فصل: فصل: جامعٌ في أحكام الرمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: جامعٌ في أحكام الرمي:

2678- الرمي من الأبعاض وفاقاً، وهو مجبور بالدم قولاً واحداً، وهو صنفان:
أحدهما: رميُ جمرة العقبة، وقد سبق القول في وقته، وكونِه من أسباب التحلل، وهو رمي سبع حصيات إلى الجمرة الأخيرة، المسمّاة جمرةَ العقبة، تلي مكة، وتقع على يمين من يؤمها من جهة منى.
والثاني: الرمي في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيامٍ بعد النحر، يسمى الأولُ منها يومُ القَرّ؛ لأن الحجيج يقرّون فيه بمنى، ويسمى الثاني النفرَ الأول، فإن الحجيج لهم أن ينفروا بعد الرمي، متعجلين. واليوم الثالث يسمى النفرَ الثاني.
ويشرع في كل يوم يقيم فيه الحجيج الرميُ إلى الجمرات الثلاث، ويجب البداية بالجمرة الأولى، وهي تلي مسجد الخَيْف، من جهة عرفة، وليست حائدة عن الجادّة، فيرمي إليها الناسك سبعَ حصيات، وبعدها جمرة أخرى في صوب مكة، على سَنَن الجادّة، كما وصفناها، والرمي سبع، كما ذكرناه، وبعدها جمرةُ العقبة، وقد سبق وصفُها، وهي حائدة عن الطريق، مترقيةٌ في الحضيض قليلاً، ولهذا تسمى جمرةَ العقبة.
ففي كل يوم من أيام منى، على الكائن بها الرميُ بأحدٍ وعشرين حصاة، ومجموعها إذا لم يتعجل الناسك في النفر الأول ثلاث وستون حصاة، وإذا ضمت حصياتُ العقبة، يومَ العيد إليها، كانت سبعين حصاة.
والحجيج يعتادون أخذ ما يحتاجون إليه من الحصى، من جبال مزدلفة؛ فإنهم يصادفون فيها أحجاراً رِخوة، لم يرد في التزوّد منها ثَبَتٌ وتوقيفٌ في الشرع.
2679- ثم الكلام في مقاصدَ منها: القول فيما يُرمى: ما جنسه؟ فيجب أن يكون من الأحجار لا يجزئ غيرُها؛ فإنها غيرُ معقولة المعنى، فيلزم الاتباع فيها، وأما ما لا يسمى حجراً، فلا يجزئ الرميُ به، كما يستخرج من المعادن: من الزرنيخ، والإثمد، والجواهر المنطبعة، كالتبرين، وما في معناهما.
وتردد جواب الأئمة كلصاحب التقريب وغيرِه في الجواهر التي تتخذ فصوصاً، مثل: الفيروزج، والعقيق، والياقوت بأصنافه: ما يشف منها، وما لا يشف.
والظاهر أنه لا يجزئ الرميُ بها.
والأحجار التي يستخرج منها جواهر كان يقسمها شيخي، ويقول: منها ما يسمى حجراً مطلقاً، وليس يبين المستخرج منه على ظهورٍ، فما كان كذلك، فهو حجر، والرمي به مجزىء، وهو كالأحجار البيض الصغار، في رَضْراض الأودية، فإنها حجر الميناء، لكن لا يبين ذلك عليها على ظهور، ولا يعرفها إلا خواصُّ الصَنْعَوِيّين، وحجر النُّورة قبل أن يطبخ أحجارٌ على الحقيقة، وهي كل حجر تشوبه خطوط بيضٌ، فإذا طبخت خرجت عن أن تكون أحجاراً، فلا يجزئ الرمي بها، وهي نُوْرة. ويجزئ الرمي بحجر النُّورة.
وهذا كالخزف بالإضافة إلى التراب في حق المتيمم، فالتيمم بالتراب جائز، ولا يجزئ إقامته بالخزف، يعني سحاقته.
وأما أحجار الحديد، فقد كان شيخي يتردد فيها، ولا يبعد أن تُلحق بالإثمد.
