فصل: باب: من له أن يصلي صلاة الخوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: من له أن يصلي صلاة الخوف:

1551- نذكر في هذا الباب مقاصدَ منها: تفصيلُ الخوف الشديد وسببه، فإذا تحركت الصفوف، والتف الحزبان في قتالٍ واجب، أو في قتالٍ مباح، واقتضت الحال ملابسةَ ما هم فيه، فهذا ما ذكرناه.
ولو انهزم العدو، وركب المسلمون أقفيتَهم، وعلموا أنهم لو نزلوا وصلّوا متمكنين، فات العدوّ، فلا يصلّون صلاة الخوف؛ إذ لا خوفَ، وإنما هذا فواتُ مطلوبٍ، والرخص لا يُعدى بها مواضعها.
ولو انهزم المسلمون فاتبعهم الكفار، نُظر: فإن حل لهم أن ينهزموا، صلوا صلاة الخوف، وذلك إذا زاد الكفار على الضعف، كما سيأتي في السِّير إن شاء الله، وإن حرمت الهزيمة، لم يجز لهم أن يصلوا صلاة الخوف؛ فإنهم متعرّضون في الهزيمة المحرمةِ لسخط الله، والرخص لا تناط بالمعاصي عندنا.
1552- وما نفصله الآن القول في القتال الواجب والمباح.
فالواجب كقتال الكفار، والمباح بمثابة الذبّ عن المال. فظاهرُ المذهب أنه إن مست الحاجة في الذب عن المال إلى ملابسة قتال، فتجوز صلاة الخوف بسببه، ونقل الأئمة والصيدلاني قولاً عن الشافعي: "أنه لا تجوز إقامة صلاة الخوف في الذبّ عن المال"، وموضع النص أن الرجل لو تبعه سيل وعلم أنه لو مرّ مسرعاً بماله وصلى مارّاً مومياً، سلم وسلم مالُه. ولو صلّى متمكناً، أمكنه أن يهرب، ويتلف ماله، قال: لا يصلي صلاة الخوف. وهذا غريب، وظاهر النصوص الجديدة يخالف هذا؛ فاستنبط أئمتنا من هذا النص قولاً في أن الذاب عن ماله إذا علم أنه لا يتأتى له دفع قاصدٍ مالَه إلا بقتله أو بما يؤدي إلى القتل، فليس له أن يدفعه، وهذا بعيدٌ جداً، وقد قال عليه السلام: «من قتل دون ماله، فهو شهيد»، فإذا كان يجوز بحكم هذا الخبر أن يعرّض نفسه للهلاك بسبب ماله، فقتلُ الصائل مع الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع أولى وأحرى، من جهة أن الصائل قد أبطل حرمة دمه، لما أقدم عليه.
ومن منع قتلَ الصائل على المال، فلا شك أنه يمنع مالك المال من أن يعرِّض نفسه للهلاك في الذب عن المال، وإذا قال هذا، فيكون مخالفاً لنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال قائلون من المحققين: لا خلاف على المذهب أن الذب عن المال جائز، وإن أدى إلى قتل الصائل. ولكن الخلاف في إقامة الصلاة إيماء، وذلك لحرمة الصلاة؛ فإن حرمتها باقية، والصائل إن قتل، فهو ساقط الحرمة.
وهذا فيه نظر؛ فإنه إن سقط حرمة الصائل، فحرمة مالك المال غيرُ ساقطة، وهو بملاقاة الصائل مغرّر بروحه، فلا يخرج القول الغريب إلا على ما قاله الأولون، من تقدير قولٍ في أنه لا يجوز الدفع إذا كان يؤدي إلى سفك دم.
والقول على الجملة بعيد مزيّف.
1553- ومما يتعلق بتفصيل الخوف أن الخوف لا يختص بما يجري في القتال، بل لو ركب الإنسانَ سيل، فخاف الغرق، أو تغشاه حريق، أو سببٌ آخر من أسباب الهلاك، ومسّت الحاجة إلى صلاة الخوف؛ فإنه يصلي، ولا يعيد في هذه المواضع كلها.
فإن قيل: من أصلكم أن الرخص لا يعدى بها مواضعها، ولذلك لم تثبتوا رخص السفر في حق المريض، وإن كانت حاجة المريض أظهر، وصلاة الخوف تثبت في القتال.
قلنا أولاً: ظاهر القرآن لا تفصيل فيه؛ فإن الرب تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
ثم في هذا تحقيق من الأصول، وهو أنا لا ننكر إجراء القياس في باب الرخص، إذا لم يمنع مانعٌ، والإجماع في منع إجراء رخص السفر في المرض من أجلّ الموانع، فلا يمتنع أن نعتقد عدم انحسام القياس الممكن في باب إذا لم يمنع منه أصل.
وذكر الأئمة أن المعسر المديون إذا كان لا يصدقه غريمه في إعساره، ولو أدركه، لحبسه، فله أن يهرب ويصلّي صلاة الخوف، إذا كان يعلم أنه لو صلى أدركه الطالب، وهذا منقاس.
وفي بعض التصانيف أن من عليه القصاص يصلي صلاة الخوف هارباً، وله أن يهرب لرجاء العفو عنه. وهذا قد ذكرته في أعذار الجماعات، وهو بعيد عندي على الجملة، ولعله إن جُوّز، ففي ابتداء الأمر حين يفرض سكون غليل الطالب قليلاً في تلك المدة، وفي مثل ذلك يرجى العفو، ولا شك أن ذلك لا يدوم أبداً في كل حكم ذكرنا فيه عذراً. وإن صح جواز الهرب فيه، فمن ضرورته تصحيح إقامة صلاة الخوف، ولكن الإشكال في جواز الهرب من مستحق الحق، وليس ذلك كالمعسر يهرب؛ فإنّ أداء الدين غير مستحق عليه.
