فصل: باب: مواقيت الحج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: مواقيت الحج:

2514- المواقيت أمكنةٌ، وظف الشارع على كل من يأتي واحداً منها، يؤمُّ بيتَ الله، ناوياً نسكاً، أن يُحرم منه، ولا يتجاوزه، ثم على ممرّ كل قومٍ يأتون من صوبهم ميقاتٌ.
ونحن نذكر المواقيتَ التي أثبتها الشارع نصاً، أولاً:
فميقات أهل المدينة بنص الشارع، ذو الحليفة، وهو من المدينة على مسيرة فرسخين قريبين.
وميقات أهلِ الشام، وطائفةٍ من الغرب الجُحفة، وهي من مكة على خمسين فرسخاً، ومن يأتي مكةَ من جهة المدينة، فإنه يطرقها محرماً. وميقات أهل اليمن يلملم، وهو على مرحلتين من مكة.
وميقات نجدِ اليمن، ونجدِ الحجاز قَرْن، وهو أيضاًً على مرحلتين.
ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توظيفُ ميقاتٍ لأهل الشرق حَسَب صحة سائر المواقيت، وروى محمدُ بن علي بن عبد الله، عن جدِّه عبد الله بن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، وقت لأهل المشرق العقيق"، وهذا مرسل؛ فإن محمداً لم يلق جدَّه.
والصحيح أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- وضع لأهل المشرق ذاتَ عرق قياساً على قَرْن، ويَلملم. وقد روي عن عطاء، عن أبيه، أنه قال: "لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ميقاتاً، إذ لم يكن يومئذ مشرق " والمراد به أنه لم يكن في صوب المشرق مؤمنون.
فالذي عليه التعويل أن ميقات أهل المشرق-باجتهاد عمر- ذاتُ عرق، وهي على مرحلتين من مكة، فإذا نفذ حكمه من غير نكير، التحق بسائر المواقيت.
والعقيق وادٍ ينتهي المشرق إليه، قبل الانتهاء إلى ذات عرق، وبينهما شوطٌ قريب.
والشافعي قد يرى في بعض نصوصه، أن يُحرم المشرقي من العقيق، احتياطاً؛ للخبر المرسل، الذي رويناه، ولا يرى ذلك حتماً.
فهذا بيان المواقيت.
2515- ثم قال الشافعي: "المواقيت لأهلها، ولكل من مرّ بها". والمراد أن الاعتبار في المواقيت باتفاقٍ المرورُ بها، ولا نظر إلى وطن الرجل، وانتسابه إلى بعض الأقطار، فلو ازورّ مشرقي إلى صوب المدينة، آمّاً مكةَ، فإذا انتهى إلى ذي الحليفة، تعيّن عليه أن يُحرم، إذا كان يقصد مكةَ على نسك. ولو مال المدني وفاقاً إلى جهة المشرق، فميقاته في صوبه، وهو يؤم مكة، ذاتُ عرق.
والغرض أن ميقات المدني يقصر بطروقه صوبَ المشرق، وميقاتُ المشرقي يطول باطّراقه صوب المدينة.
وإذا كان المكي قد خرج، وتغرّب، ثم عاد من مسافةٍ بعيدةٍ، فلا يجوز له أن يجاوز الميقات؛ ظاناً أن ميقاته مكةُ.
وحاصل الكلام أن المواقيت، لا اختصاص لها، وإنما ميقات كل امرئ ما يمر به، ويصادفه، قصدُ الإحرام، وهو عليه.
2516- ثم من أمرناه بالإحرام، لو جاوز الميقات، غيرَ محرمٍ، وهو ناوٍ للنسك، عازمٌ عليه، فهذا إساءةٌ منه، ويلزمه بسببها دمٌ، كما سيأتي وصفه.
فلو جاوز، ثم عاد إلى الميقات، فلا يخلو إما أن يُحرم بعد المجاوزة، ويعودَ محرماً، أو لا يحرم، ولكن يعود وينشئ الإحرامَ من الميقات فإن لم يحرم، وعاد، وأنشأ الإحرام من الميقات، نُظر: فإن لم يبلغ المسافة من الميقات، إلى الموضع الذي انتهى إليه مجاوزاً، ثم انقلب منه، مسافةَ القصر، فإذا عاد، وأنشأ الإحرام من الميقات، فيسقط دمُ الإساءة عنه، في هذه الصورة، وفاقاً.
وإن بلغت المسافةُ مسافةَ القصر، وقد جاوز غيرَ محرمٍ ثم عاد غير محرم وأنشأ الإحرام من الميقات، ففي سقوط دم الإساءة وجهان- أحدُهما- أنه لا يسقط، فإنه تمادى على الإساءة في مسافةٍ لها حكم البعد، فانقطع أثره من الميقات، وتأكدت الإساءة تأكداً لا يقبل التدارك.
وهذا فيه نظر إذا لم يتعلّق بمكة، فإن دخلها مسيئاً، غيرَ محرمٍ، ثم عاود الميقات، لم يسقط عنه دمُ الإساءة، قولاً واحداً، فإن المحذور، في جميع ما ذكرناه، أن يدخل مكةَ، غيرَ محرمٍ، مع انطواء عقده، على قصد النسك، وقد حصل ذلك.
وهذا كله كلام فيه إذا جاوزَ الميقات ناوياً نسكاً، ولم يحرم، ثم عاد وأحرم من الميقات.
2517- فأما إذا جاوز، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات محرماً، فإن قصرت المسافة، ففي سقوط دم الإساءة وجهان، أو قولان. فإن بعدت المسافة، وأحرم ثم عاد، فقولان مرتبان. وهذه الصورة أولى بأن لا يسقط دمُ اِلإساءة فيها.
والمؤثر فيما نجريه قربُ المسافة، والنظرُ إلى موضع الإحرام، فإن اجتمع البعد، والإحرام من غير الميقات، تأكد دمُ الإساءة، وضعف القولُ بسقوطه، عند العود. وإن قربت المسافة، ولم يجر الإحرام إلاّ بعد العود، فالذي رأيته للأئمة القطعُ بسقوط دم الإساءة.
وإن بعدت المسافة ولا إحرامَ إلاّ بعد العود، أو قربت، وجرى الإحرام قبل العود، فالمسألتان قريبتان في الترتيب.
والمتعلق بمكة لا ينفعه العود إلى الميقات، سواء أحرم، ثم عاد، أو لم يحرم.
2518- والمتمتع إذا عاد إلى ميقاته للإحرام بالحج فلا شيء عليه، وإن كان ذلك يجري بعد دخول مكة؛ لأنه ليس مسيئاً؛ إذ قد أحيا الميقاتَ الذي انتهى إليه بإحرامِ العمرة، فبايَن بذلك رتبة المسيء وإنما كنا نلزمه دمَ التمتع لربح أحد السفرين، فإذا عاد، فقد سقط هذا المعنى.
2519- ومما يتعلق بذلك، أن من انتهى إلى ميقاتٍ، فجاوزه، وكان لا ينوي نسكاً، ثم بدا له أن يقصد النسك، فلا نكلفه العودَ إلى الميقات، الذي مر عليه؛ فإن حكم الميقات إنما يثبت في حق من ينوي النسك، فإذا جاوزه، ثم بدا له أن ينسك، فميقاته الموضعُ الذي انتهى إليه. فإن أحرم منه، لم يلزمه شيء، وقد وفَّى ما عليه، وإن جاوز، فقد أساء الآن. وتفصيله كتفصيل من يجاوز الميقات الموظّف، ناوياً نسكاً. ثم إذا جاوز موضع قصده، وعاد، فالاعتبار بالعود إلى مكانِ نيّته، فهو ميقاتُه، فيعود التفصيل المقدّم في العود إلى الميقات، بعد مجاوزته، على نية النسك.
2520- ولو كان مسكن الرجل بين ميقاتٍ، وبين مكة، وكان على مرحلةٍ، أو أقلَّ، فميقاته مسكنه، فلا جاوزَنَّه، وهو ينوي نسكاً، فإن جاوز، فالعود، على ما تفصل قبلُ.
وإذا كان يأتي مكة من المدينة، فسيمرّ على ميقاتين، وليس له أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة، وهذا متفق عليه، لا أعرف فيه خلافاً.
2521- ولو كان يأتي مكة على صوبٍ من التعاسيف، ولم يركب مسلكاً، إلى ميقاتٍ من المواقيت المعيّنة، فقد قال الأئمة: إذا كان مارّاً إلى مكة، ناوياً نسكاً، في برٍّ أو بحرٍ، فمهما حاذى ميقاتاً من المواقيت، لزمه أن يُحرم، ولو جاوز محاذاةَ الميقات، كان كما لو جاوز ميقاتاً انتهى إليه، على ما سبق التفصيل فيه.
2522- ثم صور الفقهاء صوراً في محاذاة المواقيت ما قد يبعد الوفاء بتصويرها في المواقيت الموظفة، ولا مزيد عليها.
ولكنا نأتي بمسالكهم، ولا نعرّج على المشاحة في التصوير.
فنقول: أولاً- لو حاذى المتعسف ميقاتاً بعيداً، وبين يديه ميقاتٌ آخر، وسيحاذيه في ممره، فليس له أن يؤخر الإحرامَ، عن محاذاة الميقات الأول؛ منتظراً محاذاةَ الميقات الثاني. كما ليس للذي يأتي من صوب المدينةِ، أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة.