والمعتبر في هذا أمر قريب عندي، وهو أن الإثمد جوهرٌ متّحدٌ، وليس كامناً في حجره، وإنما الذي يشار إليه إثمدٌ كله، وليس كذلك حجر الحديد، فإنه حجرٌ فيه حديد كامنٌ، وليس الإثمد كحجر النُّورة، فإن الأحجار كلَّها-إلا ما شاء الله منها- حجرُ النورة. والإثمد جوهر كله من غير أن يحرق ويشوى، وهو كالمغنيسيا، والمرقشيثا، والطَّلْق.
فهذا هو القول فيما يُرمَى.
2680- ويتصل بذلك القول في الحجر الذي رُمي به مرة، فأريد استعمالُه في رميٍ آخر، فإنْ تعدَّدَ الشخصُ، أو الجمرة، أو الوقت، لم يمتنع وفاقاً. فإذا رمى شخصٌ حصاةً إلى جمرتين، فرماها إلى جمرةٍ، ثم أخذها ورماها إلى الأخرى، أو رماها شخص إلى جمرةٍ، فأخذها شخص آخر من تلك الجمرة، ورماها إلى تلك الجمرة بعينها، في ذلك اليوم، أجزأ ذلك.
وكذلك إذا تعدد الزمان، واتحد الشخص والجمرة، بأن رمى إلى جمرةٍ حصاةً في يوم، ثم رماها في اليوم الثاني إلى تلك الجمرة ذلك الشخص، كل ذلك يجزىء. وإن اتحد اليوم، والجمرةُ، والرامي، ففي المسألة وجهان: أظهرهما المنع؛ لاتحاد الأسباب، والعدد مطلوبٌ معنيّ. وقال قائلون من الأصحاب: يجزىء ذلك، كصور الوفاق؛ فإن الرمي قد تعدد، فلا اعتبار بَعْده باتحادٍ وتعددٍ.
هذا أحد المقاصد في الفصل.
2681- ومنها القول في أوقات الرمي كل يوم. ويتعلق به الكلام في الفوات والقضاء وما يتصل به، فنقول:
أول وقت الرمي في كل يوم من أيام منى يدخل بزوال الشمس، ويدوم إلى غروبها، وهل يمتد في الليلة المستقبلة؟ فعلى وجهين ذكرناها في رمي جمرة العقبة: أصحهما أنه لا يمتد إلى ساعات الليلة المتقبلة، بل ينقضي وقت إقامة الرمي-أداءً على الاختيار- بغيبوبة الشمس، فإذاً أواخر أوقات الرمي في أيام التشريق تضاهي آخر وقت الرمي لجمرة العقبة، ولكنها تفارقها في الوقت الأول؛ فأول وقت رمي العقبة يدخل بانتصاف ليلة النحر، وأول وقت الرمي في كل يوم من أيام التشريق يدخل بزوال الشمس.
ولا خلاف أن وقت الرمي في النفر الثاني ينقضي بغروب الشمس؛ إذ لا نسك بعد ذلك.
2682- ثم إنا بعد ذلك نتكلم في الفوات، والقضاء، فإذا انقضى يومَ القَرِّ وقتُ الرمي على ما فصلناه، فهل يُتدارك في اليوم الثاني، والثالث؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يتدارك، كما لا يتدارك إذا انقضت أيام التشريق؛ إذ الغالب فيها التعبد، فكما لا يُعدل عن الجنس المرمي، فكذلك يجب ألا يعدلَ عن الوقت.
والقول الثاني- إنه يُتدارك، اعتباراً بمعظم العبادات المؤقتة.
ثم إن قلنا: لا يتدارك الفائت، فالرجوع إلى الدم، وسنفرده مقصوداً.
وإن قلنا: إنه يُتدارك، فالواقع من الرمي في اليوم الثاني قضاءٌ على الحقيقة، أم أداء تأخَّرَ عن وقت الاختيار؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو أداء، وجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد للرمي، ولكن تخيَّر الشرعُ لكل قدرٍ منها وقتاً، فهو كالأوقات المختارة في الصلوات.