فرع:
1554- إذا قرب فوات الوقوف، ولو صلى المُحرم متمكناً، لفاتته الحجّة، ولو تسرع، فاتته الصلاة، فهذا عسر في التصوير، ولكن الفقهاء يقدّرون ما لا يدرك حساً، ويُجرون الكلام على التقديرات، كفرضهم مقدار تكبيرة تدرك من آخرِ النهار، وهذا مستحيل في مطّرد العادة، قال شيخي فيما نقله عن القفال: هذا يَحتمل أوجهاً: أحدها: أن يترك الصلاة؛ فإن قضاءها ممكن، وأمر الحج وخطرُ قضائه ليس بالهيّن.
والثاني: أنه يقيم الصلاة في وقتها، ويكل أمر الحج إلى ما يتفق؛ فإن الصلاة تِلْوُ الإيمان، ولا سبيل إلى تخلية الوقت عنها، ولا يسقط الخطاب بالصلاة مع بقاء التكليف.
وقيل: إنه يصلي صلاة الخوف ماشياً؛ ليكون جامعاً بين التسرّع إلى الحج، وبين إقامة الصلاة.
فإن قيل: كيف يتجه هذا والخوف في فوات شيءٍ كالخوف في فوات الكفار إذا انهزموا؟ وقد ذكرنا أنه لا تجوز صلاة الخوف في ركوب أقفيتهم ليدرَكوا؟ قلنا: هذا سؤال مشكل، ولولاه، لقطعنا بصلاة الخوف، ولكن الحج في حكم شيء حاصل في حق المُحْرم، والفوات طارىء عليه، فهو شبيه من هذا الوجه بمالٍ حاصل يخاف هلاكه، لو لم يهرب به.
وهذا لطيف حسنٌ؛ من جهة تحقق الحج في حق المُحرم، مع أن الوقوف عُرضة الفوات، ولم يتحقق بعدُ ملابستُه، وهذا منشأ التردد في المسألة.
فهذا تفصيل القول في الخوف.
فصل:
1555- إذا رأى سواداً فظنه عدواً، فهرب، ثم تبين أنه لم يكن عدواً وإنما كان إبلاً تسرح، أو ما أشبهها، فإذا صلى صلاة الخوف، ثم بان له حقيقةُ الحال، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما:ولعله الأصح- أنه يقضي؛ فإنه ظن أمراً، ولم يكن كما ظن، وصلاة الخوف نيطت بحقيقة الأمر.
والقول الثاني- أنها لا تُقضى؛ فإن الخوف قد تحقق، وهو مناط الصلاة في نص القرآن؛ فإنه تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وهذا الذي فيه الكلام خائف قطعاً.
وهذا غير سديد؛ فإنه تعالى أراد الخوفَ في القتال القائم على تحقق، والعلم عند الله تعالى.
1556- ثم ذكر الأئمة صوراً في القولين منها: أنه لو صلى وكان بالقرب منه حِصن يمكنه التحصن به، فلم يره، أو كان بين العدوّ الذين رآهم وبينه حائل من خندق، أو ماء لا يُخيض أو ما أشبه ذلك، وهو لم يره.
وكل ذلك يجمعه أنه لو خاف أمراً لو تحقق، لصحت صلاة الخوف معه، ولكن بان أن الأمر على خلاف ما ظنه، ففي صحة الصلاة القولان.
1557- ثم ذكر الأئمة في تفاصيل ذكر الخوف الاستسلامَ وحكمَه، ونحن نذكر منه قدرَ الحاجة الآن، ونبني عليه غرضَ الباب إن شاء الله تعالى.
وذكر شيخي وغيرُه قولين أن من قصده مسلم في نفسه، فهل يجوز له أن يستسلم للهلاك، ولا يذب عن نفسه؟ أحد القولين: إنه يجب الذب؛ فإن الروح لا يحل بذلُه، والدفع سائغ، فليجب؛ فإن الصائل لا حرمة له.
والقول الثاني- يجوز الاستسلام للهلاك، لأخبارٍ صحيحة، منها ما رواه حذيفةُ بنُ اليمان أن النبي عليه السلام قال: «ستكون فتن كقطع الليل، القاعدُ فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي». فقال قائل: لو أدركتُ هذا الزمان فماذا أفعل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ادخل بيتك» فقال: لو دخل شيء من ذلك بيتي، فقال: «إذا أفرقك شعاعُ السيف، فألق ثوبك على وجهك، وكن عبدَ الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل»، وفي بعضِ الروايات: «كن خير ابني آدم». يعني هابيل المستسلم المقتول، ولا تكن قابيلَ القاتل.
ثم اتفق الأئمة على أنه لا يجوز الاستسلام لكافر من غير فرق بين أن يكون حربياً أو ذمياً؛ فإن الاستسلام للكافر ذلٌّ، وتمكين له من الجناية على الإسلام، وكان شيخي يقول: القولان فيه إذا قصده مسلم مكلَّف يبوء بإثمه، كما ذكره الله تعالى في قصة ابني آدم.
ولو قصده صبي أو مجنون، تعيّن دفعُه، ولم يجز الاستسلام.
وهذا فيه نظر؛ فإن المحذور قتل مسلم، وهذا متحقق في الصبي والمجنون، ولعله أظهر من جهة أنهما لا يأثمان، وليسا كالسَّبُع يصول، فإنه يتعين دفعُه قطعاً؛ إذ لا حرمة له أصلاً. والوجه طرد القولين في الصبي والمجنون.
1558- ثم إن تمكن المقصودُ المصول عليه من الهرب، أو التحصّن بحصن، فلا يجوز له الاستسلام للهلكة والحالة هذه.