وإن توسط في ممره، ووجهته إلى مكة ميقاتين، ووقع أحدهما منه على اليمين، والثاني على اليسار، فإن أمكن ذلك، فليحرم من مكانه؛ فإنه لو حاذى من أحد قُطريه ميقاتاً، لأحرم، وقد حاذى الآن ميقاتين. ولو جاوز مكانه، فهو مسيء.
وإذا أطلقنا المحاذاة في هذه المسائل، فلا شك أنا نعني بها المسامتة، من اليمين، أو الشمال؛ فإن المحاذاة بالظهر، صفةُ المجاوزين، والمحاذاة بالوجه صفة من لم ينته بعدُ إلى الميقات، وهو مارّ إليه.
2523- ثم قال الأئمة: إذا توسط ميقاتين، وكان أحدُهما أقربَ إلى مكة، من الثاني لو فرض اطّراقهما، فإن كان المتوسِّط أقربَ إلى أحد الميقاتين منه إلى الثاني، فهو يُحرم من مكانه، ولكنه منسوبٌ إلى الميقات القريب منه.
وإن استوت المسافةُ بينه، وبين كل واحدٍ من الميقاتين، قالوا: في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه منسوب إلى أبعدهما.
والثاني: أنه يجوز أن يُنسب إلى أقربهما من مكة.
وهذا فيه فضلُ نظر، فإنا كيف قدّرنا الأمر، فهو مأمور بالإحرام من مكانه الذي حاذى فيه الميقاتين؛ وذلك المكانُ ميقاتُه على الحقيقة، فأي معنى لنسبته إلى أحد الميقاتين، وميقاته الحقيقي مكانُه، ينشئ الإحرام منه. ولو فُرضت مجاوزتُه، لكان العودُ إليه، فهو المعتبر إذاً في تصوير قضاء حق الميقات، وتصويرِ الإساءة بالمجاوزة.
فالوجه بعد التنبيه على ما ذكرناه، أن نفرض متعسفاً، يمر ناوياً نُسكاً، بين ميقاتين، ولا يشعر بما يجري، ثم ينتهي إلى موضع يُفضي إليه طريقُ الميقات القريب، وطريق الميقات البعيد، ثم يشعر بما جرى و يعسر عليه الرجوع على أدراجه إلى مكان المحاذاة، ويتيسر عليه الرجوع إلى كل واحدٍ من الميقاتين، فعليه العود إلى ميقاتٍ، إذا كنا نُخْرجه بالعود عن كونه مسيئاً؛ فان دمَ الجبران نتيجةُ ترك مأمورٍ به، أو ارتكاب محظور منهي عنه، فإذا كلفناه العودَ، فيظهر الآن أثرُ النسبة، فإن نسبناه إلى الميقات البعيد، ألزمناه العودَ إليه، وإن نسبناه إلى القريب، كفاه أن يعود إليه، ومسلكه في التعاسيف لا يمكن العود إليه.
فإن فرض إمكان العود، من حيث جاء، إلى مكان المحاذاة، فالذي أراه أن يكون المعتبر تلك المسافة، في نفسها، قَرُبَت، أو بعدت؛ فإن كل من جاوز ميقاتاً في عينه، كفاه في العود الرجوعُ إلى مسافته، ولا يلزمه العود إليه في نفسه. وقد تمهد ذلك فيما سبق.
وشرط تصوير الإفادة في النسبة إلى الميقات، أن يفرض مجاوزة مكان المحاذاة، والإفضاء إلى مجتمع الطريقين، في الميقاتين، مع عسر الانقلاب، إلى صوب التعسف، ومع الجهل بمسافة تلك الجهة، وقد وجب الرجوع إلى أحد الميقاتين.
فهذا أقصى الإمكان.
2524- ولو أتى الغريبُ مكةَ من جهةٍ، لا ميقات فيها، وكان لا يحاذي أيضاًً ميقاتاً في ممره، فالوجه أن يُحرمَ إذا لم يبق بينه وبين مكة، إلا مرحلتان، نزولاً على قضاء عمر في تأقيت ذات عرق، لأهل المشرق، والتفاتاً إلى حد المذهب، في حاضري المسجد الحرام، فإن من يكون مسكنه على ما دون مسافة القصر، فهو كأهل مكة فيما قدمناه.
فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.
2525- ثم نقول: المكي يُحرم من مكة. واختلف القول في الأفضل: قال الشافعي في قولٍ: "ينبغي أن يحرم من داره، ويأتي المسجد محرماً". وقال في قول: "الأفضل أن يتزيى، ويحرم من المسجد الحرام، من موضعٍ قريب من البيت".
والغريب إذا كان يحرم من مكة، متمتعاً، أو اتفق لُبثه بها سنة، فأراد الإحرام، فسبيله سبيل المكيِّ، فيما ذكرناه.
ومن كان ميقاتُ حجه مكةَ، فلا ينبغي أن يجاوز خِطتَها غيرَ مُحرم، فلو جاوز الخِطة، ولم يجاوز الحرمَ، وأحرم، فهل نجعله مسيئاً؟ فعلى قولين:
أحدهما: إنه مسيء، كالذي يجاوز خِطة قريةٍ، هي ميقاتٌ.
والثاني: إنه ليس بمسيء، فإن الحرمَ أغلبُ، واعتباره فيما يتعلق بالمناسك أوْلى من اعتبار خِطة العمارة.
2526- وقد ذكرنا فيما مضى أن العود إلى الميقات في حق الغريب لا ينفع بعد التعلق بمكة، فالاعتبار في ذلك بدخول الحرم، أو بملابسته الخِطة، خِطة مكة؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه الآن.
والدليل على اعتبار الحرم، دون خطةِ مكة، في هذا النوع، أن المكي إذا أراد العمرة، لم نكلفه مجاوزةَ خِطة مكة. بل ينبغي أن يتعلق بالحل، كما تقدم القول فيه.
ثم من كان ميقاته قرية، فمجاوزته لها مأخوذةٌ من ثبوت حكم السفر لمن يفارق البقعة، وقد أوضحنا ذلك بما فيه أشفى بيان في كتاب الصلاة.
2527- وقد اختلف قول الشافعي في أن تقديم الإحرام على الميقات هل يستحب؟ فقال في أحد القولين: "إنه يستحب " لأخبار صحيحة فيه، منها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الأعمال حجةُ الرجل من دويرة أهله، يؤم هذا البيت العتيق».
والقول الثاني- " لا يستحب " تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فإنهم أحرموا عند الميقات.
وفي تقديم الإحرام تعرض لأغرارٍ، لا استقلال بها، ثم هذا القائل يزعم أن الأوْلى تأخير الإحرام إلى الميقات، وأطلق بعض الأصحاب الكراهيةَ في التقديم.
ولست أرى ذلك.
ومن أصحابنا من قطع بأستحباب التقديم، وحمل نصَّ الشافعي، حيث نهى على النهي عن شيء يعتاده الشيعة، وهو التزيّي بزيّ المحرمين من غير إحرام قبل الميقات.
فصل:
قال: "وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُهل، حتى تنبعث به راحلته... إلى آخره".
2528- اختلف القول في أن المرء متى يُؤثَر له أن يحرم، فقال في القديم: إذا صلى ركعتي الإحرام، كما سيأتي، وتحلل، أحرم في مصلاه قاعداً. وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال في الجديد: يحرم إذا توجهت به راحلتهُ إلى مكةَ. وإن كان ماشياً، فيخرج عن موضعه، ويتوجه إلى مكة، ويُحرم.
ودليل القول الجديد الحديثُ الذي رواه في صدر الفصل، وقد روى ابنُ عباسٍ أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من مصلاه، وروي عن ابن عمر أنه لم يكن ليهل حتى تنبعث به راحلته وروي أنه لما استوت راحلته على البيداء أهلَّ، والقول في ذلك قريب.
وذهب بعض الأئمة إلى أخبار الإحرام عند الفراغ من الصلاة، وحمل اختلاف الرواية على إعادة التلبية، وهي مأمور بها في التغايير، كما سنشرحها، فلعله أحرم صلى الله عليه وسلم لما سلّم، ثم لبّى لما انبعثت به الراحلة، أي ثارت، ثم لبىّ لما استوت ناقته على البيداء.
ومن رأى ما قدمناه اختلافاً، فمعنى انبعاث الراحلة أن يستوي في صوب مكة، وهذا معنى استواء الراحلة على البيداء، فأما ثورانها وهي تردَّدُ بعدُ على الرحل، فلا، والعبرة بتوجهها إلى جهة المقصد، ثم الإحرام مع التوجه.

.باب: الإحرام والتلبية:

2529- إذا دخل وقتُ الهمّ بالإحرام، فالمسنون أن يغتسل. وذكر الأئمة أنا نستحب الغُسل للنفساء، والحائض، وإن كانتا لا تطهران. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عُميس، وكانت نُفست بولادة محمد بن أبي بكر، " فأمرها عليه السلام بالغسل لدخول مكة"، فطرد الأئمة ذلك، في غُسل الإحرام.
ثم إذا اغتسل من يريد الإحرام، فاستعمال الطيب محثوث عليه قالت عائشة: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " وفي بعض الأخبار أنها قالت: "طيبتُه بأطيب الطيب، وهو المسك"، وعنها، أنها قالت: "رأيت وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم".
