فصل: فصل: في اختلاف المواقف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: مشتملٌ على إلحاق الزوائد في المسابقة والمناضلة:

11695- ومقصود هذا الفصل يترتب على القولين في أن هذه المعاملة جائزة، أو لازمة؛ فإن حكمنا بلزومها، فلا يلتحق بها الزيادة طرداً لقياس المذهب في أن العقود اللازمة لا تلحقها الزوائد والتغايير التي تشبه إلحاق الزوائد، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى.
ولا فرق بين أن يتراضيا عليه، وبين أن ينفرد بالإلحاق أحدهما، فإن أرادا ثبوت الزيادة، فالوجه فسخ العقد الأول عن تراضٍ، وإعادتُه على حسب المراد، ثم قد قدمنا التفريعَ على قول اللزوم، وحكينا عن القفال: أنا وإن ألزمنا المعاملة، فلا يجب تسليم السبَق؛ فإن استحقاقه موقوف على تمام العمل المشروط، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، وفي بعض التصانيف أنه يجب تسليم السبَق إذا قضينا بلزوم المسابقة والمناضلة قياساً على تسليم الأجرة في الإجارة، وهذا غلط بيّن، وذهول عن درك مقصود هذه المعاملة ومغزاها؛ فإن مبناها على الخطر والتوقع، وليس ذلك كتوقع انهدام الدار المستأجرة؛ فإن الأصل بقاؤها، والنفوس مطمئنة إلى استمرار وجودها، وفوز السابق ليس في هذا المعنى.
وقد يعترض وضع سبَقين من شخصين وبينهما محلِّل، فالتسليم إلى من؟ وكيف الحكم إذا فرّعنا على أن مخرج السبَق يستحق السبق؟ ومما يتفرع على هذا القول أن المناضل إذا مات، فالمعاملة تنقطع، وإن حكمنا بلزومها؛ فإن المناضلة تتعلق بعين الرامي، فموته كموت الأجير المعيّن. ولو مات المسابق والفرس قائم لم يعطَب. والتفريع على اللزوم، فيتجه إيجاب الوفاء على الورثة؛ لأنَّ التعويل على الفرس، كما تقرر من قبل.
هذا إذا حكمنا بلزوم المعاملة.
11696- فأما إذا حكمنا بجوازها فلو تراضيا بإلحاق زيادة بالعقد، مثل أن يُلحقا مزيد قرعات، أو أرشاق، أو مزيداً في السبَق، فالمذهب أنَّ الزيادة تلحق، لمكان جواز العقد.
وقد ظهر اختلاف الأصحاب في أنَّ الزيادة هل تلحق الثمن أو المثمن في زمان الخيار أو مكانه، فخرّج بعض أئمتنا وجهاً على البُعد في إلحاق الزوائد بالمعاملة التي نحن فيها وإن فرعنا على جوازها، وهذا قد يتجه بأن يُعتبر العقد غير معقول، ولابد في الزيادة من عقد، والعقدُ لا يلحق العقد، ولا عَوْد إلى هذا الوجه البعيد، ويتّضح الفرق بين البيع في زمان الخيار-والعقدُ مبناه على اللزوم- وبين المعاملة التي نحن فيها، ومقصودُها غررٌ مغيّب، ولولا الشرع، لكانت على مضاهاة القمار.
وما ذكرناه فيه إذا تراضيا على الزيادة وإلحاقها.
11697- فأما إذا انفرد أحدهما بإلحاق الزيادة، فإن قلنا: لو ألحقناها لحقت.
فإذا انفرد أحدهما ولم يقبل الثاني، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها: أنها لا تلحق وإن لحقت بالتراضي؛ تخريجاً على أن أصل العقد لابد فيه من القبول، وإن جعلناها كالجعالة، فإذا اشترطنا القبول في أصل المعاملة، وجب اشتراطها في الزيادة.
والوجه الثاني- أن الزيادة تلحق، وإن لم يقبلها من لم يَزِدْ لجواز العقد وقبولها لفنون التغايير.
والوجه الثالث: أنا ننظر إلى الزائد، فإن كان فاضلاً، أو مساوياً لصاحبه، فالزيادة تصح، وإن كان مفضولاً، فلا يصح منه الانفراد بإلحاق هذه الزيادة من غير رضا صاحبه، فإنه بزيادته يفوّت على صاحبه حقَّه، ولو فتحنا هذا البابَ، لاتّخذه كل مفضول دأْبه مهما أحسَّ بكونه مفضولاً.
