فصل: فصل: في أحكام الضيافة وما يتعلق بها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الوليمة والنثر:

قال الشافعي: "والوليمة التي تعرف وليمة العُرس... إلى آخره".
8558- أبان أن الوليمة تنطلق على كل مأدبة في إملاكٍ، أو نفاسٍ أو خِتان، أو حادثِ سرور، ولكنها شُهرت بما يتخذ في العرس، وقد روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الوليمة في حضر ولا سفر. وروي «أنه أولم على صفية بسويق وتمر في السفر» ودخل عليه عبدُ الرحمن بنُ عوف وعلى ثوبه أثر الصفرة فقال: "مَهْيَم". وهذه كلمة تستعمل في الاستفهام رآها البصريون من الأصوات كصه، ومه، وحيهلا، وهيهات، وقال الكوفيون معناه: ما هذا؛ فإنه يستعمل في السؤال فقال عبد الرحمن: تزوجتُ امرأة من الأنصار، وكانوا يتضمخون بالزعفران في العُرسِ، قال صلى الله عليه وسلم: «أولِمْ ولو بشاة».
ثم كما يأمر بالوليمة يأمر بإجابة الداعي على تفاصيلَ سنذكرها.
8559- والشافعي جعل وليمة العرس أَوْلى الدعوات، وغيرَها أخفَّ منها. ثم قال: "ومن تركها لم يَبِنْ لي أنه عاصٍ، كما تبين لي في وليمة العرس"، فكان هذا ترديد جواب منه في وليمة العرس، فمن أصحابنا من جعل في وليمة العرس وأنها هل تجب؟ قولين، وتمسك بظواهر الأوامر، ولم يردد الجواب في وجوب غيرها.
وذهب المحققون إلى أن الوليمة لا تجب قولاً واحداً، وإنما التردد في وجوب إجابة الداعي؛ فإن لفظ التعصية نُقل في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يجب الداعي فقد عصى أبا القاسم». ومن لم يوجب الإجابةَ حمل لفظ العصيان على المخالفة وتركِ التأسّي، وهذا غير بعيد على مذهب الاتساع في الكلام. وقد يقول القائل: أشرت على فلان برأيى، فعصاني.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أُهدي إليَّ ذراع، لقبلت، ولو دُعيت إلى كُراع، لأجبت». والمراد كُراع شاة. وقال بعض المتكلفين أراد بالكراع: كراع الغميم، وهي قرية من المدينة على فراسخ، فيكون المعنى لو دُعيت إلى مسافة بعيدة، لأجبت، وهذا غير مستقيم والكُراع مقرون بالذراع.
ثم من حمل التردد في الوجوب على إجابة الداعي، لم يَفْصِل بين دعوة ودعوة ومن ردد الجواب في وجوب اتخاذ الدعوة خصص تردده بوليمة العرس.
ووصف أبو سعيد الخدري أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر فيما وصف: "كان صلى الله عليه وسلم يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعلف الناضح، ويحلب الشاة، ويركب الأتان، ويطحن مع الخادم، وكان لا يحمله الحياء على ألا يحمل البضاعة من السوق إلى أهله، وكان يسلم مبتدئاً، ويصافح الغني والفقير، ويجيب إذا دُعي ولو إلى حَشَف التمر، وكان هين المؤونة، جميل المعاشرة، بسَّاماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوسة، جواداً من غير سرف، رحيماً رقيق القلب ما تجشَّأ عن شِبع قط، ولا مدَّ يده إلى طمع". بأبي هو وأمي.
8560- وعلينا بعد ذلك أن نفصِّل الدعوةَ والإجابةَ، فنقول: إذا بعث واحداً وقال له: ادعُ من لقيتَه، فدعا واحداً، فلا عليه لو تخلف، فإنه غيرُ معيّنٍ بالدعوة، وإذا لم يتجرد قصدٌ إلى مدعو، فيجب أن لا يثقلَ التخلفُ على الداعي، ولو دُعي وعلم المدعوُّ أن في دار الداعي أقواماً لا يلائمون المدعوَّ-والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه ترددٌ للأصحاب، وهو أن يدعوَ رجلاً شريفاً مع طائفة من السُّفل والأراذل.
وإن كان المدعوُّ صائماً، لم يتخلف أيضاًً، بل يجيب ويحضر. ثم إن كان صومه فرضاً بَرَّكَ ودعا، وأبدى عُذرَهُ، وإن كان صومه تطوعاً، وعلم أنه لا يعز على المضيف تركُ الأكل، لم يفطر، وإن علم أنه يشق عليه تركُ الأكل، فالأولى أن يفطر ويصومَ يوماَّ مَكانه. وإن علم المدعو في الأصل أنه لا يعز على الداعي امتناعُه-والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه احتمال. وقد روي: أن ابن عمر دُعي إلى دعوة مع جماعة، فمد يده إلى الطعام، ثم قال: "خذوا بسم الله، وأمسك، وقال: إني صائم".
وإن كان في مكان الدعوة منكراتٌ كالمعازف، نُظر، فإن علم أنه لو حضر لنُحِّيت ورُفعت تعظيماً له، فينبغي أن يحضر، ويكونُ حضورُه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن لم ينزجروا، ولم يكن له بمنعهم يدان، لم يُقِمْ وخرجَ، ولا يُقيم فيما بينهم ما بقي له اختيار.
8561- وإن كان في البيت صور، فإنا نتكلم فيها أولاً، ونقول: الصور الشاخصة والمستوية على السقوف والجدرات والأُزر المرتفعة والسجوف المعلقة ممنوعة، ويحرم الأمر بها وتعاطيها، وقد روي: "أنه دخل رجل على ابن عباس فاستخبره ابنُ عباس عن حرفته، فقال إني أنقش هذه الصور، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُحشر المصورون يوم القيامة، ويقال لهم انفخوا الروح فيما خلقتم، فما هم بنافخين، ولا يخفف عنهم العذاب. فقال الرجل: ما لي حرفة سواها، قال: فإن كنتَ فاعلاً، فعليك بصور الأشجار". وعن عائشةَ أنها قالت: "كانت لنا سَهوةٌ علقتُ فيها سُترة وعليها صورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدنو منه وينصرف، فعل مراراً، ثم قال صلى الله عليه ومسلم: حُطِّيها، واتخذي منها نمارق".
ففهم العلماء من ذلك أن المحظور صور الحيوانات، فأما تشكيل الأشجار فلا بأس به.
ولو صور المصور حيواناً إلا وجهه، ففيه تردد: فمن أصحابنا من جوز ذلك، وجعل ما عدا الوجه خطوطاً وتشكيلاً كالأشجار. ومنع مانعون ذلك، فإنَّ سائر أعضاء الحيوان يُشعر بالحياة إشعار الوجه.
ثم فيما رويناه ما يدل على الفرق بين الصور المرفوعة وبين المحطوطة التي توطأ على الفرش والنمارق، ولعل السبب فيها أنها إذا كانت مرفوعة، ضاهت الأصنام، وإذا كانت موطوءةً مفترشة تحت الأقدام، فليست كذلك، وأيضاًً، فإنها إذا كانت مرفوعة كانت مُهيّأةً للنظر إليها، والمخادّ الكبار التي لا تتوسدُ، وإنما تهيأُ مرتفعةً شاخصة في معنى الستور.
ولبس الثياب المصورة كان يمنعه شيخي، ولعله أولى بالمنع من رفع الصور على الستور المعلّقة، وكان يقول: استعمال الثياب المصورة لا يحرم، فإنها تصلح للفرش، كما يتأتى تعليقها ولبسها، وإذا كان لها وجه في الاستعمال، حمل الاستعمال عليه، وعندي أن الذي يتعاطى التصوير هو الآثم بكل حال، وفي المسألة احتمال.
وإذا صادف الناهي عن المنكر سترةً معلقة وصورة، لم يفسدها، بل حفظها لتفرش. ثم في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة»، فيكره على موجَب الحديث دخولُ بيت فيه صورة ممنوعة، كما ذكرناه، ولا ينتهي الأمر إلى التحريم عند كثير من أصحابنا.
وكان شيخي يُلحق هذا بالمحظورات، ويُلزم الخروج من البيت، والأصح الاقتصار على الكراهية.
فصل:
وقال في نثر السكر واللوز والجوز في العرس: "لو تُرك، كان أحبَّ إليَّ... إلى آخره".
8562- أراد الشافعي كراهةَ الالتقاط؛ لأنه أُخذ بخُلسةٍ ونُهبة، وفيه خروج عن المروءة، وربما يخطِر للناثر أن يُؤْثر بعض الملتقطين. ولا يبعد أن يحمل ما ذكره الأصحاب على النثر أيضاً؛ فإنه سببُ الحَمل على الالتقاط. وعندي أن الأمر في ذلك لا ينتهي إلى الكراهة.
ومن لم يكن ذا حظ من الأصول قد لا يفصل بين نفي الاستحباب وإثبات الكراهية، وليس كذلك، ولفظ الشافعي مشعر بالتهيب وحط الأمر عن رتبة الكراهية؛ فأنه قال: "لو تُرك كان أحبَّ إليّ". ثم قد ينتهي الأمر في هذا إلى الإباحة إذا كان الناثر لا يؤثر أحداً، وكان المتطلعون عنده بمثابةٍ.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر إملاكاً فقال: أين أطباقكم، فأُتي بأطباق عليها جوز ولوز وتمر فنُثرت. قال جابر بن عبد الله راوي الحديث: فقبضنا أيدينا، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما لكم لا تأخذون. قلنا: لأنك نهيتنا عن النُّهبى، فقال: إنما نهيتكم عن نهبى العساكر، خذوا على اسم الله، فجاذَبَنا وجاذبناه». فثبت الأصل بالخبر الصحيح.