2530- ثم التطيب يقع قبل الإحرام، فإن كان في البدن، وليس للطيب عينٌ تشاهد بعد الاستعمال، فلا منع، وإن طيب بدنَه بطيب يبقى عينُه على البدن محسوساً، فلا بأس عندنا به، خلافاً لأبي حنيفة. وشاهد مذهبنا حديثُ عائشةَ في المسك، مع ذكرها رؤيةَ وبيص المسك بعد الإحرام.
2531- ولو استعمل طيباً مجسماً، ثم أحرم وعرِق، وتنحى الطيب عن محله، فهل يؤاخذ بذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يؤاخذ به، فإن الجزء الذي انتقل الطيب إليه بعد الإحرام جزءٌ صادفه طيبٌ، بعد تحريم الطيب بسبب الإحرام. ثم هذا القائل يقول: يلزم أن يبتدره المحرم، ويزيلَه ويكون ما جرى بمثابة طيب يصيب بدنَ المحرم، من غير قصد منه، فالذي عليه فيه أن يبتدر إزالته، فإذا فعل ذلك، لم يلزمه شيء.
والوجه الثاني- أنه غير مؤاخذ بما يجري؛ فإن التطيب جرى سائغاً، فلا حكم للانتقال بعده، والطيب كالمستهلَك في حق الإحرام إذا تقدم استعماله عليه، ويشهد لذلك استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسكَ، في مفارقه صلى الله عليه وسلم. والظاهر في الحجاز تنقل الطيب، وسيلان العرق به.
2532- ولو طيب المحرم قبل الإحرام إزاره، أو رداءه، وتوشّح أو اتزر، ثم أحرم، فحاصل ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك يسوغ، كما يسوغ تطييب البدن.
والثاني: لا يجوز؛ فإن الطيب يبقى على الثوب، ويمّحق على البدن.
والثالث: أنه إن لم يكن عينٌ، فلا بأس به، وإن كان الطيب عيناً، لم يجز، وكان ذلك بمثابة ما لو شدّ مسكاً على طرف إزاره، وكان يستديمه، فهذا ممتنعٌ، وفاقاً.
والأصح أنه لا يمتنع تطييب الثوب، ولا خلافَ أنه لو كان يقصد تطييب بدنه، فتعطر ثوبه تبعاً، فلا حرج.
ولو عطر ثوبه، وجوزنا ذلك على الأصح، ثم نزعه ومحاه، ثم عاد إليه ولبسه، وهو بعدُ عَطِرٌ، ففي المسألة وجهان- أحدهما- المنع؛ فإن اللبس الجديد بعد الإحرام في حكم إنشاء تطيب.
والثاني: لا بأس، فإنه استعمل الطيب قبل الإحرام، فصار كالمستهلك، فلا مبالاة به، كيف فرض الأمر. ومحل الوجهين فيه إذا طيب الثوب، فلبسه وأحرم وهو عليه، فأما إذا طيب رداء، وأحرم، وقصد به تطييب الرداء للإحرام، فإذا توشح به بعد الإحرام، لم يجز، ولزمه الفداء؛ لأنه استعمل الطيب جديداً بعد الإحرام. والوجهان في تجديد لبس الثوب، يقربان من سيلان الطيب، بعد الإحرام. ووجه التقريب واضحٌ.
2533- وتمام البيان في هذا الفصل أن التطيّب عند الإحرام في مرتبة المندوبات، لا في مرتبة المباحات، ويشهد له الخبر، والأثر.
ولعل السبب فيه أنه يلقى شَعَثاً وتَفَلاً، وقد ينتهي إلى التأذي، فكان التطيب تقليلاً من آثار الشعَث، وهو قريب من استحباب السواك قبل أوان الخُلوف، وقد صح في الشرع الندب إلى استعمال الطيب يوم الجمعة. ومما يؤكد ذلك الأمرُ بالغسل، والغرض منه التنزه، ولهذا أُمرت الحائض به، وإن كانت لا تتطهر.
2534- ثم إذا كان يغتسل فلا نرى للنية في غسله هذا أئراً، وشاهده أمرُ الحائض بالغسل. وفيه أدنى نظر؛ فإن النية مرعيّة في غسل الجمعة، والغرض منه قطع الروائح الكريهة. وبالجملة من قصد إقامة شعار الدين كان مأجوراً على قصده.
ثم يتّزر ويرتدي ويحسِر رأسه، ويصلي ركعتين. ثم مضى القول في أوان إحرامه.
فصل:
قال: "ويكفيه أن ينوي حجاً، أو عمرة... إلى آخره".
2535- مذهبنا الصحيحُ أن انعقاد الإحرام يعتمد النيةَ، فإذا نوى المرء الشروع في الحج، أو العمرة، أو فيهما قِراناً، أو نوى الإحرام المطلق، صار محرماً، بمجرد النيةِ، من غير تلبية.
وقال أبو حنيفة: لا يثبت الإحرام بمجرد النية، من غير قرينة، والقرينةُ الظاهرةُ التلبية. ثم أقام أبو حنيفة سَوْقَ الهَدْي، وإشعاره، وتقليده، مقام التلبية.
وذكر بعض أصحابنا قولاً قديماً للشافعي: "أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية"، وهذا اختيار أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي بن خيران، والشاهد لذلك اتفاقُ الناس، مُذ كانوا على الاعتناء بشعار التلبية، حالة العقد.
وكان شيخي يتردد في التفريع على القديم، في إقامة الإشعار، والتقليد، مقام التلبية. وسبب التردد أن ابن عباس كان يجعل نفسَ الإشعار والتقليدِ إحراماً.
والظاهر تعيين التلبية.
والمذهب الاكتفاء بالنية المجردة. ومن شَرَط التلبيةَ، لم يشترط التنصيص على ما جرى في النية من التعرض للحج أو العمرة، وهذا متفق عليه؛ فتكفي التلبيةُ المطلقة شعاراً، ثم التعويل فيما ينعقد مفصَّلاً، أو مجملاً على النية. وذكر الصيدلاني قولين في أنا هل نكره ذكر ما انعقد في التلبية:
أحدهما: أنا نكره ذلك، نص عليه، وقال في موضع آخر: لا بأس بذكر ما أحرم به.
2536- ومما يتم به غرض الفصل: أنه لو لبى بلسانه، ولم ينو بقلبه، فقد نقل المزني أنه يلغو ما صدر منه، ونقل الربيع أن إحرامه ينعقد مجملاً، ثم إنه يصرفه إلى أحد النسكين، أو إليهما.
وقد كثر خبط الأصحاب، ونحن نذكر المقصود.
فنقول: من ذكر التلبيةَ حاكياً، أو معلم، وقصد غرضاً سوى الإحرام، لم يصر محرماًً، خلافا لداود. وكذلك إذا جرى اللسان بالتلبية، فلا حكم له.
فأما إذا جرد قَصْده إلى النطق بالتلبية، ولم يخطر بباله قصدُ الشروع في الإحرام، فهذا موضع التردد. وللأصحاب طريقان: منهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: وهو الذي نقله المزني: أنه لا يصير محرماًً، وهو ظاهر مستغنٍ عن التوجيه.
والثاني: أنه يصير محرماً، وهو ما نقله الربيع. ولست أعرف له وجهاً.
وإن تكلف متكلف، وقال: من ضرورة تجريد القصد إلى التلبية، مع انتفاء سائر المقاصد سوى الإحرام، أن يجري في الضمير قصد الإحرام. وهذا ليس بشيء، فإن الأمر إن كان كذلك، فهو إحرامٌ بنيةٍ، ولا خلاف إذا ثبتت النية، في انعقاد الإحرام.
فصل:
قال الشافعي: "وإن لبى بحج يريد عمرة... إلى آخره".
2537- قد ذكرنا أن التعويل في عقد الإحرام على النية، فإن نوى الرجل بقلبه الشروعَ في الحج، ولبى بعمرةٍ لفظاً، فلا حكم للفظ، والتعويل على عقده. ولو نوى إحراماً مطلقا، وعيّن في التلبية، فلا حكم لتعيين اللسان. ثم إذا نوى إحراماً مطلقاً، صار محرماً، وله الخيار، فإن صرفه بعقده إلى حج أو عمرةٍ، انصرف إلى ما قصد. ولا شك أن هذا فيه إذا أبهم الإحرام في وقتٍ يصلح للحج، والعمرة.
ولو صرف إحرامه المبهم إلى الحج والعمرة قِراناً، صار قارناً، وإمكان صرف الإحرام المبهم إلى كل واحدٍ من النسكين أو إليهما جميعاً، دليل ظاهر على مشابهة العمرة الحج.
ولو أحرم إحراماً مبهما في غير أشهر الحج، ثم فسره بالحج، لما دخل شوال، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك غيرُ جائز، ولا يثبت الحج؛ فإن الإحرام جرى في وقتٍ، لا يتأتى فيه الحج، لو عينه بدل الإبهام، والتعيين آخراً بمثابة التعيين أولاً.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أنه ينصرف إحرامه المبهم إلى الحج. وهذا ضعيفٌ في القياس.
ووجهُه على ضعفه أن العبد إذا أحرم بالحج في رقه، ثم عَتَق قبل الوقوف، ووقف حراً، فقد قال الشافعي: يقع الحجُّ عن فرض الإسلام. وهذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكالٍ، وسنذكر أن ما أوردناه في طريان العتق مشكلٌ في طريق القياس، فإن جرينا على الأصح، وهو أن تفسير الإحرام الجاري في غير أشهر الحج بالحج في أشهر الحج غير جائز، فلو أحرم المرء بعمرة في غير أشهر الحج، ولم يشتغل بأعمالها حتى دخل أشهرُ الحج، ثم أراد أن يُدخل حجّه على تلك العمرة، فقد ذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين:
أحدهما: أنها تدخل، ويصير قارناً؛ فإنه ابتدأ الإحرام بالحج في وقته، وقد مضى أن الحج يدخل في العمرة.
