فصل: باب: نفقة المماليك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: نفقة المماليك:

10251- نفقة المماليك واجبة على السادة إذا لم يستقلّوا بالكتابة، والأصل فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «وللملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يُطيق» وتمام الحديث ما روي أن أبا ذرٍ رُئي بالربذة وعليه حُلة، وعلى غلامه حُلّة، فقيل له: أكسوت غلامك مما تلبس، فقال: إني ساببت غلاماً لي، فرفعت يدي لأضربه، فلم يَفْجَأني إلا رجل أخذ بيدي، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل إلا ما يطيق".
واتفق العلماء على إيجاب النفقة للمملوك على الموْلى، ثم تلك النفقة كفاية، وليست مقدرة، كما ذكرتها في نفقة القريب وفسرتُ الكفاية.
ثم وجب عليه أن يكسوَ عبده. ثم اختلف أصحابنا في أن الكُسوة هل تختلف في جنسها باختلاف أقدار المماليك؟ فمنهم من قال: نعم، يختلف جنسها باختلافهم، فكُسوة العبد الخسيس المستخدم في سياسة الدواب دون كُسوة العبد النفيس.
ومن أصحابنا من قال: لا فرق بينهم، وتفاوتهم في قِيَمهم لا يوجب تفاوتَهم في الكُسوة.
ومنهم من فرّق بين الجواري والعبيد، وقال: العبيد يجوز التسوية بينهم، وأما الجواري اللواتي يكنّ بمحل التسرِّي يجب التفاوت بينهن.
هذا كلام الأصحاب، وتمام البيان فيه عندنا أن اللباس الذي يكسوه عبده يجب ألاّ يكون مُضرّاً به، كالثوب الخشن الذي تتأثر البشرة به، ولا يشترط أن يكون مفيداً بدنَه تنعماً وترفّهاً، والعبد لو اقتصر مولاه على إزارٍ يستر ما يجب ستره منه، وكان لا يتأذى في بدنه من مصادمة الهواء والحرّ والبرد، فلست أرى جوازَ الاقتصار على هذا؛ فإن هذا إهانةٌ وإذللٌ على حدٍّ بيّن لا يعتاده أحد من طبقات الخلق، وإن فعله فاعل، تطرقت إليه المطاعن وتوجّه عليه التوبيخ.
والذي اختلف الأصحاب فيه هو أن يكسو عبداً كُسوةً قد يجري مثلُها من مقتصد، أو ممن يُعرف من التقتير والتشوف إلى الشح، فهذا مما تردد فيه الأصحاب.
10252- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصرف فيه، وهو قوله عليه السلام: «إذا كفى أحدَكم خادمُه طعامَه، حرَّه ودخانه، فليُجلسه معه، فإن أبى فليروِّغ له لقمة وليناولها إياه» وروي أن رسول الله صلى الله عليه قال في المماليك: «إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن ملك مملوكاً، فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل إلا ما يطيق» وظاهر هذا الحديث يدل على أنه يجب على السيد أن يسوّي بين نفسه وبين عبده في الملبس والمطعم.
قال الشافعي: هذا الحديث قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعراب أصحاب البوادي ولباسهم خشن، وطعامهم خشن ولو فرض حط العبيد عن ملابسهم ومطاعمهم انتهى الأمر إلى الضرر، وقد ذكرنا أن الإضرار بالمملوك غيرُ سائغ.
وأما الحاضرة وأصحاب النعمة والترفّه، فمن ملابسهم الخُزُوز الفائقة، ورقيقُ الكتان والحرائر، فيلبسن نفائسَ الديباج، فلا نكلف هذه الطبقة أن يُلبسوا عبيدهم من جنس ما يلبسون.
وكذلك قد يعتاد هؤلاء أطايبَ الأطعمة وصدورَ الدجاج ونفائسَ الحلاوات فلا نكلّفهم أن يُطعموا عبيدهم من هذه الأجناس.
ثم أخذ رضي الله عنه في الكلام على الحديث المشتمل على إجلاس العبد وإطعامه لقمة مُروَّغة، وقد روينا الحديث، ومعناه مفهوم، قال الشافعي رضي الله عنه: وهذا أولاً مخصوص بالذي يتولى إصلاح الطعام ويُصادِمُ حرَّ النار ودخانَها، فإذا هيأ الطعام، فمقتضى الحديث الأمرُ بإجلاسه ليأكل مع المولى، وفيه أن ترويغ لقمة وتسليمَها إليه يُغني عن إجلاسه، ثم تردد، فقال: يجوز أن يكون الأمر محمولاً على الوجوب ويجوز أن يكون استحباباً محمولاً على مكارم الأخلاق.
وإذا كانت القاعدة على الكفاية، ودفع الضرر، واجتناب الإهانة، فما يجريه الشارع زائداً على هذا فيظهر أن الغرض الحثُّ على وطأة الخُلُق والاستكانة، واجتناب استعلاء الملاك.
ثم ذكر رضي الله عنه على تقدير حمل الأمر على الوجوب شيئين:
أحدهما: أن الواجب أن يخصص بلقمة، هذا القدر هو المحتوم، وإن أجلسه، فهو أفضل، ويحتمل أن يكون الواجب أحدَهما أو أيهما أقدم عليه أدّى الواجب به.
فينتظم إذا أردنا الجمعَ ثلاثة أقوال.
ثم اللقمة ينبغي أن تكون تامة مشبعة مروّغة بحيث تسدّ مسداً وتحط قَرَماً ونَهَماً، فإنها إن صغرت هاجت الشهوة وصار العبد بذوقه أشدَّ حالاً ممن لا يتعاطى من الطعام شيئاً.
فصل:
قال: "وليس له أن يسترضع الأمةَ غيرَ ولدها... إلى آخره".
10253- إذا أتت أمة الإنسان بولد مملوك، فليس للسيد أن يحولَ بينها وبين ولدها، وليس له أن يكلّفها إرضاعَ ولدٍ آخر؛ فإن ذلك يضر بالولد ويكدّر قلب الأم، ويُفضي إلى الوَلَه الذي نهى الرسول صلى الله عليه عن التسبب إليه، وقد ذكرنا أن الزوج لا يفرق بين الولد وأمّه، غير أنا ذكرنا أنه إذا كان يبغي الاستمتاع بها في أوقات الرضاع، وعَسُر الجمع بين توفية الاستمتاع وإدمان الرضاع، فللزوج أن يضم الولدَ إلى مرضع، والأم لا تُمنع منه في الفترات والغفلات.
هذا ظاهر المذهب.
وحكينا فيه وجهاً آخر.
ولو كان السيد يبغي الاستمتاع بالأمة، وذاك كان يعطل إرضاعها، كما صورناه في الزوجة، فالذي أراه أنها تنزل والحالة هذه منزلة الزوجة، فإن خطر لمن لا يغوصُ فرقٌ بأن الاستمتاع ليس مقصوداً من الأمة، فليس هذا أوان هذا الكلام؛ فإنّ حق السيد في الاستمتاع بها كامل، لا سبيل إلى دفعه، فإن كان لا يستمتع، فليس له أن يمنعها من إرضاعه، ويخرّج فيها عند قصد الاستمتاع الوجه الذي حكيناه في الزوجة.
10254- ثم قال الأئمة: للأم الحرة حقٌّ متأكد في الولد الحر لا يثبت مثله في الأمة؛ فإن الأب لو أراد فطام الولد قبل الحولين، لم يكن له ذلك دون رضا الأم، ولو أرادت الأم أن تفطمه، لم يكن لها ذلك دون رضا الأب، فإن توافقا على الفطام قبل الحولين، وكان لا يضر الفطام بالولد في غلبة الظن، فحينئذ يجوز.
هكذا قال الأصحاب، وتمسكوا فيه بظاهر قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233]، وظاهر الآية أن الأم إذا أرادت استكمالَ الرضاع حولين بنفسها، أو بإرضاع ظئر، فليس للأب الفطام، وعليه مؤونةُ الرضاع إلى انقضاء الحولين.
وعندي أن هذا وما قاله الأصحاب فيه إذا كان الرضاع ينفع المولود، وفَطْمُه قد يؤثر في إنهاكه، وإن كان يغلب على الظن سلامته، فلابد من رضا الوالدين، وإن كان بحيث لا ينهكه الفطام، وقد صار الصبيّ مضرباً عن الرضاع لاهياً، فليس يبعد أن يقال: للأب ألاّ يلتزم المؤونة والحالة هذه.
وفي القلب من الصورة الأولى شيء إذا كان يجوز لأحد الأبوين لو انفرد أن يفطم، ويجوز لهما أن يفطما، فليس يبعد حمل ما ذكرناه على الأوْلى، حتى يكون صَدَر الفطام عن شفيقين، فهذا ما يظهر عندي، ولكن ما رأيته للأصحاب ذاك الذي قدمته.
وإن كان الولد يتضرر بالفطام.
ثم قال من ربط الفطام دون الحولين برضا الأم: لا يُربطُ الفطامُ برضا الأَمَةِ الوالدة؛ فإنه لا حق لها في طلب حق المولود، وطلب حق المولود طرفٌ من الولاية، وقد ذكرنا أن للأم أن تطلب نفقةَ المولود، ولها أن تستقرض على الأب، وهذا ممتنع مستحيل من الأم الرقيقة.
ثم ذكر الشافعي أنه كما يجب على السيد الإنفاق على أمّ ولده يجب عليه الإنفاق على أولادها من السفاح، والنكاح؛ فإن ملكه فيهم بمثابة ملكه في الأم، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
10255- ثم قال: "ويمنعه الإمام أن يضرب على أمته خراجاً إلا أن تكون في عمل واجب".
ضربُ الخراج على المملوك حقيقةُ استكسابه، وللسيد أن يستكسب عبده على شرط ألاّ يكلفه من العمل ما لا يُطيق، فإن وظف عليه مقداراً كلّ يوم، لم يكن لذلك التوظيف حكم، وليس ضرب الخراج معاملةً توصف بالجواز واللزوم، ولكن على العبد ألا يألوَ جهداً، والمقدرات الموظفة على أقدار الاستمكان، وإنما ذكر الشافعي المخارجة لاعتياد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، حتى قيل: كان للزبير ألف عبد يؤدون الأخرجة، وكان يصرف إلى كفايتهم قدر الحاجة، ويتصدق بالباقي، لا يتأثَّلُ منها درهما، ولا ينفق على خاصته درهماً.
ثم إن جرت المواضعة على أن ينفق العبد مما يكتسب، فعل ذلك إن وفَّى كسبُه، وإن لم يتفق في بعض الأيام أو في أيام كسبٌ، فنفقته دارّة. وبالجملة لا تغيّر المخارجة حكماً، ولا تُلزم العبدَ إلا بذل المجهود في الكسب. قال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: "لا تكلفوا الصغير الكسبَ فيسرق، والجارية غير الصَّنِعَة فتكتسبَ بفرجها"، وهذا مما يجب مراعاتُه، وليس بعد الوضوح للازدياد وجه.

.باب: نفقة الدواب:

10256- ذوات الأرواح محترمة، وحقٌّ على مالكها أن يقيها الرَّدى والهلاكَ إلا في الوجوه المستباحةِ المستثناةِ شرعاً، كالذبح للمأكلة، والإكدادُ بتحميل الأثقال قد يَكُدُّها ويهُدُّها ويُفضي إلى هلاكها، ولكن ذلك على الاقتصاد اللائق بمثله مسوَّغٌ، ويجب القيام بكفايتها في العلف والسقي.
وإن كانت منسرحة سائمة، فإن كان في العُشب مَقْنع، فذاك، وإن أجدبت الأرض، وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي، وما تصادِف من رعي الأرض، فيجب علفها إلى أن ينتهي الأمر إلى الاكتفاء.
ومما يجب الإحاطة به أن البهائم وإن كانت محترمة الأرواح فحرماتها محطوطة عن حرمة الآدمي، ولهذا يقتلها المضطرُّ ويأكلُها، وإن كانت محرّمة اللحم، وفي إباحة ذبح ما يؤكل منها لظهور الحاجة إلى اللحوم ما يوضّح أنها عرضة لحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورات. ولا يجوز أكل ما لا يحلّ أكله لحاجةٍ لا لحرمة روح ذلك الحيوان، ولكن لأن المحرمات في حكم الله مستخبثات.
وقال الأصحاب: إذا كان مع المسافر ماء ومعه ذو روح محترم مُشفٍ على الهلاك عطشاً، فليسقها، ولْيتَيَمّم، والمذهب الأصح أنه يجوز غصْبُ العلف للدابة الموفية على الهلاك، وكذلك يجوز غَصْب الخيطِ لخياطة جُرح البهيمة المحترمة، و في المسألتين خلاف، والأصح ما ذكرناه.
ثم إذا ظهر لمن إليه الأمر إضرار مالك الدواب بها، راجعه فيها، وكلفه في عاقبة الأمر القيام بكفايتها أو بيعها.
واللبون من البهائم لا يجوز نزف ألبانها حَلْباً؛ إذا كان يَهلِك أولادُها الرضع، والمعتبر فيها كالمعتبر في أمهاتها.
وهذا نجاز الربع. وإلى الله صدق الابتهال في تيسير الإتمام، وبسط النفع به وجعله خالصاً لوجهه الكريم.
وإذا عسر عليَّ في فصل تخريج المذهب المنقول على قياس، أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعاب وجه الإشكال، وإيضاح الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات.

.كتاب الجراح:

قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]... إلى آخره".
10257- صدر الشافعي رضي الله عنه الكتاب بآياتٍ متضمنها تعظيم الوعيد على من يقتل نفساً عمداً بغير حق، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} [الإسراء: 33]. وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. والكلام على هذه الآية نقلاً وتأويلاً يطول، وليس هو من غرضنا وقد قيل: "إنها نزلت في مِقْيَس بن صُبابة، وكان أسلم، ثم ارتد واستاق إبلاً، ووثب على الراعي، والتحق بدار الحرب، وقال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «اقتلوا مِقْيَس بنَ صُبابة، وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، فصودف كذلك، فقتل». وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا إحدى ثلاث: كُفْر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس»، فاحتج عثمان بهذا الحديث يوم الدار.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم امرىء مسلم». وقال عليه السلام: «من سعى في دم مسلم ولو بشَطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه الآيس من رحمة الله».
ذكر الشافعي الأصلَ في القصاص من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْل} [الإسراء: 33] فقيل: معناه لا يقتل غير القاتل، وقيل معناه النهي عن المثلة، وقال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَاب}[البقرة: 179] وهذا من إيجازات القرآن، وهو المعنِيُّ بقول العرب: "القتل أنفى للقتل" والمعنَى أنّ قتلَ القاتل وإن كان إزهاقَ روح، ففيه إفادةُ انزجار المعتدين، وهي سبب استمرار الحياة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «العمد قَودٌ» وقال عليه السلام: «ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيلَ من هُذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل منكم قتيلاً بعد هذا، فأهله بين خِيرتين إن أحبوا قَتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقلَ».
ثم لما ذكر رضي الله عنه التحريمَ والأصلَ في القصاص، استفتح بعدُ القولَ في اشتراط الكفارة وفي وجوب القصاص.
ونحن نقول: أصلُ استيجاب القصاص يستدعي البلوغَ، فلا قصاص على صبي، والعقلَ، فلا قصاص على المجنون؛ فهذا ما ذكره الأصحاب في التزام أصل القصاص، ولو ضُم إلى هذا التزام الأحكام، لاتجه؛ فإن الحربي أصلاً لا يلتزم القصاص، حتى لو عقدت له ذمة وأسلم فلا نقتله بالقتل الذي سبق منه في حالة كونه حربياً.
10258- ثم قال الشافعي: "وإذا نكافأت الدماء من الأحرار المسلمين... إلى آخره".
فنقول: لا يقتل الإنسان بكل أحد، والتفاوت في الصفات على الجملة مؤثر في دفع القصاص عن القاتل يقتُل المفضولَ، ثم لا يعتبر في المكافأة جملة الصفات، وإنما يعتبر بعضُها، فالمؤثر فيها: الاختلافُ في الدين إسلاماً وكفراً، والحريةُ والرق، وألحق الأئمة بهذا ما بين الوالد والولد من التفاضل، وعدّوا امتناع وجوب القصاص عن الوالد من باب اختصاصه بفضل الأبوّة، وقال قائلون: الولد والوالد متكافئان، وإنما اندفاع القصاص عن الوالد بتوقيفٍ، أو طرفٍ من المعنى سوى المكافأة، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله، وهذا الخلاف قليل الجدوى والفائدة.
10259- ونحن الآن نذكر التفصيل في اختلاف الدين، ثم نذكر بعده اختلاف القاتل والمقتول بالرق والحرية، ثم نذكر انتفاء القصاص عن الأب إذا قتل ولده، ونذكر في كل أصل ما يليق به.
ونُقدِّم على الخوض في التفاصيل طرقَ الأصحاب في الضبط: قال قائلون: المؤثر في كفاءة الدم الشبهات، فالمسلم إذا قتل ذمياً، والكفر في الذمي شبهة؛ فإنه كان مبيحاً لدمه قَبْل الذمة، وهو قائم مع الرق والذمة، والرقُّ من آثار الكفر، والوالد شبهة في ولده؛ فإنه بعضه، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك».
وهذا المسلك لا يستقيم على السبر ولا يصبر على المباحثة. أما ما ذكر في الكافر فينقضه أن الذميّ يقتل بالذمي ولا ينفع الاحتيال في دفعه، وينقضه أن المسلم يقطع بسبب مال الذمي، والشبهةُ في المال تدرأ القطعَ، ولا مبالاة بما ذكره الأصحاب في دفع ذلك.
وأما المصير إلى كون الرق من آثار الكفر، فكلامٌ عريٌّ عن التحصيل، ومن اعتقد أن الأب شُبْهة بالابن، فليس من أحزاب الفقهاء، وإن كان الرسول يقول عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» فهذا كلام أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، ولو شاع اعتقاد ظاهره والتعويل عليه، للزم أن يقال: إذا فجر الرجل بامرأة ابنه لا يلزم الحد، فهذه طريقة مزيّفة.
وقال آخرون: قياس الباب أن تعتبر العصمة والتساوي فيها، وقال: إن القصاص أثبت تحقيقاً للعصمة فيما نبهنا عليه.
والمسلم والكافر متفاوتان في سبب العصمة، فاعتصام المسلم بالإسلام، واعتصام الذمي بذمةٍ عوضها في السنة دينار، وهو متوعد في استدامتها وترك الإسلام بوعد الأبد، ولو خالف موجَبَ الذمة، انتقضت، والمسلم إذا خالف شرائعَ الإسلام لم ينتقض عصامه، ولم يزايله إسلامه، فهما متفاوتان في سبب العصمة تفاوتاً يزيد على تفاوت الحنطة الجيدة والرقبة، والماليةُ في الأموال كالعصمة في الدماء.
وعصمة الرقيق أضعف من عصمة الحر؛ من جهة أن الحر يتوصل إلى إقامة كل عبد مقامَ الإهدار بتملكه، فيصير مهدر الدم في حقه، والذكورة والأنوثة، وما عداهما من المناقب ونقائضهما، لا تؤثر في التفاوت في العصمة، وهذا القائل لا يعد الأبوة والبنوة من أركان الكفاءة.
وهذه الطريقة، وإن كانت أحرى من الأولى، فالوفاء بتقريرها عسر، ولا يليق الخوض فيه، بهذا المجموع.
والذي نعتمده ونعتقده، أن الصفاتِ المرعيةَ في كفاءة الدم لا تندرج تحت معنى ضابط يجري وينعكس، ولكن معتمد اندفاع القصاص عن المسلم إذا قتل الذميَّ الحر الخبرُ بحسب ما قررناه في مجموعات الخلاف، ومعتمد اندفاع القصاص عن الحر بقتل العبد تشبيه النفس بالطرف، ولا مزيد على صاحب المذهب، وهو رضي الله عنه، لم يتعرض لمعنىً جامع، ولم يعتمد في مسألة قتل المسلم بالذمي إلا الخبرَ، كما لم يعتمد في مسألة قتل الحر بالعبد إلا الشبه بالطرف، فهذه هي الطريقة المرضية.
10260- وقد حان أن نخوض في التفاصيل فنقول: إذا قتل مسلم ذمياًً، لم يستوجب القصاص بقتله، ولو قتل ذميٌّ ذمياًَ، ثم أسلم القاتل، لم يسقط القصاص عنه بطريان الإسلام، باتفاق الأصحاب، فإن العقوبات إذا وجبت، لم تغيّرها الصفات الطارئة على مستوجبها.
ولو جرح ذمي ذمياً، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، بعد إسلام الجارح، ففي وجوب القتل قصاصاً على الجارح وجهان معروفان:
أحدهما: أن القصاص لا يجب؛ فإنه لو وجب، لوجب بزهوق روح المجروح، والمجروح مات كافراً، والجارح إذا أسلم، فلو أوجبنا القصاص في النفس، لتضمن ذلك إيجابَ القصاص ابتداءً على مسلم بسبب زهوق روح كافر.
والوجه الثاني- أن القصاص يجب اعتباراً بحالة الجرح؛ فإنه الفعل الداخل تحت الإيثار، والسريان وما يفرض من زهوق الروح ليس من أفعال الجارح، ولكنه يعد جزءاً من فعله؛ لأنه ترتب عليه.
والأصح الوجه الأول، فإنا في أحكامٍ نعتبر المآل، والقصاص أولى الأحكام باعتبار المآل، فيه.
10261- ولو قتل عبد مسلم عبداً مسلماً لكافر، ففي وجوب القصاص على العبد القاتل وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه يجب؛ لأن القاتل والمقتول متكافئان، ومالُ السيد لا يُعصم بالقصاص، وإنما العصمة لحرمة الدّمّية، والتساوي بين الدّمين قائم.
والوجه الثاني- أن القصاص لا يجب؛ لأنه لو وجب، لوجب لكافر على مسلم؛ فإن مستحق القصاص سيد العبد، ولا يثبت للعبد قصاص تقديراً ولا تحقيقاً، والدليل عليه أن عبداً لو قطع يدَ عبد، فالاقتصاص لمولاه، فلو عفا العبد، لم يسقط القصاص، بل إلى السيد الاستيفاءُ، والإسقاطُ، ثم هذا القائل فرّق بين أن يكون العبد القاتل لمسلم أو لكافر؛ فإن القصاص على العبد لا على مولاه، وهو لسيد العبد المقتول لا للعبد.
10262- والذمي مقتول بالذمي وإن اختلفت الملّتان، والنصراني مقتول بالمجوسي.
وأطلق الأئمة أقوالهم بأن الذمي مقتول بالمعاهد، وفي النفس من هذا ترددٌ؛ فإني رأيت للأصحاب في كتاب السرقة نَقْلَ نصوصٍ في أن المعاهَد لو سَرَقَ هل يُقطع؟ ويترتب عليه تردّدٌ في أنه لو سُرق مالُه هل يُقطع السارق؟؛ إذ من المستحيل ألا يُقطع إذا سرق من مال مسلم، ويقطع المسلم إذا سرق من ماله، وينشأ من هذا تردُّدٌ في أنه إذا قَتل لا يقتل قصاصاً. نعم، يجوز أن ينتقض عهده ويقتل؛ لأنه حربي، لا عهد له.
وإن فصل فاصل بين حد السرقة من حيث إنه حق الله وبين القصاص لأنه حق الآدمي، فهو-للعفو عن الدم- من حقوق الآدميين، لم يتجه هذا؛ فإن عصمة المال بالحدّ تتعلق بطرف من حقوق الآميين.
وهذا الذي ذكرناه إبداء احتمال، والذي رأيناه للأصحاب القطعُ بوجوب القصاص على الذمي بقتل المعاهَد.
ولم يختلف أئمتنا في أن دية المعاهَد النصراني كدية الذمي النصراني، وهذا شاهد صدق في التسوية بين الذمي والمعاهد النصراني.
وإن كنا لا نتعلق بالدية في القصاص، ويجري القصاص مع التفاوت في قيمة الدية.
10263- وإذا قتل ذمي مرتداً، فقد ذكر العراقيون ثلاثة أقوال: أحدها: أن القصاص لا يجب بقتل المرتد؛ فإن المرتد مهدر الدم، وإيجاب القصاص على القاتل المعصوم بقتل المهدر بعيد.
والقول الثاني- أنه يجب القصاص للاستواء، في الكفر، وفي المرتد مزية، وهو عُلقة الإسلام، ولأجلها يُدعى إلى الإسلام قطعاً ألردّته، ويخاطَب بتفاصيل أحكام الإسلام.
والقول الثالث: حكاه العراقيون عن تخريج الإصطخري أن الذمي يستوجب القصاص بقتل المرتد إذا قتله عمداً.
وإن قتله خطأ، لم يلزم المال، فأقام إهدار العوض فيه، وأوجب القصاص على الذمي؛ لأن قتل المرتد عقوبةُ حدّ، والكافر ليس من أهل استيفاء الحد، ونحن قد نوجب القصاص في النفس حيث لا نُثبت مالاً، والدليل عليه أن من قطع يدي رجل، ثم قتله، فقصاص الطرف لا يندرج تحت النفس، ولو اقتص الولي من الجاني في يديه، فإن له القصاص في النفس، ولا مال له، على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل، ثم يقول الإصطخري: لو قتل الذمي المرتدَّ عمداً، ثم آل الأمر إلى المال، فلا مال.
ولو قتل المرتد الذميَّ، فهذا يبتني على قتل الذمي المرتدَّ على العكس، فإن قلنا: الذمي لا يقتل بالمرتد؛ لأن المرتد مهدر، فالمرتد مقتول بالذمي.
وإن قلنا الذمي مقتول بالمرتد، فهل يقتل المرتد بالذمي؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يقتل به للاستواء في الكفر.
والثاني: لا يقتل به، لما تميّز به من عُلقة الإسلام.
ومما يدار في أثناء ذلك أن قتل المرتد ليس يُقطع القول بأنه حد، بل هو إرهاقٌ، وحملٌ على الإسلام، وسيأتي أثر هذا في كتاب الحدود، إن شاء الله.
ومما يتعلق بهذا أن الذمي إذا قتل ذمياً، قُتل به لاستوائهما.
ولو قتل مرتد مرتداً، فظاهر المذهب أنه مقتول به؛ لاستوائهما في كل معنى.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا قصاص عليه؛ لأن المقتول هدرٌ، وهذا له اتجاه وإن كان بعيداً، وقد يقرّب موت المقتول-لو لم يُقتل- مرتداً، ويفرض عَوْد هذا إلى الإسلام.
ولو قتل ذمي مرتداً وأوجبنا القصاص فمن يستوفيه؟ قال الشيخ أبو علي: يستوفيه الإمام أو من ينوب عنه، وحَكَى قولاً بعيداً أن حق الاستيفاء يثبت لقريبه المسلم الذي كان يرثه لو كان مسلماً، وهذا قد يمكن تخريجه من مسألة ستأتي، وهو أن المسلم لو قطع يدَ مسلم، ثم ارتد المجروح ومات مرتداً، فقال الشافعي: "لوليه القصاص في الطرف" وسنذكر غائلة هذا الفصل ثَمَّ، إن شاء الله عز وجل.
10264- وقال أئمة العراق: الذمي إذا قتل مسلماً محصناً قد زنا واستوجب الرجم، وجب القصاص عليه، بلا خلاف، فإن الواجب على المسلم حدٌّ، وهو حق الله تعالى يستوفيه المسلمون، ولكن عَسُر قيامهم باستيفائه فيستوفيه النائب عن المسلمين.
وقالوا: لو قتل مسلم مسلماً زنا وهو محصن، هل يجب القصاص عليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجب، وهو القياس، وبه قطع المراوزة؛ فإن القاتل من المسلمين، والرجم ثابت لله تعالى.
والثاني: يجب القصاص؛ فإن استيفاء الحد مفوّضٌ إلى الإمام، وأيدي الكافة مصروفة مكفوفة عنه، كما أن استيفاء القصاص مفوض إلى مستحقه، فلو قتل ملتزمَ القصاص من لا يستحق القصاص، التزم القصاص.
هذا قولنا في اختلاف الدين.
10265- ورأيت لأئمة المذهب تردداً في مسألة أَصِفُها، وهي أن الذمي لو قتل ذمياً، ثم أسلم القاتل، فالقصاص لا يسقط، كما قدمناه، ويتولى استيفاءَ القصاص بعد الرفع إلى السلطان أولياءُ القتيل، وإن كانوا كفاراً، فلو مات ولي الدم، وخلفه كافر، فهل يرث القصاص الذي وجب له على مسلم في صورة الدوام؟ ذكروا في ذلك وجهين: أقيسهما- أنه يرث ويحل محل الموروث، وقد كان كافراً.
والثاني: لا يرث القصاص؛ فإن هذا استحقاق قصاص على الابتداء على مسلم، ويستحيل أن نثبت لكافر على مسلم قصاصاً ابتداء.
وهذا بعيد، والأصح الأول، وسنعيد هذا عند كلامنا في قتل الوالد ولده.
وقد انتجز القول في اختلاف الدين إسلاماً وكفراً.
10266- فأما الرق والحرية، فإذا قتل الحر رقيقاً: مكاتباً أو مستولدةً أو من بعضه رقيق، لم يستوجب القصاص بقتله ابتداء.
ولو قتل عبد عبداً، ثم عَتَق القاتلُ، لم يسقط القصاص عنه بالعتق الطارىء، قياساً على الإسلام الطارىء بعد القتل.
ولو جرح عبد عبداً، ثم عَتَق الجارح بعد موت المجروح وجب القصاص، ولو جرح عبد عبداً، ثم عتق الجارح، ثم مات المجروح على الرق، فيجري الوجهان في هذه الصورة.
ولو قتل من نصفه حر ونصفه عبد شخصاً على مثل حاله في الرق والحرية، فالذي ذكر العراقيون أن القصاص يجب لمساواة القاتل والمقتول في الصفة.
وقطع الققال والأئمة المراوزة، بأن القصاص لا يجب، واعتلّوا بأنا لو قتلنا هذا الشخص بذلك، لقابلنا حريةً برق؛ فإن الاستيفاء يقع على الإشاعة لا على التقطيع، فهذا إن قيل، فكل جزء منه مستوفىً في مقابلة الرق والحرية، ومقابلة حرّ بحر ورقيق، بمثابة مقابلة حر برقيق، والدليل على الشيوع في المقابلة أن من نصفه حر ونصفه رقيق إذا قتل شخصاً مثله، وآل الأمر إلى المال، فلا نقول: مقدار القيمة من الجزء الرقيق يتعلق بالمقدار الرقيق من الجاني، ومقدار الدية يتعلق بالذمة في مقابلة الحرية، بل يتعلق قسط من القيمة وقسط من الدية، بالرقيق على ما تقتضيه نسبة الحرية في القسمة، فنتبين أن التقابل على هذا الوجه يقع، فلو اقتصصنا، لأدى إلى مقابلة الحرية بالرق لا محالة.
ثم يتفرع على هذين الوجهين أن القاتل لو كان عشرة أجزاء، فلا قصاص على طريقة المراوزة؛ لأن من ضرورة المقابلة ما ذكرناه.
والعراقيون يشترطون في إجراء القصاص أن يكون الجزء من القاتل مثل الجزء من المقتول.
وإن كان المقدار الحر من المقتول أقل، والمقدار الحر من القاتل أكثر، فلا يَجْر القصاص للتفاوت الظاهر في الحرية، والفضيلةُ الزائدة المعتبرة في القاتل تمنع وجوب القصاص لا محالة.
والمستولدة مقتولة بالرقيقة القنة، والمكاتب مقتول بالعبد القن، ولا نظر إلى ما كان يتوقع فيهما من حرية.
ولو قتلت مستولدةٌ رقيقاً، ثم لم يتفق الاقتصاص حتى عَتَقت، فلقد كانت مستحقة العتاقة لما قتلت، وقد تحقق الآن ذلك العتق، فالقصاص لا يسقط بالعتق الطارىء، ولا نظر إلى كون العتق مستحقاً؛ فإن هذا لو كان معتبراً، لمنع استيفاء القصاص، وإن لم يتحقق العتق.