فإذا فرعنا على أن الاستسلام لا يجوز؛ فإن فيه الكفَّ عمن سقطت حرمتُه وتعريضَ نفسٍ محترمة للهلاك، فعلى هذا لو تمكن المصول عليه من الهرب، فأبى إلا الوقوفَ، ومصادمةَ الصائل، فهذا فيه احتمال ومنع المصادمة ظاهرٌ؛ فإنه قادر على تنجية نفسه من غير أن يسعى في إهلاك الصائل عليه؛ فليفعل ما ينجيه، ولا يُهلك الصائلَ عليه، ويتطرق إلى جواز المصادمة احتمال؛ من جهة أنه يدفع عن ماله، وإن حلّ له بذلُه، لا لمقابلة المال بالدم، ولكن لسقوط حرمة الصائل.
والظاهر عندي القطع بوجوب الهرب، وتحريم مصادمة المسلم عند إمكان الهرب، فلو فعل هذا، لم يفته شيء، ولو لم يدفع عن ماله، فاته المال، فهذا هو الوجه لا غير.
1559- والذي يتعلق بصلاة الخوف من ذلك أنا سواء أوجبنا عليه الذبَّ عن نفسه، أو جوزنا له الاستسلام؛ فإنه يصلي إذا اختار المصادمة صلاة الخوف؛ فإنه بين أن يجوز له الدفع، وبين أن يجب.
والذب عن دم الغير وعن الحُرم، في كل ما ذكرته بمثابة ذب الإنسان عن دم
نفسه.

.باب: ما له لبسه وما ليس له:

1560- ذكر في الباب جواز المبارزة، وهذا من كتاب السيَر، وذكر فصلاً فيما يحل لُبسه، وفيما يحرم لُبسه.
وغرض الفصل أنه يحرم على الرجال لُبس الحرير، وهو حلال للنساء، وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم خرج وعلى إحدى يديه قطعة ذهب، وعلى الأخرى قطعة حرير، وقال: "هما حرامان على ذكور أمتي حل لأناثهم".
فيحرم على الرجال لبس الحرير في حالة الاختيار، والقزُّ من الحرير وإن كان كَمِدَ اللون باتفاق الأصحاب، فيحرم لُبسه على الرجال.
وقال العراقيون في الثياب المنسوجة من الحرير والغزل: إن كان الحرير أكثر، حرُم لُبسه، وإن كان أقل، حلّ؛ فإن استويا في المقدار، فعلى وجهين، وقال شيخي وطوائفُ: النظر في ذلك إلى الظهور؛ فإن لم يظهر من الحرير شيء، لَبسه، كالخز الذي سَداه إبريسم، ولكنه لا يظهر. وإن ظهر الإبريسم، حرمنا اللُّبسَ، وإن كان قدره في الوزن أقل.
وهذا حسنٌ. ولكن موضع النظر أنه إذا كثر الغزل، فلابد وأن يظهر مع الإبريسم، وإذا ظهرا جميعاًً، لم تعظم الخيلاء، ولم يُعدّ الملبوس حريراً.
1561- فإن قيل: فهلا اتبعتم اسمَ الحرير؟ فإنه الذي حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعتابي وإن ظهر، وكثر منه الإبريسم، لا يُعدّ حريراً؟ قلنا: الغزلُ يستعمل في النفيس منه لإقامة الإبريسم، فهو المقصود، وما معه في حكم الاستصلاح له، فإذا كثر، وظهر، فالتحريم قطعاً لا غير.
وإن لم يكن كذلك، ففيه الطريقان: من أئمتنا من راعى المقدار، والصحيح مراعاة الظهور، وإن كان الإبريسم أقل.
1562- ولو اتخذ الرجل جبة حشوها قزٌ أو إبريسم صافي، والظهارة والبطانة قطن أو كتان، فلا خلاف في جواز ذلك؛ فإنّ الحشوَ ليس ثوباً منسوجاً، وليس صاحبه معدوداً لابسَ حرير.
ولو لبس مبطّنة، وكانت بطانتها حريراً، وكانت الظهارة البادية خزّاً، أو قطناً، فلُبسه حرام، ولا ينبغي أن يُخرَّج هذا على ما سبق في الأواني من فرض إناءٍ من الذهب قد غشي بالنحاس.
وفي هذا سر ينبغي أن ينبه عليه، وهو أن المعنى المعتبر في الأواني الفخر والخيلاء، وهذا المعنى ليس يجرى اعتباره في لبس الحرير، والدليل عليه، أنا لما اعتبرنا في الأواني الفخرَ، أجريناه في الجواهر النفيسة، على تفصيلٍ قدمناه، وقد تتحقق النفاسة في غير الإبريسم من الأجناس.
وقد ينقدح للناظر أن يقول: ما عدا الإبريسم ترتفع قيمتُه بالصنعة، فهو كالأواني التي قيمتُها في صنعتها. وفيه نظر، ويعضد ما ذكرناه أن الثوب الذي بطانته حرير يحرم لبسه على الرجل، وإن كان لا يبدو الحرير للناظرين، فكأن الفخرَ، وإن كان مرعياً في الحرير، فينضم إليه أنه رفاهية وزينة، في خَنَثٍ وإبداء زي، يليق بالنساء دون الرجال، والذي تقتضيه شيمة الشهامة من الرجال اجتنابُه.
والمعتمد مع ذلك كله الحديثُ دون المعنى. وإنما الذي نذكره لضبط حدودِ المذهب، وتخريج مسائله.
وكان شيخي يروي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرُّوج حرير، وكان يفسر ذلك بالثوب المطرف بالحرير، كالفراء وغيرها. ثم كان يقول: هذا على شرط الاقتصار على التطريف. ومجاوزة العادة، وتعدِّي الطرف انتهاءٌ إلى السّرف، فيحرم إذ ذاك.
والقول في ذلك يلتفت على تضبيب الأواني بالفضة، غير أنا راعينا الحاجة ثَمَّ في بعض التفاصيل، ولسنا نرعاها هاهنا.
