي على كف الفكر عن الغوامض والمغاصات، ونحن لم نأل جهداً نقلاً وتنبيهاً وتخريجاً على الأصول.
8476- ومما يتصل بهذا المنتهى: أن الزوج لو فرض لها خمراً برضاها، فالذي ذكره الأئمة يقتضي أن ذلك لغو، وكأن لا فرض، ولا نجعل تسميةَ الخمر في مقام الفرض بمثابة تسميته الخمر مهراً، فإن قيل: إذا جوزتم تأجيل المفروض، فهلا جعلتم تسميته بمثابة تسميتها في الإصداق؟ قلنا: لا سواء؛ فإن الخمر إذا سميت في النكاح، فقد قصد العوض، فلم نجد بُداً من إثبات المهر، فأثبتناه.
وأما الفرض، فليس ينحسم بابُه، فإذا فسد فرضٌ، لغا، وابتُدِىء فرضٌ صحيح، هذا هو الذي لا يجوز غيره.
وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الفرض على التراضي.
8477- فأما القول في فرض القاضي؛ فإنما تمس الحاجة إلى ذلك، إذا طلبت وأبى الزوجُ، أو تنازعا في مقدار المفروض، فأما إذا كانا يتراضيان، فلا فائدة في الارتفاع إلى القاضي.
فإذا ثبت ذلك؛ فلو تنازعا، وكانت المرأة لا ترضى إلا بأقصى حقها، فلا يصح الفرض من القاضي، ما لم يكن عالماً بمقدار مهر المثل؛ إذ إليه الرجوع، وهو منتهى حقها. فإن تراضيا في مجلس القاضي بدون مهر المثل، فالقاضي ليس بفارض، وإنما الفارض الزوجُ برضاها، فإن فوّضا إلى القاضي، فهو في حكم المستناب عن الزوج، وإذا كان النزاع دائماً، فَفَرْضُ القاضي ثابت أيضاً، ولكنه نيابةٌ قهرية، يُجْريها القاضي استيفاءً لحقٍّ من الممتنع عنه.
ولو امتنع الزوج من الفرض، فرضيت المرأة بدون مهر المثل، أو رضيت بأن يكون المفروض مؤجلاً، والتفريع على أن الفرض يقبل التأجيل، فنقول: أما إذا رضيت بالتأجيل، والزوج على إبائه وامتناعه، وكان القاضي يفرض عليه قهراً، فقد قال المحققون: ليس للقاضي أن يفرضه مؤجلاً، وإن كان الفرض قابلاً للأجل لو صدر من الزوج- على الرأي الأصح؛ والسبب فيه: أن منصب القاضي يقتضي منه إلزامَ الزوج مالاً حاقّاً، انتجزت الطَّلِبة به. فأما إثباته على أجلٍ ومهل، فلا يليق بمنصب الولاة، وليس كما لو كان الفارض الزوج؛ فإن ذلك يجري مجرى العقود والتراضي على ما يتفق به الرضا به. والسلطان قد يبيع مال الطفل بأجل؛ لأن بيعه منوط بالنظر، فإذا رأى الغبطة في التأجيل، أجّل، على شرائط ذكرناها في كتاب الرهون، وفرضه عن زوج ممتنعٍ استيفاءُ حقٍّ منه، ولا يتحقق استيفاء الحق لأجل الامتناع إلا فيما يتَّصف بالحلول، وأيضاً، فالأجل إذا ثبت، فهو حق لمن عليه الحق، وإثبات الحق لناظرٍ لنفسه حاضرٍ لا وجه له. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأجل لا يثبت إلا برضا الزوجة وفي ثبوته برضاها التردد الذي ذكرناه.
فهذا منتهى القول في ذلك.
ثم قال الأصحاب: إذا كانت المرأة لا ترضى إلا بنهاية حقها، فيتعين على القاضي أن يفرض لها مهرَ مثلها، ثم قالوا: لو زاد شيئاً أو نقص، لم يجز إلا القدر اليسير الذي لا يؤبه له، ويسوغ الاجتهاد فيه. ولم يُرد الأصحاب بذلك زيادة محققة أو نقصاناً محققاً، وإنما أرادوا ما يقع التغابن في مثله، ولا يثبت به القول فيه زيادة ولا نقصان. وهذا على التحقيق إيجاب مهر المثل؛ فإن مبلغه مظنون، كما سيأتي في الباب المعقود على أثر هذا الباب، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
8478- الأجنبي إذا فرض للمفوضة شيئاً برضاها، وجرى ذلك بينه وبينها، فهل يصح الفرض من الأجنبي؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يصح كما يصح من الأجنبي أداءُ الدين، وإن لم يصدر عن إذن الزوج، فكذلك يصح منه الفرض برضاها. وهذا المفروض يكون على الأجنبي، فإنه لم يُلزم الزوجَ شيئاً.
