فصل: فصل: في العَزْل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الإحصان الذي يُرجَمُ به من زنى:

8332- شرائط إحصان الرجم: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإصابة في النكاح الصحيح، ولا ترتيب في الحرية والعقل والبلوغ، فإذا تحصَّلت، تعلَّق بها الغرض المطلوب، ولا نظر إلى ما يتقدم ويتأخر.
واختلف أصحابنا في الإصابة في النكاح الصحيح، فذهب بعضهم إلى أنا نشترط وقوعها بعد حصول الخصال الثلاث قبلها، حتى لو وقعت الإصابة قبلها، أو قبل واحدة منها، فلا اعتبار بتلك الإصابة.
ومن أصحابنا من لم يرع هذا الترتيب، وهو الأصح، وقال: إذا جامع العبدُ في النكاح، ثم عتق أو جامع مجنوناً، ثم عقل، أو جامع وهو صبي، ثم بلغ، وتوافت الخصال الأربع، حصل الإحصان.
ولم يختلف أصحابنا في أنَّ الرجل يتحصن بإصابة التي لا يكمل إحصانها بالإصابة، فإذا أصاب الحر البالغ العاقل منكوحته الرقيقة، تحصن، وإن لم تتحصن، خلافاً لأبي حنيفة.
والقول في أطراف الإحصان يأتي مستقصًى في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى. وإنما ذكرنا هذا القدر للجريان على ترتيب (السواد).

.فصل: في العَزْل:

8333- قال الأئمة: إذا وطىء الرجل أمته، فعزل الماء لأنها مملوكة، فله ألا يعرضهما لبطلان ملكه فيها، ويصونها عما يُبطل الملكية ويحسم التصرُّف.
ولو أراد أن يعزل عن منكوحته الحرة، فقد اختلف طرق الأئمة وترتيبُهم. فقال قائلون: لا يجوز العزل إن لم ترض به المرأة، وإن رضيت فوجهان:
أحدهما: يجوز؛ لرضاها، والحقُّ لا يعدوهما.
والثاني: لا يجوز؛ رعاية لحق المولود.
وفي الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل، وقال: "إنه الموءودة الصغرى".
وذكر العراقيون ترتيباً على العكس من هذا فقالوا: العزل بإذن الحرة جائز، وجهاً واحداً. وفي جوازه بغير إذنها وجهان.
وذكر الأئمة في العزل عن المنكوحة الأمة وجهين:
أحدهما: لا يجوز العزل؛ لأنها مستفرشة، ولها الحق في كمال الاستمتاع كالحرة.
والثاني: يجوز؛ محافظة على الامتناع من إرقاق الولد، وهذا متجه.
وذكروا في العزل عن المستولدة طريقين، فقال قائلون: نرتبهما على الأمة المنكوحة، وهي أولى بألاّ يجوز العزل عنها، فلا ضرار على التنجز بالملك، والولد حر.
وقال قائلون: نُجري فيها وجهين مرتبين، ونجعلها أولى بجواز العزل عنها؛ فإنها ليست راسخة في الاستفراش، ولهذا لا تستحق القَسْم، وإتمام الاستمتاع يليق بالمنكوحات. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب لإذن المستولدة وعدم إذنها؛ من جهة أنه لا استحقاق لها في القَسْم وحقوق الافتراش.
وما ذكرناه في الأَمَة المنكوحة، وعرَّيناه عن ذكر إذنها؛ فإنَّ سببه رق الولد، ويمكن إدراج اعتبار إذنها في الترتيب، لما لها من حقِّ الفراش.
8334- هذا ما ذكره الأصحاب، وفي جميع ما ذكروه غائلة عظيمة؛ وذلك أنهم قطعوا بأنَّ العزل لا يحرم عن الأمة، ورددوا الخلاف في أنَّ العزل هل يحرم عن المنكوحة؟ وكان شيخي يقطع بأنَّ العزلَ لا يحرم قط، ولكن يكره. وكان ينزل الكراهية على مضمون الأحاديث. وكان لا يفرِّق بين الأمة والمنكوحة، ويستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا وطئتم فلا تعزلوا، فإنه ما مِنْ نسمةٍ قضى الله بأنها كائنة إلاَّ وهي كائنة إلى يوم القيامة».ولمّا قال في العزل: إنه المؤودة الصغرى، لم يفرق بين محل ومحل.
8335- ونحن نقول وراء ذلك كله: إنَّ المصيرَ إلى تحريم العزل لا شك أنه حائد عن القياس، وإنَّ المصير إليه ظاهر في كلام الأصحاب، والدال عليه التشبيه بالوأد، وهو من الوعيد، ويبعد التوعد على ما ليس محرماً.
ثم الذي أراه أنَّ الذي حرمه الأصحاب قصد العزل، فأمَّا إذا عَنَّ للإنسان أن ينكف عن امرأة من غير أن يجرد قصداً إلى العزل، فهذا مما يجب القطع بأنه لا يحرم.
والوارد في الحديث لفظ العزل وهو مُشْعِرٌ بما ذكرته.
وطريقة شيخي في أنَّ العزل لا يحرم حسن بالغ، وما ذكره من التسوية بين الأمة والمنكوحة معتضد بظاهر الخبر، وقول الأصحاب في الفصل أمثل؛ لما أومأنا إليه.