ولو قتل حر ذميٌّ عبداً، ثم نقض العهد، والتحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وأُرق، فلا قصاص عليه؛ نظراً إلى حريته حالة القتل.
10267- ومما نختم به هذا الفصل أن الفاضل من الصفات المرعية لا يقتل بالمفضول، والمفضول يقتل بالفاضل.
والكافر يقتل بالمسلم، والعبد يقتل بالحر.
ولا يتطرق الجبر إلى الصفات المعتبرة، فلو قتل حرٌّ كافر عبداً مسلماً، لم يقتل به، ولو قتل عبد مسلم حراً كافراً لم يقتل به، وهذا وإن كان من الجليات، فهو غريب في المسائل: شخصان يتفاضلان لا يجري القصاص بينهما في الطرفين جميعاً، وسبب ذلك أنا لم نجبر نقيصةً بفضيلة فيما نحن فيه، وقد ذكرنا في كفاءة النكاح في بعض الصفات أن الجبر قد يتطرق إليه.
وهذا لا يجري في هذا الفصل.
فصل:
قال: "ولا يقتل والد بولد... إلى آخره".
10268- الوالد لا يقتل بولده. وقال مالك: إن حذفه بالسيف، لم يلزمه القصاص وإن أضجعه وذبحه، التزم القتل حدّاً، ثم معتمد الشافعي الخبرُ، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل والد بولده» ثم لا خلاف أن الأم بمثابة الأب في أنها لا تستوجب القصاص بقتل ولدها، واتفق الأصحاب في طرقهم على أن الأجداد وإن علَوْا، والجدات وإن علَوْن بمثابة الأب والأم، فمن قتل ولده أو حافده، لم يستوجب القصاص.
وقد ذكر صاحب التلخيص قولاً أن اندفاع القصاص يختص بالأبوين: الوالد والوالدة، ويجب القصاص على الأجداد والجدات إذا قتلوا أحفادهم، وهذا قولٌ غريب ردّه الأصحاب، ولم يقبلوه منصوصاً ولا مخرّجاً، ولعله استنبط هذا من قول الشافعي رضي الله عنه في الرجوع في الهبة: "يختص به الأبوان ولا يثبت لغيرهما" وهذا ليس على وجهه؛ فإن الذي يليق بالهبة منع الرجوع، والاقتصارُ على مورد الخبر، والذي يليق بالقصاص إذا تمهد فيه دافعٌ يدرأ العقوبة ألا يخصص.
واعتمد الشافعي في هذا الأصل ما روي «أن رجلاً من بني مُدْلِج حذف ساقَ ابنٍ له بالسيف، فأَطَنَّه، فنزف الدم ومات، فجاء سراقةُ بنُ مالك بن جُعشم سيد بني مدلج إلى عمرَ رضي الله عنه وأخبره، فقال عمر: اعدُدْ لي على ماء قُديد مائة وعشرين من الإبل، لأَعْدُوَ، فعدا عليهم وأفرد منها مائةً، ثم قال: أين أخ المقتول؟ فقال: ها أنا يا أمير المؤمنين، فقال: خذها إليك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقاد والدٌ بولد، وليس للقاتل من الميراث شيء» وقوله: لا يقاد والد بولد يعمّ كلَّ قتلٍ من غير فصلٍ وفرقٍ.
10269- والابن مقتول بأبيه وفاقاً، ولا يُقطع واحد منهما بسرقة مال صاحبه، والابن محدود بالزنا بجارية أبيه، والأب مخصوص باندفاع الحد عنه إذا وطىء جارية ابنه، وسبب اندفاع القطع من الجانبين ثبوت حق النفقة لكل واحد منهما إذا أعسر وصاحبه موسر، وسبب اختصاص الأب بانتفاء الحد عنه، إذا وطىء جارية ابنه أن له في مال ابنه حقَّ الإعفاف.
وأما القصاص، فلا يستدّ فيه معنى معتبرٌ، والمعوّلُ فيه الخبر.
ثم المذهب الذي عليه التعويل: أن القصاص لا يجب على الأب.
وذكر بعض أئمة المذهب أن القصاص يجب عليه ويسقط، وزعموا أن سبب الوجوب التساوي مع كَوْن القتل موجباً للقصاص؛ ولذلك يجب القصاص على شريك الأب دون شريك الخاطىء- ولكن يتعذر استيفاؤه؛ فإن الإقدام على قتل الأب بسبب الابن نهايةُ الإهانة، فسقط القصاص بتعذر الاستيفاء.
وهذا حشوُ الكلام، ولست أحكي مثله إلا مع المبالغة في التنبيه على سقوطه، حتى لا يجري كل منقول على نسقٍ واحد، فإذا كان الاستيفاء متعذراً، وهذا مقترن بالقتل، فاقتران المُسْقط يمنع الوجوبَ، ثم ما ذكره هذا القائل تحكُّم، ولو وجب القتل لاستُوفي.
10270- ثم كما لا يجب على الأب القصاصُ بقتل ابنه، وإدن كان مستحقُّ القصاص غيرَ الابن، فكذلك لو قتل مَنْ وارثه ابنُه، لم يجب القصاص عليه، فكما يمتنع وجوب القصاص بقتل الابن يمتنع وجوب القصاص بقتل مَنْ وارثه الابن، ولو كان للمقتول ورثةٌ أحدُهم الابنُ، لم يجب القصاص أيضاً، فإن وراثته من المسقطات، فإذا اجتمع المسقط والموجِب، مع اتحاد القصاص غُلّب المسقط وينزل هذا منزلة ما لو ثبت القصاص لجمعٍ، فعفا واحد منهم، وأصرّ الباقون على طلب القصاص، سقط القصاص بعفو من عفا، وآل الأمر إلى المال.
ومما يليق بذلك أن القصاص لو وجب، ثم طرأت وراثة الابن فيه، سقط القصاص بطريان وراثة الابن فيه، مثل إن قتل ابنَ معتَقِ ابنهِ، ووجب القصاص لعتيق الابن، فلو مات معتَقُ الابن وورثه الابن، فيسقط القصاص.
وهاهنا لطيفة في المذهب، وهو أن الوجه أن نقول: ورث القصاصَ وسقط؛ فإنه لو لم يرث، لما سقط القصاص، فإن الابن يخرج عن كونه وارثاً على هذا التقدير، وإذا لم يرث ورث غيره، ثم كان يستوفي القصاص.
فمن قال: يجب القصاص على الأب بقتل الابن ويسقط، قد يتعلق بهذا؛ فإن الابن يستحق القصاص، ولكن يقال له: سبب سقوط القصاص استحقاقُه، وهو بمثابة جريان ملك الرجل على قريبه الذي يَعتِق عليه، لمّا لم يتصور العتق إلا في الملك، ثبت الملك، ليترتب عليه العتق، وهذا لا يتحقق في قتل الوالد ولده، فإنا لو أوجبنا القصاص ومستحقُّه ليس ابناً لاسْتقر الوجوب. نعم، إذا قتل من وارثه الابن، فالوجه هاهنا أن يقال: يجب ويسقط، فإن السقوط يستدعي الثبوت، ولو لم يثبت أصلاً، لخرج الابن عن كونه وارثاً.
ولو قال قائل: يمتنع ثبوت القصاص لانسداد طريق الإرث فيه مع أن الابن من أهل الإرث، لما انتظم الكلام، ولوجب إقامةُ غيرِ الابن في الوراثة مقامه، وكان شيخي يميل إلى أن من قتل مَنْ وارثه الابن، لم يجب القصاص، لامتناع الوراثة، مع استجماع الابن شرائطَ الوراثة.
10271- ومما نذكره متصلاً بهذا أن من وجب عليه القصاص، ثم مات مستحق القصاص، وكان هذا القاتل وارثَ ولي المقتول، فيسقط القصاص؛ فإنه يصير مستحقَّ دمَ نفسه، وإذا كان طريان إرث الابن يُسقط، فطريان إرث من عليه القصاص أولى بإسقاط القصاص.
ثم ليت شعري ماذا نقول في هذا الطريان؟ أيصير مستحقاً لقتل نفسه ثم يسقط؟ أم يسقط القصاص بامتناع الوراثة؟ الوجه أن نقول: يستحق ويسقط، وهذا كما لو اشترى العبد نفسَه من مولاه، فقد قيل: يملك نفسه، ويترتب العتق عليه، ثم اضطرب الرأي في الولاء، فذهب الأكثرون إلى أن الولاء للسيد البائع؛ إذ يستحيل أن يثبت لإنسانٍ الولاء على نفسه، ومن شأن الولاء أن لا ينقطع، بخلاف الملك، ولابد من إثبات الولاء.
وذهب ذاهبون إلى أن الولاء لا يثبت أصلاً؛ فإنه يثبت لمن حصل العتق في ملكه، والعبد عَتَقَ من حيث ملك نفسه، ولو ثبت الولاء، لثبت له الولاء على نفسه، في تصرفٍ سيأتي في موضعه، إن شاء الله.
10272- فإذا تمهدت هذه الأصول، فإنا نفرع عليها فرعاً يهذبها، فنقول: أخوان لأب وأم، قتل أحدهما أباهما، والثاني أمهما، فالمسألة تتصوّر على وجهين:
أحدهما: أن تكون الأم زوجة الأب، والأخرى ألا تكون زوجته.
فإن كانت زوجته، فالفتوى أن القصاص يسقط عن قاتل الأب، ويجب له على قاتل الأم القصاص بقتل الأم، وليقع الفرض فيه إذا تقدم قاتل الأب بالقتل، والتعليل أن القصاص وجب على قاتل الأب ووَارِثُه الأمُّ والأخُ، وهو لا يملك من دم أبيه شيئاً؛ فإنه قاتل، والقاتل لا يرث، فلما قتل الثاني الأمَّ، فقاتل الأم لا يرث من القصاص شيئاً، ويستوجب القصاص، وقاتل الأب يرث الأم لا محالة، ومن جملة حقوقها القصاص الذي وجب على قاتل الأب، فيصير وارثاً لبعض دم نفسه، وقد تمهد أن من ورث دم نفسه أو بعض دم نفسه، فيسقط القصاص عنه.
ولو سبق قاتل الأم، ثم صدر القتل من قاتل الأب والزوجيةُ قائمة، انعكس الترتيب، وطريق الجواب إسقاط القصاص عن السابق، ثم يجب للأول على القاتل الثاني القصاص؛ لأنه يرث المقتول الثاني وقاتله لا يرثه.
هذا إذا كانت الزوجية قائمة أما إذا لم يكن بينهما زوجية، وترتب القتل على ما ذكرناه، فيجب لكل واحد من الأخوين القصاص على صاحبه.
ثم قال الأصحاب: إذا سبق أحدهما بقتل الأب، فنبدأ في استيفاء القصاص به لأنه بدأ بالقتل، وسبق إلى التزام القصاص، ثم إذا استوفى قاتل الأم القصاص من قاتل الأب، فهل يرث هو منه أم لا؟ فعلى وجهين؛ فإنه مقتصٌّ وإن كان قاتلاً، وقد نقل الأصحاب قولين في المسألة: فأنبه عليهما وأعبر عن مرادي بما يناسب، فإن قلنا: إنه يرثه، فمن حقوقه دم هذا المقتص، فيرث بعضَ دم نفسه أو تمامَه، فيسقط عنه القصاص.
وإن قلنا: لا يرث، فلا يسقط عنه القصاص، فيستوفي وارثُ قاتلِ الأب القصاصَ من قاتل الأم.
هذا ما ذكره الأصحاب.
10273- وفيما ذكرناه تأمل على الناظر، وذلك أنا إذا قلنا: إذا سبق أحدهما بالقتل، فالبداية في استيفاء القصاص به، ويعترض على هذا أنه لو قَتَلا الأبوين كذلك، فقد تحقق القصاص عليهما جميعاً، وتقدُّم أحد الحقين بالوجوب لا يوجب التقديمَ؛ فإن من أتلف مال رجل، ثم أتلف مال آخر، وضاق ماله عن الغُرمين، لم يقدم أولهما. نعم، إذا قتل رجل جماعة ترتيباً، فحق طلب القصاص لأولياء القتيل الأول، وهو أحق في التقدم، والسببُ فيه أن دمه صار في حكم المرتهَن بقصاص القتيل الأول، وفي مسألتنا وجب قصاصان على شخصين، وهذا محل التأمل.
فالذي ذكره بعض المصنفين: "أن حق الطلب لمن سبق استحقاقه، فالمطلوب من سبق منه القتل". ولهذا وجهٌ على حال؛ فإنا لو لم نقل بهذا، لثبت الطلب لكل واحد منهما على صاحبه، ويستحيل أن نقف في موقف القائلين بالوقف في القتل، وإذا عَسُر هذا ولا وجه لإسقاط القصاص، فلا ينقدح فيه إلا القرعة، وللقرعة جريانٌ في التقديم والتأخير، وهي في هذا المقام من الأصول التي تطّرد.
ولو قتل رجل جمعاً دفعة واحدة، فلا نسلمه إليهم، بل نَقْنع بالقرعة بين الأولياء.
وإذا تمهد هذا، ترتب عليه أن ما نقدم القرعة فيه عند الاجتماع، يجوز أن نقدم فيه السبق، كالازدحام على مجالس القضاة؛ فإن السبق لمن سبق، وإن فرض ازدحام، فالتقدم لمن تخرج القرعة له. هذا وجه.
وإن استعظم الفقيه هذا لما فيه من الخطر العظيم؛ فإن السابق يُقتل، ثم يسقط القصاص عن اللاحق. قلنا: نعم هو كذلك، وليس يلتزم مثله في القرعة، فإذا كانت القرعة تؤدي إلى ما استنكره هذا القائل، فليُحْتَمل مثلُه فيما ذكرناه.
وذهب ذاهبون إلى أن السبق لا أثر له في الباب، وإليه إشارة القاضي، ونفْيُ أثر السبق بيّنٌ في القياس، وإذا قوبل هذا القائل بالقرعة، كان من جوابه عنها: إن القرعة تُبطل الاختيار في التقديم والتأخير، فنتبعها في الضرورة.
وحيث أقمنا للسبق أثراً، أو رُددنا إلى القرعة، ثم أقرعنا، وتبين المطلوب، وتعين الطالب بأحد المسلكين، فابتدر المطلوبُ وقتل الطالبَ، وقع قتله إياه قصاصاًً، فانعكس الأمر، وثبت لهذا القاتل ما كان يثبت له لو كان هو الطالب؛ فإن القرعة لا تقلب الاستحقاق، ومن قتل جماعة على الترتيب، وصرنا إلى أنه مسلّم إلى أولياء الأول، فلو ابتدر أولياء القتيل الأخير وقتلوه، كان قتلهم إياه قصاصاً مستحقاً، ويتعرضون للتأديب إذا فارقوا ما رُسم لهم.
10274- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن الأخوين إذا ابتدرا قتل الوالدين معاً، فسواء كانت الأم تحت الأب، أم لم تكن، فيجب القصاص لكل واحد منهما على صاحبه، وذلك أن المقتولَيْن-وإن كانا على الزوجية- فإذا وقع موتهما معاً لم يتوارثا، فلا فرق بين أن ينقطع الميراث بينهما بهذا السبب وبين أن ينقطع بعدم الزوجية، ثم القول في وجوب القصاص عليهما على ما رتبناه، ثم الكلام فيمن به البداية على ما سبق.
ورأيت في مرامز كلام الأصحاب ما يدل على الإضراب عن القرعة، والقاضي لم يذكرها، واقتصر على أن قال: لو ابتدر أحدهما وقتل صاحبه، كان كذا وكذا، وهذا فرار من الزحف، فإذا جاءا وكُلٌّ بطلب صاحبه، فما الجواب؟ ولا سبيل إلى تسليطهما على أن يتناجزا بالسيف، ولا سبيل إلى إسقاط القصاص، وإذا قلنا: من ابتدر منكما وقتل، فحكمه كذا، فيبتدر كل واحد منهما إذا علم المبتدر أنه الفائز، فلا وجه عندنا إلا القرعة. والعلم عند الله.
فصل:
10275- مولودٌ مشكلُ النسب ادعاه رجلان، واحتمل أن يكون من كل واحد منهما، فإذا لم نجد القائف، وانحسم مسلك البيان، فلو قتله أحدهما في حال قيام الإشكال، فلا قصاص، لاحتمال أن يكون أباه، وقد صدر من كل واحد منهما ما يثبت الأبوة لو انفرد وهو الدِّعوة، وقد ثبتت أبوّة مبهمة وأشكل الأمر.
ولو جرى القتل من أحدهما، ثم تبين بقول القائف، أن الأب هو الثاني، نوجب القصاص على القاتل؛ لأن الأبوة إذا ثبتت في حق أحدهما، انتفت في حق الثاني.
وقد تتفرع صور ناشئة من لحوق النسب، في التناكر والتداعي وإقرار أحدهما مع إنكار الثاني، وهي بجملتها مضمونُ باب الدِّعوة، وحظ هذا الفصل منها أن من ثبت نسبه، انتفى القصاص عنه، إذا كان قاتلاً، وإن استبهم الأمر، انتفى القصاص أيضاً عند ثبوت سبب النسب، وقد يكون دِعوة وقد يكون فراشاً.
ولو اجتمعا عليه فقتلاه، فلا قصاص على واحد منهما، ولو بان أن الأب أحدُهما بعد القتل، فلا قصاص على الأب منهما، وعلى الثاني القصاص؛ فإن شريك الأب يلزمه القصاص، كما سيأتي شرح أحكام الشركاء.
فصل:
10276- الرجل مقتول بالمرأة والمرأة مقتولة بالرجل، ولا أثر للذكورة والأنوثة في القصاص، وإن كانا يؤثران في تفاوت البدل، ولو كان للقياس مضطرب في الباب، لكانت الأنوثة والذكورة مؤثرتين في القصاص كأئرهما في البدل، سيّما على مذهب من يرعى الكفاءة بين القاتل والمقتول، ولا يرى قتل الفاضل بالمفضول، ولمّا قابل الله تعالى الحرّ بالحر والعبد بالعبد، قابل الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا قتل الرجل المرأة تخير أولياؤها بين أخذ ديتها، وبين أن يُعطُوا نصف دية القاتل ويقتلوه بها، وإن قتلت المرأة الرجل، تخير أولياؤه بين أن يأخذوا جميع ديته وأن يأخذوا نصف دية الرجل مع القصاص، وجعل التفاوت في البدل في هذا أقيس كالتفاوت في أصابع اليد، ونحن قد نجمع بين استيفاء القصاص وبين الدية فيما لا نجده من يد الجاني المقتص منه، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل.
والممكن في الباب أن القصاص وإن كان حقا ثابتاً للآدمي، فليس هو على قياس الحقوق؛ فإن من أتلف على إنسان مالاً يغرَم له ما يجبر الفائت، فإذا قتل القاتلَ، فلا جبران فيه، وهو على التحقيق يناظر حقاً للآدمي تعلّقُه بطلبه، وسقوطه بإسقاطه، وحظُّه الخاص منه شفاء الغليل، والغرض الأظهر منه الزجر وإقامة العصمة وتحقيقها، والذكورة والأنوثة لا يوجبان تفاوتاً في العصمة بخلاف الكفر والإسلام والرق والحرية.
فصل:
قال: "وفي العبد قيمته، فإن تلفت ومات... إلى آخره".
10277- من قتل عبداً خطأ، أو قتله عمداً، وآل الأمر إلى المال، فالواجب قيمة العبد بالغةً ما بلغت، وإن بلغت دياتٍ، خلافاً لأبي حنيفة، ومعتمد المذهب أن من يُتلف الماليةَ ملتزمٌ جبرانها، وسبيل الجُبران التزامُ ترك ما فات بكماله.
ثم قد قال بعض أصحابنا: إن قُتل العبدُ قَتْل القصاص واستُوفي القصاص من القاتل، فالعبد مضمون بالدّمية، فإن آل الأمر إلى المال، انقلب الضمان إلى المالية وكان المضمون منه وهو مملوكٌ ماليةً، كما لو تلف تحت يد غاصب، وهؤلاء يزعمون أن العبد فيه الدّم والمال، فإذا أفضى الأمر في ضمانه إلى المال، زال معنى الدّمّية وتمحض معنى المال.
وذهب المحققون من الأئمة إلى أن العبد المقتول مضمون ضمان الدّمية بدليل وجوب الكفارة ووجوب القصاص، وإذا كان مضموناً بالقصاص لو قتل عمداً، فالخطأ دمية أيضاًً اعتباراً بالحر يقتلُ عمداً وخطأ، ثم هذا القائل يقول: دمه مملوك، فيضمن لمالكه بقيمته بالغة ما بلغت، وتقرير ذلك في (الأساليب) وغيرها من مصنفاتنا.
فصل:
قال: "ومن جرى عليه القصاص في النفس... إلى آخره".
10278- كل شخصين جرى بينهما القصاص في النفس جرى بينهما القصاص في الطَّرَف، مع التساوي في الخِلقة والسلامة، وغرض الفصل أن تفاوت الشخصين في الدية إذا كان لا يمنع جريانَ القصاص بين النفسين لا يمتنع به جريان القصاص بين الطرفين، فيد الرجل مقطوعةٌ بيد المرأة، ويد المرأة مقطوعة بيد الرجل، كما أن كل واحد منهما مقتول بالثاني.
وعمدة المذهب أن الأطراف في توقيف الشرع وتقديره منزّلة على نِسب جزئية، فاليدُ محلُّ نصف الجملة واليدان في مقابلة تمام الجملة، فإذا ثبت ذلك توقيفاً، والجملة مقابلة بالجملة، فالأجزاء ينبغي أن تكون مقابلةً بالأجزاء؛ فإن من المقاييس الظاهرة في النِّسب أن الجملة إذا قابلت الجملة، فالنصف يقابل النصف، واليد السليمة من المرأة لا تقطع باليد الشلاّء من الرجل، وإن كان حكومة الشلاّء مثل دية اليد السليمة من الرجل؛ فإن النسبة متفاوتة، فإن اليد السليمة من المرأة نصفُها، واليد الشلاء من الرجل ليست نصفه. فهذا غرض الفصل.
ومذهب أبي حنيفة مضطرب في الأطراف، وليس يليق بذكره غرضٌ في مذهبنا، والقول في سلامة الأطراف وشللها وتفاوت خَلْقها بين أيدينا، وهي عمدة الكتاب وستأتي على أحسن وجه في البيان، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ويقتل العدد بالواحد... إلى آخره"
10279- إذا تمالأ طائفة على شخص، وقتلوه، وكل واحد من الجناة بحيث لو انفرد بالقتل استوجب القصاص، فيقتلون قصاصاًً على مذاهب جمهور العلماء، وروي أن سبعةً، أو خمسة اشتركوا في قتل رجل فقتلوه غيلة، فقتلهم عمر رضي الله عنه، وقال: "لو تمالأ على قتله أهل صنعاء، لقتلتهم به".
ثم الذي ذهب إليه طوائف من أصحابنا أن قتلهم بالمقتول خارجٌ عن القياس، وقال محمدُ بنُ الحسن: "لو رُددنا إلى القياس، لما قتلنا جمعاً بواحد، ولكنا اعتمدنا فيه مذهب عمرَ رضي الله عنه" وتحقيق ذلك: أنا نعتبر الكفاءة في الصفات مع الاستواء في العصمة، فإنه لا نقتل إلا قاتلاً، وكل واحد من الشركاء ليس قاتلاً؛ فإن القتل لا يتعدّد هذا وجه خروجه عن القياس.
وقال بعض أصحابنا: قتل الجماعة بالواحد خارج عن القاعدة الكلية المرعيّة في أصل القصاص؛ فإن القصاص لم يثبت على قياس الأعواض والضمانات الجابرة، وإنما الغرض الأظهر من القصاص الزجرُ ومنع الهرْج، ولو لم نقتل الجماعة بالواحد، لم نمنع الجناةَ التعاونَ على الجناية، ويصير ذلك ذريعةً عامة ممكنةً مُفضيةً إلى الهرْج، وتقدير هذا ودفع الأسئلة مذكور في (المسائل).
والذي يحقق الغرض في ذلك أن القواعد الكلية لا تزحمها الأقيسة الجزئية، وإن كانت جلية.
وقال مالك: إذا قتل جماعةٌ واحداً لم يقتلوا به، ولكن لأولياء القتيل أن يختاروا واحداً من الشركاء ويقتلوه، ولا مزيد على ذلك، وأُضيفَ هذا المذهبُ إلى الشافعي قولاً في القديم، وليس يليق بقاعدة مالك مذهبُه في هذه المسألة؛ فإنه مائل إلى السياسات، وقد يرى القتل تعزيراً، ومتعلّقه في هذا الفن أقضية عمر وسياساته، وقد روينا عن عمر قتلَ الجماعة بالواحد، فالتخيّر أقصى وأبعد في القتل من ذلك، ثم من يُقْتَل لم يصدر منه القتل بكماله، ثم قَتْلُ هذا في التحقيق مقابلة قتلٍ حاصل بجزءٍ من القتل.
ثم ذهب الأصحاب قاطبةً أن الجماعة إذا قُتلوا بالواحد، فكل واحد منهم مقتول قصاصاًً، وقال الحليمي: إذا قتل عشرةٌ رجلاً، فالقصاص مفضوضٌ عليهم، والمستحق قصاصاًً من كل واحد منهم عُشر دمه، وتسعةُ أعشار دم كل واحد مُهدرٌ في استيفاء المقدار المستحق. قال: ولا يمنع أن تُتلف على المتعدي ما لا يستحق عليه توصّلاً إلى استيفاء المستحَق؛ فإن من غصب شيئاً وأدخله داره وأغلق الأبواب وامتنع المصيرُ إلى المستحَق إلا بقلع الأبواب، فإنها تقلع للتوصل إلى استرداد المغصوب.
وهذا المذهب ساقط غير معتد به، فإن إراقة تسعة أعشار الدم من غير استحقاق من القصاص محال، ولو قطع رجل يدَ رجل من نصف ساعده، فلا يجري القصاص فيه مخافة أن يزيد الاقتصاص على الجناية بجزء-وإن اعتدى الجاني- فكيف يجوز إراقة الدم من غير استحقاق القصاص، وإن تمسك الحليمي بالدية، فإنّ الأمر لو آل إليها، فعلى كل واحد من العشرة عُشر الدية، وهذا لا تعويل عليه، فإن كل واحد من الجناة وإن كان يغرَم عُشرَ بدل المقتول، فكل واحد من الجناة يقابِل كلُّ دمه عُشرَ دم القتيل، كما يقابل الرجلُ في القصاص المرأة، وإن كان يغرَم ديةً ناقصة إذا آل الأمر إلى المال.
10280- وممّا يتعلق في الفصل بيان الاشتراك وما يُرعى ضرورةً من كل واحد، فإذا جَرَحَ واحدٌ منهم جراحاتٍ، وجَرَح واحدٌ جراحةً، فهم مشتركون، ولا أثر لعدد الجراحات، ولو فرض من بعضهم ضربةٌ بسوط، ومن الآخرين ضربات بسياط، فهذا الفن يأتي-إن شاء الله عز وجل- مشروحاً في بيان الشركة وانقسامهم إلى العامدين والمخطئين، وعند ذلك نوضح أفعال الشركاء، إن شاء الله عز وجل.
وما ذكرناه في قتل جماعةٍ واحداً، فأما قتل واحد جمعاً، فسيأتي بعد ذلك.
فصل:
قال: "ويُجْرحون بالجرح الواحد... إلى آخره".
10281- إذا قطع جماعة على الاشتراك طرفَ إنسان، قُطعت أطرافهم اعتباراً للطرف بالنفس، فكما يُقتل أشخاصٌ بشخص تُقطع أطرافهم بطرفه، ولكن إذا تحقق الاشتراك، وهو بأن يضعوا حديدة على يده ويتمالؤوا فيتحاملوا على الحديدة، والمعتبر في ذلك ألا يكون في الطرف جزء ينفرد بالجناية عليه بعض الجناة، فلو قطع جانٍ بعضَ يد المجني عليه، وقطع آخر التمامَ، فلا يستوجب واحدٌ قطعَ يده كاملأ؛ فإنَّ فِعْل كلِّ واحد منهما متميز عن فعل شريكه، وليس كما لو جرح بعضُهم جراحة، ثم جرح آخر؛ فإن زهوق الروح يحصل بالسرايات، وهي مختلطة لا تميز فيها، وإبانة اليد تحصل بالقطع المحسوس، والقطع متميز عن القطع.
وهذا يكاد يخرم تحقيق تشبيه الطرف بالنفس؛ فإن سبيل التشبيه أن النفس صِينت بالقصاص في الاشتراك والانفراد، فليكن الطرف كذلك، وسر الفصل ينتهي إلى حسم الذريعة المفضية إلى الهَرْج، فيلزمه على خوف الهرج اعتبار الاشتراكِ مع انفصال القطع عن القطع.
وقد قال صاحب التقريب: يقطع من يد كل جان مقدار ما قطع مع الاقتصار على القدر المستيقن، وهذا أخذه من قول الشافعي: في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة من شجاج الرأس.
ووجه التشبيه أن القصاص يجري في الموضحة، والمتلاحمةُ بعضُها، فالإبانة كالإيضاح، وقطع بعض اليد بمثابة المتلاحمة، وهذا الذي ذكره ظاهر في التقريب والبناء، لمن لا يتفطن الأسرار في الأعواض؛ وذلك أن جلدة الرأس وما عليها من لحمٍ، أجزاؤها متساوية؛ فإنها جلدٌ ولحم، فليس فيها أعصاب وعروق، وهي جداول الدم، والعروقُ الرقاق لا معتبر بها أصلاً، فيتأتى رعاية القصاص فيها، ومعصم اليد مشتمل على أعصاب ملتفّةٍ وعروقٍ ساكنة وضاربة، ويختلف وضعها في الأيدي، فلا يتأتى إجراء التماثل فيها. وسأعيد ذكر هذا في الأطراف وقصاصها-إن شاء الله عز وجل- وما ذكرناه يوضح قدر الحاجة الآن، ويُبطل مسلك صاحب التقريب.
ولو وضع أحد الجانيين الحديدةَ من أحد جانبي اليد، ووضع آخرُ حديدةً من الجانب الثاني، فالقطع منفصل عن القطع.
ولو كانا يُمرّان حديدةً واحدة إمرار المنشار، فهذا يصور على وجهين:
أحدهما: أن يتحامل الشريكان في كل مرة، والآخر أن يفتر أحدهما في الجذب في جهة صاحبه، ثم يجذب في جهة نفسه، كما يفعله المتعاونان في المنشار، فإن كان كذلك، فلا يجب القصاص على واحد منهما، ولا تعويل على ما ذكره صاحب التقريب، فإنه غير ممكن أيضاً وما ذكرناه كلامٌ في قطع أطراف من مشترِكين في الجناية بطرف.
فأما إذا قطع رجل أطرافاً، فسيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
10282- ثم قال الشافعي: ولا يقتص إلا من بالغ عاقل، وهذا قد قدمنا ذكره في صدر الكتاب، وأوضحنا أن سقوط التكليف بالصبا والجنون ينافي وجوبَ القصاص، وهو متفق عليه. أما المجنون، فلا يتأتى زجره، وتقديرُ القصاص عليه كتقديره على البهائم.
فأمّا المراهقون، فإنهم ملتحقون بالمجانين في العقوبات.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا عمد رجل رجلاً بسيف أو خنجر...
الفصل".
10283- الجنايات في القتل والجرح ثلاثة أقسام: أحدها: ما يتمحض عمداً، وهو الموجب للقصاص.
والثاني: الخطأ المحض، وموجبُه الديةُ المحققةُ المضروبةُ على العاقلة.
والقسم الثالث: شبهُ العمد، وموجبه الدية المغلظة على العاقلة، والذي يتعلق بغرضنا في الباب بيان العمد المحض، وقد يتعلق بأطراف الكلام شبهُ العمد، فأما الخطأ المحض، فليس من مقصودنا، وسنصفه بما يضبطه ويميزه من القسمين: العمد وشبه العمد، في كتاب الديات، إن شاء الله عز وجل.
