فصل: فصل: في الجبران:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في الجبران:

1763- جبران نقصان الأسنان ثابت في صدقة الإبل، والأصل فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في أثناء نُصُب الإبل وواجباتها: "ومن بلغت صدقته جَذَعة وليست عنده، وعنده حِقة؛ فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا عليه، أو عشرين درهماً".
وأصل الجبران متفق عليه، واختصاص جريانه بنُصب الإبل متفق عليه أيضاً، ونحن نذكر تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى.
1764- فنقول: من ملك ستاً وثلاثين من الإبل، فواجبها بنت اللبون، فإن كانت موجودة في ماله على شرط الإجزاء، فأراد أن يخرج بنتَ مخاض مع الجبران، أو أراد أن يخرج حِقة، ويستردّ من الساعي الجبران، فلا يقبل ذلك منه. نعم لو أخرج حِقّة بدلاً عن بنت لبون، من غير مطالبة بجبران، فهي مقبولة منه؛ فإن ما يقبل من الكثير، فهو مقبول مما دونه، بحكم فحوى الخطاب، كما تقدم.
فأما إذا لم يكن في ماله بنت لبون، وكان في ماله بنت مخاض، فأخرجها، وأخرج معها شاتين، أو عشرين درهماً، فهذا مقبول مجزىء، ولا نكلفه أن يشتري بنتَ لبون، وإن كان ذلك ممكناً متيسراً عليه.
وكذلك لو أراد مع عدم بنت اللبون أن يخرج من ماله حِقة ويسترد من الساعي شاتين، أو عشرين درهماً، جاز ذلك.
ولو لم يكن في ماله بنت اللبون وكان في ماله جذعة فإن أخرج الجذعة، فقد رقى بسنَّين. فيسترد جبرانين، وهما أربع شياه، أو أربعون درهماً.
وكذلك لو كان واجب ماله حِقة، فلم تكن في ماله، وكان في ماله بنت مخاض، فنزل، وأخرجها، وضم إليها أربعَ شياه، أو أربعين درهماً، فما بذله مقبول وفاقاً.
وكل مرتبة في الترقي والنزول مقابلة بشاتين، أو عشرين درهماً.
1765- ولو كان واجب ماله بنتَ لبون، ولم تكن في ماله، وكان في ماله حقة وجذعة، فإن أخرج الحِقة واسترد جبراناً واحداً، جاز، وإن أخرج الجذعة، وأراد استرداد جبرانين، فالذي صار إليه معظم الأصحاب أنه لا يُجاب إلى ذلك؛ فإنه بترقّيه إلى الجذعة، قد تخطّى سناً قريباً ممكناً موجوداً في ماله. نعم، لو اكتفى بجبران واحد، وأقام الجذعة مقام الحِقة، فيسوغ ذلك، أخذاً من الفحوى، كما تقدم ذكره.
وقال القفال: لو أخرج جذعة، واسترد جبرانين، جاز؛ فإن الحِقة ليست واجبَ ماله، وإنما واجبُ ماله بنتُ اللبون، فلا أثر لتخطِّي الحِقة عند وجودها، وهذا منقاس حسن، وإن كانت جماهير الأئمة على مخالفته.
ولو كان واجب ماله بنتَ لبون، وكان في ماله بنتُ مخاض، وجذعة، ولم يكن في ماله حِقة، ولا بنت لبون، فلو نزل وأخرج بنتَ مخاض مع جبران، أجزأ، وإن أراد إخراجَ الجذعة واسترداد جبرانين، فهل يجوز ذلك؟ أما القفال، فإنه يجوّز ذلك؛ فإنه إذا كان يجوّز إخراج الجذعة مع وجود الحِقة القريبة من بنت اللبون، التي هي واجب ماله، وفي الترقي إلى الجذعة تخطِّي الحِقة؛ إذ الجهة واحدة، وهي الصعود، فلأن يجوّز إخراجَ الجذعة مع بنت المخاض في جهة النزول أوْلى.
وأما من قال: لا يجوز إخراجُ الجذعة مع وجود الحِقة، فقد ذكروا وجهين في جواز إخراجها، ولا حِقةَ، مع وجود بنت المخاض: أحدُ الوجهين- أنه يتعين إخراجُ ابنة المخاض؛ لأنها أقرب إلى بنت اللبون من الجذعة، والثاني: أنه يجوز إخراج الجذعة؛ فإن الجهة قد اختلفت نزولاً وصعوداً، وليس كما لو كانت الحقة موجودة.
1766- ومما يتعلق بتفريع الجبران أن من لزمه إخراج جذعة، فلم تكن، فأخرج ثنية، وهي الإبل فوق الجذعة، فإن تبرع بها، فلا شك أنها مقبولة، وإن أراد أن يسترد جبراناً، فهل يجاب إلى ذلك، أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يجاب، اعتباراً بالترقي من الحِقة إلى الجذعةِ، والثاني: لا يجاب، فإن الثنية ليست من أسنان الصدقة، فلا أثر لتلك الزيادة، والجبران إنما يثبت مع التردد في أسنان الصدقات، وهو على الجملة غير منقاس؛ فيتعين الاتباع فيها.
ولا خلاف أن من كان واجب ماله بنتَ مخاض، فأخرج فصيلاً، وضم إليه جبراناً، لم يُقبل منه. والفرق في ذلك بيّن واضح. ثم لا خلاف أن الدراهم التي يخرجها نُقْرة، وكذلك تكون دراهم الشريعة حيث وردت.
1767- ثم قال الأئمة إن كان رب المال يضم إلى ما يخرجه جبراناً واحداً، وهو شاتان، أو عشرون درهماً، فلو أخرج شاة وعشرة دراهم، لم يقبل وهذا عند الأئمة مشبه بما لو أطعم الحانث في يمينه خمسة وكسا خمسة، فإنه لا يجزىء عما لزمه.
وبمثله لو كان يخرج جبرانين فأخرج عن جبران شاتين، وعن جبران عشرين درهماً. فهذا مقبول منه، وهو مشبه بما لو حنث في يمينين، والتزم كفارتين، فأطعم في إحداهما عشرة، وكسا في الأخرى عشرة؛ فإن ذلك يجزىء ويخرج عن الكفارتين جميعاً، فكل جبران مشبه بكفارة.
1768- ثم تمام القول في ذلك أن رب المال إذا كان يخرج سنّاً ناقصاً وجبراناً، فلو أخرج شاتين، فقال الساعي: أريد الدراهم، أو على العكس، فالذي نقله المزني أن الخيار في ذلك إلى المعطي. وقال الشافعي في الإملاء: المتبع رأيُ الساعي، وقد اختلف الأئمة في ذلك، فقاك بعضهم: في المسألة قولان:
أحدهما: أن الرجوع إلى اختيار الساعي، كما لو ملك المالك مائتين من الإبل، واجتمع حساب الحِقاق وبنات اللبون؛ فإن الساعي هو المتَّبع في أحد السنّين، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
والقول الثاني- أن المتبع اختيار المعطي، فإن النبي عليه السلام، قال: "وأخرج معه شاتين أو عشرين درهماً" فكان هذا متضمناً تخييرَ المخرِج صريحاً، وأيضاً؛ فإن الجبران أثبته الشارع تخفيفاً وترفيهاً، حتى لا يحتاج ربُّ المال إلى شراء السن الذي هو واجب المال؛ فالذي يليق بالتخفيف أن تكون الخِبَرةُ إلى المعطي، وليس كذلك إذا اجتمعت الحقاق وبنات اللبون، فإنه لم يتأصل فيه قاعدة مقتضاها الترفيه.