ومما أجراه الأصحاب-وفيه اضطراب عندي- التعرض لإذن المرأة، وهذا يشعر بمراعاة حقها في تمام الاستمتاع. ولست أرى لهذا وجهاً، سيَّما إذا حُكِمَ بالتحريم فيه؛ إذ لا متعلَّق إلاَّ الخبر، ولا تعلق فيه للإذن. فهذا منتهى البحث عن هذا. وقد نجزت فصول (السواد) من كتاب النكاح. ونحن نرسم بعد هذا فروعاً من موئدات ابن الحداد وغيره.
فرع:
8336- الثيب المالكة لأمر نفسها إذا أذنت لوليها حتى زوّجها من رجل عيَّنَتْه، ثم إنها بعد الحكم بانعقاد النكاح ظاهراً- ادعت أنها أختُ الزوج من الرضاع، فلا يقبل قولها، والإذنُ السابق يكذبها فيما ادعته.
والبكر إذا زوّجها من لا يُجبرها، كالثيب، في التفصيل الذي ذكرناه.
وأمَّا إذا أجبرها أبوها، أو كانت صغيرة فزوّجها، فلما بلغت، ادعت مَحْرَمِيِّة بينها وبين زوجها، قال ابن الحداد: يقبل قولها مع يمينها؛ فإنَّ قولها محتمل، والأمر في ذلك ممكن، فكانت مصدَّقة فيما يرجع إلى نفسها. وإنْ اتهمها الزوج حلّفها. هذا اختيار ابن الحداد، ووافقه على ما قاله معظم الأصحاب.
وحكى الشيخ أبو زيد عن ابن سريج وجهاً آخر، أنه لا يقبل قولها في ذلك، وإن كانت مجبرة على النكاح. هذا ما نقله الشيخ في الشرح.
8337- وعلى الناظر في أطراف الكلام تأمل: فلتقع البداية بالكلام في المجبرة إذا ادعت مُفسداً في النكاح بعد أن استقلّت وأعربت عن نفسها. فنقول: ما حكاه أبو زيد موجه بجريان النكاح على الصحة ظاهراً، واستنادِه إلى تصرف وليٍّ، فإذا ادعت ما يتضمن قطع هذا الظاهر المحكوم به، لم تُصَدَّق. ووجه ما ذكره ابن الحداد أنَّ ما ادعته من الأمور الباطنة، والنكاح إن جرى إجباراً، فهي المعينة المنظور لها، فإذا استقلت، انعطف استقلالها على الإجبار الماضي.
وهذا الخلاف عندي يبتني ويترتب على ما إذا باع القاضي مالاً على إنسانٍ بحق اقتضى بيعَه، ثم رجع مالك المال؛ وزعم أنه كان قد باعه قبل بيع القاضي أو حبّسه، ففي قبول قوله قولان: أظهرهما- أنه لا يُقبل، وفيه قول آخر معروف: إنَّ قوله مقبول، فإعراب المرأة عن نفسها كإعراب المالك المطْلَق عن ماله وقد جرى حكم الحاكم ببيعة.
ثم قد قدمنا في صدر الفرع أنها أذنت، فهي ثبّتت النكاح، ثم ادعت محرمية، فلم يُقْبل ذلك.
وهاهنا وجهان من النظر:
أحدهما: أنَّ ما ذكرناه من مذهب ابن الحداد في المجبرة من أنها تُصَدَّق، أردنا به أنَّا نُحلّفها اكتفاءً بيمينها، والدعوى مقبولة، فإن أقامت على ما ادعته بيِّنة سُمعت.
وما رَدَدْناه من قول الثيِّب، فهو ردٌّ على التحقيق؛ فإن قولها الأخير يناقض إذنها.
ولكن يعرض هاهنا أصلٌ آخر، وهو أنها إذا أتت بكلام منتظم، وزعمت أنها أذنت على ظاهر الحال، ثم تبيّن محرميِّةٌ، لم تكن عالمةً بها حالةَ الإذن، فهل نقبل دعواها على هذا النسق؟
قد قدمنا هذا في المرهون: أنَّ الرجلَ إذا أقرَّ بالرهن والإقباض، ثم زعم أنه اعتمد فيه كتاباً، ثم تبيَّن له أنَّ الكتابَ كان مزوراً؛ ففي قبول دعواه على مناقضة إقراره الأول تفصيل طويل أتى الشرح عليه، وهذا يناظر ذاك، بل قولها بالقبول أولى؛ لأنَّ ما أتت به ظاهرُ الاحتمال مُتسقٌ في مجال العرف.
ثم إنْ لم نقبل ذلك منها، أو إذا أطلقت الدعوى ولم تُفصِّل، فلا نقبل أيضاًً وإن قبلنا هذا مفصلاً، فهل نقبل ذلك منها مطلقاً من غير تقديم تمهيد عذْر؟ فيه اختلاف قدمته أيضاًً.
ومما يجب البحث عنه أنَّ الأخ إذا زوّج البكر البالغة، واكتفى بصمتها تفريعاً على أظهر الوجهين، فإذا زُوِّجت وهي ساكتة، ثم ادعت محرمية؛ فقد تردد الحُذّاق في ذلك، فذهب ذاهبون إلى أنَّ صمتها تصريح بالإذن، كما أنَّ صمتها بمثابة نطق الثيِّب في عقد النكاح، والذي ارتضاه العراقيون أنَّ دعواها مسموعةٌ، وعندي أنَّ الدعوى مسموعة ولا تصدق باليمين. فهذا منتهى القول.
