فصل: باب: مقام المطلقة والمتوفى عنها زوجها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: مقام المطلقة والمتوفى عنها زوجها:

9832- ذكر الشافعي في هذا الباب السكنى، وما يتعلق بها، ومن يستحقها من المعتدات، ومن لا يستحقها.
والأصل في وجوب السكنى الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ: قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، قيل في التفسير: الفاحشة الزنا، والمعنى إلا أن تزني، فتخرج لإقامة الحدّ عليها، وهذا التفسير غير صحيح؛ لأنها إذا أخرجت للحدّ، رُدّت إلى مسكن العدّة بعد استيفاء الحد، فلا يتحقق الإخراج الكلي، فالصحيح ما قال ابن عباس إن الفاحشة أن تَبْذُوَ بلسانها، وتستطيل على أحمائها، فتخرجَ من دار الزوج.
وسكنى المطلقة مستفادةٌ من الكتاب.
9833- فأما المتوفى عنها زوجها، فأمرها مستفادٌ من حديث فُرَيْعةَ بنتِ مالك: روي أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن زوجي قُتل ولم يتركني في مسكن يملكه، فقال عليه السلام: «ارجعي إلى بيتِ أهلك، واعتدّي فيه، فلما ولّت وبلغت بعض البيوت، ناداها، وقال: اعتدي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله».
وفي سكنى المتوفى عنها قولان، كما سنذكرهما، وفي الحديث الذي رويناه متمسّك القولين: فمن أوجب السكنى، صار إلى أن الرسول نسخ بقوله الآخرَ قولَه الأول، ورخص لها في الخروج أولاً، ثم نسخ وأوجب السكنى بقوله: «اعتدي في بيتك حتى يبلغ الكتابُ أجلَه».
و من لم يُثبت السكنى للمعتدة عن الوفاة، استدل بأوّل الحديث، وحمل آخره على الندب والاستحباب.
وحديث فاطمةَ بنتِ قيس لابد من ذكرها في الباب، روي أن زوجها طلقها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعتد في بيت الزوج، فاستطالت على أحمائها باللسان، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجها النبي عليه السلام من بيت الزوج، وأمرها حتى اعتدّت في بيت ابن أم مكتوم.
وعن مروانَ أنه أخرج مطلقةً من بيت زوجها، فأرسلت إليه عائشةُ: أن اتق الله، واردُد المرأة إلى بيت زوجها، فقال مروان: أما بلغك شأنُ فاطمةَ، فقالت عائشةُ: لا عليك أن لا تذكر فاطمة، فقال مروان: إن كان بك الشر، فحسبك ما بين هذين من الشر: أي إن كان أخرجها بعلة الشر، فهو موجود في هذه، ثم كانت فاطمةُ تسمَّى بعد قصتها في الصحابة الفتانة؛ فإنها روت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها النفقة والسكنى، وكانت لا تذكر سبب إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها من مسكن النكاح.
فهذا بيان القواعد التي إليها الرجوع في مسائل الكتاب.
9834- ثم إنا نفتتح بعد هذا القولَ في التي تستحق السكنى، وفي التي لا تستحقها، وفي التي اختلف القول فيها.
وجملة المعتدات قسمان: معتدة عن فُرقة النكاح، ومعتدة عن غير النكاح، فالمعتدة عن غير النكاح كالموطوءة بالشبهة والمنكوحة نكاحاً فاسداً، فيلتحق بهما المستولدة إذا عتَقَت بالإعتاق، أو بموت المَوْلَى عنها، فلا سكنى لواحدة من اللواتي ذكرناهن، إذا لم يكن حمل، فلا شك أن السكنى إذا انتفت، انتفت النفقة.
ولو كانت واحدة من اللواتي ذكرناهن حاملاً، ففي استحقاق النفقة كلامٌ، وتفصيلٌ، واختلافٌ، سيأتي مستقصًى في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل.
فإن أثبتنا النفقة لمكان الحمل، فهل تثبت السكنى؟ الرأي الظاهر أنها تثبت؛ فإن السكنى أولى بالثبوت من النفقة.
ومن أصحابنا من قال: لا تثبت السكنى؛ فإن النفقة الثابتةَ لأجل الحمل بلاغٌ وسدُّ حاجةٍ به قوام الحمل، ولا يتحقق هذا المعنى في السكنى. ومن صار إلى إيجاب السكنى تبعاً للنفقة، فليس يعيّن مسكناً، وإنما يوجب القيام بمؤنة السكنى.
9835- فأما المعتدة عن فُرقة النكاح، فلا يخلو إما أن تكون معتدة عن الموت أو عن فُرقة في الحياة، فأما المعتدة عن فُرقة في الحياة، فقسمان: معتدة عن الطلاق، وعن غير الطلاق.
فالمعتدة عن الطلاق قسمان: رجعية وبائنة، أما الرجعية، فلها النفقة والسكنى، حاملاً كانت أو حائلاً؛ لأنها في حكم الزوجات، والبائنةُ لها السكنى بكل حال، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً.
ثم للشافعي قولان في أن النفقة لها أو للحمل، وسيأتي توجيههما وتفريعهما في كتاب النفقات، إن شاء الله تعالى.
وأما المعتدة عن فراق في الحياة غيرِ الطلاق، فالطريقة المشهورة أن النكاح إن انفسخ بفسخ أنشأته المرأة بنفسها: بعيبٍ في الزوج، أو خيارِ عتق، فلا سكنى لها، وكذلك لو ارتضعت، وكان ذلك سببَ الانفساخ، فالكلام على ما ذكرناه.
وكذلك لو انفسخ النكاح بفسخٍ أنشأه الزوج لمعنًى فيها، فلا سكنى في مثل هذه العدة، وأمرُ النفقة في الفرق بين الحامل والحائل يأتي في النفقة، إن شاء الله.
فلو انفسخ النكاح بارتداد الزوج، أو بإسلام أحدهما، أو رضاعٍ من جهة أجنبي، ففي وجوب السكنى قولان، كما في المتوفى عنها زوجها؛ وذلك أن النكاح ارتفع من غير طلاق، ولا سبب متعلق بها.
ومن أصحابنا من قال: يجري القولان في العدة التي تترتب على فسخها أو على الفسخ بعيب فيها، وكل معتدة عن فراق عن النكاح في الحياة، ليس ذلك الفراق طلاقاً، ففي ثبوت السكنى الطريقان في القطع، وتخريج القولين.
فإن أردنا أن نفرق بين النفقة والسكنى في مجاري المذهب، فلْنحوِّم ولا نضن بالوفاء بفرق معنًى، ولكنا نعتمد فحوى كلام الله عز وجل؛ فإنه أثبت السكنى من غير تفصيل، وفَصَّلَ الأمرَ في النفقة، فخصص وجوبَها بالحوامل، وغرضُنا الآن التعرضُ للسكنى فحسب، فأما النفقاتُ، فبين أيدينا، نفصلها في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
9836- والقدْرُ الذي ذكره الأصحاب أن السكنى لصيانة الماء والمعتدة على الجملة مشتغلةٌ بصيانة الماء، والنفقةُ في مقابلة تسلط الزوج،. وهذا المعنى مفقود في عدة البينونة، وليس يستمر هذا على ما ينبغي، ويَرِدُ على أحد شِقي الكلام الموطوءة بالشبهة والمستولدة في زمان الاستبراء.
فأما الصغيرة التي لا تحتمل الجماع لصغرها هل تستحق السكنى؟ ذكر الأئمة وجهين في استحقاقها السكنى، وبناهما القاضي على أنها هل تستحق النفقة في النكاح؟ فإن قلنا: لا نفقة لها، فلا سكنى لها في العدة، وإن قلنا: لها النفقة في النكاح، فلها السكنى في العدة.
9837- وأما الأمة إذا طلقها الزوج، فلا يخلو إما إن كان السيد بوّأ لها مسكناًً مع الزوج أو لم يفعل ذلك، فإن كان عين مسكناً، فهذا يُبنى على أصلين:
أحدهما: أنها هل كانت تستحق النفقة في الحياة؟ وهذا يترتب على استخدامه إياها وتركه ذلك، وتسليمه إياها إلى الزوج، فإن سلمها إلى الزوج، وكان لا يستخدمه، فلها النفقة، وعلى الكلام في أنه هل كان يجب عليه أن يسلّمها إلى زوجها حتى يسكنها حيث شاء، وفيه اختلاف قدمناه.
فإن أوجبنا ذلك وتُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها، وهي أن السيد كان لا يستخدمها، فقد اجتمع وجوب النفقة في النكاح، وسلطانُ الزوج في إسكانها مسكناًً يريده ويعيّنه، فيبتني على ذلك وجوبُ السكنى في العدة، وإن قلنا بوجوب النفقة في الصورة التي نحن فيها بَعْدُ، وفرعنا على أنه لا يجب على المَوْلى تسليمُها، ليُسكنها الزوج حيث شاء، فإذا لم يتعين مسكن في النكاح بحكم الزوج استحقاقاً، فإذا طلقها الزوج، وهي في مسكن بحكمه رضي المَوْلى به، وإن لم يكن ذلك مستحقاً عليه، فهل يتعين عليها ملازمة ذلك المسكن الذي اتفق كونها فيه حالة النكاح عن توافق وتراضٍ؟
فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يتعين؛ فإن العدة تبع النكاح، فإذا كان لا يستحق الزوج إسكانها حيث شاء في النكاح، فلا معنى لتعيّن مسكن النكاح للعدة.
وأبْعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا اتفق مسكن في النكاح، وإن لم يكن عن استحقاق، تعيّن لزومُه في العدة، وهذا بعيد.
