فصل: فصل: في أحكام الطواف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في أحكام الطواف:

2643- الطواف في الحج ينقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها: الطواف الواقع ركناً، وهو يقع بعد الوقوف، وهو المسمى طواف الإفاضة، والزيارة، ولا سبيل إلى تقدير إيقاعه قبل الوقوف، وسنفصل أول وقته، عند ذكر أسباب التحلل. ثم إذا حكمنا بكونه ركناً، فلا يسد مسدَّه شيء، ولا يتطرق إليه جبران.
2644- والقسم الثاني طوافٌ يقع بعد التحللين، وبعد الفراغ من مناسك منى: رمياً، ومبيتاً، وهو طواف الوداع. وفي وجوبه قو لان:
أحدهما: أنه يجب، وعلى تاركه الدم، وإليه ميْل النصوص في الجديد. والقول الثاني- أنه لا يجب، ولا جبران على تاركه، ولكنه سُنّةٌ مؤكدة.
ثم حق هذا الطواف أن لا يعرج الراجع إلى مكة بعده على أمرٍ، فإن عرّج على شغل، فسد ما جاء به عن الجهة المطلوبة، وتعيّن الإتيان بطواف الوداع مرةً، أخرى.
والمرأة إذا هي حاضت بعدما أفاضت، وطافت طوافَ الإفاضة، فلتنفر بلا وداع؛ وقد روي أن صفيةَ حاضت في وقت المنصَرَف، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسملم، فقال " عَقْرَى حلْقَى حابِستنا هي؟ فقيل: إنها قد أفاضت قبل أن حاضت، فقال: فلتنفر بلا وداع".
ثم إذا نفرت بلا وداع، وتمادى الحيضُ حتى انتهت إلى مسافة القصر، استمرت ذاهبةً، ولا جبران.
وإذا خرج الرجل بلا وداع، وجرينا على قولِ الجبران، وانتهى إلى مسافة القصر، استقر الجبران. ولو آثر العوْدَ، لتداركِ الوَداع، لم يسقط الجبران؛ فإنّ دخول مكة من مثل هذه المسافة في حكم زَوْرة مستفتحةٍ، تقتضي إحراماً جديداً على أحد القولين.
ولو حاضت المرأة، وخرجت، ثم انقطع حيضها، وهي بعدُ في خِطة مكة، رجعت، وطافت. وإن جاوزت الخِطة، وما انتهت إلى مسافة القصر، فالذي نص عليه الشافعي: أنه لا رجوع عليها، ونصَّ أن الرجلَ إذا فارق مكة، ولم ينته إلى مسافة القصر، وأراد الرجوعَ، يسوغُ له ذلك، ويقع الاستدراك بالطواف، ويسقط الجبران.
واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من جعلها على قولين: أحد القولين- أن انقطاع الحيض دون مسافةِ القصر يوجب الرجوعَ، فإن لم ترجع، التزمت الدمَ على قول. والرجوعُ في حق الرجل، والمرأةِ التي لم تكن حائضاً يثبُت لاستدراك صورة الطواف. هذا قولٌ. والمعتبر فيه مسافةُ القصر.
2645- وذكر الشيخُ أبو علي، وغيرُه قولاً آخر: إنه لو عاد من مسافة القصر، أمكنه أن يتدارك الوَدَاع، فهذا القائل لا يوجب العود، ولكنه يجوّزه، ويحكم بحصول التدارك.
ثم إذا وقع التفريع على هذا القول الغريب؛ فإنه يدخل مكة محرماًً بنسك، فإذا تحلل وودَّع، وخرج يكفيه الودَاع الذي جاء به عن النسك الذي أحدثه الآن، عن التدارك الذي رجع لأجله.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر: أنه يطوف طوافين:
أحدهما: يستدرك به ما فاته، والثاني: يأتي به لأجل النسك الذي جدده، وهذا ضعيف، ينبغي أن يكون الطواف الأول عن جهة التدارك، والثاني عن جهة هذا النسك. ثم يخرج ولا يحدث أمراً.
2646- والقول الثاني- أن أمر الوَدَاع يَنْقطع بمفارقة خِطة مكة، ثم يختلف الحكم في الحائض تطهر، والرجل يفارق: فحكم طهرها بعد مفارقة الخِطة أن لا يلزمها العود، ولا الجبران. وحكم الانقطاع في حق غيرها استقرارُ الجبران، وزوالُ إمكان التدارك. ووجه هذا القول أن الوداع متعلق بمكة، فإذا تحققت مفارقتها، فلا معنى لاعتبار مسافةٍ بعد مفارقتها.
2647- ومن أئمتنا من أقر النصين قرارهما، وفرّق، وقال: المرعيُّ في حق المرأة، مفارقةُ الخِطة، فإذا طهرت عن الحيض، بعد المفارقة، لم يلزمها عودٌ، ولا جبران. والرجل إذا فارق الخِطة، ولم ينته إلى مسافة القصر، أمكنه العود، وذلك لأن الحائض ليست من أهل الوداع شرعاً، فإذا طهرت بعد مفارقة الخِطة، فلا التفات إلى ما مضى من أمرها. والرجل كان من أهل الوداع شرعاً، فلا يبعد بقاءُ المستدرك، إذا لم ينته إلى موضع يقتضي دخولَ الحرم منه.
وكأن المرعيّ في الجانبين التخفيفُ. أما المرأة إذا طهرت بعد المفارقة، فلا وَداع عليها، والرجل لا ينحسم عليه المستدرك.
ثم إذا اعتبرنا مفارقةَ الخِطة. فيعود الوجهان المذكوران في باب المواقيت، في أن مفارقة العمران هي المرعية، أم مفارقة الحرم، وقد تقدم ذكرُ الوجهين، وهما جاريان هاهنا.
ولا خلاف أن المكي إذا خرج مسافراً لم تتوقف استباحةُ الرخص على مجاوزة الحرم بل المرعيُّ مفارقةُ الخِطة؛ فإن استباحة الرخص لا أثر لها في الحرم والحل، وكانت مكة فيها بمثابة سائر البلاد.