1563- وبالجملة القول في لُبس الحرير أهونُ من القول في الأواني، فليفهم الناظر ذلك، ولهذا لم يحرم على النساء لُبس الحرير وإن حرم عليهن استعمال الأواني الفضية، وبين الاعتياد في التطريف، وبين مجاوزته قليلاً إلى السرف الذي لا يشك فيه مجالٌ للنظر.
ولست أدري أن الغالب في الباب التحريم، حتى يقال في مظان الإشكال يستديم التحريم إلى ثبوت محلل، أم الغالبُ الإباحة حتى يثبت مُحرِّم، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «هما حرامان» يوضح أن الغالب التحريم، ثم الثَّبَت الذي نشترطه ليس قاطعاً، بل غلبة الظن كافية؛ فإنا نبيح الدمَ، والبُضع بغلبات الظنون.
1564- ومما نذكره أن شيخي كان يقول: كما يحرم على الرجال افتراش الحرير، فكذلك يحرم على النساء؛ فإن هذا من السرف المجاوز للحد، وكان يشبّه هذا باستعمال الأواني الفضية، وظاهر كلام العراقيين دليل على أنه لا يحرم عليهن افتراش الحرير؛ فإن الفخر في ذلك قريب، وقد أجاز أبو حنيفة-فيما أظن- للرجال افتراشَ الحرير، وهوَّن الأمر في ذلك.
1565- ومما يتعلق بما نحن فيه أن الصبيان هل يجوز أن يُلبسهم القُوَّام الحرير؟ كان شيخي يتردد فيه، ويميل إلى المنع لتغليظٍ فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي بعض التصانيف القطعُ بجواز ذلك، وهو منقدحٌ على المعنى الذي نبهنا عليه؛ فإنه يليق بالأطفال، قريب من شيم النساء في الانحلال المناقض للشهامة.
1566- وظاهر كلام الأئمة أن من لبس ثوباً ظهارته وبطانته قطن، وفي وسطه حرير منسوج، لم يحرم. وفيه نظر من طريق الاحتمال والنقل والله أعلم.
1567- ثم مما نذكره في ذلك أن الرجل إذا فاجأه قتالٌ، فلم يجد إلا حريراً، لبسه، وهذا في حكم الضرورة، وفي الحديث ما يدل على أن نهاية الضرورة في ذلك لا تشترط؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لحمزة في لُبس الحرير لحكةٍ كانت به، هكذا رواه الصيدلاني، وهذا ينبه على قُرب الأمر في ذلك.
ولم يخصص الصيدلاني تجويزَ ذلك بالمسافر. وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك إنما يجوز في السفر، فإذا انضمت حكة إلى السفر المُلهي عن التفقد، وقد قيل: الحرير لا يَقْمَل، فلا بأس. فأما المقيم، فلا يفعل ذلك. والمسألة محتملة، وحديث حمزة مطلَقٌ.
وسنذكر طرفاً من الكلام في ألوان الملابس في كتاب صلاة العيدين إن شاء الله.
فأما تفصيل القول فيما يتحلى به الرجال والنساء، فسيأتي في باب الحلي من باب الزكاة. إن شاء الله تعالى.
فصل:
1568- مما ذكره في الملابس ما قدمته في باب الطهارة، ولكني أعيد الاستقصاء بطرفيه، فقد نص الشافعي على أنه يحرم لُبس جلد الكلب والخنزير، ويجب اجتنابهما لما خُصَّا به من التغليظ، ولا يجوز أن يُلبسه فرسَه أيضاً، والتصرف فيه بهذه الجهات محرّم. ولو أراد أن يُلبس كلباً جلدَ كلب، فالظاهر الجواز. وفيه نظر. من جهة أن التصرف فيه، واقتناءه، يخالف ما نأمرُ به من اجتناب ملابسته.
وكان شيخي يذكر خلافاً في جواز لُبس سائر الجلود النجسة إذا لم تُدبغ، ويجوّز لُبس الثوب النجس، ويفرّق بأن الجلود نجسة في أعيانها؛ فكان الحكم أغلظ فيها، وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أن استعمال النجاسة في البدن لا يجوز في الاختيار.
وأما استعمالها في غير البدن كالاستصباح بالزيت النجس، ففيه خلاف، وكان يحرّم ملابسة النجاسة من غير حاجة، وعليه وقع بناء منع البيع، وإن كان من النجاسات ما ينتفع به؛ فإن ملابسته تخالف ما أمرناه به، ولهذا منعنا بيع الكلب وإن كان منتفعاً به، وحرمنا أكل كل نجس من غير ضرورة، والاستصباح؛ من حيث لا يمس بدن الإنسان، خُرِّج على الخلاف.
فأما تزبيل الأرض بالزبل، فلم يمنع منه أحد؛ لأنه في حكم الضرورة، والحاجة الحاقة، ولم يزل الناس عليه، ونقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهاية الضرورة في ذلك ليست مشروطة، فهذا تمام ما أردناه.

.كتاب صلاة العيدين:

1569- الأصل فيها الكتاب، والسنة، والإجماع. قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قيل: أراد صلاة العيد. ونقلُ صلاة العيد متواترٌ والإجماع من الكافة منعقدٌ.
وكان رضي الله عنه يصدّر الكتابَ بالاستحثاث على إحياء ليلتي العيد، ويستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحيا ليلتي العيد، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».
1570- ثم قال الشافعي: "من وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين"، فذكر لفظ الوجوب، واللفظ مؤوّل في صلاة العيد، محمولٌ على التأكد، ثم لما جرى ذكر صلاة العيد مقروناً بصلاة الجمعة، أجرى ذكرهما على اتساق. فالذي صار إليه معظم الأئمة أن صلاة العيد سنة مؤكدة.