ثم إن قلنا: مسكن النكاح لا يتعين، فعلى الزوج القيام بمؤنة إسكانها، والتعيين إلى السيد، فإنا في إثبات السكنى في العدة نلتفت إلى النكاح، وكان للمَوْلَى في النكاح أن يُلزم الزوجَ مؤنةَ السكنى، فإذا وجبت النفقة، والسكنى من المؤن التي ثبتت-على التأويل الذي ذكرناه- فيجب بقاء مؤنة السكنى، وإن زالت النفقة للبينونة؛ لما ذكرنا من أن السكنى تجب حيث لا تجب النفقة.
هذا كله إذا كان السيد لا يستخدمها، فإن كان يستخدمها نهاراً، ويتركها ليلاً، ففي وجوب النفقة خلافٌ قدّمته في النكاح، فإن أوجبنا النفقة، أوجبنا السكنى في العدة على التفصيل الذي ذكرناه الآن في أنها هل تلزم مسكن النكاح، أو لا تلزمه؛ وإن قلنا: لا تجب النفقة في النكاح لا تلزم السكنى في العدة.
9838- ولو نشزت الزوجة الحرة على زوجها، وسقطت نفقتها، فطلقها زوجها، أو مات عنها، ونعني بالطلاق الطلاقَ المُبينَ، قال القاضي: لا سكنى لهذه في العدة، كما لا نفقه لها في النكاح.
وهذا فيه نظر؛ فإن النشوز معنًى طارىء، وأصل النكاح على استحقاق النفقة ومهما تركت المرأة النشوزَ، فهي على استحقاقها، فموجب النفقة إذاً قائم في النكاح، ولكن لا تجب النفقة لانعدام محل العلة، وليس كذلك الأَمة؛ فإن القول فيها في استحقاق النفقة، وفي تعيين مسكن النكاح مضطرب، كما أشرنا إليه.
فالوجه أن يقال: إذا مات زوج الناشزة أو طلقها ألبتة المبينة، فيلزمها أن تلزم مسكن النكاح؛ فإن هذا تعبّدٌ من جهة الشرع، ولقد كان لها مسكن مستحَقٌ في النكاح، فيلزمها أن تلزمه تعبّداً من الله عز وجلّ. نعم، لو لم تُلْفَ في مسكنٍ، واستمر النشوز والاستعصاء على الزوج، وعدم السكون في مسكن يعيّنه، فبانت، فهذه لم يُعهد لها مسكن نكاح، حتى يقال: إنها تلزمه إلى انقضاء العدة، ففي هذه الحالة يظهر إسقاط مسكن النكاح.
ويبقى النظر في أنها لو نزلت عن نشوزها، وطلبت مسكناًً تعتدّ فيه، فهل تجاب، وقد انكفت عن نشوزها؟ وهل يتصور الرجوعُ إلى الطاعة بعد البينونة؟ هذا محتمل جداً.
فأما إذا نشزت على زوجها في مسكن النكاح؛ فكانت لا تطاوعه، فقد سقطت نفقتها، وسقط أيضاًً عن الزوج مؤنة إسكانها، فإذا أصابتها البينونة، والحالة هذه، فهل تلزم مسكنَ النكاح؟ يظهر هاهنا أن تلزَمه رعاية للتعبّد والحقِّ الدّيني الذي لا يسقط بالتراضي.
هذا مجموع القول في اللواتي يفارقن أزواجهنّ في الحياة.
9839- فأما المتوفى عنها زوجها، فلا نفقة لها حائلاً كانت أو حاملاً؛ لأن نفقة الحمل تسقط بالموت، وتسقط مؤنةُ الحاضنةِ القائمةِ بصيانة الولد.
وهل تستحق السكنى؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنها تستحق كالبائنة المطلقة.
والثاني: أنها لا تستحقها؛ لأن السكنى في كتاب الله عز وجل ثابتة للمطلقات، فالمتَّبَعُ الكتابُ، في هذا الباب؛ فإن مجال القياس فيه ضيق.
والموتُ عن الصغيرة والأمةِ والناشزةِ-على قولنا المتوفى عنها تستحق السكنى- يُردّ إلى التفاصيل التي قدمناها؛ فإن الرأي إذا اضطرب في العدة عن الحي، فهو بالاضطراب أولى في العدة عن الميت؛ فإن البائنة على الجملة تستحق السكنى قولاً واحداً، وفي المتوفى عنها قولان.
وقد انتجز الكلام فيمن تستحق السكنى وفيمن لا تستحقها.
9840- ونحن الآن نخوض في تفصيل السكنى، ونقول: القول في السكنى يتعلق بركنين أبداً:
أحدهما: التعرض للزوم مسكن النكاح.
والثاني: الكلام في إلزام مؤنة السكنى إن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن.
فأما الكلام في الركن الأول: فإذا كان الزوج يساكن امرأة في مسكن مملوكٍ له، ثم طلقها البتة أو طلقة رجعية، أو مات عنها-والتفريع على استحقاق السكنى- فيتعين عليها ملازمةُ مسكن النكاح، فلو زايلته على اختيارٍ من غير اضطرارٍ، عصت ربَّها ويجب على الزوج ألا يخرجَها، ولا يزعجَها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أجمع المفسرون على أن المراد مسكنُ النكاح لا غير.
هذا إذا كان للزوج مسكن مملوك.
ولو كان المسكن مكتَرى للزوج، وقد بقي من المدة ما يفي بزمان العِدة، فعليها أن تلزمَه وعلى الزوج ألا يزعجها.
وإن كانت الدار مستعارة، فإن لم يرجع المعير، وجب عليها أن تلزمه، وعلى الزوج ألاّ يزعجها، وإن رجع المعير عن العارية، فقد فات الأمر، ولا يمكنها أن تلزم مسكنَ النكاح، وسنذكر التفصيل في الركن الثاني وهو مؤنة السكنى.
9841- أولاً نُلحق بما ذكرناه كلاماً، ونقول: إذا نكح امرأة وأسكنها مسكناًً ضيقاً لا يليق بها في درجتها، ولكنها سامحت زوجَها ورضيت، فلما طلقها، لم ترض بذلك المسكن، وطلبت مسكناً يليق بدرجتها، قال العراقيون: لها ذلك، ولا يلزمها لزومُ ذلك المسكن.
ولو كان الأمر على العكس، وكان الزوج أسكنها مسكناً رفيعاً لا تستحق عليه مثلَه، فلما طلقها، قال الزوج: أنقلها إلى مسكن يليق بها، قالوا: للزوج ذلك.
وما ذكروه في الطرفين ليس خالياً عن الاحتمال، فلا يبعُد أن يقال: إذا جرت مسامحةٌ منها حتى وافاها الطلاق، لزمها المصابرةُ إلى انقضاء العدة.
وإذا كان الزوج هو المتبرع بالمسكن الرفيع، فلا يبعد من طريق التعبد أن يلزمَه إدامةُ إسكانها إلى انقضاء العدة، وفي كلام المراوزة رمزٌ إلى ما ذكرناه، والقياس ما ذكره العراقيون.
ويخرج مما قالوه أنه إنما يلزم تعيينُ مسكنِ النكاح إذا كان على قدر استحقاقها من غير فرض مسامحةٍ منها وتبرّعٍ منه، فإذا صادفها الطلاق، والحالة هذه، تعين المسكنُ، ولم يكن متعيناً في النكاح؛ فإن الزوج لو أراد نقلها مع استمرار النكاح من مسكن إلى مسكن، جاز له ذلك، ولا تبقى خِيَرةٌ إذا وافاها الطلاق في مسكن، وهذا موضع التوطئة بعْدُ، وستأتي التفاصيل والمسائل، إن شاء الله.
فهذا قول كليّ في لزوم مسكن النكاح.
9842- فإن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن، ولكن كانا ينتقلان في الدور المستعارة، ثم جرى الطلاق، واسترد المعير العاريّة، فالزوج يبذل مؤنةَ السكنى، ويكتري مسكناًً لائقاً بحالها، وإليه تعيين ذلك المسكن؛ فإن العدة منسوبةٌ إليه، والغرضُ منها حفظ مائه أو الاحتباس بسبب رعاية حرمته.
هذا كلام في أصل السكنى، وانقسامِ الأمر فيه إلى الكلام في تعين المسكن الذي كان مسكنَ النكاح، والثاني في إلزام الزوج مؤنةَ السكنى إذا لم يكن للنكاح مسكنٌ متعيَّنٌ.
ويتصل بذلك لا محالة أنه يجب عليها أن تَقَرّ وتسكن موضعاً إلى انقضاء العدة، إذا لم يصادفها الطلاق في سفرٍ.
وإن صادفها الطلاق في سفر، فيأتي ذلك بعد هذا.
ثم إنا نتكلم بعد هذا التمهيد في ثلاثة فصول: فصلٌ يتعلق بتعيين المسكن.
وفصلٌ يتعلق بمنع الزوج عن المساكنة.
وفصلٌ في مؤنة السكنى عند ضيق المال.
الفصل الأول
فأما ما نطلبه في تعين المسكن:
9843- إذا كان للزوج مسكن مملوك، فالمرأة لا تُزعج من ذلك المسكن حتى تنقضي العدةُ على القواعد التي قدمناها، فلو أفلس الزوجُ وأحاطت الديون به، ومست الحاجةُ إلى بيع المسكن، فالأصل المعتبر في القاعدة أنا لا نُبطل حقَّ السكنى من تلك الدار أصلاً، وإن تأخرت حقوق الغرماء.