فهذا منتهى القولِ في طواف الوداع.
2648- ولا شك أن الوداع على الغرباء؛ فإن من يؤوب إلى مكةَ قاطناً، لا يعتبر الوداع في حقه. ولو عنّ للمكي أن يسافرَ مع الغرباء، فلا وَداع أيضاً؛ فإن حكم السفر يثبت في حقه إذا خرج.
ولا تعويل على ما يعتاده المكيون في ذلك؛ فإنهم يحرصون على الوداع أكثر من حرص الغرباء.
وفي بعض الطرق رمزٌ إلى أنهم يودّعون إذا نفروا، وخرجوا مع الغرباء.
ولا خلاف أنه إذا عنّ لهم هذا بعد العود إلى مكة، فلا وداع.
والغريب إذا كان بعد قضاء المناسك مزمعاً على أن يعرّج أياماً بمكة، ثم يخرج، فإذا خرج، ودّع على حسب ما ذكرناه، وإن قصد الإقامة، انقطع أثر الوداع، فإذا أراد السفر، ونقض عزيمةَ الإقامة، فلا وداع.
وبالجملة الوداع من مناسك الحج، وإن وقع بعدها. وليس على الخارج من مكةَ وداعٌ بخروجه منها، وليس الخروج في اقتضاء الوداع، كدخول الغرباء مكة في اقتضاء الإحرام.
وقد نجز القول في هذا القسم.
2649- القسم الثالث: طواف القدوم: وهو من الحج في حق من يرد مكة قبلَ عرفة، فيطوف طواف القدوم؛ كما قدم. والذي ذهب إليه الأئمة أنه سُنّةٌ، لا يجب جبرانُه بالدم، بخلاف طواف الوَدَاع.
وأشار صاحب التقريب إلى احتمالٍ فيه، فرأى أن يلحقه بطواف الوداع. وهذا بعيدٌ.
ثم قال الأئمة: ينبغي ألا يعرج القادمُ على أمرٍ حتى يطوفَ طواف القدوم، فلو أخر طواف القدوم، ففي قول الأئمة تردُّدٌ، وقد قطعوا بأن التعريج بعد طواف الوداع يفسده.
وذكر أبو يعقوب الأبيوَرْدي وجهاً في أنه يصح طواف الوداع من غير طهارة، ثم قال: يُجبر بدم.
وإنما قال هذا، من حيث إنه أُلزم: وقيل: لو جاز جبر طواف الوداع بالدم، لجاز جبر الطهارة فيه بالدم، فارتكبه؛ وقال تُجبر. وهذا غلط، لأنه إذا وجب الدم، فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة.
فهذا آخر قواعد المذهب في الطواف.
وقد شذ عن أصول المذهب مسائلُ قريبة ونحن نرسمها فروعاً.
فرع:
2650- الصبيّ إذا انعقد عليه الإحرام، فطاف به طائف، فإن لم يكن ذلك الطائف في نسك، أو كان ناسكاً، ولكن طاف عن نفسه أوّلاً، ثم احتمل الصبيَّ، وطاف به، فالطواف يقع عن الصبي في الصورتين، بلا شك.
ولو لم يكن طاف عن نفسه، فإن نوى بالطواف نفسَه، وقع عنه، ولم يحصل الطوافُ للصبي وفاقاً، وإن حصلت فيه صورة التردد.
والسبب فيه أن هذه الحركات الصادرة من الحامل، لا يجوز تقدير صرفها إلى مصرفين؛ فإذا وقعت عن شخصٍ، لم تقع عن غيره؛ وأئمة المذهب مجمعون على هذا؛ فلا نظر مع وفاقهم في وجه الرأي والاحتمال.
ومن ركب دابة، وطاف عليها، فحركات الدابة مضافةٌ إلى الراكب، ولو ركب دابَّةً رجلان، أو أكثر، حصل الطوافُ لجميعهم بتردُّدِ الدابَّة سبعاً.
وكذلك إذا احتمل غيرُ الناسك صبيين، أو أكثر، فهو بمثابة المركب في التفصيل.
ولو حمل الصبيَّ، ونواه بالطواف، وما كان طاف، فهذا يستدعي مقدمةً، وهي: أن الطائف لا يلزمه تجديدُ النية للطواف، لأنه ركنٌ من أركان الحج، والنية التي هي عقد الحج مشتملةٌ على الأركان، ولكن لو أتى الطائف بنيةٍ تتضمن الصرف عن جهة النسك، وأتى بصورة الطواف، ففي وقوع الطواف موقعَ الإجزاء وجهان:
أحدهما: لا يقع الموقع، ولعله الأصح. وربما كان يقطع به شيخي، ووجهه أنا إن لم نشترط النية، فوجهه الاكتفاء بالنية العاقدة الشاملة، فأما صرف الطوافِ عن جهة العبادة قصداً، فمراغمة لحكم النية المتقدمة، وقد ذكرنا لذلك نظيراً في باب النية في الطهارة، عند ذكرنا عزوبَ النية، والقصد إلى التبرد، أو التنظف ببقية الطهارة.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن نوى الحامل-وعليه الطواف- بالطواف الصبيَّ المحمولَ، فالطريقة المرضية تخريجُ ذلك على ما ذكرناه الآن. فإن قلنا: صرف الطواف بالنية يوجب انصرافَه، فلا يقع الطواف عن الطائف، ويقع عن المحمول، وإن قلنا: صرف الطواف بالنية لا يوجب انصرافَه، فيقعُ عن الطائف، فإذا وقع عنه، لم يقع عن الصبي.
وكان شيخي يقول: إذا نوى الصبيَّ، فلا يقع عن الصبيّ.
وهل يقع عن الطائف؟ فعلى قولين.
وهذا فيه خبطٌ. والذي ذكره العراقيون، وغيرُهم ما تقدم.