وذهب الإصطخري في طائفة إلى أنها من فروض الكفايات، وهذا التردد يطرد في كل شعيرة ظاهرة في الإسلام، وصلاة العيدين أظهرها، ثم قدمت الترتيب في أمثالها، في أول باب الأذان، وهذا الذي نحن فيه في التفاصيل، وفي نصب القتال عند فرض الامتناع عن الإقامة كما تقدم.
1571- ثم المنصوص عليه للشافعي هاهنا وفي كتبه الجديدة أنه لا يشترط في صحة صلاة العيد، ما يشترط في صلاة الجمعة، فتصح من المنفرد، والمسافر، ومن النسوة في الدور وراء الخدور، وسبيلها كسبيل سائر النوافل، غيرَ أنا نستحب فيها الجماعة.
وللشافعي قول في القديم أنه يشترط في صحة صلاة العيد ما يشترط في الجمعة، من العدد، والجماعة، وكمال صفات الأربعين، ودار الإقامة، كما ذكرناه في الجمعة، غير أن خطبتي الجمعة قبلها، وهذا قياس الشرائط، وخطبتا العيد بعد الصلاة، كما سيأتي.
ثم إذا مضت الصلاةُ وفُرض إخلال بالخطبة، فيبعد جداً في التفريع على هذا القول أن يقال: ينعطف البطلان على الصلاة.
والذي رأيته للأئمة أن صلاة العيد كصلاة الجمعة في القديم في الشرائط، إلا أن الجمعة لا تقام في الجبّانة البارزة من خِطة البلدة، وصلاة العيد تقام بارزة. وعمل الأئمة الماضين أصدق شاهد في ذلك.
ولا يمتنع مع المصير إلى التسوية ضرب من الفرق، كما نبهنا عليه من وقت الخطبتين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم صلاة العيد بالمدينة في الجبَّانة.
وذكر شيخي: أنا إذا فرعنا على القديم، لم نجوز صلاة العيد، إلا حيث نجوز إقامة صلاة الجمعة، وهذا وإن كان قياساً، فهو في حكم المعاندة لما عليه الناس.
1572- ثم ذكر الشافعي الغسل وهو محثوث عليه لصلاة العيد، ولو أتى المرء به قبل طلوع الفجر، فهل يعتد به؟ فيه وجهان مشهوران:
أحدهما: لا يعتد به؛ فإنه لم يقع في يوم العيد، فأشبه غُسلَ الجمعة، كما مضى القول فيه.
ومن أئمتنا من جوز إقامة الغسل قبل الفجر، واعتلّ بأن أهل السواد يبتكرون إلى المصلى من قراهم؛ ولو لم يغتسلوا قبل الفجر، يعسر عليهم إقامة الغسل، ثم من جوز ذلك فالمحفوظ أن جميع ليلة العيد وقت له، وكان لا يبعد في القياس أن يقرَّب بقريب الأذان لصلاة الصبح.
1573- ثم قال الشافعي: "وأحب إظهارَ التكبيرِ جماعةً، وفرادى... إلى آخره"
يستحب إظهار التكبيرات، ورفعُ الصوت بها، ليلتي العيد، وفي يوميهما إلى المنتهى الذي نصفه إن شاء الله تعالى، وهذه التكبيراتُ مرسلة يستحب إظهارها في المساجد والطرق، قال الصيدلاني: وفي الحضر والسفر.
وليعلم الناظر أن التكبيرات التي تذكر في هذا الكتاب أجناس، ولها مواضع: منها التكبيرات المرسلة، وهي التي نحن فيها، ومنها التكبيرات في أدبار الصلوات، في عيد الأضحى، وأيام التشريق، وقد عقد الشافعي فيها باباً، ومنها التكبيرات الزائدة في صلاة العيد، كما سنذكرها، ومنها التكبيرات في الخطبة كما سيأتي.
وإنما نحن الآن في التكبيرات المرسلة، التي لا اختصاص لها بأدبار الصلوات، وهي جارية في العيدين جميعاًً، ويدخل وقتُها بغروب الشمس في ليلة العيد، ثم الناس يصبحون مكبرين، حيث كانوا، وفي الطرق، رافعي أصواتهم، هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم.
ثم إلى متى يمتد هذا الجنس؟ اختلف نص الشافعي فقال في موضع: إلى خروج الإمام، وقال في موضعٍ: إلى أن يتحرم الإمام بالصلاة.
ونقل شيخي نصاً ثالثاً: أنها تدوم إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة، ثم قال: من أئمتنا من قال: النصوص أقوال، فعلى هذا معنى مَدِّه إلى فراغ الإمام يظهر في حق من لم يدرك المصلَّى بعدُ؛ فإنه يكبر مادام الإمام في الصلاة في طريقه، ولا شك أنه لا يُؤْثر له أن يكبر بحيث يجرّ تكبيره لبساً، بأن يعتقد قوم هم في الصلاة في طرف المصلى، أنّ هذا تكبير المترجم، فيركعون قبل أوان الركوع.
والطريقة المرضية التي لم يذكر الأئمة غيرَها، أن المسألة ليست على اختلاف قول، والمعتبر تحرم الإمام بالصلاة، وهذا اختيار المزني، وما ذكره الشافعي من خروج الإمام، أراد التحرّم، فعبر عنه بما يقرب منه؛ فإنه ليس بين خروج الإمام وبين تحرمه فصل، بل كما ينتهي يكبّر، فجرى ما ذكره الشافعي على مذهب التقريب والاستعارة.
وما ذكره من فراغ الإمام عن الصلاة فيما نقله شيخي-ولم أره لغيره- فهو محمول على التكبيرات الزائدة في الصلاة، فكأنه يقول: التكبيرات الواقعة في هذا اليوم تنقطع بفراغ الإمام، ولكن يرد على هذا التأويل تكبيراتُ الخطبة؛ فإنها تقع بعد الصلاة.