وذهب جمهور الأئمة وهو الذي قطع به الصيدلاني أن الاختيار إلى المعطي، في إخراج الشاة والدراهم، قولاً واحداً، كما نقل المزني، وما حكي في الإملاء من أن الاختيار إلى الساعي، فهو محمول عليه إذا كان الساعي هو المعطي.
ثم إذا خيّرنا ربَّ المال، فكان هو المعطي، فاختياره غير مرتبط برعاية الغبطة للمساكين، ولكن له أن يخرج الدراهم، وإن كانت الغبطة في إخراج الشاة.
وإن قلنا: المتبع رأيُ الساعي؛ فإن الساعي لا يتخير تخبر المتشهي بلا خلاف، بل يتعين عليه رعايةُ الغبطةِ والمصلحةِ للمساكين، فإنه فيما يخرجه يتصرف في أملاك المساكين، فيلزمه الاحتياط فيه.
ولو اختلف رب المال والساعي فقال رب المال-والواجب بنت اللبون ولم تكن موجودة في المال-: أنزل إلى بنت المخاض، وأجبر، وقال الساعي: بل أخرج الحِقة، وأنا أجبر، أو على العكس؛ ففي ذلك وجهان، تخريجاً على الخلاف المقدم في الشاة والدراهم، والأصح اتباع رب المال، ومن أصحابنا من قال: يتبع الساعي.
ثم إن كان رب المال يبغي ما هو الأصلح للمساكين خلافه، فهذا موضع الخلاف، وإن كان ما يؤثره هو الأصلح، فلا يتصور فرض الخلاف فيه؛ فإنَّ الساعي إن وافقه، فلا كلام، وإن خالفه، فرأيه غير متبع على خلاف النظر والمصلحة، وإن استوى ما يريد هذا وذاك في الغبطة، فالأظهر عندي اتباعُ رب المال في هذه الصورة.
فرع:
1769- إذا كانت إبله معيبةً كلُّها؛ فإنا نقبل منه معيباً، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فلو كان واجب ماله بنت لبون، فلم يجدها في ماله، وأخرج بنت مخاض، وضم إليه جبراناً، قبلنا منه.
ولو أراد أن يرقى فيخرج حِقَّة معيبة، ويسترد من الساعي جبراناً، فقد قال أئمتنا: لا يجاب إلى ذلك؛ فإن الجبران المسترد قد يبلغ قيمة البعير الذي أخرجه، وهذا يجر تخسيراً محضاً، وضرراً بيّناً على المساكين، والغرض من إخراج الزكاة إفادةُ المساكين، لا الاستفادة منهم.
والذي يحقق ذلك أن الجبران بعيد عن مسالك الرأي، والمعتمد فيه الاتباع المحض، وإنما ورد فيما يعم ثبوته، وهو أن تكون الإبل سليمة، أو تكون فيها سليمة.
والذي يتجه عندي في ذلك أنا إن جرينا على ظاهر المذهب-وهو أن الخيار إلى رب المال- فينبغي أن يستثنى صورةُ المعيبة عن هذا، لما ذكرناه من أداء الأمر إلى تخسير المساكين، فأما إذا قلنا: الرجوع إلى رأي الساعي، ثم إنه رأى الغبطة للمساكين في أن يبذل الجبرانَ، ويأخذ سنّاً عالياً-وإن كان معيباً- فالوجه القطع بجواز ذلك على هذا الوجه، والذي منعناه ردّ الأمر إلى اختيار رب المال في هذه الصورة، وهذا بيّن، وهو مراد الأصحاب قطعاً.
فصل: يشتمل على تفاصيل المذهب في استقرار الفريضة
1770- قد تبين أن النُّصب والأوقاص غيرُ مستقرة دون المائة والعشرين، وإنما يستقر الحساب من هذا المبلغ، فيجب في كل خمسين حِقَّة، وفي كل أربعين بنتُ لبون. فنبتدىء من هذا المحل، ونقول: لابد من زيادة على المائة والعشرين، ثم إن زاد بعيراً، تغير الحساب، ووجب ثلاثُ بنات لبون، واختلف أئمتنا في أن الفريضة هل تُبسط على هذا البعير الزائد أم لا؟ فمنهم من قال تنبسط، فإذاً في كل أربعين وثلثِ بعير بنتُ لبون. وهذا في ظاهره مخالف لظاهر النص فيما رواه أنس؛ فإن فيه في كل أربعين بنت لبون، ولكن رُوي في بعض الروايات الصحيحة: "فإذا زادت واحدة على المائة والعشرين، ففيها ثلاثُ بنت لبون".
ومن أئمتنا من قال: البعير الزائد يغير الحساب من الاضطراب إلى الاستقرار، ولا يتعلق به من الفريضة شيء؛ فإن حساب الاستقرار مقتضاه تعلقُ بنت اللبون بأربعين، وهو جارٍ مطرد وراء هذه المرتبة.
ثم قالوا: لا يمتنع أن يتعلق الحساب بشيءٍ وإن لم يتعلق به شيء من الفرض، واستشهدوا بالإخوة مع الأبوين، فإنه لا حظَّ لهم، ولكنهم يردّون الأمَّ من الثلث إلى السدس.
1771- ومما يتعلق بذلك أنه لو زاد على المائة والعشرين شقص من بعير، فقد ظهر اختلاف الأئمة في أن الحساب هل يستقرّ به؟ فمنهم من قال: يستقر؛ فإن الزيادة قد تحققت، وفي بعض الروايات في هذا المبلغ: "فإن زاد، ففي كل أربعين بنت لبون". واسم الزيادة يثبت بشقص، وأيضاً: فإن هذه الزيادة لا حاجة إليها في تمهيد حساب؛ فإن الحساب القويم في الاستقرار مقابلةُ كل أربعين ببنت لبون.
ومن الأئمة من قال: لا يستقر الحساب ما لم تزد بعيراً؛ اعتباراً بجملة الأوقاص والنصب في زكاة النَّعَم.
1772- ثم مذهب أبي حنيفة أن الفريضةَ تُستأنف وراء المائة والعشرين، فيجب في كل خمسٍ شاة، إلى بنت المخاض، على تفصيل لهم مشهور، وقد حكى العراقيون أن ابن جرير من شيوخنا كان يخيّر وراء المائة والعشرين بين مذهب الشافعي في المصير إلى الاستقرار، وبين مذهب أبي حنيفة في المصير إلى الاستئناف، وهذا متروك عليه غير معتد به، وهو في التحقيق خرم للإجماع؛ فإن التخيير مذهب ثالث، وإخراج قول ثالث-والعلماء على قولين- كاختراع ثان والعلماء مطبقون على قولٍ. فهذا منتهى الكلام في هذه المقام، ولا غموض وراء ذلك إلى بلوغ المائتين.
1773- فنقول الآن: إذا بلغت الإبل هذا المبلغ، فقد اجتمع حساب الحِقاق وبنات اللبون جميعاً؛ فإن المائتين أربع خمسينات، وخمس أربعينات؛ فينشأ من هذا ضروب من الكلام: أولها- أن إخراج الحقاق مجزىء لثبوت حسابها، وكذلك إخراج بنات اللبون، عند رعاية الأصلح للمساكين، كما سنفصله الآن إن شاء الله تعالى.
وحكى صاحب التقريب والعراقيون قولاً غريباً للشافعي: أن واجب المال في هذا المبلغ الحِقاقُ. ثم قال صاحب التقريب قاطعاً قوله: هو مؤوَّلٌ محمول على ما إذا لم يكن في المال إلا الحقاق.