ولكن إن كانت حاملاً، فلا سبيل إلى بيع الدار؛ فإن مدة الحمل مضطربة: ربما تُجْهِض المرأةُ، وربما تلد لستٍّ أو لتسعٍ، أو لأربعِ سنين، فيمتنع البيع للجهالة التي ذكرناها، وكذلك إذا كانت من ذوات الأقراء، فلا يصح بيع الدار؛ إذ الأقراء تختلف، ولا ضبط لأكثر الطهر.
وإن كانت معتدة بالشهور، نظر: فإن كنا لا نتوقع طريان الأقراء على الشهور، فالمذهب الذي عليه التعويل أن بيع الدار قبل انقضاء الأشهر يخرّج على القولين في بيع الدار المكراة؛ وذلك لأن الدار مستحَقَّةُ المنافع في هذه المدّة، فصار كما لو كانت مستحَقَّةَ المنفعةِ للمستأجر.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أنا نقطع بمنع البيع، بخلاف الدار المكراة، واعتلوا بأن قالوا: قد تموت المعتدة في أثناء المدة، فتنقطع العدة، فهذا إذاً يجرّ غَرَراً من هذا الوجه، وزعموا أن هذا لا يتحقق في الإجارة؛ فإن المستأجر لو مات لم يبطل حقه، بل ينتقل إلى ورثته، ولو فرض من المكتري فسخُ الإجارةِ، فقد يقول قائل: للبائع المكري إمساك الدار إلى انقضاء المدة. وقد فصلنا هذا في كتاب الإجارة والبيع.
وهذا الذي ذكروه غيرُ سديد؛ فإن أمر البيع لا يحمل على تقدير الموت، وشواهدُ ذلك في بيع الأعيان والسّلم واضحة.
هذا إذا كنا لا نتوقع طريانَ الأقراء على الشهور.
فأما إذا كنا نتوقع طريانَها، فللأصحاب طريقان: منهم من قطع بفساد البيع لتوقع طريان القرء، ثم الأقراء لا ضبط لها.
ومنهم من قال: الحكم بمقتضى الحال وهي من ذوات الشهور، فيخرج البيع على القولين، ثم إن صححنا البيعَ، فطرأ الحيض، فهذا عندنا يضاهي طريانَ اختلاط الثمار قبل القبض؛ فإنا نقول: لو كانت الثمار تختلط بطباعها لا محالة، فالبيع باطل، وإن اتفق اختلاطٌ طارىء، ففيه الخلاف المشهور في كتاب البيع، وليس هذا كطريان الإباق على العبد؛ فإن ذاك لا يبنى عليه الأمر، وطريان الحيض على مشاهدة من حكم الجبلّة كاتفاق اختلاط الثمار.
9844- ويتم الغرض بسؤالين والجواب عنهما: فإن قيل: منعتم بيع الدار إذا كانت حاملاً، فما قولكم لو قال المشتري: منتهى مدة الحمل معلومة، وأنا آخذ بامتداد الحمل إلى أقصى مدة له، وأرضى، فنقول: هذا رضاً مع تحقق الغرر، وإذا فرض غرر مؤثر في العقد، لم ينفع الرضا فيه، وهذا بمثابة ما لو باع رجل عبداً بمالٍ، وعُلم قطعاً أنه لم يبعه بأكثر من مائة، فقال مالك الدار: بعتك الدار بما باع به فلان عبدَه، وطابت نفس المشتري بالمائة التي هي الأقصى، فلا يصح البيع.
والغررُ المجتنب المؤثر في العقد ينقسم: فمنه ما يثير نزاعاً، وهو مفسد، ومنه ما لا يثير نزاعاً ولكنه غرر بيّن، فلا يمتنع أن يكون مفسداً تعبداً من الشارع، والقواعد التعبدية في المعاملات لا ترتفع بالتراضي.
9845- فإن قيل: هلا بنيتم الحمل على الغالب؟ أم هلا قلتم: إذا كان للمرأة عادةٌ في الحيض مطردة، فيقع الأخذ بها، حتى نحكم بالصحة على قول تصحيح بيع الدار المكراة؟ والسؤال يتأكد بشيء وهو أنه إذا لم يكن للنكاح مسكن، فقد نقول: تطلب المرأة مؤنةَ السكنى لأيام عادتها. هذا ظاهر المذهب، على ما سنذكر، إن شاء الله تعالى.
فإذا كان يتعلق حقُّ طلبِ المرأة بمؤنة السكنى لمدة العادة، وإن كان في ذلك إيقاع حيلولة بين الغرماء وبين ما يفوت من المال لأجل السكنى بناء على ظاهر العادة، فهلاّ قلنا: بيع الدار وساكنُها ذاتُ الأقراء يبنى على ظاهر العادة، ويخرَّج على قولي بيع الدار المكراة؛ والجواب: أنا لا نسلم إلى المرأةِ المالَ حتى تتصرف فيه؛ فإن حظها في السكنى، لا حقَّ لها في المال الذي تُحصّل به السكنى، وإفرازنا شيئاً من المال يغلب على الظن تعلّقُ الاستحقاق به ليس بدعاً في قسمةٍ بين أقوام.
وعلى هذا بنينا وقف أموالٍ في التركات للخناثى وللحمل المنتظر، ثم جرى الوقف في تلك الأصول مع تقابل الإمكانِ من غير ترجح، فإذا وقفنا هاهنا مقداراً بناء على ظاهر العادة، لم يكن ذلك بدعاً، وقد نقف ثَمَّ شيئاًً بين من يرث قطعاً وبين من يجوز أن يحجب أصلاً، فإذاً لم نأت بأمرٍ غريب، غير أنا لم نتجاوز العادة؛ إذ لا منتهى للأقراء تقف عنده.
هذا منتهى قولنا في هذا الطرف.
فأما البيع فقد تعبدنا فيه باجتناب الغرر، وامتناعُ التسليم في الحال غررٌ ناجز، وفي زواله غررٌ، ونحن وإن قلنا: العادات قد تطرد، فيغلب فيها نقصان اليوم واليومين، وهذا القدر يظهر الغرر، فاستمر وجوب القطع ببطلان البيع، وخرج الجانب المقدم على الوقف الذي ليس بدعاً، وليس عقداً فينقدح فيه غرر، وهذا فقيه متين.
فإن قيل: هلا احتُمِل ما تتوقعون من زيادةٍ ونقصانٍ احتمالَكم ذلك في بيع الدار المشحونة بالأمتعة للبائع؟ قلنا: ذاك الاشتغال غير محتفلٍ بأصله، فلا ينظر إلى تفصيله، ولذلك قطعنا القول بصحة بيع الدار المشحونة، وأجرينا في بيع الدار المكراة القولين.
وقد انتجز الغرض به في هذا الفصل.
فأما
الفصل الثاني
وهو الكلام فيما تُضارِب المرأة به عند ضيق المال، وضرب الحَجْر.
9846- قال الأئمة: إن كانت المرأة تعتد بالأقراء وقد أفْلس الزوج، وحُجِر عليه؛ فإنها تضارب بمؤنة السكنى لزمان عادتها الغالبة-إن كانت لها عادة-.
ونحن نفصل ذلك، فنقول: إن كانت من ذوات الشهور، فمبلغ ما تضارب به أجرةُ ثلاثةِ أشهرٍ، وإن كانت من ذوات الأقراء وعادتُها مختلفةٌ، فإنها تضارب بأجرة أقل ما يتصور انقضاء العدة به.
وإن كانت لها عادة مستقيمة، فظاهر المذهب أن مضاربتها تقع باعتبار زمانِ عادتِها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنها تضارب بالأقل أخذاً باليقين، ولا تعويل على العادة، وهذا ضعيفٌ، وقد يَنظُر المبتدىء إليه فيهَشُّ إليه مستمسكاً باليقين، وهذا باطل؛ فإنا لسنا نسلم ما تضارب به إليها، ولا نسلطها على التصرف فيه، بل نتركه عتيداً موقوفاً، وقد ذكرنا أن الوقف مُهيّأٌ لمَظِنةِ الإشكال، فلا معنى للاقتصار على الأقل، ولولا أنا لا نجد مَرَدّاً، لو جاوزنا العادة، لكان نظرنا في مجاوزتها، من جهة أن الغرماء يتسلطون على ما يسلّم إليهم، والقدر الذي نَقِفُه لا نضيِّع فيه حقّاً، بل نرتقب ما يكون، ولكن ليس وراء العادة مَردٌّ.
ولو كانت معتدةً بالحمل، فالمذهب أنها تضارب بمؤنة السكنى في تسعة أشهر، فإن هذا هو الغالب الذي إليه الرجوع، وذهب بعض أصحابنا إلى أن المضاربةَ تقع بمؤنة السكنى لمدة ستة أشهر. وهذا المسلك ضعيفٌ في الأقراء، كما ذكرناه، وهو على نهاية الضعف في الحمل؛ فإن الستة الأشهر مدةُ وضع الحمل الحيّ المستقل، ونحن نقضي بانقضاء العدة إذا أَجْهَضَت جنيناً بدأ التخطيط فيه، فينبغي أن يكون الأقل المعتبر مناسباً لغرض انقضاء العدة، لا لبقاء الولد، ولا ضبط للأقل الذي يحصل الانقضاء به.
فإن قيل: بناء الفصل على أن الوقف لا يستدعي يقيناً، فهلا وقفتم المؤنةَ، أم هلا ضاربتم بالمؤنةِ لأربعِ سنين؟ قلنا: هذا لم يصر إليه من الأصحاب صائر؛ من جهة أنه على نهاية البعد، وتنقرض العصور والمئون من السنين ولا يبقى حملٌ أربعَ سنين، وهذا يناظر لو قيل به مجاوزةَ العادة مع النظر في سن اليأس؛ أخذاً بإمكان التباعد.