ثم ما وقع على الأرض، فالحاضرون فيه شرَعٌ، يملكه من يبتدره، وإذا ثبتت يد إنسان على شيء منه، لم يُسلب منه، ولو غالبه مغالب، فهو غاصب، وإن وقع شيء في حِجر إنسان، فإن كان بسط حجره لذلك، لم يؤخذ منه، وكان احتواء الحِجر المبسوط لذلك بمثابة الأخذ باليد، وإن لم يكن قصد هذا ببسط حِجره، فهل يجوز الأخذ من حجره؟ قيل: لو كان لا يرغب فيه جاز، وإن عُلم أنه يرغب فيه، وإن لم يقصد بسطَ حِجره لهذا، ففي المسألة وجهان مبنيان على الطائر إذا فرخ في دار إنسان، فصاحب الدار أحق بالفرخ، ولكن لو ابتدره غيره فأخذه، فهل يملكه؟ فعلى وجهين.
8563- من تحجر أرضاً ليحييها، فابتدرها غيره وأحياها، فالأصح أنه لا يملكها، وفي المسألة وجه على بعد. ولو نشر ذيله فوقع فيه شيء، كان نشْرُ الحِجر مملّكاً بخلاف المحجِّر، فإن الملك يحصل بمجرد إثبات اليد في المنثور، وما يحصل في الحِجْر على الصورة التي ذكرناها يُعد في يد صاحب الحِجر، ويُعدُّ إحرازاً لما احتوى عليه حِجْره ومجرد إثبات اليد لا يملّك الموات حتى يُحيىَ كما ذكرناه.
ولو سقط من حجره ما وقع فيه، نُظر، فإن لم ينشره بقصد الأخذ، فإذا سَقَطَ، مَلَكَهُ من يبتدره، وإن كان من وقع في حِجْره راغباً فيه، وهو بمثابة ما لو عشش طائر في دار ثم طار الفرخ، فلا اختصاص لصاحب الدار بعد مفارقته دارَه. ولو نشر ذيله، أوآلة كانت معه، فوقع فيه شيء، ثم سقط منه، فهذا فيه احتمال، والظاهر أنه يملكه، ثم لا يزول ملكه بالسقوط، كما لو اعتُقِلَ صيد بشبكةٍ نُصبت على مدارج الصيود وانضبط بها، ثم حدث حادث فأفلت؛ فالظاهر أنه مِلك ناصب الشبكة.
وفي الصيد وآلة اللقط وجه آخر؛ فإن العادة هي المرعية في هذه الأبواب.
وما تحتوي عليه الشبكة لا يوثق به أو يؤخذ، نعم لو أخذه آخذ لم يملكه. وكذلك القول لو أخذ آخذٌ ما وقع في آلة الملاقط لم يملكه، وإنما الكلام فيه إذا سقط بنفسه.

.فصل: في أحكام الضيافة وما يتعلق بها:

8564- إذا قَدَّم المُضيف الطعام، فالمذهب الظاهر: أنه لا حاجة إلى لفظٍ من المضيف، بل تكفي قرائن الأحوال في إفادة الإباحة. وأبعدَ بعضُ أصحابنا، فقال: لابد من لفطٍ منه، فليقل: كلوا بارك الله فيكم، أو ليأتِ بلفظ يفيد هذا الغرضَ.
وليس بشيء.
ثم الضيف هل يملك ما يأكله؟ اختلف أصحابُنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يملكه أصلاً، وإنما يأكله على ملك المُضيف مباحاً، وهذا ما حُكي عن اختيار القفال.
ومن أصحابنا من قال: إنه لا يملك حتى يضعَها في فيه.
ومنهم من قال: لا يملكها حتى يمضغها بعضَ المضغ.
ومنهم من قال: لا يملكها حتى يزدردها، فإذا ازدردها، تبيّنا أنه ملكها مع الازدراد.
وفائدة هذا التردد ظاهر في إثبات الملك ونفيه.
وكان شيخي يصحح أن الضيف لا يملك، ويذكر هذه الوجوهَ في أن الإباحة هل تلزم، حتى لو رجع المضيف، لم يكن له الرجوع. وهذا لا بأس به، ولكن الأصح أن الإباحة لا تنتهي إلى اللزوم قط، ما لم يَفُت المستباحُ، وليس في الشرع إباحة تُفضي إلى اللزوم إلا في النكاح، فإنا قد نختار أن المعقود عليه في النكاح ليس مملوكاً وإنما هو مستباح مستحق.
ومن قال لابد من لفظٍ في إباحة الطعام يشترط من الناثر لفظاً أيضاً. ثم لا يشترط تمليكاً وإيجاباً وقبولاً، بل يكتفي بأن يقول: خذوا، أو بأي لفظ في معناه.
8565- ومما يتعلق بما نحن فيه أنَّا إذا رأينا إجابةَ الداعي حتماً، فلو دُعي جمعٌ فأجاب بعضهم، هل تسقط الفرضية عمّن لم يجب سقوطَ فرض الكفاية في مثل هذه الصورة؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يُنحَى بذلك نحو فروض الكفايات، وأقرب الأمثلة إلينا ردُّ جواب السلام على جمعٍ؛ فإنه إذا أجابه واحد منهم، سقط فرض الجواب عن الباقين.
وعندي أن ما ذكروه فيه إذا وُجِّهت دعوةٌ على جمع ولم يُخَصَّص كلُّ واحد منهم بالتنقير، فإن خصص كل واحد بالدعوة-والتفريع على وجوب الإجابة- فلا يسقط الفرض أصلاً عن البعض بحضور البعض، وعلى هذا القياسُ يجري في السلام لو خُصِّصَ كلُّ واحد بتسليمة.
ولو حضر الدعوة، ولم يكن عذر يمنعه من الأكل، وكان يشق على المُضيف امتناعه؛ فقد ذكر العراقيون وجهين في وجوب الأكل بناءً على وجوب الإجابة. وهذا بعيد إن قيل به، فيكفي ما ينطبق عليه الاسم في التعاطي.
فإن لم تكن دعوة، فالأكل والتطفل حرام، وفي الحديث: «من دخل دار غيره بغير إذنه، دخل عاصياً وأكل حراماً». وإنما يفرض هذا والدعوة نَقَرى، فأما إذا كانت الدعوة جَفَلَى، وفتحت الباب ليدخل من شاء، فلا تطفل والحالة هذه. وقد نجزت المسائل المنصوصة في السواد، ونحن نرسم بعدها فروعاً لابن الحداد وغيره.
فرع:
8566- إذا قال السيد لعبده: انكح فلانة الحرّة، وأجعلُ رقبتك صداقها، فالإذن فاسد؛ فإن النكاح على هذا الوجه لا يصح؛ إذ المرأة لو ملكت رقبة زوجها في دوام النكاح، لانْفسخ النكاح، فكيف يفرض انعقاده ابتداءً مع تقدير حصول الملك في رقبة الزوج؟ ولو تعاطى السيد التزويج بنفسه على هذه الصفة، فزوجَ من عبده الصغير-أو الكبير على قول الإجبار- حرةً، وجعل رقبة الزوج صداقاً، فالذي قطع به الأصحاب: بطلانُ النكاح.
وكنت أود لو ذهب ذاهب إلى صحة النكاح وفساد الصداق، ثم كان الرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة، ولكن ما يصير إلى هذا صائر. والتعويل في المذهب على النقل.
وتعليل ما ذكره الأصحاب: أن من نكح امرأة وأصدقها خمراً، فإنا نفرض الصداق منفصلاً عن النكاح، حتى كأنه ليس عوضاً، وليست تسميةُ الخمر قادحةً في مقصود النكاح، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تؤثر في مقصود النكاح لا تُفسده. وأما جعل رقبة الزوج صداقاً، فنوعٌ من إفساد يقدح في مقصود النكاح، كما تقدم.
8567- ولو أَذِنَ لعبده في أن ينكِحَ أَمَةَ الغير، ويجعل رقبته صداقها؛ فهذا جائز؛ فإنه لا يصير مملوكاً للزوجة، إذ مالك الصداق سيد الأَمَةِ، ولا يمنع أن يجتمع الزوج والزوجة في ملك مالك؛ فإن للسيد أن يزوِّجَ أَمَتَهُ من عبده.
فإذا تبين ذلك، فلو انعقد النكاح على هذا الوجه، ثم طلق زوجته قبل المسيس؛ فحكم الطلاق لعيل التشطير.
وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: يرتد نصف الرقبة إلى السيد الأول؛ فإن الرقبة خرجت من ملك السيد الأول، ونصف الصداق يرتد إلى من يخرج الصداق من ملكه، وليس هذا كما لو أصدق الأب عيناً من أعيان ماله زوجةَ طفْلِهِ؛ فإنا نقول: إذا بلغ وطلق، رجع نصفُ الصداق إلى الزوج، فإنَّا نقدر إصداق الأب عنه تمليكاً، ثم نحكم بأنه ثبت صداقاً عن ملك الطفل، ولا يتأتي في هذه المسألة مثل هذا، وليس بين كون العبد ملكاً للأول وبين وقوعه صداقاً مرتبة.
ومن أصحابنا من قال: لا يرتد نصف العبد إلى السيد الأول؛ لأن الطلاق هو المشطّر، وهو يقع والعبد في ملك الثاني.
وهذا الوجه عندي في حكم الوهم والغلط الذي لا يعوّل عليه، وذلك أن العبد هو الصداق، فلو فرضنا الصداق غيرَه، وصورنا طلاقاً، لنظرنا على وجهٍ في حالة الطلاق، فأما إذا كان هو الصداق، فلا وجه إلا النظر إلى من خرج العبد عن ملكه.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين في أن العبد إذا نكح بإذن مولاه، والتزم المهرَ في الذمة، وأدَّاه من كسبه، ثم باع مالكُ العبد العبدَ، وطلق قبل المسيس، فالصداق إلى من يرتد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يرتد نصف الصداق إلى المالك الأول، وهو الوجه.