ولو نوى الطائف بالطواف نفسَه والصبّي المحمولَ، وقع الطواف عن الطائف، ولم يقع عن الصبي.
فصل:
قال الشافعي: "ثم يعود إلى الركن، فيستلم... إلى آخره".
2651- مضمون الفصل القولُ في السعي بين الصفا والمروة، وهو ركنٌ في الحج والعمرة عندنا، لا يجبر بالدم، خلافاً لأبي حنيفة.
ثم قال الشافعي: إذا فرغ الطائف من الطواف، واستتم الأشواط السبعة، فإنا نستحب له أن يعود إلى الحَجَر، ويستلمَه، ليكون آخر عهده الاستلام، وأول طوافه مفتتحاً بالاستلام". ثم قال: إن تمكن الطائف من الاستلام في كل شوط، فحسن، وإلا فليعتن به في كل وتر، ثم يصلي ركعتي الطواف، ويؤم بابَ الصفا، وهو في محاذاة الضلع الذي بين الركن اليماني وركن الحَجَر، ويخرج من ذلك الباب، فينتهي إلى الصفا، ويلقى درجاً في حضيضة، ويرقى فيها بقدر قامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرقي ليس مقصوداً في الحج، ولكن لا يأمن المنتهي، لو لم يرقَ أن يكون ما انتهى إليه من الدرج المستحدثة، وإلا فالانتهاء إلى أصل الجبل كافٍ وفاقاً.
2652- ونحن نرسم الآن القول في شرط السعي، وفيما يقع منه موقع الركن، ثم نذكر ما يتعلق بهيئاته، كدأبنا في الطواف:
فأما الشرطُ، فلابد من تقدم طوافٍ معتدٍّ به، ولا يجوز الإتيان بالسعي من غير سبق طواف.
ثم لا يمتنع أن يكون الطواف المتقدمُ نفلاً، والسعي لا يقع إلا ركناً، ولا يتأقت بطواف الإفاضة، بل إذا طاف القادمُ طوافَ القدوم، وسعى، وقع السعي ركناً، ولا يعيده إذا طاف طواف الزيارة، بل لا يؤثر أن يعيدَه، وكان شيخي يقول: تكره إعادته، والأمر على ما ذكر، وليس كالطواف؛ فإن غيرَ الناسك يأتي بما شاء من الطواف؛ فإنه قُربة في نفسه، والسعي تابعٌ، فيقتصر منه على الركن.
ثم إذا تقدم الطوافُ المحسوب، لم نشترط في السعي ما شرطناه في الطواف: من الطهارة والستر، ولا نشترط الموالاة، بين السعي والطواف، بل نقول: إذا تقدم الطوافُ معتداً به، وتخلل بين انقضائه وبين ابتداء السعي فصل طويل، فلا بأس.
قال الشيخ أبو علي: قلت للقفال: ما ترى فيه؟ فقال: لو أتى بالسعي بعد سنةٍ أجزأ، فلا أعرف فيه حداً.
ثم قال الشيخ: ولو طاف طوافَ القدوم، ولم يسْعَ على أثره، ووقف بعرفةَ ثم أراد أن يسعى؛ وصْلاً للسعي بما تقدَّم من طواف القدوم، لم يجُز، وما تخلل من الوقوف فاصلٌ حاجزٌ، وإن كنا لا نشترط الموالاة، فليطف عند الإفاضة، وليسْع.
هكذا قال.
فإن قيل: لو أوقع السعيَ على أثر طواف الوداع، فما قولكم فيه؟ قلنا: هذا مغالطة؛ فإن طواف الوداع، لا يقع إلا بعد الفراغ عن المناسك كلها، فلا اعتداد بطواف الوداع، وعلى الناسك سعيُه. فإذا طاف المُفيض، ولم يسع، وعادَ إلى منى ليرمي، ويبيت على ما سيأتي مناسك منى- فيعتد بتلك المناسك، وإن كان عليه السعي، وقد يؤخر الطوافَ الركنَ إلى انقضاء أيام منى، فلا بأس.
ويخرج منه أنا لا نبعد وقوع تلك المناسك، ممن هو في بقيةٍ من إحرامه.
هكذا ذكره شيخي. وفي قلبي منه شيء والعلم عند الله.
2653- فأما القول فيما هو أصل السعي، والنازل منه منزلةَ الركن، فالأصل التردد بين الصفا والمروة. ثم أجمع الأصحاب على أنه إذا صدر من الصفا إلى المروة حُسب ذلك مرة في السبع، ثم ينتهي من المروة إلى الصفا، فيحسب ثانيةً، وهكذا إلى تمام السبعة، فيكون الابتداء من الصفا، والختم بالمروة.
وذهب ابن جرير إلى أن الساعي إذا عاد إلى الصفا بعد الانفصال منه، عُد ذلك مرةً واحدة، ثم يفعل كذلك سبعاً، فيتردد بين الميلين أربع عشرة مرة، وذهب إلى هذا أبو بكر الصيرفي من أصحابنا، وعرض تصنيفاً له، فيه ما ذكرناه على أبي إسحاق المروزي، فخطَّ عليه، فرد التصنيفَ إلى أبي بكر، فأعاده، واستقرّ على مذهبه هذا، ولا يعتد به أصلاً.
ومكان السعي معروفٌ لا يتعدى.
ومما يجب اعتباره الترتيبُ، فلو بدأ بالمروة، وصار إلى الصفا، فلا يحسب، وابتدأ سعيه في انفصاله عن الصفا.
فهذا ما يتعلق بالشروط، وما يجري مجرى الركن.
2654- فأما الهيئات، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقِيَ الصفا بقدر قامة، حتى بدت له الكعبة، ولا يمتنع أنه قصد ذلك الرقي، ثم قال: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". فهذا ما صح عنه.