1574- ثم قال صاحب التقريب: التكبيرات المرسلة هل نستحبها على أدبار الصلوات في ليلة عيد الفطر، وفي صبيحتها؟ فعلى وجهين، وكذلك إذا استحببنا التكبيرات في أيام التشريق، في أدبار الصلوات، فهل يستحب إرسال التكبيرات في الطرق، في هذه الأيام؟ فعلى وجهين، والمسألة محتملة، وإيثارها في إثر الصلوات ليلة عيد الفطر أقرب من إرسال التكبيرات في الطرق أيام التشريق، ووجهه إن قلنا به أن الحجيج يكبرون كل يوم عند رمي الجمرات، وذلك لا يجري في أثر صلاةٍ، ونحن نقتدي بهم جهدنا، غير أنا لا نرمي، ونؤثر التكبيرات في الطرق أبداً.
فهذا بيان التكبيرات المرسلة في العيدين.
1575- ثم قال الشافعي: "وأحب للإمام أن يصلي بهم، حيث أَرْفَقُ بهم".
هذا أكبر تجمع في السَّنة، وقد يضيق عنهم البنيان، ولهذا كان يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس إلى الجبّان، والذي يعتبر في ذلك أولاً ما هو الأرفق، فإن كان يضيق المسجد عن الجمع برزوا، وقد ثبت أن المسلمين قد كانوا أقاموا صلاة العيد في المسجد بمكة. وهذا ثابت لا نزاع فيه، فيمكن أن يقال: هو لسعة المسجد وشَرفه، والضابط فيه أن المسجد المحرم مستثنى من كل اعتبار وقياس، وفيه اتساع الخِطة والشرف، وفعلُ الناس.
فأما ما عداه من المساجد فإن ضاق عن جمع العيد، فالبروز إلى الجبَّان هو المأمور به، وإن كبر المسجد، أو قل الناس، وإن كان يوماً مطيراً، فلا شك أن الأولى إقامة الصلاة في الجامع، وإن كان السماء مصحية، ولا عذر، والمسجد كان يسع الجمع، فقد ذكر صاحب التقريب في الأَوْلى وجهين:
أحدهما: أن الأَوْلى إقامة الصلاة في المسجد؛ فإنه أفضل من الجبان.
والثاني: أن البروز أَوْلى؛ فإنَّ أصحاب القرى يشهدون مع دوابّهم، ولا يتأتّى إحضار الدواب إلا في الجبان، والموضع البارز.
هذا ما أردناه.
1576- ثم قال: "ويمشي إلى المصلى"، ينبغي للإمام وغيره أن يمشي إلى المصلى، وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يركب في العيد، والاستسقاء، والجنازة، وعيادة المريض».
1577- ثم ينبغي أن يبتكر في عيد الأضحى، ويستأخر قليلاً في عيد الفطر، هكذا كان يفعل رسول الله، والسبب فيه أن التضحية تقع بعد الصلاة، فينبغي أن يعجل الصلاة، حتى يتسرع الناس إلى الأضاحي، وتفرقة اللحوم على المحاويج، وتفريق صدقة الفطر في الأولى تقع قبل البروز، فهذا سبب استئخار هذه الصلاة.
1578- ثم الصلاتان جميعاًً يقعان بعد طلوع الشمس، وكما طلعت، دخل أول وقت صلاة العيد، ثم ينبغي أن يسبق الناسُ الإمامَ؛ فإنه إذا خرج تقدّم وتحرّم بالصلاة، فالوجه أن ينتظروه؛ فإنه لا ينتظر أحداً، فإذا حضر نادى المنادي: "الصلاة جامعة" وكبر الإمام.
1579- ونحن نصف الآن كيفية صلاة العيد، فأقلها ركعتان، كسائر النوافل، مع نية صلاة العيد، والتكبيرات الزائدة فيها ليست من أركانها، ولا يتعلق بتركها أيضاً سجود السهو، فهذا بيان الأقل.
فأما الأكمل، فيتحرم بالصلاة، والذي عليه اتفاق الأئمة، وهو المنصوص عليه في التكبير، أنه يأتي بدعاء الاستفتاح عقيب تكبيرة الإحرام، ثم إذا نجز ابتدأ التكبيرات الزائدة، فيأتي بسبع تكبيرات سوى تكبيرة العقد، وبين كل تكبيرتين مقدار آية، لا طويلة ولا قصيرة، ثم يسبح فيها، ولا يسكت، ويقول "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر" هكذا ذكره الصيدلاني وغيره، فإذا فرغ من التكبيرات السبع، فقد ذكر الأئمة أنه يتعوذ بعد الفراغ من التكبيرات الزائدة؛ فإن التعوّذ حقه أن يتصل بالقراءة، ولا يتخلل بينه وبين القراءة شيء، ثم يستحب رفع اليدين مع كل تكبيرة يريدها، كما يرفع يديه مع تكبيرة العقد.
ثم يقرأ بعد التعوذ الفاتحة، ويقرأ سورة "ق" في الركعة الأولى، ثم يكبر ويركع ويتم الركعة، ثم يرفع رأسه ويعتدل إلى الركعة الثانية، ويكبر خمس تكبيرات سوى التكبيرة التي اعتدل بها، على حسب ما ذكرناه في الأولى، ويخلل التسبيح بين التكبيرة التي ارتفع بها وبين التكبيرات التي يفتتحها، ثم كذلك بين كل تكبيرتين، ثم إذا نجزت قرأ الفاتحة، وسورة "اقتربت" ثم يهوي ويتمم الركعة، فهذا بيان كيفية الصلاة.
ثم نذكر فروعاً تستوعب الغرض.
فرع:
1580- إذا ترك التكبيرات الزائدة حتى قرأ، ثم تذكر، فهل يكبر الآن قبل الركوع؟ فعلى قولين: المنصوص عليه في الجديد أنه لا يكبر، وقال في القديم: يتدارك التكبيرات.