والوجه الثاني-وهو الأصح عندهم- أنه لا يصح؛ لأنه تصرفٌّ في العقد، وتغيير لصفته.
فإن قلنا: لا يصح، لغا ما كان، ولها مطالبة الزوج بالفرض. وإن صححنا الفرض، سقطت طلبتها عن الزوج، وطالبت الأجنبي بما التزمه.
ثم إذا طلقها الزوج قبل المسيس، فإلى من يرتد النصف المفروض؟ فعلى الوجهين المذكورين إذا تبرع الأجنبي بأداء الصداق، ثم فرض الطلاق.
فصل:
8479- قال الأئمة: ما ذكرناه قولنا في التفويض الصحيح، وقد تقدم تصويره، والحكمُ فيه على وجه لم يدخل في إمكاننا أشفُّ وأفضل منه، وهذا الفصل معقود في التفويض الفاسد.
وفساد التفويض في الغالب يصدر ممن لا يملك التفويض، فإذا كانت المرأة سفيهة، فرضيت أن تزوَّج بلا مهر، فلا حكم للرضا بترك المهر؛ فإذا زوجها وليّها بغير مهر كان كما لو ابتدأ تزويج ابنته بغير مهر، فإذا جرى ذلك، ففي انعقاد النكاح القولان السابقان.
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنها لو أذنت في أن تُزوَّج بلا مهر، وكان النكاح يتوقف على إذنها، فإذا زوّجها الوليّ بالمهر، وظن الفقيه أن النكاح لم يقع على حسب الإذن، فيجب أن لا ينعقد، فقال: يظهر تنزيل هذا منزلة ما لو أذنت في أن تزوج بألف، فزُوِّجت بألفين. ولو جرى ذلك، لانعقد النكاح، وثبت المسمى، فيحمل على رضاها، فنزل المهر على طلب النكاح كيف كان.
وإن هي صرحت باشتراط نفي المهر، وذكرت ما يتضمن خروج النكاح عن موجب إذنها لو زُوِّجت بالمهر، فهذا بمثابة ما لو قال المالك: "بع عبدي هذا بألف ولا تبعه بأكثر منه، فتخالف إذني". وقد ذكرنا في كتاب الوكالة، فأوضحنا تردد الأصحاب فيه.
وإذا قال: "هب هذا العبد من فلان " فباعه منه، لم يجز؛ لأنه انتقال من صنف من العقود إلى صنف، والنكاح بالمهر والعَرِيُّ منه عن المهر صنفٌ واحد، فكان مشبهاً بما ذكرناه في البيع بأكثر من المقدار الذي سماه الموكِّل.
ومما ذكره الأئمة أن المرأة المطْلقَة في مالها، المالكة للتبرع به، لو قالت لوليها: "زوّجني بما شئت، أو بما أراد الخاطب"، فإن جرى العقد على هذه الصيغة، فقال الولي: زوجتُ فُلانة منك أيها الخاطب بما شئت، فهذا معقود بمهر مجهول، فالرجوع إلى مهر المثل، ولو وقف الولي على المبلغ الذي شاءه الخاطب، ثم أنشأ العقد به، فيجب القطع بصحة التسمية. وذُكر عن القاضي أن هذا مجهول.
وتعلَّق بأن لفظ الإذن على صيغة الجهالة.
وهذا وهم عظيم؛ فإنها فوّضت إلى الولي أن يعقد بما يقدره الخاطب، و ليس من غرضها أن تُعاد صيغة لفظها في العقد، فسبيل التفصيل إذاً ما ذكرناه.
وقد يتجه أن يقال بعد فهم ما ذكرناه من كلامها: إذا عقد النكاح وأعيدت صيغة لفظها، فقال الولي: "زوجتكها بما شئت"، فالنكاح مختلٌّ؛ لأن الولي خالف موجب إذنها، فكان كما لو قالت: "زوجني " فزوجها بأقل من مهر مثلها.
فلو قالت: "زوجني " فزوجها بخمر؛ فالواجب مهر المثل لو قدر انعقاد النكاح ولكان ما جاء به موجَبَ الإذن المحمول على العرف، فليتأمل الناظر ذلك.