والوجه الثاني- أنه لا ينعقد إحرامه بالحج، فإنه لو انعقد، لصار قارناً. ومن مذهب الشافعي أن القارن في حكم ملابسٍ إحراماً واحداً، ولهذا لا يجب عليه فديتان عنده إذا أقدم على محظور الإحرامين، وإذا كان كذلك، فلو قضينا بانعقاد الحج، والإحرامُ سابقٌ على أشهرِ الحج، لكان هذا في حكم الإحرام بالحج قبل أشهره. والأقيس الوجه الأول.
2538- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنه لو أبهم الإحرام، قبل أشهر الحج، ثم فسره بالعمرة، صح، وكان معتمراً، وإن فسره بالحج قبل وقته، كان كما لو أحرم بالحج. وقد مضى تفصيل المذهب فيه.
وإذا قلنا: المحرم بالحج معتمر، والتفسير بالحج غيرُ ممكن، فإحرامه المبهم قبل أشهر الحج إحرامٌ بالعمرة، ولا حقيقة للإبهام في الإحرام، وهذا بيّن، لا شك فيه.
2539- ولو قال في نفسه: أحرمت كإحرام فلانٍ، فهذا أولاً سائغٌ، وقد روي أن علياً قال عند منصرفه من اليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى مكة، عام الوداع، فقال عليّ رضي الله عنه: "لبيك بإهلالٍ كلإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم إذا أحرم بإحرام كإحرام زيد، لزمه ما هو فيه، فإن كان معتمراً، فإحرامه عمرة، وإن كان حجاً، فإحرامه حج، وإن كان قارناً، فإحرامه قرانٌ.
وإحالة الإحرام على إحرام الغير، مع الجهل بحقيقة الحال أبعد عن القياس، من جواز صرف الإحرام المبهم إلى ما يريده المحرم؛ فإن الإبهام والتعيين وقعا جميعاً، متعلِّقين بقصده، وإذا أحال على إحرام الغير، فلم يجر منه قصدٌ في التعيين، أولاً وآخراً، ولكن ذلك محتمل، متفق عليه، معتضِد بما رويناه.
وأصل الإبهام منقولٌ على الصحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإحالة الإحرام منقولٌ عن عليٍّ، ثم ذكر علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى منه، فلم ينكر عليه.
فإذا أحرم كإحرام فلان، ثم تبين أن فلاناً ما كان محرماًً، فيصير من أبهم إحرامَه محرماًً إحراماً مبهماً، فليفسره بما بدا له؛ فإن الإحرام لا خلاص منه.
2540- ولو أحرم بما أحرم به فلان، وهو عالم بأنه غيرُ محرم، فهذا أولاً لا يمكن دعوى العلم فيه، فإنّ معوّل الإحرام على النية، ولا يطلع عليها غيرُ الله سبحانه وتعالى.
ولو قال: أحرمت بإحرامٍ كإحرامٍ فلان، وكان من ذكره ميتاً، وهو عالم بموته، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يصير محرماً؛ فإن الذي أتى به ليس جزماً للإحرام، وليس هو أيضاً على تردُّدٍ؛ فإن فلاناً غير محرم.
والثاني: أنه يصير محرماً على الإبهام؛ فإن الإحرام إذا جرى، لم يُدفع.
2541- ولو أحرم كإحرام فلانٍ، وكان ذلك المعيَّن محرماً على الإبهام، فيثبت للذي أحال عليه إحرامٌ مبهم، ثم لو فسر ذلك المعيَّن إحرامَه المبهمَ، بأحد النسكين، أو بهما، فلا يلتزم من أحال عليه ذلك، ولكنه بالخيار في تفسير إحرامه، ومنتهى ما يلتزمه بإحالته أن يكون كالمحال عليه، في حالته، ولقد كان المحال عليه في إحرام مُبهمٍ، لمّا قال هذا: لبيك بإحرام كإحرام فلانَ، فما يحدث بعد ذلك، من تعيين وتفسير، فلا يلتزمُه المحيل؛ باتفاق الأصحاب.
ولو كان ذلك المعيَّن قد أحرم بالعمرة أولاً، ثم أدخل عليها حجة، وصار قارناً، ذكر الشيخُ أبو علي في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه يصير قارناً؛ فإنه لما أنشأ ربط إحرامه بإحرام ذلك الشخص، كان إذ ذاك قارناً، ولم يجر القِران بعد إحرامِ هذا المبهم. والوجه الثاني- أن إحرامه عمرة؛ نظراً إلى ما كان عليه أولاً، قبل إدخال الحجة، فإن إحالته واقعةٌ على إحرامه الأول.
وهذا الذي ذكره يستدعي نوعَ كشفٍ، فإن خطر للذي أبهم الإحرامَ، التزامَ ما فيه ذلك المعيّن الآن، فلا خلاف أنه يلزمه القِران، إن صار قارناً، كما صورناه.
وإن خصص بعقده حالةَ الإحرام، فلا خلاف أنه لا يلتزم إلا العمرة. ولو جرى ذلك مبهماً، من غير تعرّضٍ للأول، والدوام، ففيه الخلافُ الذي ذكرناه.
ولو أحرم بما أحرم به فلان، وقد أشكل ما أحرم به فلان، وعسر الوصول إلى دركه، فهذا عند المحققين بمثابة ما لو أحرم، ثم نسي ما أحرم به.
وهذا فصل قد انتهينا إليه الآن، ونحن نخوض فيه مستعينين بالله، وهو خير معين.
فصل:
قال الشافعي: "فإن لبىّ بأحدهما، فنسيه، فهو قارن... إلى آخره".
2542- إذا أحرم في وقت إمكان الحج، ثم نسي ما أحرم به، قال الشافعي: "فهو قارنٌ". واتفق الأئمة على أنه ليس بقارنٍ في الحال حكماً، ولكنه مأمور بأن يُصيِّر نفسه قارناً، كما سنصفه.
فأول ما نذكره: أنه إذا أشكل عليه ما أحرم به، فالمذهب المشهور أنه يلزمه أن يسعى في تحصيل القطع، كما نصفه، ولا يكفيه بناء الأمر على غالب الظن.
وللشافعي قولٌ في القديم، حكاه العراقيون، وغيرُهم: "إنه يجتهد، ويتحرى، فإن غلب على ظنه أمرٌ بنى عليه، ولا يلزمه طلب القطع".
ثم سبيل التفصيل أن نقول: إن نسي ما أحرم به، لم يخلُ إما أن يطرأ ذلك قبل الإتيان بشيء من أعمال النسك، وإما أن يطرأ الإشكال بعد جريان عمل من الأعمال.
فأما إذا لم يأت بعمل، ولكنه أحرم، ثم نسي ما أحرم به، فالمنصوص عليه،-وهو ظاهر المذهب- أنه يجب السعي في درك اليقين، ووجهه أنه لابَس الإحرامَ قطعاً، فليخرج منه قطعاً. ونظائر وجوب استصحاب اليقين كثيرة في الشريعة.
والذي حكاه الأئمة عن القديم، جوازُ بناء الأمر على التحرّي، فليجتهد من أشكل عليه الحال، ويعمل بموجَب ظنه. ووجهُهُ تنزيلُ الظن منزلة العلم، فكيف ومتعلَّق المستصحب ظن أيضاًً، وقد جرى منا في المسائل المتقدمة تنبيهٌ على حقيقة القول في ذلك.
2543- فإن قلنا: يجب التوصل إلى درك اليقين، فوجهه أن يحرم صاحب الواقعة بحجٍّ، وعمرة، وعبّر الشافعي عن هذا الغرض، بأن قال: "إذا نسي ما أحرم به، فهو قارن"، ولم يُرد أنه قارنٌ حقا، ولكن أراد أن الوجه أن يُصيِّر نفسه قارناً، ثم إن كان إحرامه أولاً قِراناً، فلا يضر إعادة العقد، وإن كان إحرامه أولاً بعمرة، فيصير الآن قارناً، مُدخلاً للحج على العمرة، وإن كان محرماً بالحج أولاً، فيصير الآن مدخلاً عمرةً على الحج، وقد مضى اختلاف القول في أن العمرة هل تدخل على الحج، ثم يجري في عمل الحج، فإذا انتهى، فقد تحلّل عن الإحرام، قطعاً، وبرئت ذمته، عن حجة الإسلام؛ فإن حجه يصح على كل قولٍ، في كل تقدير.
وأما العمرة، فإن حكمنا بأنها تدخل على الحج فتبرأ ذمته عن عمرة الإسلام أيضاً- إذا أوجبناها- وإن حكمنا بأنها لا تدخل على الحج، فلا تبرَأ ذمتُه عن العمرة، لجواز أنه كان أحرم أولا بحجة مفردة، فلما نسي ولبى بالقِران، فالعمرة لا تلج على الحج.
2544- وأما دم القِران، فإن حكمنا بدخول العمرة على الحج، فهو قارن في كل تقدير، فيلزمه دمُ القران.
وإن فرّعنا على أن العمرة لا تدخل على الحج، فلا يمتنع كونه غير قارن، والأصل براءة ذمته عن كفارة القِران، فلا يلزمه الدم إذاً، بناءً على أصل البراءة؛ فإن مبنى هذا القول على استصحاب الأصل في كل حكم.