والوجهُ الثاني الذي ذكرناه ساقط ضعيف؛ لأنَّ مضمونه التسوية بين الفاضل والمفضول.
11698- وينشأ من هذا المنتهى سرٌّ في المذهب، وهو أنا إذا فرقنا بين الفاضل والمفضول، فلو أراد المفضول أن يفسخ العقد بعد ما ظهر استيلاء صاحبه عليه، فليس له ذلك؛ فإنا إذا كنا نمنعه من الزيادة لما فيها من تفويت حق المناضل الفاصل، فالفسخ أولى بأن يمتنع، وقد أفضى ما ذكرناه إلى أنا في التفريع على قول التفضيل إنما نحكم بجواز العقد إذا لم ينته الأمر إلى مصير أحدهما مفضولاً، فإذا صار مفضولاً، لزم العقد في حقه، وبقي الجواز في حق الفاضل؛ فإنه إذا كان يجوز للمساوي أن يفسخ، فلأن يجوز ذلك للفاضل أولى.
ومن تمام التفريع أنا إذا قلنا: ينفرد أحدهما بالزيادة، وتلتحق بالعقد، فلا ضرار على الذي لم يرض؛ فإنا نجوز له أن يفسخ العقد، فإن ثقلت الزيادة عليه، فليفسخ.
11699- ومن بقية الكلام في هذا المنتهى الكلام في المفضول، وقد اختلف أصحابنا فيه، فقال بعضهم: إذا زاد صاحبه عليه بسهم واحد، فهو مفضول، والكلام فيه ما سبق.
ومن أصحابنا من قال: القَرْعة والقرعتان قد لا يتحقق كون المفضول بهما متهماً في الزيادة وإنما تظهر التهمة إذا بلغ ما اختص به صاحبه مبلغاً يعدُّ بذلك مستعلياً على مناضله، فعند ذلك يصير المفضول متهماً، ثم الحكم ما قدمناه.
ويتصل بهذا المنتهى أن من عقد جعالة على عوض ثم إن الجاعل زاد في العمل، فثبوت تلك الزيادة-وإن كانت الجعالة جائزة في وضعها- بمثابة زيادة المتّهم المفضول، فإنَّ الجاعل يبغي حظ نفسه فيما يزيده من العمل، كما أنَّ المفضول يبغي حظ نفسه، ثم الذي يقتضيه القياس أنَّا إنْ قُلْنا: لا تلحق زيادة العمل في الجعالة، فلا كلام، وإن قُلنا: إنَّها تلحق، وقد عَمِل المجعول له بعضَ العمل الأول، فلم يرض بالزيادة وأراد الفسخ، فالوجه أن يستحق على مقابلة ما عمله أجر المثل، فإنَّه ما تركَ إتمام العمل مختاراً حتى زيد عليه؛ فكان معذوراً في الفسخ، وليس كما لو عمل بعض العمل، حيث لا زيادة، ثم اختار الفسخ بنفسه؛ فإنه لا يستحق على مقابلة ما قدمه من العمل شيئاً.
11700- ومما يتصل باستكمال الغرض فيما نحن فيه أنَّهما لو تعاقدا عقد المناضلة، ثم بدا لأحدهما أن يترك الرمي ويُعرض عنه، فإن قُلنا العقد لازم، فلا سبيل إلى الإعراض من غير اعتراض عذرٍ مانع من الرمي، وإن قُلنا المعاملةُ جائزة في وضعها، فإن كان المُعرِض غيرَ مفضول على ما سبق تفصيل المفضول، فله أن يُعرض من غير فسخٍ، وله أن يفسخ. وإن كان المُعرِض مفضولاً متهماً، فهل له الفسخ؟ فعلى قولين مبنيين على ما تقدم ذكره من أن الزيادة على القرعات هل تلحق المعاملة إذا صدرت من المفضول المتهم، وعلى هذا لو شرط في الجعالة جُعلاً لإنسان، فعمل المجعول له بعضَ العمل، وهو مقدم على إتمامه، ولو فسخ العقد الجاعل، لكان أجر مثله بمقدار عمله أقلَّ من حصة ذلك المقدار من المسمى، فانفراد الجاعل بالفسخ يُخرّج على الخلاف الذي قدمناه. وقد نجز الغرض في الزيادة في مضمون المناضلة.