وحسنٌ لو دعا الإنسان بما بدا له، ثم ينزل ماشياً على هِينَتِه، حتى يبقى بينه وبين ميلٍ يراه معلّقاً على ركن المسجد، مقدارَ ستة أذرع، فيبتدئ السعيَ. وكان ذلك الميل موضوعاً على المكان الذي منه ابتداء السعي، فكان السيل يهدمه، ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولم يجدوا على السَّنَن أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخراً عن مبتدأ السعي سِتةَ أذرع. ثم يأخذ في السعي ويتمادى عليه، حتى يتوسط ميلين أخضرين أحدهما متصلٌ بفناء المسجد، عن يسار الساعي، والثاني متصل بخانٍ، تعرفه العامة بدار العباس، فإذا توسطهما، عاد إلى سجية المشي.
ثم الصحيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم شدّةُ السعي " قالت حبيبةُ بنت أبي تجراه: "تطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع نسوةٍ من قريش، لأنظر كيف يسعى، فرأيته يسعى، وساقه تدور بإزاره، من شدة السعي، ويقول: أيها الناس: إن الله كتب عليهم السعي، فاسعَوْا".
وذكر بعض أئمتنا لفظ الخبب، وليس ذلك مما يعتد به.
ولكن لا ينبغي أن يبلغ السعي مبلغاً ينبهر به، فإذا كان كذلك، فمن ضرورته طرف من الاقتصاد.
والرقي في المروةِ محبوبٌ كالرقي في الصفا. وكانت الكعبة تبدو في عصر رسول الله عليه وسلم من تلك الجهة أيضاً، ثم أحدث الناس الأبنية، فحالت بين الكعبة وبين الراقين في المروة بالمقدار المشروع، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سعيه: "اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة. وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
فصل:
قال: "وإن كان معتمراً، وكان معه هديٌ، نحر، وحلق... إلى آخره".
2655- لم يرع المزني ترتيب مسائل الحج، كما ينبغي، بل أتى بها إتياناً يُشعر بقصد التشويش. ولكنا التزمنا الجريان على ترتيب (المختصر)، والآن ذكر فصلاً طويلاً في الحلق الذي لا يقع محظوراً: وهو من المعتمر يقع بعد السعي، ومن الحاج يوم النحر، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
2656- وقد اختلف قول الشافعي في أن الحلق في أوانه الذي وصفناه نسكٌ، أو محظورُ نسكٍ أبيح؟ فقال في أحد القولين: "هو محظور أبيح، اعتباراً بالقَلْم واللُّبس، وما عداهما " والقول الثاني: "إنه نسك " ويشهد له ظاهر الكتاب، واستحبابُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإطباق الناس على التشوّف إليه، حتى لا يخلو منقطَعُ نسك عنه.
فإن قلنا: إنه نسك، فلا يحصل التحلل إلاّ به في العمرة، وهو من أسباب التحلل في الحج.
وموضع الحلق الرأس، ولا يتعلق النسك بغيره، كالفدية عند فرض التعرض للشعر قبل التحلل، فإنها تتعلق بكل شعر، وإذا لم يكن على الرأس شعر استحببنا إمرار الموسى عليه؛ تشبيهاً بالحلق، ولا يجب ذلك.
ونقل الصيدلاني عن الشافعي-مع استحباب ما ذكرنا- استحبابَ- الأخذ من الشارب، أو اللحية. ولست أرى لهذا وجهاً، إلا أن يكون أسنده إلى أثرٍ.
ثم لا نقول على قولينا الحِلاق نسك: يتعين أن يصبر حتى ينبت شعرُه ثم يحلقه، بل إذا لم يكن في أوان الحلق شعرٌ، سقط الحلق، والإمرار تشبهٌ مندوب إليه.
2657- ثم الحلق للرجال أفضل، والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بالتحلل، عامَ الحديبية، وتَوانَوا في التحلل والحِلاق، وأمرهم ثانية وثالثة، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة، فقال: أما تَرَيْن قومك، أمرتهم بالتحلل، فلم يفعلوا!! فقالت: اخرج، ولا تُحدث أمراً، حتى تدعوَ بحالقك، فيحلقَ شعرك، وبجازرك فينحرَ هديك، فخرج، وفعل، فابتدر الناس إلى الحِلاق، والنحر، حتى كادوا يقتتلون، فمنهم من حلق، ومنهم من قصر". وقيل ما أشارت امرأة بالصواب، إلا أم سلمة في هذا الأمر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين». قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: «رحم الله المحلقين» قيل: يا رسول الله، والمقصرين، قال: «رحم الله المحلّقين»، قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: «والمقصرين».
2658- ثم قال الأئمة: إذا ثبت أن الحلق أفضل، فلو نذر الحلقَ في أوانه، لزمه الوفاء بالنذر، ولم يُغن التقصير، فحكموا بأنه يلتزمه بعينه بالنذر، وقد نص الشافعي عليه أيضاً.
ولو لبّد المحرم رأسه، وعقصه، فهذا لا يفعله إلا العازم على الحلق، فهل ينزل هذا منزلةَ نذر الحلق؟ فعلى قولين. ونظير ذلك في المناسك التقليدُ والإشعار؛ فإن القول اختلف في أنه هل ينزل ذلك منزلة قول القائل: جعلت هذا ضحية؟ ومما يداني ذلك أن من رأى بهيمةً مذبوحة مشعَرة، قد غُمِس مَنْسِمها في دمها، وضُرب به صفحتها، فهل له أن يأكل منها، اكتفاء بما رأى من العلامات؟ فيه قولان. وسيأتي كل أصلٍ في موضعه مستقصى إن شاء الله تعالى.
فإن نذر الحلقَ، وألزمناه الوفاء، فقد ذكرنا أن التقصير لا يكفيه، ومعنى التقصير الأخذ من الشعر، مع إبقاء شيء ممّا أخذ، فلو استأصل الشعر بالمقص، فهذا لا يسمى حلقاً، وفيه احتمال؛ من جهة الاستئصال وكذلك لو نتف أو أحرق.