وذكر العراقيون هذا المسلك، وقالوا: من أئمتنا من أجراه قولاً بأن الاعتبار في زكاة الإبل بالزيادة في الأسنان ما وجدنا إليه سبيلاً، والدليل عليه ترتيب الواجبات في النُّصب، فإنها على الترقي في الأسنان إلى منتهاها، ثم بعد المنتهى الشرعي اعتبر الشارع الزيادة في الإبل، فإذا أمكن اعتبار السن، وجب التمسك به، وإخراج الحِقاق تعلق بالسّن، وإخراج بنات اللبون تعلّق بالعدد.
وهذا الذي ذكروه متروك مزيّف، لا يرجع إليه؛ فالذي نقطع به أن بنات اللبون والحِقاق أصلان في هذا المحل، ثم النصُّ، وما صار إليه الأصحاب أن الحقاق، وبنات اللبون إذا وجدت في المال، فالساعي يأخذ الأصلح، والأغبط للمساكين.
1774- وذكر الصيدلاني، وغيرُه تخريجاً عن ابن سريج في أن الخِيَرةَ إلى رب المال، إن شاء أخرج الحقاق، وإن شاء بنات اللبون. ولا يجب عليه مراعاة الغبطة، كما أنه في ظاهر المذهب يتخيّر في الجبران. وقد تقدم التفصيل فيه.
وهذا الذي ذكره قياس ظاهر، وإن كان مخالفاً لظاهر النص، وهو معتضد بظاهر الخبر؛ فإن الخبر كما يتضمن إخراج الحِقاق لِمكان حساب الخمسين، يتضمن إخراج بنات اللبون لمكان حساب الأربعين.
1775- فان قيل: بماذا توجهون النص؟ قلنا: إذا تعرض كل واحد من السِّنَّيْن للوجوب، وقد وُجدا جميعاً، فلو أخرج أحدَهما على خلاف الغبطة، فهو تارك شيئاً واجباً موجوداً، والجبران واقع في ذمة المخرِج وهو في لفظ الشارع موكول إلى خِيَرة المعطي، فإن فرّعنا على التخريج، فالأمر مفوّض إلى اختيار المالك المعطي.
وإن فرّعنا على ظاهر النص والمذهب، فالساعي يأخذ الأصلح والأغبط، فإن وافق ما أخذه وجهَ الغبطة، فلا كلام.
وإن أخذ شيئاً، والمصلحة في أخذ الآخر، مثل: إن أخذ الحِقاق وغبطة المساكين في بنات اللبون، أو كان الأمر على العكس، فالذي ذكره الأئمة أنه إن أخذ ذلك على علم وبصيرة، قاطعاً بأنه تارك للنظر، فما أخذه على هذا الوجه لا يسقط به الفرض، بل هو مردودٌ، وربّ المال مطالَبٌ بالسن الذي فيه الغبطة.
فأما إذا اجتهد، وظن أن الذي أخذه الأصلح، وكان مخطئاً في ظنه، فالذي أخذه هل يقع الموقع؟ فيه ثلاثةُ أوجه: اثنان ذكرهما صاحب التقريب.
وذكر العراقيون الثالث معهما. فأحد الوجوه- أن المأخوذ لا يقع الموقع؛ لأنه على خلاف موجب الشرع.
والثاني: أنه يقع فرضاً؛ فإنه على الجملة أصل، وقد انضم إلى أخذه الاجتهادُ. والقائل الأول يقول: إذا حصل الوفاق على أنه لو تعمد ترك النظر فيما أخذه، لم يقع الموقعَ، وقد تحققنا خطأه بيقين، فينبغي أن يكون هذا بمثابة ما لو تعمد. وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً، فقالوا: إن كان ما أخذه باقياً، ردّه، وطلب الأصلح، وإن فرّقه على المستحقين، فقد وقع الموقعَ، فإنّ تتبعه عسِرٌ.
فإن قلنا: ما أخذه يقع الموقع، فهل يجب على رب المال أن يجبر النقص أم لا؟ فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: لا يجب ذلك، وهذا فائدةُ وقوع ما أخذه موقع الإجزاء.
والثاني: يجب رعايةً لحق المساكين.
وإن فرعنا على وجوبه، فلو كان ذلك المقدارُ من الجبران بحيث يتأتى شراء شقص من بعير به، فكيف حكمه؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا نكلفه ذلك لما في التشقيص من التعذر، بل نأخذ منه في جبران النقصان الدراهمَ والدنانيرَ، بأن ينظر إلى المقدار الذي فات من الغبطة.
ومن أئمتنا من قال: يجب صرفه إلى شقصٍ، فإن الأبدال على طريقة الشافعي لا مدخل لها في الزكوات، ولا معدل عن النصوص. فإن قلنا: يتعين صرفه إلى جنس الإبل، فقد اختلف أئمتنا، فقال بعضهم: ينبغي أن يكون ذلك الشقص من نوع المأخوذ؛ حتى يتحد قَبيلُ المأخوذ.
ومنهم من قال: يتعين تحصيلُ الشقص من النوع المتروك؛ فإنه كان الساعي مأموراً بأخذه ابتداءً، فأخطأ.
وظاهر النص ما ذكره الأصحاب في الوجهين- أنه يتعين نوع عند الكافة، حيث انتهى التفريع إليه. والخلاف فيما يتعين.
ولا يبعد عن القياس عندي في هذا المقام تخييرُ المالك، حتى يقال: إن شاء أخرج من نوع المأخوذ، وإن شاء أخرج من النوع الآخر، بعد أن يتحقق جبران النقصان. وقد أشار إلى هذا بعض المصنفين، وهو متّجه، فتحصل إذاً ثلاثةُ أوجه.
1776- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا جوّزنا له إخراجَ الدراهم، ففي إجزاء إخراج الشقص أدنى نظر، لما فيه من العُسر والتعذر على المساكين، ولهذا اعتبر الشارع الأوقاص بين النصب؛ إذ لو أوجب في كل ما يزيد بحسابه، لاقتضى ذلك إيجابَ قسطٍ. ولمَّا كان التبعيض غيرَ متعذر في النَّقدين، فلا وقصَ عند الشافعي بعد وجوب الزكاة، بل في كل ما زاد بحسابه. فظاهر المذهب أنه إن أخرج شقصاً أجزأه، ولكن لا يلزمه، بل له إخراج الدراهم.
1777- ثم قال صاحب التقريب: إن قلنا: يتعين إخراج شقص، فلو كان لا يوجد بمقدار الجبران شقص-قال- فالوجه قبول الدراهم في هذه الحالة؛ إذ لا سبيل إلى تكليفه ما لا يقدر عليه، ولا وجه لتأخير حق المساكين، وردد قولَه في غير هذا، مشيراً إلى أنه يتوقف إلى أن يجد جزءاً من بعير.
وهذا بعيد جداً غيرُ معتد به.
ثم قال: لو ملك خمساً من الإبل وواجبها شاة، فلو كان لا يجد جنسَ الشاة أصلاً، فيؤخذ منه قيمةُ شاةٍ على تقدير الوجود. وحكى الوفاق في هذا. قال: والسبب في الوفاق أن الشاة في وضعها خارجة عن جنس المال، فاحتمل في ذلك قيمة الشاة عند الضرورة.
1778- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الحِقاق وبنات اللبون جميعاً موجودة في ماله.
ولو لم يوجد في ماله إلا أحد السنَّين، فلا خلاف أن الساعي يأخذه، ويكتفي به وإن كان الأصلح الآخر، ولا يجب الجبران وفاقاً، وهو بمثابة ما لو وجبت بنتُ مخاضٍ في الخَمس والعشرين، فلم نجدها، ووجدنا ابن اللبون، فإنه يأخذه، ويكتفي به.