فرع:
8338- إذا نكح الرجل جارية أبيه على صداق، ثم مات الأب، وورث الزوج زوجته، فلا شك في انفساخ النكاح.
ثم إن كان دخل بها-وعلى المتوفَّى دين، فالمهر مأخوذ منه، مصروف إلى الدين، وإن لم يكن دَين ولا وارثَ غيرُه، سقط المهر، وإن كان معه وارث، فعليه من المهر حصةُ ذلك الوارث.
وإن لم يكن دخل بها، قال ابن الحداد: سقط جميع المهر، حتى إن كان دَين، لم يطالبه مستحقه بشيء من المهر، واعتل بأن قال: ارتفع النكاح قبل المسيس، لا بسبب صادر من جهة الزوج، فكان هذا كما لو ارتفع النكاح بردتها، وإنما يتشطر الصداق إذا كان من جهة الزوج قصدٌ في الفراق.
ومن أصحابنا من قال: يتشطر الصداق؛ فإنه كما لم يكن من جهة الزوج قصد، لم يكن من مستحق المهر أيضاً قصد.
8339- ونحن نقول في هذا: إذا ارتفع النكاح بسبب من جهة الزوجة المستحِقة للمهر، أو بسبب منها وليست مستحِقة- كالأمة المنكوحة، ثم فرض ذلك قبل المسيس، فالمهر يسقط.
ولو فسخت النكاح بعيب فيه قبل الدخول، سقط المهر، وهذا هو الذي يلزم الفقيه فيه فضلُ تأمل؛ من جهة أنها معذورة؛ إذ فسخت لمعنًى في الزوج، وآية هذا أن الزوج إذا فسخ بعيب فيها، سقط المهر كله، وذلك بسبب تعلق الفسخ بعيبها، وإلا فالفراق من جهة الزوج، فجعلنا العيب بها كإنشائها الفسخ.
وهذا في الظاهر يناقض فسخها بعيبه، ومساقه يقتضي أن نجعل العيب به كإنشائه الفراق، ولكن الفرق بين الجانبين أنَّ فسخه بعيبها يستند إلى استحقاقه سلامتها بالعقد على قياس العيوب في البيوع، فكأنه بذل العوض على شرط السلامة، وفَسْخُها ليس لاستحقاقها عليه شيئاً، وإنما هو لدفع الضرار، فأُرضي بسقوط المهر.
وإذا طلَّق الزوج، فحكم الشرع تشطّر الصداق، ولو رُددنا إلى القياس اللائح، لما استحقت شيئاً؛ من جهة أنَّ الزوج لم يستوف بضعها، ولم ينته النكاح نهايته، ولكنه بطلاقه متصرف في ملكه، وليس فاسخاً للنكاح، فحَكَم الشرعُ بقسطٍ وعدل، ونظر إلى تصرفه، ثم إلى عود البضع إليها، فانقسم النظر في شعبتين؛ فأوجب تشطر الصداق، ثم رِدَّة الزوج ملتحقة بطلاقه؛ لأنها ليست إنشاء فسخ، وإنما يترتب الفسخ عليها، وارتفاع النكاح محال على الزوج من غير فوت مستحق منها.
وأما القول في الخُلع-إذا جعلناه طلاقاً أو فسخاً- سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
8340- وإذا اشترت المرأة زوجها بصداقها، فهذا فيه تردد؛ من جهة ارتباط البيع بها وبمن عليه المهر، وقد ذكرنا ذلك مفصلاً في موضعه من النكاح.
وليس الشراء كالخُلع؛ فإنَّ المغلَّب في الخلع جانبُ الزوج؛ إذ هو المطلِّق، وهو المعلِّق طلاقه بقبولها، فقوي جانبه، وشِقَّا العقد في البيع مستويان، و يجري القولان في البيع، كما سبق ذكره.
8341- ومما يتصل بذلك أنه لو زوّج الرجل ابنته من عبده بإذنها، ثم مات سيد العبد وورثت الزوجةُ من زوجها نصفَه، فينفسخ النكاح، فإن كان مدخولاً بها، فتسقط طَلِبتها في نصف المهر؛ فإنها ملكت نصفه. ولا طلبة للمالك على مملوكه في الحال، ولو عتق العبد، فهل تطالبه بذلك النصف؟ فعلى وجهين مشهورين قدمنا ذكرهما، ولها طلب نصف المهر تعلقاً بالنصف الذي لم ترثه.
ولو كانت غير مدخول بها، فمذهب ابن الحداد أنَّ المهر يسقط بجملته؛ إذ لا صنع للزوج في ارتفاع النكاح، ومن أصحابنا من لا يرى ذلك، ويقول: أولاً القياس التشطر، ثم هذا النصف يتنصف كما يتنصف أصل المهر إذا كانت مدخولاً بها.
فرع:
8342- إذا زوَّج الرجل أمته من عبده، فلا شك أنه لا يثبت مهر مطلوب، ولكن ذكر الشيخ وجهين في أنَّا هل نقدِّر ثبوت المهر ثم سقوطه؛ أحدهما- أنه لا يثبت أصلاً، وهو الوجه؛ لأنَّ المعنى الذي يوجب سقوطه دواماً مقترن بالعقد؛ فيجب امتناع الوجوب به.
والوجه الثاني- أنه يثبت تقديراً، ثم يسقط، لينفصل النكاح عن صورة البدل.