والحاصل إذن أنه إذا أحرم بالقِران بعد النسيان، فالتحلل يحصل، والذمة تبرأ عن الحجة، وفي براءتها عن العمرة الخلاف المقدم، المبني على أن العمرة هل تدخل على الحج، وأمر الدم متلقى من هذا، فإن حكمنا ببراءة الذمة من العمرة، فذلك مفرع على دخول العمرة على الحج؛ فالقران إذاً مقطوع به؛ فيلزمه دم القِران، وإن لم تبرأ ذمتُه من العمرة، لم نقطع بحصول القِران، فلا نوجب الدمَ على تردُّدٍ؛ فإن مبنى المسألة على بناء الأمر على الأصل في جميع أطراف الحكم.
2545- ومما يتم به الغرض: أنه لو أحرم بالحج، ولم يأت بصورة القِران بعد النسيان، بل اقتصر على إحرام الحج بعد النسيان، فإذا أنهى عملَ الحج، فقد تحلل عما هو عليه قطعاً، وقد برئت ذمته عن الحج؛ فلم يذكر الشافعي القِران على معنى أنه لابد منه، ولكنه ذكره ليستفيد الآتي به التحللَ القطعي، وتبرأ ذمتُه عن النسكين.
ولو نسي ما أحرم به، ثم لم يجدد إحراماً بالحج أيضاًً، ولكنه أتى بأعمال الحج؛ فإنه يخرج أيضاً عن إحرامه، ويتحلل، غيرَ أنه لا تبرأ ذمتُه، في ظاهر الحكم عن واحدٍ من النسكين.
هذا كله تفريع على الجديد.
2546- فأما إذا قلنا: إنه يجتهد، فإن أداه اجتهاده إلى أنه حاجٌّ، تمادى فيه، وبنى على ظنه فيه، ولم يُكلَّف إنشاءَ إحرامه، وإن ظن أنه قارِن، فهو كذلك، وإن ظن أنه معتمر، وأراد الاقتصارَ على العمرة، طاف، وسعى، وحلق، وخرج عما عليه.
ثم الصحيح في التفريع على هذا القول: أنه يحكم. بموجَب الظن، فيما له وعليه، حتى إن ظن القِران، وجرى على موجَب ظنه فيه، خرج عن النسكين، وتحلل، ولزمه الدمُ.
وذكر الشيخ أبو علي: أن من أصحابنا من قال في التفريع على اتباع الاجتهاد: إن فائدة الحكم به القضاءُ بالتحلل، والخلاصُ من الإحرام، فأما أن يحكم ببراءة الذمة عن النسكين إذا ظن القِران، فلا. وكذلك لا يلزمُ الدمُ بالظن.
وهذا بعيدٌ؛ فإن الظن إن اتبع في وجهٍ، وجب اتباعُه في كل حكم.
2547- ومما فرعه العراقيون على هذا القول: أنه لو كان قال: لبيك بإحرام كإحرام فلان، ثم أشكل ما أحرم به فلان؛ قالوا: في المسألة وجهان:. أحدهما- أنه يأخذ بما يظنه، كما لو كان إشكاله في إحرام نفسه.
والثاني: أنه لا يأخذ بالظن في حق من شبَّه إحرامَ نفسه بإحرامه؛ فإن الاجتهاد لا مساغ له في حق الغير، ولا مطّلع على نيته، فلا يتحقق غلبة الظن فيما يتعلق بالغير، وقد يثبت الظن فيما يتعلق بنفس الإنسان.
ولو جوزنا له أن يبني الأمر على الظن، فلم يترجح في فكره أمرٌ، ولم يحصل له ظن، فالوجه على ذلك أن يتمسك بمُدرك القطع، كما فرعناه على ظاهر المذهب، فيلتقي القولان في هذه الحالة.
ومما حكاه الشيخ في التفريع على طلب اليقين أنا إذا قلنا: إنه يَقرُن، وحكمنا بأن العمرة لا تدخل على الحج، فقد ذكرنا أنه لا تبرأ ذمتُه عن العمرة. فهذا هو المذهب المقرر.
وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالعمرة، وتبرأ الذمة منها، وإن وقع التفريع على أن العمرة لا تدخل على الحج، وذهب إلى أن السبب الإشكالُ وطريانُ النسيان، وقد يُجرى في حال الإشكال، ما لا يُجرى في غيرها؛ فإن من صلى الظهر خمس ركعات ناسياً، صحت صلاته، ولو زاد ركعةً خامسةً على عمد، بطلت صلاته.
وهذا كلام باطلٌ غيرُ مُعتد به، ولا ينبغي أن يعتقد تشوّش الأصول بأمثال هذه الوجوه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا نسي ما أحرم به، وطرد الشك، قبل أن يعمل شيئاً من أعمال النسك.
2548- فأما إذا أحرم، فطاف، ثم تردّد، فلم يدر أنه محرم بماذا؟ فهذا موضع تفريع ابن الحداد، فنذكر جوابه، ثم نصل به تمام الشرح.
قال ابن الحداد: لو قصد القِرانَ إنشاءً، كما صورناه في القسم الأول، لم ينتفع به؛ فإنه يجوز أنه كان معتمراً، والمعتمر إذا طاف، ثم أراد إدخال الحج على عمرته، لم يمكنه، فإن أراد أن يحسب له حج، فالوجه أن يسعى، ويحلق، ثم يبتدئ إحراماً بالحج؛ والسبب فيه أنه إن كان معتمراً، فما ذكرناه يحلله عن العمرة، ثم يقع حجه على الصحة، بعد تحلله. وإن كان إحرامه في علم الله حجاً، فلا يضرّ ما جرى، وغايته أن ينتسب إلى الحلق في غير زمانه.
وكذلك لو قُدِّر قارناً، فالحج يعتد به، والدم واجب بسبب إيقاع الحلق في غير أوانه.
وما ذكره ابن الحداد حسنٌ، لا وجه غيره، ولكن ظاهر كلامه مشعرٌ، بأنه مأمور بأن يحلق. وهذا نَقَمَه كافة الأصحاب عليه، فإنه قد يكون حاجاً، فأمره بالحلق من غير بصيرة ليس جارياً على اتباع موجَب القطع.
وقال الأئمة: لا يؤمر صاحب الواقعة بالحلق، بل ينهى عنه، لجواز أن يصادِف الحلق إحراماً مستمراً، ولكن إن حلق بعد الطواف، والسعي، ثم راجع المفتي، أجاب بالأمر بالإحرام بالحج، وإلزامِه الدمَ، كما سنصفه-إن شاء الله تعالى-، وضربوا لذلك الدجاجةَ والدُّرّة مثلاً، فقالوا: إذا بلعت دجاجةُ زيدٍ درة ثمينةً لعمرو، فلا نسلط صاحب الدرة على ذبح دجاجة الغير من غير إذنه، ولكن لو ابتدر ذلك، صل إلى درته، والتزم لصاحب الدجاجة ما ينقصه الذبح.
وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب أن من نسي ما أحرم به، وقد طاف، فنأمره بأن يسعى، ويحلقَ، فإنه مضطر إلى هذا، وإذا كان من به أذىً من رأسه يؤذن له في الحلق للأذى، فما تورط فيه صاحب النسيان أولى بأن نسلطه على الحلق.
وهذا وإن كان يوجه على بُعْدٍ، فالمذهب ما قدمناه.
ثم المعنيّ بالأمر بالحلق الندبُ، والإباحة، ورفعُ الحرج: ووجه الندب أنه يُتوصل إلى إبراء ذمة نفسه، عن الحج، وإذا لم يفعل ما ذكرناه، تأخر حجُّه، ووقع في غَررِ العاقبةِ.
2549- فإن قيل: إذا نهيتم عن الحلق، وجريتم على ظاهر المذهب، وهو ما اختاره ابن الحداد، في بيان طريق الخروج عن العهدة، مع استفادة براءة الذمة عن الحج، فإذا جاء صاحب الواقعة التي فرض فيها ابن الحداد كلامَه، واستفتى فبماذا تُفتون؟ قلنا: أما الحلق، فننهى عنه، ونأمره بأن يعمل عمل حاجٍّ، ليتحلل عما هو فيه، ثم لا نحكم له ببراءة ذمته عن واحد من النسكين، وإن حصل أحدهما، هذا مسلك الفتوى.
وطريقُ الخلاص، مع تحصيل الغرض من الحج ما ذكره ابن الحداد فهذا ما أردناه.
2550- والآن حان أن نتكلم فيما يلزمه من الدم:
إذا فعل ما ذكره ابنُ الحدَّاد، فنقول: إن كان صاحب الواقعة غريباً، بحيث يلتزم بصورة التمتع الدمَ، فإذا جرى على مراسم ابن الحداد، فيلزمه دمٌ، لا محالة؛ فإنه إن كان متمتعاً، فعليه دم، وإن كان محرماً بالحج أوّلاً، فالحلق في غير أوانه يلزمه الدم، فالدمُ لازم في كل تقدير، ثم لا يضره أن يجهلَ، ولا يعرفَ السببَ المقتضي لوجوب الدم؛ فإن قياس مذهبنا في الكفارات، أنه لا يجب فيها تعيين النية، على ما سنذكره في الظهار.
وإن لم يجد دماً، وصام عشرة أيامٍ، خرج عما عليه؛ فإن الصيام في التمتع على الشرط المقدم قد أتى به، ويكفي في كفارة الحلق، صيام ثلاثة أيامٍ، وفي صيامِ
العشرة خروجٌ عما عليه.