والكلام في العمد أطلقه الأصحاب وتخطَّوْه، ولم يَشْفوا الغليل فيه، وليس الكلام فيه بالهيِّن، ونحن بعون الله وحسن توفيقه لا نألو جهداً في بيانه وكشفه.
والتقسيم الأوّلي فيه أنه ينقسم إلى قتلٍ مذفِّفٍ، وإلى سبب سارٍ، فأما القتل المذفِّف، فلا يُحوج إلى الإمعان في الوصف، وهو كضرب الرقبة والتوسيط، وإبانة الحشوة، ومِنْ حاله أن يُنهي المجني عليه إلى الانطفاء وقبض النفس، وقد يجمد، وقد يبقى فيه ارتعاصُ مذبوح، ويلتحق به أن يكب الجاني على المجني بآلةٍ جارحة أو غيرها، متوالياً عليه بها إلى الحزّ.
10284- فأما الأسباب السارية، ففيها الكلام، ولأجلها عُقد الفصل، والتوصية بصدق الاهتمام.
فنقول أولاً: ما يقع عمداً محضاً منها لا يختص بما يجرح ويشُقُّ، بل المثقَّلات، والتخنيق، والتغريق، كلُّها داخلةٌ في أجناسها تحت العمد، خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنه قال: لا عمد إلا فيما يجرح، ولا يجب القصاصُ بغير الجرح، ثم لم يخصص وجوبَ القصاص بالجَرْح على من يُوجب اعتقادَ تعمد، بل زعم أن التعمد لا يتحقق إلا بالجَرْح، وزعم أن القتل بالخنق شبه عمد، وضَرَب الدية على العاقلة، وأوجب الكفارة، ولا تجب عنده في العمد المحض، وهذا خروج عظيم عن المعقول وانتهاء إلى مسالك السفسطة.
ومن أنكر التذفيف في الخنق، والموالاة بالمثقلات، فقد عاند بديهة العقل، وإذا ثبت التذفيف، فكيف يعقل الإقدام على التذفيف والتجهيز مع الحكم بأن هذا ليس بعمد؟ ثم تولّع بالجَرْح والجرحُ تقطيع، ولو والى بالمثقلات على إنسان حتى ترضضت عظامه وراء الجلد، فقد حصل التقطّع، وبالجملة مذهبه خارج عن مسالك العقول.
10285- فأما ضبط مذهبنا، فالكلام ينقسم في الأسباب غير المذفِّفة: إلى ما يتعلق بالظواهر ولا يجرح، وإلى الجراحات.
فأما ما يتعلق بالظواهر، فالذي أطلقه الأصحاب فيه أن كلَّ ما يُقصد به القتلُ غالباً، فهو العمد إذا تجرد القصد إليه، ثم سنوضح أن هذا يختلف باختلاف الحال والأشخاص والأوقات.
وما لا يقصد به القتل غالباً، فليس بعمد، وإنما هو شبه عمد، وكان شيخي يقول: العمد المحض في هذه الأسباب يتحقق فيما يكون القتل مقصوداً به، وشبه العمد ما لا يكون القتل مقصوداً به، ثم قد يفضي إلى القتل، وهذا كلام منتظم في هذا القسم، ولم نذكره لنعوّل عليه، وبيان الفصل موقوف على نجازه.
فأما الجراحات، وفيها معظم المقصود، فقد أطلق الأصحاب أن من قطع إصبعاً أو أنملةً، وسرت الجراحةُ، وترامت السراية إلى الزهوق، فالقصاص واجب في النفس، ونحن نعلم أن إفضاء قطع أنملة إلى الروح لا يعد مما يغلب، بل هو نادرٌ، فلا يطَّرد إذاً في الجراحات ما ذكرناه من الأسباب المتعلقة بالظواهر من قصد القتل غالباًً، وهذا مما يتمسك به أصحاب أبي حنيفة في مسألة القتل بالمثقل، ولا شك أن أمثال ما ذكرناه في الجراحات ليس مما يقصد به القتل، وتعلّقَ القصاصُ به، فتبين أن القصاص نيط بالجرح بعينه، وأنه سبب القصاص لا غير، وهذا مما استقصينا الكلامَ عليه في (المسائل).
وكان شيخي يقول فيه: خص الشرع الجرح بمزيد احتياط لما فيه من الإفضاء إلى السرايات الباطنة التي لا يدرك منتهاها، وأوجب القصاص في قتيل الجرح الذي يسري؛ ردعاً للجناة وتغليظاً عليهم، وكأن الجرح الساري لم يُرع فيه قصدُ القتل لاختصاصه بمزيد الغرر والخطر، وفيما يتعلق بالظاهر يُرعى فيه قصد القتل بما يقتل غالباً.
هذا ما كان يذكره. وفيه فضل نظر؛ من جهة أن القصاص يتعلق بالعمد بالإجماع، والعمد بالفعل المحض غيرُ كافٍ، ولابد من العمد في القتل، ويستحيل أن يختلف هذا بالأسباب؛ فإنه أمر متعلق بالحسّ والأحكام منوطةٌ بالمحسوسات، وإيجاب القصاص بقطع أنملة لا توقيف فيه من الشارع، وإنما تلقاه العلماء من تصرفهم، في العمد، فلابد من ضبطٍ آخر سوى هذا.
والذي تحققناه من نص الشافعي في (السواد)، ومن تصرف المحققين ما نصفه في الجراحات أولاً، ثم ننعطف على الجنايات المتعلقة بالظواهر، ونبين اندراج جميع الأسباب تحت ضبطٍ واحد.
10286- أما الجرح، فكل ما أفضى إلى القتل، وبانت سرايته، وظهر تقاذف أثره، وتراقي سرايته إلى الهلاك، فهذا جرح نعلم أن القتل حصل به، وقد وقع عمداً، وصار قتلاً، والسراية تكسب معه الجناية إذا تحققنا أنه القاتل، وقد انتظم أن يقال: قَتَل، وأوقع الفعلَ عمداً.
وهذا يناقض ما مهدناه من قبل من كون الشيء مفضٍ إلى القتل غالباًً، ونحن ننقل لفظ الشافعي رضي الله عنه في ذلك، قال الشافعي: "فجرحه جرحاً كبيراً أو صغيراً، فمات منه، فعليه القود" وقوله: "فمات منه" ظاهرٌ في أن المطلوب أن يُعْلَم أنه مات منه.
فإذا بان هذا في الجرح، انقلبنا إلى الأسباب المتعلقة بالظاهر، كالضرب بالسياط، فنقول: إذا ضرب الرجلُ الرجلَ ضربات، واتفق الموت، لم يظهر الحكم بوقوع الموت، من تلك الضربات، وإذا كثرت الضربات، وورّمت المواضع أو قيَّحتها وترامت الآثار، كما وصفناه في الجرح؛ فإذ ذاك نعلم أن الموت بها. ومن العبارات الرشيقة في ذلك: "أن سرايات الجروح باطنة والجرح في نفسه ينتهي إلى الباطن، وأثره ظاهر، ووقوع القتل به بيّن، والأسباب على الظواهر ظاهرة، وغَررُها باطن" على معنى أنا لا نقطع على وقوع الموت بها إلا إذا تفاحشت.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن المرعي في الجَرْح، والسبب المتعلق بالظاهر أن نعلم بوقوع الموت به.
10287- وهذا لا يصفو عن الكدر إلا بشيئين:
أحدهما: أنْ نصف شبهَ العمد؛ حتى يتضح في نفسه مقصوداً، ونَعْبُر إلى العلم بالعمد.
فإذا جرى سببٌ على عمد، ولا يمتنع وقوع الموت به مترتِّباً عليه، ولكنا لم نعلم ذلك، ولم نُبعده، ولم يحدث سببٌ غيرُ الجناية نحيل الموتَ عليه، فهذا أمر مشتبه، والضمان في الجنايات يجب مع الشبهة، ويحال على الجناية، ومن جنى على امرأة فأَجْهَضَت جنينها، فلسنا نعلم أن الإجهاض بالجناية، ونوجب الغُرّةَ إحالةً على الجناية إذا لم يظهر سببٌ غيرُها.
هذا أحد الأمرين.
والثاني: ذكر مسائل توضح ما مهدناه، منها: أن من غرز إبرة في إنسان، قال الأصحاب: إنْ غرزها في مقتل كثُغرة النحر، والأَخْدَعَين، والمثانةِ، والعِجَان، وما في معانيها، فهذا مما يوجب القصاص.
وأما غرز الإبرة في غير مقتل كأن كان في جلدة غليظة، فلا أثر لها.
ومما يتعين ذكره لتمام البيان أن ما يعلم قطعاً أن الموت لا يترتب عليه في مستقر العادة، فإذا قارنه الموت لم يُحَلْ الموتُ عليه، وإنما هو قضاء تداركه وفاقاً، ولا يتعلق بهذا القسم قودٌ، ولا ضمان.
10288- فالأفعال المعهودة ثلاثة أقسام: منها ما يعلم أن الموت حصل به، وهو القتل الموجب للقصاص.
ومنها ما هو معهود، والموت به ممكن، ولكنا لم نعلمه، ولم يظهر سببٌ سوى الجناية، فالضمان واجب، وحكم الشرع إحالةُ الموت على الجناية.
ومنه ما يعلم أنه لا يقع الموت به، فهو مهدر: لا يتعلق به قودٌ، ولا ضمان.
وإن اتفق اتصال الهلاك به، عُدّ ذاك من موافقة القدر، ولم يُنَط به حكم. وغرز الإبرة في الجلدة بهذه المثابة.
وإن غُرزت في لحمٍ، فقد قال الأصحاب: إن تورّم موضع الغرز، واتصل الموت به، وجب القصاص، وإن لم يتورّم موضع الغرز، واتصل الموت، وكان يجد المغروز فيه ألماً شديداً، ففي وجوب القصاص وجهان.
وقال بعض الأصحاب: الغرز في غير المقتل يعني غرزَ الإبرة إذا اتصل الموت به، وكان قد جاوزت الإبرةُ الجلدةَ، وتوغلت في اللحم، هل يوجب القصاص؟ فعلى وجهين من غير فصلٍ بين أن يتورم وبين ألا يتورم.
ونحن نقول: سبب اضطراب الأصول وتشوشها على الآخذين إرسالُ المسائل في الوفاق والخلاف من غير تعرضٍ لبيان مَنْشَئها من القواعد، وذكرُها دون ما ذكرناه يحسم بابَ النظر في الأصول، وما ذكرناه أصدق شاهد فيما أشرنا إليه.
والوجه أن نقول: ذكر الأولون التورّمَ، وعنَوْا به تقاذفَ السراية، وظهورَ ذلك للناظر، وهذا الذي قلنا فيه: إنه يُعْلَم حصولُ القتل به، فإن كان كذلك، تعلّق القصاص به، ومحل التردد أن الإبرة قد تصل إلى عصبة، فتؤلم، ولا يتسع الجرح حتى يظهر التورم، فهل يكون الألم الشديد من غير ظهور التورم-إذا لم يظهر سوى الغرز- بمثابة السراية في الحس، مع العلم بأن الآلام الشديدة قد يُقتل بها ويموت من تُعصر خصيته.
هذا محل التردد.
وإن لم يظهر تورّمٌ ولا ألم شديد، فليس إلا القطع بانتفاء القصاص.
وهذا تحقيق محل الوفاق والخلاف.
ولو أُبينت جِلْفةٌ من اللحم خفيفة، فهي كغرز الإبرة.
10289- وقد انتجز تمام البيان في ذلك ولا يعترض عليه شيء به احتقال إلا نصُّ الشافعي رضي الله عنه في الأطراف، فأنه قال: "لو جرح رجل يد رجل، أو أبان بعضها، فتأكّلت الجراحة، وأفضت إلى سقوط اليد، فلا قصاص" "ونصّ على أن من أوضح رأس رجل، فذهب ضوءُ عينه وجب القصاص".
فنصّه في نفي القصاص على الجرح المفضي إلى تأكّل العضو ينافي ما اعتمدناه في الجراحات، حيث قلنا: إذا تحققنا حصول الموت بالجرح، أوجبنا القصاص، وقد تيقّنا أن سقوط اليد ترتب على الجرح.
والذي أطلقه الأصحاب في ذلك أن أجرام الأعضاء لا تُقصد بالتأكّل كالروح تقصد بسراية الجراحات، والْتحق ضوء المناظر بالروح لمّا لطُف، وهذا مسلك رديءٌ، جدّاً.
وقد قال الشيخ أبو علي والعراقيون: من أصحابنا من جعل في سقوط الطرف وذهاب ضوء العين قولين: نقلاً وتخريجاً: أحد القولين- أن القصاص يجب فيهما، والقول الثاني- لا يجب القصاص فيهما.
ولا يوافقُ الأصلَ الذي مهدناه، وأردنا تنزيل المسائل عليه إلا إيجابُ القصاص في الأطراف واللطائف، جرياً على ما تقرر؛ وذلك لأن الأطراف معصومةٌ بالقصاص، قصداً، لا على سبيل التبع، ولذلك شبهها بالنفس في إيجاب القصاص على المشتركين وإن لم يصدر من واحدٍ منهما تمامُ الجناية، وتعلّقُ سراية الجراحة بجرح الجارح أعظم من تعلّق فعل الشريك بالشريك.
وإن قال قائلٌ: الأعضاء لا تقصد بالسراية، ويتيسر فرض قطع الأطراف على الاشتراك، فهذا الكلام وإن استقل يعضّد قطعَ الأنملة إذا أفضى إلى الروح، وإن قيل: الروح لطيفة، فأي فقه في لطفها وهي لا تقصد بقطع الأنملة غالباً؟ وليس تأكّل الجرح بأبعدَ من سريان قطع الأنملة إلى الروح، فإن كان الصحيح أن أجرام الأطراف لا تُضمن بالقصاص إذا سقطت بسراية الجراحات، فهذه غُصّةٌ في القلب، وحَسَكة في الصدر.
وقد انتهينا إلى منتهى الفكر، وـعـ ـر بأصل النظر.
10290- ونحن نذكر مسائلَ معظمها منصوصة بعد إتمام هذا، فنقول: معتمدنا في زهوق الروح بالجرح رؤيةُ السراية، وظهورُ التأكّل، فالزهوق؟ إذا كان مسبوقاً بالتأكّل في بعض العضو، فكيف لا يكون العضو مضموناًً بالتعفن؟ وهو طريق الموت.
ومما انتهى الفكر إليه، ثم لم يستقم أن قائلاً لو قال: المرعيُّ أن يخطر للجاني قصدُ القتل، وإن كان لا يغلب؛ فإنّ قطع اليد يمكن تنزيله على هذه المرتبة، فإنه وإن كان لا يغلب منه الموت، فليس يندر منه، وما كان كذلك لم يبعد قصد القتل به، ولكن قطع الأنملة لا يصدر من ذي عقل وهو يقصد به قتل المقطوع منه.
10291- ومن المسائل التي نذكرها: الإلقاء في الماء، والغرضُ منه يفصّله تقسيمٌ، فنقول: لا يخلو الإلقاء إما أن يكون في ساحل يفرض الخلاص منه وإما أن يكون في غمرةٍ ولُجة لا يفرض الخلاص منها، فإن كان الإلقاء في ساحلٍ، انقسم إلى ما لا يُغرق، وهو الضحضاح المخيض وإلى ما يُغرِق من لا يسبح.
فأما إذا كان الإلقاء في ضحضاح، نُظر: فإن كتّفه وشدّ أطرافه وألقاه على هيئة يعلوه الماء ويُلجمه، فهذا إهلاك، وإن لم يكن كذلك، فاضطجع الملقَى أو استلقى، فقد قتل نفسه، ولا ضمان على الملقي، وسنعيد هذا الطرف في أثناء الفصل عند ذكرنا السباحة وتركها، وترك معالجة الجرح، إن شاء الله عز وجل.
ولو كان الساحل مُغرقاً، وكان النجاة منه ظاهرة الإمكان في حق من يسبح، فينظر في الملقَى، فإن كان ممن لايحسن السباحة، فغرق، فملقيه قاتلٌ على عمد؛ مستوجبٌ للقصاص، والجنايات تختلف باختلاف من يتصل بالجناية، فإن الصبي قد تقتله ضربات يستهين بها الأيّد والمُدنِف يهلك بما لو فرض في صحته، لكان شبه عمد في حقه.
وقد تختلف الجنايات بالأوقات، فيكون لوقوعها في حرارة القيظ أو شدة البرد قدرٌ يخالف مقدارها في اعتدال الهواء. وهذا بيّن.
وإن كان الملقَى ممن يحسن السباحة، فتخاذل ولم يسبح حتى غرق، فالذي تحصّل لنا من قول الأصحاب في ذلك وجهان في وجوب الضمان:
أحدهما: أنه لا ضمان؛ فإنه هو الذي أتلف نفسه بتركه السباحة.
والثاني: أنه يجب الضمان؛ فإن إلقاءه جناية، والسباحةُ حيلة في الخلاص، فهي مشبهة بما إذا ترك المجروح معالجة الجرح، وللأول أن ينفصل ويقول: إفضاء المعالجة في الجرح إلى البرء مظنون، والسباحة منجية على تحقيق في الساحل، وهذا موضع تثبت للوقوف على هذا الفن.
10292- وأنا أرى في إيضاح ذلك أن أذكر مراتب.
المرتبة العالية في الدفع تُناظر أكلَ الجائع الطعام العتيد بين يديه، وهو محبوس، فإذا امتنع عن الأكل حتى هلك، فهو قاتل نفسه، وشرط هذه المرتبة ألا يعد السبب الصادر من الساعي في الأمر إهلاكاً أصلاً، ويكون رفع الضر هيّناً محصلاً لدفع الضرار قطعاً، ويلتحق بهذا الإلقاءُ في الضحضاح مع التخاذل فيه، إذا كان لا يجرح، فإن الإلقاء في مثله يعد عبثاً والخروجُ من الأفعال المعتادة.
والمرتبة التي تعارض هذه معالجةُ الجرح، فالجرح في نفسه جناية مهلكة، والمعالجة ليست بالهيّنة، وحصول الخلاص بها مظنون، فلا جَرَم لا يؤثر عدمُ العلاج وتركُه في درءِ الضمان.
وبين هاتين المرتبتين ترك السباحة؛ فإن الإلقاء في المغرقة جناية، والسباحة وإن كانت مُنجية، فقد يعرض من الملقَى دَهَش، وكم من سابح يطرى عليه ما يمنعه عن السباحة، وإن كان الغالب يخالف ذلك، فهذا موضع التردد.
ويتصل عندي بهذا الفن ترك تعصيب الجرح حتى يؤدي إلى النزف.
وقد يتصور ما أرى إلحاقه بالمرتبة الأولى، وهو إذا فتح رجل عِرْق إنسان فتركه المجني عليه يزرُق حتى يُفضي إلى النزف، فهذا من باب ترك الأكلِ والطعامُ عتيد.
ثم إن لم نوجب الضمان في مسألة ترك السباحة، فلا كلام، وإن أوجبنا الضمان، فالأظهر أن القصاص لا يجب للشبهة، ومن أصحابنا من أوجب القصاص، وقال: إن كان على ترك السباحة معوّل، فموجبه إسقاط الضمان أصلاً، وإن لم يكن عليه معوّل، فينبغي أن يصير العالم بالسباحة إذا تركها والماء مغرق بمثابة ما لو كان لا يحسن الملقَى السباحة.
ومما يتصل بذلك أنه لو ألقى رجلاً في النار وكان من الممكن أن يتخطأها ويتعدّاها، فلبث حتى أحاط به الوهجُ واللّفحُ، فالذي ذكره الصيدلاني وطوائف من أصحابنا أن القصاص يجب بخلاف ما لو ألقى في الماء سابحاً، والفرق أن الناركما تَلقَى تحرق، فيصير الملقَى فيها مجنياً عليه بأول الملاقاة، وقد يمنعه التألم الذي أصابه باللفح الأول من اختيار الخروج، بخلاف الإلقاء في الماء.
وذكر القاضي أن الإلقاء في النار بمثابة الإلقاء في الماء مع التمكن من السباحة، وليس يستقيم على المعنى إلا ما ذكره القاضي.
ثم الوجه أن نقول: إن كان اللفح الأول يعجزه عن الخروج، فليست المسألة على ما صورناها، وإنما مسألتنا فيه إذا كان الخروج من النار ممكناً، فإن كان لوقع اللفح الأول أثر، فذاك يفرد بضمانه، كما ستأتي حكومات الجنايات، إن شاء الله عز وجل.
هذا كله إذا كان الإلقاء في الساحل. وكان الخروج ممكناً، فمكث حتى هلك.
10293- ولو ألقاه في الساحل ولم يكن مغرقاً، أو كان مغرقاً، وكانت السباحة ممكنة، والملقَى يحسنها، ورأينا من يتركها مُهدَراً، فلو اتفق أنه كما لاقى الماء، التقمه الحوت، أو قطّعه وأهلكه، فهذا من أصول الباب، ونحن نقدم عليه أنه لو ألقاه في غَمْرة من الماء وكما أصاب الماء، التقمه الحوت، فالمنصوص للشافعي أن القصاص يجب على الملقي، وخرّج الربيع قولاً آخر: أن القصاص لا يجب، وشبه هذا بما لو ألقى رجل رجلاً من شاهق جبل، فلما انتهى الملقَى إلى قرب الحضيض وافاه رجلٌ وسيفه مسلول، فقدّه، أو ضرب رقبته، فلا يجب على الملقي القود. وهذا من تخريجات الربيع، ولم يرتضه معظم الأصحاب.
ونحن نوجه القولين وننبه مع التوجيه على أصلٍ في المذهب: أما وجه القول المُخَرَّج فما أشرنا إليه، ووجه القول المنصوص الصحيح أن الإلقاء في الماء إهلاك، والملقَى هالك، سواء فرض ثَمّ حوتٌ أو لم يفرض، ولو لم يتم إلقاؤه، لما انتهى إلى الحوت، فالمرعي أنه ألقاه في هَلَكَة، فلا ننظر إلى السبب الذي به هلك.
ولا يتم التوجيه ما لم يُقيَّدُ الكلامُ بأن السبب الذي جرى الهلاك به لا يُنْسب إليه اختيار، وبهذا رفع الاتصال عن الذي يقدّ الملقَى من الجبل؛ فإنه فاعل مختار، لا يفعل ما يفعله بطباعه، وإنما يفعل بإرادته ومشيئته، وإذا فرض قاتل مختار، انقطع ما كان من السبب قبله، لا فرق بين أن يكون الواقف القادّ ممن يضمن، وبين أن يكون ممن لا يضمن، كالحربي؛ فإن التعويل على الاختيار، وصَدَرُ القتل عن المشيئة دون الطباع.
ولو كان في أسفل الجبل حيّة تعدو بطبعها أو نمر شرس ضارٍ، فأهلكه، يجب الضمان على المُلقي، والضبط المرعي في ذلك أن ما يعدو بطبعه فيعدو في أوان العدوان لا محالة، كما يضرى السيف إذا صادف مضْرِبه؛ ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: "لو ألقى رجلاً في بيتٍ فيه سباعٌ ضارية، وافترسته، التزم القود". وهذا يبين بأصلٍ وهو أن من أمسك رجلاً حتى قطع رجلٌ عنقه فلا ضمان على الممسك، سواء كان القاتل ممن يضمن أو كان ممن لا يضمن كالحربي، ولو هدّف رجل رجلاً لوثبة أسد يضرى على العدوان بطباعه، فيجب على المهدِّف الممسك القصاص، فهذا هو الأصل المعتبر في الباب.
ولو كان القادّ الواقف في سفح الجبل مجنوناً، فإن كان على طباع السباع وضراوتها يجب الضمان على الملقي، وإن لم يكن ضارياً بالقتل، فالمجنون كالعاقل في إسقاط الضمان على الملقي.
10294- هذا توجيه القولين، وفيه التنبيه على أصلٍ، وهو أن من ألقى إنساناً في مهلكة، ثم اتفق الهلاك بغير السبب الظاهر، فإن لم يكن ذلك السبب يعزى إليه اختيار وفعل أصلاً، فالضمان يجب على الملقي، وهذا كما لو ألقى رجلاً في بئر عميقة يقصد بالإلقاء فيها الهلاك، فلما انتهى الملقَى إلى قعر البئر، فإذا في القعر سكاكينُ منصوبة أو رماحٌ مشرعةٌ، فجرحته الأسنة والنصول، فيجب القصاص على الملقي.
وإن كان السبب الذي حصل الهلاك به منسوباً إلى فعل حيوان، فهذا ينقسم إلى ما يفعل بطباعه ضراوةً، كالسبع يفترس طبعاً، والحية تلسع.
والمنصوص للشافعي وجوبُ القصاص، وتخريج الربيع أن القصاص لا يجب، والتقام الحوت أصل هذا الفن، حيث وقع تصويره.
وإن كان الفعل صادراً من ذي اختيار لا يفعل بطبعه، وإنما يفعل بمشيئته، فهذا مسألة الشاهق والقادّ.
فليضبط الطالبُ هذه القواعدَ.
10295- ثم قال الربيع: لا قصاص، وأوْجَب الدية، واعتقد ما يجري من الهلاك منسوباً إلى الملقي، ولكنه لما لم يعلمه، ولم يقصده، انتهض ما جرى شبهة في درءِ القصاص، من حيث إنه سببٌ لم يتعلق به قصد الملقي، وإن كان هو المتسبب.
وهذا الذي ذكره يُبطل استشهاده بمسألة القادّ؛ فإنه لا يجب على الملقي من الشاهق شيء إذا تلقى الملقَى الرجلُ الواقفُ بسيفه، فقدّه، وإذا اقترن الأصلان في أصل الضمان، بطل مسلك الاستشهاد.
وما ذكره من الشبهة لا أصل له مع تسبب الملقي إلى قصد الإهلاك، وهذا بمثابة ما لو وجأ رجلٌ رجلاً بسكين، فهلك الموجوء، ثم بان أن سبب هلاكه كونُ السكين مسموماً، فالقصاص يجب على الجارح، وإن كان جاهلاً بصفة السكين؛ فإن الجرح بالسكين مهلك وإن لم يكن مسموماً.
ولو ألقى رجل رجلاً في الساحل، وإذا فيه حوت، فالتقمه أو قطّعه، فهذا سبب هلاكٍ، لم يشعر به الملقي، ولم يكن إلقاؤه إياه من المهلكات، فلا قصاص على الملقي والحالة هذه؛ فإن نفس فعله ليس مهلكاً، وسبب هلاكه لم يكن معلوماً للجاني، وهذا بمثابة ما لو دفع رجلٌ رجلاً دَفْعاً خفيفاً، فألقاه فإذا في موضع سقوطه سكين، فجرحه السكين وأهلكه، فلا يجب القصاص على الملقي، ولكن يجب الضمان في مسألة السكين والتقام الحوت في الساحل.
10296- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن السبب إن كان مهلكاً، واتفق الهلاك بسببٍ آخر، فهذا يتفصَّل وينقسم إلى الحيوان وغيره، كما مضى، وإن لم يكن السبب مهلكاً، فاتفق الهلاك بسببٍ لم يشعر به الملقي، فلا قصاص، وإن كان عالماً به كالذي يعلم أن وراء القائم الذي بين يديه سكين منتصب، فإذا ألقاه عليه وقتله، فيجب القصاص، وأما الضمان، فإنه يجب إن لم يكن السبب مهلكاًَ أو لم يكن الملقي عالماً بالسبب المهلك.
وعلى الناظر أن يتدبر هذا، ويلتفتَ قليلاً إلى ما ذكرناه في فصول الجراح، حيث قلنا: إن من قطع أنملة إنسان، فأدت السراية إلى الموت، وجب القصاص على القاطع وإن لم يقصد القتل، كما أن الملقي لم يقصد الإلقاء على السكين، ولكن حصل أثر السكين بسبب الإلقاء، فهلا كان كما إذا حصلت السراية بالقطع حتى كأنها جزء من القطع والقطعُ جزء منها، وليس القتلُ إلا بالسيف أو بالسكين متصلاً بسبب القطع؛ قلنا: الفرق أن السراية متصلة بالإلقاء، ولكنه وفاقٌ جرى، فانفصل عن الإلقاء، فإذا لم يكن معلوماً، لم يجب القصاص، وإن قصد الإلقاءَ على السكين، فالإلقاء مخرَج من البين، والعمل مقصور على جرحه بالسكين.
ونقل المعلّقون عن القاضي أنه قال فيما يقتل: إن التقمه الحوت قبلَ أَنْ أصاب الماء، كان أخرج رأسَه من الماء، فلا يجب القود على الملقي، بخلاف ما لو مس الماء، فالتقمه الحوت، وقرر أنه إذا مس الماءَ، فقد صادف السببَ المهلك، فلا التفات على الالتقام إلا على قول الربيع إذا اختطفه الحوت قبل أن يلقى الماء، فلم يحصل من السبب الذي قصده شيء، وإنما جرى سبب آخر، وهذا حكاه القاضي عن الأصحاب، ولم أر لهذا التفصيل ذكراً في شيء من الكتب.
والوجه عندنا القطع بوجوب القصاص، أو تنزيل هذا منزلة ما لو لقي الماءَ ثم التقمه الحوت، وذلك أن الملقَى لم يبق منه اختيار أصلاً، ولا أثر لمصادفة الماء، فإن الماء بنعُومته ولينه لا يقتل من يصادمه، وإنما القتل بالغرق، أو بسبب آخر بعد ملاقاة الماء، فلا فرق إذن بين أن يلتقم الحوت قبل أن يَلقى الملقَى الماء، وبين أن يحصلجب أن الالتقام بعد ملاقاة الماء.
ثم العجب أن القاضي حكى هذه عن الأصحاب-كما ذكرناه- واختاره، ثم حكى عنهم سقوط الضمان وشبهه بمسألة التردية من الشاهق وإلقائه ثم انقطعت على الضمان، وقال: الوجه إيجابه، وأخذ يفرق بين إلقائه والحوت بما ذكرناه من الاختيار وعدمه، وهذا كلام مختلِط، ومساق نفي الضمان يقتضي أن يقول الربيع: لا ضمان أيضاًً إذا مس الماء، فالتقمه الحوت، وهذا خبل لا يجوز أن يطّرّق مثله على قواعد المذهب.
وقد ذكرنا ما يضبط المذهب.
10297- ومن المسائل الملتحقة ببيان العمد وما يقدح فيه أن من حبس إنساناً في مكان، فمات منه عطشاَّ أَو جوعاً، فلا يخلو إما أن يكون معه في المكان طعام وشراب، وإما ألا يكون معه.
فإن كان معه في مكان الحبس ما يتبلّغ به وامتنع عن أكله وشربه حتى هلك، فالقتل لا ينسب إلا إليه، وهو الساعي في إهلاك نفسه، وكذلك لو لم يكن الطعام حاضراً، ولكن كان قادراً على تحصيل الطعام بنفسه، أو بمن يأمره، فإذا حصل الهلاك، لم يجب على الحابس الضمان، كما لو كان الطعام عتيداً، ولو عسر عليه الاستنابةُ في تحصيل الطعام، ولكن كان ممكَّناً من التردد لتحصيله، فإذا لم يفعل، فالجواب كما ذكرناه. وقد ألحقنا هذا بالأصل الممهد قبلُ، إذ ذكرنا الحيل في الخلاص من الأسباب المفضية إلى الهلاك.
10298- ولو حبسه ومنعه الطعامَ والشرابَ أو أحدَهما فهلك، فلا يخلو-إن حُبس- إما أن يكون جائعاً وإما أن يكون شبعان، فإذا كان على الشِّبع، والذي يطرَى ابتداءُ العطش والجوع في الحبس، ثم أفضيا أو أحدهما إلى الهلاك، فالذي حبسه على هذا الوجه قاتلٌ على حكم العمد، مستوجبٌ للقصاص عند تجمع الشرائط المرعية.
10299- ولو كان به جوع لمّا حبسه ومنعه الطعام، فأدى ذلك الجوعُ إلى ضَعْفه وأفضى إلى الهلاك، فالطريقة المثلى في تمثيل المذهب أن نقول: إن كان الحابس عالماً بجوعه، فحبسه وهلك، فالذي جرى من الحابس قتلٌ عمد موجب للقصاص.