والثاني: أنه يرتد إلى الثاني؛ نظراً إلى حالة الطلاق.
فهذا-على هذا الوجه- بعيد. والترتيب الصحيح أنه إذا أدَّى المهر مما اكتسبه في ملك الأول، ثم فرض الطلاق في ملك الثاني؛ فالنصف يرتد إلى الأول؛ لأن الأكساب كانت ملكَ الأول، ومِن ملكِهِ خرجت إلى الزوجة، فأما إذا جرى النكاح في ملك الأول، ثم باعه مولاه، فاكتسب في ملك الثاني ووفَّر الصداقَ، ثم طلق قبل المسيس، فالنصف يرتد إلى الأول أو إلى الثاني؟ فعلى وجهين.
وإذا ضممنا ما ذكره الشيخ أبو علي إلى ما رتَّبه الأصحاب، انتظم من مجموعه في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها: أن نصف الصداق يرتد أبداً إلى من جرى النكاح في ملكه.
والثاني: أنه يرتد أبداً إلى من يجري الطلاق في ملكه.
والثالث: أنه يفصل، فإن اكتسب في ملك الأول وأدّى، رجع الشطر إلى الأول، وإن اكتسب في ملك الثاني وأدّى، رجع الشطر إلى الثاني.
8568- ثم فرع الأصحاب مسألة إصداق العبد رقبة نفسه، فقالوا: إن حكمنا بأن شَطرَ الرقبة يرتد إلى الأول، فلا كلام، وإن حكمنا بأن الشطر يرتد إلى الثاني؛ فلا معنى للتشطر على الحقيقة، فإنه لو تشطر، لرجع إليه، فلا معنى لتقدير خروج الشطر عن ملكه وعوده إليه؛ إذ ليس يفهم الخروج إلا مع الدخول، وهذا غير معقول في هذه المسألة، فرجع فائدة الوجه إلى أنَّ صَرْفَنا حقَ التشطرِ إلى الثاني يوجب بقاء ملكه فيما كان يرجع لو كان مستحقُ التشطيرِ غيرَه.
ثم كل ما ذكرناه في باب شطر الصداق يتحقق في جميعه إذا جرى ما يوجب رد جميع الصداق، فإذا اطلع العبد على عيب بامرأته يُثبت مثلُه الفسخَ، ففسخ النكاح، فهذا يوجب ارتداد جميع الصداق، فإن قلنا: يرتد إلى السيد الأول، فيعود العبد ملكاً له، وإن قلنا: يرتد إلى ملك السيد الثاني؛ فحكم هذا ألا يخرج العبد عن ملكه، فإنه لو خرج منه لعاد إليه.
8569- ومما يتصل بذلك، أن العبد لو عَتَقَ في هذه المسألة، وكان أعتقه السيد الثاني، وهو مالك الأمة، فلو طلقها قبل المسيس، وبعد نفوذ العتق، فهذا يُفَرَّعُ على ما تقدم، فإن جرينا على المذهب الصحيح، وقلنا: نصف الصداق يرجع إلى السيد الأول، فالسيد الثاني-المعتِق- يغرم نصف قيمته للسيد الأولط. وإن فرّعنا على الوجه الثاني-وهو اعتبار يوم الطلاق- فمستحق الشَّطر هذا المعتَق؛ فإنه استقل بنفسه لما عتق، فرجع بقيمة نصف نفسه على سيده الثاني في الذي أعتقه. وكل ما يتفرع في نصف الصداق يتفرع في جميعه إذا جرى ما يوجب ارتدادَ جميع الصداق.
فرع:
8570- إذا أصدق ذمي امرأته الذمية خمراً، وقبضت الخمر في الشرك، ثم أسلما، فقد ذكرنا أنه ليس لها مهر المثل بعد ما انبرمت الحالة بالقبض في الشرك. فلو استحالت الخمر التي في يدها خلاً، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يرجع عليها بشيء؛ فعلى وجهين:
أحدهما: يرجع عليها بنصف الخل، وهو اختيار ابن الحداد، وذلك لأن هذه العين تلك العين، وليس انقلابها خلاً من قبيل الزيادات المتصلة.
والوجه الثاني- أنه لا يثبت له الرجوع بشيء؛ فإن انقلاب الخمر خلاً أكبر في مرتبته من الزيادات المتصلة، فإذا كانت الزيادة المتصلة تمنع من الرجوع في العين، فانقلاب الخمر خلاً بذلك أولى.
ولابن الحداد أن يقول: جرى إصداق الخمر في حالة كانوا يَرَوْنها مالاً في تلك الحالة، ثم جرى الطلاق، وفي يدها مال في الإسلام، وليس كالزيادات المتصلة؛ فإن مصيرنا إلى أنها تمنع تشطّر الصداق، لا يَحْرِم الزوجَ، بل المرأة تغرم له نصف القيمة.
وهذا تكَلُّف. والأصح: الوجه الآخر؛ فإنا لا نلتفت إلى ماليةٍ في الإسلام.
التفريع:
8571- إن قلنا: لا يرجع الزوج بشيء من الخلّ، فلا كلام، وإن قلنا: الزوج يرجع بنصف الخل، فلو أنها أتلفت الخل، ثم طلقها قبل المسيس؛ ففي المسألة وجهان: أصحهما- أنه يرجع عليها بنصف مثل الخل التالف، وهو اختيار الخِضْري، فإنه إذا ثبت الرجوع، تعين الخل عند بقائه، فالوجه أنه يرجع بمثله عند تلفه؛ فإنه من ذوات الأمثال.
والوجه الثاني- أنه لا يرجع عليها بشيء عند تلف الخل، وهذا اختيار ابن الحداد. ووجهه أن الخل إذا تلف قبل الطلاق، لم يصادف الزوج خلاً، ولا أصدق خلاً، ونحن نعتبر حالة الإصداق والقبض القبض. وهذا فيه فقه.
والأصح ما ذكره الخِضري؛ فإن الخمر لما استحالت خلاً، قدرنا كأن الصداق كان خلاً.
8572- ومما يتعلق بهذه المسألة أنه لو أصدق امرأته جلدَ ميتة في الكفر، وقبضته، ثم أسلما، ودبغته، وطلقها قبل المسيس، اختلف أصحابنا على طريقين في المسألة: فمنهم من قال: فيها وجهان كالوجهين في الخمر إذا انقلبت خلاً.
ومنهم من قال: لا يرجع في هذه الصورة، وجهاً واحداً بخلاف مسألة الخل، والفرق بينهما أن التملّك تحقق في مسألة الجلد بقصدها وفعلها، فيظهر انفرادها بالجلد المدبوغ، بخلاف الخمر تنقلب خلاً.
ثم قال الشيخ أبو علي: إن قلنا في مسألة الجلد: إن الزوج إذا طلقها يرجع في نصفه مدبوغاً، فلو أتلفته، ثم طلقها، قال: يجب القطع في هذه الصورة بأنه لا يرجع بشيء عند التلف، فإن الجلد ليس له مثل، بخلاف الخل، فلا سبيل إلى المثل، ولو أثبتنا للزوج حقاً تقديراً، لتعيّن في القيمة، ثم لو قدرنا الرجوع إلى القيمة فالاعتبار بقيمة يوم الإصداق، ولم يكن للجلد يوم الإصداق قيمة.
وهذا الذي ذكره حسن، ولكن الاحتمال متطرق إلى الجلد، حيث انتهى التفريع إليه؛ فإنَّا نُقَدِّر كأن الصداقَ كان جلداً، وإنما نُثبت الرجوع في نصف العين لو بقي بتأويل تقدير الصداق كذلك يوم الإصداق.
ومن بقية المسألة أنها لو باعت الخل أو الجلد أو وهبته، فهو كما لو تلف في يدها، أو أتلفته في كل تفصيل.
ثم جميع ما ذكرناه في النصف عند فرض الطلاق قبل المسيس، يتقرر في الجميع عند تقدير ارتداد الجميع.
فرع:
8573- إذا أصدق الرجل امرأته حلياً، فكسرته، ثم أعادت صيغته، ثم طلقها قبل المسيس، فلا يخلو إما أن أعادته على صيغة أخرى، أو أعادته على تلك الصيغة بعينها، فإن أعادته على صيغة أخرى، ثم طلقها قبل المسيس، فللزوج الامتناع؛ فإن ذلك وإن كان زيادة، فقد زالت الصنعة التي كانت، فكان ما نحن فيه بمثابة زيادة من وجه ونقصان من وجه آخر.
وإن عادت تلك الصنعة الأولى بعينها، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يثبت له الرجوع بنصف الصداق؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يثبت له الرجوع إلى نصف الحلي؛ فإنها عادت كما كانت، فصار كما لو أصدقها عبداً سميناً، فهُزل في يدها ثم عاد سميناً، كما كان من غير زيادة، ثم فرض الطلاق قبل المسيس، وإن كان كذلك، فالأصحاب-فيما نقله الشيخ- مجمعون على أنه يرجع بنصف العبد.
والوجه الثاني- أنه لا يرجع بنصف الحلي، وللمرأة منعه، وهذا اختيار ابن الحداد، وليست كالسمن في الصورة التي ذكرناها؛ فإن هذه الصيغة عادت باختيارها وليست كالسمن، وهذا التردد يشبه اختلاف الأصحاب في أن تحصيل هذه الآثار هل يلحقها بالأعيان، أم كيف السبيل فيها؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب التفليس.