وهذا لا حاصل له؛ فإنَّ التقدير إذا ناقضه التحقيق، بطل. فلو قدَّرنا مهراً، أَحْوجنا التقديرُ إلى إثبات مستحِقٍّ للمهر، ومستحَقٍّ عليه، ومساق ذلك يُلزم استحقاق السيد على عبده ديناً ابتداءً، وهذا محالٌ تخيّلُه. ومن قدر ما ذكرناه، فلا أثر لهذا التقدير، حتى لو زوّج أمته من عبده، ثم باع الأمة، فوطىء العبد الأمة ابتداءً في ملك الغير، لم يُلزَم مهراً، وإن رأينا إثبات المهر للمفوضة قبل المسيس مع تفريعنا على أنها لا تستحق المهر بالعقد.
وإنما أوردت هذا؛ لأنَّ أئمة المذهب لا يحكون الوجه الضعيف، ولم يحكه غير الشيخ أبي علي.
فرع:
8343- إذا زوّج الرجل إحدى بنتيه من رجل، ثم لما بلغتا، فنفرض نوعين من الخلاف:
أحدهما: أنَّ كل واحدة منهما لو قالت: أنا المزوَّجَة دون الثانية.
والوجه الثاني- أن يقول ذلك الشخص زوّجني هذه، فتنكر كل واحدة منهما الزوجية.
فأما إن كان صدَرُ الدعوى منهما ولا بيِّنة، رجعنا إلى الزوج، فإن عيّن الزوجُ واحدة منهما، ثبت النكاح فيما بيَّنها لتقارّهما، والتفريع على ثبوت النكاح بالإقرار.
ثم إذا ادعت الثانية أنها الزوجة، وقصدت بذلك طلب المهر، فقد اختلف أصحابنا في ترتيب المذهب، فقال بعضهم: في جواز تحليفها إياه قولان، وهؤلاء شبّهوا هذين القولين في هذه الصورة بالقولين فيه إذا ادعى رجلان نكاح امرأة، فأقرَّت لأحدهما بالنكاح، فهل للثاني أن يحلّفها؟ فيه قولان مشهوران.
وهذه الطريقة ضعيفة، والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور: أنَّ للمرأة أن تحلِّفه لقصد المهر قولاً واحداً. والفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أقرَّت المرأة لأحد المدعيَيْن بالنكاح، أنَّ المرأة في هذه المسألة ليست تطمع في إثبات النكاح مع إنكار الزوج وجحده، وإنما غرضها يتوجه إلى إثبات المهر، وهذا سائغ، لا امتناع فيه؛ إذ لا خلاف بين الأصحاب أنَّ المرأة إذا ادعت على رجل زوجيةً على مهر، فأنكر المدعى عليه، فدعواها مسموعة؛ فإنها ادعت مالاً وأسندته إلى سبب، وليس كذلك المسألة التي وقع الاستشهاد بها؛ فإنَّ المرأة إذا أقرَّت لأحدهما بالنكاح، فالثاني ليس يدعي عليها مالاً، وإنما يبغي إرهاقها إلى الإقرار أو النكول عن اليمين، حتى يغرّمها بحكم التفويت.
وقد قال المحققون: القولان ثَمّ مأخوذان من الغرم، فإن قلنا به، صححنا الدعوى، فإذا كانت الدعوى تتجه ثَمَّ أخذاً من الغرم-وفي الغرم قولان- فهاهنا لا اختلاف في إمكان ادعاء الصدق منها، فلا وجه لترديد القول فيه.
ومما يطرأ عليَّ أنَّ الشيخ أبا علي رجل عظيمُ القدر في المذهب نقلاً وفقهاً وإحاطة، وقد يتفق له في الشروح نقل وجوه بعيدة، لو ذكرها غيره لم أنقلها، وهذا الذي ذكرته منها.
8344- فالوجه: القطع بأنَّ لها أنْ تحلِّف هذا الرجل، فإن حلّفته، لم يخل الرجل إما أن يحلف على نفي الزوجية، أو ينكُل عن اليمين، فإن حلف على نفي الزواج من هذه المدعية الثانية، فقد سقطت طلبتها بالكلية من المهر وغيره، وإن نكل عن اليمين، رددنا اليمين عليها، فإن نكلت، كان نكولها كحلفه. وإن حلفت، فقد قال الشيخ أبو علي في هذا المنتهى: اختلف الأصحاب في منزلة يمين الرد في الخصومات، فمنهم من قال: هي كالبيّنة، ومنهم من قال: بل هي كإقرار المدعَى عليه، ثم قال: إن قلنا: حكمه حكم البيّنة، فقد اختلف أصحابنا على هذا القول، فمنهم من قال: يبطل نكاح الأولى، ويثبت نكاح الثانية؛ فإنه ثبت في حق الثانية ما حل محل البيّنة، والبيّنة وإن تأخرت، فهي أولى من الإقرار، ثم هذا القائل يقول: ينتفي نكاح الأولى، ونحكم بانقطاع نكاح الثانية أيضاًً؛ لإنكار الزوج.
وهذه الطريقة لا ثبات لها؛ فإنَّ يمين الرد لا تكون بمثابة البيّنة في حق غير المتنازعَيْن، وقد أوضحنا هذا في مسائل النكاح. ولسنا نلتزم إشباع القول في ذلك، حتى ننتهي إلى الدعاوى والبينات، إن شاء الله تعالى، فالوجه هاهنا أنها تستفيد بيمين الرد ثبوت ما تدعيه من المهر وإنْ حكمنا بأنَّ يمين الرد كالبيِّنة.