9847- هذا منتهى الكلام في هذا الغرض، ويُبنى عليه سؤال يرتبط به الفصلان في إشكالٍ مع الجواب عنه، فإن قيل: المضاربةُ بالمؤنة إذا لم يكن للزوج مسكن مملوك، وقلتم إذا كان للزوج مسكنٌ مملوك، فالمرأة تُقدَّم بحق السكنى، ويؤخرُ حقوق الغرماء.
قلنا: الفرق بين الأصلين أنه إذا كان للزوج مسكن مملوك، فهو متعيَّن لسكنى العدة، والمرأة فيه مختصةٌ به اختصاص المرتهن بالعين المرهونة. والحقوقُ المتعلقة بالأعيان مقدمةٌ على الديون، وإذا لم يكن للنكاح مسكن متعين، فإنما يتعلق حقها بمؤونة مُطْلَقةٍ، سبيلها سبيلُ الديون التي تلزم الذِّممَ، فجرت المضاربة على نحو ما ذكرناه.
فإن قيل: قد قدمتم فيما أسلفتم تردداً في تقديم حقوق الله تعالى على حقوق الآدميين، وفي عكس ذلك، فهلاّ قلتم: مؤنة السكنى في العدة من حقوق الله؟ قلنا: هذا خيال لا أصل له؛ فإن حق الله السكون؛ إذ لو تبرعت هي وبذلت المؤنة من مال نفسها، لكان ذلك ممكناً.
9848- وتمام البيان في الفصل أن المرأة إذا كانت معتدة بالأقراء، وكانت معتادةً، لها عادةٌ مستقيمةٌ، فلو زعمت أن عدتها انقضت بدون العادة، وقبلنا قولها، فالفاضلُ من هذا القدر إلى تمام عادتها مردود على الغرماء.
وإن زعمت أن عادتها زادت على ما عَهِدَتْه، فأحكام العدة باقية عليها، وذكر العراقيون ثلاثة أوجه في أنها هل تضارب بمزيدٍ في مقابلة ما ادعته من الزيادة، وجمعوا إلى الأقراء الحملَ، وطردوا فيها الأوجُهَ: أحدها: أنها لا تستحق مزيداً أصلاً، وقد انحسم الباب بما تقدم؛ إذ لو فتحنا هذا، لقدَّرنا مزيداً على ما ذكرت إلى غير ضبط، وقد تدعي تباعدَ الحيضة، ونقع في أمر لا ينفصل.
والوجه الثاني- أنها مصدَّقةٌ تستحق المضاربة بما ادعته؛ إذ النسوة مصدقات فيما يتعلق بانقضاء العدة.
والوجه الثالث: أن ذلك إن كان في الحمل، وزعمت أنها حاملٌ بعدُ، فإنها تضارب؛ إذ للحمل أمرٌ محدودٌ على حال.
وإن كانت من ذوات الأقراء، فلا تستحق مزيداً، فإنا لا نجد في الأقراء مرجعاً إلا إليها، وتصديقُها في ذلك يُفضي إلى إثبات مغارمَ عظيمةٍ بعيدةٍ عن الإمكان.
وهذا الذي ذكروه فيه إذا لم يعترف الغرماء بتصديقها، فأما إذا اعترفوا بتصديقها، فلا شك أنها تضارب بالمزيد، وتسترد من الغرماء حصة تلك الزيادة.
وحقيقة هذه الأوجه آيلة إلى أنها إذا ادعت مزيداً هل تصدق؟
9849- ولو لم تكن المسألة مفروضةً في الإفلاس وضيق المال، وقد طلق الرجل امرأته، وجرت في العدة، فالزوج يُسكنُها على حسب ما ذكرناه، فلو كانت لها عادة، فادعت مزيداً على العادة، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب أنها تُصدَّقُ هاهنا وجهاً واحداً بخلاف ما ذكرناه.
والفرق أنا إذا قسمنا المال وبنينا المضاربة على أقدارٍ معلومة، جرّ ذلك مناقضةً يعسر بعضها، فكان التردد لهذا السبب، وهذا المعنى لم يتحقق في حق الزوج، على أني لا أُبعد فيه أيضاً احتمالاً بسبب أنا لو صدقناها، لتمادت كذلك في دعواها إلى سن اليأس، وهذا أمر مجحف بالزوج.
وأما ما ذكروه من الفصل بين الحمل وبين الأقراء، فالذي أراه أنهم إن اعترفوا بالحمل، فالأصلُ عدمُ الولادة قطعاً، ويتعين الرجوع إلى نفيها، وعلى من يثبتها الحجةُ، وليس من حق هذا أن يدرج في الخلاف مع الأقراء، حتى يُفرضَ في الحمل والأقراءِ وجهان مطلقان، ونُفصِّلَ في الوجه الثالث بينهما. نعم، إن أنكروا كونها حاملاً أصلاً، فيتجه حينئذٍ إدراجُ هذه الصور في الخلاف، وردُّ الأمر إلى التفصيل في الوجه الثالث.
فأما
الفصل الثالث
فمقصوده القول في مساكنة الزوج المعتدةَ.
9850- فنقول: إذا كانت تعتد في مسكن النكاح، فليس للزوج مساكنتُها، إذا كانت المساكنة تؤدي إلى المضارّة، والمضارّة إنما تُتَلقَّى من المرافق، والمرافقُ التي هي العماد، وعليها التعويل: بيتُ الماء، والمطبخ، وبئر الماء. هذه المرافقُ؛ فإذا اتَّحدت، فليس للزوج أن يسكن قُطْراً من الدار، وإن كانت فَيْحاً متسعة الأرجاء؛ فإن المرافق إذا كانت تقع مشتركة، فالضرر يتحقق لا محالة، والتناوب على المرافق شديدٌ غيرُ محتمل سيّما بيت الماء.
وأما الممر والمجرى إلى خارج، فلسنا نرعى ذلك-والمعتدةُ حقها أن تلزم المسكن- فليس الممرُ من المرافق التي يليق بحال المرأة في العدة.
ولو كان في الدار حجرة منفردة بمرافقها على ما ذكرنا في تفسير المرافق، وكان الزوج يسكن الحجرة وهي مستقلة بمرافقها، فالمرأة تسكن الدار أو على العكس، فهذا ليس بمساكنة، ولا بأس بما ذكرناه.
9851- ومما يتعلق بالمساكنة أنه لا يحل للرجل أن يخلو بالمرأة في العدة، كما لا يحل له أن يخلو بأجنبية، وهذا يطرد في الرجعية اطِّراده في البائنة؛ فإن الرجعية في حكم التحريم بمثابة البائنة.
ثم فسر الأئمة الخَلوةَ، فقالوا: إذا اتحدت المرافق، فلا يحل للزوج سكونُ الدار معها، ولو ساكنها كان خالياً بها. ولو كان معها محرم، فليس الزوج مستخلياً بها، ولو كان مع الزوج في الدار زوجةٌ أخرى، أو كان معه واحدةٌ من محارمه، فليس الزوج مستخلياً بالمعتدة، وإن كانت أجنبية ووقع الفرضُ فيها من غير عدة، فلا خَلوةَ، إذا تُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها.
وكذلك لو كان في الدار جاريةٌ للزوج، فلا خَلْوةَ، ولو خلا الرجل بأجنبيتين، أو مُعتدَّتين، أو بجمعٍ من النسوة، فهذا تردد الأصحاب فيه، فمنهم من رآه خَلْوةً؛ فإن كل واحدة منهن بالإضافة إلى الزوج كصاحباتها، ومنهم من قال: هذا ليس بخَلْوةٍ؛ فإن من اجتمع مع نسوة، فاجتماعهن يمنعه من الإقدام على محذور في غالب الأمر.
وهذا الاختلاف مأخوذ من تردد الأصحاب في أنه إذا اجتمعت نسوة لا محرم معهن. فهل يلزمهن أن يخرجن بأنفسهن إلى الحج، وأطلق الأصحاب من ذلك قولاً، فقالوا: إذا اجتمع مع الرجل والمرأة من يحتشمه الرجل، فلا يكون مستخلياً بها، وتفصيل هذا ما قدمناه.
ولكن ينشأ فما ذكرناه الآن أنه لو كان معهما صغيرة لا تميز أو مجنونة، فلا معوّل عليها؛ فإنها لا تُحتَشَم، ولو كان معهما مراهقةٌ مميزة تعقل، وتصف، وتذكر، وتحكي، قالوا: ظاهرٌ عندنا أن ذلك يمنع من حصول الخَلْوة، والعلم عند الله.
ولو خلا رجلان بامرأة، فظاهر ما ذكره الأصحاب أن هذا خَلوة، وليس كخَلْوة الرجل بامرأتين، ولهذا لم نوجب على المرأة الفردة أن تخرج حاجّة مع جمع الرجال من غير زوج ولا محرم، وترددوا في خروج نسوة مجتمعات مع جمع الرجال.
ومما يتعلق بتمام الغرض في ذلك أن الدار لو كانت مشتملة على حجرة، فسكنت المرأة حجرةً منفردةً بمرافقها، وسكن الرجل الدار ذات المرافق، نُظر: فإن كانت الحجرة يُغلق بابها، فإذا فعلت ذلك، فلا خَلوة، وإن لم يكن للحجرة بابٌ، وبابُ الدار مغلق على الدار والحجرة، فالرجل مستخلٍ بها، وإن كان لا يراها، ولو كانت الحجرة ذاتَ باب له أغلاق وأرتاج، ولكن مرافقها في الدار، ولا ثالث، فالرجل مستخلٍ بها.
هذا تفصيل الخَلْوة.
9852- ونحن نذكر بعد ذلك أمرين يتعلق بينهما سرُّ الفصل:
أحدهما: الخَلوة، وهي محرمة لله تعالى.