ولا ينبغي أن نسرف في الفرض أيضاً. وإذا اتضحت الأصول، لم يخف على الفقيه مُدرك المقصود منها.
ثم قال الأئمة: إذا انعقد النكاح بمهر المثل عند اتفاق تسمية فاسدة، فإذا طُلِّقت قبل المسيس، تشطّر مهر المثل كما يتشطّر المسمى الصحيح، خلافاً لأبي حنيفة، وإذا جرى في نكاح التفويض فرضٌ، ثم طلقت قبل المسيس، تشطر المفروض، وخالف أبو حنيفة في ذلك أيضاً، واجترأ على ظاهر النص في قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقد ذكرنا إطباق المفسرين على حمل هذه الآي على المفوضة. وإذا خلا نكاح التفويض عن الفرض، ثم فُرض الطلاق قبل المسيس، فلا يثبت-وإن فرعنا على أن المهر يثبت بالنكاح مع اشتماله على التفويض- مما ذكره شيخنا أبو محمد غير ملحَق بالمذهب، كما تقدم شرحه، والله أعلم.

.باب: تفسير مهر المثل:

8480- مهر المثل يكثر تَدْوَارُه في الكلام، فيجب في النكاح الصحيح عند فساد التسمية، وقد يجب في نكاح التفويض، ويجب في وطء الشبهة، وقد يجب في بدل الخلع، وتمس الحاجة إلى معرفته في توزيع المسمى على مهور الأمثال إذا نكح الرجل نسوة في عُقدة، وفرّعنا على تصحيح الصداق، وتمس الحاجة فيه إذا كان الصداق شقصاً مشفوعاً؛ فإن الشفيع يأخذ شقصاً من مهر المثل، وهذا الباب معقود في بيان مهر المثل، والطرق التي توصل إلى معرفتها.
8481- ونحن نقول على الجملة: مهر المثل قيمة البضع، والسبيل فيه كالسبيل في قيم المتقوّمات، ثم إذا أشبهت قيمة الثوب، فالوجه اعتبار ذلك الثوب بأمثاله، والنظر إلى ما عهدت أمثال هذا الثوب رائجة به، وذلك يختلف بكثرة الرغبات وقلتها، فهذا مسلك مهر المثل.
وخاصية الباب الإحاطه بأمثال التي نريد أن نعرف مهرها. فقال الأصحاب: يعتبر مهر المرأة بنساء العصبات.
والقول الضابط فيه: أنا نعتبر النسوة اللاتي ترجع أنسابهن إلى من يرجع نسب المستحقة إليه، وبيان ذلك بالمثال: أنا نعتبر الأخوات من الأب والأم لانتسابهن إلى من تنسب هذه إليه، وكذلك تعتبر العمات؛ فإنهن منتسبات إلى الجد، وهو على عمود النسب. وتعتبر بنات الإخوة من الأب وبنات الأعمام، ولا تعتبر بنات الأخوات؛ فإنهن لا ينسبن إلى أمهاتهن، وإنما ينسبن إلى أزواج الأخوات، ولا يعتبر مهر المرأة بمهور البنات والأمهات، فإنهن لا ينسبن إلى من تنسب هذه المرأة إليه، ولذلك لا تعتبر الأخوات من الأم وبناتهن والأخوال والخالات وبناتهم لما ذكرناه.
8482- فإذا لاحت النسوة المعتبرات والخارجات عن الاعتبار؛ فالطَّلِبة وراء ذلك بتعليل هذا، فنقول: الصفة الغالبة في العرف الجاري في مقدار المهر النسبُ، فإن المنتسبات إلى شجرة واحدة يجرين على مقدار من المهر، وإن فرض النقص منه عُدّ حطيطةً ووكيسة، والأبضاع لا تتقوم تقوم الأموال، وإنما يُرجع فيها إلى أمثال هذه الخصال التي ذكرناها.
ثم قال الأئمة: إن كانت هذه المرأة التي تبغي مقدار مهرها مساوية لنساء العصبات فذاك، وإن كانت مخالفة لهن في بعض الخصال الحميدة أو الذميمة، فقد يزيد وينقص على ما تقتضيه الصفات، فلو اختصت بصراحةٍ في النسب، وصباحة في الوجه، وسلامة في الخَلْق، وعفة ويسارٍ، ومزية في العقل، ومَسْحةٍ من الجمال ظاهرةٍ، فيزاد لها بهذه الصفات، فكأن القطب الذي عليه المدار النسبُ، ثم الاقتصار عليه.