التفريع:
8574- إن قلنا: يرجع في نصف الحلي، فلا كلام. وإن قلنا:
لا يرجع، فبماذا يرجع؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يرجع في نصف قيمة الإناء غيرَ مكسور، فإن كان من ذهب، فالواجب نصفُ قيمته وَرِقاً، وإن كان من ورقِ، فالواجب نصفُ قيمته ذهباً.
والوجه الثاني- أنها تغرَم مثلَ نصف تِبر الحلي وزناً بوزن، ثم تغرَم نصف أجر مثل الصائغ من نقد البلد، وهذا قد قدمنا له نظيراً في البيع، وكل ذلك والحلي مباح، أو قلنا يجوز استصناع الإناء وصنعته محترمة.
8575- ثم أجرى الشيخ أبو علي في أثناء المسألة كلاماًً لا يختص بفرض الصداق، فقال: إذا غصبَ الرجل إناء من ذهب وزنه ألف، وقيمتُه ألف ومائة، وفرعنا على أنَّ اتخاذ الأواني محرم، فلو كسره الغاصبُ، فرجع إلى ألف، فهل يغرَم قيمة الصنعة؟ فعلى وجهين.
وهذا غريب غير متجه؛ فإن تلك الصنعة على هذا الوجه ليست متقوّمة، وما لا يتقوَّم لا يختلف الأمر فيه بين مُتلِف وبين مُتلِف.
ولو غصب جارية مغنية قيمتها لمكان الغناء ألفان، فتلفت أو رجعت إلى ألف، ونسيت ما كانت تحسنه، فهل يضمن الغاصب ما كان في مقابلة الغناء؟ فعلى وجهين ذكرهما.
ثم زاد فقال: من اشترى جارية مغنية تساوي ألفين بسبب الغناء، وقيمة رقبتها ألف، فإن اشتراها بألف، فيصح البيع، وإن اشتراها بألفين فقد حكى الشيخ في ذلك اختلافاً، فحكى عن المحمودي أنه أفتى ثَمَّ ببطلان البيع؛ فإنا لو صححناه، لصار تعليم الغناء مَكْسبةً وننسبُها إلى المقابلة بمال.
قال الشيخ أبو زيد: إن قصد بشرائها والمغالاة في ثمنها غِناءها؛ فلا يصح، وإن أطلق البيع، ولم يقصد ذلك صح. وقال أبو بكر الأودَني: مِن أصحابِنا مَن قال: يصح البيع على كل حال، ولا يختلف بالقصود والأغراض.
وهذا هو القياس السديد.
فرع:
8576- إذا أصدق الرجلُ امرأتَه عبداً، فرهنته، ثم إنه طلقها قبل المسيس والعبد مرهون؛ فلا يرجع في نصف العبد مرهوناً على تقدير أن تفك الرهن وتسلّم إليه نصفَ العبد، فلو قال الزوج: أصبرُ وأنتظر، فإن انفك الرهن، رجعتُ في نصف العبد، فللمرأة ألا ترضى به؛ فإنها لو رضيت، لكان الحق باقياً في ذمتها، ولو قدرنا رجوع العبد بالانفكاك، فذاك منتظر، ولها ألا تصبر على شغل الذمة.
ولو قالت: أصبر حتى يفكَّ الرهنُ، فللزوج ألا يصبر ويطلب حقه عاجلاً.
ولو قال الزوج: رضيت بنصف العبد، وصبرت إلى فك الرهن وأبرأتكِ عن الضمان، وأنا متربص إلى فكاك الرهن، فإن سلِم فذاك، وإن لم يسلَم وتلف العبد، فلا عليكِ، فهل عليها أن تجيبه إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ:
أحدهما: عليها أن ترضى بما رضي به.
والوجه الثاني- ليس عليها، وشبه ذلك بما لو أصدق امرأته نخلاً، فأطلعت، وطلقها قبل المسيس، فلو قال الزوج: أصبر إلى أن تُجَدَّ الثمارُ، ثم أرجع في نصف النخيل ويكون الضمان عليّ حتى لو تلف حقي قبل الجداد، فلا يلزمها ذلك.
ولو قال: أخرجتك من ضمان العين في الحال، وأنا متربص فإذا جُدَّت الثمار، رجعت في النخيل، وإن تلفت، فلا عليك، فهل يلزمها ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما.
وهذا عندي غيرُ سديد، فإنَّ الصداق إذا كان نخيلاً-كما صوره- فطريق الكلام فيه يتعلق بالسقي، ورجوع فائدته إلى الشجرة، ومثل ذلك لا يجري فيما نحن فيه؛ وتلك المسألة أجريناها على أحسن وجه. وما ذكره الشيخ من الوجهين يُفسد نظامها. وأما مسألة الرهن، فما ذكره من الخلاف فيه، بعيد أيضاًً؛ فإنه يبعُد أن يتملك النصف وهو مرهون، فإن ما لا يصح ابتياعه لا ينقلب إلى الزوج ملكاً، وإذا بعُدَ ملكُ النصفِ، فما معنى سقوط الضمان عنها؟ فالوجه: انحصار حقه في القيمة لا غير.
8577- ومما يتعلق بهذه المسألة أنها لو أجَّرت العبد المُصْدَقَ مدةً، وطلقها الزوج، والعبد في بقية المدة، فلا سبيل إلى فسخ الإجارة بعد لزومها، فإن أراد الزوج الرجوعَ بنصف القيمة، فهو حقه. ولو قال: أصبر إلى انقضاء الإجارة، ثم أرجع في نصف العبد، وضمان ذلك إلى أن يتفق الرجوع عليك، فليس له ذلك. ولو قال: أتربصُ إلى انقضاء المدة وقد أبرأتكِ في الحال عن ضمان حصتي، فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يُجاب إلى مُلتَمَسِه.
والثاني: لا يُجاب، كما ذكرناه في الرهن.
فإن قيل: هلا خرجتم ذلك على أن الدار المكراة هل تباع؟ حتى تقولوا إذا لم يصح بيعه، امتنع الرجوع في نصفه، وإن قلنا: يجوز بيع المكرَى، فيجوز منه الرجوع فيه، إن رضي به. قلنا: كان الإمام يذكر ذلك ويختاره على هذا الوجه.
وحقيقة هذه المسألة تبتني على الصداق إذا تشطر، حيث لا منع، فنصيب الزوج مضمون أو غير مضمون؟ وقد ذكرنا اختلاف الطرق في ذلك.
فإن قلنا: نصيبه في يدها غير مضمون إذا لم تتعدّ ولم تمتنع، فإذا رضي الرجل برجوع نصف المكرى إليه، وجب إجابته لا محالة.
وإن قلنا: نصيب الزوج مضمون على الزوجة ما دام في يدها، فإذا قال الزوج-والصداق مكرى-: رضيت بنصفه، فإن جوزنا بيع المكرَى، وقد رضي الزوج بالنصف ولم يبرئها عن الضمان، لم يجب، وإن أبرأها عن الضمان، فهل يصح الإبراء عن الضمان؟ هذا يبتني على أن المغصوب منه إذا أبرأ الغاصب عن الضمان هل يبرأ؟ وفيه خلاف قدمته، وهو مبني على أن الإبراء عما لم يجب، ووُجد سببُ وجوبه هل يصح؟ ثم ثمرة هذا أنَّا إن صححنا الإبراء، أجيب الزوج وإن لم نصحح الإبراء، لم يجب.
8578- ومما يتعلق بهذه المسألة أيضاًً أن المرأة لو باعت العبد المُصْدَقَ قبل الطلاق، ورجع إلى ملكها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي الرجوع إلى عين الصداق وجهان مشهوران.
ولو أصدقها عبدَه فرهنته، ثم انفك الرهن، فطلقها قبل المسيس؛ فللزوج الرجوع إلى نصف العبد، ولا حكم لطريان الرهن، وإن كنا نقول: لو صادف الزوج العبدَ مرهوناً عند الطلاق لم يرجع في نصفه، وكذلك القول في الإجارة إذا طرأت وزالت قبل الطلاق.
ولو أصدقها عبداً فدبّرته، وفرّعنا على أنه لا يرجع في نصف المدبّر، إذا صادفه الطلاقُ مدبّراً، فلو دبّرته، ثم رجعت عن التدبير؛ فالذي عليه الجريان: أنه يرجع الآن.
قال الشيخ: لو طلقها والعبد مرهون، وقلنا: يمتنع الرجوع فيه، أو كان مدبراً وحصرنا حق الزوج في نصف القيمة، فاتفق أنه لم يرجع في نصف القيمة حتى انفك الرهن، وزال التدبير؛ فلو قال الزوج: قد زالت الموانع، فلا أرضى إلاَّ بنصف العبد، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما:
أحدهما: حقه في نصف العبد باقٍ؛ فإنّ هذه الأسباب لو زالت قبل الطلاق، لثبت حق الزوج في العبد، فكذلك إذا زالت بعده وقبل انفصال الأمر.
والوجه الثاني- أنه لا حظَ له في العبد؛ اعتباراً بحالة الطلاق. وهذا هو الصحيح.
ثم إذا أثبتنا له حقَّ الرجوع إلى العين، فالظاهر عندنا أن الأمر في ذلك إليه حتى لو استقر على طلب نصف القيمة، كان له ذلك؛ فإن الأمر في التغايير التي تلحق الصداق تتعلق بالاختيار، وإنما يتشطر الصداق من غير اختيار-على الأصح- إذا لم تُقْرن حالة الطلاق بسبب من هذه الأسباب.
ويجوز أن يقال: يتعين حقه على هذا الوجه في العين إذا لم يتفق قبضُ القيمة، ويكون هذا بمثابة ما لو لم يكن مانع حالة الطلاق. فإن استبعد مستبعدٌ ذلك فيه، فهو ميلٌ منه إلى أنه لا حق له في العين، وهو وجهٌ منقاس؛ لأنه ملك عليها نصف القيمة، وانفصل الأمر، وهذا منتهى الاعتبار في باب الصداق.