ووجه القول الجديد أن وقت التكبيرات الزائدة قد فات، فلا تعاد.
ووجه القديم أن القيام مادام مستداماً، فوقت التكبير قائم.
وذكر الشيخ أبو علي أن حق المتحرم بصلاة العيد أن يعقب التحريمَ بدعاء الاستفتاح كما ذكرناه، فلو أتى بالتكبيرات الزائدة، أو ببعضها، فهل يأتي بدعاء الاستفتاح، فعلى طريقين:
أحدهما: أن المسألة على قولين، كالقولين فيه إذا ترك التكبيرات وقرأ، فهل يعيد التكبيرات؟ فعلى ما قدمناه. فهذه طريق.
ومن أئمتنا من قطع القول بأن دعاء الاستفتاح لا سبيل إلى استدراكه قولاً واحداً؛ فإنه إذا تأخر عن صدر الصلاة، فقد تحقق الفوات فيه؛ من جهة أنه معروف بالاستفتاح، وموضع الاستفتاح على أثر التحرّم، فإذا تأخّر، وتخلل ذكرٌ أو قراءة فقد تحقق اليأس من الإتيان بالاستفتاح، وليس في التكبيرات الزائدة صفةٌ تسقط بتقدم شيء عليها.
1581- ثم بنى صاحب التقريب والشيخ أبو علي، على ما قدمناه أصلاً، وهو أنا إن قلنا: يؤتى بالتكبيرات بعد القراءة، فلا كلام، وإن قلنا: التكبيرات قد فاتت ولا تستدرك، فلو أتى بها تاركُها بعد القراءة، فهل نأمره بسجود السهو أم لا؟ ذكر فيه وجهين.
وهذا يستدعي ترتيباً، وتجديدَ عهدٍ بشيء تقدم في باب سجود السهو، فنقول: من أتى بركن في غير موضعه، وكان ذلك الركن من جنس القراءة والذكر، فقرأ الفاتحة في التشهد، أو قرأ التشهد في القيام، ففي اقتضاء ذلك لسجود السهو وجهان ذكرناهما، وهذا الذي أوردناه فيه إذا لم ينضمّ إلى النقل تطويلُ ركن قصير، ثم ذكرنا تردداً في أن هذا إن وقع عمداً، فهل يؤثّر في إبطال الصلاة، أم لا؟ وكأنّ من يأمر بسجود السهو فسببه عنده أنه غيّر نظام الصلاة تغييراً واضحاً، فكان قريباً ممّن ترك بعضاً من أبعَاض الصلاة.
فلو نقل ذكراً ليس من الأركان، نظر فيه: فإن كان من أبعاض الصلاة كالقنوت، ففي اقتضاء الإتيان به في غير موضعه للسجود وجهان مرتبان على ما إذا نقل ركناً، وهذا أولى بألا يقتضي سجود السهو، فإن حكمه في وضع الصلاة أهون؛ إذ ليس ركناً، ولو أتى بذكرٍ موظفٍ ليس بركن، ولا بعضٍ من أبعاض الصلاة، في غير موضعه الذي شرع فيه، ففي اقتضاء هذا السجود للسهو وجهان، مرتبان على القنوت، وهذا أولى بألا يقتضي سجودَ السهو؛ فإنه في وضعه دون الأبعاض؛ إذ لا يتعلق به سجود السهو لو تُرك، فكذلك إذا نقل، ويخرّج عليه أنه لو أتى بالتكبيرات بعد القراءة، وقلنا: لا ينبغي أن يأتي بها، وكذلك لو أتى بدعاء الاستفتاح بعد القراءة وقد منعناه منه، ففي اقتضاء السجود في هذه المواضع وجهان، مرتبان على نقل الأبعاض، ويخرّج عليه أنه لو قرأ السورة في التشهد هل يسجد؛ فإن قراءة السورة ليست بركن، ولا بعض.
فهذا وجه التنبيه على هذه القاعدة.
فإن زادها زائد تفصيلاً وترتيباً، لم يخرج ما يأتي به عن الترتيب الذي نبهنا عليه.
ولو أتى المصلِّي بذكر غير مشروع، ولم يطوّل به ركناً، فلا يتعلق به سجود السهو، كالذي يأتي بدعاء بعد القراءة قبل الركوع، فهذا لا وقع له ولا أثر.
فهذا تمام القول في ذلك.
1582- ثم ذكر الشافعي بعد الفراغ عن كيفية الصلاة أن الخطبتين بعد الصلاة.
والأمر على ما قال. وعليه جرى الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده.
وقيل: كان مروان يقدّم الخطبة على صلاة العيد؛ فإن الناس كانوا لا يعرّجون على استماع خطبته بعد الصلاة، فحضره أبو سعيد الخدري يوماً، فلما هم بصعود المنبر جذبه وقال: قد غيرت يا رجل، فقال مروان: دع يا هذا؛ فقد ذهب ما تعلم، فقال أبو سعيد: لكن ما أعلم خير مما تعلم".
لكن الخطبتان مسنونتان، فلو قُدِّمتا على الصلاة، ففي الاعتداد بهما احتمال عندي مع الكراهية، ولا يعتد بهما قبل طلوع الشمس.
ثم الإمام إذا انتهى إلى مجلسه من المنبر، أقبل على الناس بوجهه وهم يردّون سلامه، قال الشافعي: إن ذلك روي عالياً، وقد اختُلف في معناه، فقيل: معناه أن صوته صلى الله عليه وسلم بالسلام روي عالياً، وقيل: الخبر عالٍ، وهذه عبارة يطلقها أئمة الحديث.
1583- ثم في المنصوص عليه للشافعي في (الكبير) أنه يجلس بمقدار ما يجلس قبل الخطبتين يوم الجمعة، وهذه الجلسة مقصودها الاستراحة؛ فإن الإنسان قد ينبهر إذا رَقِيَ في المنبر.