ولو عُدم السنّان جميعاً في ماله، فلابد من تحصيل أحدهما.
وقد اختلف الأئمةُ في ذلك، فقال بعضهم: يجب شراء الأصلح، كما يجب إخراج الأصلح في ظاهر المذهب عند وجود السِّنَّيْن جميعاً.
ومن أئمتنا من خيّر المالك، ولم يُلزمه رعاية الأصلح، وقد سبق لهذا نظيرٌ فيه إذا لم نجد في الخمس والعشرين بنتَ مخاض، ولا ابنَ لبون. غيرَ أنَّا ثَمَّ لا ننظر إلى الأصلح. ولكن إما أن نعيّن ابنة المخاض؟ إذ هي الأصل، وإما أن نخيّر في شرائهما، والمرعيّ الغبطة في مسألتنا أو الخيرة.
ولو كان في ماله أربع حقاق وأربع بنات لبون، أخرج الحِقاق، وقُبلت، وإن كانت الغبطة في بنات اللبون؛ فإن بنات اللبون ليست كاملة، فهي كالمفقودة.
وكذلك إذا كانت الحِقاق سليمة، وبنات اللبون معيبة، فالمعيب كالمفقود. وقد مضى تفصيل ذلك.
1779- ومما ينبغي أن نجدّد به العهد أنه جرت فصول متشابهة لابد من أن نسردها ونستاقَها، فنقول: ابنة المخاض وابن اللبون إذا اجتمعا في الخمس والعشرين، فبنت المخاض هي الأصل، وإن كانت الغبطة في ابن اللبون، فلا يجزىء غيرُ بنت المخاض مع وجودها، وإن عُدِما، فالقياس أنه يتعين تحصيل بنت المخاض، وهو وجهٌ، وظاهر النص أنه بالخيار، ولا نظر إلى الغبطة أصلاً.
وإن اجتمعت الحقاق، وبنات اللبون، في المائتين، فهما جميعاً أصلان، وليسا كبنت المخاض وابن اللبون، والكلام الآن في أن الساعي يأخذ الأغبط، أم النظر إلى خِيَرة المالك؟ وقد رتبت فيه ما ينبغي، فظاهر المذهب وجوب رعاية الغبطة.
ولا خلاف أنه لو وجد أحد السنَّين بكماله دون الثاني أُخذ الموجود، ولم يراع في أخذه الغبطة.
وإن فُقِدا جميعاً، ففي تكليف شراء الأغبط خلافٌ ذكرته، فظاهر القياس تخييره؛ فإنهما على البدل واقعان في الذمة، فشابها الدراهمَ والشاتين في الجبران؛ فإنهما لما وقعا في الذمة، ولم يكن أحدهما أصلاً دون الثاني، فالمذهب تخيير المعطي، كيف؟ وفي بنت المخاض وابن اللبون إذا فُقِدا في الخمس والعشرين خلاف، وظاهر النص أن الخِيرة إلى من عليه الزكاة، وإن كانت بنت المخاض في رتبة الأصول لو كانت موجودة، فأما الخلاف الذي ذكرته في رعاية الغبطة في الجبران، فهو في نهاية البعد. ولست أعتد به من المذهب.
1780- وقد بقي من تمام الفصل شيء يتعلق بحكم الجبران، فنقول: إذا عدم في المائتين الحِقاق، وبنات اللبون؛ فإن اتخذ بناتِ اللبون أصلاً، ونزل منها إلى بنات المخاض فأخرج خمسَ بنات مخاض، وأخرج معها خمسَ جُبرانات: عَشْرَ شياه، أو مائة درهم، جاز ذلك.
وكذلك لو قدَّر الحقاقَ أصلاً، وترقَّى منها إلى أربع جذاع، فأخرجها، واسترد من الساعي أربع جبرانات، جاز ذلك، وفي الخيرة في الجبران ما قدمناه من تفصيل المذهب.
ولو قدر الحقاق أصلاً، ونزل منها إلى بنات المخاض، وأخرج أربع بنات مخاض، وأخرج معها ثمان جبرانات لسنَّيْن، فلا يجزىء ذلك؛ فإنه في نزوله يتخطى واجباً، وهو بنات اللبون.
وكذلك لو قَدَّر بناتِ اللبون أصلاً، ورقى إلى الجذاع، فأخرج خمسَ جذاع، وأراد أن يسترد عشر جبرانات لسنَّين، فلا يجزىء ذلك؛ فإنه في صعوده يتخطى واجباً، وهو الحِقاق، وليس هذا كالصورة التي قدمناها في فصل الجبران، وهي إذا كان واجبُ ماله بنتَ لبون، فرقى إلى الجذعة، ففي جواز ذلك كلام سبق؛ فإن الحقة ليست واجبَ ماله، وإن كان على طريق رقيّه.
1781- ومما يتعلق بذلك أيضاً أنه لو كان في ماله حقة، وأربع بنات لبون، فلو أخرج بنات اللبون، وأخرج الحقة واسترد من الساعي جبراناً، جاز، ولو جعل الحقة أصلاً، وأخرج معها ثلاث بنات لبون، وثلاث جبرانات، حتى تلتحق بنات اللبون بها بالحقاق، فالمذهب جواز ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك؛ فإنه في هذا السبيل يُبقي واحدةً من الأصول، وهي بنت اللبون. وهذا مُزيّف، لا أصل له، ولا اعتداد به.
فهذا تفصيل القول في الجبران في هذا الفصل.
1782- ولو أخرج حقتين وبنتي لبون ونصف، لم يقبل منه؛ فإنه تفريق الفريضة.
1783- ولو بلغت إبله أربعمائة، ففيها عشر بنات لبون، وثمان حقاق، فلو أخرج أربع حقاق، وخمس بنات لبون، ففي إجزاء ذلك وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ فإنه تفريق الفريضة، فأشبه ما ذكرناه في المائتين.
والوجه الثاني- يجوز، فكل مائتين أصل، فكأنه اعتبر في إحدى الجملتين حساب الأربعينات، وفي الثانية حسابَ الخمسينات. وهذا الخلاف يجري مهما بلغ المال مبلغاً يشتمل على أربعينات وخمسينات، بحيث يخرج منها بنات لبون وحقاق، من غير تشقيص. وهذا منتهى الغرض في ذلك.
فصل:
قال: "ولا زكاة حتى يحول عليه الحول... إلى آخره".
1784- الأموال التي تقتنى وتجب الزكاة في أعيانها، أو قيمها عند التجارة، فلا تجب الزكاة فيها إلا إذا تم الحول. والأصل فيها ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» وقد تمهّد أن الشارع أثبت الزكاة في مالٍ نامٍ في جنسه كالنَّعم، وأموالِ التجارة، أو متهيءٍ للاستنماء كالنَّقدين، واعْتَبَرَ أيضاً مقداراً نامياً؛ فإن المالَ القليل لا يظهر له نماء، واعتبر مدةً يُفرض فيها النماء، بالنِّتاج أو الربح، وهو الحَوْل؛ فإنه يشتمل على فنون الأزمنة، ثم إنها تتكرر من بعدُ.
والزكاة التي تجب فيما هو عين النماء والفائدة، كالثمار والزروع، فلا يعتبر فيها الحول، والنصاب معتبر على ما سيأتي ذلك مشروحاً.
ثم ذكر الأئمة حكمَ الوقص، وتفصيلَ القول في الإمكان وعدمه، وتلفَ المال، بعد الحول وقبله. ونحن نمهد أصولاً، ثم نفرع غرض الفصل إن شاء الله تعالى.