والثاني: المضارّة، والمرعي فيه جانبها، وبيانه أنه لو ساكنها مساكنةَ مستخلٍ عصى ربَّه، وإن رضيت، ولو كان في الدار من يمنع حضورُه الخَلوةَ، ولكن كانت المضارَّة تظهر لاتحاد المرافق، فهذا يتعلق بخالص حقها، فإن احتملت هذه المضارّة، لم يعصِ الزوجُ، وإن أبت، وجب على الزوج الخروجُ رعايةً لحقها، قال الله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، فاستبان أن المساكنة تشتمل على ما يتعلق بحق الله تعالى، وهو لا يسقط بالرضا، وإلى ما يتعلق بحقها.
والله أعلم بالصواب
بسم الله الرحمن الرحيم
9853- إذا كان أسكنها مسكناً ضيقاً في النكاح لا يليق بها، ولكنها احتملته طلباً للأُلفة، فلما طلقها أبت أن تبقى، فالذي ذكره العراقيون أن لها أن تطلب مسكناًً، فليقع البناء على هذا؛ فإنه ظاهر.
ثم قال العراقيون والقاضي: على الزوج أن يطلب لها أقربَ مسكن إلى مسكن النكاح، ورأَوْا ذلك حتماً لا يسوغ إسقاطُه، وشبه القاضي ذلك بتفريعٍ لنا على قول نقل الصدقة، وقال: إذا منعنا نقلها، فعدِم من عليه الزكاةُ المستحقين في وطن الزكاة، فعليه أن ينقلها، ثم إنه ينقلها إلى أقرب المواضع، وهذا مما قدمت ذكره في نقل الصدقات في كتاب قَسْمها.
فالذي أرى القطع به هاهنا أن رعاية القرب من مسكن النكاح لا يجب أصلاً، ولست أرى لهذا متمسَّكاً في الوجوب، بل أرى له أصلاً في الاستحباب. نعم، لا سبيل إلى الخروج من البلدة، فإنها منسوبة إلى سكون البلدة، ولو علل من أوجب رعاية القرب بهذا، لكان أمثلَ، ولا أصل له. وقد انتجز الوفاء بالفصول الثلاثة.
فصل:
قال: "وإن كانت هذه المسائل في موته ففيها قولان... إلى آخره".
9854- وذكر الشافعي إلى هذا الموضع تفصيلَ القول في مسكن المطلقة في العدة، واستفتح من هذا الموضع تفصيل مسكنِ المعتدة عدةَ الوفاة، وقد قدمنا اختلاف القول في أنها هل تستحق السكنى أم لا، ووجهنا القولين بما وقع الإقناع به.
فإن قلنا: إنها تستحق السكنى، فيتعين لسكناها مسكنُ النكاح، كما قدمنا ذلك في المطلقات، وإن لم يكن للنكاح مسكن، فالقول في مؤونة السكنى على حسب ما مضى، وإن فُرضت ديون، فالتركة في حكم مال المفلس المحجور عليه، ولا معنى لإعادة الفصول.
وإن قلنا: إنها لا تستحق السكنى، فلو تبرع الوارث وأسكنها مسكنَ النكاح أو عَيّنَ لها مسكناًً، فهل يلزمها المسكن الذي عينه الوارث؟
ما حصلتُه من كلام الأصحاب أن ذلك إن كان في عِدَّةٍ يترتب وجوبها على شغل الرحم، فيتعين على المرأة أن تسكن حيث يُسكنها الوارث، وذلك بأن يطلّق امرأته ألبتة، ثم يموتَ عنها ولا يخلِّفَ مالاً، فإذا تبرع الوارث بتعيين مسكن، لزمها اتباع حكم تعيينه، إذا لم يكن عليها ضرار من جهة ضيق المسكن.
9855- وإن كانت العدة غيرَ مترتبة على شغل الرحم كعدة الوفاة، نُظر: فإن كانت مشغولةَ الرحم بولد أو تقديرِ ولد مترتب على وطءٍ، فالأمر على ما ذكرناه.
وإن لم تُزفّ إليه، فهي غيرُ مشغولة الرحم إذا كان الحالة هذه، ففي هذا ترددٌ للأصحاب: منهم من قال: إذا لم نوجب لها السكنى، فهي بحكم نفسها، غيرَ أنه يجب عليها لله تعالى أن تسكن سكون المعتدات، وذلك إنما يتأكد حقه عند فرض صون الماء وما نحن فيه لا يستند إلى ماءٍ مصون بالعدة.
ومن أصحابنا من قال: مهما تبرع الوارث بتعيين مسكن تعين عليها أن توافقه؛ فإن الوارث تارةً يدعي حرمة الماء، وتارة يدعي حرمة الزوج الذي منه العدة.
فإن لم يتبرع الوارث، أو لم يكن له وارث، فليس للسلطان أن يتبرع بإسكانها من بيت المال إلا أن تحتاج وتفتقرَ، ويُلزمها الشرع أن تلزم مسكناًً، وهي لا تملك ما يفي بمؤنة المسكن، فالسلطان يتداركُها حَسَبَ ما يتداركُ المحاويج.
وإن كانت تُزنّ بريبةٍ، فعلى الإمام أن يحصِّنها ويعيّن مسكناًً مرقوباً، وهذا من الأسباب المؤكدة لجواز بذل مال بيت المال، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في قَسْم الفيء والغنائم، وغوائل هذا الفن تتعلّق بالإيالة الكبيرة، ولعلنا نجمع فيها قولاً يشفي العليل ونبدي ما عليه التعويل.
فصل:
قال: "ولو أذن لها أن تنتقل... إلى آخره".
9856- ذكر الشافعي رضي الله عنه ثلاثة فصول ونحن نأتي بها مفصلة، ونلحق بكلٍّ مسائلَه ونستعين بالله تعالى.
الفصل الأول
فيه إذا أذن الزوج للزوجة في الانتقال من مسكن قبل أن يطلقها، ثم يطلقها أو يموت عنها.
9857- ومقصود هذا الفصل نفصله بمسائلَ، منها: أنها لو انتقلت إلى دارٍ أخرى والبلدةُ واحدة في جميع مسائل هذا الفصل، ولا خروجَ منها، ولا مسافرةَ، فإذا أذن لها في الانتقال، فانتقلت، ثم صادفها الطلاقُ، لزمها أن تلزم المسكن الذي انتقلت إليه؛ فإن الاعتبار بالمسكن الذي يصادفها الطلاق فيه. وهذا ظاهر.
ولو انتقلت ببدنها، وخلّفت أمتعتها، وأظهرت الانتقال، ثم كانت تنقل الأمتعة بالخدم أو الأُجَراء، فإذا صادفها الطلاق، وهي في المنزل الثاني، اعتدت فيه، ولا اعتبار بالأمتعة،: خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر المتاع، وزعم أنها لو انتقلت ببدنها ومتاعُها متخلفٌ، فالاعتبار إذا طلقت بالمسكن الذي فيه أمتعتها.
9858- ومن المسائل أنها بعد ما أذن الزوج لها في الانتقال لو أَجْرت تقدّمَ أمتعتِها إلى المنزل الثاني، وهي بعدُ قارّةٌ في مسكن النكاح، فإذا صادفها الطلاق وهي كذلك، اعتدت في المسكن الأول، وإن نقلت الأمتعة وعزمته، وأبو حنيفة خالف في هذه الصورة، وينتظم من مذهبنا في الصورتين أن الاعتبار بالبدن لا بالأمتعة.
ولو قدمت الأمتعةَ إلى المنزل الثاني، وخرجت تؤمّ ذلك المنزل، فصادفها الطلاق في الطريق، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: وجهان ذكرهما القاضي، وزاد العراقيون ثالثاً: أحد الوجوه- أنه يتعين عليها الانتقال إلى الثاني والاعتدادُ فيه.
والثاني: أنه يتعين عليها الانقلابُ إلى مسكن النكاح؛ فإنها مقرّة على المسكن الأول ما لم تنتقل، ولم يتحقق الانتقال بعدُ.
والوجه الثالث:الذي حكاه العراقيون- أنها بالخيار بين المنزلين: للأول حكم الاستدامة، والثاني حكم الانتقال، وقد تقلَّعت عن المسكن الأول بالانفصال عنه، وإذا تقابل هذان الوجهان، أنتجا تخيّراً.
والذي يغمض في هذا الفصل أن الزوج لما أذن لها في الانتقال لو أخذت تنقل الأمتعةَ بنفسها، فتمرّ وتجيء، وهي في ذلك لا تقصد بكل خَرْجةٍ ألاّ تعود، ولا بكل دخلة أن تقيم في المنزل الثاني، غير أنها كانت تصحبُ الأمتعةَ، أو كانت تنقلها بنفسها، فكيف السبيل؟ وما الوجه؟
قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا انتقلت وقصدت الانتقال، ثم عادت إلى المسكن الأول لنقل متاعٍ، فصادفها الطلاق، فهي مضافة إلى المنزل الثاني، فلتعتدّ فيه، وهذا مفروض فيه إذا دخلت المنزل الثاني دخول منتقلة، غيرَ أنها خرجت وعادت إلى الأول لغرض النقل.
فأما إذا لم تُنجز بعدُ الانتقالَ، ولكن كانت في ترددها قاصرةً حركاتها على نقل المتاع، فهذا محل قصد النظر.
والرأيُ المبتوتُ أنها إذا كانت كذلك، فصادفها الطلاق في المنزل الثاني، فلا شك أنها تعتد فيه لاجتماع معنيين:
أحدهما: كونُها في الدار حساً، والآخر- أنه محلّ قرارها، ولم يبق عليها شغل إلا نقلُ أمتعة، فيلحق هذا بتنجيزها قصد الانتقال، واعتقادها أنها انتقلت، وعليها شغل ستردد فيه.