فإن قيل: قد هلك بالجوع، وإنما تحقق في الحبس، فلم جعلتموه قاتلاً؟ وهلا نزلتم هذا منزلة ما لو كان مجروحاً فجرحه جانٍ ومات من الجرحين، وإذا جرى ذلك، فالجاني شريك جارح نفسه؟ وسنذكر شرح ذلك وتفصيلَ أحوال المشتركين بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
قلنا أولاً: لو والى بالسياط على مريض مُدْنَف وهلك، وجب القصاص على الضارب، وإن كان هذا الشخص لو فرض صحيحاً، لما مات بالضربات التي جرت غالباًً، ولا حكم للمرض الذي صادفه الجاني، والجوع إن كان مؤثراً، فلا يزيد في مرتبته على المرض والدَّنَف، بل مقدماتُ الجوع لا تعدُّ من أسباب الضرار، ولا يعد الجائع مريضاً، فإذا كان ضَرْبُ المريض موجباً للقصاص، والأغلب على الظن أنه كان لا يموت لولا الضرب، فالحبس على الجوع بهذا المعنى أولى، وقد يكون قليلُ الجوع مقصوداً لمن يطلب الأحوال الصحيحة ويستظهر بتحقق الجوع ليأكل.
هذا قولنا فيه إذا حبسه عالماً بجوعه، ولا نُلزَم على ذلك ما لو جَرَح من كان جرح نفسه، فإنّ حكم ذلك نذكره مستقصىً في فصل الشركاء وتقاسيم أحوالهم، ولو كان بالإنسان قرح في صورة جُرح، فلو، جرحه، فالإحالة على الجناية لا على القرح، وما يضاف إلى الآفات المقدّرة لا تقدر الشركة بها، ووراء ذلك سرٌّ سنوضحه في فصل الشركة، ولا مزيد على ما ذكرناه الآن.
ثم إذا أوجبنا القَوَد، فلا شك أنه إذا آل الأمر إلى المال، وجب تمامُ الدية، فإنه إذا وجب القود، فالدية أوْلى بالوجوب.
10300- ولو حبسه جاهلاً بما به من الجوع، فمات، ففي وجوب القود قولان:
أحدهما: يجب، كما لو كان عالماً بجوعه، ولا أثر للعلم والجهل بعد ما تقرر أن الجوع المتقدم لا اعتبار به، وجهلُه بالجوع بمثابة جهله بمرض المضروب، ولو ضرب مريضاً وكان عُمْرَه صحيحاً، وبنى الأمر في ضربه على أنه لا يموت، فمات للمرض الذي به، وجب القصاص، فليكن الأمر كذلك في الجاهل بالجوع.
ثم قال القاضي رضي الله عنه: إذا قلنا: يجب القصاص، فتجب الدية الكاملة في محل وجوبها، وإن قلنا: لا يجب القصاص، ففي مقدار ما يجب من الدية وجهان: ذكرهما القاضي:
أحدهما: أنه يجب تمامُ الدية، فإنا إذا أسقطنا القصاص لشبهة الجهل، فلا معنى لإسقاط شيء من الدية، ولو كان الجوع الأول معتبراً في تبعيض البدل، لاعتبر مع العلم؛ فإن العلم والجهل لا يؤثران في تغيّر البدل في المقدار، وإن أثر الجهلُ، أَثَّر في التغليظ والتخفيف. هذه طريقة، والذي لا يصح منها على السبر المصيرُ إلى تبعيض الدية، والباقي سديد، لا خلل فيه.
10301- وقال بعض أصحابنا: إذا حبسه عالماً بجوعه، ففي وجوب القصاص قولان، كالقولين فيه إذا كان جاهلاً بالجوع، ذكره بعض المصنفين وأشار إليه شيخي رضي الله عنه.
10302- وهذا أوان إيضاح الغرض: فليعلم الناظر أن الجوع خصلة واحدة يبدأ ابتداؤها، ثم تزداد حتى تُفضي إلى الهلاك، والحابس لم يُحدث في المحبوس أمراً، وليس كما لو ضرب مريضاً، أو جرح قريحاً؛ فإن هذه جنايات ابتدأها، فكانت حوالةُ الهلاك عليها، وإذا حبس إنساناً، فجاع، فالهلاك محال على الجوع، لا على الحبس، وقد كان شيء منه قبل الحبس، وهذا أثار الاضطراب بين الأصحاب، فقالوا: إن كان كلُّ الجوع في الحبس، فالحابس سبَّبَ إلى إيقاعه مع المنع عن دفاعه، وإن لم يكن الكل في الحبس، فالموت به يُردِّدُ النظرَ، وانفصل عما قدمناه من ضرب المريض عند العلم أو الجهل بالمرض.
ثم من طرد القولين في صورة العِلْم، فسيقول: إذا آل الأمر إلى المال، ففي وجوبه وسقوط بعضه الخلاف الذي ذكرناه.
10303- ونحن نذكر على الاتصال بهذا مسألة مستفادة حسنة، وهي أن الرجل إذا شحن سفينةَ نفسِه بطعام أو شِحنة أخرى، واقتصد مثلاً، فجاء إنسانٌ، فوضع فيها عِدْلاً، فغرقت به، فكيف يكون الوجه في هذا، والغرق لا يحصل بالعِدل الأخير، وإنما يحصل به وبما يسبق من الأعدال والأثقال؟ وهذا فصلٌ يُديره الفقهاء مع أبي حنيفة في أقداح الشراب المسكر.
وقد ذكر القاضي في هذه المسألة تردداً مأخوذاً من أصلٍ، فقال: لو رمى رجل إلى صيدٍ، فلم يُزمنه، فرمى آخرُ فأزمنه، وقيل: لولا جرح الأول، لما أزمنه الثاني، فالصيد لمن؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه للثاني المُزْمِن؛ فإنّ رميه استعقب الإزمان والإحالة عليه، والملك مخصوص به.
والثاني: أن الصيد بينهما. قال: فلتخرّج مسألة السفينة على هذا. فإن قلنا: الصيد للمزمن، فغرق السفينة محال على وَضْع العِدْل الأخير، فيلزمه ضمان السفينة وما فيها، وإن قلنا: الصيد بين الراميين: الأول والثاني المزمن، فغرق السفينة محال على ما سبق ولَحِق من الأعدال والأثقال، ولا ينبغي أن يخرج من الاعتبار ثقل السفينة في نفسها، فإنه يؤثر في تغويصها. ثم إن أحلنا الغرق على الأخير، فلا كلام.
وإن أحلنا على الكل، ففي كيفية التوزيع وجهان مبنيان على ما لو زاد الجلاد سوطاً، فحصل الهلاك، وأردنا التوزيع، ففيما نوجبه على الجلاد قولان:
أحدهما: أنا نوجب عليه نصفَ الضمان، ونجعل سوطاً واحداً في مقابلة سياطٍ كجُرحٍ في مقابلة جراحات، فلو جَرح رجلٌ رجلاً جراحاتٍ، وجرحه آخر جراحةً واحدة، وحصل الهلاك، وآل الأمر إلى المال، فالدية بينهما نصفان.
والقول الثاني- أن الضمان يتوزع على الجلدات المستحقة في الحد والجلدة الزائدة، فإن كان الحد ثمانين جلدة، وزاد الجلاد جلدة، فعليه جزءٌ من واحد وثمانين جزءاً من الدية، وهذا القائل يقول: الجلدات متساوية في الصفات والجراحاتُ لا تدرك أغوارها، وقد يكون غَوْرُ جرع واحدٍ أكثرَ من أغوار جراحاتٍ غيره، وهذا فَتْحُ بابٍ عظيمٍ من الإشكال؛ فإن قائلاً لو قال: من جُلد ثمانين، فقد تهيأ للموت بالجلدة الزائدة، فهلا وقعت الحوالة عليها؟ وهذا ليس بالهين، وسأشرحه في فصل الشركة عند ذكري اجتماعَ أقوام على رجل بالسياط، فإن كان يدور في خلد الناظر طلبُ التمام في هذا، فليطلبه في فصل الشركة، وليكتفِ الآن بما نلقيه إليه.
فإن قلنا: الجلاد يضمن نصفَ الدية، فصاحب العِدل الأخير يضمن نصفَ ما هلك من السفينة وشِحنتها.
وإن قلنا: الجلاد يضمن جزءاً من أحدٍ وثمانين، فصاحب العِدل الأخير يضمن جزءاً من أجزاء، فنضبط أقدار الأثقال فنوزع عليها.
فهذه مسألةٌ اعترضت من حيث إنها تشابه مسألةَ الجوع؛ فإن ابتداءه لا يعد من أسباب الهلاك، بل قد يكون من أسباب استصلاح البدن، ولكن يحصل الهلاك بما يزيد من الجوع بسبب تقدم ما تقدّم، ومما يؤكد التشبيه أن الأعدال في السفينة في جهة التثقيل متجانسة والجوع إلى الجوع في حكم الجنس الواحد، وليس كضربٍ بعد مرضٍ.
هذا منتهى قولنا في الجوع وإفضائه إلى الهلاك.
10304-ومما نلحقه بالأصل المقدم في العَمْد وما يعدّ منه القولُ في السّم وإيصالِه إلى باطن الإنسان، فنقول: إن كان السم مذفِّفاً مُجهزاً، نُظر: فإن أَوْجَره إنساناً، فهلك الموجَر، وجب القصاص على الذي أَوْجره، وإن أكرهه حتى شرب بنفسه، نُظر: فإن كان الشارب جاهلاً بكونه سماً، فعلى الذي سقاه السم القصاص؛ فإن الإكراه إذا تحقق من الأسباب الموجبة للقصاص على المكرِه، كما سيأتي ذلك-إن شاء الله عز وجل-.
وإن كان المكرَه عالماً بأن الذي يتعاطاه سم، فلا قصاص على المكرِه؛ فإن الإكراه لا يتحقق على هذا الوجه، وسنبين أن من اكره رجلاً حتى قتل نفسَه، فلا قصاص على المكرِه؛ إذ صورة الإكراه أن يُؤْثر المكوَه خلاصَ نفسه بتحصيل ما هو مكرَهٌ عليه، وهذا المعنى لا يتحقق مع كونه مقتولاً لو أمضى مراد المكرِه، وسيأتي هذا في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
وإن كان السم بحيث لا نقطع بأنه يقتل، وكان لا يغلب أيضاً على الظن هذا، فإذا اتصل الهلاك به، فهذا فيه نظر؛ فإن غرره باطن.
والذي حصّلته من قول الأصحاب فيه أنه بمثابة غرز الإبرة في غير المقتل، وفيه التفصيل الذي تقدم، وكنت أود لو كان كقطع أنملة أو إصبع، ولكن للعلماء تعظيمٌ عظيمٌ لأمر الجراحات؛ من حيث إنها تقطع وصلَ البنية وتفتق محبس الروح، والسم يلقَى ظواهر الأعضاء الباطنة، فكان كما يلقى ظوَاهر البدن من وجهه، ولكن من حيث يغيب عن البصر.
وما أطلقناه من السّم الذي لا يقتل تذفيفاً مجازٌ؛ فإن ما كان كذلك لا يسمى سماً، ومن كلام أهل الصناعة: "إن الغذاء ما تحتكم الطبيعة عليه والتأثير ولا يؤثر في الطبيعة، والدواء ما يتأثر بالطبيعة، ثم ينقلب على الطبيعة ويؤثر فيها، والسم ما يضاد القوّة الحيوانية"، ولسنا للإطناب في هذا، والتنبيه كافٍ.
وذكر الأصحاب على الاتصال بهذا تقديمَ الطعام المسموم، وأنا أرى أن أعقد فيه فصلاً بعد استيفاء المسائل الباقية الموعودة.
10305- فنقول: إذا أنهش الرجلَ حيةً أو عقرباً، قال الشافعي: إن كان مثل حيات مصر وعقارب نصيبين، وجب القود، والغرض أن الحيّة في نفسها إذا كانت قتالة بنفسها، أو العقرب، فإذا فعل ما وصفناه، فالذي جاء به عمدٌ محض يُقصد به القتل، وهو خارج عن محل النظر المشكل في الجراحات التي لا تؤدي إلى الهلاك.
وإن كانت الحية لا يغلب القتل منها-وكذلك يكون العقرب في معظم البقاع- فقد قال الأصحاب: إذا سعى على الوجه الذي ذكرناه حتى نهشته حية لا يغلب القتل منها، أو لسعه العقرب، فقد قال الأصحاب: هذا بمثابة ما لو غرز فيه إبرة، وقد سبق تفصيلها. وهذا حسنٌ؛ فإنّ جلده مما يؤلم ويرقب منه غررٌ، فهذا تفصيل القول في ذلك.
ويتصل به الإلقاء في الماء، ومكان الحيات، وإشلاء السباع في المضايق، والمكان المستع.
10306- ونحن نذكر في هذا ما نقله الأصحاب، ثم نتبعه بالبحث. قالوا: إذا أغرى بإنسان كلباً ضارياً، أو سبعاً، فإن كان في المضيق لا يفرض الخلاص منه، فإذا افترسه السبع، وجب القصاص؛ فإن ذلك يعد من الأسباب المهلكة، ولو أغرى به السبع في صحراء، فقد قال الأصحاب: إذا اتفق الهلاك، فلا قصاص، فإن ذلك الشخص كان متمكناً من الهرب والاضطراب في محاولة الدفع عن الروح.
أما ما ذكره الأصحاب في المضيق، فهو جارٍ على القياس وسَبْر التحقيق، وأما الإغراء في الصحراء، فما أطلقوه من أنه يقدر على الإفلات يجب أن يُفَصَّل، فإن كان السبع بحيث يدرك من يتبعه لا محالة، فالصحراء، والمضيق بمثابة، وهذا على شرط أن كون السبع المشلَى ضارياً بالإنسان، ويقل هذا في طباع السباع، ولا يضرَى منها إلا الكَلِب، فإنه يستأسد ويستشلَى على كل من كان يُغرَى به، ولست أظن أن الأصحاب ينكرون ما أشرنا إليه.
وقد ذكر القاضي ما ذكرناه على هذا النسق، بعد أن نقل ما نقلته مطلقاً، وذكر كلامه استدراكاً، وليس هذا محلَّ خلاف، ودقةُ النظر في حمل كلام الأصحاب على محملٍ.
10307- والذي أراه في ذلك أنهم فصلوا بين المضيق والمتسع، وبنَوْا كلامهم على أن السباع لا تضرى بالآدمي ضراوة الكلب بالصيد، ولو اعترض لها آدمي في مضيق استشعرت منه قصداً وتوثّبت عليه توثُّبَ الدافع، وهذا لا يتحقق في الصحراء، حتى لو صُوّر كلب ضارٍ، كان المضيق والصحراء بمثابة، والدليل عليه أن ما يأخذه الكلب من الصيد ممسَكٌ على صاحبه، ولا فرق بين أن يكون في الصحراء والمضيق لما صحت ضراوتُه بالصيد، فلو وجد مثل هذا في حق الآدمي لاسْتوت. الصحراء والمضيق.
ومما ذكره الأصحاب أن قالوا: لو جمع بين إنسان وبين سَبُعٍ في بيت، فتوثب السبع عليه، وأهلكه، وجب القصاص على من ألقاه في البيت، ولو كان بدل السبع حية أو حيات، فإذا هلك الملقَى بينها بنهشها، فلا قصاص، وفرقوا بأن السبع يثب بطبعه والحية تنفر بطبعها، ولا تنهش إلا إذا وطئت، أو الْتُمست.
وهذا مما ينقسم الأمر فيه؛ فإن من الحيّات ما يَقْصد، ومن السباع ما ينفر، والتحقيق فيه أن السبع النافر يدفع عن نفسه في البيت، ويضر الكائن معه وحده، فيثور عليه، والحية في المضيق والمتسع لا تدفع عن نفسها إلا أن تمس أو توطأ، فإذ ذاك تدفع. فلنُنزل الصورَ على هذه القواعد.
وقد ذكر صاحب التقريب قولين في أن المحبوس مع السبع إذا قتله السبع هل يجب القصاص على حابسه، وليس هذا عندي من محال القولين؛ فإن الأحكام في هذه المنازل تتبع الصور، ثم لا مطمع في إيجاب القصاص المتلقى من العَمْدية إلا مع القطع بها، وإن تطرق شك في العمدية، لرُفع القصاص.
10308- ومما يتصل بهذا الفصل أنه لو أغرى سبعاً أو كلباً بإنسان، فأمكنه أن يهرب فمثُل بين يديه، حتى مزقه، فأين يقع هذا من الحيل المخلّصة؟ وقد ذكرنا مراتبها في الفصل السابق.
وليس يبعد عندي تنزيله منزلة السباحة في الماء الذي تُنجّي السباحةُ منه، ووجه التشبيه أن الفرار يُنجي كالسباحة، والدهشة ممكنة في ثوران السبع وملاقاة الماء، وفرْضُ عوائق تطرى وتمنع من الخلاص ممكن في الوجهين، وقد نظرنا في ذلك، وليس كترك الأكل من الطعام العتيد.
والعجب أن أصحابنا قالوا: إذا كان الفرار ممكناً في الصحراء، فلا قصاص فيها بالإغراء، وإني لأتمنى أن يكون هذا من تصرف بعض المتأخرين الذين قنعوا بالظواهر، وتركوا الغوص على الأسرار، فإن الفرق بين الصحراء والمضيق مما مهّدته من عدم ضراوة السباع وحَمْل ثورانها في المضيق على الدفاع عن أنفسها، وإلا فكيف الخلاص من وثبات الفهود التي تدرك الظباء في لحظات مختلَسة، فلهذا لم أعتمد الفرار، وأخرجته عن السباحة، فإن من ذكر الفرار لم يخرجه عن ثبتٍ فأعتمدَه.
10309- فهذا أقصى ما في الوسع من إيضاح المشكلات، وتنزيل المسائل على مقتضى القواعد. وينبغي أن تشتد عناية الطالب بمعرفة العَمْدية، فإن معظم مسائل القصاص عليها تدور، ونحن بتوفيق الله تعالى نأتي بقواعد الكلام، ونبهنا على تغشّيها من اللبس، في رَمْزٍ من الفقه فيه وتولّعٍ بَنَوْه بالتشجيعات والترصيعات التي مجّتها الأسماع ويأباها طلبة المعاني.
10310- ومما نذكر متصلاً به، أنه لو أغرى سبعاً بإنسان في متسع، حيث نحكم بأن القصاص لا يجب، فلو فرض توثب السبع على ذلك الإنسان وقتله، ودرأنا القصاص، فهل تجب الدية أم لا؟ فهذا فيه تأمل ونظر، من جهة أن السبع إذا لم يكن ضارياً بطبعه، فلا أثر للإغراء فيه، وإنما يتوثب وفاقاً، ثم لا يسند فعله إلى المغري، والدليل عليه أنه لو أغرى كلباً غير معلّم بصيد، فاتفق أنه انطلق إليه وقتله، فهو ميتة، ويكون كما لو انطلق بنفسه من غير إغراء؛ فإن اختيار الحيوان له حكم إذا لم يكن معلّماً.
والأصحاب بنَوْا أمرهم في نفس القصاص على إمكان الفرار في الصحراء، وإذا كان كذلك، فقد تُفرض دهشة من ذلك الإنسان، كما فرضناه في ترك السباحة، حيث تفرض النجاة بالسباحة، ثم ميل الأصحاب إلى وجوب الضمان، كما قدمنا ذكره.
والوجه عندنا في ذلك أن نقول: إن كان السبع مطلقاً، ولم يوجد من الساعي إلا الإغراء، والسبع غير ضارٍ، فلست أرى للإغراء، والحالةُ هذه أثراً ووقعاً، إذا لم يكن ذلك في مضيق، كما تقدم التفصيل فيه. وإن كان السبع في رباط فحلّه وأغراه، فانطلق في مسبع صحراء واتفق الهلاك، ففي وجوب الضمان التردد الذي ذكرناه: فإن بنينا الأمر على عدم ضراوة السبع، فالوجه نفي الضمان، وإن بنيناه على إمكان الإفلات فهو سببه كالسباحة إذا تركها الملقَى في الماء.
هذا وجه الكلام في الضمان، والله المستعان.
10311- ومما يتصل بهذه الفصول التغرير بتقديم السّم، فإذا أدخل الرجلُ السمَّ في طعام وقدمه إلى إنسان مغرياً إياه على ما يعتاد في مثله، فأكله الضيف، وهلك، ففي وجوب القود قولان:
أحدهما: وهو الأقيس أنه لا يجب؛ فإنه أكل باختياره، وأكلُه أولى با لاعتبار من تغرير الضيف، والمباشرةُ الصادرةُ عن اختيار تقطع الأسباب.
والقول الثاني- القصاص يجب؛ فإن التغرير على هذا الوجه يُفضي إلى الهلاك غالباًً، فإن الناس لا يمتنعون عن الاكل، فهو إذاً واقع إذا اتصل به التغرير، فيصير المغرور في حكم المحمول المكره، فإن قلنا: يجب القصاص على الغار المقدِّم، فلا شك في وجوب الدية إذا آل الأمر إلى المال.
وإن قلنا: لا يجب القصاص، فهل تجب الدية؟ ذكر شيخي رضي الله عنه قولين في وجوب الدية:
أحدهما: أنها تجب وهو الذي قطع به القاضي وغيره؛ لأنا إن درأنا القصاص للشبهة، فلا سبيل إلى إحباط فعل المقدِّم بالكلية؛ فإن هذا في مستقر العادة يسمى قتلاً من المقدِّم.
والقول الثاني- أن الضمان لا يجب تغليباً لمباشرة الآكل، كما ذكرناه، وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فهو متجه في المعنى.
وما ذكرناه فيه إذا قدم الطعام إلى إنسان ودعاه إلى أكله بمقاله أو بقرينة الحال.
فأما إذا أدخل السم في طعام الغير من حيث لا يشعر، فأكله صاحب الطعام، ولم يوجد من الساعي في ذلك تقديم، ولكنه بنى الأمرَ على أنه سيأكل الطعام، فهذا مما اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هذا بمثابة ما لو قدم الطعام إلى إنسان، ودعاه إلى أكله، ولا يخفى توجيه الطريقين، ثم الأصحاب قطعوا في صورة التقديم بوجوب الضمان، وذكروا القولين في وجوب القصاص، ولم يذكر القولين في الضمان في صورة التقديم إلاّ شيخي.
وكنت أود أن أجمع ُ الأسباب التي لا تتصل فيها الجناية من الجاني بالمجني عليه وأقسمها إلى القوي والضعيف وأوضح ما يتعلق القصاص به، وما يختلف المذهب فيه، وما اتفق تفصيل الضمان فيه.
وسأجمع ما يتعلق القصاصُ به في فصل الإكراه، وأذكر ما يتعلق الضمان به في باب حفر البئر في محل العدوان-إن شاء الله عز وجل- فهذه مسائل ذكرتها في تحقيق العمد، وما يتم به.
10312- وأنا أختم الفصل بضبطٍ يجري مجرى الترجمة المذكورة، ولا شيء في انتشار المسائل وتعارض الأصول أنفع من اختتام الفصل بالترجمة، فأقول: أما القتل فقد قسمناه إلى الوجء المذفِّف، وإلى ما هو مذفّفٌ يتعلق بالأسباب، ثم قسمنا الأسباب إلى ما يتعلق بالظاهر، وإلى الجرح الذي يتعلق بالبواطن، ثم ذكرنا بعد ذلك قواعدَ: أحدها: في التمكن من الحِيل وما ذكرنا فيه مراتب وفضضنا عليها لو تَركَ الأكلَ، وترك السباحةَ، وترك مداواةَ الجرح.
ومن القواعد أن الجاني إذا قصد الإهلاك بسببٍ، فاتفق سببٌ آخر، لم يعرفه الجاني، وفيه ذكرنا الْتقام الحوت والإلقاءَ من الشاهق، وتصويرَ القدّ من واقفٍ في الحضيض. وفيه ذكرنا ما إذا لم يكن السبب مُهلكاً، فاتفق عنده مُهلك، مثل أن يدفعه دفعاً على أرضٍ مستوية، ويلقيه في حفرة قريبة العمق، فيتفق سقوطه على سكين.
ومن القواعد إغراء السباع وإنهاش الحيات، والكلام في المضيق والمتسع، وردّ الأمر إلى طباعها في الضراوة وعدمها، أو إلى المفارّ، أو إلى إمكان الفرار.
ومما يجب الاعتناء به في أثناء المسائل، أنا إذا درأنا القصاص عنها، فهل نوجب الضمان، أم نُردّد القولَ فيه، أم ننفيه؟ ومأخذ هذا أنا حيث نتحقق أن القتل حصل بالجناية، ولكن لم يتحقق العمد فيه، فوجب الضمان من حيث ثبت فعلٌ من المجني عليه، ورأينا إحالةَ الهلاك عليه، أو رأينا إحالته على حيوان ذي اختيار غيرِ محمول ولا مكرَه، فقد ندرأ الضمان، وقد نجعل ترك الاختيار بمثابة فعلٍ من المُهلَك كترك الأكل، وقد نختلف في ذلك.
فهذا بيان القواعد وسنعيد التغرير في الأسباب عند ذكرنا الإكراه وكونَه سبباً في التزام القود، وإن لم يكن فيه مباشرة من المتعلق بالسبب.
فصل:
قال: "ولو قطع مريئه أو حلقومه، أو قطع حشوته... إلى آخره".
10313- في نقل المزني غلط؛ فأنه قال: "لو قطع حلقومه أو مريئه" على الترديد وكان الوجه أن "يقول: لو قطع حلقومه ومريئه"؛ فإنه رام أن يذكر القتل المُوقِف الذي لا يَبقى بعده حياة، وهذا لا يحصل بقطع أحدهما، ومقصود الفصل بعد هذا التنبيهُ إلى أن من قطع حلقوم إنسان ومريئه، فالمجني عليه مقتول، وإن كان يتحرّك حركة مضطربة متقاربة، فذاك حركة مذبوح، ولا حكم لها، ولو فرضت جناية بعد ما ذكرناه، وإن كانت في دوام تلك الحركات، فهي جناية على ميت، ولا يتعلق بها حكم إلا التعزير؛ من جهة هتك حرمة ميت محترم، وهو بمثابة ما لو أقدم على ميت وقطع أطرافه.
ويترتب على ما ذكرناه أنه إذا سبق سابق بالقتل، كما ذكرناه، ثم تلاه آخر بقطع طرفٍ أو غيره، ففعْلُ الثاني هدرٌ، لا يتعلق به موجَب الضمان. وبمثله لو جنى الأول جناية لم تزُل الحياة بها، وأتى الثاني بما هو مُوقفٌ في نفسه، فيعتبر فعل الثاني حينئذ مع اعتبار فعل الأول.
وبيانه أن الأول لو شق بطنه وخرق مِعاه، فالمجني عليه سيهلك بهذا السبب لا محالة، وليس هذا مما يتوقع فيه برءٌ وتدارك، ولكن تبقى معه حياة مستقرة، ثم ينتهي، وقد خُرق مِعى عُمر رضي الله عنه، فأوصى لمن بعده وجَعل الأمرَ شورى، وبقي أياماً، فلو جرى مثلُ ما وصفناه، ثم جاء ثانٍ، وقدّه بنصفين أو ضرب رقبته، فالقاتل هو الثاني؛ فإنه الآتي بالسبب المذفّف، والجنايةُ الأولى كانت تقتل بطريق السراية لو تركت، والتذفيف يقطع أثر السراية وإمكان جريانها وإفضائها إلى الهلاك.
وقال مالك: إذا كانت الجناية الأولى تُفضي إلى الهلاك لا محالة لو فرض الاقتصار عليها، فالمجني عليه هالك بمثابة المنتهي إلى حركة المذبوح، وذكر الشافعي في الرد عليه قصة عمر رضي الله عنه، وأراد بذكرها أن يوضح أن المجروح حي، ثم نبّه بذلك على أن الثاني قاتلٌ لا جارح.
10314- ثم يتعين الاهتمام بفهم ما نورده، والاعتناء بدرك منازل الحياة، فنقول أولاً:- ما نسميه حركةَ المذبوح يوجب القطعَ بالحياة؛ فإنه من آثار الحياة، وليس كتلوي عصبة في عضو بحيث يتشنج؛ إذ قد يفرض مثل ذلك في ميت قد جَمَد إذا عرض عارض في عصبة أو غيرها، ولكن هذه البقية من آثار الحياة، لا معوّل عليها في العادات، وأهلها يسمون المنتهي إلى هذا المنتهى ميتاً حقّاً، ولا يرون هذا من المجاز المحمول على ما سيكون لا محالة، كما يقال في المجروح المأيوس منه الذي سيموت لا محالة لهول ما به: إنه مقتول، والمراد أنه سيهلك لا محالة على قرب.
وقطعُ الحلقوم والمريء قتلٌ لا محالة؛ فإنه لا يبقى بعدهما إلا ما سميناه حركة المذبوح.
ومما يدور في الخَلَد أن من ضرب إنساناً بسيفٍ قُرب الحِقْو ومَعْقدِ النطاق وقدّه بنصفين على الوضع الذي ذكرناه، وَتَرك حُشوته في النصف الأعلى، فقد يفرض ممن فُعل به هذا أن يطرِف وينظر إلى شيء ويبصره، أو يتكلم بكلمات، ثم يجمُد بعد ذلك. وقد قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا كان بحيث يتكلم أو ينظر، فهو حي، وإن كان ذلك يزول على القرب، ولا يطول زمانه، فلو ابتدر له مبتدر وضرب رقبته في الحالة التي وصفناها، فالقاتل هو الأول، أم الثاني، أم كيف السبيل فيه؟
فنقول: رب إسرافٍ في التصوير يُفضي إلى تقدير ما لا يكون، فإذا فرض قدُّه من الموضع الذي ذكرناه، فلا يجري كلام منتظمٌ بعده، والمجنيُّ عليه يُعدّ قتيلاً، ولو صوّبت السهام بمثله، فيموت المصاب في لحظة، فكيف الظن وقد قدّ من الوسط.
10315- ومما يتعلق بذلك أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت مخايل الموت، وتغيرت الأنفاس في الشراسيف، فلا نحكم للمريض بالموت، وإن انتهى إلى حالة يَظن الظان أن الموسَّط المقدود على مثل حاله؛ وذلك أن مثلَ هذا مما لا يؤثر به، وكم من مُدْنَفٍ تُشَقّ الجيوب عليه، ويشد حنكه، ويسوَّى كفنه، ثم تثور قوّته ويعود، فينطق، فلا يتصور الحكم بالموت على ثقة ما لم يجْمُد وتحبِط نفسه، فإذا ضرب ضارب رقبته وهو يتنفس، فنجعله قاتلاً على التحقيق، والذي أُبينت حُِشوته قتيلٌ على قطع، بحيث لا يفرض انتعاشٌ.
فالمتبع في ذلك في النفي والإثبات الثقةُ بأنه قتيل، والقتيل من لا يَلْحظ، ولا يتكلم على نظمٍ يُعد كلاماً، ولا يتحرك حركةً اختيارية، والحياةُ التي يُثبتها أرباب العقول لا اكتفاء بها؛ فإنها ثابتة للمذبوح إلى أن يجمد، وإنما التعويل على أن يعد المجني عليه قتيلاً، ولا يقع الاكتفاء بالحكم بأنه هالك؛ فإن معناه أنه سيهلك.
فهذا بيان المراد في ذلك كله.
10316- ومما يتصل بهذا أن من قطع حلقَ إنسان، ولا يقطع مريئه، فقد ذكرنا أن هذا فعلاً يكون قتلاً، ولا يُفضي إلى حالة المذبوح في أول الأمر، ولكن لو تمادى، فقد يؤدي إلى المصير إلى حركة المذبوح، وهذا قد يشتبه بالمريض ينتهي إلى السكرات، ولكن المريض كما ذكرناه لا تؤثر حقيقة حاله ما لم يجمد، والذي قُطع حلقومه يُفضي إلى حركة المذبوح، وإن عاش زماناً، والمريض لا ينتهي إلى هذه الحالة، والأحكام تتبع الصور.
ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه تتبع الصور إذا تثبت فيها، ولم يقبل كل ما يُرعى من الصور.
ثم ما ذكرناه من التفصيل يجري في الذبح وافتراس السبع، فالأصل أن السبع إذا افترس شاة، فإن صادفناها وهي في حركة المذبوح، فهي ميتة، وإن كانت فيها حياة مستقرة، فذبحناها، فهي ذكيّة. وفي ذلك مزيد تفصيل يليق بحكم الذكاة، وسنذكره في كتاب الصيد والذبائح، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو جرحه جر احات، فلم يمت حتى عاد إليه... إلى آخره".
10317- إذا قطع يدي رجلٍ، ورجليه، وفقأ عينيه، فاندملت إحدى الجراحات، ففيها القود، على ما سيأتي تفصيل القصاص في الأطراف، إن شاء الله عز وجل.
وإذا آل الأمر إلى المال، ففيها ديات.
ولو سرت الجراحات، وأفضت إلى الموت، فالقصاص باقٍ في الأطراف؛ لأنها إذا سرت، صارت نفساً، والواجبُ بدلُ النفس، لا بدلُ الأطراف، فتندرج الأطراف تحت النفس في الدية، ولا تندرج تحتها في القصاص، وإن سرت وأدت إلى الموت.
ولو قطع الأطرافَ كما صورنا، ثم عاد، فقتل المجني عليه صبراً، والجراحات بعدُ ساريةٌ، فالمنصوص عليه للشافعي أن الأطراف تندرج تحت النفس في الدية، كما لو سرت بأنفسها وأفضت إلى الهلاك، والقصاصُ باقٍ في الأطراف لا يندرج تحت النفس، ويجب فيها أروشها ودياتها.
أما لو اندملت، ثم عاد فقتله، ففي النفس عند ابن سريج ديتها، وفي الأطراف دياتها، وللشافعي رضي الله عنه ما يدل على موافقة ابن سريج، كما سنذكره.
فقد حصل في المسألة قولان في اندراج ديات الأطراف تحت دية النفس:
أحدهما: أنها لا تندرج، وهو اختيار ابنِ سريج، والقياسُ أنها لا تندرج، وفيها أروشها، وفي النفس ديتها؛ لأنه لما عاد فقتله صبراً، فقد انقطعت سراية الجراحات بالقتل، وتبين أنها لم تسْر، ولم تصر نفساً ومسلكاً في إزهاق الروح، فصار انقطاع السراية بهذه الجهة بمثابة انقطاع السراية بالاندمال، وهذا قياس بيّن جلي.
والقول الثاني- وهو ظاهر النص أنها تندرج، والواجب دية النفس؛ فإن القتل جرى قبل الاندمال، وإذا كانت السراية غيرَ منقطعة، والأفعال وإن انفصلت بمثابة المتصلة، ومن والى بالسيف على إنسان، وطعنه متحاملاً عليه، حتى مات، فيعدّ ما جرى منه قتلاً واحداً، ولا نظر إلى تعدد الضربات والجنايات، والذي يحقق ذلك أن الديات في الأطراف إنما تستقر إذا انتهت نهايتها واندملت، فإذا لم تندمل حتى عاد ذلك الجاني بعينه وقتل، فلا حكم لها أصلاً.
والأصح في القياس اختيارُ ابنِ سريج.
ولا خلاف أن من قطع أطراف إنسان، ثم قتله رجل آخر، فلا تداخل، ولا اندراج، وفي الأطراف دياتها، وعلى قاتل النفس ديتها.
10318- واختلف نص الشافعي رضي الله عنه فيه إذا قطع الأطراف خطأً، وعاد، فقتل عمداً، أو قطع الأطراف عمداً، وعاد فقتل خطأ، فاختلفت صفة الجنايتين في الأطراف والنفس عمداً، فقد نُقل عن الشافعي نصان فيما ذكرناه:
أحدهما: أنه قال: "إذا قطع يداً واحدة خطأً، ثم قتل عمداً، فيجب نصفُ ديةٍ مغلظةٍ في حالة إذا كان القطع عمداً، وديةٌ مخففة في النفس مضروبة على العاقلة، وإن كان التصوير في العمد والخطأ على الضد، فالجواب على العكس" هذا نص.
والثاني: أنه قال: "يجب في اليد الواحدة والنفس الواحدة دية واحدة: نصفها مخفف على العاقلة، ونصفها مغلّظ في مال الجاني" فانتظم قولان منصوصان إذا اختلفت الجناية، كما ذكرناه.
10319- وإذا رتبنا المذهب قلنا: إذا اتفقت صفة الجناية واتحد الجاني، ولم يتخلل الاندمال، فقولان: أظهرهما في المذهب والنص-الاندراج. وأقيسهما- وهو المعروف بالمخرّج واختيار ابن سريج- أنها لا تندرج.
وإذا اختلفت صفة الجناية، ففي المسألة قولان منصوصان مرتبان على القولين فيه إذا اتفقت صفة الجنايات، وصورة الاختلاف أولى بألا تندرج؛ فإنها إذا اختلفت وتباينت، عسر القضاء بالاندراج، كما سنوضح ذلك في التفريع.
ويجوز أن يقال: اختلاف الصفة في الجناية بمثابة تعدد الجاني، وكل ما نذكره في محاولة الحكم بالاندراج، فهو تكلف في التعليل بمثابة الاحتيال الذي لا ثبات له، فإن قضينا بأنه لا يثبت الاندراج، فلا كلام، وإن حكمنا بالاندراج، والمقطوع يدٌ واحدة، ففي هذا حيث انتهينا إليه نظر؛ فإن حقيقة الاندراج مصيرٌ إلى سقوط الطرف، واكتفاءٌ بموجب النفس، هذا معنى قول العلماء: صارت الجراح نفساً. وإذا كان كذلك فلو قطع اليدَ خطأً، وقتل عمداً، وقلنا: تجب دية واحدة، فقد نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: يجب نصف الدية مخففاً على العاقلة ونصفه مغلظاً في مال الجاني.
والوجه عندي أن يقال: تجب دية كاملة في مال الجاني؛ نظراً إلى القتل الواقع عمداً، وكأن قطع اليد لم يكن، فكأن أثر الطرف يسقط عند جريان القتل، وكذلك إذا وقع قطع الطرف عمداً والقتل خطأ، فالوجه النظر إلى صفة القتل لا غير، وإيجاب الدية كاملةً مخففةً على العاقلة.
وقد أشار إلى ما ذكرناه أنا إن قلنا: لا يندرج الطرف تحت النفس عند اختلاف صفة الجناية، فتنفرد كل واحدة من الجنايتين بحكمها، ونضرب موجَب ما كان عمداً على مال الجاني، وموجب ما كان خطأ على العاقلة، فإن رأينا الإدراج والرد إلى دية واحدة مع اختلاف الجنايتين، ففي المسألة وجهان: أقيسهما- النظر إلى القتل وصفته وإسقاطُ الطرف وترك اعتبار كيفية الجناية عليه.
والوجه الثاني- أنا نوجب ديةً واحدة، ثم نجعل شطرها مخففاً-لجريان الخطأ- على العاقلة، ونوجب شطرها على القاتل في ماله.
ثم ما ذكرناه مصوّرٌ فيه إذا قطع يداً، ثم قتل، مع اختلاف الجنايتين، فأما إذا قطع يدي رجل خطأ، وقتل عمداً أو على العكس، وفرعنا إلى اتحاد الدية مع النظر إلى الخطأ والعمد جميعاً، فالوجه التنصيف لا غير كما قررناه.
ولو قطع يديه ورجليه خطأ، وقتله عمداً أو على العكس، فكيف الوجه في كيفية التبعيض في التخفيفِ والضربِ على العاقلة، والضربِ في مال الجاني؟ القولُ: نُنَصِّفُ ونقضي بالاختلاف تخفيفاً وتغليظاً وضرباً على العاقلة وفي ماله.
10320- ولو قطع أصبعاً خطأ، ثم عاد وقتل عمداً فنُجري التنصيف معتبراً، أم نعتبر مقدار الأرش من الطرف؟
وهذا مما يجب الاعتناء به.
فنقول وبالله التوفيق: هذا التفريع خارج على اندراج الطرف تحت النفس، ومعنى اندراجه أنه يصير نفساً، ولكن الشافعي رضي الله عنه اعتبر الخطأَ والعمدَ الواقعين من الأطراف، والسبب فيه أنه جعل اتصال القتل بالقطع بمثابة سريان الجراح إلى النفس، ولهذا لم يفردها بأروشها، ثم القتل على هذا التقدير كأنه جرح، وكأن ما تقدم من الجراح مع حر الرقبة بمثابة جراحات مؤثرة في إزهاق الروح، ثم إذا اختلفت الجهتان في الجراح خطأً وعمداً، وُزّعت ديةُ النفس على الجهتين، وهذا يقتضي تنصيف الدية عليهما، سواء كثرت الجراح أو قلت، ولا نظر إلى أفراد الأروش، وهذا بمثابة ما لو تعدد الجارح، فلو جرح أحدهما مائة جراحة، وجرح الثاني جراحة واحدة، فالدية إذا سرت الجراح عليهما نصفان.
وإن ظن ظان أن تقسيم الدية يؤخذ من أرش الجراح، فليس على بصيرة من المسألة، فإن النظر إلى أقدار أروش الأطراف مصيرٌ إلى ترك إدراجها، والأطراف إذا اندرجت، سقطت، والواجب دية النفس فحسب. ونصُّ الشافعي في قطع يدٍ وقتلٍ يدل على أن نسبة أرش الطرف ليس معتبراً، فأنه قال: "لو قطع يداً خطأ، وقتل عمداً، فالواجب ديةٌ نصفها مخففة ونصفها مغلظة" ولو كان ذلك على شبه الأرش، لقيل: موجَب النفس دية، وموجَب الطرف نصف دية، فتوزع الدية على دية ونصف أثلاثاً، ولمّا لم يقل ذلك، دلّ على أن التعويل على التنصيف كيف فرض الجرح. هذا تفريعٌ على اعتبار صفة الطرف مع النفس.
فإن قلنا: الاعتبار بصفة النفس كيف فرض الأمر، فهو قياس سديد، كما قدمنا ذكره.
وقد انتجز الغرض من هذا الطرف.
10321- ومما نفرعه على النص أنه إذا قطع يدي رجل عمداً، ثم عاد وقتله عمداً أيضاًً، فالنص أن الواجب دية واحدة، والقصاص لا يتداخل، ثم إذا اختار الولي القطعَ، قطع اليدين، وله القتل بعد القطع، ثم إن أراد العفو، سقط القصاص، ولم يثبت المال أصلاً، فإن القصاص في الطرف قابَلَ ديةً كاملة، فكأنه استوفى تمام الدية، وقد ذكرنا أن الواجب دية واحدة، وهذا من غرائب المذاهب، فإنا أثبتنا القصاص في النفس بعد استيفاء الطرف، ثم لم نثبت مرجعاً إلى الدية.
هذا ظاهر المذهب، وحقيقته ترجع إلى أن القصاص لا يندرج، والدية واحدة واليدان يقابِلان ديةً كاملة، فإذا استوفاهما، ثم أراد الرجوع إلى المال، لم يجد إليه سبيلاً، فإن في ذلك إحباطَ القصاصِ المستوفى في اليدين، وعلى هذا لو استوفى القصاص من إحدى اليدين وعفا ليس له إلا نصف الدية، فإنه استوفى ما يقابل نصف الدية.
وهذه التفريعات فيها تعقُّد، وسببه ما في أصله من الإشكال؛ فإن القياس ما اختاره ابن سريج في أصل المذهب.
وقد قال صاحب التقريب: من أصحابنا من قال في التفريع على النص: إذا قطع وليُّ القصاص اليدين، وبقي حقه في النفس، فله الرجوع إلى الدية الكاملة، ولا يقع القصاص في اليدين موقع الدية، وليس في المصير إلى ذلك ما يخالف القياسَ؛ فإن القصاص على النص لا تداخل فيه، فهو يجري على موجبه، والدية تجب في النفس بكمالها، وإذا أراد العفوَ والأطرافُ ساقطة الاعتبار في الدية، وهي مرعية في القصاص، فليقع القصاص فيها عن جهة القصاص، ولتبق الدية الكاملة إذا فرض العفو عن النفس.
وهذا منقاس فقيه، ولعلي أعيده في أحكام موجب العمد إن شاء الله.
فصل:
قال: "ولو تداوى المجروح بسمّ... إلى آخره".
10322- هذا الفصل مشتمل على مراتب الشركة في القتل، وهو من أصول الكتاب، وقد قدمنا أنه إذا اشترك جماعة، فقتلوا شخصاً عمداً، وجب القصاصُ عليهم، ولو جرح رجل رجلاً خطأ، وجرحه آخرُ عمداً، فلا قصاص على العامد الذي شريكه خاطىء، خلافاً لمالك، فإنه أوجب القصاص على العامد، وقدّره كأنه منفرد بالجرح؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما وجب ولا التُزم القود، وهذا مذهب المزني واختياره.
وكنت أود لو كان هذا قولاً معدوداً من المذهب.
ولو اشترك في القتل أبُ القتيل وأجنبي، فيجب القصاص على شريك الأب عندنا، خلافاً لأبي حنيفة والمسألة مشهورة في الخلاف.
فإذا كان شريكه عامداً غيرَ ضامن، مثل أن يجرح الشخصَ حربي جراحة، ثم يجرحه ضامنٌ جراحةً، ففي وجوب القصاص على الضامن قولان، فعماد المذهب أن شريك الخاطىء لا قصاص عليه، ويجب القصاص على العامد الضامن الذي هو من أهل استيجاب القصاص إذا كان شريكه عامداً ضامناً، وإن لم يكن من أهل استيجاب القود كالأب. وإن شارك من يستوجب القودَ عامداً ليس من أهل الضمان أصلاً، ففي المسألة قولان.
ثم الصور تصدر عن هذه القواعد، ونحن نذكرها مرسلة، ونلحق كل صورة بأصلها، ثم نرتبها، ونذكر صوراً فيها تردد ونستعين بالله.
10323- فإذا شارك العبدُ حُرّاً في قتل عبد وسقط القصاص عن الحر، فيجب على العبد؛ لأن شريكه ضامن عامد.
وكذلك إذا شارك الذميُّ مسلماً في قتل ذمي، وكذلك إذا شارك الأجنبيُّ الأب في قتل ابنه، فالقصاص يجب على الشريك في هذه الصورة.
ولو جرح رجل مرتداً، فأسلم المرتد، فجرحه رجل آخر في الإسلام، ومات من الجراحتين، فالذي جرح في الإسلام شاركَ عامداً غيرَ ضامن؛ فإن الجراحة في الردة لا يتعلق بها ضمان، ففي وجوب القود على الجارح في الإسلام قولان.
وكذلك لو جرح حربياً، ثم أسلم فجرحه بعد الإسلام من يلتزم القود، فمات من الجراحتين، فقولان.
وكذلك لو قطع الإمام يد السارق، ثم جرحه عامدٌ من أهل التزام القصاص عمداً، فمات من الجراحتين، وكذلك لو قطعت يده قصاصاًً، ثم جرحه آخر عمداً ظُلماً، وكذلك لو جرح ذمّي حربياً، فعقدنا للمجروح الذمةَ، فجرحه بعد الذمة ذميٌّ ظلماً عمداً.
فهذه صورة القولين.
ولو جرح عبد عبداً، وجرحه مولاه جرحاً، فمات من الجرحين، فالسيد ضامن للكفارة، ولا يضمن غيرها، وقد اختلف أصحابنا في ضمان الكفارة، فمنهم من ألحقه بضمان الدية، فعلى هذا يجب على شريك السيد القودُ قولاً واحداً، ومنهم من لم يعتبر ضمان الكفارة، فعلى هذا شارك من ليس ضامناً معتبَراً، فتخرج المسألة على قولين.
ولو جرح إنساناً جُرحَ قصاص، فجرح المجروح نفسَه، فنقول أولاً:
10324- من قتل نفسه هل يلتزم الكفارة؟ فعلى وجهين سيأتي ذكرهما في الكفارات-إن شاء الله عز وجل- فإن قلنا: لا يلتزم الكفارة، فمن شاركه، فقد شارك عامداً غير ضامن، فتخرج المسألة على قولين. وإن قلنا: يلتزم قاتلُ نفسه الكفارةَ، فهذا يخرج على أن ضمان الكفارة هل يعتبر؟ فإن قلنا: هو معتبر، قطعنا بوجوب القصاص على شريكه، وإن لم نعتبر ضمانَ الكفارة، ففي المسألة قولان، كما قدمنا.
وشريك الخاطىء لا قصاص عليه قولاً واحداً.
وفي شريك السبع-وهو الذي يجرح مَنْ جرحه سبعٌ- طريقان: من أصحابنا من قال: هو شريك عامدٍ غيرِ ضامن، فتخرج المسألة على قولين.
ومنهم من قطع بنفي القصاص، فإن حقيقة العمد لا تثبت للسبع، وهذا ما ارتضاه القاضي وكلُّ محقق.
ومن جرحه صبي، وجرحه مَنْ هو من أهل التزام القود، فأمره يُبنى على أن الصبي هل له عمد؟ فإن جعلناه عمداً، كما سيأتي شرح ذلك، فعلى شريكه القود؛ فإنه شارك عامداً ضامناً، وإن قلنا: لا عمد له، فلا قصاص على شريكه قولاً واحداً.
10325- وما صورناه في شريكين يمكن تصويره في شخص واحد يصدر منه جرحان على وجهين مختلفين، فنقول: إذا جرح رجل رجلاً جراحةً خطأ، وجرحه جراحةً عمداً، فمات بالجُرحين، فلا قصاص في النفس، ويجب نصف الدية مخففاً على العاقلة، ونصفها مغلظاً في ماله.
ولو جرح السيد عبده عمداً، ثم أعتقه، وجرحه في الحرية، ومات بالجرحين، فلا قود قولاً واحداً، ولا نقول: الجراحة الثانية عمد مُضمِّن، والأولى غيرُ مضمِّنة، ولكنها عمد فتخرج على قولين، كما لو تعدد الجارح وأحدهما غير ضامن؛ فإنه إذا صدر من شخصٍ واحد جراحتان، ولا ضمان في إحداهما، فينتهض ذلك سبباً في درء القصاص عنه لا محالة، فليتأمل الناظر ما ينتهي إليه، ففعله إذا انضم إلى فعله، امتزجا.
وكذلك لو جرح مرتداً، ثم أسلم المجروح، فجَرَحه في الإسلام، وكذلك لو جرح حربياً، فأسلم المجروح، فجَرَحه ذلك الجارح في الإسلام مرة أخرى، فلا قصاص في هذه المسائل.
وكذلك لو قَطع يده قصاصاًً، وجرحه جرحاً آخرَ ظلماً، فمات منهما، فلا قصاص في النفس، ولا نجعل الإنسان بأحد فعليه شريكاً لنفسه في الفعل الآخر.
ولو جرح مسلم ذمياًً، فأسلم المجروح، فجَرَحه المسلمُ جرحاً آخر، فمات من الجرحين جميعاً، فلا قصاص في النفس، فإن كان الجرح الأول عمداً مضموناًً، فقد ذكرنا أن من شارك عامداً ضامناً لا قصاص عليه، فالشريك ملتزم القصاص، إذا كان من أهل التزامه، وإذا اتحد الجارح، انتفى القصاص لا محالة.
10326- فانتظم مما ذكرناه أن الجرحين من شخص واحد إذا كان لا يتعلق القصاص بأحدهما، فلا يجب القصاص على الجارح إذا كان الزهوق بالجرحين جميعاً قولاً واحداً، سواء كان أحدُ الجرحين خطأ أو عمداً، وسواء كان الواقع عمداً موجِباً للضمان أو غيرَ موجِب له.
وإذا تعدد الجارح وأحدهما مخطىء، فلا قصاص على الثاني.
وإن كان الشريك عامداً ضامناً للدية غيرَ مستوجب للقود، فالقود يجب على الشريك الذي يلتزم القود.
وإن كان الشريك عامداً غير ضامن، ففي شريكه قولان.
وإن كان ضامناً للكفارة، فطريقان.
هذا بيان المسائل في الشركة، وترتيبها.
10327- ولو جرح رجلاً، فداوى نفسَه بسمّ، وهذا مسألة الكتاب، فنقول: أولاً إذا كان السم مذففاً مُجْهزاً، وحصل الموت به وحده، فلا قصاص على الجارح، وإنما عليه أرشُ الجراحة فحسب، فإنه لم يشارك في النفس قطعاً، وإن لم يكن السم مُجْهزاً، وأمكن أن يقال: يحصل الموت بالجرحِ واستعمالِ السم، فالجارح شريك في النفس، وفيه التفصيل الذي ذكرناه.
ومنهم من قال: إذا قصد المداواةَ، فإنما صدر منه ما صدر استصلاحاً، فيكون في رتبة الخطأ، فلا قصاص على الشريك قولاً واحداً كشريك الخاطىء، فإن المتداوي بعيدٌ عن الظلم والعدوان، وعلى هذا شريك من قطع يداً حدّاً أو قصاصاًً، ينبغي ألا يلتزم القود قولاً واحداً؛ فإنه شريكُ مُحِقٍّ، فيخرج في هذا النوع طريقة في القطع بنفي القصاص عن الشريك.
ولو جرح رجلاً، فخاط المجروح جرحه في لحمه الحيّ، وحصل الموت من الجرح والخياطة في ظاهر الأمر، فهذا شريك في النفس، ولكن إذا قصد المعالجة، فتخرج الطريقةُ الأخرى التي ذكرناها، وإن خاط ووقع الخيط في لحمٍ ميتٍ، فلا أثر لذلك أصلاً.
10328- ومما يتعلق بفصول الشركة، وهو من أهمّ ما يجب الاعتناء به تفصيلُ المذهب فيه إذا تمالأ أقوام على رجل وضربه كل واحد منهم سوطاً خفيفاً، وكانت جملةُ السياط بحيث يقصد بها القتل غالباًً، فنتكلم في القصاص، ثم نبني عليه حكمَ الضمان في هذه الصورة.
10329- ونذكر أولاً إلزام أصحاب أبي حنيفة إيانا هذه المسألة في القتل بالمثقل؛ فإن معتمدنا في المسألة نِسبتنا إياهم إلى هذه القاعدة في القصاص، فإنه شرع لدفع الهرْج وحقن الدماء، وما ذكروه تسهيل الوسيلة إلى إهدار الدماء وسفكها، فألزمونا المسألة التي ذكرناها، وقالوا: إن درأتم القصاص، بطل معوّلكم في إلزامنا الهرْج، وإن أوجبتم القصاص، أدّى إلى مذهب فاسد؛ فإن كل واحد منهم، لم يصدر منه ما لو انفرد، لاستوجب به القصاص.
وقد اضطرب أصحابنا في المسألة، فقال بعضهم: يجب القصاص من غير تفصيل، حتى لا يؤدي إلى ما ذكروه من الهرْج.
وقال آخرون: لا يجب القصاص أصلاً لما أشعروه، كما أشرنا إليه وسنزيده كشفاً.
وقال بعضهم: إن كان هذا عن تواطؤ، وجب القصاص عليهم، وإن لم يكن بينهم تواطؤ، فلا قصاص أصلاً، وهذا اختيار القاضي.
10330- ولست أرى شيئاًً مما ذكرته من المذهب، وإن اشتهرت الحكاية فيها، والوجه القطع بأنه إذا لم يكن مواطأة، فلا قصاص عليهم أصلاً، والسبب فيه أن فعل كل واحد في نفسه ليس عمداً مقتضياً للقود، فإذا فرضنا ذلك من جميع، فلا جمعَ نفرض الكلام فيهم من هؤلاء إلا وهم شركاء واحدٍ يشار إليه، وفعلُه ليس عمداً في نفسه، ولا قصاص على شركاء الخاطىء، ولا على شركاء صاحب شبه العمد، فكيف ينساغُ تقدير العمد فيما ذكرناه، ولا يصير إلى إيجاب القود من غير تواطؤ إلا مستهينٌ بقواعد المذهب، أو غيرُ دَرِب بها.
فأما إذا تواطؤوا، فيجب أن يكون في وجوب القود وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب القصاص، وهو القياس؛ لأن إيجابه يؤدي إلى إيجاب القصاص على شركاء شبه العمد، وهذا لا دراء له، وليس كما لو جرح كلُّ واحد جراحةً؛ فإن القصاص إنْ وجب عليهم، فكل واحد منهم عامد، وشركاؤه عامدون مشاركون عامداً، ولا بُعد في إيجاب القصاص على شريك العامد.
ومن صار إلى أن القصاص يجب عليهم إذا تواطؤوا، احتج بأن هذا قصدٌ من جميعهم-بطريق التواطؤ- إلى القتل، فصاروا كالقاصد الواحد إذا والى عليه بالسياط، وقد يتعلق هؤلاء أيضاًً بالقاعدة الكلية في إفضاء نفي القصاص عنهم إلى الهرْج.
وهذا قد يجاب عنه بأن تواطؤ مائة أو مائتين على أن يضرب كل واحد سياطاً معدودةً غريب في التصوير، والذريعةُ هي التي يسهل تصورُها ويهون إمكانها، ويعم وقوعها.
وما ذكرناه من أن التواطؤ يجعل المقصود كالقصد الواحد يعضده ويؤيده أن الرجل لو والى بين السياط حتى يفضي إلى الإهلاك، فالقصاص يجب وفاقاً، وكل ضربة لا تتصف بكونها عمداً محضاً في القتل.
ومن جرح خطأ، ثم عاد فجرح عمداً، وسرت الجراحتان، فلا قصاص، ثم جعلت الأفعال عندنا كالفعل الواحد، فليكن الأمر كذلك من طائفةٍ متواطئين.
هذا منتهى الغرض في ذلك.
ثم إن أوجبنا القصاص عند التواطؤ، فيصير كل واحد منهم في حكم العامد في القتل بسبب الشركة، وإن لم يوجد منهم ما هو عمد-في القتل- محضٌ، وهذا بمثابة إيجابنا القصاص على الجارحين جميعاً، وتقديرِنا كلَّ واحد منهما قاتلاً، مع القطع بأنه ليس ينفرد بالقتل.
10331- ثم إن لم نوجب القصاص، فنوجب الضمان لا محالة، وربما يكون فعل كل واحد منهم بحيث لا يتعلق به لو انفرد قصاص ولا ضمانٌ أصلاً، ولكن إذا اجتمعت، حصل الإهلاك بالكل، فيصير الفعل بسبب المشاركة مضمِّناً، وإن كان لو انفرد، لم يتعلق به حكم أصلاً، فإذا اشتركوا بالجراحات، فيصير كل واحد كالمنفرد بالقتل، وإن لم يكن كذلك.
فإن أوجبنا القصاص على المشتركين، فيصير كل واحد منهم بسبب الشركة عامداً، وإن كان فعله لا يصلح للعمد لو انفرد، وإن لم نوجب القصاص، فنوجب الضمان، ونجعل فعلَ كل واحد منهم مؤثراً، وإن لم يكن مؤثرأ أصلاً لو فرض انفراده. فهذه مراتب تأثير الشركة.
10332- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن قائلاً لو قال: إن كنتم تتماروْن في الأوّلين، فالذي يضرب آخراً مثلاً يصادف ضرْبُه مَنْ ضَعُفَ بالضربات الأولى، فيكون هذا الضربُ في هذا المحل مما يُعمَدُ به القتلُ غالباً. قلنا: وإن كان كذلك، فالضربات الأولى خطأ أو شبه عمد، والمتأخر، وإن وقع فعله بضعيفٍ، فقد شاركه من وقع فعله شبهَ عمد.
وإن فرض هذا السؤال في غرضٍ آخر-وهو أن الأول صدر منه ما لا يؤثر- قلنا: قد صيّره الأولُ بفعله بحيث يقتل التأثيرُ بالضرب المتأخر، فتحقق الاشتراك من الكل، بهذا الوجه الذي ذكرناه، وقد انتجز المقصود من الفصل.
فصل:
10333- إذا جرح رجل رجلاً جراحة، وجرحه الثاني جراحتين، وسرت الجراحات إلى الموت، وآل الأمر إلى المال، فالتوزيع يقع على الجارحَيْن، والدية تجب نصفين، ولا ننظر إلى أعداد الجراحات.
ولو جرحه أحدهما وأشلَى عليه الآخر سبعاً، فعضه عضة غير مذفِّفة، وأنهشه الآخر حيّةً غيرَ مُجْهزة، فهذان السببان منه بمثابة جرحين، ولا اعتبار بالتعدد فيهما، وإنما النظر إلى اتحاد الجاني بهما.
ولو جرح رجل رجلاً جراحة، وعضه سبع عضة من غير إشلاء من أحد، ونهشته حية من غير إنهاشٍ من أحد، فالجارح شريك السبع والحية، فإذا آل الأمر إلى المال، ففيما يجب على الجارح وجهان ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أن الواجب عليه ثلث الدية، فإنه شارك شخصين: سبعاً وحية، فصار كما لو شارك رجلين.
والثاني: أنه يلتزم نصف الدية، وإذا لم يكن الشريك آدمياً، فلا نظر إلى عدد الأسباب، بل الجميع منها بمثابة سبب واحد في مقابلة جرحٍ من الآدمي. وهذا الخلاف يمكن أن يُتلقى مما ذكرناه من التردد في أن صفة فعل السبع هل تراعى؟ وقد ذهب طائفة، وهم الأكثرون إلى أنه يراعى صفة فعل السبع والحيّة؛ حتى لو تعمد، فالإنسان شارك عمداً محضاً غير مضمون، ففي القصاص قولان. وإن اتفق سقوط السبع على إنسان من غير قصد منه، فالرجل شارك خاطئاً، فلا قصاص عليه قولاً واحداً.
وذهب المحققون إلى أن عمد السبع لا مبالاة به، وهو كالخطأ كيف فرض الأمر، فإن كانت أفعال السبع لا تختلف، فلا نعتبر أعدادها، وإن كانت تختلف، فلا ننكر اعتبارَ أعدادها. والله أعلم.
فصل:
قال: "ولو قطع يد نصراني، فأسلم، ثم مات، لم يكن فيه القود... إلى آخره".
10334- مضمون الفصل الكلام في التغايير التي تلحق المجني عليه، والكلام في الجرح وما يقع بعده من تغيّرٍ في المجروح، وفي الرمي وما يقع من تغيّر المرميّ قبل وقوع السهم، فنذكر الجرحَ ونستقصي ما فيه، ثم نذكر الرميَ إن شاء الله عز وجل.
فنقول: إذا تغيرت حالةُ المجروح بعد وقوع الجرح به، وسرت الجراحة، وأدت إلى الموت، فلا يخلو إما أن يجرح في حالة الهدر، فيصيرَ إلى حالة الضمان، أو يجرحه في حالة الضمان، فيصير إلى حالة الهدر، أو يجرح في حالة نقصان الضمان، فيصيرَ إلى حالة الكمال.
فإن جرح في حالة الهدر، ثم صار إلى حالة الكمال، وسرت الجراحة إلى النفس، فلا شيء على الجارح في هذه الحالة، وذلك، مثل أن يجرح مرتداً فأسلم، ثم سرى إلى النفس، أو جرح حربياً فأسلم، وسرى إلى النفس.
وكذلك لو جرح حربياً، فعقدنا له الأمان، وسرى ومات.
وكذلك لو جرح حربي مسلماً أو ذمياًً، ثم أسلم الجارح أو عُقد له عقدُ الأمان، ثم سرى إلى النفس، فهذا التغير وإن كان في الجارح، فمقتضاه الضمان بعد الهدر.
وكذلك لو جرح السيد عبده، ثم أعتقه وسرى الجرح، أو جرح مستحقُّ القصاص من عليه القصاص، ثم عفا عنه، فسرت الجراحة.
فهذا بيان التغير من الهدر إلى الضمان تصويراً. والحكمُ في ذلك ما قاله المراوزة؛ فإنهم قطعوا بأن الضمان لا يتوجه في هذه الصورة أصلاً؛ اعتباراً بحالة وقوع الجراحة؛ فإنها وقعت في حالة الهدر، فلا أثر لما يطرى من بعدُ.