ولو لم يجر نذرٌ، سقط الفرض-على قول النسك- بالنتف.
ولو نذر الحلقَ، ثم أمرّ الموسى، ولم يستأصل، فالظاهر أنه لا يسقط الفرض؛ فإن هذا من التقصير. ويكفي ما يسمى حلقاً، ولا يشترط الإمعان في الاستئصال، ويقرب الرجوع إلى اعتبار رؤية الشعر.
2659- والنسوة لا حلق عليهن، بل يقتصرن على التقصير، ولا يلزمهن الحلق بالنذر؛ فإن الحلق ليس قُربة في حقهن.
2660- ثم الأقل المجزئ نسكاً، هو الذي تكمل الفدية فيه إذا جرى محظوراً، وهو ثلاث شعرات. وقد ذكرنا شيئاً بعيداً في الشعرة الواحدة، وأن الفدية هل تكمل بها؟ وهو عائدٌ فيما يقع نسكاً، ولكنه مزيف، غيرُ معدود من المذهب.
وكان شيخي يقول: لو نذر استيعابَ الرأس بالحلق، ففي وجوب الوفاء به تردد للقفال، وهو مظنة الإشكال. ولا اطلاع على حقيقته قبل كتاب النذور.
وحلقُ شعراتٍ في دفعات مقيسٌ بحلقها على الحظر، فإن أكملنا الفدية مع التفرق، حكمنا بكمال النسك بها في أوان النسك. وإن لم نكمل الفدية، لم يسقط حق النسك.
ولو أخذ المحرم شيئاً من شعرةٍ، ثم عاد إليها بعد زمانٍ وأخذ شيئاً آخر منها، ثم كذلك ثالثة، وكل ذلك في شعرة واحدة، فإن كان الزمان متواصلاً، لم نكمل الفدية، ولم يسقط النسك، وإن تقطّع الزمان، ففي المسألتين خلاف، ووجه الاحتمال بيّن.
2661- ثم إذا حكمنا بكون الحلق نسكاً، فهو ركنٌ، وليس كالرمي والمبيت، فاعلم ذلك؛ فإنه متفق عليه، وآيته أنه مع الحكم بوجوبه لا يقوم الفداء مقامه، حتى لو فرض اعتلال في الرأس يعسر معه التعرض للشعر، ولكنه كائنٌ، فلابد من التريّث إلى إمكان الحلق، ولا تقوم الفديةُ مقامه. نعم، إذا لم يكن شعرٌ، فلا حلقَ؛ لأن الحلق للنسك هو حلق شعرٍ اشتمل الإحرام عليه، فإذا لم يكن على الرأس شعر في وقت الحلق، لم يتحقق ما ذكرناه.
2662- ثم وقت الحلق في العمرة يدخل بالفراغ من السعي، ووقت الحلق في الحج يأتي مستقصىً، بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال الشافعي: "ويخطب الإمام يوم السابع... إلى آخره".
2663- ينبغي للمقدَّم الذي يحج بالناس، أن يخطب أربع خطب، ولا ينبغي للإمام إذا لم يحضر بنفسه أن يُخلي جمعَ الحجيج عن مقدَّمٍ يحِلّ محل الأمير عليهم، والسبب فيه أن الحج يجمع صنوفاً من الخلق، ويُتوقع من ازدحامهم أمور لابد في دفعها من التعلّق برأيٍ مطاع؛ ولهذا يستحب أن يحضر الجامعَ سلطانٌ. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج، في السنة التاسعة من الهجرة، وبعث علياً وراءه، حتى يقرأ على الكفار سورة براءة.
ثم الخطبة الأولى تكون في يوم السابع، يحمد الله تعالى فيها، ويصلي على نبيه، ويعلّم الناس ما بين أيديهم من المناسك، ويستحثهم على النُّقْلة يوم التروية، كما سنصفها.
والخطبة الأخرى تقع يوم عرفة بعرفة.
والثالثة تقع يوم النحر، والرابعة يوم النَّفر الأول.
والخطب كلها أفرادٌ واقعةٌ بعد الفراغ من صلاة الظهر، إلا خطبة يوم عرفة، فإن الإمام يخطب خطبتين، قبل فعل الصلاة، بعد الزوال، وتكون الخطبة الثانيةُ قصيرةً، لا تزيد على مقدار الأذان، والإقامة. فيبتدئ الخطبةَ الثانية ويبتدىء المؤذن الأذان، ويُتبعه الإقامة، ويقرب نجاز الخطبة من فراغ المؤذن من الإقامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت خطبته في مسجد إبراهيم، على ما سنذكر مكانه من عرفة، ومقصود كل خطبةٍ تعليمُ الناس ما هم فيه، وما بين أيديهم من المناسك.
2664- ثم ذكر بعد ذلك الوقوفَ بعرفة، وهو الركن الأعظم، وبه يتعلق الإدراك، والفوات.
فأول ما نذكره مكانُ الوقوف، وزمانُه، فأما المكان، فمعروف، والذي نحتاج إلى ذكره أن على منقطع عرفة مما يلي منى، وصوب مكة وادٍ، يقال له: وادي عُرَنَة، وليس ذلك الوادي من عرفة. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجيج بالترقي منه.
ومسجد إبراهيم بعضُه في الوادي وأخرياتُه في عرفة، فمن وقف في صدر المسجد، فليس واقفاً بعرفة، ويتميز مكانُ المسجد من عرفة بصخرات كبار، فرشت في ذلك الموضع.
ويُطيف بعرجَات عرفة جبالٌ، ووجوهها المقبلةُ من عرفة، وفي وسطها جبل يسمى جبلَ الرحمة، ولا نسك في الرقيّ فيه، وإن كان يعتاده الناس، وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفٌ، وعنده يقف الخطيب.
فهذا ما يتعلق بالمكان.
2665- فأما الزمان، فيدخل أول وقت الوقوف بزوال الشمس يومَ عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر؛ فلو لم ينته إلى عرفةَ إلاّ بعد غروب الشمس، ولكنه أدرك الوقوف ليلاً، فقد أدرك الحج.