1785- فنقول: من ملك تسعاً من الإبل، لزمته شاة بلا مزيد، ثم حكى الأئمة قولين عن الشافعي في أن الشاة الواجبة تتعلق بالنصاب والوقص جميعاً، وتنبسط على الجميع، أو تتعلق بالنصاب، والوقصُ عفو، ولا تعلق للزكاة به أصلاً؟ فالمنصوص عليه في الجديد أن الوقص عفو ولا تعلق للزكاة به، وإنما تتعلق الزكاة بالنصاب. وهو مذهب أبي حنيفة، ونص في القديم على أن الزكاة تتعلق بالنّصاب والوقص جميعاً.
1786- والذي أراه أن في نقل القولين على هذا الوجه لبساً. وأنا أوضّحه في التفريع، إن شاء الله تعالى، فمن نفى التعلّق بالوقص، احتج بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «في خمسٍ من الإبل شاة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشراً» وهذا ظاهر في نفي التعلّق بالوقص، وإن أمكن أن يقال: معناه لا شيء فيه زائداً، وتمسك هذا القائل بأن قال: من آثر المصير إلى التعلق بالوقص، قال: إنه لو تلف شيء من الوقص بعد الحول، يسقط قسطٌ من الزكاة، وكل ما لا تزيد الزكاة بزيادته، يبعد أن تنقص بتلفه ونقصانه.
ومن نصر القول القديم، احتج باتحاد الجنس والصفة واتصاف جملة المال بالكثرة، فلا معنى لتخصيص تعلق الزكاة بالبعض، وقد استشهد هذا القائل بما لو سرق السارق نصاباً وزيادة؛ فإن وجوب القطع يتعلق بالجميع، ولا يختص بمقدار النصاب. ولم يَحْكِ الأئمة في ذلك تردداً.
ولا يبين الغرض فيما ذكرناه إلا بالتفريع.
وذهب كثير من الأئمة إلى أن من ملك نصابين مثلاً، مثل أن يملك عشراً من الإبل، ولزمه شاتان، فتنحصر كل شاة في الخمسة، ولا تنبسط كل شاة على جميع العشر، وهذا فيه نظر بيّن، ومستدرك عظيم، سنذكره، إن شاء الله تعالى.
فهذا أحد الأصول.
1787- ومن الأصول القولُ في الإمكان، فإذا حال الحول على نصابٍ زكاتي، ولم يتمكن المالك من تفريق الزكاة على المستحقين-كما سنصف الإمكان ومعناه- فهل نحكم بوجوب الزكاة، أو نقول يتوقف وجوبها على تحقق الإمكان، ووجود التمكن من تفرقة الزكاة؟ المنصوص عليه في الجديد أن الزكاة تجب بحولان الحول، ولا يتوقف وجوبها على الإمكان، ونصّ في القديم على أن الزكاة لا تجب إلا عند التمكن من الأداء.
توجيه القولين: من قال: الإمكانُ شرطُ الوجوب احتج بأن التكليف شرطه الاستطاعة، والشريعة مبناها على امتناع تكليف ما لا يطاق، فلا يستقيم إذن الحكم بالوجوب مع نفي الإمكان، والدليل عليه الحج مع الاستطاعة؛ فإنه لا يُقضَى بوجوبه دونها.
ومن قال: الإمكان ليس شرطَ الوجوب؛ قال: ثبوت الزكاة ووجوبُها حقاً لله تعالى متميز على أدائها وتفريقها على مستحقيها، ونحن نرى الزكاة في قاعدة القياس، وموجب الشرع تستدعي قدراً، وجنساً، ومضيَّ مدة، وقد تجمعت هذه الخصال، وتَمَّ ارتفاقُ المالك، أو تمكنُه من الارتفاق، فينبغي أن يُقتضب من هذه الجهات ثبوت الزكاة حقاً لله تعالى وشكراً لنعمائه. والأداء أمر متميز عن الثبوت، ومن كان عليه دين، وهو غير ممتنع من أدائه، ومستحِقُّه غيرُ مطالبٍ به، فالديْن ثابت، ولكن لا يتعين أداؤه ما لم يطلبه مستحقُّه، كيف، ونحن نحكم بأن الدَّين ثابت على المعسر في حياته، وبعد مماته، حتى يجوز الضمان عنه، وإن كان الأداء غير ممكن.
وأما ما ذكره ناصر القول الأول من أن الإطاقة شرط التكليف، ففيما ذكرناه جواب عنه، وما استدل به من الحج، فهو متميز عما نحن فيه. أولاً؛ فإنه عبادة بدنية، وليس أمراً تميز أداؤُه عن وجوبه وثبوته، وهذا يدركه الفطن من قضايا الشريعة. على أن في الحج نظراً، فإن تعليقه بالاستطاعة من ترفيهات الشريعة، والدليل عليه أن المكلَّف لو تكلف المشقة وحجّ وهو غير مستجمعٍ للشرائط المعتبرة في الاستطاعة، فحجه يقع معتداً به عن حجة الإسلام، ولا يقال عبادة بدنية قُدِّمت على وقت وجوبها، كالصلاة تقدَّم على وقتها؛ فلا يقضى بإجزائها.
فليتأمل الناظر ذلك.
وهو مشبه بالدين المؤجل؛ فإنه ثابت، ولكن مَن عليه الدين مُمهَل غير مشقوق عليه.
فهذا هو بيان القولين وتوجيههما في الإمكان.
وتمام البيان يأتي بعد ذلك.
1788- ومن الأصول في الفصل: أن الزكاة إذا وجبت، وتحقق التمكُّن، فلا يجوز تأخيرُ أدائها من غير عذر، وهي مع ارتفاع المعاذير واجبةُ الأداء، على الفور والبدار.
وأبو حنيفة يقول: إن وجوب أدائها على التراخي. ويظهر أثر الخلاف في أن الحول إذا حال، وتحقق الإمكان، فلو أخّر من عليه الزكاة حتى تلف المال، استقرت الزكاة في ذمة من التزمها، ولم تسقط.
وأبو حنيفة يحكم بسقوط الزكاة، مهما تلف المال الزكاتي.
1789- ويبقى بعد تمهيد ما ذكرناه القول في معنى الإمكان.
قال الأئمة: الأموال تنقسم إلى ظاهرة وباطنة، كما سيأتي ذكرها، فأما الأموال الظاهرة، ففي وجوب صرف زكاتها إلى السلطان قولان معروفان: فإن قلنا: يتعين صرفها إلى السلطان، فلا إمكان-وإن حضر المستحقون- ما لم يتمكن مَنْ عليه الزكاة من تسلميها إلى السلطان، أو الساعي الذي هو منصوبه، وإن قلنا: يفرّق من عليه الزكاةُ الزكاةَ على المستحقين بنفسه، فظاهر المذهب أنا نستحب له الدفعَ إلى السلطان؛ إذ فيه أولاً الخروج عن الخلاف، والسلطان أيضاً أعرف بالمستحقين، وأقدر على البحث عن أحوالهم.
فإذا فرعنا على أن للمالك أن يفرق الزكاة بنفسه، وقد تمكن منه، ولكنه كان يؤثر وِجدان السلطان، وتسليمَ الزكاة إليه، فأخر لهذا السبب، فقد اختلف أصحابنا في أنه هل يعذر لهذا السبب؟ فمنهم من قال: يعذر-وإن كان أداء الزكاة على البدارِ- فهذا القدر محتمل.
ومن أئمتنا من قال: لا يعذر.
وفائدة هذا التردد أنه لو أخر للسبب الذي ذكرناه، فتلف ماله، فسقوط الزكاة عنه يخرّج على الخلاف. هكذا ذكره الأئمة.