فإن أطعم، لم يخرج عما عليه؛ لجواز أن يكون الواجبُ كفارةَ التمتع، وليس في كفارة التمتع إطعام.
قال الشيخ: إذا وجبت الكفارة بيقين، فينبغي أن يكون الخروج منها بيقين.
وقد يعترض في ذلك أن قائلاً لو قال: إذا صام ثلاثةَ أيام، فصيام السبعة بعدها مشكوك في وجوبه، فينبغي ألا تشغل الذمة إلاّ على يقين، وكذلك إذا أطعم.
وهذا فيه احتمال ظاهر، وله التفات على تقابل الأصلين، وعلى مسألةٍ تقدمت في الطهارة، وهي أن من شك في الخارج، فلم يدر أمنيٌّ هو أو وَدي، ففي أصحابنا من اكتفى بوضوء منكس، وإن كان ذلك منساغاً عند بعض الأصحاب، لفرط التشوف إلى الأخذ بالأقل، مع العلم بأن الوضوء المنكس ليس موجَب الحدث، ولا موجَبَ الجنابة. فلأن يخرج بصيام الثلاثة عما عليه أولى؛ فإن لإجزائه وجهاً، وهو أن يقدَّر مُفرداً، حالقاً في غير أوانه، بل ما ذكرناه شبيهٌ بالاقتصار على الوضوء؛ من جهة أن الحدث مانع، ثم اكتفى بالوضوء، ونحن لا نقطع بأنه رافعٌ للحدث الواقع.
فهذا ما أردناه نقلاً، واحتمالاً.
والمنقول عن الشيخ ما تقدم، من أنا لا نكتفي بصيام ثلاثة أيامٍ، وقياسُ الاحتمال بيّن.
وكل ذلك فيه إذا كان صاحب الواقعة غريباً، يلتزم بصورة التمتع الدمَ.
2551- فأما المكي إذا وقعت له هذه الواقعة، فأمرناه بما ذكرناه، فلا نُلزمه دماً، لجواز أن يكون محرمًا بالعمرة، وقد تحلل على الصحة، فلم يكن الحلق موجباً للكفارة، ولا صورة التمتع، فلا سبيل إلى شغل الذمة من غير تحقق.
ومبنى الكلام في أطراف المسألة على اشتراط اليقين في التحلل، واشتراطِه في شغل الذمة، واشتراطِه في براءة الذمة عما سبق القطع بوجوبه، ولذلك جرى التردد في صيام الأيام الثلاثة؛ فإن اشتغال الذمة بالكفارة معلوم قطعاً، وحصول البراءة بصيام الثلاثة مشكوك فيه.
فهذا تمام ما أردناه في ذلك. والقول الضعيف في اتباع الظن والاجتهاد قائمٌ في صورة مسألةِ ابن الحداد، لم نُعده، واقتصرنا على التفريع على القول الصحيح.
فرع:
2552- إذا وُجد من الغريب صورةُ التمتع، ثم لما انقضى عملُ النسكين، تذكر أنه كان محدثاً في طواف العمرة، وتعيّن له ذلك، فنقول: بان أن طوافَ العمرة لم يصح؛ ولم يصح السعي، لأن صحتَه تستدعي تقديمَ طوافٍ صحيح، فقد أحرم بالحج قبل مضي شيء معتد به، من أعمال العمرة، فيكون قارنا ويُعتدّ بنسكيه، ويلزمه دم، صفته صفة دم التمتع، ويلزمه أيضاً دَمُ الحلق الواقعِ في غير أوانه؛ فإن المسألةَ مصورةٌ فيه إذا حلق، وابتدأ الإحرام بالحج.
وبمثله لو تذكر أنه كان محدثاً في طواف الحج، فالخطب يسير، فنقول له؛ توضأْ، وأعد الطوافَ، والسعيَ، وهذا أقصى ما عليك.
2552/م- وإن تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له ذكر واحدٍ منهما، وهذه صورة مسألة ابن الحداد، فنقول: يحصل له النسكان جميعاً، لو توضأ، وطاف، وسعى مرة أخرى، فإنه بين أن يكون متمتعاً، قد طاف في حجه محدثاً، فإن كان كذلك، فقد أعاد الطواف، وبين أن يكون قارِناً، لم يعتد بطوافه في عمرته؛ لأنه كان محدثاً، وقد دخلت الحجة على العمرة، فالواجب إذاً أن يتوضأ، ويطوف، ويسعى، وقد حصل له النسكان، ولا يلزمه في هذه الصورة إلا دمٌ واحد؛ فإنه بين أن يكون قارناً، أو متمتعاً. ولا يلزمه دم الحِلاق؛ لجواز أن يكون حدثه في طواف حجه.
2553- وقد ذكر الشيخ فرعاً متصلا بما ذكرناه، وذلك أنه قال: المفرد في الحج إذا مضت منه الأفعال، وجامع، ولكنه لم يدر أن جماعه جرى قبل التحلل الأول، فتضمن فسادَ حجه، أو جرى بعد التحلل الأول، فلم يفسد حجُّه، على المذهب، كما سيأتي.
قال: في المسألة وجهان:
أحدهما: أن الحج يُحكم بفساده؛ فإن الأصل أنه لم يتحلل عنه حتى جرى المفسد.
والثاني: لا يثبت الفساد؛ فإن الأصل براءةُ الذمة عن وجوب القضاء، والحكمُ بالصحة وانتفاءُ المفسد.
فرع:
2554- إذا أتى الغريبُ بصورة التمتع، وجامع بعد الفراغ من أعمال العمرة، وقبل الإحرام بالحج، ثم أحرم بالحج وأنهى أعماله نهايته، ثم تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له الطوافُ الذي كان محدثاً فيه.
فنقول أولاً في مقدمة المسألة: من شرع في العمرة، وأفسدها بجماع على عمد، ثم أحرم بالحج قبل التحلل عن العمرة الفاسدة، فللأصحاب ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ: أحدها: أن الإحرام بالحج لا ينعقد أصلاً، لا على الصحة، ولا على الفساد؛ لأنه لو اشتغل في العمرة الصحيحة بأعمالها، ثم أحرم بالحج، لم ينعقد لاشتغاله بأسباب التحلل، والفساد أقوى في هذا المعنى، من افتتاح أسباب التحلل، فليمتنع انعقاد الحج.
والوجه الثاني- أنه ينعقد الإحرام بالحج؛ فإن الإحرام بالعمرة تامٌّ، على نعت الفساد، لم يتحلل من شيء منه.
ثم إذا حكمنا بانعقاد الإحرام بالحج، فقد ذكر وجهين:
أحدهما: أنه ينعقد على الصحة، ويبقى صحيحاً، ويجري صاحب الواقعة في عمرةٍ فاسدة، وحج صحيح.
وهذا بعيد جداً؛ فإن قياس مذهب الشافعي أن الإحرام واحد في حق القارن، ومضمونه نسكان، كالبيع الواحد، يشتمل على مبيعين؛ وإذا أجرينا البيع في ذلك مثلاً، فقد ينقدح تخريجُ هذا الوجه على تفريق الصفقة، في البيع المشتمل على الفساد والصحة، وهو بعيد؛ فإن إيراد الحج على العمرة الفاسدة، اعتمادٌ لملابسة الفساد، في نفس الإحرام بالحج. فهذا أحد الوجهين. والوجه الثاني- أن الفساد يلحق الحجَّ وينعقد الإحرام به، ثم في تقدير فساده وجهان:
أحدهما: أنه ينعقد على الصحة، ثم يفسد.
والثاني: أنه ينعقد فاسداً. وقد ذكرنا نظير الوجهين فيه، إذا أصبح المرء مجامعاً، فطلع الفجر، واستدام الوقاع.
والأظهر عندنا من هذه الوجوه كلِّها الحكمُ بانعقاد الحج على الفساد، من غير تقدير فسادٍ طارئ على صحةٍ في الحج مُقدَّرَة.
وليست هذه المسألة كمسألة الصوم؛ فإن من تخيل ثَمّ فساداً بعد انعقادٍ، فسببه أنه لو اشتغل بالنزع، لصح صومُه، ومثل ذلك غيرُ متخيّل فيما نحن فيه؛ فإنه أحرم بالحج مُقْدِماً على إدخاله على عمرة فاسدة.
هذا كله فيه إذا أفسد العمرة، ثم أحرم بالحج.
2555- ومما ظهر فيه الخلاف أنا إذا حكمنا بانعقاد حجه على الفساد، فالرجل قارِنٌ يلتزم بدنةً لإفساد العمرة، وظاهرُ المذهب أنه يلتزم بدنةً أخرى لإفساده حجَّه بإدخاله إياه في عمرة فاسدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يلتزم إلا بدنةً واحدة كما لو قرن على الصحة، ثم جامع، وأفسد نسكه؛ فإنه لا يلزمه إلاّ بدنة واحدة وإن أفسد النسكين، نظراً إلى اتحاد الجماع.
والقائل الأول يقول: قد ترتب الفساد في الصورة التي نحن فيها، فحصل الإفساد بدفعتين.
ومن أصحابنا من أوجب بدنةً، لإفساد العمرة، وشاةً لما جرى آخراً، ونزل هذا منزلة ما لو جامع الرجل، فأفسد نسكه، ثم جامع مرة ثانية، على الفساد، فإنا في وجهٍ نُلزمه بالسبب الثاني دمَ شاةٍ، وبالإفساد بدنة، وستأتي هذه التفاصيل في موضعها.