8345- ثم قال الشيخ: إن قلنا: سبيل يمين الرد سبيل الإقرار، فعلى هذا القول اختلافٌ أيضاً بين الأصحاب، فمنهم من قال: نحكم بارتفاع النكاحين؛ فإنه لما أقر للأولى، انتفى نكاح الثانية، ولو تحقق الإقرار؛ لتضمن إبطال نكاح الأولى بعد ما ثبت بالإقرار السابق.
والنكول ورد اليمين لا يتضمن رفض ذلك الإقرارِ إذا لم يوجد من الزوج لفظٌ موجبه رفع النكاح في حق الأولى، وقولنا: يمين الرد إقرار أو بيّنة تقديرٌ، ولسنا نجعل يمين الرد كحقيقة الإقرار ولا كحقيقة البيّنة بما يتعلق بثالث، وفي هذا لطفٌ؛ فإنَّ الفطن قد يتوهم أنَّ هذا حكم يتعلق بالزوج، ومن هذا ينشأ الخلاف الذي حكاه.
ولكن سر الفقه فيه أنَّ يمين الرد تكون كالبيِّنة أو كالإقرار في مقصود المدعي من المُدَّعَى عليه دون غيره، وانتفاء زوجية الأولى ليس مقصوداً للمدّعية؛ فإنها لو قصدته، لم تصل إليه؛ إذ غرضها زوجيةُ نفسها، وإذا كانت تقصد ذلك، فلا يتصور ثبوت زوجيتها مع إنكار الزوج.
ثم إذا فرعنا على المذهب وهو أنَّ النكاح لا ينتفي في حق الأولى، ولا يقدر ثبوته في حق الثانية، فإذا حلفت الثانية يمين الرد، فالمذهب الذي يجب القطع به أنها تستحق من المهر ما يليق بتصديقها، وهذه فائدة اليمين.
وذكر الشيخ هاهنا قولاً غريباً: إنَّ المهر لا يثبت؛ فإنَّ المهر فرع النكاح، فإذا لم يثبت النكاح، لم يثبت المهر، وهذا كلام مضطرب، والذي حكاه في هذا الموضع هو القول الضعيف الذي ذكرناه في أول الفرع حيث قلنا: لا تُقبل دعواها؛ إذ لا فائدة فيها، ثم إذا أثبتنا المهر، فلها نصف المسمى؛ فإنَّ الزوج أنكر نكاحها، فحل ذلك محل الإبانة. وإذا بانت قبل المسيس، فلها نصف المسمى. وفي هذا تثبُّت على الناظر سنذكره في أول كتاب الخلع-إن شاء الله تعالى-. والتنبيه عليه أنَّ إنكار النكاح هل نجعله إيقاع فراق؟ ظاهر النص أنه إيقاع فراق، وهو مشكل. فإن لم نجعله إيقاع فراق، اتجه أن نقول: لها طلب جميع المهر إلا أن يطلقها تنجيزاً.
وسيأتي هذا حيث ذكرناه، إن شاء الله تعالى، وقد نجز الكلام في صورة واحدة.
8346- الصورة الثانية أن يزوّج الأب إحدى بنتيه كما سبق، ثم قالت كل واحدة منهما لست بزوْجِهِ، وإنما الزوجة صاحبتي. فالأمر موقوف على قول الزوج، فنقول له: عيِّن زوجتَك منهما، فإن عيّن الزوجية على إحداهما، فقد انقطعت الطَّلِبةُ عن الثانية؛ إذ الزوجةُ إحداهما.
ثم القول قول التي يدعي الزوجية عليها مع يمينها، فإن حلفت على نفي الزوجية، انتفت الزوجيةُ في ظاهر الحكم عنهما جميعاً، فإن نكلت رُدَّ اليمينُ على الزوج، فإن حلف، ثبتت الزوجية في حقها لهذا الزوج، وإنْ نكل، كان نكوله عن اليمين بمنزلة حلفها.
قال الشيخ: قد رأيت بعض أصحابنا الشارحين يقول في هذه الصورة: إنَّ الزوجَ إذا عيَّن إحداهما، تعيّنت، فكان القول فيه قولَ الزوج، فإنه قد ثبت أنَّ إحداهما منكوحة، والزوج أعرفُ لمحل حقه.
وهذا ليس بشيء، ولو لم يحكه الشيخ، لما ذكرناه.
ثم إن ابن الحداد ذكر في تصوير المسألة شرطاً، وهو أنْ يزوّج إحدى بنتيه، ثم يموت الأب، وقصد بذلك ألاَّ يُرجَع بالبيان إليه، فقال الأصحاب: لو كان الأب باقياً، فبلغت البنتان واستقلتا، وقالت كل واحدة منهما: أنا الزوجة، فالإقرار مقبول وإن أنكر الأبُ.
وهذا فيه فضل نظر؛ من جهة أنَّ المسألة مفروضة في دوام النكاح، وقد تردد ذكرنا القول في قبول إقرار المرأة بالنكاح، فإن فرّعنا على القبول-وعليه بناء المسألة- فللأصحاب تردّدٌ؛ ظاهرٌ في قبول إقرار البكر، ومعها من يجبرها، ويظهر في وجه القياس ألاَّ نقبل إقرارها لكونها مجبرة، والشاهد فيه أنَّ إقرار الأب مقبول عليها؛ من جهة ملكه إجبارها، ويبعد أن نقبل إقرار الأب عليها، ونقبل إقرارها على مضادة أبيها، فعلى هذا لا اعتبار بإقرارها، مع دوام البكارة في بقاء الأب.