وفي بعض التصانيف قولان في الإدراك، وهذا غير سديد. والوجه القطع بالإدراك. وكان شيخي يذكر الخلاف فيه، إذا أنشأ الإحرام ليلة النحر، ويصحح الإدراكَ، ويزيف غيره.
ولم تختلف الأئمة في أن من أدرك الوقوف نهاراً، وأفاض، ففارق عرفة قبل غروب الشمس، فهو مدرك للحج، وإن لم يجمع بين الليل والنهار، في وقوفه.
وقال مالك: "من وقف ليلة النحر، فقد أدرك الحج، وإن وقف نهاراً، ولم تغرب عليه الشمس وهو بعرفة، لم يكن مدركاً للحج "؛ وصار إلى أن الوقت الأطول ليلة النحر، فالاعتبار به.
ثم إذا جعلناه مدركاً للحج، وقد أفاض قبل الغروب، ففي لزوم الدم قولان:
أحدهما- أنه يلزمه، إلا أن يعود إلى عرفة قبل غروب الشمس، ويصبر حتى تغرب، فلا دم حينئذ. والقول الثاني- لا يلزم الدم أصلاً، عاد، أو لم يعد. وإذا اختلف القولان في وجوب الدم، تبيّن من اختلافهما الاختلافُ في وجوب الكون بعرفة.
2666- والحج يشتمل على ثلاثة أصناف: الأركان- وبها الاعتداد، وإذا فرض الإخلال بها، لم يقم جابر مقامها.
والثاني: الأبعاض وهي تنقسم إلى متفق عليه، وإلى مختلفٍ فيه، على ما سنجمعها بعد ذلك. فكلُّ ما نُوجِبُ الدمَ فيها قطعاً، فهو واجب، وإن لم يكن ركناً، وما تردد القول في وجوب الدم فيه، فالقول مختلف في وجوبه أيضاً. فإن قلنا: يجب الدم إذا أفاض قبل الغروب، فلو عاد بعد الغروب، فهل يسقط الدم بهذا العود؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يسقط؛ لأنه جمع بين الليل والنهار.
والثاني: لا يسقط؛ فإن المطلوب أن يتصل آخر النهار بأول الليل، وهو كائن بعرفة.
فهذا تفصيل المذهب في زمان الوقوف.
2667- ثم نذكر بعد ذلك فصولاً، منها: إن الحصول بعرفة كاف، وإن لم يتفق لبثٌ، حتى لو عبر بطرفٍ من عرفة، كفاه ذلك، ولا يشترط أن يكون حضوره إياها على علمٍ منه بها، ولو لم يعرف حصوله بعرفة، وقد كان حضر بها، كفاه ذلك.
ومما يجب التنبه له أنا إذا ذكرنا خلافاً في الذي يصرف طوافه عن جهة النسك، إلى جهةٍ أخرى، وليس في الطرق تعرُّضٌ لتصوير مثل ذلك في عرفة، فظاهر الطرق يشير إلى القطع بأنه لو صرف حصولَه بعرفة، إلى جهةٍ أخرى، حصل له الوقوف، مثل: أن يتبع غريماً له، أو دابة نادّة.
ولعل السبب فيه، أن الوقوف في نفسه، لا يُتَخَيّل قُربة، والطواف قُربة على حياله، والذي يدل على ما ذكرناه أن الأئمة قالوا: لو حضر بطرفٍ من أطراف عرفة نائماً، كفاه ذلك.
ولا يبعد أن يقال: لو اتفق مثلُ هذا من راكب في أشواط الطواف، والنوم على هيئة لا تنقض الطهر، فهذا يقرب من الخلاف في صرف الطواف إلى غير جهة النسك؛ فإنه لم يوجد منه فعلٌ أصلاً، وهذا محتمل في الطواف، ويجوز أن يقال: يقطع بوقوع الطواف من النائم، الذي صورناه موقعه؛ من حيث لم يصرف الطوافَ عن النسك، وإن لم يكن ذاكراً له.
وهذا يلتفت على أصلٍ، ذكرتُه في كتاب الطهارة، وهو أن من نوى الطهارة، ولم يصدر منه فعل في الغُسل، لا من جهة الإقدام عليه، ولا من جهة المُكث في الماء، فهل نقضي بصحة الوضوء، والحالة هذه؟ ففي المسألة وجهان، ذكرتهما عن شيخنا أبي علي.
ولا يمتنع طرد الخلاف في الوقوف إذا صرف قصداً عن جهة النسك.
فهذا بيان القول فيما يسقط الفرض به من الوقوف، وفيما يحصل به التمام، وفي محل الدم، على الاختلاف.
2668- ومما نذكره في فصول عرفة: الجمعُ بين صلاة الظهر والعصر، وهو مندوب إليه في هذا اليوم؛ حتى يتفرغ الحجيج إلى الدعاء، ويتسع لهم وقت الإفاضة، ثم القول في الجمع مذكور في كتاب الصلاة، ولكن نعيد ما يختص بالنسك: فالغريب يجمع مقدِّماً، على ما يعتاده الحجيج، ولو أخر، فلا عليه؛ فإنه مسافر، يجمع مقدماً، ومؤخراً، ولا شك أن الأوْلى التقديم.
وقد ذكرنا في الصلاة أن إقامة الصلوات في المواقيت أولى من الجمع، إلا في حق الحاج؛ فإن إيثار الفراغ شيةَ عرفة أهم، وأولى من كل شيء، ولهذا اتفق العلماء على أنا لا نؤثر للحاج صومَ يوم عرفة؛ حتى يتمكن من الدعاء عشية عرفة. وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن صائما يومئذ.
2669- ومن فصول عرفة أنا نؤثر إكثار التهليل عشية عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أفضل ما دعوتُ ودعا الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله» ومما نؤثر للحجيج في عرفات التلبيةُ، ورفعُ الصوت بها، على الحدّ الذي ذكرناه.