ومن لطيف القول في هذا أن الجمال غير معتبر في الكفاءة، والنسب مرعي فيه، وهو الأصل، والجمال مرعي في مهر المثل باتفاق الأصحاب؛ وذلك لأنا وإن اعتبرنا النسب في الباب، فطلب مهر المثل طلب قيمة، والقيم ترتبط بالرغبات، والرغبات تتفاوت بهذه الصفات، والكفاءة ليست من هذا القبيل، والمجتنب ثَمَّ العارُ، كما بينا قاعدة الكفاءة، فإذا لم يكن ضرار ولا عار، فالكفاءة كافية، وهذا مبني على الرغبات.
وقطع أئمتنا باعتبار اليسار في مهر المثل، وإن لم يكن اليسار صفتَها، ولا حق للزوج في مالها، ولكن يسارها يستجر الرغبات إليها، وقد ذكرنا أن التعويل في قيم المتقومات على الرغبات.
8483- ثم مهر المثل حيث ثبت ويُقضى به يكون من النقد الغالب؛ فإنه قيمة، والقيم تناط بالنقد الغالب، ولو فرض نقدان عامان، فلا يختلف التقويم بهما، وليس هذا كتقويمنا عروض التجارة؛ فإن الغرض قد يختلف بسبب انتقاص النصاب، وهذا لا يعقل في المتقومات.
ولو سامحت واحدة من نساء العشيرة بحيث تعد بذلك ندْرة محمولة على مسامحة، فلا اعتبار بها في حق هذه التي تطلب كمال مهر مثلها، وإن عمّ ذلك في نساء العشيرة بعد أن لم يكن، حُمل هذا على انحطاط السعر، واستبان انتقاص الرغبات فيهن، فكانت المعتبرة محمولةً على هذا التخفيف.
ولكل صورة من الصور التي نذكرها نظير في القيم لا يخفى مُدركه. ولو جرت عادتهن من المهر ولكن كن يؤجّلنه فإثبات مهر المثل مؤجلاً محال؛ فإنه قيمة في مقابلة إتلاف أو فيما يحل محل الإتلاف، والقيم لا تتأجل، ولكن إذا كان مهر العشيرة ألفاً مؤجلاً إلى سنة، فيثبت حالاًّ ما يساوي ألفاً مؤجلاً، فيُحَطّ من المقدار، ويُقضى بالحلول. ولو قالت: أوجبوا الجميع وأنا أمهله، لم يلتفت إليها؛ فإن الأجل إذا كان لا يلزم، فلا حكم لوعدها.
8484- ومما ذكره الأئمة: أنه لو جرت عادة العشيرة بحط شيء من المهر إذا كان الخاطب منهم، وطلب مزيد إذا كان الخاطب أجنبياً، قالوا: إذا كان المطالَب واحداً من العشيرة، فيعتبر في حقه تلك الحطيطة، وكان شيخي أبو محمد يأبى هذا ويقطع بخلافه؛ فإن قيم المتلفات لا تختلف باختلاف المُتْلِفين.
وفي هذا فضل نظر عندنا، فيجوز أن يقال: إن كنا نعتبر مهراً في نكاح، فتلك الحطيطة مرعية، فإن مسامحة العشيرة سببها طلب التداني في التواصل، وذلك في حكم العرف الغالب يستحث على الحطّ.
وأما إذا جرى وطء بشبهة؛ فيجب أن لا يفرق بين القريب والبعيد، فإن الحطيطة التي ذكرناها تُحْتَمَلُ في النكاح رغبة في المواصلة مع تداني القرابة.
والذي عليه الفقه في الباب أن لا نقطع نظره عن قصد المواصلات، ولا نظر إلى الأبعاض تتمحض أموالاً.
وعندنا أنا أوضحنا قاعدة الباب ولم نُبق كلاًّ على الطالب.
ولو أُحوجنا إلى معرفة مهر امرأة لا نعرف لها عشيرة، فليس إلا رد النظر إلى الرغبة المحضة في أمثالها على ما هي عليها، وإنما لم نقتصر على هذا في النسيبة؛ لأن الخاطب قد يجهل نسبها، فنذكرها له، وما ذكرناه جار، فالرجوع إلى الرغبة في النسيبة وغير النسيبة، وإنما خُص هذا الباب بالعقد لبُعْد الأبضاع عن المالية المحضة، مع أنها منزّلة على قيم الأموال، غير أنها تمتاز عن الأموال بالصفات المرعية فيها اللائقة بها، فالأموال قد تختلف أسباب الرغبات فيها، وإن شملتها المالية، والله أعلم.