ومن أصحابنا من قال: نقبل إقرارها إذا استقلت بالنكاح.
وفي تفريع هذا إشكال فإنها لو أقرَّت بأنها زوجة فلان، وأقرَّ الأب بأنه زوّجَهَا من غيره، فإذا فرّعنا على قبول إقرارها، فكيف نقول؟ وما الوجه؟ وقد جرى الإقراران على التنافي؟ يجوز أن يقال: الحكم للإقرار السابق، ويجوز أن نحكم ببطلان الإقرارين إذا اجتمعا. ولو رددنا إقرارها، لتخلصنا من هذا الخبط.
فأما إذا أنكرت كلُ واحدة منهما الزوجية والأب باق؛ فإقرار الأب بزوجية إحداهما مقبول، ولا حكم لإنكارها. وهذا بيِّن لا خفاء به.
فجرى تقييد ابن الحداد فَرْعيه بموت الأب، لما ذكرناه.
فرع:
8347- إذا قبل الرجل نكاح أمةٍ من سيدها، ثم قال السيد: زوجتها وأنا محجور أو محصور، وقال الزوج: بل كان ذلك في حال نفوذ التصرفات، فالقول في هذه الصورة قول الزوج.
هكذا قال ابن الحداد. ثم يحلف، واعتل بأنَّ العقد قد جرى، والأصلُ صحة العقد.
قال الشيخ: هذا إذا لم يعهد من السيد جنون أو حجر ينافي صحة العقد، فأما إذا تمهد منه في ماضي الزمان ما ذكره، ووقع الاختلاف على ما وصفناه، ففي المسألة وجهان: ذكرهما الشيخ أبو زيد، أحدهما- أنَّ القول قول الزوج، وهو الذي اختاره أبو زيد.
والثاني: أنَّ القول قول السيد المزوِّج. وهذا الاختلاف يترتب على قاعدة، وهي: أن المعترف به نكاحٌ على الإطلاق، فإذا فرض بعده ما ينافي صحته، نفرض حمل الإقرار بالعقد المطلق على الفاسد. وقاعدة المذهب أنَّ العقد المطلق محمول في الألفاظ على الصحيح، ولذلك جعلنا الحلف المتعلق بالعقد المطلق في البِرّ والحِنث محمولاً على الصحيح، فهذا هو الأصل المعتبر؛ فلزم منه الحكم بحمل العقد على الصحة، فإن ظهرت حالة تُصدّق السيد وتُغلِّب على الظن صدقه، فوجه بدوّ الخلاف أن المانع السابق مانع من العقد صحةً وانعقاداً، وليس يمنع من إجراء صورة العقد، فقد يظن الظان أن من يدعي صحة العقد عليه إثبات سبب الصحة حالة العقد، وزوال المانع المقدّم معترف به، فهذا حقيقة القول.
وقد نصَّ الشافعي على أن الولي إذا وكَّل وكيلاً في تزويج وليته، ثم أحرم، واختلف الزوج والولي، وقد جرت صورة النكاح، فقال الوليُّ: "ما قبلتَ النكاح من الوكيل حتى أحرمتُ، فانعزل وكيلي. وقال الزوج: بل قبلتُ قبل إحرامك، قال الشافعي: القول قول الزوج". هذا نصه. ولم يحك الشيخ في هذه المسألة تردداً، والسبب فيه أنَّ الإحرام لاحق والأصل إسناد العقد إلى الحِلِّ المتقدم، فلينظر الناظر في ذلك.
فرع:
8348- إذا علم الرجل أنَّ له في بلده أختاً محرّةً عليه برضاع أو نسب، وكان لا يعرف عينها، قال الأصحاب: إن كانت نسوةُ البلدِ بحيث لا يمكن ضبطهن لكثرتهن؛ فله أن ينكح من شاء منهن؛ فإنَّا لو لم نجوّز ذلك، لانحسم عليه باب النكاح في هذه البلدة، ثم لو ألزمناه المُسَافَرة إذا أراد النكاح، فيجوز أن تكون تلك المرأة قد سافرت في جهة سفره وأنها التي اتفق نكاحه لها، فرفعنا هذا من البين، وعلى هذا قال الأصحاب: إذا أفلت صيدٌ مملوكٌ من مالكه، فاختلط بالصيود المباحة التي لا تحصر، فيحل الاصطياد، كما كان يحل قبل جريان الإفلات.
8349- وما ذكره الأصحاب من نسوة البلد، فيه تأمل، فالوجه: الفرض حيث يعم اللبس، ويُفرض جريان الرضاع مثلاً، مع استبهام الأمر، فلو كان يمكنه أن ينكح امرأة لا يتمارى فيها من أهل البلدة، فنكح أخرى في محل الريب والمراء، وكانت اللواتي يلتبسن عليه غير منضبطات، ففحوى كلام الأصحاب أن ذلك جائزٌ، ولا حجر أصلاً، وقد يَظن من يتشوف إلى الاحتياط أنَّا إنما نجوِّز ذلك إذا كان يؤدي إلى حسم النكاح، ولا ينبغي أن يبالى بهذا، فالأصل ما ذكره الأصحاب والذي أشرنا إليه إيراد وجه احتمال على عادتنا في المباحثة.
ومما يجب التنبه له أن المعنيَّ بخروج النساء عن الضبط عُسر عدّهن لكثرتهن على آحاد الناس، وإلا فلو أرادوا أكبر بلدة أن يُعدّ سكانُها، لتمكن منه، فهذا ما يجب الإحاطة به.