ولو صادفها الطلاق وهي في المنزل الأول، وقد اتفق لها دَخْلةٌ أو دخلات في النقل، فهذا فيه احتمال: يجوز أن يقال: يُعتبرُ مكان المصادفة؛ فإنها لم تُنجز بعدُ قصد الانتقال، ويجوز أن يقال: يتعين للاعتداد المنزل الثاني، فإن ما يُصوَّر تأخيره من قصد الانتقال تكلف، وإذا دخلت ذلك المنزل مرّةً، لم يبق عليها أمرٌ إلا نقل الأمتعة، فهذا ما نراه.
وفقه هذا الفصل في تفصيل المسائل، وتبيين البعض منها عن البعض. هذا فصل من الفصول الثلاثة.
الفصل الثاني
في الإذن في المسافرة
9859- وهذا الفصل ينقسم قسمين:
أحدهما: الإذن في المسافرة من غير نُقلة.
والثاني: في الإذن في المسافرة والنقلة.
فأما القسم الأول- فإذا أذن لامرأته في المسافرة من غير نُقلة، فالسفر لا يخلو إما أن يكون سفراً متعلقاً بغرض صحيح، وإما أن يكون غيرَ متعلق بغرض، ومن جملة ذلك سفرُ النزهة. فأما ما يتعلق بالأغراض الصحيحة، فكسفر التجارة، وسفرِ الحج، وسفرِ الزيارة المستحبة في الدين، فإذا أذن الزوج في السفر لغرض مما ذكرناه، أو لغرض آخر سواه.
فأول ما نذكره أن الشافعي قال: "لو طلقها الزوج بعد ما فارقت المنزل، لم ترجع " فذهب الأكثرون من الأصحاب إلى أنه أراد بمفارقة المنزل مفارقةَ البلدة، وذهب شرذمة من الأصحاب إلى حمل ذلك على مفارقة مسكنِ النكاح، وإن كانت في خِطة البلدة، وأضيفَ هذا إلى الإصطخري، فحصل قولان: أظهرهما- أن المرعي مفارقةُ خِطة البلدة، وذلك أن البلدة محلُّ سكونها من طريق النسبة الكلية، كما أن منزلها محلُّ سكونها، والدليل عليه: أنه لو لم يكن للنكاح مسكن متعين، تعينت البلدة، ولم يسَع الخروج منها، فاتضح أن الشرع يعيّن البلدةَ، كما يعيّن المسكن إن كان للنكاح مسكن، فاتجه اعتبار مفارقة البلدة.
ومن قال: الاعتبار بمفارقة مسكن النكاح، احتج بأنه إذا كان للنكاح مسكن متعيَّن، فحكم السكنى مقصور عليه، فإذا تعدته، كفاها ذلك.
وأيضاً، فإنها إذا فارقت مشمّرة مُبْرمةً عزمَها، وقد تكون باذلة مالاً في أُهَبها، فتكليفها الرجوع إضرار بها.
التفريع:
9860- إن اكتفينا بمزايلة مسكن النكاح، فلا كلام.
وإن اعتبرنا مفارقة الخِطة، فضبط هذا القول أنها متى صارت إلى مكانٍ إذا انتهى المسافر إليه، تَرخص تَرخُّص المسافرين، فقد فارقت، وتفصيل ذلك فيما استقصيناه في موضعه من كتاب الصلاة.
ثم من الأسرار التي يجب التنبيه لها أن الزوج إذا أذن لزوجته في الخروج من مسكن النكاح إلى دارٍ في البلدة، لا على قصد الانتقال، فإذا لحقها الطلاق، فحقٌّ عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وإن كان عليها في تلك الدار شغل يضاهي التجارة في حق المسافر، وإذا أذن لها في الخروج للتجارة وخرجت-على ما فصلنا معنى الخروج- فلها أن تمر على وجهها آمّة إلى تحصيل الغرض.
فهذان أصلان اتفق الأصحاب عليهما. والفارق أن الخارجة للسفر متقلقلةٌ عن الوطن، ملابسةٌ أمراً له وقع في المعاش، ويعسر النزول عنه، وفَلُّ العزم فيه، فسوغ الشرع التمادي.
وأما التردد في البلدة الواحدة من دار إلى دارٍ، فهيِّنٌ وليس من الأشغال الخطيرة.
9861- فإذا تقرر في العقد ما نبهنا عليه، قلنا بعده: إذا لحقها الطلاق، أو بلغها خبر الموت بعد مفارقة البلدة، انطلقت لشأنها، فإذا انتهت إلى مقصدها، قضت حاجتها من التجارة أو غيرها من المآرب، ولا بأس عليها، وإن طال الزمان، ونقصت العدة، إتماماً لما همّت به وبنته على إذن الزوج.
ولو انتجزت حاجتها، لم تعرّج، ولم تقف، بل تنقلب إلى مسكن النكاح، إذا كانت تعلم أنها تدرك من بقية العدة زماناً تمكث فيه في مسكن النكاح، وإن علمت أنها بعد نجاز شغلها لو رجعت، لانقضت عليها العدة وهي في الطريق، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في هذا: فمنهم من قال: يلزمها أن تقيم في بلدة الغربة، فإنها إذا علمت أنها لا تنتهي في بقية العدة إلى مسكن النكاح، فالسكونُ أوْفق وأليق وهو أستر لها من السفر.
ومن أصحابنا من قال: ترجع، فإن انقضت عدتها في الطريق، فلا حرج عليها.
وهذا لا أعرف له وجهاً، فإنها إذا قطعت بأنها لا تنتهي إلى مسكن النكاح، فقصْدُها المسكنَ قصدٌ لا مقصود له. نعم، إذا جوّزت أن تنتهي إلى المسكن لو وُفِقَت لها وفاق، وجَوَّزت على حكم الاعتياد خلافَ ذلك، فيجوز تقدير الخلاف هاهنا، ولكن ذلك الوجه الذي حكيناه على تثبُّتٍ في نقله وجدناه مشهوراً للأصحاب في الطرق، فلم نَرَ تَرْكه.
ولو انتجزت حاجتها قبل ثلاثة أيام، فلها أن تستتم المكث ثلاثة أيام؛ فإن هذا المقدار في حكم السفر أثبته الشرع مدة ليتأهب لعدة السفر، وليس معدوداً من الإقامة، وإن انتجزت حاجتها في ثلاثة أيام فصاعداً، لم تعرج إلا أن لا تجد رفقة؛ فإنا لا نكلفها أن تغرر بنفسها. بل، لا نكلفها أن تتحمل مشقة ظاهرة خارجة عن حد الاقتصاد في الاعتياد، وإنما يطلب منها ألا تعرّج ولا تُقَصِّر، فأما أن تتكلف مشقة، وتصادم غرراً، فليس عليها ذلك، وسنخرّج في هذا قولاً بالغاً يقرب من التحديد، وإن لم يكن في محل التحديد.
هذا إذا كان سفرها متعلقاًً بغرض صحيح من الأغراض.
98620- فأما إذا لم يكن متعلقاً بغرض صحيح، فأول ما نذكره: أنها إذا بلغت المحل المقصود وكان الزوج أذن لها في أن تقيم في ذلك المحل عشرة أيام، فهل لها أن تستوفي المدة المذكورة أم يتعين عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح؟ فعلى قولين:
أحدهما- يجوز لها أن تستوفي تلك المدة جرياناً على موجب الإذن.
وهذا التوجيه عندنا خطأ.
والوجه أن نقول في توجيه هذا القول: إذا وطّنت نفسها على الإقامة وتهيأت لذلك، فلو كُلّفت قطعَ غرضها، فقد يتعطل عليها أُهَب وأسبابٌ كانت هيأتها للإقامة، كالمطاعم، وما في معانيها، فهذا هو الذي يُوجَّه هذا القول به؛ فإنّ إذن الزوج-على تفصيله- ينقطع بالطلاق، ويرتفع أثره بالكلية؛ فإن إذنه إنما يؤثر ما استمر حكمه على الزوجة، ولهذا المعنى نقول: إذا خرجت متجرة، فإنها تمتد في الجهة التي خرجت فيها، وليس امتدادها معلَّلاً ببقاء الإذن، وإنما تعليله بما ذكرناه الآن.
هذا أحد القولين.
والقول الثاني- أنها تقطعُ تلك المدة، وتشمّرُ للانصراف جهدَها، وهذا القائل يعلل بخفاء الغرض في الخروج للنزهة والإقامة لها، ويزعمُ أنه لا يظهر في قصد التنزه تصميمٌ على شغل به احتفالٌ ومبالاة، فليس في قطع المدة ضِرارٌ أصلاً، فتعيّن قطعها لذلك.
قال القاضي، وصاحب التقريب: إذا بلغها خبر الطلاق وهي مارّة في صوب النزهة، فهل يتعين عليها الانصرافُ حيث بلغها الخبر؟ هذا يخرج على القولين المذكورين فيه إذا بلغها الخبر في أثناء المدة. فإن قلنا: عليها أن تقطع المدة، فإذا بلغها خبر الطلاق أو الوفاة، لزمها الانصراف؛ فإنها ليست على غرض صحيح، وإن قلنا: لا يجب قطع المدة، بل يجوز استيفاؤها، فيجوز الامتدادُ في الصوب المقصود وقضاءُ الوطر منه على حسب ما كان يجوز لو استمر النكاح ولم يطرأ فراق.