11701- فأما إذا أراد المتناضلون النقصان من القرعات أو من الأرشاق، فهذا يخرج لا محالة على التردد الذي ذكرناه في الزيادة؛ فإنَّ سبيل إلحاق النقصان بمقتضى العقد كسبيل إلحاق الزيادة، ولا يخطر للمحصّل تشبيهُ الحط في مسألتنا بإبراء البائع عن بعض الثمن؛ فإن ذلك نافذ بعدَ اللزوم، غيرُ ملتحق بالعقد، بل سبيله سبيل استيفاء الثمن؛ فإن الإبراء تصرفٌ من المستحق في الدَّيْن، وهو يجري في قيم المتلفات والعروض وحيث لا يتوقع إلحاق الزوائد، وحط شيء في هذه المعاملة من القرعات أو الأرشاق ليس في هذا المعنى، نعم لو حط من شُرط السَّبَق له قبل الفوز بالعمل المشروط، كان ذلك إبراء عن شيء قبل وجوبه، وهو في معنى ضمانه قبل وجوبه، وقد ظهر سبب وجوبه. وقد تم المراد.
فصل:
11702- ذكر المزني مسألة أخطأ فيها حُكماً وتعليلاً؛ فأنه قال: "لو أخرج مُخرج مالاً وقال لرامٍ: ارم عشرة، فإن كانت قرعاتك أكثر، فلك السَّبَق الذي أخرجته".
قال المزني: "لا يجوز ذلك؛ لأنه ناضل نفسه"، وهذا الذي نقله عن الشافعي خطأ؛ فإنه نص على أن ذلك جائز؛ إذ لا مانع منه، والمقصود من إخراج السبَق التحريضُ على الرمي، ولا فرق بين أن يفرض صدوره عن رامٍ واحد، وبين أن يفرض عن جماعة. هذا خطؤه في النقل عن الشافعي.
وأما خطؤه في التعليل، فهو أنه قال: "لأنه ناضل نفسه"، وهذا خطأ لا شك فيه، فإنَّ الغرض أن يجدّ هذا الرامي ويحرص على تكثير القرعات، وهذه العلة التي ذكرها إنما ذكرها الشافعي في صورة أخرى، وهي أنه: لو قال: ارم عشرةً عن نفسك وعشرةً عني، فإن كانت القرعات في عشرتك أكثر، فلك ما أخرجت، فهذا غير جائز؛ فإنه قد يقصر في العشر المشروطة للمُسْبِق، فيكون مناضلاً نفسه، ولا يصح العمل على هذا النسق، فقد ظهر غلطه في الفتوى والتعليل.
وذكر العراقيون في المسألة التي ذكرها المزني وجهاً بعيداً موافقاً لمذهبه وفتواه، وقالوا: من أصحابنا من أفسد المعاملة؛ من جهة أن الكثرة التي ذكرها في القرعات مجهولة، وهذا ليس بشيء؛ فإن قوله: إن كانت قرعاتُك أكثرَ محمول على ما إذا أصاب من العشرة ستة، فتتحقق الكثرة بهذا، واللفظ صريح في اقتضاء الاكتفاء بست قرعات.
والوجه عندنا أنه إن أصاب ست قرعات وِلاءً، فقد بان أنه استحق المال، وإن لم يصب الأربعة الباقية، فلو قال: أقتصر على ما كان مني، فإني استحققت المال، وقال الشارط: استكمل العشرة؛ فإني علقت الاستحقاق بعشرة إصاباتها أكثر، فالظاهر أنا نلزمه استكمال العشرة؛ فإنَّ لفظ الشارط: "ارم عشرة"، فلا استحقاق دون رميها، والخلاف جارٍ في المسألة، على ما مهدنا من الأصول قبل.
فصل:
11703- لو كان يتناضل جمعٌ، فمرّ بهم مارٌّ، وقال لمن انتهت النوبة إليه، وكان على أن يفوّق ويرمي: إن أصبت بهذا السهم، فلك دينار، قال الشافعي نصّاً: "إذا رمى وأصاب استحق الدينار وتلك الإصابة محسوبة له من المعاملة التي هو فيها " وهذه المسألة لا يُؤثر فيها خلاف عن أحد من الأصحاب، وهي دالة على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة الإجارة؛ من جهة أنها لو كانت بمثابتها، لاستحال أن يستحق بعمل واحدٍ مالين عن جهتين، ووجه الفصل أن سبب استحقاق الأسباق الشرطُ لا رجوع العمل إلى الشارط وهذا يؤكد أن المعاملة إذا فسدت، فالرجوع إلى أجر المثل عَسِر، فإنَّ العامل ليس يعمل لغيره، وإنما استحق المالَ المشروط عند عمله على الشارط وفاءً بالشرط.