ومن أتلف على رجل مثلياً، ولم يصادف للمتلَف مِثلاً، فهو مطالبٌ بالقيمة، فإن لم يتفق تغريمُه القيمةَ حتى وُجد المثلُ، فيتعين المثلُ، لا خلاف فيه.
فهذه مسالك النظر.
فرع:
8579- ذكر الشيخ في أثناء كلامه فصولاً مستفادة يتعلق بعضها بالصداق ولا يتعلق بعضها به، ونحن نأتي بالفوائد منها.
فإذا أعتق الرجلُ أَمَتَهُ في مرضه المخوف، ونكحها؛ فقد قال الأصحاب: لا ترثه العتيقةُ بالزوجية، فإنَّ إعتاقه إياها في المرض وصية، ولا يُجمع بين الوصية والميراث، والمسألة من دوائر الفقه.
8580- ولو قال لأَمَته في مرض موته: "أعتقتكِ على أن تنكحيني"، فقبلت ذلك، عَتَقت ولزمتها القيمة، ثم إذا أعتقت بقوله وقبولها والتزمت القيمةَ، فلا يلزمها الوفاء.
فلو نكحها، وجعل ما لزمها من القيمة صداقَها، وكانت القيمة معلومةً، فيصح النكاح، ثم لا يخلو إما أن تكون قيمةُ العتيقة مثلَ مهر مثلها، أو كانت قيمتُها أكثرَ من مهر مثلها، فإن كانت قيمتُها مثلَ مهر مثلها أو أقلَّ، فيصح النكاح وترثه.
وذلك أن العتق كما وقع في حقها مجاناً ألا يكون، وصية، فلا دَوْر، ثم قد صَرَفَ المعتِق قيمتها إلى مهرها، وليس فيه محاباة.
فأما إذا كانت أكثرَ من مهر مثلها، وقد نكحها المعتِق على قيمتها، فقد حاباها؛ فإن مهر مثلها إذا كان خمسمائة، وقيمتها ألف، فإذا أصدقها قيمتَها، فقد حاباها، فهل ترث؟ ذكر وجهين:
أحدهما: أنها لا ترثه؛ فإنه قد حاباها في قيمتها، فكأنَّ نصف العتق وقع مجاناً، فيعود الأمر إلى الوصية بالعتق. ومفهوم قول ابن الحداد يشير إلى هذا الوجه، وهو ضعيف.
والوجه الثاني- أنها ترثه، وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره؛ فإن أصل العتق وقع بعوض المثل، والمحاباة رجعت إلى القيمة، فهو كما لو نكح حرة بأكثر من مهر مثلها، فإنها ترث والمحاباة تُردّ.
8581- ومما أجراه في أثناء الكلام أنه تعرض لاستبدال المرأة عن الصداق، وخرجه على القولين في أن الصداق مضمون باليد أم بالعقد؟ وهذا بيّن، ثم انتهى إلى الكلام في الاستبدال عن الثمن المتلزم في الذمة، فذكر فيه قولين، وهما مشهوران.
ثم قال: لو كان الثمن دراهم معينة؛ فالأصح: أنه لا يجوز الاستبدال عنها؛ لأنها تتعين بالتعيين، ونزلت منزلة سائر الأعيان. وذكر وجهاً أنه يجوز الاستبدال عنها إذا جَوَّزنا الاستبدال عن الثمن الواقع في الذمة؛ لأن الدراهم لا تعنى لأعيانها، وإنما تعنى لنقودها وماليتها، والقصود مرعية في جواز الاستبدال ومنْعه، ولذلك منعنا الاستبدال عن المُسْلَمِ فيه وإن كان ديناً في الذمة؛ فإن جنسه مقصود في وضع العقد، كما أن الأعيان مقصودة، فإذا لم يمتنع التحاق الدين بالعين في منع الاستبدال، لم يبعد التحاق بعض الأعيان بالديون التي يجوز الاستبدال عنها.
وهذا وجه بعيد؛ من قِبَل أن الدراهم إذا حكمنا بتعيينها، فالعقد ينفسخ بتلفها، وهذا يؤذن بضعف الملك فيها، فيبعد تصحيح الاستبدال عنها.
فرع يتعلق بالصيد والإحرام:
8582- لابد فيه من تجديد العهد ببعض ما سبق في المناسك، فنقول: المُحْرِم ممنوع من ابتياع الصيد، فلو اشترى صيداً، فمن أصحابنا من أجرى في صحة شرائه قولين:
أحدهما: إنه لا يصح الشراء ولا يملك الصيد.
والثاني: يصح الشراء ويملك. وهذا يستند إلى القول في أن المُحرِم إذا كان في ملكه صيدٌ قبل الإحرام، فإذا أحرم، فهل يزول ملكه عنه؟ فعلى قولين:
أحدهما: يزول ملكه بنفس إحرامه.
والثاني: لا يزول أصلاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يزول الملك بالإحرام الطارىء قولاً واحداً. ولكن هل يلزم المحرمَ إرسالُ ذلك الصيد؟ فعلى قولين.
ومما يتعلق بذلك أنَّا وإن قلنا: يتصور من المحرم أن يتملك صيداً في الابتداء قصداً واختياراً، فالصيد يدخل في ملكه بالطرق التي لا اختيار فيها، كالإرث، ثم يلزمه إرساله، وهذا بمثابة قطعنا القول بأن الكافر يرث العبد المسلم.
قال الشيخ: إذا قلنا: إن طروء الإحرام يزيل الملك عن الصيد، فلا يبعد على ذلك أن نقول: الإحرام يمنع حصول الملك بجهة الإرث؛ فإنه إذا قطع الملك المستدام، يجوز أن يمنع حصول الملك بجهة الإرث.
فهذا شيء ذكره من تلقاء نفسه، والمذهب الذي صار إليه الأصحاب أن الإحرام لا يمنع حصول الملك القهري؛ فإنه يبعد أن يرث شيئاً ولا يرثَ شيئاً، ثم يدخل في ملكه فيزول إن فرعنا على أن الإحرام يقطع دوام الملك.
ومما ذكره في مقدمة المسألة: التعرضُ للخلاف المشهور في أن رجوع نصف الصداق إلى الزوج هل يتوقف على اختياره؟ وهذا مما ذكرناه.
8583- ثم قال: إذا ارتدت المرأة قبل المسيس، اقتضى ذلك ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، ولا أثر للاختيار في ذلك وجهاً واحداً، وكذلك كل نكاح ينفسخ، ويجب من انفساخه ارتدادُ جميع الصداق، فلا أثر للاختيار. وهذا الذي ذكره حكايةٌ، وهو موثوق به فيما يحكيه. والفرق بين الطلاق وبين الفسخ، أن الفسخ بطباعه يقتضي ردَّ العوض، بخلاف الطلاق؛ فإنه تصرُّفٌ في العقد وليس فسخاً له.
وإذا ارتد الزوج، فارتداده يوجب تشطّر الصداق، والذي أراه أن الوجه الضعيف في اشتراط اختيار التمليك، يجري في النصف الذي يرتد إلى الزوج بردته؛ فإن ردة الزوج قبل المسيس، تنزل منزلة الطلاق، فهذا ما أردناه في ذلك.
8584- ثم نعود إلى فرع ابن الحداد، وقد ذكر صورتين: إحداهما- أن الرجل إذا أصدق امرأته صيداً، ثم أحرم الزوج، وارتدت المرأة قبل المسيس، فيرتد الصداق إلى ملك الزوج مع إحرامه؛ فإن هذا ملك ضروري، فكان بمثابة الإرث. وكذلك لو كان باع صيداً وهو مُحِلٌّ، ثم أحرم، فرُدّ عليه الصيدُ بالعيب؛ فإنه يدخل في ملكه، ثم يتعين عليه إرساله، فإن أرسله، فلا كلام. وإن بقي في يده حتى أحل، فهل يجب الإرسال في هذه الصورة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يجب، وفاءً بما تقدم.
والثاني: لا يجب، ويكون بمثابة الكافر إذا أسلم عبده وألزمناه بيعه، فلم يبعه حتى أسلم، فلا يلزمه الآن بيعه.
ويترتب على هذا أنَّا إذا قضينا بأن الإحرام يقطع دوام ملك المحرم عن الصيد، فإذا اضطررنا إلى الحكم بارتداد الصيد إليه، فهل نقول: يرتد إليه ملكاً ويزول؛ تفريعاً على هذا الوجه، كما يرث الصيد ثم يزول ملكه؟ والظاهر: أنَّا نقول بهذا إذا فرعنا على زوال الملك، ولكن هذا القول ضعيفٌ. والتفريع على الضعيف يتخبط.
فأما إذا طلق الزوج المحرم زوجته قبل المسيس والصيد في يدها، فإن قلنا: النصف من الصداق لا يرتد إلى المطلق إلا باختيار التملك، فليس له اختيار التملك، فإذا امتنع الاختيار بسبب الإحرام، فله أن يغرِّمها نصفَ القيمة، وليس لها أن تقول: لا أغرم لك شيئاً، فإنك أُتيتَ من جهة نفسك هكذا.
وفي المسألة أدنى احتمال.
وإن قلنا: لا حاجة إلى الاختيار والطلاق مشطِّر بنفسه، فعلى هذا، إذا طلقها وهو محرم، فإن قلنا: لو اشترى صيداً ملكه، فإذا طلق، مَلَكَ نصفَ الصداق. وإن قلنا: لو اشترى لم يملك، فإذا طلق، فهل يملك نصف الصيد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يملك؛ لأنه اختار الطلاق، فأشبه ما لو اختار الشراء.
والثاني: يملك؛ لأنه ما اختار التملك.