وبنى الأئمة على هذا الاختلاف جوازَ تقديم رمي يومٍ إلى يومٍ، وقالوا: إن قلنا: رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فلا يجوز التقديم، وإن قلنا: إنه مؤدّى وإن أُخّر، فلا يمتنع التقديم أيضاً.
2683- ومما تردد فيه الأئمة أن قالوا: إذا حكمنا بأن رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فهل يجوز إيقاعه في النصف الأول من النهار، وقبل الزوال؟ فعلى وجهين:
أحدهما: الجواز؛ فإن المقضيَّ لا وقت له على التعيين.
والثاني: المنع؛ فإن القضاء قد يتأقت بعضَ التأقت، وما قبل الزوال لم يشرع فيه رمي، لا قضاءً، ولا أداء، فكانت تلك الساعات بمثابة ساعات الليل في تصوير الصوم. والوجهان يجريان في تدارك الرمي ليلاً إذا جرينا على الأصح في أن الوقت لا ينبسط على الليلة.
2684- هذا إذا قلنا: التدارك قضاء، فإن جعلناه أداءً، ففيما قبل الزوال والليل من التفصيل ما ذكرناه، فيجري الخلاف على بُعدٍ، والوجه القطع بالمنع؛ فإن تعيين الأوقات بحكم الأداء أليق.
2685- ومما يتعلق بذلك أنا إذا أوجبنا التدارك، فهو حتم، ولا يجوز الانتقال إلى الدم، مع إمكان التدارك. وإن منعناه، تعيّن الدمُ حينئذ.
2686- ثم إذا جوزنا التدارك، فالكلام في رعاية الترتيب، فنقول: أما رعاية ترتيب المكان في الأداء والتدارك، فحتم، لا خلاف فيه، فلو بدأ الرمي في أيام منى بجمرة العقبة، ثم ارتفع إلى الثانية، ثم إلى الجمرة الأولى، قلنا: رميك إلى الجمرة الأولى هو المحسوب، وما أتيت به قبله غيرُ معتد به. وترتيب المكان أمر مطّرد في المناسك المتعلّقة بالأمكنة، كالطواف والسعي.
وأما رعاية ترتيب الزمان، ففيها قولان:
أحدهما: أنها لا تجب.
والثاني: تجب. فمن أوجب، قاس الزمان على المكان. ومن لم يوجب، اعتبر بالصلوات الفائتة، مع المؤداة في أوقاتها؛ إذ لا ترتيب يُستَحقُّ عندنا، بين الأداء والقضاء. وهذا أظهر.
2687- وما أطلقناه من القولين يظهر أثرهما في وجهين:
أحدهما: أنا إذا أوجبنا ترتيب الزمان، قلنا: ينبغي أن تبرأ الذمة عن رمي أمس، ثم يقع الاشتغال بوظيفة اليوم، فلو رمى أربعَ عشرةَ حصاة، إلى الجمرة الأولى، ثم كذلك إلى كل جمرة، فهو على الخلاف الذي ذكرناه.
فإن لم نوجب الترتيب الزماني، حكمنا بإجزاء ذلك، وإن أوجبناه، لم يحتسب من وظيفة اليوم حصاةٌ، ما بقيت حصاةٌ من رمي أمسه. هذا أثرٌ بيّن في تخريج القولين.
2688- والأثر الآخر يستند إلى القول في أن النيةَ هل تؤثر فيما نحن فيه، وفيه اختلاف قد بينَّاه في الطواف والسعي، فلو رمى الناسك إلى الجمرةِ، وهو يبغي رمي شخصٍ، أو دابة، فقد صرف رميَه عن جهة النسك، فهل يُعتد بما يأتي به؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه، فإن قلنا: يعتد به، ولا أثر للنية، فنقول بحسبه: لو رمى إلى الجمرات الثلاث على قصد يومه، وقع ذلك عن تدارك أمسه، ولا حكم لقصده.
وإن قلنا: تؤثِّر النية فيما ذكرناه، فإذا نوى بالرمي إلى الجمرات وظيفةَ يومه، فيخرج على وجوب رعاية الترتيب في الزمان، فإن لم نوجبها أجزأ عن يومه، وإن أوجبناها، لم يُعتد بما جاء به، لا عن يومه، ولا عن أمسه؛ لفساد نيته، مع الحكم بتأثير النية.