وذكر العراقيون فيه إذا جرح مرتداً، ثم أسلم ومات، أو جرح حربياً وأسلم المجروح ومات، فلا يجب القصاص على الجارح.
وفي وجوب الضمان وجهان:
أحدهما: أنه لا يجب، كما حكيناه عن طريق المراوزة اعتباراً بحالة الجراحة.
والثاني: أنه يجب اعتباراً بالمآل، وهذا مما انفرد به العراقيون، وإنما أثبت المراوزة الخلافَ في الضمان إذا جرى مثلُ ذلك في الذمي، كما سنصف ذلك في فصل الذمي، إن شاء الله عز وجل.
10335- وذكر الشيخ أبو علي رضي الله عنه الوفاق في مسألة المرتد والحربي إذا أسلما بعد وقوع الجرح بهما، كما ذكرناه عن المراوزة، وذكر نصَّين مختلفين في المولى والمملوك، ونحن نسوقهما ونذكر مسلكه فيهما، قال رضي الله عنه: "على أن السيد إذا جرح عبده، ثم أعتقه ومات مجروحاً، فلا ضمان على السيد الجارح أصلاً" ونصَّ الشافعي في عيون المسائل على أنه إذا كان بين شريكين جاريةٌ مشتركة، وكانت حاملاً بولد رقيق من نكاح أو سفاح، فضرب أحد الشريكين بطنَ الجارية، ثم أعتقها وسرى العتق وغرِم قيمةَ نصف صاحبه، فإذا ألقت الجنين ميتاً من الجناية، قال الشافعي فيما نقله الربيع عنه: "يجب على الجاني في الجنين غرة كاملة".
وإيجابه الغرة يخالف النصّ الذي حكيناه في الجناية على المملوك مع إعتاقه؛ فإن الجنين حالة الجناية كان مملوكاً للشريكين، فقد صادفت جنايته نصفه مملوكاً له، ثم طرى العتقُ من بعدُ، فقياس ما قدمناه أنه لا يغرَم إلا نصفَ الغرة، وهو الذي كان مملوكاً للشريك.
قال الشيخ: اختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: فمنهم من قال: في المسألتين قولان نقلاً وتخريجاً:
أحدهما: أن السيد لو جرح عبده، ثم أعتقه، فمات يغرَم، ديته كاملة لورثته.
وإذا جنى على جنين مملوك، ثم عَتَق وسقط غَرِم الغرة كاملة.
والقول الثاني- أنه لا يجب الضمان لا في العبد إذا عتق، ولا في الجنين.
توجيه القولين: من قال: لا يجب الضمان في المسألتين-وهو القياس- احتج بأن الجراحة صادفت حالةَ الإهدار، فوجب إهدارها، والسراية بمثابتها، فصار كما لو جرح مرتداً أو حربياً، ثم أسلما. هكذا احتج الشيخ.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن قال: الجراحة وقعت محظورة، والاعتبار بالمآل في قدر الضمان، كما سنصفه، فليكن الاعتبار بالمآل في أصل الضمان، وليس ذلك كجرح المرتد والحربي؛ فإنهما مهدران عموماً، والجراحة فيهما لا تكون محظورة بعينها.
ومن أصحابنا من أقرّ النصين، وطلب الفرق بينهما، فقال: الجرح صادف العبد تحقيقاًً، ثم عَتَق، ولا تتحقق إصابة الجرح الجنين، فإنه مغيب، فنعتبر حالةَ انفصاله، ونجعل ما تقدم بمثابة رميٍ وحالةُ الإصابة حالةُ الانفصال، كما سنوضح تفصيل المذهب فيه إذا رمى إلى عبده، فأعتقه وأصابه السهم حُرَّاً.
وهذا غير سديد؛ فإن الانفصال ليس حالة الجناية، وإنما الجنايةُ سابقة، والانفصال بسببها. قال الشيخ: هذا بيّن، ولكن النصّ في الجنين مشكل.
10336- فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه أن الجارح إذا أصاب المرتد والحربي ثم أسلما، فالمراوزة قاطعون بنفي الضمان، والعراقيون ذكر وا وجهين.
وإذا جرح عبدَه أو جنى على جنينه المملوك، ففيه التصرف الذي حكيناه عن الشيخ أبي علي رضي الله عنه.
10337- ومما نذكره أنا إذا جرينا على ما حكاه العراقيون، ثم فرعنا على أن الضمان يجب إذا جرح حربياً، ثم أسلم ومات، وكذلك نظيره، فالدية مخففة مضروبة على العاقلة، والجناية ملتحقة بالخطأ المحض، وينزل ذلك منزلةَ ما لو رمى إلى صيد، فاعترض آدميٌّ فأصابه وقتله، فالقتل خطأ محض.
هذا ما أرى القطعَ به، وهو مطرد في السيد وعبده إذا أوجبنا الضمان.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أصاب الجرحُ حالةَ الإهدار وطرى سببُ الضمان، من بعد الجرح.
10338- فأما إذا صادفت الجراحةُ حالة الضمان، ثم طرى السبب المهدِر من بعدُ، مثل أن يجرح مسلماً، فيرتد، ثم تسري الجراحة ويموتُ مرتداً، وكذلك لو جرح ذمياًً، ثم ينقض العهد، ويموتُ حربياً، فعلى الجارح ضمان الجرح، فحسب. وسيأتي هذا مشروحاً بعدُ في فصل مفرد، إن شاء الله عز وجل.
10339- فأما إذا جرى الجرح في حالة نقصان الضمان، ثم انتهى إلى حالة الكمال، مثل أن يجرح ذمياًً، أو مملوكاً لغيره، ثم يُسلم الذمي ويعتِق العبدُ، فيجب البدل الكامل اعتباراً بالمآل، وهذا متفق عليه بين الأصحاب؛ فإن الجراحة صادفت محلّ الضمان، ثم أقدار الأروش تَبِين بالنهايات استقراراً؛ فالنظر إلى المآل في ذلك، وعليه تخرج سراية الجراحات، ولو قطع يدَ إنسان، فسرى ومات، وجب ديةٌ كاملة، ولو قطع يديه ورجليه، فسرت الجراحات، ومات، لم يجب إلا دية واحدة، وهذا أصل متمهد في الجراح.
وقد انتجز بما ذكرناه القول في الجراحات إذا وقعت، ثم تغير المجروح بعدها.
10340- فأما الفصل الثاني وهو الكلام في الرمي وما يحدث بعده من تغيّر على ما نصفه.
قال الشافعي: "ولو أرسل سهماً، فلم يقع على النصراني حتى أسلم... إلى آخره".
فنقول: إذا أرسل السهمَ فتغيرت حالةُ المقصود، ثم أصابه السهمُ، فلا يخلو إما أن يرسل السهم في حالة الإهدار، فصار إلى حالة الضمان، فأصابه السهم، أو كان في حالة الضمان عند نفوذ السهم، فيصير إلى حالة الإهدار، فيصيبه السهمُ.
فأما إذا كان مضموناًً حالة الإرسال، فصار هدراً، فأصابه السهم، وفيه المعنى المهدِر، فلا يجب الضمان أصلاً؛ اعتباراً بحالة الإصابة، وذلك أن يرسل السهم على مسلم، فيرتد، ويصيبه السهم مرتداً، وكذلك لو أرسل على ذمّي، فنقض العهد وأصابه السهمُ حربياً، فالجواب ما ذكرناه.
والأوْلى فرضُ ما ذكرناه فيه إذا كانت الجراحة مذفِّفة، فيخرج الجواب كما ذكرناه، وكذلك لو لم تكن مذففة، ولكنه بقي حربياً أو مرتداً إلى الموت، فالجواب ما ذكرناه.
10341- فأما إذا كان المقصود هدراً عند الإرسال، ثم صار مضموناً فأصابه السهم، فإن كان مرتداً عند الإرسال أو حربياً، فأسلم، فأصابه السهم، ففي وجوب الضمان ثلاثة أوجه: أحدها: يجب الضمان اعتباراً بحالة الإصابة؛ فإنها الجناية على التحقيق، والرميُ سببٌ إليها، والاعتبار بوقت الجناية. والوجه الثاني- أنه لا يجب الضمان؛ فإن الفعل الداخل تحت الاختيار هو إرسال السهم، وما بعد ذلك لا يدخل تحت اختيار الرامي، فكان اعتبار حالةِ الإرسال أوْلى. والوجه الثالث: الفرق بين الحربي والمرتد، فإن كان المقصود حربياً عند الإرسال، فلا ضمان؛ فإن هذا الرمي مأمور به محثوث عليه، وهو مما يثبت لآحاد الناس، ولا يختص بالولاة، وأما رمي المرتد، فغير سائغ من وجهين:
أحدهما: أن قتله مفوّض إلى صاحب الأمر.
والثاني: أنه يقتل بالسيف صبراً، ولا يسوّغ أن يرشق بالنشاشيب، وإن كان خرج من الملة، فإذا كان الرمي منهياً عنه، ثم تحقق الضمان حالة الإصابة، أوجبناه.
ولو رمى إلى عبد نفسه، ثم أعتقه، فأصابه، فهذا يخرّج على الخلاف أيضاً؛
فإنه كان مهدراً في حق الرامي عند الإرسال.
وكذلك لو رمى إلى قاتل أبيه ثم عفا عن القصاص.
والأولى أن ترتب هذه المسائل بعضها على بعض، فنقول: إذا رمى إلى حربي، فأسلم، فأصابه، ففي الضمان وجهان. ولو رمى إلى مرتد فأسلم وأصابه، فوجهان مرتبان، وهذه الصورة أوْلى بالضمان، وإذا رمى إلى مَنْ عليه القصاص في ديةٍ، ثم عفا، فوجهان، والصورة الأخيرة أوْلى بالضمان من المرتد؛ فإن الإهدار الذي يتحقق في المرتد لا يتحقق فيمن عليه القصاص، وإذا رمى إلى عبد نفسه، فأعتقه، فأصابه السهم، فهذا أولى الصور بوجوب الضمان، وفيها وجهان، وسبب الترتيب أن العبد مضمون بالكفارة على مولاه، ولا حاجة إلى الكشف في ذلك، والمرامزُ كافية.
فإن قيل: قد ذكرتم أنه لو جرح من هو مرتد، ثم تغيرت صفته، فصار مضموناً، وسرت الجراحة، فلا ضمان إلا على طريقة العراقيين، وقلتم: في الرمي أَوْجُهٌ على طريق المراوزة؟ قلنا: سبب ذلك أن الجرح جنايةٌ مستقرة؛ فقد ثبتت الجناية ووقعت والمجني عليه هَدَر، ويُظهر الإهدارَ، وإذا رمى، فالجناية لم تقع إلا والمقصود مضمون، فهذا هو الذي أوجب الفرق بين الأصلين.
وكل ما ذكرناه إذا كان المقصود هدراً عند الإرسال مضموناً عند الإصابة.
10342- فأما إذا كان الأمر على العكس من هذا، فكان مضموناً عند الإرسال هدراً عند الإصابة، فلا يجب الضمان أصلاً، وذلك مثل أن يرمي مسلماً، فيرتد، فيصيبه السهم مرتداً، أو يرمي ذمياًً، فيصيبه السهم وقد نقض عهده وصار حربياً، فلا شك في انتفاء الضمان في هذه المنازل، والتعليلُ بيّن.
10343- فأما إذا أرسل السهم في حالة نقصان الضمان، فأصاب السهمُ في حال كمال الضمان، فالاعتبار بحالة الإصابة باتفاق الأصحاب، وذلك إذا رمى إلى ذمي فأسلم، فأصابه السهم، أو رمى إلى عبدٍ لغيره، فأعتقه مولاه، فأصابه السهم، فالاعتبار بحالة الإصابة؛ فنوجب في مسألة الذمي ديةَ مسلمٍ، وفي العبد إذا أعتق ديةَ حرٍّ لورثته.
وأبو حنيفة اضطرب مذهبه في أطراف هذا الأصل، فقال: إذا رمى إلى عبد فَعَتَق، ثم أصابه، قال: لا تجب دية حر، وإنما تجب القيمة؛ نظراً إلى حالة الإرسال، ووافق أنه لو رمى إلى حيٍّ، فمات، فأصابه السهم ميتاً أنه لا يجب شيء، وكذلك قال: لو رمى إلى عبدٍ فانتقصت قيمته، فأصابه السهم، وهو ناقص القيمة، فالاعتبار بحالة الإصابة.
ولا خلاف أنه لو جرت أسباب غيرُ متصلة بالإهلاك، ثم جرى الهلاك، فلا تُعتبر حالةُ وجود الأسباب: فلو حفر بئراً في محل عدوان، وكان في الموضع مرتد أو حربي، أو كان له عبد، فأسلم الكافر وعتَقَ العبدُ، وفُرض التردِّي، فالضمان يجب اعتباراً بحالة التردي، وكل ما ذكرناه في الضمان.
10344- وقد بقي علينا تفصيل القول في القصاص، فحيث نقول: لا يجب الضمان، فلا شك أن القصاص لا يجب، وإذا أوجبنا الضمان على التفاصيل المقدمة، فقد قال الأئمة إذا اقترن مُسقطُ القصاص بالرمي، أو بالإصابة، أو تخلل بينهما، انتفى القصاص تغليباً للدَّرء، فلو رمى إلى مرتد، فأسلم فأصابه السهم، فلا قصاص، ولو كان مسلماً عند الرمي مرتداً عند الإصابة، فلا شك في انتفاء القصاص؛ فإن الضمان ينتفي في هذه الصورة.
ولو رمى إلى مسلم، فارتد بعد الإرسال، وقبل الإصابة، ثم عاد وأسلم، فأصابه السهم، قالوا: لا يجب القصاص، وإن وجد الإسلام في الطرفين: عند الإرسال وعند الإصابة؛ لأنه قد تخلل بينهما المسقط والدرءُ أغلب.
هذا ترتيب القصاص، وفي أصل الضمان الخلاف المقدم، وفي المقدار مع ثبوت الضمان في الطرفين الاعتبار بحالة الإصابة.
10345- ثم قال الأئمة: ضرب العقل على العاقلة نجريه في الترتيب نحو القصاص في أنه نعتبر فيه الأحوالَ الثلاثة، كما ذكرناها في القصاص.
وبيان ذلك أنه لو رمى إلى صيدٍ وأسلم الرامي، فأصاب إنساناً، فالدية في مال الرامي، ولا نضربها على عاقلة الرامي؛ لأنا إن ضربناها على عاقلته المسلمة، لم يجز؛ لأنه كان الرامي كافراً عند الإرسال، فالدية مضروبة عليه في ماله.
ولو رمى وهو مسلم إلى صيد، ثم ارتد الرامي، ثم أسلم، وأصاب سهمُه إنساناً مضموناً، فالدية في مال الرامي لتوسط الردة بين الإرسال والإصابة، وهذا على القياس الذي ذكرناه في درء القصاص إذا اعتبرنا الطرفين والواسطة.
ولكنا صورنا التغايير في الجاني؛ فإن الغرض في المقصود الذي نحن فيه يتغير به لا محالة.
10346- هذا ما ذكره شيخي، والقاضي، وجماهير الأصحاب.
وذكر الشيخ أبو علي رضي الله عنه في توسط الردّة من الرامي بين الرمي والإصابة قولين في أن الدّية على من تضرب:
أحدهما: أن الدية مضروبة على العاقلة؛ اعتباراً بالطرفين، ولا تعويل على ما توسط من الردّة بينهما. والقول الثاني- أن الدية في مال الرامي كما حكيته عن الأصحاب.
قلت: لم يتعرض للقصاص، والذي أراه أن المسألة إذا كانت على قولين في أمر العاقلة، فيجب طرد القولين في القصاص أيضاًً، في نظير الصورة التي ذكرناها، حتى نقول: إذا رمى إلى مسلم، فارتد المقصودُ بعد الإرسال، وقبل الإصابة، ثم أسلم، فأصابه السهم، فهل يجب القصاص على الرامي؟ فعلى قولين، فإن ضرب العقل على العاقلة خارج عن قياس التصرفات بجملتها، وإذا كان معدولاً عن القياس منزوعاً عن مقتضى الأصول، فالوجه أن نحتاط فيه احتياطَنا في القصاص.
ثم إذا جرى فيه قولان، فلابد من إجرائهما في القود، والدليل عليه أن من جرح مسلماً، ثم ارتد المجروح، وأسلم ومات، فسنذكر أن القصاص يجب على الجارح في قول، وإن طرأت الردة في الأثناء، وقد تكون الجراحة ساريةً حيث يرتد، ولو وقع هذا خرج قولٌ في وجوب القصاص، نظراً إلى حالة الجرح والموت، فمسألة الرمي لهذا أولى، وسنذكر مسألة طريان الردة على المجروح ونأتي بما ذكره الأصحاب فيه.
هذا بيان ما ذكره الشيخ أبو علي.
10347- ثم نعود إلى ذكر مسائل في تحمل العاقلة، فلو جرى الجرح خطأً من ذمّي، ثم أسلم الجارح، ثم سرى الجرح وأفضى إلى الموت، قال الأئمة: أما ضمان الجرح، فنضربه على العاقلة الكافرة، لأن الجرح قديم في حالة الكفر، وتأتي الدية في مال الجارح لا يحتمله الكفار؛ لأن السراية وقعت في الإسلام، ولا يتحمله المسلمون لأنها سراية جناية جرت في الكفر، فإذا كان كذلك، فالوجه ضرب ما يزيد على أرش الجرح على الرامي. وهذا فيه إذا كان أرش الجرح أقلَّ من الدية، فإن الدية، بكمالها مضروبة على العاقلة الكفار، ووجهه بيّن.
ومما يذكره الأئمة في ذلك أنه لو قطع ذمي أصبع إنسان، فسرى إلى الكف، ثم أسلم الجارح، وسرى إلى النفس، فدية الإصبع والكف على عاقلته الكفار؛ لأنها استقرت في حالة الكفر، وذلك نصف الدية، والنصف الآخر في مال الجاني؛ لما تقدم تقريره؛ فإنه اشترك فيه الكفر والإسلام.
ومما ذكروه أنه لو قطع أصبعاً في الشرك خطأ، ثم أسلم، ثم قطع أصبعاً أخرى ثم سرى إلى النفس، فالسراية تضاف إلى القطعين، وموجب ذلك أن نوجب نصف الدية على عاقلته المسلمين؛ لأن إحدى الجنايتين جرت في الإسلام، فأما النصف الآخر؛ فإنا نقول فيه: أما أرش الإصبع المقطوعة في الشرك، فمضروب على الكفار لاستقرار الجناية عليها في الشرك، وما زاد على أرش الإصبع إلى تمام نصف الدية، فهو في مال الجاني؛ لأنه اشترك فيه الكفر والإسلام؛ إذ وُجدت سراية واقعة في الإسلام عن جناية حصلت في الكفر، وأنا أعيد هذه المسائل إذا انتهينا-إن شاء الله عز وجل- إلى باب العواقل والضرب عليهم.
فصل:
قال: "لو جرحه مسلماً، فارتد، ثم أسلم، فالدية والكفارة، ولا قودَ؛ للحالة المتخللة... إلى آخره".
10348- إذا جرح مسلماً فارتد المجروح، ثم عاد إلى الإسلام، ومات مسلماً بسراية الجناية، فالمنصوص عليه أن القود لا يجب للحالة الحادثة، وهي الردة الطارئة، وذكر الصيدلاني نصاً للشافعي يخالف هذا النص في مسألة تناظر هذه، وهي أن ذمياً لو جرح ذمّياً، فنقض الذمي المجروحُ العهدَ، والتحق بدار الحرب، ثم عاد إلى الذمة، فعقدناها له، والجراحة به، فسرت وأدت إلى الهلاك، قال الشافعي فيما نقله الصيدلاني: "يجب القصاص على الذمي الجارح" ولا شك أن هذه المسألة تناظر طريان الردة؛ فإن انتقاض العهد مُهْدِر كالردة، فقد وجد في المسألتين في الطريقين شرطُ التزام القود، وتوسط فيهما جميعاً مُهدر.
وقد اختلف أصحابنا فمنهم من قال: في المسألتين جميعاً قولان في وجوب القصاص:
أحدهما: أنه يجب؛ نظراً إلى حالتي الجرح والموت.
والثاني: وهو الأقيس أنه لا يجب؛ فإن المهدِر قد تخلل، والجراحة سارية، والقصاص يسقط بالشبهة، فيبعد والحالة هذه إيجابُ القصاص.
ومن أصحابنا من قال: نُنزل النصين في المسألتين على حالين، فحيث قال في مسألة الردة: لا يجب القصاص، صوّر فيه إذا طال الزمان والجراحة سارية، فنعلم أن للسراية الواقعة في الردة وَقْعاً في الإهلاك، فعند ذلك لا نوجب القصاص.
وحيث أوجب القصاصَ فُهم منه إذا طرى المُهْدِر وزال في زمانٍ خفيف، لا يظهر في مثله للسراية وقعٌ محسوس، فلا يمتنع القضاء بوجوب القصاص، والحالةُ هذه؛ إذ لا أثر للسراية المقترنة بالمُهدِر في الحالة اللطيفة، وقد نفرض إقبال الجراحة على الاندمال في حالة اعتراض المهدِر، ثم نفرض انتقاضها عند العَوْد إلى الإسلام، والغرض ألا يكون للسراية موقع محسوس من الهلاك.
والرأي عند المحققين في ذلك أن السراية إذا كانت محسوسة، وقد تمادى زمان المهدِر، فيجب القطع بانتفاء القصاص.
وإن قصر الزمان بحيث لا يظهر للسراية فيه أثر، ففي القصاص قولان.
ويتبيّن مما انتهى التصوير إليه أن ما ذكرناه في تخلل المهدِر بين إرسال السهم والإصابة من الاحتمال، فهو متجه، بل هو بالاتجاه أولى؛ من حيث إن الجراحة لم تكن واقعةً بعدُ.
10349- ثم إذا أوجبنا القصاص في المسألة التي نحن فيها، فلو آل الأمر إلى المال، وجبت الدية بكمالها، لا شك فيه.
وإن أسقطنا القصاص، لمكان اعتراض المهدِر، وآل الأمر إلى المال، فظاهر النص أنه يجب الدية الكاملة.
وخرج ابن سريج قولاً آخر أنه يجب ثلثا الدية، والدية موزعة على الأحوال، وهي حالتا ضمان، وحالة هدْر.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً، وهو أن الواجب نصف الدية، فنضم حالتي الضمان ونجعلهما حالة واحدة، ونوزع الدية على حالتي الهدر والضمان.
ومما يتفرع على هذه النهاية أنا إذا أسقطنا القصاص عند اعتراض المهدر، إن قرب زمانه، ولم يُحسّ موقع السراية، فمن أصحابنا من قطع هاهنا بإكمال الدية وردَّ المسالكَ الثلاثةَ والخلافَ إلى ما إذا طال الزمان، وكانت السراية محسوسةً مع المهدر.
ومن أصحابنا من طرد الخلاف في قرب الزمان وتماديه، ولم يُفَصِّل؛ فإن السراية وإن كانت غائبة ولم تحس، فليس ذلك للحكم بانتفائها وعدم وجودها، ولكن غَوْرها يَبْعُد بها عن الحس، ولا شك فيها.
هذا تمام الكلام في المسألة.
10350- وقد حكى الصيدلاني في مصنفه مسلكاً عن الققال لا يليق بمنصبه ونحن نذكره على وجهه، ثم ننبه على الخلل فيه.
قال: قال الققال: القولان في القصاص مبنيان على ما إذا زَهَقت الروح بجناية مضمونة واقعةٍ عمداً، وجنايةٍ واقعةٍ عمداً غير مضمونة، كما قدمناه في شريك الحربي أو شريك السبع، ووجه التقريب أن السراية في حالة الهدر لها حكم العمد، ولكن لا ضمان فيها، والجراحة والسراية في الطرفين لهما حكم العمد والضمان.
وهذا إن صح النقل فيه هفوةٌ عظيمة؛ من جهة أنا إنما نردد القولين في الجانبين إذا كان أحدهما ضامناً عامداً، وكان الثاني عامداً ولم يكن ضامناً، فأما إذا صدرت الجراحتان من جارح واحد، فلا قصاص على الجارح، سواء كانت تلك الجراحة مضمونة أو لم تكن؛ والسبب فيه أنه إذا صدر المُسقِط والموجب من شخص واحد، فلابد من إثبات أثر المسقط، والمحلُّ واحد، فيغلب السقوطُ الثبوتَ، وإذا تعدد الجانيان أمكن إثبات أثر الإسقاط والإيجاب جميعاً، فندرأ القصاصَ عمن لا يستوجبه ونُثبته على من يستوجبه، وفي ذلك توفية الموجِبين، والوفاء بحق الجنايتين.
فلو عدنا إلى مسألتنا: السراية في حالة الردة، فهي بمثابة جناية تصدر من ذلك الجارح بعينه، فكيف ينتظم هذا فيها، ولو كان الناقل غيرَ موثوق به، لقطعت بتغليطه، ولكن الناقل معتمدٌ، وقد عزّ من لا يهفو.
هذا تمام المراد في المسألة نقلاً وتخريجاً وبحثاً.
10351- ومما ذكره العراقيون أنا إذا أوجبنا الدية وكانت الجناية خطأ، فهل تُضرب على العاقلة؟ ذكروا فيه وجهين:
أحدهما: أنه لا يضرب على العاقلة إلا نصف الدية، فإنه قد جرى ارتداد في الأثناء.
وهذا زلل غيرُ معتد به؛ فإن الردة لو اعتبرناها، لما أوجبنا الدية بكمالها، فإذ قلنا: تجب الدية الكاملة، دلّ أنا لم نعتبر الردة أصلاً، وأسقطنا أثرها بالكلية.
والثاني: أنه تضرب الدية بكمالها على العاقلة. وهذا هو الذي لا يجوز غيره.
فصل:
قال: "ولو مات مرتداً، لكان لوليه المسلم أن يقتص بالجرح... إلى آخره".
10352- إذا جرح مسلماً، فارتد المجروح، ومات على الردة من ذلك الجرح، فلا شك أن القصاص لا يجب على القاتل في النفس، وكيف يجب القصاص في النفس ولا ضمان في النفس، وقد مهدنا ذلك فيما سبق.
أما ضمان الجرح بالمال إذا كان النظر فيه، فهو ثابت، وأما القود في الجرح، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: "لوليه المسلم أن يقتص منه".
وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه أراد بالولي الإمام؛ فإنه إذا مات مرتداً، فالمسلم لا يرثه أصلاً، وإذا لم تكن وِراثة، ولا طريق في استحقاق القود غيرُ الوراثة، استحال أن يستحق القصاصَ؛ فالولي عبارة عن الإمام أو عن نائبه.
وهذا التأويل فيه بُعد، وإن كان المذهب سديداً.
ومن أصحابنا من قال: أراد بالولي قريبَه المسلم الذي كان يرثه لو مات مسلماً، ولفظ الشافعي صريح في هذا المعنى؛ فأنه قال: "لوليه المسلم"، فإن أمكن حمل الولي المطلق على الإمام على بُعدٍ، فتَقْييد الولي بالمسلم نصٌّ في أن المراد به القريب الوارث.
ولكن توجيه هذا الوجه عسر، والممكن فيه أن المقصود من القصاص التشفِّي ودَرْكُ الثأر، وهو بالقريب وإن كان مسلماً أولى، فإذا عفا، وآل الأمر إلى المال، فالولي الخاص المسلم لا يرث، فالذي ذُكر من الجواب عنه أنه لا يمتنع أن يَتَصرف في القصاص من لا يتصرفُ في المال؛ فإن من قُتل ظلماً وعليه ديون وللوارث أن يقتص، فلو عفا، فالمال مصروف إلى الديون، (وقد يفرض من الوصايا من الثلث من الديون).
وهذا لا يثبت على المساق الذي نريده ونبني هذا المجموع عليه.
10353- ثم ينتظم من مجموع ما ذكرناه أنا إن لم نُثبت حقَّ الاقتصاص للولي الخاص، ووكلناه إلى الإمام، فللشافعي قولان في أن من قُتل أو قطعت يده، ثم مات وليس له وارث خاص، فهل يثبت القصاص ممّن قتله؟ أحدهما- لا يثبت القصاص؛ لأنه لو ثبت، لاستحقه كافة المسلمين وفيهم الصبيان والمجانين، ولا يسوغ استيفاء القصاص وفي الأولياء من وصفناهم.
والقول الثاني- أنه يثبت القصاص، ولا أصل لما ذكره ناصر القول الأول؛ فإن القصاص يثبت بجهةٍ مخصوصة، ولا يُنظر فيها إلى آحاد المسلمين، وعلى الإمام أن يصرف ما يأخذه من ميراث من ليس له وارث حاضر إلى الذين ولدوا بعد موته، فاستبان أن هذا التوريث لا يتعلق بالأشخاص، وإنما يُعزى إلى جهة المصالح فحسب.
والوجه أن نقول: في إيجاب القصاص معنيان:
أحدهما: الزجر والتشفي ودرك الغيظ، فإن راعينا الزجر، أثبتنا القصاص، وإن راعينا معنى التشفِّي، لم نثبته.
10354- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن أصل القصاص في المسألة التي نحن فيها مختلف فيه: فمن الأصحاب من لم يثبته أصلاً.
ومنهم من أثبته، ثم فيمن يثبت له حق الاقتصاص خلاف.
ولا وجه لإثبات القصاص للولي الخاص، وإن كان النص يخالفه والله أعلم.
10355- ذكر العراقيون ترتيباً في أرش الطرف، فقالوا إن قلنا: لا يجب القصاص في الطرف المقطوع في حالة الإسلام، فهل يجب الأرش؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يجب الأرش، ولا قصاص فيه ولا أرش.
وهذا بعيد، لا اتجاه له، والممكنُ فيه أن الأطراف تندرج تحت النفس، وإذا مات مرتداً بسراية الجناية، وجب اندراجها في حكم الإهدار تحت النفس. وهذا الوجه إنما يجري إذا مات مرتداً بسراية الجناية الجارية في الإسلام.
والوجه الثاني- أنه يجب الأرش؛ فإنها جناية جرت في حالة الإسلام، فيستحيل إهدارها، فإذا قلنا: يجب الأرش، فإن كان الأرش مقدارَ الدية أو أقل، فإنه يجب ويصرف إلى مصرف الفيء، ولا يدفع إلى قريبه الخاص الذي كان يرثه لو مات مسلماً؛ فإن المسلم لا يرث المرتد أصلاً. وإن كانت الأروش أكثر من الدية مثل إن كان قطع الجاني يديه ورجليه، فأروشها ديتان، ففي الواجب وجهان: أصحهما- أنه لا يجب أكثر من الدية، فإنه لو مات مسلماً، لما وجب أكثر من الدية، فيستحيل أن يزيد الضمان بسبب موته مرتداً والمسألة مفروضة فيه إذا مات بسراية الجراحات.
والوجه الثاني- أن الأروش تجب بجملتها بالغةً ما بلغت، وإن زادت على دياتٍ، وهذا اختيار الإصطخري، ووجهه أن الأروش إنما تعود إلى مقدار الدية بسبب الاندراج تحت النفس، والنفسُ مهدرة في هذه المسألة، فلا سبيل إلى الإدراج، وإذا تعذر المصير إليه كما ذكرناه، فلا وجه إلا إفراد الجراحات بأروشها، ويصير تعذّر الإدراج بسبب الردة بمثابة ما لو اندملت الجراحات، ومات هو مرتداً بسببٍ آخر، أو قتل لردته، ولو كان كذلك، لوجبت الأروش، وإن بلغت دياتٍ، فهذا ترتيب المسألة في القصاص والأروش.
فصل:
10356- إذا قطع يدي نصراني ورجليه مثلاً، فتمجس ومات من سراية الجرح، فهذا يتفرع على أن الذمي إذا تنقل من دينه إلى دين آخر سوى الإسلام، فهل يُقرّ عليه أم لا؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما في النكاح. فإن قلنا: إنه لا يُقر عليه، فهو في تمجسه هذا كالمرتد، فتفصيل القول فيه على هذا القول كتفصيله فيه إذا قطع يد مسلم، ثم ارتد ومات من الجرح مرتداً.