وقد مضى معظم ذلك في كتاب الحج.
8585- ثم يتصل بذلك أنه إذا طلقها قبل المسيس وقلنا: يرتد إليه نصف الصيد، فموجب ذلك أن يتعين الإرسال عليه، ولكن إرساله عَسِرٌ؛ إذ ليس جميع الصيد عائداً إلى المُحرم، وإرسالُ البعض غيرُ ممكن. فإن لم يرسله حتى تلف في يده- والإحرام مستدام بعدُ؛ يضمن نصف الجزاء، وإن أرسله، فقد برىء عن الجزاء عند تقدير التلف، ولكنه يغرَم نصف القيمة للمالك، وهو الذي ورّط نفسه في هذا التضييق.
ويتعارض في هذه المسألة أمران متناقضان؛ فإنَّا لو قلنا: يجوز إرسال الصيد، كان ذلك تسليطاً على تفويت ملك الغير، وإن قلنا: ليس له إرساله، كان ذلك إذناً للمحرم في إمساك الصيد، والجمع بين الأمرين مستحيل.
ولو قال قائل: أوجبوا الإرسال، وضمِّنوه قيمة نصيب الشريك، وقد يجوز إخراج مال الغير في مظان الضرورات ومسيس الحاجات.
هذا خرَّجه بعض الحذاق على الاختلاف المعروف في أنه إذا اجتمع حقّ الله تعالى وحق الآدمي في أمرٍ مالي، فكيف الوجه فيه؟ فمن رأى تقديم حق الله تعالى، لم يُبعد أن يوجب الإرسالَ في هذه الصورة والتغريمَ.
ومن رأى تقديم حق الآدمي لم يُبعد أن يحرِّم الإرسال ويُلزمه إدامةَ اليد إلى الرد فيكون هذا صيداً يجب على المُحْرِم إمساكه.
ومن لم ير تقديمَ حق الله تعالى ولا تقديم حق الآدمي، فليس ينقدح على هذا إلاَّ أن يتخير في الإمساك والإرسال، فإن أرسل عُزِّر وغُرِّم، وإن أمسك عُزِّر، وإذا أتلف، لزمه الجزاء.
8586- وقد تَعْرِض عند ذلك مسألة أجريناها في الأصول، وهي: أنه لو اتفق وقوع إنسان على صدرِ مريضٍ بين مرضى، وعلم أنه لو استقر على من وقع عليه، لمات ذلك المريض، ولو انتقل منه، لهلك من ينتقل إليه، فالذي اخترناه أن هذه واقعة لا نُثبت فيها حكماً بنفيٍ ولا إثبات، فإنا كيف نفرض الأمر نقع في تجويز قتلٍ محظور، وإهلاكِ ذي روح محترم. والمصيرُ إلى إخلاء واقعةٍ خطيرة عن حكم الله تعالى في الشرع ليس بالهيِّن.
فليس يبعد عندنا أن يقال بنفي الحرج عنه فيما يفعل، وهذا حكمٌ. ولا يبعد أيضاًً أن يقال: انتقالك ابتداءً فعلٌ منك، واستقرارك في حكم استدامة ما وقع من سقوطك ضرورياً، وقد يتجه ذلك بأن الانتقال إنما يجب في مثل ذلك إذا كان ممكناً، ولو امتنع، فإيجابه محال، والممتنع شرعاً كالممتنع حِسَّاً وطبعاً، ولئن عظم وقع الكلام فيما يتعلق بالدماء، فالتخيير ليس بدعاً في الأموال، وما يتعلق بجزاء الصيد؛ فإنا قد نبيح الصيدَ للمحرم، وقد نبيح للإنسان مالَ غيره.
ولو وقع بين أوانٍ فلابد من انكسار بعضها، أقام أو انتقل، فيتعين في هذه الصورة القول بالتخيير.
فرع:
8587- يتعلق بضمان الأب مهر زوجة الابن.
وهذا قد أجريته فيما تمهد من الأصول، ولكن رأيت للشيخ تصرفاً فلم أجد بداً من الإعادة، وإن مست الحاجة إلى تكرير، فلا مبالاة به.
المنصوص للشافعي في الجديد: أن الأب إذا قبل لابنه الصغير نكاح امرأة، فلا يصير ضامناً للمهر بنفس النكاح، فإن ضمنه، صار ضامناً، كما يضمن سائر الديون اللازمة، فيلتزمها، ثم إذا ضمن وغرم، فهل يرجع بما غرم؟
قال الشيخ: إنْ قَيَّد ضمانَه بشرط الرجوع، ولَفَظَ ذلك صريحاً، فيملك الرجوع إذا غرم. وإن لم يشترط الرجوع، لم يضمن. واكتفى بعض المحققين بقصد الرجوع منه والنيةِ من غير لفظ، وهذا المسلك أفقه وأليق؛ وقد ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه يُكتفى بأحد شِقَّي البيع، فإذا كان يسقط التلفظ بأحد شِقَّي العقد، لم يبعد أن يسقط التلفظ بشرط الرجوع. ويمكن أن يُبنى ما ذكر الشيخ من اشتراط اللفظ وما اكتفى به غيره من النية والقصد؛ على الاختلاف الذي قدمناه في أنَّا هل نكتفي بأحد شِقَّي العقد أم لا؟ هذا تفريع على القول الجديد.
وللشافعي قول في القديم أن الأب يصير ضامناً للمهر بنفس العقد، وإن لم يُصرح بالضمان، فإذا فرعنا على ذلك وغرم الأبُ ما ضمنه، قال الشيخ: لا يرجع به، وقد حكيت فيما تقدم مثل هذا من أجوبة القاضي، وقد شبهنا غرامته المهر بما تلتزمه العاقلة من أُروش الجنايات؛ فإنهم لا يرجعون به على الجاني خطأً.
وقد قدمت أن إثبات الرجوع متجه، والقياس على تحمل العقل بعيد.
وقد قدمنا في ذلك أوجهاً، ونحن نضم إليها مزيدَ بيانٍ، فنقول: لم يختلف العلماء في أن الصبي إذا بلغ، طولب بالمهر، والقاتل خطأً لا يطالب بأرش الجناية مع العاقلة، وإذا أبرأ مستحق الأرش القاتلَ، لم يكن لهذا الإبراء معنى، والمرأة إذا أبرأت زوجها الصغير عن الصداق، صح إبراؤها، وفيما قدمته قبلُ مزيد كشف.
8588- ثم من لطيف الكلام أن الأب إذا ضمن-على القول الجديد- ولم نُثبت له حق الرجوع، فإذا توجهت الطلبة عليه عن جهة ضمانه؛ فله أن يؤدي المهر من مال الطفل، فيكفيه ذلك غُرمَ الضمان. ولو قال المطالب: لست أوجه الطلب عليك من جهة الطفل، وإنما أطالبك بموجب التزامك وضمانك، فهذا لا حاصل له، فإن مقصوده الوصول إلى الدين.
ولو قال: أجزتُ مالي على الطفل، لم يتأت منه مع ذلك توجيه الطلب على الضامن في هذا المقام؛ فإن الضامن يقول: إذا كنت تطالبني، فلي غرضٌ ظاهر في تأدية الدين من مال الطفل. ولو طالب الأبَ بحكم الضمان مع إبراء الابن، اعتباراً بالعاقلة التي وقع الاستشهاد بها، فهذا محالٌ عندنا، فإن الطفل في مرتبة الأصيل، والأب في مرتبة الكفيل، فيستحيل إخراج الأمر عن حقيقة الضمان.
فرع:
8589- مشتملٌ على مسألةٍ دائرة فقهية سبقت في النكاح، ولكنا نُعيدها لدقيقةٍ مستفادة. فنقول: إذا أذِن السيد لعبده حتى نكح حرةً بمهرٍ، والتزم السيد ذلك المهرَ، إمَّا بصريح الضمان على الجديد، وإمَّا بحكم الإذن في العقد- على القديم، ثم إنَّ الحرة اشترت زوجها من مولاه بالمهر، فالبيع مردود؛ فإنه لو صح، لانفسخ العقد، وإذا انفسخ قبل المسيس، ترتب عليه سقوطُ المهر، وإذا سقط المهر-وهو الثمن- بطل البيع لعُروّه عن الثمن. ولو فرضت المسألة بعد المسيس، فهي مسألة الرؤيا، وفيها تصرفٌ للقفال، فلا حاجة إلى الإعادة.
وقد ذكر الشيخ أبو علي في هذا المنتهى كلاماًً هو الذي حملنا على رسم الفرع وإعادة ما فيه، وذلك أنه قال: إنما ذكر القفال ما ذكره بعد المسيس؛ لأنها إذا ملكت زوجها، سقط ما على العبد لها؛ فإنها مالكة، والمالك لا يستحق على مملوكه ديناً. قال: وهذا فيه نظر، فإنَّ المهر جُعِلَ ثمناً، وملك رقبة العبد لا يحصل إلا بإزاء سقوط المهر لأجل الثمنية. ثم إذا سقط المهر بهذا السبب-وهو مقتضى المعاوضة- فكيف يقال بعد ذلك: إذا ملكته، سقط بالملك عنه؟ ثم يسقط عن السيد كما يسقط الدَّين عن الكفيل ببراءة الأصيل؟ هذا قول الشيخ واستدراكُه.
8590- وفي المسألة نظرٌ دقيقٌ، فنقول: ما ذكره القفال وجلّى فيه رؤياه، ثم مراجعته المشايخ وتقريرهم إياه يُخرَّج على قاعدةٍ سنصفها، فنقول: اختلف أئمتنا في أنَّ من ملكَ دَيْناً على مملوك لغيره، ثم ملك ذلك المملوك، فهل يسقط الدين سقوط انبتات؛ حتى إذا عَتَق، لم يطالبه المولى، أم يبقى الدين في ذمته وتسقط الطلبة في الحال، لتحقق إعسار العبد في حق المولى؟ فإنَّ ما يؤدي العبد الديونَ منه في ديون المعاملات الكسبُ، وهو ملك المولى، وفائدة بقاء الدين في ذمته أنه إذا أعتق، طالبه إذ ذاك.