9863- ومما يتصل بما نحن فيه أنها لو كانت مأذونة في الزيارة، فقد ذكرنا أن سفر الزيارة من الأسفار المتعلقة بالأغراض الصحيحة، فعلى هذا إذا بلغها خبرُ الوفاة أو الطلاق في أثناء الطريق، انطلقت ومرت على وجهها ممتدة إلى الزيارة التي أنشأت السفر لها بخلاف سفر النزهة، فإنا ردّدْنا فيها القول. وسفرُ الزيارة في هذا المعنى بمثابة سفر التجارة.
ولو كانت بلغت موضعها والزوج قد أذن لها في أن تمكث عند من طلبت زيارته أياماً؛ فإذا بلغها خبر الطلاق، فهل يجب عليها قطعُ تلك المدة والتشميرُ للانصراف، فعلى قولين كالقولين في السفر للنزهة.
والسبب فيه أن الزيارة إلمامٌ وتجديد عهدٍ، فكل ما يزيد على ذلك يتصل بقياس النزهة، وقد ذكرنا أن السفر إذا كان سفر نزهة، ففي الانصراف قبل استيفاء المدة وفي الرجوع من وسط الطريق قولان، فسوّينا بين قطع المدة وبين قطع السفر، وفي سفر الزيارة قطعنا بأن لها أن تمتد في زيارتها قولاً واحداً، وردَّدْنا القول في استيفاء المدة، ونحن في ذلك كله نتبع المعنى دون الصُّوَر.
فأما التجارة، فالمرعي حصول الغرض فيها، فإن أذن لها في التجارة وفي الإقامة أياماً بعد انتجاز الغرض، فإذا حصل الغرض وبلغ خبرُ الوفاة أو الطلاق، فيخرّج القولان.
فهذا تحصيل القول في السفر الذي ليس سفر نُقلة، وقد استوعبنا بما ذكرناه القول في أحد القسمين.
9864- وأما القسم الثاني- وهو أن يأذن لها في سفر النقلة، فإذا خرجت وانتهت إلى المحل الذي إليه الانتقال، ثم بلغها الخبر، فلا تبرح حتى تنقضيَ العدة، والبلدةُ التي انتقلت إليها بمثابة مسكن تنتقل إليه بإذن الزوج قبل لحوق الطلاق.
وإن خرجت من بلدة النكاح، ولم تنته إلى البلدة التي إليها الانتقال، فماذا تصنع إذا بلغها الخبر عن الطلاق أو الوفاة؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي:
أحدهما: أنه يلزمها المضيُّ على وجهها إلى الموضع المعين؛ لأن بلدها الذي هو مقصودُ سفرها محل سكونها؛ من جهة أن ما كان محلاً للسكون فقد تقلّعت عنه، وانقطع حكمها عن سكناه، والبلد الذي بين يديها محل سكناها في قصدها.
والوجه الثاني- أنه يجب عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وذلك أن الطلاق لحقها قبل أن تلبَّس بتوطّن الموضع المقصود، فلترجع إلى مسكن النكاح، بناء على الاستدامة، ويخرّج في حقها الوجه الذي حكيناه عن العراقيين في التخيير، والبلدتان في سفر النقلة إذا توسطتهما بمثابة المسكنين في البلد الواحد إذا خرجت من المسكن الأول، وأمّت الثاني على قصد الانتقال.
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أن الزوج لو كان أذن لها في أن تخرج إلى دار أخرى لتنزهٍ أو غيره، وكان أذن لها في أن تقيم أياماً؛ فإذا طلقها، رجعت إلى مسكن النكاح، بلا خلاف، ولو فُرض مثل ذلك في سفر النزهة، ففي الرجوع قبل استيفاء المدة الخلافُ الذي قدمناه.
والفرق في ذلك أن الانتقال من دار إلى دار لقصد الزيارة ليس من الأشغال التي يبالَى بها، وليس في قطع المدة-إذا لم يكن سفر- ضرار، وقد يتصور في قطع السفر وقطع المدة المأذون فيها تفاوتٌ في ترتيب المعايش وتعطّلٌ في المطاعم، فهذا هو الذي أوجب الفرق.
فأما إذا فرض الانتقال، فهو أمر مقصود يُحمل على غرض صحيح، ولا فرق في ذلك بين مسكنين في بلدة واحدة وبين بلدتين أو قريتين، فغرض الانتقال يقرب في ذلك، والعلم عند الله عز وجل.
فهذا ما أحببنا التنبيه عليه.
9865- ويتصل بهذا المنتهى أن الزوج إذا أذن لزوجته في الاعتكاف عشرة أيام تباعاً، فشرعت في الاعتكاف، ثم لحقها الطلاق، فهل يلزمها أن تقطع الاعتكافَ وترجعَ إلى التربص في مسكن النكاح؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنها تستوفي ما شرعت؛ فإنها لابست اعتكافاً مفروضاً، وبنته على إذنٍ صحيح، ونحن نجوّز أن يمتد-من جهةٍ- سفرُها إذا كان السفر متعلقاًً بغرض صحيح حتى لا يلحقَها ضرر، فلا نكلفها أن تقطع فرضاً شرعت فيه.
والقول الثاني- أنها تقطعه، فإن لزوم العدة ورعايةَ شرائطها أثبتُ؛ من جهة أنها تلزم شرعاً، والاعتكاف المنذور مما يُدخله الناذر على نفسه، فلا يبلغ تأكُّده مبلغ تأكد ما يجب شرعاً، وجوباً لا دفع له.
ومما يجب ذكره في هذا المقام أن قطع مدة العبادة الواجبة مع اتحاد البلد من غير فرض سفر خرج على قولين خروج المدة المضروبة للنزهة في السفر.
ويتبين للإنسان بهذه المسائل افتراقُ الحضر والسفر، والأمر دائر في ذلك كلِّه على مأخذ واحد، وهو النظر إلى الأغراض وتأكُّدِها.
9866- ثم لا يتبين حاصل ما ذكرنا الآن إلا بالتفريع: فإن قلنا: إنها تقطع الاعتكاف، وتتربص في مسكن النكاح، فإذا انقضت العدة، فهل يُحكم بأنها تبني على ما مضى من الاعتكاف، أم تستأنف؟ فعلى قولين قدمنا ذكرهما في كتاب الاعتكاف، وذكرنا أمثلةَ هذا الفن.
والذي أراه في ذلك أن القولين في أنها هل تقطع الاعتكاف مأخوذان من القولين في أن التتابع هل ينقطع؟ فإن قضينا بأن التتابع لا ينقطع، لزمها العود إلى مسكن النكاح، حتى إذا انقضت العدة، عادت إلى معتكفها، وبنت على ما مضى، وإن حكمنا بانقطاع التتابع، فالأشبه أن لا يلزمها الرجوع إلى مسكن النكاح؛ فإن ذلك إحباطُ ما تقدم من اعتكافها، ونحن نجوّز للمعتدة أن تخرج من مسكن النكاح في أوطارٍ لها وحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورة.
هذا حاصل القول في هذه الفصول.
9867- ثم لما ذكر الشافعي سفر النزهة والنقلة، نقل المزني عنه لفظةً واختلفت الرواية فيها، قال: قال الشافعي: "لا تقيم في المصر الذي أَذن لها في السفر إليه، إلا أن يكون أَذن لها فيه، والنقلةِ إليه، فيكون ذلك عليها " وفي بعض النسخ "فيكون ذلك لها". والروايتان صحيحتان، فمن قرأ: "فيكون ذلك عليها " رجع به إلى مسألة النُّقلة؛ فإن مصابرة المكان المنتقَلِ إليه حتم، كما قدمناه.
ومن قرأ "فيكون ذلك لها" صرف ذلك إلى " ما أَذن لها في مقام مدة " فيكون هذا أيضاً على أحد القولين.
وقد انتجز الغرض في هذه المعاني.
9868- وذكر الشافعي بعد عقد هذه الأصول مسائل مقصودة في أنفسها وهي تبين القواعدَ السابقةَ، فمما ذكره أن المرأة إذا خرجت مسافرة مع الزوج، فطلقها أو مات عنها في أثناء الطريق، لزمها أن ترجع على أدراجها إلى مسكن النكاح، فتعتدَّ فيه، ولا نقول تتمادى إلى مقصدها، بخلاف ما لو أذن لها الزوج في سفر يلحقها الطلاق في أثنائه، والفرق أنها إذا خرجت مع زوجها، فسفرها منوط بصحبته، فقد انقطعت الصحبة، وما خرجت مستقلة، فوقوع الطلاق بمثابة انتهاء السفر.
وإذا خرجت بنفسها لغرضٍ لها، وقد تأهبت، فتتضرر بقطع ما همّت به.
ومما ذكره أنها إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم طلقها، فإن كان الوقت ضيقاً، خرجت وأنشأت السفر، وإن كان الطلاقُ لحقها وهي بعدُ مقيمة؛ فإن التحلل من الإحرام غير ممكن، وتكليفُها مصابرةَ الإحرام صعبٌ لا يحتمل، وبدون ذلك يجوز لها مفارقة مسكن النكاح، وإذا ضاق الوقت، فينضم إلى ما ذكرناه أنها لو صابرت فاتها الحج.
وإن اتسع الوقت أو كانت محرمة بعمرة، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: يلزمها ملازمةُ مسكن النكاح إلى انقضاء العدة؛ إذ ليست على خشية من الفوات والعدة ناجزة لا تقبل التأخير.
والوجه الثاني- وهو الذي اختاره القاضي وقطع به، أن لها أن تخرج، فإن مصابرة الإحرام مع ما فيه من وجوب التوقي عن أخذ الشعر والظفر واجتناب الطيب صعب، وفيه تعرض لالتزام مغارمَ كثيرة، وقد ذكرنا أنا بدون ما أشرنا إليه يجوز مفارقةُ مسكن النكاح.