وقال الأصحاب قياساً على ما ذكره الشافعي: لو كان يناضل رجلاً والمشروط عشر قرعات، فشرط أن يناضل بها رجلاً آخر، ثم ثالثاً إلى غير ضبط، حتى إذا فاز بالقرعات كان ناضلاً لمن يراميه وإن تعددوا، فهذا جائز جرياً على ما مهده الشافعي، وتعليله تنزيله على موجب الشرط، وقطعه عن قياس الأعمال المقابلة بالأعواض.
ثم قال الشافعي: إذا انتهت النوبة إلى رامٍ، فأخذ يُطوّل، وقد تبرد بهذا السبب يدُ الرامي قبله، فإن قضينا بأن المعاملة جائزة، فلا اعتراض، ولا طلب على المطوّل، وإن قضينا بلزوم المعاملة على التفصيل المقدم، فهو مطالب بالجريان على موجب العادة في الرمي بلا إرهاق ولا استعجال في الرمي يحمله على ترك الحصافة والتأنق، ولا تطويل يخالف العادة، وهذا واضح.

.فصل: في اختلاف المواقف:

11704- الرماة يقفون صفّاً في قبالة الغرض، ووضع المعاملة على استوائهم في القرب والبعد من الغرض، ولكن لا يخفى عن ذي الفطنة أن مقابل الغرض على المسامتة الحقيقية أقربُ ممن على يمينه ويساره، وبرهان هذا برسم خطوط من طرفي الصف مع رسم خط من موقف المقابل، ولا شك أن الخطوط تتفاوت، ثم ينضم إليه أن الغرض في حق المقابل أكبر، والمنحرف عن المقابلة يضيق الغرض في حقه، ولكن أجمع الفقهاء والرماة على احتمال ذلك، ولم يشترط أحد أن يتناوب الرماة على الموقف المقابل؛ فإن القيام والقعود عسر، ولو فرض تنافس في المقعد، فهو بحق، وسبيله كسبيل التنافس في البداية، بل التنافس في البداية أهون، والغرض فيها أخفى مما ذكرناه، ثم الفقه يُلحق المواقفَ بالبداية، وقد تفصّل القول فيها.
ولو وقع التشارط على أن يكون موقف البعض أقرب حتى يتقدم، وموقف البعض أبعد، فلا سبيل إلى ذلك، كما لا سبيل إلى ذلك في المسابقة، ولو لم يشترطا هذا، ولكن أراد أحدهما أن يتقدم، مُنع، وإن رضي بذلك أصحابه، فإن كان قريباً، فلا بأس، وهذا القدر يحتمل بالرضا، لما قدمته من أن المواقف تقع متفاوتة في صف الرماة لا محالة.
ولو أفرط في القُرب ورضي بذلك مناضلوه، فهذا تفاوت لا يحتمل-وإن جوزنا إلحاق النقصان والزيادة بالعقد- لأن هذا تفاوت يخالف وضعَ العقد، وهو بمثابة ما لو وقع الرضا في أول العقد أوفي أثنائه بأن يفوز بعض المناضلين بتسع قرعات، والمشروط على كل واحد غيرِه عَشْرٌ عَشرٌ. فهذا غير سائغ. نعم، لو رضوا بأن يتقدموا جميعاً وينقصوا من المسافة، فهذا تغيير للعقد على معنى النقصان.
ولو كانت المسألة بحالها، فوقعت المناضلة على شرط الصحة، ثم أراد بعضهم أن يتأخر عن الموقف الثابت، فهل له ذلك، وقد زاد على نفسه؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: له ذلك، ولا معترض عليه، ووجهه بيّن؛ فإن سهمه يمر على المسافة المشروطة والزيادة عليها من شأنه.
ومنهم من قال: لا يجوز ذلك، فإن القوس الشديدة قد تتحامل على الرامي فيزهق سهمه في الموقف المشروط، وإذا بعُد انخفض السهم وحبا، فإذا كان هذا الفرض ممكناً، فليس إلا الحسم والمنع.
وعلى هذا الترتيب لو جرت المعاملة على المسابقة صحيحةً، فأراد أحدهما أن يتقدم، مُنع ولو وقع الرضا به، فلا وجه له، ولو أراد أن يتأخر عن الموقف المعيّن، فعلى ما قدمناه، وقد يكون من طباع فرسه إذا تأخر ورأى متقدماً عليه أن يحتدّ يبغي إدراك المتقدم، ثم يتمادى كذلك في حُمُوَّته.