فنعود ونقول: المهر لا يسقط بعد المسيس. هذا ما عليه التفريع، فإذا كان المهر لا يسقط بحكم النكاح، فالمرأة إذا ملكت زوجها، فهل تستحق عليه الدين أم يسقط؟ قال القفال: إن قلنا: لا يسقط، فالمسألة لا تدور والبيع يصح، ولئن تعذّرت مطالبة المملوك لإعساره، فلا تعذر في مطالبة الضامن.
وإن قلنا: يسقط الدين عن المملوك بطريان ملكِ مستحِق الدين على رقبته، قال: فالمسألة تدور؛ فإن المهر يسقط بعلة طريان الملك وإن لم يسقط بعلةٍ في النكاح من فسخ أو انفساخ، فإذا كان الدين يسقط، فالمسألة تدور، وإن خالفت عِلَّةُ الإسقاط بعد المسيس عِلَّته قبل المسيس.
وقد حكينا استدراكَ الشيخ أبي علي.
وللمذهبين عندي وجهان إذا ذكرناهما، بان بهما حقيقةُ المسألة فنقول: إذا فرعنا على أن الدين يسقط بطريان الملك، فله مسلكان:
أحدهما: أن يسقط الدين بملك الرقبة، كما ينسفخ النكاح بملك الزوج أو الزوجة، هذا وجه.
والوجه الثاني- أن يملك الدينَ على العبد، ثم يسقط، كما يملك من يشتري أباه الأبَ، ثم يعتِق عليه، فإن جعلنا نفسَ ملك الرقبة مسقطاً للدين، فمعناه أنه لا يضادّه بل يعاقبه معاقبةَ الضد، فعلى هذا تدور المسألة، كما قال القفال؛ فإنَّ الملك وسقوطَ الديْن بعِلَّتِه، ووقوعَ الثمن، يُفرض على اقترانٍ ليس فيه تقدم ولا تأخّر، فيلزم من هذا ما ذكره القفال.
وإن قلنا: من طرأ ملكُه يملك الدين ويسقط- كما ذكرناه في شراء القريب، فيتجه على هذا ما قاله الشيخ؛ فإن الدين إنما يسقط بتقدير ملك الدين وتعقيب السقوط إياه، فإذا صار الدين مستغرقاً بالثمنية، لم يسقط بالملك؛ لأنه لا يدخل في الملك مع الرقبة، حتى إذا دخل سقط.
فإن قيل: هل يتوجه تصرفُ الشيخ قبل المسيس؟ قلنا: لا، فإنَّ المهر يسقط قبل المسيس-على القول الأصح- بالفسخ الواقع قبل المسيس، ولا ينتظم فيه ما تكلفناه بعد المسيس للشيخ أبي علي من تقدير ملك الدين وترتُّبِ السقوط عليه.
والذي يوضح ذلك أنَّ استيعاب المهر مع جريان الفسخ المسقط للمهر محال، ولهذا نص الشافعي على قول التفريق فيه إذا اختلعت المرأةُ نفسها بصداقها قبل المسيس؛ فإنَّ نفس الاختلاع يوجب التشطير، ولا يثبت العوض إلا على ما يقتضيه الخلع من التشطير، وهذا بَيِّنٌ.
8591- ثم ذكر الشيخُ مسألةً فرضها، وصور الدَّوْرَ فيها، ونحن نذكرها على وجهها، فنقول: إذا سلَّمَ السيدُ ديناراً إلى عبده، وأذن له أن يتزوج به حرةً، فإذا تزوجها بذلك الدينار، وسلمه إليها، ثم إن السيد باع ذلك العبدَ من زوجته بذلك الدينار الذي قبضته صداقاً، وهي غيرُ ممسوسة، قال: لا يصح البيع للدَّوْر، وتدور المسألة، لمكان وقوع الفسخ قبل المسيس.
وذكر هذه المسألة بعد المسيس، وأجرى فيها جوابَي القفال في مسألة الرؤيا.
وهذا فيه نظر بيِّن، فإذا وقع البيع بعد المسيس، فيجب القطع بصحة البيع، فإنَّ ما قدمناه في دينٍ في ذمة العبد يسقط على تقديرٍ قدمتُه، وإذا كان المهر عيناً، وقد ملكتْه قطعاً، واستقر ملكها فيه، فطريان الملك على الرقبة كيف يؤثر!؟
وهذا أراه وهماً وغلطاً؛ فإنَّ القفال بنى كلامَه على سقوط الدين عن ذمة العبد، ثم على سقوطه عن ذمة السيد؛ من حيث كان العبدُ أصيلاً والسيدُ كفيلاً، وشيء من هذا لا يُتخيل في الصداق المعين.
فرع:
8592- يشتمل على مُعادٍ وزوائدَ مستفادة.
إذا أذِن السيد لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، ففي متعلّق المهر اختلافٌ مشهور، ولو نكح بغير إذن سيده نكاح شبهة، فوطىء، ففي متعلق المهر اختلافُ أقوال أيضاً: أحدها: إنه يتعلق برقبة العبد.
والثاني: يتعلق بذمته، فإن النكاح لم يجر بإذن السيد، فلم يتعلق المهر بكسبه، فرجع ظاهر ما ذكره الأصحاب إلى قولين وسيتبين قولٌ ثالث مفصِّل.
قال ابن الحداد: وإن نكح حرةً بإذنها أو نكح أَمَةً بإذن سيدها، لم يتعلق المهر بالرقبة، وإن نكح امرأةً بغير إذن سيدها ووطئها، فيتعلق المهر بالرقبة في هذه الصورة.
فمِنْ أصحابنا مَن وافقه على تفصيله. فيقول: إن نكح أمةً بغير إذن سيدها، فيجب القطع بأن المهر يتعلق بالرقبة إذا وطىء، وإن كان بإذن السيد أو كان ذلك مع حرة، فيتردد القول في متعلق المهر. ومن أصحابنا من قال: إذا نكح أمةً بغير إذن سيدها ووطئها؛ فلا نقطع بتعلق المهر بالرقبة، بل نخرِّج المسألةَ على الاختلاف؛ فإن لرضا الأمة تأثيراً في الجملة، وإن لم يأذن السيد، والدليل عليه: أن الأَمَةَ إذا طاوعت على الزنا، فلا مهر لها على أحد الوجهين.
فينتظم في متعلق المهر أقوال: أحدها: إنه يتعلق بالرقبة من غير فصل.
والثاني: إنه لا يتعلق بالرقبة من غير فصل.
والثالث: إنه يفصل بين الحرة وبين الأمة تنكح من غير إذن سيدها.
فرع:
8593- إذا نكح الرجلُ أَمَةً نكاحاً فاسداً ووطئها، فعليه مهر مثلها، ثم يعتبر مهر مثلها بوقت الوطء دون العقد؛ فإنَّ العقد لم يُفد ملك البضع، بل لغا وفسد، فلا حكم له، وليس ذلك كنكاح المفوضة. فإن لم نوجب بنفس العقد مهراً، ثم أوجبناه عند الوطء، فقد نعتبر في مقدار مهر المثل كمالَها يوم العقد، وذلك أن النكاحَ ملَّك البضع وأفضى إلى استيفائه، فكان اعتبارُ وقته محمولاً على كونه مملِّكاً للبضع، مفضياً إلى التسليط على الوطء، وهذا المعنى لا يتحقق في النكاح الفاسد.
ثم إذا وطىء الرجل المرأة في نكاح فاسد مراراً مع اتحاد الشبهة، فلا يلتزم إلا مهراً واحداً إجماعاً، ولو وطئها مع اتحاد الشبهة، وهي هزيلة ومهر مثلها خمسمائة، ثم حسنت، فوطئها مرة أخرى-والشبهة واحدة- ومهر مثلها ألف، فيلتزم الواطىء أكثرَ المهرين؛ فإنَّا نُقَدّر كأنَّ الوطء الأول لم يكن.
والذي يحقق ذلك أن الحدود على الاندراج والتداخل، وهي مبنية على الاندفاع، فلو زنا عبدٌ في رِقِّهِ، ولم نُقم عليه الحد، فَعَتَقَ، وزنا في الحرية، فإنا نقيم عليه حدَّ الأحرار.
فإن قيل: الأب إذا وطىء جاريةَ ابنهِ مراراً، فالشبهة واحدة، وهي حق الإعفاف، فيتحد المهر أم يتعدد؟ قلنا: ذكر الإمام وجهين في ذلك، والمسألة محتملة لترددها بين وطء الشبهة وبين إتلاف المتقومات المتعددة. ويجب القطع بأنَّ الغاصب إذا وطىء الجاريةَ المغصوبة قهراً مراراً، يلزمه بكل وطأة مهر جديد؛ فإنَّ ذلك إتلاف محض، وليس فيه تخيل شبهة شاملة تتصف بالاتحاد.
فصل:
8594- إذا زَوَّجَ الرجلُ أَمَتَهُ بصداق معلوم، ثم باعها، أو أعتقها، فالمهر بكماله للسيد المزَوِّج؛ سواء اتفق الوطء في ملكه، أو اتفق بعد زوال ملكه، وهذا إجماع.
ولو أَجَّرَ عبدَهُ سنةً، فمضى نصف المدة، فأعتقه؛ يجب الوفاء بالإجارة في بقية المدة، ثم هل يرجع بأجر مثل نفسه بعد العتق على سيده في بقية المدة؟ فعلى وجهين.