ولو كان الزوج أذن لها في الحج، فلم تخرج، فطلقها، فأحرمت بالحج، وقد لحقها الطلاق في الحضر، فلا ينبغي لها أن تخرج، فلا حكم للإذن المتقدم؛ فإنه ينقطع أثر إذن الزوج بالطلاق. نعم، إذا خرجت تؤم البيت، فطلقها، فلها أن تستدَّ على وجهها، والذي ذكرناه فيه إذا لحقها الطلاق قبل أن تخرج.
وقد قدمنا فيما مضى معنى الخروج، فإنه مفارقة خِطه البلدة، ومفارقة مسكن النكاح.
ثم ذكر الشافعي مسائل في حج النسوة وأنهن متى يخرجن، ومتى يلزمهن الخروج إلى الحج، وقد قررنا هذه المسائل في موضعها من كتاب الحج، وقد انتهى المقصود من الفصلين.
الفصل الثالث
يتعلق بالخلاف بين الزوجين نصفه ونذكر ما فيه
9869- إذا طلق الرجل امرأته، وكانت في دارٍ غيرِ دار الزوج، واختلف الزوجان: فقال الزوج: لم أنقلك، فارجعي إلى بيتي للعدة، وقالت: بل نقلتني!! نص الشافعي فيما نقله المزني على أن القول قولُها، وحكى المزني في الجامع الكبير عن الشافعي أنه قال: لو وقع هذا الاختلاف مع الوارث بعد موت الزوج، فقالت: نقلني أبوك. وقال الوارث، لم ينقلك، فالقول قول الوارث، وهذا يخالف ما نقله هاهنا.
وترتيب المذهب في ذلك أنهما إذا اتفقا على أنه قال لها: اخرجي مسافرة: إذا كان الاختلاف مفروضاً في قريتين أو بلدتين، فالقول قول الزوج في حياته، والقول قول الوارث بعد وفاته؛ فإن الإذن باتفاقٍ مفروض في التقييد باتصاف المرأة بالمسافرة.
ولو قال لها: انتقلي إلى تلك القرية أو إلى المسكن الآخر، ثم اختلفا، فالقول قولها لا محالة.
ولو قال: اخرجي، أو سيري، أو اذهبي، على الإطلاق: من غير تقييد بسفر، ولا انتقال، فإذا فرض الاختلاف، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن القول قول الزوج أو الوارث؛ فإن الأصل عدم الإذن في الانتقال، ولو كان أصل الإذن متنازعاً فيه، لكان القول قولَ الزوج، فكذلك إذا فرض التنازع في صفة الإذن.
والقول الثاني- أن القول قولُها، لأن الإذن محتمل، والظاهر معها؛ فإن الطلاق صادفها وهي كائنة في تلك الدار، وهذا يحل محل اليد في الخصومات، فكما يُجعل القول قولُ صاحب اليد، فكذلك يترجح جانبها لكونها في الدار الثانية.
9870- ومما يتم به بيانُ الفصل أن كلام الأصحاب يشير إلى أن الزوج لو أنكر أصل الإذن وادعته المرأة، فالقول قول الزوج، وإنما ذكروا القولين فيه إذا كان أصل الإذن ثابتاً والخلاف راجعاً إلى صفته، ولا يبعد تقدير خلاف إذا كان أصل الإذن متنازعاً فيه، بناء على ما لو فرض نزاع بين المالك وبين صاحب اليد في الإعارة، وقد قدمنا ذلك في كتاب العاريّة، والأصل تصديقُ من ينكر أصلَ الإذن، ثَمّ وهاهنا.
فصل:
قال: "وتنتوي البدوية حيث ينتوي أهلها... إلى آخره".
9871- البدوية إذا مات عنها زوجها أو طلقها، وكانت بين قوم سيّارة ينتجعون ويتبعون مواقع القَطْر، لا يَلزمون مكاناً واحداً، فإنها تنتقل معهم حيث انتقلوا، وتعتد على انتقالها، وذلك في حقها بمثابة لزوم مسكن النكاح في حق الحضرية.
وإن كانت بين قوم لزموا موضعاً لا يظعنون عنه شتاء، ولا صيفاً، فإنها تلزم لزومها ولا تخرج، كما لا تفارق الحضرية مسكن النكاح.
وسر هذا الفصل أن انتقالها معهم لا يكون كلزوم مسكن النكاح، حيث يُفرض للنكاح مسكنٌ في موضع إقامة، ودليل ذلك أنها لو انتهت في ممرها إلى قريةٍ وأرادت أن تقيم بها، جاز، وليس لها الانتقال من مسكن النكاح إلى غيره، فلا يعتقِدَنَّ الفقيه أن مسايرتَهم تلزمُها، ولكن يجوز لها اختيارُ مسايرتهم، حتى لا تستوحش بمفارقتهم، وإلا فليس الكَوْنُ معهم لزومَ موضعٍ، فيلزمَ.
وليس هذا كما لو خرجت لتنتقل؛ حيث يثبت لها الانتقال، فلو لحقها الطلاق في الطريق، فأرادت أن تمكث في بلدة في وسط الطريق لتنقضيَ عدتُها، لم يكن لها ذلك، فإنها خرجت عن مسكن بانيةً أمرَها على مسكن آخر، فقد لحقها الطلاق على حالة، فتلزمها، وتلك الحالة تُفْضي إلى محل انتقالٍ وتوطّن.
وأحوال البادية لا تنتهي إلى توطُّنٍ قط، وكل ذلك متفق عليه منصوص للأصحاب.
9872- ومما يتعلق بذلك أن أهلها لو رحلوا وأقام الأجانب، فإن كانت آمنة لو أقامت واختارت المقام، فلها ذلك، فإن الإقامة أليقُ بصفة المعتدة، وإن كانت لا تأمنُ، فحقٌّ عليها أن ترحل مع الراحلين، وإن أمنت، ولكن كانت تستوحش بمفارقة الأهل، فظاهر المذهب أنها بالخيار: إن شاءت أقامت مع المقيمين، وإن شاءت ظعنت مع الظاعنين، وجواز الظعن لما ينالها من الوحشة.
ولا خلاف أن أهل المرأة المعتدة لو رحلوا عن البلدة، لم يكن لها أن ترحل وتفارقَ مسكن النكاح، وذلَك أن إقامتها مع المقيمين في البادية ليست إقامة على الحقيقة، ولذلك لم يوظف عليهم الجمعةُ، والبلدة محلٌّ للإقامة، فلا يجوز مزايلتها لوحشةٍ، ولا يبعد أن يقال: يتعين عليها الإقامة في مخيم المقيمين التزاماً لسكون المعتدات؛ فإن النقلة في النسوان تناقض التستر.
ولا خلاف أنه لو أقام أهلها، لم يكن لها أن تنتقل وتفارق المخيم.
هذا تمام القول في أحوال البادية.
ولو خرج أقاربها ليعودوا على قرب، فلا ينبغي أن تخرج معهم، ولي لها أن تخرج معهم؛ فإن ما اعتمده جمهور الأصحاب من الوحشة لا يتحقق هاهنا.
9873- ويتصل بهذا المنتهى امرأة صاحب السفينة إذا طلقها والسفينة في البحر، فلا محيصَ لها، فإن كانت من أقوام بحارين يعتادون التردد في البحر، فسبيلها كسبيل البادية، وإن لم يكن كذلك، وإنما ركبت لحاجة، فهي مسافرة مات عنها زوجها، وقد مضى التفصيل في ذلك، بيد أن الرجوع في البحر قد لا يمكن، فإن تيسر من غير عُسر-وقد خلَّفت مسكن نكاح- فسبيله ما تقدم.
وإن كانت تلقى عُسراً وغرراً، لم تكلّف ذلك.
ولو كان في البحر سفينتان بحكم الزوج، فقد يطرأُ إذاً تفصيل المساكنة: فإن كانت السفينة كبيرة تشتمل على حُجَرٍ وقطائعَ، وكل قطعة تنفرد بمرافقها، فلتنفرد بقطعة عن زوجها، وأمرُ الخَلْوة على ما تفصَّل. وإن كانت السفينة صغيرة، واستمكن الزوج من الانتقال إلى السفينة الأخرى، فحقٌّ عليه أن يفعل ذلك.
ومن أحاط علماً بما مهدناه من الأصول، هان عليه درك أطراف هذه المسائل.
9874- ثم قال الشافعي: "ولو تكارت منزلاً... إلى آخره".
إذا غاب الزوج ولحقها الطلاقُ، وليس للزوج مسكن تأوي إليه المعتدة، فالقاضي يكتري لها مسكناًً يليق بها من مال الزوج، إن كان يجد له مالاً، وإن رأى الاستقراض عليه، فعل، وإن فوض إلى المرأة الاستقراضَ، جاز، ولا اختصاص لذلك بما نحن فيه، بل هو جارٍ في نفقةِ الزوجة وغيرها، وقدمنا في هرب الجمَّال مثلَ هذا.
ولو شغَرَتْ البقعةُ عن الحاكم، ففيه تفصيلٌ ذكرناه في مسألة الجمَّال، ولو استقلّت مع إمكان مراجعة الحاكم، فهذا أيضاً مما سبق تفصيله وسنجمع كلاماً حاوياً في كتاب النفقات-إن شاء الله- ونبين فيه انفصالَ النفقات عن السكنى، وانفصالَهما عن كراء الجمَّال، ونأتي فيه بمجامع، إن شاء الله.
ثم تعرض الأصحاب هاهنا للكلام فيه إذا انقضت مدةٌ لم تتمكن فيها من مال الزوج، فهل يبطل حقها في المدة الماضية من السكنى أم يستقر حقها استقرار نفقة الزوجات؟ وهذا من أصول كتاب النفقات فأوْلى تأخيره إليه.