وذكر صاحب التقريب وغيرُه أن القول في استحقاق الترتيب يدنو من قولنا: إن التدارك أداء أم قضاء، فإن جعلناه قضاء، فيبعد استحقاق الترتيب، كما ذكرناه في الصلوات المقضية والمؤداة، وكل ما ذكرناه في جمرات أيام التشريق.
فأما رمي جمرة العقبة ففي إجزَاء التدارك فيه عند الفوات طريقان:
أحدهما: التخريج على القولين كما مضى. والأخرى- القطع بأنه لا يُتدارك؛ فإنه يخالف رميَ أيام التشريق في أوّلية الوقت، وفي تفرده في يومه عن الجمرتين الأخريين، وفي تعلق التحلل به.
2689- ومن المقاصد الكلامُ في الرمي نفسِه، ومعناه، فإذا وقف الواقف وراء الجمرة، ورمى إليها، وأوقع الحصاة فيها برميه، فهو الرمي المطلوب، ولو وضع الحجر بيده على الجمرة، فالمذهب أنه لا يجزئه، ولا يُعتد به؛ فإنه ليس برمي.
وذكر صاحب التقريب فيه وجهاً بعيداً في التحصيل، وهو مزيف.
وإن أصاب الحجر الذي رماه محمِلاً، فارتد منه بقوة الصدمة، وأصاب الجمرة، أجزأ ذلك؛ فإن الارتداد كان من آثار الرمي.
ولو أصاب الحجر إنساناً، فقرّ عليه، أو أصاب ثوبَه، فاستقر، فنفضه ذلك الإنسان، وأصاب الحجرُ الجمرةَ بنفضه، فلا يعتد بهذا الرمي؛ فإن رميه انتهى أثره باستقرار الحجر، وكان النفض أمراً جديداً بعده.
ولو انتهى الحجر إلى محمل، ولم يبق فيه أثر من قوة الرمي، غير أنه تدحرج، وانسل إلى الجمرة، ففي إجزاء هذا الرمي وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، والصورة مترددة بين صورة الصدمة، وصورة النفضة، فجرى الاختلاف فيها.
ولو وقف الرامي في الجمرة، ورمى إلى الجمرة، فلا بأس، وقد حصل الرمي، ومصادفة الحصاة.
ولو احتوى على حجرين فصاعداً، ورماهما دفعة واحدة، فإن وقعا معاً، لم يعتد إلا بحصاة واحدة؛ فإن الرمي متحد، ولو تفاوتت مساقطهما، فالمذهب أنها رميةٌ واحدة؛ نظراً إلى اتحاد الفعل، ومن أصحابنا من اعتبر ترتب الأحجار في الوقوع.
وهذا ليس بشيء.
وإن أتبع الحجرَ الحجرَ فإن ترتبا في الوقوع، حَسَب ترتبهما في الرمي، فهما رميان محسوبان. وإن وقعا معاً فوجهان:
أحدهما: أن الاعتبار بالاجتماع في الوقوع.
والثاني: وهو الأصح أن الاعتبار بتعدد الرمي، ولا نظر إلى تفاوت الوقوع واجتماعه. وكذلك القول فيه إذا أصاب الحجرُ الثاني، والأول بعد في الهواء، فمن نظر إلى الرمي، احتسب رميين، ومن نظر إلى الوقوع، فهو متعدد أيضاًً، ولكن السابق بالرمي مسبوق بالوقوع، ففيه الخلاف. والأصح النظر إلى الرمي، وما عداه خَبْط.
2690- ومن المقاصد أن الناسك لو عجز عن الرمي بنفسه، فله أن ينيب غيرَه مناب نفسه؛ فإن الاستنابة إذا جرت في أصل الحج، فجريانها في أبعاض المناسك غيرُ ممتنع. ثم قد ذكرنا أن الاستنابةَ إنما تجوز للمعضوب عضباً لا يُرجى زواله. وهذا المعنى معتبر هاهنا، غير أنا نعتبر رجاء الزوال في مدة الرمي، ولا ينفع زواله بعدها.