ومن أسرار هذا الفصل أن من تأخر عن الموقف في المسابقة أو المناضلة، فالباقي على الموقف المشروط في حكم المتقدم عليه، وقد ذكرنا أن التقدم ممتنع، ولكن تتميز صورة الوفاق على المنع عن صورة الخلاف بأنَّ الممنوع منه وفاقاً فيه إذا لزم قوم الموقف المشروط، فتقدّم من تقدّم، وصورة الخلاف فيه إذا لزم قوم الموقف، وتأخر باختياره من تأخر، والفرق وإن كان مُخيلاً في الظاهر، فلا فرق في الحقيقة إلا أنَّا نحتمل المقدار اليسير الذي لا يظهر لمثله أثر في الحس الظاهر بناءً على ما جعلناه قاعدة الفصل من تفاوت المواقف لا محالة، وهذا لا يفرق فيه بين التقدم والتأخر.

.فصل: في المعاقدة على الأمور البعيدة:

11705- إذا وقع التناضل على ما لا يبعد مدركه، حكمنا بالصحة على وفق الشرع، وإن جرى شرط لا يُدرك، فالعقد باطل، وهو بمثابة اشتراط مائة رشق مع الإصابة في جميعها، وهذا يجري من وجوه: قد يكون سبب التعذّر كثرة القرعات، وقد يكون سببه صغر القرطاس، وقد يكون سببه طُول المسافة، فإذا اجتمعت، تناهى التعذر.
وإن كان المشروط أمراً بعيداً، ولكن قد يتفق وقوعه على الندور، ففي جواز المناضلة على هذا الوجه وجهان:
أحدهما: أنها تصح لإمكان تحصيل المشروط.
والثاني: أنها لا تصح لبعد الحصول، وإنما جوز الشرع بَذْلَ المال في هذه المعاملة تحريضاً على الرمي، فإذا كان المشروط أمراً بعيد المستدرك، تبرّمت النفوس وانخنست.
ثم تعرض الشافعي لإجراء ذكر المسافة، وقال: "لو تناضلوا على المائتين"، فاختبط العراقيون في هذا على ما نَصِف ما ذكروه، ثم نذكر المسلكَ الحق الذي ذكره المراوزة، إن شاء الله تعالى.
قال العراقيون: إن زادت المسافة على ثلثمائة وخمسين ذراعاً لم يجز، وإن كانت المسافة مائتين وخمسين، فوجهان.
وهذه تحكّمات، لا أصل لها في توقيف، ولا قياس، ولا مصلحة تتعلق بالمعاملة، ولا شك في بطلانها، والمرعيُّ عند أئمتنا أن المسافة إذا كانت بحيث لا يقطعها السهم، فالمناضلة باطلة، وإن كانت بحيث يقطعها السهم، ولكن تندر الإصابة، ففي المسألة الخلاف الذي ذكرناه، وإن كانت الإصابة تقرب، فالقطع بالجواز، فأما تقدير المسافات، فلا أصل له.
11706- ومما يتعلق بهذا المنتهى أن التناضل لو كان على بعد المسافة من غير إصابة، وهو الغَلْوة واسمها بالفارسية (بَرْتاب)، ففي التناضل- والمقصود الإبعاد- وجهان:
أحدهما: الجواز؛ فإنه من الأغراض الظاهرة عند الرماة، ومن يطول أمدُ سهمه يتوصل إلى إيقاع السهم في القلاع، وإيصاله إلى مواقف الكفار وإن بعدت، وهذا ظاهر.
والثاني: المنع؛ فإن التعويل على الإصابة، وإذا كان لا يتجرد إليها قصدٌ، فلا تعويل على السهم بعُد أو قرُب.
ثم إن صححنا المعاملة على هذا الوجه، فالوجه الذي أراه أنه يجب أن يستوي القوسان في الشدة، فإن التفاوت في الشدة في القوس يجر تفاوتاً عظيماً في القُرب والبُعد يخفى معه الخُرق والدراية، ويجب أيضاً اعتبار خفّة السهم ورزانته، وينتهي الأمر عند المضايقة إلى اشتراط الرماة الرمي عن قوس واحدة بسهم واحد، فإنَّ القوسين قد يتساويان في الشدة، وإحداهما تفضل الأخرى في الحدة فضلاً لا ينكر، وبالجملة امتنع من امتنع من تصحيح هذه المعاملة لما يتطرق إليها من الجهالة، ولم يشترط أحد في المناضلة على إصابة الغرض التساوي في شدة القوس. نعم، إذا أفرطت شدة القوس وجلس صاحبه على مسافة تليق بقوسه، فقد يقع صاحب القوس اللين في مثل هذه المسافة على حد البعد في الفوز، ويتصل إذ ذاك بالخلاف المذكور فيه.