فإن قلنا: إنه يقرّ على ما انتقل إليه، فقد انتقصت ديته، واندرجت أطرافه تحت نفسه، فلا يجب إلا دية مجوسي. وإذا تقرر أنا نعتبر في مقدار الدية المآل، فما ذكرناه قياس الأصول، وسنذكر أن من قطع يدي عبد قيمته دياتٌ، وعَتَق ومات حراً من السراية، فلا يجب إلا ديةٌ واحدة.
هكذا ذكر العراقيون هذا الفرع.
فصل:
قال: "ولو فقأ عين عبد قيمته مائتان من الإبل... إلى آخره".
10357- هذا الذي ذكره رضي الله عنه تقدير، فإن قيمة العبد تعتبر تحقيقاًً بالدراهم والدنانير، والمعنيّ بقوله: "إن العبد لو كانت قيمته" بحيث لو صرفه إلى الإبل، لبلغت مائتين.
ونعود إلى الغرض، ونقول: إذا جرح عبداً قليلَ القيمة، فعَتَق وسرت الجراحة إلى النفس، وأهلكته، فيجب على الجاني ديةُ حر؛ اعتباراً بالمآل.
وهذا أصلٌ متمهد على مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه إلا قيمةُ العبد، ولو كانت قيمة العبد أكثرَ من دية حر وبلغت مقدارَ ديتين، فإذا جنى جانٍ وقطع يديه، فعَتَق ومات، فمذهب الشافعي أنه يجب دية الحر، ولا مزيد؛ اعتباراً بالمآل.
وقال المزني: يجب على الجاني أرشُ اليدين، وإن بلغ مقدار ديتين، وهذا بعيد عن مسالك المزني؛ فإنه لا يرتضي إلا الأقيس وما يعضده أجْلى النظر، فلعله رضي الله عنه قال ما قال عن أصلٍ، وهو أن المولى يستحق الأرش على التفصيل الذي سيأتي ذكره على أثر هذا، فيستحيل أن يُصرف إلى السيد دية حر؛ فإنه لا يستحق إلا أرش ما يرد على الرق، فلما استحال حِرمان المولى، واستحال أن يصرف إليه من دية الحر، فالوجه قطع أثر الحرية، والمصيرُ إلى إيجاب أرش الجراح الجارية في الرق، فينقطع أثر السراية في هذا المسلك.
وهذا يناظر الوجه الذي حكيناه عن الإصطخري فيه إذا قطع يدي مسلم ورجليه، فارتدّ المجروح، ثم عاد مسلماً، فإنه قال: تجب أروش الجراحات وإن زادت على ديات، فإنه لو نظر إلى السريان، لوجب الإهدار، فإذا امتنع الإهدار، وعسر تفريع السريان، رأى اعتبارَ الأطراف. كذلك سلك المزني هذا المسلك، وكان شيخي يقول: من سلك مسلك الإصطخري من أصحابنا، لم يُبْعد أن يوافق المزني في مذهبه.
وهذا بعيد غير معتد به.
والمذهب ما قدمناه من إيجاب دية حر، من غير مزيد، وتمام البيان في هذا الفصل يتصل بالفصل الذي يليه، وها نحن نبتديه.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قطع يدَ عبد، فأُعتق... إلى آخره".
10358- صورة المسألة: إذا قطع يد عبد فعَتَق وسرى إلى نفسه، فمات، وجب عليه دية كاملة، كما تمهد ذكره من اعتبار المآل في المقدار، ثم غرض الفصل أن نبيّن ما يصرف إلى السيد، وما يصرف إلى ورثة القتيل؛ فإنه مات حرّاً موروثاً.
والمسألة مفروضة فيه إذا قطع الجاني يداً واحدة، فالمنصوص عليه في هذه المسألة أنه يجب للمولى أقلُّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، لو قُدِّر اندمالُها، ومما التزمه الجاني على الملك، فإن كان أرش الجناية على الملك أقلَّ من الدية، فيستحيل أن يستحق السيد مزيداً بسبب الحرية. فإنه لا يستحق إلا جبرانَ ملكه، فأما ما زاد بسبب الحرية، فلا حظَّ له فيه.
وإن كانت دية القتل أقلَّ من الأرش لو قدر الاندمال في الرق، فلا وجه لإثبات مزيد على الجاني؛ نظراً إلى المآل، كما ذكرناه، وإذا لم نزد شيئاًً على الجاني، فلا يستحق السيد إلا ما التزمه الجاني.
هذا بيانُ هذا القول ووجهُه.
وفي المسألة قول آخر مأخوذ من نصّ الشافعي في مسألة أخرى سنذكرها على أثر هذه، وهو أن المولى يستحق أقلَّ الأمرين من دية القتيل، وتمامِ قيمة العبد المجني عليه. فإذا كان قَطَع الجاني يداً واحدة من العبد، ثم عَتَق ومات، فللمولى أقل الأمرين من تمام دية القتيل، أو تمام قيمته.
وتوجيه هذا القول: أن هذا الشخص إنما مات بسبب الجناية عليه في الرق، وإذا وجب اعتبار السريان، ولم يجْر تقديرُ الاندمال، وقد تحقق السريان، فنقدر القتيل ميتاً رقيقاً، ونقدره ميتاً حراً، ونوجب للسيد أقل العوضين، فإن كانت الدية أقلَّ، فليس للسيد إلا ما أوجبناه على الجاني، وإن كانت القيمة أقلَّ، فالزيادة تثبت بسبب الحرية، فيستحيل أن يستحقها، أو يستحقَّ شيئاًَّ مَنها السيدُ.
فرجع حقيقةُ القولين وتوجيههما إلى أنا نقول في القول الأول؛ نعتبر أرش الجناية مع الرق، أو ما يلتزمه الجاني على الملك، ثم نقول: للسيد أقلُّ الأمرين، ولا نعتبر السريان على الرق؛ فإن هذا تقدير على خلاف ما وقع تحقيقاًً.
وناصر القول الثاني يقول: الجراحة على الملك قد سرت حساً، وما ذكره الأول من أنها ما سرت على الرق يعارضه أن ما يصرف إلى السيد في كل وجه إنما هو جزءٌ من دية حر، فإذا لزم ذلك واحتُمِل، فتقدير الموت على الرق لا يبعد.
هذا بيان القولين وتوجيههما.
10359- فإن قيل: إذا كان الواجب ديةَ حر، فكيف يستقيم صرفها أو صرف شيء منها إلى السيد، وأثبتوا هذا الأصل؟ ثم الكلام في المقدار متفرع على ثبوت هذا الأصل، وهلا قلتم: إذا أعتق السيد العبدَ المجني عليه، فيكون إعتاقُه إياه إسقاطاً لحقه من الأرش بالكلية، وأنه إنما يستحق ما يستحقه بحق الملك واستحقاق الرق، فإذا أَسقَطَ حقَّ الرق، فقد أسقط الأصلَ الذي منه صدر استحقاقه للأرش؟
قلنا: الإعتاق إزالة للملك، واليد المقطوعة لا يبقى عليها الملك، ولا ينصرف إليها العتق، ولا ينعطف على المستحَق بها إسقاطٌ، ثم لا مرجع إلا على الجاني ولا شيء على الجاني إلا ديةُ الحر، فاضطررنا إلى إثبات حق المولى من الدية، ويثبت على الجاني.
وسأعود إلى تحقيق ذلك في آخر الفصل، عند نجاز المسائل، فإذا كان قَطَع الجاني يداً من العبد، ثم عتق ومات من السراية، فقد ذكرنا القولين وتوجيههما.
10360- ثم حرر المراوزة عبارتين عن القولين نذكرهما لنجري عليهما الصور التي سنذكرها، فالعبارة عن القول الأول: أن للسيد أقلَّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، أو ما التزم الجاني بسبب الجناية على الملك، وأرشُ الجناية على الملك نصف القيمة، وما التزم الجاني دية كاملة، فللسيد الأقلُّ منهما.
والعبارة عن القول الثاني: أن للسيد أقلَّ الأمرين ممّا التزم الجاني بالجناية على الملك، أو مثل نسبته من قيمته، وما التزمه الجاني بسبب الجناية على الملك الديةُ، ومثل نسبته من القيمة تمامُ القيمة، فللسيد أقلُّ الأمرين من تمام الدية، أو تمام القيمة.
ونحن نرسم بعد ذلك صوراً ونُخرِّجها على القولين، ثم نختم الفصل بما ذكرناه.
10361- صورة لو قطع يد عبدٍ فعتَق، ثم جاء آخر وقطع بعد الحرية رجله، ثم جاء ثالث، وقطع يده الأخرى، فقد اجتمع ثلاثةٌ من الجناة، فالوجه أن نقول: الواجب دية كاملة، وهي أولاً موزّعة على هؤلاء، فإن الجناة إذا اجتمعوا، لكان التوزيع على رؤوسهم، فعلى الجاني في الرق ثلث الدية، والمولى يستحق ما يستحق من جهة الجاني على الملك؛ فإن الجنايتين الأُخريين جنيا بعد الحرية، فلا تعلق للسيد بهما، ثم كم للسيد مما التزمه الجاني على الملك؟ فعلى ما قدمنا من القولين:
أحدهما: أن للسيد أقلَّ الأمرين من أرش الجناية على الملك، وهو نصف القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك، وهو ثلث الدية، فيصرف إلى السيد أقلُّ الأمرين مما ذكرناه.
وتحقيقه على التوجيه أنا نعتبر الأرش من غير تقدير السريان، أو جميعَ ما يلتزمه الجاني بسبب الجناية على الملك.
والقول الثاني- أن للسيد أقلَّ الأمرين من ثلث الدية، أو ثلث القيمة، نصّ الشافعي على هذا، في هذه الصورة، فخرّج الأئمة ذلك في الصورة الأولى، وفي كل صورة تفرض.
والعبارة عن القولين أنا نقول في قولٍ: للسيد أقلُّ الأمرين من أرش جناية الملك، أو ما يلتزمه الجاني بالجناية على الملك. وأرش الجناية نصف القيمة، وما التزمه الجاني ثلث الدية، وللسيد الأقل منهما.
ونقول في القول الثاني: للسيد أقلُّ الأمرين مما التزمه الجاني بسبب الجناية على الملك، وهو ثلث الدية، أو مثلُ نسبته من قيمته، وهو ثلث القيمة، فللسيد الأقل منهما.
10362- صورة أخرى: لو قطع رجل يد عبد، ثم عَتَق، فجاء جانٍ وقطع يده الأخرى، وجاء ثالث وقطع إحدى رجليه، ثم جاء الجاني الأول الذي جنى في الرق، وقطع رجله الأخرى، فالجناة ثلاثة، والواجب دية حر، وهي موزعة على رؤوسهم أثلاثاً؛ فإن هذا التوزيع لا يختلف بأن يَكْثر الجرمُ أو ينقص وإنما النظر إلى رؤوس الجناة.
ثم نقول بعد ذلك: على الذي جنى في الرق والحرية ثلثُ الدية، ثم له حالان: حالُ جنايةٍ على الرق وحالُ جنايةٍ في الحرية. فيوزع الثلث الذي عليه على حاليه: فيخص حالَه في الرق سدسُ الدية، وحاله في الحرية سدس الدية، ثم نُجري القولين، فنقول في أحد القولين: للسيد الأقلُّ من أرش الجناية على الملك، وهو نصف القيمة، أو ما التزمه الجاني على الملك، وهو سدس الدية؛ فإن ما التزمه بالجناية على الملك هذا المقدار.
فإن قيل: ألستم لم تعتبروا عدد الجراحات، ولم تفصلوا بين أن تكثر أو تقل؟ قلنا: هذا كذلك إذا أردنا التوزيع على الجناة، فإنا نجوز أن يكون الجرح الواحد من بعضهم أعظمَ أثراً من جراحات، فهذا ما بنينا أصلَ التوزيع على الرؤوس. وإذا أدرنا، نظرنا إلى من فيه كلامُنا، وقد خصه من الغرم الثلث، وصدر منه جرحان:
أحدهما: على الملك.
والثاني: على الشخص الحر، فلابد وأن نثبت لجرحه في حالة الحرية أثراً، ويستحيل أن نلغيه، فيتعين المسلك الذي ذكرناه. هذا أحد القولين.
والقول الثاني- أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه بالجرح الواقع على الملك السدسُ أو مثلُ نسبته من قيمته، وهو سدس القيمة.
وإذا وجهنا القولين في الابتداء مرة، كفانا في تفريع المسائل اتباعُ العبارة المحررة، وإن رمزنا في هذه المسألة إلى التوجيه، كان سبباً في رسوخ المعنى في الفكر، كأن أحد القائلَين يعتبر أقل الأمرين من الأرش لو فرض الاندمال أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك، والثاني: يعتبر الموت والسرايةَ في جانب الأرش؛ فإن الموت واقع في الواقعة، ثم ينتظم من هذا المقصود الأقلُّ من الملتزَم أو مما يناسبه من القيمة، فإن النسبة تتحد؛ إذ الساري هو الذي يوجب قسطاً من الدية، ثم ننظر في مثله من القيمة، ثم العبارة المحررة تَهدي إلى المقصد.
ويجب التنبه لتقييد الكلام بالجناية على الملك؛ فإنه قد يفرض من الغارم للسيد جرحان:
أحدهما: في الرق، والثاني: في الحرية، ولا حظ للمولى إلا فيما يقابل الجناية على الرقيق سواء قدر جزءاً من الدية-إذا كان هو الأقل- أو جزءاً من القيمة.
وبيان الفصل عند نجازه.
10363- صورة أخرى: إذا أَوْضح رأس عبد، فعَتَق، فجرحه آخر، ومات من الجراحتين، فالدية عليهما نصفين قسمةً على الرؤوس، ثم فيما للسيد قولان:
أحدهما: له أقل الأمرين من أرش الجناية، وهو نصف عشر القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو نصف الدية.
والقول الثاني- أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه الجاني بالجناية على الملك، وهو نصف الدية أو مثل نسبته من قيمته وهو نصف القيمة.
10364- صورة أخرى لو أَوْضح رأس عبد، فعَتَق، فجرحه آخر بعد العتق، فعاد الموضح في الرق، فجرحه أخرى، فمات، فالدية بينهما نصفان، ثم للجاني في الرق حالان كما تقدم، فيخص الجناية على الرق ربع الدية، ففي أحد القولين: للسيد أقلّ الأمرين من أرش جناية الملك، وهو نصف عشر القيمة، أو ما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو ربع الدية، والقول الثاني- أن للسيد أقلَّ الأمرين مما التزمه الجاني بالجناية على الملك وهو ربع الدية أو مثل نسبته من قيمته وهو ربع القيمة.
وما عندي أنه يخفى إخراج القولين في صورةٍ بعد تمهيد ما ذكرناه.
10365- وأورد المزني مسألةً نذكرها، ولكن مذهب المزني خارج عن القولين جميعاً؛ فإن مذهبه أن الجاني يلتزم للمولى أرش الجناية أبداً، ولا يتغير ذلك، وهذا تركٌ للنظر إلى السراية، وقرارِ الجنايات على الأطراف.
ولا خلاف أنه لو قطع أطراف حرٍّ موجَبُها ديات، ولو انتقلت فسرت وزَهَقَت الروح، فلا تجب إلا ديةٌ واحدة؛ اعتباراً بالمآل.
فأما المسألة التي أوردها، فصورتها: عبد قيمته عشرون بعيراً تقديراً، فأوضح رأسه، فعَتَق، فشاركه تسعةٌ في الجراحة، ومات العتيق، فالواجب ديةٌ، على كل واحد عُشرها، وهو عَشرٌ من الإبل، ثم فيما للسيد قولان:
أحدهما: أن له بعيراً واحداً، وهو أرش الجناية؛ فإنه أقل مما التزمه الجاني بالجناية وهو عَشرٌ من الإبل.
والقول الثاني- أن للسيد بعيرين، وهو عُشر القيمة، وهو أقل من عُشر الدية، هذا بيانٌ مقصودٌ.
10366- وقد كنا تعرضنا في ابتداء الفصل لأمر، ثم رأينا تأخيره، فنقول: الآن نوضّح غرضنا في اتحاد الجاني ثم لا يخفى ما يرد بعده، فنقول: إذا قطع يدي عبد، فعتق، ومات، وكانت قيمة العبد مقدار مائة من الإبل، وقد مات المجروح حرّاً، فالبدل بكماله مصروف إلى السيد في هذه الصورة، على القولين.
وهذا بيّنٌ لمن فهم ما قدمناه.
ثم الذي يقع المباحثة فيه أن الواجب دية حر، ولا حظّ للسيد في بدل الحرية، وقد ذكرنا طرفاً مما فيه جوابُ هذا، وقلنا: إذا كان أرش الجناية على الملك لا سبيل إلى إبطاله أصلاً؛ فإن الإعتاق لا يُسقط الأرش المتعلق بالجناية، ولكن تخللت الحرية والسراية، وعسر الأمر لتركبه من الرق والحرية، وآل حاصل الكلام إلى أنا نؤدِّي حق الجناية على الملك من بدل الحر؛ فإن الموت حصل بالجناية الجارية على الرقيق.
ولا يتضح الغرض في ذلك إلا بعَرْض الكلام فيما يصرفه الجاني.
فإن قيل: كل ما على الجاني في الصورة التي ذكرتموها مصروفٌ إلى السيد، وقيمة الأرش مقدار مائةٍ من الإبل؛ فإن المجني عليه مات حراً، فلو جاء بمائة من الإبل، فقال السيد: أريد الدراهم، وهي النقد الغالب، وقال الجاني: ليس عليّ إلا الإبل، فإن ألزمنا السيد قبول الإبل، كان ذلك قبول الحيوان قيمةً، وإن ألزمناه الدراهم والقتيل حر، كان ذلك مخالفاً للأصل الذي مهدناه في أن الاعتبار بالمآل؟ قلنا: قد يتقدم في ذلك أن الواجب مائة من الإبل، فلا معدل عنها، ومن أراد طلب غيرها لم يمكّن إلا أن يقع التراضي على العدول.
وهذا موجه بما ذكرناه؛ فإن جميع ما على الجاني مصروف إلى السيد، وإنما عليه الإبل، فتكليفه بيعَها لا وجه له. وإن أراد هو أن يأتي بالدراهم، فالسيد يقول: لم تفعل هذا والواجب المحتوم عليك الإبل؟ وليست الإبل في حكم المرهون عندك، ولا حق لغيري فيما عليك، فسلم إليّ ما عليك.
هذا وجهٌ لا بأس به.
ولو قال السيد: لا أبغي منه إلا الدراهم، فما أمكن يغرم لي بحق ملكي، ومن جنى على ملكٍ، لم يغرَم الإبل، فهذا محال، والسيد لا يجاب إليه؛ فإن القتيل حر، وإذا كنا نرد الأروش-وإن زادت على الديات- إلى دية حر، وفيه تنقيص المقدار؛ نظراً إلى المآل، فلا يبعد أن يرجع الأمر إلى جنس الإبل، وإن كان أرش الجناية على الملك الدراهم؛ نظراً إلى المآل.
10367- والوجه السديد عندي أن يقال: إن جاء الجاني بالدراهم، وجب إجبار المولى، فإن قال: أريد الإبل، قيل: هذا من أثر الحرية، ولا حظّ لك فيما تقتضيه الحرية، وإن جاء بالإبل، وجب أيضاً إجبار المولى على القبول؛ فإن الجاني يقول: هذا هو الذي يلزمني، فخرج منه أن الخيار إلى الجاني/، ولا تحكّم للمولى، وهكذا يتركب إذا مست الحاجة إلى أداء قيمةٍ من دية.
فإنتظم إذاً مما ذكرناه وجهان:
أحدهما: أن الإبل تتعين، فلا تعدّل إلا بالتراضي، ووجهه أنه هو الواجب، وهو مصروفٌ إلى السيد، فلا وجه للتصرف فيه.
والثاني: أن الخيار إلى الجاني، وهذا أفقه وأغوص.
10368- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن السيد في الصورة التي ذكرناها، لو أبرأ الجاني عن حقه، برئت ذمةُ الجاني، ولا يبقى للورثة حق؛ فإنه ليس يثبت حق للسيد والورثة على الازدحام، حتى يقال: إذا سقط أحد المزاحِمَيْن، وكان مقدَّماً، ثبت حق الثاني، بل ما يثبت للسيد يسقط بإسقاطه، وتبرأ ذمة الجاني عنه.
وقد انتجز الغرض، ولم نغادر شيئاً رأيناه مشكلاً إلا أوضحناه إن شاء الله.
10369- ومما بقي من الصور أن ذميّاً لو جرح ذمّياً، فلحق المجروح بدار الحرب، ونقض العهدَ، ثم وقع في الأسر واستُرق والجراحة سارية، ومات رقيقاً، ولا سبيل إلى الخوض في هذه المسألة، فإنها تستدعي الكلام في أن الحربي إذا كان له أموال، فاسترق، فما مصرِف ماله؟ ولو أودع عندنا أموالاً حين كان ذمياً، ثم نقض العهد، واستُرق، فماذا نفعل بودائعه؟ وهذا من الفصول المنعوتة في كتاب السير، فسنذكره إن شاء الله عز وجل في موضعه، ونذكر هذا الفرع في آخره، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "وعلى المتغلب باللصوصية... إلى آخره".
10370- مقصود الكلام والفصل أن من أكره رجلاً على قتل من يكافئه، فقتله، فالقصاص على من يجب؟ ومن أركان الفصل الكلامُ في حدّ الإكراه، وقد أجريناه مستقصىً في كتاب الطلاق على أبلغ وجهٍ في البيان.
والذي نذكره هاهنا في ذلك التفصيل فيما يحل بسبب الإكراه، وفيما يبقى على الحظر: أما القتل، فإنه يبقى محظوراً، ولا يؤثر الإكراه في إباحته.
وأما الإكراه على الزنا، ففي أصحابنا من يقول: لا يتصور الإكراه عليه، وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحاب أبي حنيفة، وهذا مما قدمناه في ثنايا الإيلاء والظهار، ووجهه-على بعده- أن الزاني منتشر، ولا يتأتى الانتشار إلا مع نشطةٍ في النفس وانبساط في الشهوة، وهذا ينافي الإكراه.
والأصح أن الإكراه متصوّر فيه؛ فإن الانتشار لا اختيار فيه، والزنا هو الإيلاج، والإكراه عليه ممكن.
ثم إن تُصوِّر الإكراه، فلا يحل، بل الحظر فيه قائم؛ فإن فيه اهتتاك الحرمة الكبرى.
والإكراه على شرب الخمر يقتضي وجوبَ الشرب عندي؛ إذ من غُص بلقمة، ولم يجد إلا خمراً يُسيغها، فيجب استعمال الشراب لذلك، فالإكراه بهذه المثابة. والله أعلم.
فأما الإكراه على كلمة الردة؛ فإنه يبيح النطق بها، بنص القرآن، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} [النحل: 106] ثم في الفقهاء من يقول: يجب التلفظ بالردة لتخليص المهجة، والذي ذهب إليه الأصوليون من أئمتنا أن المكرَه عليه أن يصابر الحقَّ والسيفُ مسلول على رأسه، وهذا هو الذي لا يجوز عندي غيره، وإذا كانت النفوس تُعرَّض للقتل في الجهاد، والذب عن الدين، فكيف يجب النطق بالردة، وما المانع من مصابرة الدين وإظهار الثبات وبذل الروح دونه.
فأما شرب الخمر، فليس في هذه المرتبة، فإن من اضطر في عطشٍ إلى شربٍ، وجب شربها، كما يجب تعاطي الميتة في شدة المخمصة.
فإن قيل: أليس ظاهر المذهب أن التداوي بالخمر غيرُ جائز؟ قلنا: لأن إصابة الشفاء غيرُ موثوق به.
فإذا اكره الرجل على إتلاف مال غيره، وكان يخاف على روحه، فيجب عليه أن يُتلفه، كما يجب عليه تعاطي طعامِ غيره في شدة المخمصة، فهذا ما ذكرناه في ذلك.
10371- ونحن الآن نبتدىء ذكرَ أحكام الإكراه على القتل، ثم نذكر بعده ما يتصل به، فإذا أكره رجل رجلاً على قتل إنسان، وتحقق الإكراه، كما وصفناه، فقتله المُكرَه، فقد اختلفت مذاهب العلماء: فذهب زُفَرُ وأبو يوسف في روايةٍ إلى أن القصاص يجب على المكرَه دون المكرِه، وهذا مذهبٌ معتضد بالفقه والقياس؛ فإن المكرَه باشر القتلَ إثماً غيرَ معذور، والمباشرةُ تغلب السبب، وإذا كان الإكراه لا يسلط المكرَه، ولا يدفع الإثم عنه، ولا يرفع الحظر، وقد تحققت المباشرة، فالوجه إعدام أثر الإكراه بالكلية.
واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أن القود يجب على المكرِه، وقال أبو حنيفة: لا قصاص على المكرَه أصلاً، وفعله منقولٌ إلى المكرِه، وهو حالٌّ محلَّ آلته وسيفه، ووافق أنه يأثم بالقتل، ويستمر الحظر عليه.
واختلف قول الشافعي رضي الله عنه في ذلك، فقال في أحد قوليه: يجب القصاص على المكرَه، وحقيقة قولنا يجب القصاص عليهما، تقديرهما شريكين، فإن أحدهما ملجىء مستمسك بأقوى الأسباب المفضية إلى القتل غالباًً، والثاني مباشر آثم، وتوجيه القولين مستقصًى في (المسائل) و (الأساليب).
ثم إن قلنا يجب القصاص على المكرِه والمكرَه، فهما شريكان.
وإذا آل الأمر إلى المال، فالدية بينهما، وعلى كل واحد منهما كفارةٌ، وإن قلنا: لا يجب القصاص على المكرَه، فهل تجب الدية عليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا تجب الدية، وفعله كالمعدوم.
والثاني: أنه يجب عليه نصف الدية؛ فإن القصاص إن سقط بالشبهة، فلا وجه لإسقاط الدية مع العلم بأنها تجب مع الشبهة، فإن قلنا: يجب نصف الدية، فهو عامد، فهل تضرب على عاقلته أم تضرب عليه في ماله؟ هذا فيه تردد عندي: يجوز أن يقال: في ماله؛ لما نبهنا عليه، وليس كشبه العمد؛ فإن الفاعل في شبه العمد ليس عامداً في القتل، وإنما عمده في الفعل، والمكرَه عامد في القتل نفسه.
ويجوز أن يقال: تضرب على عاقلته لسقوط اختياره؛ إذ لو تحقق عمده، لوجب القصاص. والتفريع على أنه لا قصاص على المكرَه.
فإن قلنا: يجب نصف الدية، فلا كلام، وتجب الكفارة، ويتعلق بقتله حرمان الميراث.
وإن قلنا: لا تجب الدية، فهل تجب الكفارة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا تجب؛ لأن فعله كالمعدوم.
والثاني: تجب الكفارة؛ فإنه قاتل تحقيقاًً، وإذا كنا نوجب الكفارة على من يرمي سهماً إلى الكفار، فيصيب أسيراً من وراء الصف لا يشعر بمكانه، فالإثم بالقتل بالإكراه أولى.
فإن قلنا: تجب الكفارة، فيتعلق بقتله حرمانه الميراث، وإن قلنا: لا يلزمه الكفارة، فهل يحرم الميراث؟ فعلى وجهين، وهذا يتعلق ببابٍ في الفرائض في ترتيب القتل الحارم للميراث، فهذا قاعدة حكم الإكراه.
10372- ونحن نرسم مسائلَ نأتي بها أفراداً، ولا نترك إن شاء الله شيئاً من الأطراف، ثم نختم الفصل بقولٍ في الأسباب الموجبة للقصاص، إن شاء الله عز وجل.
فنقول: لو أكره رجلاً على قتل ولده، فالقصاص يجب على المكرِه؛ فإنه لو شارك الأبَ في قتل ولده، وجب القصاص عليه، وإن سقط عن الأب، ولذلك لو أكره عبد حرّاً على قتل عبد، وجب القصاص على المكرِه، وإن سقط عن الحر المكرَه.
وكذا لو اكره ذميٌّ مسلماً على قتل ذمّي، وجب القصاص على المكرِه.
ولو اكره الأبُ أجنبياً على قتل ولده، فلا شك أن القصاص لا يجب على الأب، وهل يجب على الأجنبي المكرَه؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا أكره مسلم ذمياًً على قتل ذمي، فلا قصاص على المسلم، وهل يجب القصاص على الذمي المكرَه؟ فعلى قولين.
ولو قال: إن قتلتني وإلا قتلتك، فهذا إذنٌ منه في قتله، ومن أذن في قتل نفسه، فقتله المأذون له، فالطريقة المشهورة أن القصاص لا يجب على المأذون، وفي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب له ثم تنتقل إلى ورثته، أم تجب الدية للورثة ابتداء؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في الديات-إن شاء الله عز وجل- وإنما أسقطنا القصاص لتعرضه للاندفاع بالشبهات.
ونُقل عن الشيخ الإمام سهل رحمه الله تخريجٌ في وجوب القصاص بناء على ما ذكرناه من أن القصاص يثبت للورثة ابتداء، فهو حقهم، فلما قلنا: لا تسقط الدية بإذنه؛ فكذلك وجب أن لا يسقط القود. وهذا التخريج متجه؛ فإن قول القائل: القصاص يسقط بالشبهة لا يُقبل ما لم يُبيّن وجْهَ الشبهة، وإذا كان الحق لغيره على القول الذي ذكرناه، فلا أثر لإسقاطه.
ولو قال: إن قتلت نفسك وإلا قتلتك، فأكرهه على قتل نفسه، فهذا ليس بإكراه على الحقيقة، فإن الإكراه إنما يتحقق إذا كان المكرَه يتخلص من التخويف بفعل ما يطلب منه، وإذا كان المخوف القتل، والمطلوب عين ذلك القتل، فليس هذا إكراهاً، والذي قتل نفسه سبيله سبيل المختار في قتل نفسه.
10373- وإذا أكره بالغٌ صبياً مميزاً على قتل إنسان، فقتله، فهذا يُبنى على القولين في أنّ المكلف البالغ إذا أكرِه على القتل هل يلتزم القصاص أم لا؟ فإن قلنا: يجب القصاص على المكرَه، فهذا على تقدير المكرِه والمكرَه شريكين كما قررناه في (الأساليب) وأشرنا إليه في قاعدة المذهب.
فنقول إذاً: أما الصبي فلا يخفى انتفاء القصاص عنه، والمكرِه يخرّج على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ فإن قلنا: فعله خطأ، فالمكرِه مشارِكٌ مخطئاً، فلا قصاص عليه.
وإن قلنا: للصبي عمد، فالمكرِه شارك عامداً ضامناً، فيجب القصاص عليه لا محالة.
وإن آل الأمر إلى المال، فالدية بينهما نصفان، والنصف الذي يقابل الصبي في ماله.
هذا كله إذا فرعنا على أن المكرَه يلزمه القود لو كان بحيث يلتزم القود. فأما إذا فرعنا على أن القود لا يجب على المكرَه أصلاً، فإذا كان المكرَه صبياً، فهل يجب القصاص على المكرِه؟ إن قلنا: للصبي عمد، فيجب القصاص على المكرِه، ولا أثر لسقوط القصاص عن الصبي ولو باشر مختاراً؛ فإن إلمكرِه لو كان مكلفاً، لأسقطنا القصاص عن الصبي.
وإن قلنا فعل الصبي خطأ، ففي وجوب القصاص على المكرِه تردُّدٌ للأصحاب، وقد أشار القاضي إلى الخلاف فيه، وحقيقة هذا التردد ترجع إلى أنا هل ننقل تقدير فعل المكرَه إلى المكرِه على صفته أم نجعل المكرَه كالمباشر القتل، ولا ننظر إلى صفة فعل المكرِه؟
وعلى هذا يخرج ما لو أجبر إنسانٌ على أن يرميَ إلى ما يحسبه هو-يعني المكرَه- صيداً وهدفاً، وكان المكرِه يعلم أنه إنسان، فإذا رماه مكرهاً، فللأئمة تردد في وجوب القصاص على المكرَه.