ولا خلاف في النكاح أنَّ الأمة وإن بقيت في النكاح بعد العتق، فلا مرجع لها على سيدها، بل جميع المهر للسيد. ثم إذا باعها السيد، فليس للمشتري أن يحبسها حتى يتوفر الصداق على البائع. وهذا محال تخيله. وكذلك لو أعتقها، فليس لها أن تحبس نفسها، فلو زوّج أمة مفوِّضة، ثم باعها، فإن جرى فرض المهر وهي ملك الأول، فالمهر للأول، وإن جرى الفرض في ملك المشتري، فهذا يبتني على أن مهر المفوضة يجب بالعقد أم لا؟ وقد تمهد هذا فيما مضى.
فرع:
8595- إذا اختلف الزوجان في الصداق، فزعم الزوج أنه أصدقها هذا العبد، فأنكرته، وقالت: بل أصدقتني هذه الجارية؛ فالمذهب: أنهما يتحالفان؛ فإنهما اتفقا على مقابل المهر-وهو البضع- فكان اختلافهما في العوض موجباً للتحالف، وذكر الشيخ وجهاً ضعيفاً أنهما لا يتحالفان؛ فإن الصداق في حكم عقد مفرد عن النكاح، والنكاح على جانب منه، ولذلك لا يرتد برده ولا يفسد بفساده.
ثم إذا اختلفا في الصداق نفياً وإثباتاً، فلم تجتمع دعواهما على شيء، فكان كما لو قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم، وقال المشتري: لا، بل اشتريت منك هذه الجارية بمائة دينار، فلا تحالف والحالة هذه، بل كل واحد منهما منفرد بدعوى لا تعلق لها بدعوى الثاني، فالوجه أن نفصل كل خصومة بطريقِ فَصْلها.
والصحيح أنهما يتحالفان.
وقد ذكرنا صور التحالف في كتاب البيع، ونحن نقتصر هاهنا على مقدار غرضنا في الصداق.
8596- فإذا تبين أصلُ الاختلاف، وظهر أن المذهب التحالفُ، فنفرض مسألة ذكرها ابن الحداد، ونخرّجُها على القاعدة.
فإذا كان في ملك الرجلِ أُمّ امرأة وأبوها، فنكحها وأصدقها أحدهما، ثم اختلفا، فقال الزوج: أصدقتُكِ أباكِ، وقالت هي: بل أصدقتني أُمي، فالمشهور أنهما يتحالفان، وفيه الوجه البعيد أنهما لا يتحالفان.
فنفرع ونقول: إنْ قلنا: يتحالفان، فإن حلفا جميعاً، استحقت المرأة مهر المثل ورَقَّت أمُّها التي ادعت عتْقَها بالإصداق، وأما أبوها فقد عَتَق بإقرار الزوج، ولا نجد بقيمته مرجعاً عليها؛ فإنها مُنكرة، وولاء الأب موقوف؛ من جهة أنه لا يدعيه أحد، هذا إذا تحالفا.
فأما إذا حلف الزوج على ما ادعاه وعرضنا اليمين على المرأة، فنكلت، فترق الأم كما ذكرنا، ويثبت أن الأب صداقٌ، ويعتِق بهذا الحكم، ولا مهر لها سواه، والولاء موقوف أيضاًً؛ لأنها منكرة.
وبمثلها لو قال: أصدقتُكِ أباك ونصفَ أمك، وقالت هي: بل أصدقتني أبي وأمي جميعاً، فإن تحالفا، عَتَقَ الأب ونصفُ الأم، فإن كانت موسرة، فيعتق الأب وتمامُ الأم. وإن كانت معسرة، فيعتق الأبُ ونصفُ الأم، ولها مهر مثلها في الصورتين، وعليها قيمة أبويها إن كانت موسرةً، وإن كانت معسرة فقيمة الأب ونصف قيمة الأم، ثم يقع التقاصّ في أطراف المسألة، وكيفما دارت المسألة، فلها مهر مثلها عند التحالف؛ لانفساخ الصداق.
وإن حلفت هي، ونكل الزوج عَتَق الأبوان، وإن كانت معسرة؛ فإنه ثبت الصداق على موجَب قولها، ولم ينفسخ، وليس لها مهر المثل؛ فإنها استوفت حقها.
وإن حلف هو ونكلت، عتق أبوها ونصفُ أمها إن كانت معسرة، وليس لها مهر المثل؛ إذا ثبتت بيمينه جملةُ المقصود. وإن كانت موسرة، عتقا، ولا مهر لها، ويرجع عليها بنصف قيمة الأم؛ لمكان السراية، وقد ثبت عليها دعوى الزوج، فيثبت موجبها.
هذا كله تفريع على ظاهر المذهب، وهو أنهما يتحالفان.
8597- وإن فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه الشيخ في أنهما لا يتحالفان، فقد قال: إذا ادعت المرأة أن أمَّها صداقُها، وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف رقَّت، وأما الأب؛ فإنه حرٌ بإقراره، ثم قال: لا حلف عليها، ولها مهر مثلها في هذه الصورة.
وعلَّل بأن الزوج إذا اعترف بعتق الأب، فلا يتجه منه أن يدعي على الزوجة، أي أصدقتك هذا فاستحققتيه، ولسنا نفرع على قول التحالف حتى يتعرض كل واحد منهما للنفي والإثبات، بل نميز الدعوى عن الدعوى، ولا تكاد تصح صيغة في الدعوى للزوج؛ فإنه إذا كان ادعى أنك استحققتيه، كان هذا دعوى لها لا دعوى عليها، وإن ادعى عليها أنك لا تستحقين مهر المثل، كان هذا جواب من يدعي عليه، لا ابتداء دعوى؛ فإن المرأة إذا ادعت حقها؛ فالقول قوله في أنه لا حق لك، فإذا انحسم سبيل دعواه عليها-والنكاح ليس عارياً عن المهر بالاتفاق- فلا وجه إلا الرجوع إلى مهر المثل.
وهذا الذي ذكره مشكل؛ فإن الصداق ليس ينفسخ إذا كانا لا يتحالفان، فيبعد أن نُثبت لها بطريق الدعوى عليه مهرَ المثل، فليقل الزوج: صداقكِ هذا لا مهرُ المثل.
والمسألة محتملة جداً.
فرع:
8598- ذكر صاحب التقريب أنَّا إذا حكمنا بأنَّ الصداق مضمون باليد، وقلنا: إنه مضمون على الزوج ضمانَ غصب، فلو وجدت به عيباً، فالمذهب: أن لها الردُّ، وإن كان من حكم المضمون بالغصب ألا يُردَّ بالعيب، فإن من غَصب عبداً وتعيّب في يده، فالغاصب يرده معيباً، ويضمُّ إليه أرشَ العيب.
قال صاحب التقريب: قد ذهب بعض أصحابنا إلى أنا إذا جعلناه بمنزلة المغصوب؛ فإذا حدث به عيب في يد الزوج، فليس للزوجة خيار الرد، قياساً على الغصب، ولكن لها أرش العيب بالغاً ما بلغ، قال: ويُحكى ذلك عن أبي حفص الوكيل من أصحابنا.
وهذا وإن كان متجهاً في القياس، فهو بعيد في الحكاية.
وإذا قال قائل بهذا الوجه، لزمه طردُه على قولنا: إنه يُضمن باليد، ولكن لا يُضمن ضمانَ الغصب، وإن صح هذا مذهباً يفرَّع على مثله، فما ذكرناه في العيب المتجدد في يد الزوج.
فأما إذا فرض اطلاعٌ على عيب قديم كان قبل الإصداق، فتغريم الزوج أرشَ العيب بعيد، وإلزام المرأة الرضا بالظلامة بعيد أيضاً، فليتأمل الناظر ذلك. ولا اعتداد على الجملة بما ذكره، وأصلُ المذهب ما قدمناه.
وذكر الشيخ-والدي- أبو محمد في الرد بالعيب طريقةً غريبة، فقال: الرد بالعيب يجري لا محالة، ولكن إذا ردت المرأة الصداق؛ فمن أصحابنا من قال: الرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنَّ الصداق ينفسخ بالرد، ونحن إنما نُثبت قيمةَ الصداق إذا تلف في يد الزوج؛ بناءً على أن عقد الصداق قائم، فإذا فُسخ الصداق بالرد، لم يبق متعلَّق.
وهذا لا بأس به، ولكن يُفسده اتفاقُ الأصحاب على إجراء القولين إذا كان الصداق حُرّاَ، أو تبين مستحَقاً، فردّ الصداق لا يزيد على اقتران المفسد، فالتعويل إذن على ما قدمناه.
فرع:
8599ـ ذكر صاحب التقريب في التفريع على أن عفو الولي عن المهر نافذ، أنا نشترط أن يقع العفو بعد الطلاق. وهذا قد تقدم ذكره، فلو جعل الولي المهرَ بدل الخلع، قال: في المسألة وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن الشرط إنشاء العفو بعد الطلاق، كما قدمنا تعليله.
والثاني: يجوز؛ فإنه وقع مقارناً للطلاق، فالواقع معه كالواقع بعده.
فرع:
8599 م- ذكر بعض المصنفين أن من جمع بين نكاح وبيعٍ صفقة واحدة، ففي صحة النكاح قولان، وهذا مدخول. والوجه: القطع بصحة النكاح، والتردد في صحة الصداق وفساده، وإنما أخذ هذا من تردد الأصحاب فيه إذا جمع نكاحَ مستحَلَّة ومحرم في عُقدة، فإنّّ نقْلَ قولٍ في فساد نكاح المستحَلَّةِ مشهور على ضعفه، وجمع الصفقةِ مختلفين من تفريق الصفقة.
وهذا غيرُ سديد والوجه ما قدمناه.