وهذا فيه فضل نظرٍ عندي، فالوجه أن نقول: إن لم نعذره بهذا السبب، عصّيناه بالتأخير، وضمَّنّاه، وإن عذرناه بالتأخير، فاتفق تلف المال، ففي الضمان وجهان:
أحدهما- لا يجب؛ لمكان العذر على الوجه الذي فرّعناه عليه.
والثاني: يجب؛ فإن هذا وإن كان عذراً عند هذا القائل، فهو عذر تخيّر، والزكاة دَيْن الله تعالى، فيظهر أن يقال: هذا مما نجوّزه، ولكن على شرط التزام سلامة العاقبة، ولا يخفى نظائر ذلك. وهذا بيّن.
1790- ومما ذكره بعض المصنفين في ذلك أن الأولى في الأموال الباطنة أن يتعاطى المالك بنفسه تفرقةَ الزكاة، ولو دفعها إلى السلطان، جاز. ولو تمكن من الدفع إلى الوالي، فأخر حتى يؤديها بنفسه، فتلف المال، ففي سقوط الزكاة خلاف.
1791- والقول الضابط في ذلك أن نقول: إن لم يتمكن من عليه الزكاة من تفرقتها أصلاً حتى تلف ماله، سقطت الزكاة تخفيفاً، وعُذِرَ، وإن تمكن، ولكن كان يرتاد الأفضل والأولى، كما تقدم تصويره، فهو محل النظر والتردد، ومن تلك الصور أنه إذا كان ينتظر حضورَ قريبه، الذي لا تلزمه نفقته، أو كان يرتقب حضورَ جيرانه-إذا وضح أن صرف الزكاة إلى هؤلاء أولى- أو كان ينتظر حضورَ من حاجته أشدّ، وضرُّه وفاقته أبْين، فإذا فُرض تلف المال في أثناء ذلك، ففي سقوط الزكاة وبقائها خلاف.
وكشفُ الغطاء في ذلك أن التأخير إن كان لترو ونظرٍ في صفات المستحقين على قرب، وكان يتمارى في أمر من حضر، فما يُعدّ من الاحتياط والتروّي مع رعاية الاعتدال، فهذا أراه عذراً وجهاً واحداً؛ حتى لا أعصّي المؤخِّر بسببه.
فأما التأخير بسبب ارتقاب شهود الأقارب، أو الجيران، فجوازه محتمل، ويظهر أن يقال: لا يجوز؛ فإن الزكاة على الفور، وهذه فضيلة يبغيها، وتأخير الحق من ذي الحق بهذا غيرُ سائغ.
نعم لو شهد الأجانب والأقارب، فله أن يختار الأقارب، فأما أن يؤخر لانتظارهم فبعيد. وكذلك القول في انتظار السلطان، كما قدمناه.
ثم هذا التردد عندي فيه إذا لم يظهر ضُرُّ مَنْ حضر وشهد، فأما إذا كانوا يتضرَّرون جوعاً، وهو يؤخر إلى حضور جارٍ أو قريب، فلا سبيل إليه قطعاً؛ فإن مدافعاتهم على ضروراتهم، لمزيّة وفضيلة محالٌ.
ثم أقول وراء ذلك: حيث امتنع التأخير، فلا شك في وجوب الضمان عند تحقق التلف، وإن سوّغنا التأخير في بعض الصور، مع إمكان البدار، ففي وجوب الضمان مع هذا وجهان؛ نظراً إلى التزام سلامة العاقبة.
1792- ومما يتعين الاعتناء به أن من قال: الإمكان من شرائط الوجوب، فالذي أراه القطعُ بأن المعنيَّ بالإمكان المشروط في الوجوب تصوّر الأداء، فأما ما يتعلق بإحراز الفضائل، فلا يسوغ المصير إلى أنه شرطُ وجوب الزكاة على هذا القول، وقد صرّح بذلك الصيدلاني في آخر الباب، وليس هو مما يتمارى فيه.
1793- ومما يتعلق بتمام ذلك أنا إذا فرّعنا على أن الإمكان شرط الوجوب، فلو انقضى الحول، ولا إمكان، حتى مضى شهر مثلاً، فابتداء الحول الثاني يحتسب من مُنقرض الحول الأول، لا من وقت الإمكان، فلا يختلف حساب الأحوال باستئخار الإمكان، مصيراً إلى أن ابتداء الحول الثاني يعقب وجوبَ الزكاة.
ولو انقضت أحوال، والمالك على ارتفاقه، والمال على نمائه، وكان المالك لا يتمكن من أداء الزكاة، ثم تمكن، فلا يجوز أن يعتقد أن زكوات تلك الأحوال لا تجب.
نعم لو عسر الارتفاق بغَصْبٍ في المال، أو ضلالٍ، ففيه أقوال، وتردّدٌ ظاهر، وكذلك لو فرض نتاج بعد الحول الأول، وقبل الإمكان، فهو محسوب من الحول الثاني، كما سيأتي تفصيل القول في النتاج، بناء على أن حساب الحول لا يختلف باستئخار الإمكان، فالنتاج إذاً وقع في الحول الثاني، فليحسب من فوائد الحول الثاني.
وقد نجز عند ذلك غرضنا من تمهيد الأصول، ونحن الآن نبتدىء التفريع والله ولي الإعانة بمنه وفضله.
1794- فنقول أولاً: من ملك خمساً من الإبل، فانعقد الحول عليه، ثم تلف منه بعير مثلاً، أو خرج عن ملكه ببيع أو هبة، فإذا حال الحول والمال ناقصٌ عن النصاب، فلا شك أن الزكاة لا يجب منها شيء.
ولو انقضى الحول على الخمس، واستعقب الإمكان، فلم يؤدّ الزكاة، ولا عذر، حتى تلف المال، أو بعضه، لم يسقط من الزكاة شيء.
ولو لم يتمكن من الأداء، حتى تلف جميعُ المال، فلا زكاة.
ثم إن قلنا: وجبت بالحول، سقطت بسبب عدم الإمكان. وإن قلنا: الإمكان شرط الوجوب، فالزكاة لم تجب أصلاً، وكان هذا بمثابة ما لو تلف المال قبل حولان الحول.
وقد عبّر الأئمة عن القولين، فقالوا: الإمكان في قولٍ شرط الوجوب، وهو القديم، ومذهب مالك، وفي قول هو شرط الضمان، فإذا لم يتمكن حتى تلف المال، فلا ضمان.
فهذا إذا لم يتمكن أصلاً. فأما إذا تمكن بعد الحول، ولكن أخّر لعذر من الأعذار التي ذكرناها في صور الوفاق والخلاف، فإذا تلف المال في هذه المدة، ففي سقوط الزكاة وبقائها الخلافُ المتقدم.
ولو تلف بعد الحول وقبل الإمكان بعير، فإن قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب، فقد سقط جميع الزكاة، فإنه قد نقص المال عن النصاب قبل زمان الوجوب، فكان هذا بمثابة ما لو تلف بعيرٌ قبل انقضاء الحول.
وإن قلنا: ليس الإمكان من شرائط الوجوب، فيسقط بتلف بعير قبل الإمكان خُمس الواجب، ويبقى أربعةُ أخماس شاةٍ.
1795- ولو انقضى الحول على تسعٍ من الإبل، فتلف قبل الإمكان أربع، وبقيت خمس، فيجتمع الآن أصلان:
أحدهما: الإمكان، والثاني أن الزكاة هل تبسط على الوقص، أم ينحصر وجوبها في مقدار النصاب، والوقصُ عفوٌ؟ فنقول في هذه الصورة: إن قضينا بانحصار الزكاة في النصاب، فالنصاب باقٍ، فتجب فيه شاة، ولا يسقط بتلف الوقص شيء، وإن قلنا: تتعلق الزكاة بالنصاب والوقص جميعاً، فهذا يخرج الآن على قولي الإمكان، فإن قلنا: هو شرط الوجوب، فتجب شاةٌ كاملة، ويتنزل هذا منزلة ما لو تلف أربعٌ قبل حلول الحول.