2556- فإذا وضح ما أردناه في هذه المقدمة، عدنا بعدها إلى تفصيل المذهب في صورة مسألة ابن الحداد:
فإذا أتى بصورة العمرة، وتحلّل، وجامع، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، وقضى أفعال الحج، ثم قال: تذكرت أني كنت محدثاً في أحد الطوافين: طوافِ العمرة، أو طوافِ الحج، وليس يتعين لي الطوافُ الذي كنت محدثاً فيه.
فنقول: اختلف قول الشافعي في أن الجماع إذا صدر من الناسي في النسك، فكيف حكمه؟ أحد القولين- أنه لا أثر له، وحكمه محطوط بالكلية.
والثاني: أنه يناط به ما يناط بجماع العامد، إلا المأثم، وسيأتي ذكر ذلك.
فإذا ظن أنه تحلل من العمرة، وجامع، فلو كان محدثاً في طواف عمرته، فجماعه صادفَ عمرته، وقد اختلف أصحابنا في حكمه، لو كان كذلك: فمنهم من نزّله منزلة الناسي لنسكه، إذا جامع؛ حتى نخرج المسألة على القولين اللذين ذكرناهما الآن. وهذا هو الذي اختاره الشيخ.
ومنهم من لم يجعله كالناسي، وقد ذكرنا قريباً من ذلك فيه إذا أصبح مخالطاً أهله، ظاناً أنه في بقية من الليل، ثم تبين أنه كان مواقعاً، وكان الصبح في وقت وقاعه طالعا، فمن أصحابنا من قطع بفساد الصوم. وهذا مذهب الأكثرين. ومنهم من لم يحكم بالفساد، كما لو صدر ذلك من الناسي، وكان هذا غريباً عندنا، في كتاب الصوم.
وقد صرح الشيخ به في المسألة التي انتهينا إليها من الحج.
والعبارة القويمة عما نحن فيه، أن الغالط هل ينزل منزلة الناسي؟ فعلى وجهين، وبيانه ما قدمناه، فإن من جامع على ظن أنه في بقيةٍ من الليل، فهو ذاكرٌ لصومه، ولكنه غالطٌ في فعله. وكذلك إذا ظن أن عمرته قد تمت، فجامع، فهو ذاكرٌ غيرُ ناسٍ، ولكنه غالطٌ، وسنُجري في مسائل إفساد الحج خلافاً في أن القارن إذا أفسد ما هو فيه، وألزمناه موجَب الإفساد، فهل يلزمه مع موجب الإفساد دمُ القران؟ فعلى وجهين: وهما يجريان في أثناء هذه المسألة، إذا اقتضى الحال الحكمَ بفساد القران، وسنستقصي حقيقة الوجهين، عند ذكرنا بيانَ ما يفسد الحج، وما يستوجبه المفسد.
2557- وإذا وضح ما ذكرناه، عاد بعده بنا الكلام إلى ذكر صورة مسألة ابن الحد اد:
فإذا جرى الجماع بعد صورة الفراغ من أعمال العمرة، ثم أحرم بالحج، واستمر، وذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يَبِن له عينُ الطواف، الذي كان محدثاً فيه، فالوجهُ-بعد تمهيد ما تقدم- أن نقول:
أما ما يتعلق ببراءة الذمة عن النسكين، فالأخذ فيه بالأسوأ، فنقدر كأنه كان محدثاً في طواف العمرة، لتفسدَ، ويفسدَ الحجُّ على ظاهر المذهب؛ فتبقى ذمتُه مشغولةٌ بالنسكين، إذا كانا عليه من قبل.
وأما ما يتعلق بلزوم الدم، فلا يلزم منه مشكوكاً فيه، فإن الأصل براءة الذمة، فإذاً لا نوجب بسبب الإفساد شيئاً. ونوجب دمَ التمتع، فلا أقل منه، ونوجب لتحقيق التحلل، أن يتوضأ في آخر حجه، ويطوفَ ويسعى، فإن التحلل لابد من طلب اليقين فيه.
فهذا نجاز القول في هذه الفصول. وقد ذكر الشيخ في الشرح مسائلَ، تتعلق بإفساد الحج والعمرة، وسنذكرها-إن شاء الله تعالى- في موضعها.
فصل:
قال الشافعي: "ويرفع صوتَه بالتلبية... إلى آخره".
2558- فنقول: أفضل صيغ التلبية ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه أبو هريرةَ، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك، والملك، لا شريك لك"، ويستقيم إن وأن بالكسر والفتح، فمن فتح، فعلى تقدير الاتصال بما تقدم، ومن كسر فعلى تقدير الابتداء.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على أثر التلبية: "إن العيش عيشُ الآخرة " قال الشافعي: "قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أسَرِّ حالة، وفي أشد حالة"، أما أسر حالةٍ، فلما وقف بعرفةَ، عامَ الوداع، ورأى جمعَ المسلمين، فسرّه ذلك المنظر، استبشر، ثم استرجع، وقال: "لبيك إن العيش عيشُ الآخرة". وقال أنس: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذي الحليفة، وهو على ناقةٍ عليها قطيفة، لا تساوي درهمين، ورأى أصحابَه حوله ينتظرون، أمره ونهيه، فتضاءل حتى توارى برحله، تواضعاً لربه، ثم قال. على أثر تلبيته: لبيك، " إن العيش عيشُ الآخرة".
وأما ما ذكره كذلك في أشد حالة، فهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابهَ رضي الله عنهم، كانوا يحفرون الخندق، وقد نُهِكت أبدانهم، واصفرت ألوانهم، من وباء يثرب وعلى أَوْساطهم الأحجارُ تقيم أصلابَهم من شدة الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتجزاً:
«اللَّهُمَّ إنَّ العيش عَيشُ الآخره... فارحم الأنصارَ والمهاجِرَه» فأجابوه:
نحن الذين بايعوا محمدا... على الجهاد ما بقِينا أبدا " فالغرض أن الأوْلى الاقتصارُ على الكلم المقدّمة، في الملبية، وتكريرُها أولى من الاشتغال بذكرٍ أخر، وصيغةٍ أخرى في التلبية، سوى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أن سعدَ بنَ أبي وقاص سمع رجلاً يقول: "لبيك يا ذا المعارج"، فقال: "يا بن أخي. إنه ذو المعارج، ولكن ما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
2559-ثم ذكر الأصحاب أنه إذا لبى، فحسنٌ أن يستغفر في نفسه، ويستعيذ به من النار، ولا يرفع صوتَه بذلك، رفعه بالتلبية.
وذكر العراقيون استحسانَ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بصوتٍ خفيضِ، بحيث يتميز عن التلبية.
2560- والتلبيةُ محبوبةٌ في دوام الإحرام، وتمامه، إلى بدء أسباب التحلل، كما سنذكرُهَا، ويتأكد استحباب التلبية، في التغايير التي تطرأ، عند الاستواء على كل نشز وصعودٍ، وعند كل هبوط، وعند اصطدامِ الرفاق.
ثم ليقتصر كلٌّ في رفع الصوت على ما يطيقه ويستديمه ولا ينبهر به.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل عليّ جبريلُ فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي، بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» قالوا، فرفعنا أصواتنا، فما بلغنا الروحاء، حتى بحت حلوقنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبِعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تنادون أصمَّ ولا غائباً».
2561- واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب رفع الصوت بالتلبية في المساجد؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك، تعميماً للأماكن والأزمنة، وأيضاًً؛ فإنها أفضل البقاع، فهي أولى بشعار الإسلام. وقال في قول: لا يؤثر ذلك؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «جَنّبوا مساجدَكم رفعَ أصواتكم». وهو الذي يليق بتعظيم المساجد.
فإن قلنا: لا يؤثر رفع الصوت في المساجد، فهل نرى الرفعَ في المساجد التي يتعلق بها المناسك، وهي المسجد الحرام، و مسجد الخيف؟ فعلى هذا القول وجهان:
أحدهما: لا يؤثر ذلك، كسائر المساجد.
والثاني: أنا نستحب رفع الصوت فيهما؛ لاختصاصهما بجريان شعار المناسك فيهما.
2562- واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب التلبيةَ في طواف القدوم، والسعي الواقع على أثره؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك؛ فإن أحرى الأذكار بالتكرار، على اختلاف الأحوال التلبيةُ، وقال في القول الثاني: لا تستحب التلبيةُ فيهما؛ فإنه قد وردت أذكارٌ في الطواف، والسعي، تستوعب معظم الأوقات فيهما، فالاشتغال بتلك الأذكار أوْلى.
واختلاف القول في ذلك يقرب من اختلاف القول في أنا هل نستحب للمصلي أن يجيب المؤذنَ في صلاته.
2563- ثم المرأة كالرجل في التلبية، غيرَ أنا ننهى المرأة عن رفع الصوت، فتلبي في نفسها، ورعايةُ الستر في حقها أولى الأشياء، ولهذا نهيناها عن الأذان.
فصل:
2564- ذكر الشافعي آخر الباب، ما يجب على الرجل كشفُه في الإحرام، وما يجب على المرأة.
فأما الرجل، فيجب عليه كشف الرأس، ولا يجب عليه كشف الوجه، وعبر الفقهاء عن ذلك بأن قالوا: إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها، ويجب على المرأة كشف وجهها، على ما نفصل القول فيه.