ولو أشار إلى نسوةٍ معدودات وقال: واحدةٌ منهن محرَّمةٌ عليّ، ولست أعرف عينَها؛ فالمذهب: أنه لا ينكح منهن واحدة. وذكر الشيخُ وجهاً ضعيفاً أنه لو نكح واحدة منهن محرّمة، حلت له مع شدة الكراهية؛ فإنَّ التي نكحها لم يثبت فيها محرِّم، والأصل عدم المحرِّم.
وهذا الاختلاف هو الذي حكيناه في التباس إناء من الماء بإناء من البول.
ولكن يبين الغرض بالإشارة إلى ذكر ثلاث مراتب، المرتبة الأولى- فيه إذا فُرض لبسٌ، وأمكن الاجتهاد، والأصل في الباب الحل، وهذا كالتباس إناء من ماء نجس بإناء من ماء طاهر، فالاجتهاد سائغ؛ فإنَّ العلامة على الجملة ممكنة، وقد تمهد في الباب أنا رُدِدْنا إلى الأخذ بأصل الطهارة. هذا بيان مرتبة، وقد سبق استقصاء أطرافها في كتاب الطهارة، والعلامة في هذه المرتبة خفية، ولهذا يعتضد بالرجوع إلى الأصل.
المرتبة الثانية- فيه إذا أمكنت العلامة الخفية، ولم يثبت التمسك بأصل الحل والجواز، ومن ذلك الإناء من البول مع الإناء من الماء، ففي جواز الاجتهاد وجهان، أصحهما المنع؛ لخفاء العلامة، وغلبة التحريم، ولم نُرَدّ إلى أصل الحل، المرتبة الثالثة وذلك كاشتباه المُذكَّى بالميتة، والأخت بالأجنبية. فالأصل التحريم عند الحصر الذي ذكرناه، ولا علامة يقدر التعلق بها، والتحريم غالب في الباب، فالوجه: القطع بالتحريم، ولكن حكى الشيخ الوجه الضعيف، ومن نظر إلى المراتب التي ذكرناها، بان له أن الوجه الذي حكاه الشيخ على نهاية الضعف.
فرع:
8350- إذا زوَّج الذمي ابنته الصغيرة الذمية من ذمي، ثم أسلم هو، أو أسلمت أم الصغيرة، وحكمنا لها بالإسلام تبعاً، ولا دخول، انتجز الفراق. وفي الصداق وجهان؛ من جهة أنَّ الفراق لم يأت من جهة الزوج، ولم يصدر من جهتها مباشرةُ الإسلام، بل ثبت الإسلام لها من غير اختيارها، وقد ذكرنا أنَّ المرأة إذا أسلمت تحت زوجها الكافر قبل المسيس، انبتّ النكاح وسقط مهرها، كما يسقط مهر المسلمة بالردة.
ومما يلحق بهذا أنَّ الذمي لو زوّج امرأةً من ابنه الصغير الذمي، ثم أسلم أحد أبوي الزوج قبل المسيس، يرتفع النكاح، ثم قال الشيخ: في المهر وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة المتقدمة، وهذه الصورة أولى بأن يتشطر الصداق فيها؛ من جهة أنَّ ارتفاع النكاح أتى من صفةٍ ثبتت للزوج، وارتفاع النكاح في الصورة الأولى جاء من صفة ثبتت للمرأة.
فرع:
8351- إذا ادعت المرأة نكاح رجل، وأنكر الزوج النكاح، فأقامت المرأة بيّنة عادلة أنه نكحها بألف درهم، وجرى الحكم بموجب الشهادة، ثم رجع الشهود عن الشهادة؛ فهل يغرَمون للزوج؟ وذكر الشيخ وجهين:
أحدهما: أنهم لا يغرمون؛ فإنهم ما غَرَّمُوه شيئاً، بل شهدوا على ملك بضع بعوض، فلم تتضمن شهادتهم تغريمه الألف مجاناً، ولكنه لما أنكر النكاح، صار شطر المهر غرماً عليه. والوجه الثاني- أنهم يغرمون؛ فإنه أنكر النكاح وشهدوا مع إنكاره، وعلموا أنَّ النكاح لا يخلص له مع إنكاره، فإنا لو قدرنا نكاحاً، لا ينتفي بنفيه.
التفريع:
8352- إن قلنا: لا يغرمون، فإنما ذاك فيه إذا شهدوا أنه أصدقها ألفاً، وكان مهر مثلها ألفاً أو أكثر، فأمَّا إذا كان مهر مثلها خمسمائة، فيلزمهم الغرم في الخمسمائة؛ فإنهم ألزموه ذلك، ولا مقابل له من البضع.
وإن قلنا: يغرمون- فلا يغرمون في هذه الصورة مهر المثل، ولكنهم يغرمون ما ألزموا الزوج، وإنما ألزموه نصف المسمى.
وما ذكرناه مقدمة لمسألة ابن الحداد، وصورة مسألته: أنَّ المرأة إذا ادعت نكاحاً بألف درهم على رجل فأنكره، وشهد شاهدان بأنه نكحها، وادعت الإصابة، فشهد شاهدان أنه أصابها، أو أقرَّ بإصابتها، ثم ادعت بعد ذلك كله طلاقاً، فشهد شاهدان أنه طلقها، ثم رجع الشهود كلهم فيه.