ولو أكره صبي بالغاً على قتلٍ، فلا يخفى أن الصبي لا قصاص عليه، فأما البالغ، فأمره يخرّج على أن المكرَه هل يجب عليه القود أم لا؟ وفيه القولان. فإن قلنا: لا قصاص على المكرَه، فلا كلام. وإن قلنا: يجب القود على المكرَه، ففي هذه الصورة نفرع أمره على أن الصبي هل له عمد أم لا؟ فإن قلنا: لا عمد له، فلا قود على المكرَه، فإنا نوجب القصاص على المكرَه بتأويل الشركة، فإذا كان الشريك صبيّاً، لم يجب القصاص. فإن قلنا: للصبي عمد، فقد شارك المكرَه عامداً ضامناً، فيلزمه القصاص، وإن لم يجب على شريكه العامد الضامن.
10374- ولو أكره رجل رجلاً على أن يُكره ثالثاً على قتل رابعٍ، فإذا نفذ الأمر، وجب القصاص على المكرِه الأول لا محالة، وفي وجوب القصاص على المكرِه الثاني والثالث القاتل قولان، فإنهما جميعاً مكرهان.
10375- ولو أكرهه على أن يقتل زيداً أو عمراً، وجعل إليه الخِيَرة في قتل من شاء منهما، فإذا قتل أحدَهما، لزمه القود، قولاً واحداً؛ فإن الإكراه لا يتحقق مع التخيير، وهذا كذلك حقاً.
وفيه أدنى إشكال لابد من التنبيه له، وهو أن المكرَه لو لم يقتل واحداً منهما، لخاف وقوع القتل به، وإذا قتل أحدهما، تخلّص في ظاهر الظن، ولكن وإن كان كذلك، فإنه لا يقدم على قتل واحدٍ منهما إلا وهو مختار فيه؛ إذ لو فرض إقدامه على قتل الثاني يرجو التخلص منه أيضاًً؛ فعين القتل يقترن به اختياره، والمكرَه هو المحمول على قتل معينٍ، لا يتوقع عنه محيصاً، وكذلك لو أكرهه على طلاق حفصةَ أو عمرةَ، فإذا طلق إحداهما، لم يكن مكرَهاً، ووقع الطلاق للمعنى الذي ذكرناه من اقتران الاختيار بالطلاق الذي يُقدم عليه، وهذا حسن لا يسوّغ في مسلك الفقه غيره.
10376- ولو أكرهه على إتلاف مالِ إنسانٍ فأتلفه، فالذي ذكره الأئمة أن قرار الضمان على المكرِه، ولكن هل يطالَب المكرَه حتى إذا غرم، رجع بما يغرمه على المكرِه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا تتوجه الطلبة على المكرَه المحمول أصلاً؛ فإنا إذا كنا نسلِّط المكرَه على الإتلاف بل نوجبه عليه، فالمكرِه حامله وملجئه، فيُرفَع حكمُ المكرَه من البيْن.
والوجه الثاني- أنه يجوز لمالك المال مطالبةُ المكرَه المتلِف لصدور الإتلاف
منه، ثم هو يرجع على المكرِه.
فهذه مسائل تهذب الأصول وتنبه على مجال النظر والتأمل، ولم يبق من الفصل إلا النظر فيما يكون إكراهاً، وقد مضى القول البالغ فيه.
10377- والذي ذكره الأصحاب هاهنا: أن أمر السلطان هل يكون إكراهاً أم لا؟ فعلى وجهين. وهذا الخلاف مشهور، وفيه مباحثة، وهي أن السلطان إذا أمر بقتل إنسان، وكان المأمور لا يعلم كونَ السلطان مبطلاً؛ فإذا قتل، فلا يتعلق به ضمان أصلاً، ورأيت مشايخ المذهب مطبقين على هذا، وإن كان الجلاد يجد محيصاً عن إنفاذ أمره، ولم يكن محمولاً بهذا على القتل، والسبب فيه أنا لو علقنا الضمان بالجلاد، لما انتظمت السياسات، ولخاف كل من يتعاطى القتل مغبةَ الأمور.
هذا إذا قَتَل وهو لا يدري كونَ الإمام مبطلاً.
فأما إذا علم أن الإمام مبطل، فعند ذلك ذكر الأصحاب خلافاً في أن أمر السلطان هل يكون إكراهاً أم لا؟ وهذا فيه نظر؛ فإن كان أمره بحيث لو لم يمتثل، لظهر الخوف من إهلاكه، فهذا إكراه في الحقيقة. وإن لم يظهر ذلك في الظن، فلست أرى للخلاف في أن الأمر هل يكون إكراهاً وجهاً أصلاً، ولكن الكتب مشحونة بذكر الوجهين في أن أمر السلطان بمجرده هل يكون إكراهاً؟ فلست أرى له اتجاهاً إلا من جهةٍ واحدة، وهو أنه إن كان يسطو بمن يخالفه واعتيد ذلك منه، ولا يبلغ توقع ذلك مبلغ توقع المخوف لو صرح بالتوعد به، فليقع تنزيل الخلاف على هذا الوجه، والفرض فيه إذا علم كونَ القتل باطلاً، وكان يظن سطوته لو خولف، فهذا هل يكون كما لو توعد؟ هذا وجه في تنزيل الوجهين.
وقد أشار بعض الأصحاب إلى مسلك آخر وهو أن المأمور وإن كان يعتقد كونَه مبطلاً، فقد لا يكون كذلك؛ فإنه لا يطلع على حقيقة كونه مبطلاً، ثم نعرض الأمرين ونقول: هل ينزل منزلةَ الإكراه، من جهة أن أمر الإمام محمول على الحق.
وهذا كلام مضطرب؛ فإن الإمام إذا اعترف بكونه مبطلاً، وأمر بالقتل، فكيف تخريج الخلاف؟ وإن خُيّل لإنسان أنه يخرُجُ عن الإمامة، فهذا اقتحامُ تيّارِ بحرٍ مغرق، ثم إن كان كذلك، فقول الأصحاب: هل يكون أمره إكراهاً؟ غيرُ سديد، إذ لو حمل على إمكان الحق، فلا وجه إلا نفي الضمان عن الجلاد؛ بناء على ما ذكرناه، ولكن تخصيص الأصحاب الخلاف بالسلطان يشير إلى هذه الطريقة؛ إذ لو حملناه على أمر من يسطو على من يخالفه، فقد يفرض هذا من متغلب ليس وليَّاً فيرجع الكلام بعد ما ذكرناه إلى أن الجلاد إن لم يعلم حقيقةَ الحال، فأمر السلطان يُخرِج فعلَه عن كونه معتبراً بالكلية.
فإن ظهر عند الجلاد كونُ الإمام مبطلاً، ولم يكن مكرهاً، وكان حمله على الحق ممكناً، فالأمر والحالة هذه هل يبرئه؟ فعلى الخلاف.
هذا وجه الكلام في ذلك.
10378- ومما نختم الفصل به الكلام في الأسباب الموجبة للقصاص: أما المباشِرات، فقد سبق استقصاء القول فيها، وأما الأسباب، فالإلجاء والإكراه إذا تحقق يوجب القصاص على المكرِه، ويلتحق به شهادة شهود الزور على القتل، كما سيأتي مشروحاًً في موضعه، والسبب فيه أن الشهادة تُحصِّل قتلَ المشهود عليه لا محالة، وهو أبلغ من الإكراه، فإن المكرَه قد يتحرج ويؤثر هلاك نفسه، وقد ينعطف على المكرِه بأي وجه، وليس للقاضي محيص عن الحكم بشهادة العدول، وإن توقف قاضٍ، لم يندفع الحكم؛ إذ قد يقوم به آخر، وتفصيل الشهادة يأتي إن شاء الله عز وجل، فقد جرى الإكراه والشهادة على عمد مجرىً واحداً.
والتغرير في تقديم الطعام المسموم هل يكون بمثابة الإكراه في إيجاب القصاص على الغارّ؟ فيه قولان قد قدمنا ذكرهما في أول الكتاب، ويُنْتَحَى بهذا ما لو حفر بئراً في مضيق، وغطاها، واستدعى حضور إنسان في تلك الجهة، ويغلب على الظن أنه يأتي تلك البئر، ثم لا يجد محيصاً عن التردي، على ما سيأتي تصوير ذلك على وجهه في مسألة احتفار البئر، فهذا من قبيل التغرير.
وإن كان قد احتفر البئر في ملك نفسه، ودعا من دعا؛ فإن الاعتماد في ذلك على التغرير، والتغريرُ يتحقق وإن وقع الحفر في ملكه، فلا مزيد في الأسباب المفضية إلى الهلاك، على ما ذكرناه، والله المستعان.
10379- مسألة: قال: "وعلى السيد القود... إلى آخره".
إذا كان للإنسان عبد أعجمي، فكان إذا أشار عليه سيده بأمر، استرسل فيه لا محالة، ولم يكن ذا عقل وتمييز، فإذا أمره بقتل إنسان، فقتله، فالسيد في محل المكرِه؛ فإن الذي جرى منه سببٌ يُفضي إلى القتل غالباًً، وهو في معنى إغراء سبع ضارٍ في مضيق، على ما قدمنا التفصيل فيه في أول الكتاب، فيخرج القود على السيد في محل القود، والعبد لا قود عليه، فإنا صورناه غير مميز على صورة سبع ضارٍ، وقولنا على ما جرى من السيد يجري مجرى إغراء في سبع.
وإذا رجع الأمر إلى المال، فلا شك أن السيد مطالب به، ولكن هل يتعلق برقبة العبد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يتعلق؛ فإنه إذا لم يكن مميزاً، فهو بمثابة سبع، ولو أغرى بهيمةً صائلة على إنسان فأتلفه، أو على مالٍ، لم يتعلق الضمان برقبة البهيمة.
والثاني: أن الضمان يتعلق برقبته؛ فإنه عبد مملوك صدر منه إتلاف.
ثم إن قلنا: يتعلق الضمان برقبته، فإن سلمه، فبيع في الجناية، وفضل شيء، فهو متعلق بالسيد، ولا ينزل هذا منزلةَ الأرش المتعلق برقبة العبد المختار إذا جنى جناية؛ فإن المتلِفَ على الحقيقة السيدُ، فكان الضمان متوجّهاً عليه، وليس هذا التعلّق الذي نفرعه بمثابة تعلق الأرش برقبة الجاني المختار، حتى لا يلزمه إلا تسليم العبد، وهذا بيّنٌ للمتأمّل؛ فإن الفعل منسوب إلى السيد، كما ذكرناه.
ولو أمره أجنبي بقتلٍ، وكان لا يخصص جريانه على الموافقة لسيده، بل كان يسترسل بإغراء الأجنبي، فالكلام في الأجنبي وإلزامِه القودَ كالكلام في السيد إذا تُصور انقياده للأجنبي على الوجه الذي يتصور مثله مع السيد.
10380- ولو أمر صبياً حُرّاً أو مجنوناً طِباعه ما وصفناه، فقتل إنساناً، فهذا يوجب القصاص لا محالة على الساعي فيه، ثم إذا أتلف مثلُ هذا الصبي بنفسه شيئاً وكان ذا مال، فهل يتعلق الضمان بماله، إذا لم يصدر فعله عن إغراء، أو استحثاث أم لا يلزمه في مالِه شيء؟
قال شيخي: هذا مخرج على الخلاف في أنه هل يتعلق برقبته لو كان رقيقاً؟ وكذلك لو فرض في العبد ما ذكرناه من غير أمر، فهل يتعلق برقبته ولا تمييز له؟ فعلى الخلاف. وهذا متوجه؛ فإنه بمثابة بهيمة تعدو بطباعها، وليس بذي فعل على اختيار، فالمسألة على الاحتمال.
ولو أمر أجنبي مثلَ هذا العبد بإتلافٍ، فامتثل، وفرعنا على أنه يتعلق برقبته، فعلى الأجنبي تخليصه؛ فإنه سعى في تحصيل الإتلاف به سعياً يتعلق به وجوب القصاص عليه لو فرض في الجناية الموجبة للقصاص؛ فإنه بمثابة الآلة، وإن قلنا: موجب الجناية يتعلق برقبته.
ولو كان الصبي أو المملوك مميزاً، ولم يكن بحيث يُستشلى استشلاء السبع، فإن لم يوجد إكراه، لم يتعلق الضمان بالآمر، وتعلق موجب الإتلاف برقبة العبد لا محالة، وإن اكره مثلَ هذا الشخص، وتحقق الإكراه والقتلُ قتلُ قود، فيجب القصاص على المكرِه، ثم إن كان القاتل عبداً مملوكاً صبياً، فهل يتعلق موجب الجزاء برقبته؟ هذا عندنا مفرع على أن المكرَه هل يلتزم شيئاًً من الدية، فإن قلنا: إنه يلتزم لو كان حراً، فصدور هذا من العبد بمثابة فعل مختار منه في التعلق بالرقبة.
وإن قلنا: لا يلتزم شيئاًً أصلاً، وهو بمثابة آلته، فينزل منزلة العبد الذي لا اختيار له أصلاً، ولا تمييز، وقد ذكرنا الخلاف في أنه إذا كان كذلك، فهل يتعلق برقبته موجَبُ إتلاف أم لا؟ ولا حاجة إلى مزيد في التصوير، فإن من أحاط بما ذكرناه، هان عليه ترك ما سواه.
فصل:
"ولو قتل مرتدٌّ نصرانياً... إلى آخره".
10381- قد ذكرنا فيما تقدم الترددَ في أن المرتد هل يستوجب القود بقتل النصراني الذمي، وذكرنا في قتل النصراني المرتدَّ الخلافَ أيضاًً، فأجرينا اختلاف الطرق في قتل المرتد، وقد قدمنا التفصيل في قتل الزاني المحصن، وأتينا بتمام البيان، ولو قتل زان محصن مسلم كافراً ذمياً أو مرتداً، فلا قصاص عليه، وإن كان مباح الدم؛ لأنه يفضُل مقتولَه بالإسلام، ويستحيل عندنا إيجابُ القود ابتداء على مسلم بقتل كافر، على أي وجه فرض وقدُّر.
فصل:
قال: "ويقتل الذابح دون الممسك... إلى آخره".
10382- قصد رضي الله عنه الرد على مالك؛ إذ جعل الممسكَ شريكاً في القتل، وقاعدةُ المذهب أن الأسباب في القتل يسقط أثرها مع المباشرة الصادرةِ عن الاختيار التام من المباشر، وتقع الإحالة إليها، وتزول آثار الأسباب معها، إلا فيما يتعلق بالمأثم، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سعى في دم أخيه المسلم ولو بشق كلمة، حشر يوم القيامة ومكتوب على جبينه: الآيسُ من رحمة الله» والمكرَه على القتل مباشر، ولكن اختيارَه ليس بمستقل؛ من جهة أنه ملجأ إلى اختياره، والإكراه مشتبه بالمباشرة، من حيث إنه يُفضي إلى حصول القتل غالباًً، وقد مضى تأصيل المذهب وتفصيله في المكرِه والمكرَه.
والمباشِر مع الممسك كامل الاختيار، وليس محمولاً على اختياره، فيسقط حكم الإمساك لقوة المباشرة.
وإذا باع رجل طعاماً مسموماً إلى من يغلب على القلب أنه يأكل منه، فهذا محطوط عن رتبة الإكراه؛ من حيث لا إجبار، ولكنه من جهة إفضائه إلى الهلاك يضاهي الإكراه، والمتناول مباشر مختار، وفي منزلة ما جرى من السبب قولان تقدم ذكرهما، فالمراتب في مطلوبنا ثلاثٌ: مباشرة تامة مع سبب لا يتضمن حملَ المباشر على المباشرة.
ومباشرة مع سبب يقتضي حمل المباشر حملَ إجباراً.
ومباشرة مع سبب يقتضي حمل المباشر من طريق الاغترار.
ولو أمسك الممسك عبداً، فقتله قاتل، فقرار الضمان على القاتل، والطَّلِبة تتوجه على الممسك لمكان اليد الضامنة.
وهذا من قواعد الغصب، وقد مضى القول فيها.
ولو أمسك محرمٌ صيداً، فقتله محرم آخر، فالمذهب تنزيل هذا منزلةَ إمساك العبد وقتلِه، فالقرار على المحرم القاتل، وتتوجه الطّلبة على الممسك؛ فإن صام، لم يرجع، وإن بذل مالاً في الجزاء، رجع على المحرم القاتل الممسكُ.
وذكر العراقيون وجهين أن الممسك في الصيد بمثابة الشريك، وهذا بعيد، ووجهه-على البعد- أن الجزاء فيه مَشَابه من الكفارات، وقد ثبت تعلق الضمان باليد، والرجوع في الكفارة بعد ثبوت الضمان بعيد.
وهذا غير سديد، وقد تقدم شرح ذلك في كتاب الحج.
فصل:
قال: "ولو ضربه بما الأغلب أنه يقطع عضواً... إلى آخره".
10383- غرض الفصل أن الجناية على الأطراف تنقسم إلى العمد المحض، والخطأ، وشبه العمد، كما تفصل، فإن ضرب رأس إنسان عمداً بما الأغلب أنه يوضحه، فهذا عمد محض، وإن ضرب رأسه بسوط لا يُقصد الإيضاح بمثله، فحصل الإيضاح وفاقاً، فالذي جرى شبه العمد، وإن قصد جداراً أو هدفاً بضربٍ، فاعترض إنسان وأصاب الضربُ رأسه، فأوضحه، فهو خطأ محض، وقد تختلف مراتب الأفعال بالأعضاء، فالعين تقصد بنخسةٍ بأصبع، فالرجوع في التقاسيم إلى ذوي العقول والعادات، وسيأتي في باب الجناية على الأطراف تفصيلٌ بالغ في أن الأطراف هل تقصد بالسرايات؟ وكيف السبيل فيها؟
فصل:
"وإن كان الجاني مغلوباً على عقله... إلى آخره".
10384- لا قصاص على الصبيان والمجانين، أما المجانين، فكالبهائم لا يفيد إجراءُ القصاص في بعضهم ردعَ الباقين، وأما الصبيان، فقصودهم ثابتة، ولكن الشرع حطّ حكمَها، ووقع الاكتفاء باستيلاء أيدي القوّام عليهم، وقد مضى تفصيل الطرق فيه في كتاب الطلاق، وذكرنا أن الطريقة المثلى تخريج أحكامه فيما له وعليه في الأقوال والأفعال على قولين، ولا خلاف أن السكر ينزل منزلة الإغماء في إسقاط الصلوات التي تمر مواقيتها في السكر.
واختلف الأصحاب في أن السكر هل هو حدث كالإغماء، فمنهم من التفت إلى تخريج ذلك على القولين في السكران، والوجه جعله حدثاً؛ فإن باب الأحداث مبناه على وجود الحدث كيف فرض، مقصوداً أو غير مقصود، فهذا جوامع القول في ذلك، ولم نر الإطناب في تقرير كل قاعدة؛ فإن القواعد قد مضت في مواضعها.
فصل:
قال: "ولو قطع رجلٌ ذكرَ خنثى مشكل وأنثييه وشُفريه... إلى آخره".
10385- الخنثى إذا بقي على إشكاله، فقطع رجل ذكره وأنثييه وشُفريه، فإن رضي المجني عليه بأن يتوقف إلى أن يتبين أمرُه، وكان ينتظر حيضاً أو إمناءً، توقفنا، ثم لا يخفى حكم البيان في المستقبل: فإن بان رجلاً، وجب القصاص على الرجل الجاني في ذكره وأنثييه، وللخنثى الحكومة في شُفريه، ولا يخفى المال إن آل الأمر إليه.
وإن بان أنثى، فلا قصاص، ولها الدية في الشُّفرين، وحكومةٌ في الذكر والأنثيين.
وإن جَنت امرأةٌ ثم تبين أمرُ المجني عليه، لم يخْفَ حكم البيان.
ولو قال المشكل: لست أقف، ولكني أعفو عن القصاص إن كان لي قصاص، فليعطني الجاني حقي من المال، فالذي نقله المزني أن المشكل له دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين، ثم قال: لأن هذا أقلُّ، ولا شك أن المعتبر في الفصل أنا لا نوجب شيئاً إلا بيقين، فذكر المزني أن دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين مبلغٌ مستيقنٌ؛ فإن دية الشفرين خمسون من الإبل؛ نظراً إلى دية المرأة، وحكومة الذكر والأنثيين تنقص عن مائة؛ فإن حكومة كل عضو محطوط عن دية صاحب العضو، وإذا أوجبنا دية الشُّفرين باعتبار الأنوثة، فنعتبر حكومة كل عضو بدية أنثى.
وذكر بعض المصنفين أنا نوجب في كل عضو حكومةً؛ فإنا لا نقرر ديةً في عضو إلا ويجوز أنه عضو حكومةً؛ فنعتبر في كل عضوٍ أقلَّ ممكن فيه.
وهذا ضعيفٌ لا أصل له، فإن المغروم هو المال، والمقدار الذي ذكره المزني مبلغٌ مستيقَن، فلْيَجِبْ، ولا التفات على السبب والتقديرات، والمتلزَم متحد.
نعم، إنما يتوجه ما ذكره هذا المصنف إذا تعدد الجاني فقطع قاطع ذكراً وأنثيين، وقطع آخرُ الشُّفرين، وعفا المجني عليه عن القصاص، فلا يلزم كل جان إلا أقلُّ حكومة.
10386- ولو قال المجنيّ عليه: لست أقف، ولست أعفو عن القصاص، وقد علمتم أن القصاص غير متوقع في جميع ما وقع مني، فليعطني الجاني شيئاًً في العضو الذي لا قصاص فيه.
قلنا: حاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجب أقلُّ حكومتين في تقدير الذكورة والأنوثة: إما حكومة الشُّفرين على تقدير الذكورة، وإما حكومة الذكر والأنثيين على تقدير الأنوثة؛ فإن ما زاد على ذلك شك، ثم هذا القائل يقول: إن زادت إحدى الجهتين على الأخرى، لم نوجب إلا الأقلَّ، ولو كانت حكومة الذكر والأنثيين مائةً إلا بعيراً وحكومة الشفرين مع تقدير الذكورة خمسين مثلاً، فنوجب الخمسين.
وهذا الوجه مزيف ضعيف، ويبينُ تضعيفه بذكر الوجه الثاني-وهو المختار- فنقول: كل عضو يتوقع فيه جريان القصاص، فلا يُعطَى المجنيّ عليه فيه شيئاً؛ فإن الجمع بين المال وإمكان القصاص محال، وليس القصاص مما يفرض فيه حيلولة مضمِّنةٌ مالاً، بخلاف الأموال؛ فإنها تُضَمَّن بالتقريب تارةً، وبالحيلولة أخرى، فإذا توقفنا في الاقتصاص من القاتلة الحامل، لم نُلزمها لتعذر الاقتصاص مالاً، فكذلك القول في تعذّر الاقتصاص بالإشكال.
وستأتي مسألة تشير إلى مناقضة هذا الأصل، وهو أن مستحق القصاص لو كان مجنوناً، فالولي لا يقتصّ له، ولكن قال الشافعي: له أن يرجع إلى مالٍ، وليس هذا عفواً عند بعض الأصحاب، وشرْحُ تلك المسألة يأتي، وغرضنا الآن فصلها عما نحن فيه؛ فإن الجنون لا منتهى له، والعفو غير ممكن، ففي منع أخذ المال تعطيل، والمجني عليه في مسألتنا يتمكن من العفو، ولوضع الحمل أمد منتظر.
فإذا كان الجاني رجلاً، فلا مال في الذكر والأنثيين لإمكان القصاص، وللمجني عليه حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة؛ فإن القصاص لا يتوقع جريانه في الشُّفرين والجاني رجل.
والمال وإن أضافه الأصحاب في هذا الوجه الصحيح الذي لا يتجه غيره إلى الشُّفرين، ففي تهذيب الكلام فضلُ نظر لابد منه، فنقول: إن كانت حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة مائةً إلا بعيراً، فقد زادت حكومة الشفرين الزائدين على دية الشُّفرين من المرأة، ولكن لا مبالاة بهذه الزيادة مع تقدير الذكورة، وقد يمتنع من لم يُحط بحقيقة هذه المسألة عن إيجاب ما يبلغ ديةَ الشفرين من امرأة، فضلاً عن الزيادة عليها، ولا امتناع في إيجاب ذلك؛ فإنه إن كان امرأة، فالواجب ديةُ الشفرين، وإن كان ذكراً فلا يمتنع زيادة حكومةُ عضو من الرجل على دية المرأة.
فالوجه المرتب، والمسلك المهذب أن نقول: نعتبر حكومة الشُّفرين بتقدير الذكورة، ونضبط مبلغها، ثم نرجع، فنقدر دية الشفرين بتقدير الأنوثة وحكومة الذكر والأنثيين بتقدير الأنوثة، ونضم حكومة الذكر والأنثيين إلى دية الشُّفرين، ونقابل المبلغ بحكومة الشفرين على تقدير الذكورة، فأي المبلغين كان أقلَّ، فهو الواجب؛ فإنا على اليقين نجوِّزه وإياه نطلب، وهذا القدر مستيقن، وإن فرض جريان القصاص.
ولو كان الجاني امرأة، فالقصاص موهوم في الشفرين دون الذكر والأنثيين، فلا نوجب دية الشفرين، ونوجب حكومة الذكر والأنثيين بتقدير الأنوثة، ولا ينقدح فيه تقديرآخر؛ فهو الأقل مع الوفاء بالامتناع من إيجاب المال فيما يتوقع القصاص فيه.
وقد ذكرنا وجهين من الأوجه الثلاثة.
10387- والوجه الثالث الذي حكاه الصيدلاني عن الققال- أنا لا نوجب شيئاً إذا قال: لا أعفو ولا أقف؛ فإنا لو أوجبنا شيئاًً، لم ندر أنه وجب عن ماذا، وهذا يلتفت على خلاف الأصحاب فيه إذا اتفق زيد وعمرو أن لعمرو على زيد ألفاً واختلفا في جهة استحقاقه؛ فإن في الأصحاب من يقول: لا يثبت الاستحقاق أصلاً مع الاختلاف في الجهة حتى تتعين.
وهذا ضعيف، ولكن ظاهر نصّ المزني يدل على هذا الوجه، والمزني نقل عن الشافعي في مسألة الخنثى: "فأما إذا رضي بالتوقف" ثم ذكر بقيةَ المسألة من عند نفسه، فيما إذا قال: "عفوتُ عن القصاص" وبيّن: "أن الأقل فيه دية الشُّفرين وحكومة الذكر والأنثيين" كما ذكرناه، وهو الحق، وما عداه خيال.
ثم صورةَ ما إذا قال: "لا أعفو ولا أقف" وقال في الجواب: بل "لا يجوز أن يُقَصّ مما لايُدرَى أي القِصاصين لك، فلابد لك من أحد الأمرين على ما وصفنا"، ومعناه لابد لك من العفو ليكون الجواب كما ذكرته، أو من الوقف ليكون الجواب كما نقلته عن الشافعي.
وظاهر هذا يدل على أنه لا يُعطى شيئاًً من المال إذا قال: لا أعفو ولا أقف، وهذا هو الوجه الثالث، الذي حكيناه، وهو ضعيف لا أصل له.
10388- ومما يجب الإحاطة به أن من مسائل الفقه ما يكون مأخذ القول فيه ظنوناً متعارضة، فينقدح الخلاف فيها، ومنها ما يُسْنَد إلى أصول في الحكم قطعية لا خلاف فيها، ولكن تشوبه أمور تقديرية حسابية، وقد يتفق فيها هفوات، ولا وجه لعدّ الهفوات من المذهب، ولا طريق لترك نقل ما قيل، فالوجه نقلُه والحكمُ بخطئه..
10389- فالذي تحصّل إذاً في أقسام المسألة مذهباً مبتوتاً أنه إن عفا عن القصاص، فله دية الشفرين، وحكومة الذكر والأنثيين، وإن قال: لا أعفو ولا أقف، فالوجه القطع بأنه لا يأخذ من عضو القصاص على التخصيص شيئاًً، وله أقل مقدّر يفرض مع تقدير القصاص عند البيان.
10390- ولو قطعت امرأة شفري خنثى وقطع رجل ذكره وأنثييه، ثم قال: لا أعفو ولا أقف، فلا شيء له؛ فإنه لا يطالب واحداً منهما إلا وله أن يقول: القصاص بيننا ممكن.
ولو قطعت امرأة ذكره وأنثييه، وقطع رجل شفريه، فقال: لا أعفو، قلنا: لا حاجة إلى عفو، فلا قصاص، وله مطالبة كل واحد منهما بحكومة ما جنى عليه، على التعليل الذي وصفناه.
10391- ولو جنى خنثى على خنثى، فقطع ذكره وأنثييه، وشُفريه، فليس يخفى حكم التوقف، وحكم العفو عن القصاص، فالأمر لا يختلف في هذين.
ولو قال: لا أعفو ولا أقف، قال الققال: الذي تلقيناه من السماع أن له أقل الحكومتين؛ لأن كل واحد من الجهتين يفرض أن يكون فيها القصاص.
ثم قال: وهذا غلط؛ فإن إمكان القصاص جارٍ في الجميع بناء على أصلٍ سيأتي في الجناية على الأطراف، وهو أن الأعضاء الزائدة يجري القصاص فيها، فيحتمل أن يكونا ذكرين، فيجري القصاص في الذكر والأنثيين من جهة أنهما أصليان، ويجري أيضاًً في الشفرين بناء على إجراء القصاص في الزوائد، والوجه ألا يثبت له شيء لإمكان جريان القصاص من الكل، والأمر على ما ذكره إذا تشابهت الأعضاء، وهذا موضع استدراكه، وسيأتي الكلام في الأعضاء الزائدة وما يُرعى فيها.
وقد نجز الكلام في المسألة، ولم نغادر أمراً إلا نبهنا عليه، فكل صورة يأتي بها متكلِّف، ففيما مهدناه جواب عنها والله أعلم.
10392- ومما يتصل بتمام ذلك أن الجاني لو كان رجلاً مثلاً، فقال: أقررتَ بأنك امرأة، فأنكر المقطوع وقال: بل أقررتُ بأني رجل، نص الشافعي في مواضع أن القول قول القاطع؛ لأن الأصل أن لا قصاص، وحكى ابن سريج قولاً عن الشافعي أنه قال في كتاب التعريض بالخطبة القولُ قول الخنثى.
وتهذيب القول في هذا أن العلامات إذا عَدِمْناها ورجعنا إلى قول الخنثى، فأخبر عن نفسه بأنه رجل، ثم جرت الجناية بعد هذا، فنأخذ بموجب قوله؛ فإن الحكم قد وقع بقوله، واستقر، فيجري أمر القصاص بناء على ما يثبت ولو جرت الجناية، ثم قال: إني رجل، فظاهر المذهب أنه لا يقبل قوله، لإيجاب القصاص على الرجل الجاني.
ومن أصحابنا من قال: يقبل؛ فإنه أعرف بنفسه.
وهذا مزيّف لا أصل له، والوجه القطع بأن قوله غير مقبول بعد الجناية إذا كان يتضمن ثبوت حقٍّ لولاه لما ثبت: مالاً كان، أو قصاصاًً؛ لأنه متهم، والبناء على ما ثبت له أمثلةٌ في الشريعة: منها أنه لو ثبت غصبٌ بشاهد وامرأتين، وقضى القاضي، ثم قال المحكوم المقضي عليه: إن غصبتُ، فامرأتي طالق ثلاثاً، فالطلاق يقع؛ فإن الغصب تمهد، ثم انبنى التعليق عليه.
ولو أنكر الغصب أولاً، وحلف على نفيه بالطلاق، ثم ادُّعي عليه الغصب، وأُثبت بالشاهد واليمين، واتصل القضاء به، ففي وقوع الطلاق خلافٌ، سنذكره في الدعاوى والبينات، والأظهر أن الطلاق لا يقع.