قال العراقيون: العاجز عن الرمي إذا استناب غيرَه، وصحَّحْنا الاستنابة، فأغمي على المستنيب، قالوا: الاستنابة دائمة، وإن كان حكم الإغماء الطارئ على الآذن انقطاعُ إذنه إذا كان الإذن جائزاً في وضعه، كالوكالة، ولكن الغرض في الاستنابة هاهنا، إقامةُ المستناب مقام العاجز. وهذا الذي ذكروه محتملٌ جداً. ولا يمتنع خلافه.
وقد قالوا: لو استناب المعضوب في حياته في الحج ومات، لم تنقطع الاستنابة.
وهذا ذكره شيخي والأصحاب في الإذن المجرد، وهو بعيدٌ، لعمري، ولو فرض في الإجارة، فالإجارة تبقى، ولا تنقطع؛ فإن الاستئجار بعد الموت-عن الميت- ممكن، فلا منافاة، وقد استحقت منفعة الأجير. والذي ذكروه في إذنٍ جائز، وهو محتمل في الإغماء، بعيدٌ في الموت.
ومن أئمتنا من لم يحكم بانعزال الوكيل بإغماء الموكل؛ من جهة أن الإغماء كالنوم، في أنه لا يثبت ولايةً على المغمى عليه.
2691- ومن المقاصد: الكلامُ في الفدية الواجبة عند ترك الرمي، وفوات المستدرك.
فأول ما نراه أن نذكر القول فيما يجب بترك الرمي ليوم واحد، من أيام منى:
لا خلاف أنه إلاّ دمٌ واحد، وإن ترك الرميَ إلى الجمرات الثلاث، ولا مزيد على دمٍ.
ثم الطرق مختلفة في ترك بعض الرمي في اليوم الواحد: والطريقة المشهورة، أن الدم يكمل بترك ثلاث حصيات، قياساً على ثلاث شعرات ثمّ لا يزداد وإن ترك جميع رمي اليوم، كما إذا استوعب الرأس بالحلق.
وفي الحصاة الواحدة على هذه الطريقة أقوال: أحدها: فيها درهم. والثاني فيها مدّ من الطعام والثالث: فيها ثلث دم. هذا كالأقوال المشهورة في الشعرة الواحدة والشعرتين.
ومن أصحابنا من قال: الدم إنما يكمل في وظيفة جمرة، وهي سبع حصيات، ثم لا يزيد إلى تمام وظيفة اليوم. وفي الحصاة الواحدة أقوال: أحدها: فيها مدّ.
والثاني: فيها درهم. والثالث: فيها سُبُعُ دم.
وذكر صاحب التقريب طريقة ثالثة، وهي أن الجمرات في اليوم كالشعرات الثلاث، ففي وظيفة اليوم دمٌ، وفي ترك وظيفةِ جمرةٍ واحدةٍ الأقوالُ الثلاثة: أحدها: مدّ.
والثاني: درهم. والثالث: ثلث دم. فعلى هذا لو ترك حصاة من سبعة، من جمرة، قال: يحتمل أن يقال: يجب فيها في قولٍ مدٌّ كامل، أو درهم، ولا نقصان منه. ويحتمل أن يقال: سبع مدّ، أو سبع درهم. فأما إذا أوجبنا جزءاً من الدم، ففي حصاةٍ جزءٌ من أحدٍ وعشرين جزءاً من دم؛ فإن تبعيض ذلك على ما يقتضيه الحساب، وإنما التردد في تبعيض المد، والدرهم.
فهذا بيان الطرق.
ولا خلاف أن الدم يكمل في جمرة العقبة؛ فإنها وظيفة يوم.
2692- ومما يتعلق بتفصيل القول في الفدية أن من ترك الرمي كلّه، و انحسم التدارك، وكان التزم رمي النفر الثاني، إذ لم يتعجل في النفر الأول، ففيما يجب عليه أقوال: أحدها: أنه يكفي في الكلِّ دمٌ واحد؛ فإن الرمي جنسٌ واحد.