وإن قلنا: الإمكان شرط الضمان وليس شرطَ الوجوب، فقد وجبت الزكاة، وهي شاة، وانبسطت على التسع، فإذا تلف أربعٌ قبل الإمكان، سقطت حصتها، وهي أربعة أتساع شاة، وبقيت خمسة أتساع شاة.
قلت: وعلى المتأمل هاهنا وقفة، إن كان يبغي دَرْك النهاية، فأقول: لو رُددتُ إلى ما يظهر له، لقلت إن الزكاة تتعلق بالتسع؛ فإن النصابَ والوقصَ من جنسٍ واحد، وإنما القولان في أنا هل نجعل الوقص في حكم الوقاية للنصاب، كما نجعل الربح في القراض وقاية لرأس المال عند فرض الخسران؟
فكأنا في قول نقول: هو وقاية للنصاب، وهو الصحيح، وإن كانت الزكاة تتعلق بالجميع، فإن الزكاة إذا لم تزد بها، لم تنقص بتلفها. وفي قولٍ نقول: ليس الوقص وقاية، بل تتعلق الزكاة على قضيةٍ واحدة بالكل، وإذا تلف البعض، سقطت حصتُه من الزكاة، وهذا ضعيفٌ غير متجه.
1796- ومن تمام البيان في ذلك أن المشايخ قالوا: إذا ملك نصابين، فواجب كل نصاب منحصر فيه، وزعموا أن هذا متفق عليه، وإنما القولان في النصاب والوقص.
وتحقيق القول في ذلك أن من ملك نصابين، فالوجه أن يقال: واجب النصابين متعلق بجميع المال، من غير انحصار واختصاص.
والدليل عليه أن بنت المخاض واجب نُصب، وهي الأخماس، ثم لا وجه إلا إضافة بنت المخاض إلى جميع الخمس والعشرين من غير حصر وتخصيص، وكذلك إذا وجب في ست وثلاثين بنت لبون، فالوجه إضافتها إلى جميع المال.
ثم إذا وضح في الأسنان، فلا شك في اطراد قياسه حيث تكون الزيادة بالعدد.
والدليل عليه أنه إذا زاد بعير بزيادة عشرة عند استقرار الحساب، فلا يعتقد عاقل أن البعير وجب في العشرة، ولكن الوجه إضافة الكل إلى الكل، والذي يوضح ذلك، أن باب الخلطة مبناه على تعلّق جميع الواجب بجميع المال، وعليه ابتنى التراجع وتفريعات الخلطة، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
فإذاً خرج من هذا أن حقيقة المذهب أن من ملك نصابين، فواجبهما متعلق بجميع المال، بلا خلاف، ولكن ليس أحد النصابين وقاية للثاني.
وإذا ملك الرجل نصاباً ووقصاً، فالوجه انبساط الواجب على الكل، ولكن هل يسقط واجب النصاب بتلف الوقص، أم هو وقاية، والتلف محسوب من الوقص؟ فعلى قولين، كما تقدم ذكرهما.
فهذا هو الغرض. ولكن جرت عبارة الأصحاب في أن الزكاة هل تتعلق بالوقص أم لا. فهذا منتهى المراد في ذلك.
1797- ولو ملك تسعاً من الإبل، وحال الحول، فتلفت خمس، وبقيت أربع قبل الإمكان، فإن قلنا الإمكان من شرائط الوجوب، فتسقط الزكاة بجملتها، ويتنزل منزلة ما لو تلف خمس وبقيت أربع قبل حلول الحول، ولو كان كذلك، لما وجبت الزكاة أصلاً.
وإن قلنا: الإمكان من شرائط الضمان، وقد وجبت الزكاة بحلول الحول، فيعود التفريع إلى أن الزكاة تتعلق بالوقص أم لا؟ فإن قلنا: إنها تتعلق بالوقص، فيسقط خمسة أتساع شاة، ويبقى أربعة أتساع، وإن قلنا: تتعلق الزكاة بالنصاب دون الوقص، فيسقط خُمس شاة، ويبقى أربعة أخماس شاة، وهذا بيّن.
والتحقيق فيه ما أجريناه في أدراج الكلام من إيضاح معنى القولين في تقدير الوقص وقاية للنصاب.
فصل:
إذا كانت ماشيته نوعين صحاح ومِراض، فلا نأخذ الفريضةَ مريضة أصلاً، حتى لو ملك خمساً وعشرين من الإبل، وأربعٌ وعشرون منها مِراض وواحدة صحيحة، فلا نقبل الزكاة إلا صحيحةً، وهذا متفق عليه.
ولكن قال الأئمة: لو كان في ماله صحيحةٌ كريمة، وباقي ماله مِراض، فلا نأخذ تلك الكريمة، فإنا لو فعلنا ذلك، كنا مجحفين به، ولكن نكلفه شراءَ صحيحة تناسب قيمتُها مالَه.
وذكر العراقيون فيه تقريباً في صورة، فنذكرها ليعتبر بها أمثالها.
فنقول: من ملك أربعين من الغنم، عشرون منها صحيحة قيمة كل واحدة عشرون درهماً، وعشرون مريضة قيمةُ كل واحدة منها عشرة، فنأخذ نصف قيمة مريضة، وهي خمسة، ونصف قيمة صحيحة، وهي عشرة، فنشتري صحيحة بخمسةَ عشَرَ.
وقد أجمع الأئمة قاطبةً على أن المعيبة لا تؤخذ من الصحاح، وإن كانت قيمتُها زائدةً على قيمة الصحيح.
1798- ثم الذي ذكره علماؤنا أن العيب المرعيّ فيما نحن فيه ما يُثبت الردَّ بالعيب في البيع، ولا تعتبر العيوب المانعة من الإجزاء في الضحايا.
وحكى شيخي أن من أئمتنا من اعتبر السلامة عن عيوب الضحايا، والسلامةَ من العيوب التي تثبت الرد، وهذا زلل غير معتد به، والوجه القطع باعتبار عيوب الرد فحسب.
ولعل السبب في أن المعيبة لا تجزىء، وإن كانت رفيعة القدر أنه قد يتفق للساعي إمساكُ المواشي مدّة إلى أن تتفق تفرقتها، فلو كانت معيبة، فقد تهلك في مدة الحبس، وعلى الجملة للتعبد مدخل في منع إجزاء المعيبة في الزكاة، كما أن له مدخلاً في الضحايا.
1799- ولو وجب في ماله سِنّان، وكان جميع ماشيته معيبة إلا واحدة، فلو أراد أن يخرج معيبين، لم يقبلا منه، ولو أخرج تلك الصحيحة، وكانت سنَّ الفريضة، أو أعلى من السن، وأخرج مريضة، فالذي قطع به العراقيون والصيدلاني أن ذلك يجزئه؛ لأنه لم يُبق لنفسه صحيحة.
وكان شيخي يقطع في دروسه أنه إذا كان في ماله صحيحة واحدة، وواجب ماله أسنان، فلابد من أن تكون جميعها صحيحة، ولا يكفيه أن يخرج تلك الصحيحة، وكان يعلل بأن من أخرج بعيرين من إبله، فهما يزكيان ماله، وكل واحدٍ منهما يزكي الثاني، وإن كانا مخرجين، فلو أخرج صحيحةً ومريضة، فيلزم أن تزكي المريضةُ الصحيحة.