ومما يجب التنبه له في طباع النُّضَّال أنه يتفق فيه أمور بعيدة عن التوقع، ولا يجري مثلها في التسابق؛ فإن البرذون البليد لا يسبق الفرس العربي النجيب، إلا عند فرض نكبة في الجواد، وقد يَفْضُل الأخرقُ في الرمي الماهرَ به، فهذا مما يجب أن يكون على الذُّكر والبال.
ومما أنشأه الأئمة من ذلك أنهما لو تناضلا على سهم واحد على أن يرمي كلّ واحد منهما فردة، فالأصح الصحة، وقال بعض أصحابنا: لا يصح ذلك، لما أشرنا إليه من سجية النضال؛ فإن الأخرق قد يصيب في تلك المرة والحاذق لا يصيب، وإذا تعددت الأرشاق، زال هذا المعنى.
فصل:
11707- هذا الفصل يشتمل على مقدمةٍ لتحزب الرماة، وهي مقصودة في نفسها، بل هي بقية أسرار الكتاب، وقد أجملناها وأحَلْناها وهذا أوان الوفاء بالشرح، فنقول: إذا تسابق رجلان أو تناضلا، وأخرج كل واحد منهما سبَقاً، والتفريع على أن المُسْبق يستحق سبَق صاحبه، وهذا هو الأصح، وعليه تجري مسائل هذا الكتاب، ولابد من فرض المحلِّل، وإلا كانت المعاملة على صورة القمار، فإذا فرضنا محللاً، وكنا نعلم أن فرسه في المسابقة يتخلف لا محالة، وإن كنا في النِّضال عرفنا أنه لا يُفلح، فهو ليس بمحلل، والمعاملة عريّة عن التحليل.
ونص الحديث والمعنى شاهدان على ذلك، كما تقدم.
ولو أخرج رجلٌ سبَقاً، وكان يسابق أو يناضل رجلاً على أن صاحبه إن فاز، فله السبَق، وإلا أحرز المخرج ما أخرج، ولا شيء على صاحبه، فإن كان ذلك المشروط له بحيث لا يُفلح، فهذه المعاملة لا أصل لها، وهي مسابقة أو مناضلة محضة من غير مال، وإن كان المشروط له بحيث يفوز لا محالة، ففي صحة المعاملة والحالة هذه وجهان:
أحدهما: الصحة؛ فإن من أخرج مالاً، وقال لصاحبه: ارمِ كذا، فإن أصبت كذا، فلك هذا المال، فذلك جائز. وإذا جاز هذا، فأقصى الأمر أن يسبق المشروط له، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنه إذا كان يناضله أو يُسابقه، فهذه الصورة تقتضي أن يكونا على حد المخاطرة، حتى يُحرِز المخرِجُ إن فاز، ويستحق عليه صاحبه إن كان الفوز منه.
ولو تسابق رجلان، فأخرجا سبَقين، وبينهما محلِّل، وكان المحلل بحيث يسبق، فالخلاف الذي ذكرناه الآن جارٍ، ولا فرقَ، ولو أخرج رجلان سبَقين، وكان أحدهما بحيث يسبق لا محالة ولا محلل بينهما، فالذي يسبق لا محالة على صورة محلل يسبق لا محالة؛ فإن الذي أخرجه لا حكم لإخراجه؛ فإنه لا يستحق عليه، وتسميتُه لاغية، ولو أخرجا سبَقين، وبينهما محلل، وكان المحلل يساوي أحد المُسْبِقَيْن، أو يدنوَ منه، والمُسْبِق الآخر يتفَسْكل لا محالة، فالمسبق السابق والمحلل في حقه محللان، والخلاف المقدم جارٍ.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن الّذي يقف محللاً إن كان بحيث لا يتخلف لا محالة، فلا معنى للمعاملة، وإن كان بحيث يسبق، فالظاهر تصحيح المعاملة، وفيه خلاف.
فهذا ما أردنا أن نقدمه على فصل التحزب.