قال ابن الحداد: لا غرم على شهود النكاح ولا على شهود الإصابة، وإنما الغرم على شهود الطلاق، فيغرمون نصف مهر المثل. هذا جوابه.
واختلف أصحابنا على طرق، فذهب بعضهم إلى تصويب ابن الحداد، وقال: فرّع على أن لا غرم على شهود النكاح، وتعليله ما قدمناه في صدر المسألة، ولا غرم على شهود الإصابة؛ فإنهم شهدوا على استمتاع في نكاح، فإذا لم يلزم بسبب النكاح غرم، فكذلك لا يلتزم بسبب الإصابة.
وأمَّا شهود الطلاق، فقد فوّتوا ملكاً بلا عوض، ثم رجعوا.
ومن أصحابنا من قال: ما ذكرناه من تغريم شهود الطلاق غلط من أوجه، منها أثهم ما شهدوا على مخالفة الزوج؛ فإنَّ حاصل شهادتهم انتفاء النكاح، وكان المدعى عليه منكراً للنكاح مقترناً بنفي الزوجية، فلا يتحقق تفويت عليه.
وهذا هو الذي لا يتجه غيره.
والوجه عندي: أن ما ذكره ابن الحداد من عثراته.
ثم في شهود النكاح وشهود الإصابة نظر، أما وجه النظر في شهود النكاح، فعلى ما تقدم، وأما شهود الإصابة، فإن شهدوا على النكاح أيضاً ثم على الإصابة بعده، فالوجه تغريمهم، ثم يشتركون في الغرم الذي يتعلق بالنكاح، ويختصون بالغرم في النصف الآخر من المسمى؛ فإنَّ الزوج إنما غرم ذلك النصف الثاني بسبب شهادتهم. ومَن ذكر نفي الغرم عن شهود الإصابة فقد أبعد، ولكنه وجه حكاه الشيخ، وتوجيهه ضعيف؛ فإنَّ الذي تخيله من نفي الغرم في شهود النكاح أنهم شهدوا بحق في مقابلة عوض، والوطء إتلاف منافع البضع في كل حساب، ولصاحب ذلك الوجه الضعيف أن يقول: وطؤه انتفاعه، كما أنَّ النكاح حقه.
فأما إذا شهد شهود الإصابة على الإصابة مطلقاً من غير تعرض للنكاح، فينظر فيه؛ فإن تأرخ النكاح على وجه تأرخ الوطء بتاريخ متأخر عن النكاح، فعلى شهود الإصابة ما ذكرناه؛ فإنهم تسببوا إلى إثبات تقرير ذلك المسمى؛ وإن كانت الشهادتان مطلقتين، فشهود الإصابة لا يغرمون للمدعى عليه شيئاًً؛ فإن الإصابة قد تكون زنا، فإذا لم يغرِّموه، لم يغرموا إذا رجعوا.
فرع:
8353- إذا ادعى زيد على امرأة أنها زوجته، فانكرت، فأقام على ذلك بيِّنة، وادعت تلك المرأة أنها زوجة عمرو، فأنكر عمرو، وأقامت المرأة بيِّنة؛ قال ابن الحداد: بيِّنة زيد أولى، وتثبت زوجيتها في حقه. ومن كلامه في ذلك: أنَّ دعواه في الزوجية أقوى من دعوى المرأة؛ إذ حق الزوجية في جانب الزوج أثبت. قال الشيخ: هذه المسألة فيه إذا أنكر عمرو الزوجية، فأما إذا لم ينكر، ولكن سكت، فأقيمت عليه البينة؛ فيجوز أن يقال: تتقابل البيِّنتَان في ذلك، والكلام على تقابل البيِّنتَين يأتي إن شاء الله تعالى.
هذا منتهى كلام الشيخ، وفيه توقف على الناظر، قال ابن الحداد: إن لم تتعرض في دعواها نكاح عمرو لذكر المهر، فالوجه أن نقول: إن أنكر عمرو النكاح، وما ذكرت المرأة صداقاً، فلا معنى لإقامتها البيّنة، إلاَّ على مسلك بعيد في أنَّ الإنكار لا يقطع النكاح، فيكون غرضها ثبوت النفقة في مستقبل الزمان، وثبوت غيرها من حقوق النكاح، وهذا-وإن كان منقاساً- بعيدٌ عن مذهب الشافعي، وسنشبع القول فيه في كتاب الخُلع، إن شاء الله عز وجل.
فأما إذا سكت عمرو، وقد ادعت المرأة النكاح؛ فظاهر ما ذكره الأصحاب: قبول دعواها، وإن لم تذكر مهراً، فإنها ادعت سبباً في استحقاق حقوق، ولم يوجد من الزوج ما يتضمن قطعه.
ثم إذا سُمعت الدعوى والبينة، فالأظهر تقديم بينة زيد-كما قال ابن الحداد- لموافقة بيّنة زيد لدعواه، وحق النكاح لزيد، والمرأة لا يقوى حقها في نفس النكاح، وإنما تبغيه ذريعة إلى حقوقٍ في الاستقبال، ومن له الحق في النكاح ساكت.
فهذا وجه، وإليه ميل ابن الحداد ومعظم الشارحين، وقد ذكر الشيخ وجهاً من عند نفسه في مقابل البيِّنتين، ولم يختره، والله أعلم.
إن غرضي الأظهر في هذا الكتاب التنبيه على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صور الأحكام والمسائل منها غير معدومة في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعب المسائل.