وهذا عندي خروج عن ضبط الفقه، وتقديرٌ بعيد لا حاصل له، والمطلوب ألا يبقى للمالك صحيحة، ويُخرج مريضة، وما بعد ذلك لا أصل له. والزكاة إذا أُخرجت، فالباقي مزكّى بها، فأما الزكاة، فلا تزكي نفسها.
1800- ومما يتصل بما نحن فيه أن الشافعي قال: "لو كانت ماشيته معيبة، لزمه أن يخرج خيرَ المعيب" فظاهر هذا يقتضي أنا نُلزمه أن يتخير للزكاة أفضل ماله وخيرَه، وقد اتفق أصحابنا على مخالفة هذا الظاهر، وزعموا أن القول به إجحافٌ برب المال.
وقد يقول القائل: إذا كان في ماشيته المراض ما هو أقل عيباً، وأقربُ إلى السلامة، فهو بالإضافة إلى ما هو أكثر عيباً، وأظهر مرضاً كالصحاح بالإضافة إلى المريض، وقد ذكرنا أنه إذا كان في ماشيته صحاح، فلا يقبل فيه إلا صحيحة، وإن كان أكثرُ ماله مراضاً، فهذا فيه احتمالٌ، مع الاعتضاد بظاهر نص الشافعي.
ولكن أجمع الأئمة على خلافه؛ فإن المطالبة بالصحيحة-وفي المال صحاح- فيه تعبد، كما ذكرته.
ولا تعتبر فيه القيمة وارتفاعها؛ فإنا لا نقبل مريضةً رفيعة القدر، وإن كانت قيمتها تزيد على قيمة صحيحة مجزئة.
1801- فاما إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، فقد عُدمت الصحيحة المعتبرة منه، فيرجع النظر إلى اعتبار الإنصاف.
وقد قال الأئمة إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، وكانت منقسمةً إلى رديئة، وإلى جيدة مع المرض، فلا نطلب البالغةَ في الجودة، ولا نأخذ الرديئة البالغة في الرداءة، ولكن نأخذ الوسط بين الدرجتين.
وحمل معظمُ الأئمة قول الشافعي على هذا، فقالوا: المعنيّ بقوله: نأخذ خير المعيبة إلى الوسط منها.
وذكر العراقيون في ذلك صورة، وحكَوْا فيها تردداً، وهي أنه لو ملك خمساً وعشرين من الإبل وفيها بنتا مخاض، والإبل كلها مريضة، ولكن كانت إحدى بنتي المخاض من أجود المال مع العيب، وكانت الأخرى دونها، فللساعي أن يطلب الأجود، وإن كانت أرفع ما عنده؛ فإنها وقعت سنَّ الزكاة، فهذا مذهب بعض الأصحاب.
ومنهم من قال: لا نكلفه ذلك، بل نقنع بالوسط، وإن لم نجد، كلفناه أن يشتريَ بنت مخاض وسط، بالإضافة إلى ماله.
وهذا التردد سببه أن خير المعيب بمعنى الأجود وقع سنَّ الفريضة، فشابه ذلك طلب الساعي الأغبط، إذا اجتمعت الحقاق، وبنات اللبون في المائتين، والصحيح الاكتفاء بالوسط. كما ذكرناه.
1802- ولو ملك خمساً من الإبل المراض، فأراد أن يخرج شاةً مريضةً، لم يكن له ذلك، هذا ما وجدتُ الطرقَ متفقة عليه؛ وذلك أن ما يخرجه ليس من جنس ماله، بل هو واجب مطلق في الذمة، فيحمل على السليم عن العيوب.
وكذلك إذا كانت إبله مراضاً وكان واجبها بنتَ لبون، ولم تكن موجودة في ماله، فنزل وأخرج بنت مخاض مريضة، وشاتين للجبران، فنشترط الصحةَ في الشاتين، لما ذكرناه.
والدليل عليه أنه متردد بين الشاتين وعشرين درهماً، ولا يتخيل في الدراهم نقصان، لأنه ثبت إخراجها توقيفاً، وقد ورد الشرع بها مطلقةً من غير تفصيل.
فصل:
قال: "وما هلك أو نقص في يد الساعي فهو أمين... إلى آخره".
1803- إذا سلّم الرجل الزكاة في أمواله الظاهرة إلى السلطان، أو إلى نائبه، وهو الساعي، فالذي يجب القطع به أن ذمة المعطي قد برئت من الزكاة، وإن لم تصل إلى المستحقين، والسبب فيه أن الشرعَ نصبَ أيدي السلاطين نائبة عن المستحقين، فإذا قبضوها، فقد وقع القبضُ للمستحقين، فيد الساعي كيد ولي الطفل، ولو قبض وليُّ الطفل حقاً للطفل، وتلف في يده، فقد برئت ذمة المؤدي، وهذا يتضح جداً إذا قلنا: لابد من دفع الزكاة في الأموال الظاهرة إلى الساعي.
فأما إذا قلنا لرب المال أن يفرقها بنفسه، فلو دفعها إلى الساعي مختاراً من غير قهر، فتلف في يد الساعي والحالة هذه؛ ففيه اختلاف: من أئمتنا من قال: قد برئت ذمةُ المعطي؛ لأن السلطان على الجملة نائبٌ عن المستحقين، وليسوا متعينين.
ومنهم من قال: يد الساعي كيد وكيل المالك، ولو وكل وكيلاً، ودفع إليه زكاة ماله، وأمره بإيصالها إلى مستحقيها، فتلفت في يده، فلا شك أن ذمةَ رب المال مشغولة كما كانت، ثم الساعي على الجملة إن كان مفرّطاً في حبس الزكاة عن أربابها، فإنه يضمن لتفريطه، وإن كان يجمع الأموالَ، ويتردد على جباية الزكوات، فاتفق في أثناء ذلك تلفُ بعضها، فهو أمين غير ضامن؛ فإنه لا يجب عليه أن يفرّق كل قليل وكثير حصل في يده، والمرجع في الضمان ونفيه إلى تفريطه وعدم تفريطه.
1804- ومما يذكر في ذلك أن السلطان لو كان جائراً، فسلّم الزكاة إليه، فتفصيل ذلك على التحقيق الذي نبغيه في هذا المذهب، لا يحتمله هذا المكان، والقول فيه يتعلق بالإيالة الكبيرة، وأحكام الولاة، ولعلّنا نذكر في موضعٍ نراه حظّاً صالحاً منه، تمس الحاجة إليه.
والقدر الذي يعتاد الفقهاء ذكره، أن الوالي هل ينعزل بفسقه أم لا؟ وفيه تردد لهم، فإن قضينا بانعزاله، فلا حكم لأخذه، فإن سلّمه إلى المساكين، فهو نحو وكيل، وإن لم يسلّمه إليهم، فذمة المالك مشغولة.
وإن قضينا بأن الوالي لا ينعزل بظلمه، فهو في الحكم الذي نحن فيه نازل منزلة العدل، إن قلنا: يتعين دفعُ زكاة الأموال الظاهرة إلى الوالي. وإن قلنا: لا يجب-ولم يكن قهر- فدفع رب المال إليه، فأهلكه، ولم يوصله إلى المستحقين، فالظاهر أنه يجب على المالك تثنية الزكاة، في هذه الصورة لتقصيره. وقد ورد عن النبي عليه السلام في خبر أنه قال في الزكاة: "سلموها إليهم، ولو وضعوها في أفواه دوابهم" أراد استنفقوها، ولعل المراد الاستحثاثُ على اتباع الولاة، وترك الاعتراض عليهم، وبذل الطاعة لهم.