2670- وقد ذكرنا خلافاً في أن المسافر سفراً قصيراً، هل يجمع؛ واختلف أصحابنا على طريقين في المكي، فقطع بعضهم بأنه يجمع، وإن قَصُر سفره، لمكان النسك. وهؤلاء يرون الجمع من آثار النسك. ومن أصحابنا من خرّج جمع المكي على القولين في جمع المسافر سفراً قصيراً.
والعَرَفيّ إذا أنشأ الإحرام من عرفة، فهل يجمع؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجمع وإن جمع المكي، فإنه جمعٌ في الإقامة من غير مطر.
والثاني: يجمع، لمكان النسك.
وقد نجز المقصود في الوقوف.
فرع:
2671- إذا وقع غلطٌ في الهلال، فوقف الناس يوم العاشر، ثم تبيّنوا الغلطَ، وقع وقوفهم الموقع وفاقاً، والسبب فيه أنهم لو كلّفوا القضاء، لم يأمنوا وقوعَ مثله في القضاء، ثم إن أقاموا، لاقَوْا عسراً، وإن انقلبوا وآبوا، تضاعفت المشقات. وليس في الشرع تكليفُ مثل هذا.
واختلف الأئمة في أنهم لو وقفوا في اليوم الثامن، وهذا يتصور بفرض شهادات زور، على الهلال.
فمن أصحابنا من قال: يقع الوقوف الموقع، كالغلط إلى العاشر، ومنهم من قال: إنه لا يقع الموقعَ؛ فإن هذا النوع من الغلط بديعٌ نادر الوقوع، ووضع الشرع يقتضي الفرق بينهما. ولا شك أن هذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يتنبهوا، حتى انقضى التاسع.
2672- ثم الحجيج إذا رأَوْا الشمس مُتَضَيِّفَةً للغروب، انقلبوا عن الموقف، فيوافون الانفصال- من طرف عرفةَ بعد غروب الشمس، ويوافون مزدلفة، ويؤخرون المغرب إلى العشاء، ويجمعون بينهما بمزدلفة، وتمدّ المطايا أعناقها، حتى إذا وَافَوْا مزدلفةَ باتوا بها، فإذا انتصف الليل، أخذوا في التأهب للرحيل، ثم إذا استقلّت بهم المطايا، وانتهَوْا إلى المشعر الحرام، وهو آخر مزدلفة، وقفوا، ودَعَوْا، ووقوفهم هذا سنةٌ، غيرُ مجبورة بالدم لو تركت.
ويلقاهم بعد مجاوزة المشعر الحرام وادي مُحسِّر، وكانت العرب تقف به، وقد أُمرنا بمخالفتهم، فلا وقوف.
وقد نؤثر تحريك الدابة قليلاً، وكان عمر إذا انتهى إلى وادي محسِّر يحرّك دابته، ويقول:
تعدو إليك قَلِقاً وَضينُها... معترضاً في بطنها جنينُها
مخالفاً دينَ النصارى دينُها وإذا وقعت الرحلة من مزدلفة في السُّحْرةِ العليا، فإنهم يوافون أطراف منى، وقد
أسفروا وينتهون إلى الجمرات، فيتعدَّوْن الجمرة الأولى التي ينتهون إليها، والجمرةَ الثانية، وهما على قارعة الطريق، ثم يمرون حتى ينتهوا إلى جمرة العقبة، وتلك الجمرة في حضيض الجبل، مترقية عن الجادّة على يمين السائر إلى مكة، ثم إذا انتهَوْا إلى هذا المنتهى، وابتدَوْا رمي هذه الجمرة، تركوا التلبية وأبدلوها بالتكبير.
وكان شيخي يذكر عن شيخه القفال أنهم إذا رحلوا من مزدلفةَ، مزجوا التلبيةَ بالتكبير، في ممرهم، فإذا انتهَوْا إلى الجمرة، وافتتحوا الرمي، محّضوا التكبير، ولم أرَ ذكرَ المزج إلى الرمي لغيره.
2673- ثم نبتدئ من هذا الموضع القولَ في التحلل.
فنقول: للحج تحللان، وهما متعلقان بأسباب ثلاثة، على قولٍ، وبسببين على الآخر. فإن حكمنا بأن الحلقَ في أوانه نسك، فأسباب التحلل ثلاثة: الحلق، وطواف الزيارة، ورمي جمرة العقبة.
وإن قلنا: الحلق محظورُ نسكٍ يباح إباحة القَلْم، فلا يباح به تحلل، وسبب التحللين طواف الإفاضة، ورمي جمرة العقبة.
ثم إن قلنا: للتحلل سببان، فالإتيان بأحدهما يوجب أحد التحللين.
وإن قلنا: الحلقُ نسك، فأسباب التحلل ثلاثة، والإتيان بالاثنين منها يثبت أحد التحللين، ولا تعيين، وكأنا نبغي التنصيف، ولكن الثلاثة ليس لها نصفٌ صحيح، فاقتضى ذلك تنزيلَ الأمر على اثنين، وهذا كقولينا: بتمليك العبد طلقتين، على محاولة تشطير الثلاث.
ثم عند ذلك قال الشافعي: "لا ترتيب في هذه الأسباب"، فليقدم منها ما شاء، وليؤخر ما شاء، وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عن شيء قدِّم من ذلك أو أُخر، إلا قال: "افعل ولا حرج".
2674- ومما تمس الحاجة إلى ذكره في رمي جمرة العقبة: أن وقته يدخل بدخول وقت الطواف، ووقت الحلق على قول النسك.
ثم مذهبنا أنه كما انتصفت ليلة المبيت بمزدلفة، دخل وقت هذه الأشياء الثلاثة، حتى لو بادر مكة، وأخل بالمبيت، وانتهى إلى مكة قبل طلوع الفجر، وطاف، اعتُدّ بطوافه، ولو انتهى إلى الجمرة، فرمى، وقَع الموقع، وكذلك لو حلق على قول النسك.