والثاني: يلزم أربعةُ دماء، في مقابلة وظيفة أربعة أيام.
والثالث: يلزم دمان: دمٌ في مقابلة جمرة العقبة، ودم في مقابلة الأيام الثلاثة.
ثم مَنْ لم يوجب في الأربعة الأيام إلا دماً واحداً، يُكمل الدمَ في وظيفة اليوم.
وهل يكمله بثلاث حصيات، أم لا إكمال إلا بسبع؟ فيه الخلاف المقدم، في فرض الكلام في وظيفة يومٍ. ويجري في مجاري الكلام وجهٌ غريب: إن الدم يُكمَّل بحصاة واحدة. وقد ذكرنا لهذا نظيراً في الشعرة الواحدة، وسنجريه في الليلة الواحدة من المبيت.
وما ذكرناه في الحصاة الواحدة فيه إذا تركها من الجمرة الأخيرة. فأما إذا تركها من الجمرة الأولى، فلا يعتد بالجمرة الثانية، والثالثة، لما قدمناه، من اشتراط الترتيب في المكان، فيكون تاركاً حصاةً من الجمرة الأولى وتاركاً للجمرتين الأخيرتين.
وقد مضى التفصيل في ترك جمرة، وجمرتين.
2693- ومن بقية القول في ذلك: أنا إذا جوّزنا تدارك الرمي، بعد انقضاء الوقت الموظَّف له، فإذا تداركه كما رسمناه، فالمذهب أنه لا يجب مع القضاء فدية.
وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً من تخريجات ابن سريج: أنه يجب مع الدم القضاء، كما يجب على من يؤخر قضاء ما فاته من صوم رمضان، إلى الشهر الآتي في السنة القابلة، القضاءُ والفدية.
وهذا غريب. وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة. ومما أجراه صاحب التقريب رمزاً في أثناء كلامه أن قال: إذا جعلنا المستدرَك من الرمي مُقاماً في وقته أداء، ولم نجعله قضاء، وقلنا بحسب ذلك: يجوز التقديم، ويجزىء، فيلزم من ذلك جواز التأخير أيضاًً، حتى لا ينتسب المؤخِّر من غير علة إلى مأثم.
وهذا بعيدٌ؛ فإن جواز ذلك مما خص به أهلُ سقاية العباس، ورعاة الإبل، كما سنعقد فيهم فصلاً، فلئن كان يلزم ما قال قياساً، فالوجه أن يستدل بهذا على فساد المصير إلى أن الرمي المقامَ بعد انقضاء وقته مؤدى.

.فصل: في النفر وحكمه:

2694- للناسك إذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق أن ينفر متعجلاً، وإذا فعل ذلك، سقط عنه المبيت في الليلة التي بين يديه، وسقط عنه الرمي في النفر الثاني.
ولو نفر في يوم النفر الأول، ولم يرمِ، فلا يخلو: إما أن يعود، أو لا يعود، فإن لم يعد، استقرت الفديةُ عليه في الرمي الذي تركه في النفر الأول.
وإن عاد، لم يخل: إما أن يعود بعد غروب الشمس، وإما أن يعود قبلها.
فإن عاد بعد غروب الشمس، فقد فات الرمي، فلا استدارك، وانقطع أثره من منى، ولا حكم لمبيته. وإن رمى في النفر الثاني، لم يكن رميه معتداً به، فإنه بنفره تقلّع عن منى ومناسكه، واستقرت الفدية عليه، وكان ذلك بمثابة انقضاء أيام التشريق.
ولو عاد قبل غروب الشمس، فأجمع طريقةٍ في ذلك، ما ذكره صاحب التقريب:
إذ قال: حاصل الاختلاف فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه إذا نفر، فقد انقطع الرمي، ولا ينفعه العود.
والقول الثاني- يجب عليه أن يعود ويرمي حسبما عليه، ما لم تغرب الشمس، فإذا غربت، تعيّن الدمُ.