فأما الرجل، فلو ستر رأسه بما يُعد ستراً، كان مرتكباً محظوراً، فإن لم يكن معذوراً، عصى، وافتدى. وإن كان معذوراً، لم يعصِ، وافتدى، ولو توسد عمامةً مكورةً، ولم تحتو على رأسه، فلا بأس، ولا فدية، ولو ستر ذلك القُطر، بوضع العمامة عليه، افتدى.
فالتعويل على العادة، فالمتوسد حاسر الرأس، عرفاً، بخلاف الواضع عمامته على رأسه، ولو استظلّ المحرم بمَحْمِلٍ مُظَلَّل أو بظُلَّة يعتادها الكبراء، فلا بأس، ولا فدية. وكذلك لو استظل ببناءٍ.
ومنع مالك الاستظلالَ بظِلال المخيمات، والظُّلل، ولم يمنع الاستظلال بالبناء.
ولو وضع المحرم على رأسه حِملاً، أو زَبيلاً، ففي المسألة قولان: أصحهما- أنه لا فدية، لأنه يعد في العادة حاسراً.
وللشافعي قولٌ آخر: "إن الفدية تلزم". أخذه الأصحاب من نقل الشافعي، عن مذهب عطاء: إن الفدية تلزم بذلك، ثم لم يَردّ الشافعي عليه، ودأبه أن يردّ على كل مذهب، لا يرتضيه؛ فحصل في المسألة قولان.
2565- وحقيقة هذا الفصل ترجع إلى أمرٍ لابد من العلم به، وهو أن المرعي في كشف الرأس في الإحرام عند الشافعي الخروجُ عن عادة الستر، والتغطيةِ، وليس الغرضُ تكليف المحرم مشقةً من التحسّر، وكشفِ الرأس.
هذا مذهبُ الشافعي، ولذلك لم يمنعه من الاستظلال بمظلة المحمل. وتخيل مالكٌ وطوائفُ من العلماء، أن الغرض من كونه حاسر الرأس أن يفارق الدّعة، والاسترواحَ، ولذلك منعه من الاستظلال، على تفصيلٍ له.
فإذاً حاصل مذهبنا منزَّلٌ على أن كل ما يعد ستراً للرأسَ أو لبعضه، فهو محظور للإحرام. ثم لا يرعى في الستر، الموجِب للفدية العادةُ المعتادة في الستر، فلا نقول: تجب الفدية بسترٍ يُعتاد مثله، بل نقول: تجب الفديةُ بما يُعد ستراً للرأس. والسبب فيه أن سترَ الرأس لا ينضبط، بشيء من طبقات الخلق: فمن ساترٍ بعمامة، ومن ساترٍ بقلنسوة، ومن ساترٍ بخرقة، والمطلوب من الإحرام الخروج عن قبيل السترِ، بالكلية.
2566- ثم وجوب الفدية التامة لا يختص باستيعاب الرأس بالستر، كما لا تختص فديةُ الحلق باستيعابه، بل يجب السترُ في بعض الرأس.
قال الأئمة: لو شد على رأسه خيطاً، لم يلزمه الفدية، ولو شدّ عِصابة ذاتَ عرضٍ، افتدى، وليس معنا في ذلك توقيفٌ، نتّبعه. وإذا قلنا: المتبع فيه ما يعد في العرف ستراً للرأس، أو لبعضٍ منه، فهو سديد؛ فإن الأصلَ، والتفصيلَ فيما ورد مطلقاً من غير توقيفٍ متلقيان مما يفهمه أهل العرف؛ ولذلك يقع الاقتصار على الإطلاق، إحالةً على ما تبتدره أفهام الفاهمين، في عادات التخاطب.
2567- ونحن نتكلف في أمثال ذلك تقريباً، على حسب الإمكان، ينتفع به المبتدي، ويستغني به المنتهي عن إطالة الفكر في التنصيص على الوقائع، إذا اضطر إليها في الفتاوى، وهذا مما ينبغي أن تصرفَ العنايةُ إلى مثله، ولا يحل للمراجَع أن يحيلَ الجوابَ في مثل ذلك على المستفتي، ويردَّه إلى حكم العادة.
ولو قال قائل: ما يلوح ساتراً لبعض الرأس، على البعد، للناظر السليم، فهو ساترٌ، كان قريباً، ولا يحصل به منتهى الغرض، في التقريب.
ولعل الأقرب أن نقول: كل مقدارٍ يُنتحَى بالستر في وجهٍ، فستره يوجب الفدية، وإن لم يكن ذلك الستر في نوعه ووقته معتاداً.
2568- هذا قولينا في المقدار، فأما الكلامُ فيما يقع الستر به، فالضبط فيه: أن كل ما ينافي دوامَ اسم الكشف، فهو سترٌ، وإن لم يكن معتاداً، فلو ألصق الإنسان خرقة، على جانبٍ من رأسه، فهذا في نفسه لا يُعتاد، ولكنه ينافي اسمَ التكشف، وكل ما يبقى معه اسم التكشف، على التحقيق، فلا بأس به، كالتوسّدِ، ومن جملته الانغماس في الماء؛ فإن المنغمسَ في الماء يسمى حاسر الرأس.
وذهب مالك إلى أن المنغمس في حكم الساتر رأسَه، وهذا زلل، وذهول عما يجب أن يُرعى.
وإذا وضع المحرم زبيلاً على رأسه، فالأمر متردّد في اسم الكشف، فردّد الشافعي قولَه لذلك. واسم الكشف دائمٌ على التحقيق في حق من شد خيطاً على رأسه، وهذا يؤخذ مما قدمناه، من أن ما يأخذه الخيطُ، يبعد أن يُقصدَ بسترٍ.
ومما يليق بذلك أن المحرم، لو طلى رأسه بطينٍ، فهذا فيه تردّدٌ عندنا. وقد قال الأصحاب: طَلْيُ العورة ستر لها، في إقامة الستر الواجب، ويمكن أن يقال: المرعي في ستر العورة إقامةُ حائل بين الناظر، وبين بشرة الوجه، وهذا يحصل بالطَّلْي، ولو لبس من يحاول السترَ ثوباً، يبدو لونُ البشرة من ورائه، لم يكن ذلك ستراً، ومثله في الرأس سترٌ. لكن طلْي الرأس سترٌ له فيما نظن، والمسألة محتملة، ولا بُعد في إلحاقها بوضع الزبيل، والأوجه عندي أنه سَتْرٌ، موجبُ الفدية؛ فإن الزبيل في حكم عارضٍ يزول، والرأس حامله وهو يلقَى الرأسَ من جهة كونه محمولاً، لا من جهة كونه ساتراً، وما يطلى على الرأس خِصِّيصٌ به في الستر، ثم لست أرى الطَّلْي في معنى الماء الذي يعلو رأس المنغمس في الماء.
وينتظم فيه عبارة أراها واقعة: فرأس المنغمس يسمى حاسراً تحت الماء بخلاف رأس من على رأسه طلاء؛ فإنه لا يسمى حاسراً تحت الطلاء. فهذا ما يحضرنا في ضبط ذلك.
فصل:
قال: "وأحب أن تختضبَ للإحرام... إلى آخره".
2569- المرأة يؤثر لها الاختضابُ بالحناء في حالاتها، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على مضمون قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك} [الممتحنة: 12]، فقال لها: «يد رجلٍ، أو يد امرأة؟» فقالت: يد امرأة. فقال صلى الله عليه وسلم: «أين الحناء». والاستحباب يتأكد في الإحرام؛ فإنا قد نأمرها بنوعٍ من الكشف في اليدين، فإذا كانت اختضبت، ضاهى لونُ الحناء ساتراً، وإن لم يكنه.
ثم لا ينبغي أن تختضب اختضابَ تطريف وتزيين، بل تغمر يديها بالخضاب.
2570- وردد الشافعي قوله في الرجل إذا خضب لحيته، في أن الفدية هل تلزمه؟ وللأصحاب في سبب التردّد طرقٌ: منهم من أخذه من كون الحناء طيباً، وجعل الأمر متردَّداً فيه، فعلى هذا إذا استعمل المحرم الحناءَ على أي وجه فرض، دخل تحت التردد الذي ذكرناه.
وهذا بعيد؛ فإن الحناء لا يعدّ من قبيل الطيب.
ومن أصحابنا من أخذ ذلك من تخيّل الترجُّل، وسنذكر أن ترجيل الرأس بالدهن ينزل منزلة الطيب في إيجاب الفدية، فتردد الشافعي في أن استعمال الحناء في اللحية هل يكون بمثابة ترجيلها، فعلى هذا يختص التردد ببعض الشعور، كما سنصف مواقع الترجيل، ولا حكم للحناء على البشرة.
ومن أئمتنا من أخذ ذلك من مأخذٍ آخر، وهو أن من يختضب يتّخذ لموضع الخضاب غلافاً يحيط به، فهل يعد ذلك من استعمال المخيط؛ إذ المخيط فيه تردد في كما يأتي بيانه في ذكر الملابس.
ثم المرأة إذا اختضبت بعد الإحرام، فلا يجري في يديها جهةُ الترجيل، ويطرد تخيل الطيب، وتشبيه ما تَلُفُّ على يديها، إذا هي اختضبت بالقفازين.
والوجه عندي إبطالُ كلِّ ما ذكر في ذلك، إلاّ خيالَ الترجيل، ولم يذكر الصيدلاني غيره وهو أيضاً بعيد. والله أعلم بالصواب