غير أن الأولى أن لا يرمي إلاّ بعد طلوع الشمس، والدليل على جواز الإيقاع بالليل، ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدّم ضعفة أهله من المزدلفة بليل، وقال: "رُوَيْدَك بالقوارير يا أنجشة"، وذكر لهم أن يوافوه راجعين إلى منى".
وكان صلى الله عليه وسلم وافى الرمي قبل الطلوع، فلا يتأتى موافاته في وقت وصوله إلا بإيقاع الطواف ليلاً، فإن من منى إلى مكة فرسخين.
ثم وقت رمي العقبة يمتد إلى غروب الشمس يوم النحر، وهل يمتد إلى طلوع الفجر في الليلة المستَقبلة يوم القَرّ؛ فعلى وجهين: ذكرهما الإمام وصاحب التقريب: أظهرهما أنه لا يمتد، ومن قال: يمتد، اعتبره بالوقوف بعرفة، لمّا تعلّق بالنهار، وبالليلة المستقبِلة.
فإن فات الرمي على ما سنصف فواته بعد هذا، ولم يثبت قضاؤه، أو ثبت وانقضى بانقضاء أيام التشريق، وجب الدم على ما سيأتي.
ثم اختلف أصحابنا في أن التحلل هل يتوقف على الإتيان ببدل الرمي؟ منهم من قال: لا. ومنهم من قال: يتوقف على البدل، توقفه على المبدل. ومنهم من فصّل بين أن يكون البدل دماً، وبين أن يكون صوماً: قال: إن كان دماً توقف التحلل عليه، وإن كان صوماً، لم يتوقف عليه، لطول الزمان.
2675- وأما طواف الإفاضة، فإنه ركن وإن كان من أسباب التحلل، وإن كان أخَّر السعي، فالطواف والسعيُ يعدان شيئاً واحداً من أسباب التحلل.
فهذا بيان التحللين بأسبابهما.
وقال صاحب التقريب: إذا لم نجعل الحِلاقَ نسكاً، فمن أصحابنا من قال: كما طلع الفجر يومَ النحر، حصل أحدُ التحللين، من غير إقدام على شيء، واعتبر طلوع الفجر، نظراً إلى الدخول في اليوم.
2676- فإِذا وضح ما ذكرناه، فنذكر بعده الأحكامَ المتعلقةَ بالتحللين، وأحدِهما.
فأما إذا حصل أحد التحللين، فلا خلاف في استباحة لُبسِ المخيط، وسترِ الرأس، وقَلْمِ الظفر، والحلقِ إن لم نجعله نسكاً.
ولا خلاف أن الوطء لا يستباح، بتحلل واحدٍ.
فأما التلذذُ دون الجماع، مع الإنزال ودونه، والاصطيادُ، وعقدُ النكاح، ففي هذه الخصال الثلاث قولان:
أحدهما: أنها تستفاد بتحلل واحد كما قدمناه، والثاني لا تستفاد كالجماع. أما المباشرة فشبيهةٌ به، والعقد توصلٌ إليه، والصيد عظيم الوقع؛ من حيث إنه إتلافٌ محرّم، فشابه الوقاع، لعظم وقعه.
واختلف أصحابنا على طريقين في استعمال الطيب، فمنهم من قطع بإلحاقه باللُّبس، والقَلْم فأباحه، ومنهم من خرّجه على قولين، كالمباشرة، وغيرها.
والأولى وإن قلنا: لا ترتيب، أن يرمي الجمرةَ، ثم يحلق، ثم يطوف، فأما الرمي، فالرأي تقديمه حذاراً من الخلاف، ثم الحلق يقدّم، ليأتي البيت لابساً متزيناً.
فصل:
2677- أعمال الحج تقع على وجهين، ولكل واحد ترتيب، نذكره حتى يفهم المبتدئ ترتيب الأعمال.
فإذا أحرم الغريب بالحج، من ميقاته، ووجد متَّسعاً في الزمان، فإنه يدخل مكةَ قادماً، ويطوف طواف القدوم، كما سبق وصفه، ثم هو بالخيار: إن شاء سعى على أثر طواف القدوم، ووقع السعي ركناً، وإن شاء أخر السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة.
ثم أهل مكةَ يرحلون يوم التروية، ويسمونه يومَ النُّقْلَة ويمتدّون إلى مِنى، ويبيتون به ليلةَ عرفة، وهذا مبيت منزل، لا مبيتُ نسك أصلاً، ولا يتعلق به غرض نسكي.
ثم يصبحون، ويتوجهون إلى عرفة، فيوافونها قبيل الزوال، على أناتِهم، فإذا قَضَوْا حقّ المكان، أفاضوا-كما وصفناه- إلى مزدلفة، وباتوا بها، وهذا المبيت نسك، على ما سنصفه، ثم يصبحون إلى منى، ويرمون، ويحلقون، كما سبق وصفه، ثم يُفيضون إلى مكة، ويطوفون. وهذا الطواف-هو الركن- يسمى طواف الإفاضة، وطوافَ الزيارة، وطواف الصَّدَر، وقد قيل: طوافُ الصَّدَر طوافُ الوداع. ثم إن كان سعى قبلُ، فلا يسعى. وإن لم يكن سعى، فيسعى الآن.
ثم ينقلب إلى منى للمبيت والرمي في أيام التشريق، حتى إذا وَفَّى ما عليه، فإن شاء نفر في النفر الأول، وإن شاء نفر في النفر الثاني، ثم يرجع إلى مكة ويطوف طوافَ الوداع، كما سبق وصفه.
فهذا ترتيب أعمال الحج، في حق من يدخل مكة، قبل يوم عرفة. فأما إذا انتهى الحاج في ضيق الوقت إلى عرفة، فيقفُ، ويجري الترتيبُ الذي رسمناه، وليس في حقه طوافُ قدوم، وباقي الترتيب كما مضى.