والقول الثالث: أنه بالخيار: إن أراد الرجوع والرميَ، فله ذلك، وإذا فعل، سقط عنه الفرض، وإذا أراد ألا يرجع، ويريق الدمَ، جاز له ذلك، ويسقط عنه الفرض بأحدهما. وهذه الأقوال الثلاثة تجري في النفر الأول، والثاني.
وذكر قولاً رابعاً عن ابن سريج: وذلك أنه فصل في تخريجٍ له بين أن يتفق خروجه في النفر الأول، أو في النفر الثاني، فإن خرج في النفر الأول، ثم عاد قبل غروب الشمس ورمى، لم يقع رميه موقعَه. ولو خرج في النفر الثاني، ولم يرم، ثم عاد، ورمى قبل غروب الشمس، وقع الرميُ موقعَه.
والفرق أن الخروج في النفر الثاني لا حكم له؛ فإنه منتهى الوقت. نفرَ أو لم ينفر، فكان خروجه وعدمُ خروجه بمثابةٍ. وللخروج في النفر الأول حكمٌ؛ فإنه لو لم يخرج فيه، بقي إلى النفر الثاني، فيؤثّر خروجُه في قطع علائق منى، وإذا انقطعت العلائق، لم تَعُد. ولا خلاف أن من خرج يوم القَرّ، ثم عاد قبل الغروب، رمى؛ إذ لا حكم للنفر في يوم القرّ. وإن عاد بعد الغروب، فهذا رجلٌ فاته الرمي، وفيه الكلام المقدّم في التدارك.
2695- وبالجملة لا أثر للخروج في يوم القرّ.
وأما يوم النحر، فالأمر فيه أظهر؛ فإن الناسك يفارق منى مُفيضاً، وقد ذكرنا أنه لا ترتيب في أسباب التحلل في ذلك اليوم، ولو أراد تقديمَ طواف الإفاضة على رمي جمرة العقبة، فلا بأس عليه. ويخرج من ذلك أن الخروج لا أثر له في يوم النحر، ويوم القَرّ، وإنما النظرُ إلى مضيّ الوقتِ وفواتِه. وإنما يؤثر الخروج في التفريق كما قدمنا التفصيلَ فيه.
ثم إذا قلنا: من خرج في النفر الأول، من غير رمي، وعاد قبل غروب الشمس، يرمي. فإذا رمى، وغربت الشمسُ تقيّد، ولزمه المبيت، والرمي من الغد.
وإن قلنا: لا يرمي إذا عاد قبل غروب الشمس، فلا يلزمه المبيت، ولو بات، لم يكن لمبيته حكمٌ.
والسبب فيه أن في هذا الوجه حكمنا بانقطاع علائق منى بخروجه، ثم لم نحكم بعودها لما عاد.
ولو خرج الناسك في النفر الأول قبل زوال الشمس، ثم عاد، وزالت عليه الشمس، وهو بمنى، فالوجه القطع بأن خروجه لا حكم له؛ فإنه لم يخرج في وقت الرمي وإمكانه. ولو خرج في الوقت الذي ذكرناه، ثم لم يعد حتى غابت الشمس، فقد انقطعت العلائق-وإن كان خروجه قبل دخول وقت الرمي- لأن استدامة الخروج إلى غيبوبة الشمس، حلّت محل إنشاء الخروج بعد زوال الشمس.
ولو خرج قبل الزوال وعاد، قبل الغروب، فظاهر المذهب أنه يرمي ويُعتد برميه، بخلاف ما لو خرج بعد الزوال.
ومن أصحابنا من نزل هذه الصورة منزلةَ صورةِ الأقوال؛ فإنه لو خرج قبل الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس، كان كما لوخرج بعد الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس. فإذا تشابها في ذلك، فليتشابها في العود قبيل الغروب.
2696- ومن تمام البيان في حكم النفر أن الناسك إذا لم ينفر في النفر الأول حتى غربت الشمس، تقيّد، ولا نفرَ، فليبت وليلتزم الرميَ في النفر الثاني ولا يتوقف تقيده لأجل الرمي على طلوع فجر ذلك اليوم. وهذا متفق عليه.