وحكى العراقيون وجهاً عن أبي إسحاق المروزي أنه كان لا يرى الجلوس ويقول: سبب الجلوس قبل خطبتي الجمعة أن يؤذن المؤذّن، ولا أذان في صلاة العيد.
فأما الجلوس بين الخطبتين، فلا شك أنه مشروع، وهو كالجلوس بين خطبتي الجمعة.
1584- ثم ذكر الشيخ أبو بكر، والعراقيون، وغيرُهم أن الخطيب يأتي قبل الخوض في الخطبة الأولى بتسع تكبيرات، ويأتي قبل الخوض في الثانية بسبع تكبيرات، وسبب العدد الذي ذكرناه تشبيه الخطبتين بركعتي صلاة العيد؛ فإن الركعة الأولى تشتمل على تسع تكبيرات، تكبيرة التحريمة وتكبيرة الهوى إلى الركوع، وسبعٍ زائدة بينهما، والركعة الثانية تشمل على سبع تكبيرات على الترتيب الذي ذكرناه، وقد روي عن ابن مسعود في ذلك أثر.
ثم قال العراقيون: لو أتى بالتكبيرات التي ذكرناها وِلاء في صدر الخطبة، جاز، ولو كان يخلل أذكاراً بين التكبيرات، جاز، ولكن لا ينبغي أن تكون تلك الأذكار من الخطبة. ولم يأتوا في ذلك بثَبَت يُعتمد.
1585- ثم قال: "ولا بأس أن يتنفلَ المأموم... إلى آخره".
من شهد المصلى من القوم، وقد ارتفعت الشمس، فلا بأس لو تنفل قبل صلاة العيد أو بعدها؛ فإن الوقت لا كراهية فيه، ولكن ليس الموضع مسجداً حتى يؤمر بأن يحيِّي البقعة، وقد نقل الشافعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من كان يتنفل قبلها وبعدها، ومنهم من كان يتنفل قبلها، ولم يُرِد بنقل ذلك اختلافَ مذاهب الصحابة، ولكن أوضح أنهم كانوا يأتون بالصلاة على حكم الخِيَرة والوفاق.
فأما الإمام؛ فإنه لا يتفرغ إلى ذلك؛ فإنه كما ينتهي إلى موضعه، يفتتح صلاة العيد، وإذا تحلل عنها، مشى إلى المنبر، واشتغل بالخطبة، ولا يعرّج على تنفُّل بعدهما بل ينصرف.
1586- ثم قال: "وأحب حضور العجائز غيرِ ذوات الهيئات".
والأمر على ما قال، وكنّ يحضرن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يشهدن الذكر ودعوة المسلمين» وكن يخرجن تَفِلات متلفعات بجلاليب لا يشهرن، وكان يخرج على الصفة التي ذكرناها نسوة فيهن بقيةٌ أيضاً.
قال الشيخ: واليوم، فنحن نكره لهن الخروج، وقد روي عن عائشة أنها نهت النساء عن الخروج فقيل لها: كن يخرجن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لو عاش صلى الله عليه وسلم إلى زماننا، لمنعهن من الخروج".
وقد روي أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى امرأته خارجة يوم الجماعة فجرّ بعض ثيابها وكان يريد امتحانها، فمرت وما التفتت، وقيل انصرفت من مكانها، فلما عاد عبد الله سألها عن حضورها، فذكرت له القصة، وقالت له: لا أخرج بعد هذا أبداً، فقال عبد الله: أنا الذي جررت ثوبك لأمتحنك، فقالت: فلا أخرج إذاً أبداً، ولو لم يربك مني أمر لَما امتحنتني. وقد قال أبو هريرة: "ما نفضنا أيدينا عن تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا".
1587- ثم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المصلى من طريق ويعود من طريق".
وقد اختلف أئمتنا في سبب ذلك، فمنهم من قال: كان يفعل هذا حذراً من غوائل المنافقين في اليوم المشهود، وقيل: كان يفعل ذلك لتنال بركته الطريقين. وقيل:
كان يفعله ليستفتى في الطريقين، فتعم الفوائد، وقيل: لعله كان يسلك أطول الطريقين في خروجه ليكثر خطاه؛ إذ كان يخرج ماشياً، وكان يؤثر في انصرافه أقرب الطريقين؛ إذ لا قربة في الانصراف.
وذكر العراقيون عن أبي إسحاق أنه كان يقول: من ذكر معنىً فيما نحن فيه يوجد في غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يؤثَر ويستَحب له مثل ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معنى كان يختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرى لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثار المخالفة في طريق قصده ورجوعه، بل هو على خيرته في ذلك.
ونقلوا عن أبي علي بن أبي هريرة أنه كان يؤثر للناس كافة ذلك، وإن كان المعنى مختصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كالرَّمَل والاضطباع في الطواف. وهذا التردد الذي حكَوْه من هذين الشخصين، يجري في نظائر هذا المعنى في المسائل.
1588- ثم قال: "ولا أرى بأساً أن يأمر الإمام من يصلي بضعفة الناس".
وقد ذكرنا أن المنصوص عليه في الجديد، أنا لا نشترط في صلاة العيد ما نشترطه في الجمعة، فعلى هذا لو انفرد الرجل بصلاة العيد في رحله جاز، ولو فرضت جماعاتٌ متفرقة، صحت الصلوات، ولكن الإمام يمنع من هذا من غير حاجة، حتى تجتمع الجماعاتُ على صعيد واحد؛ فلو علم أن في الناس ضعفة، لا يقدرون على البروز، فحسنٌ أن يأمر إنساناً حتى يصلي بهم في مسجد أو غيره.
وإن فرعنا على القديم، فلا يجوز إقامة جماعتين، ولو فُرضتا، لكان القول فيهما على القديم كالقول في صلاة الجمعة، إذا عقدت فيها جمعتان.