فصل: باب: ما يكون رجوعاً في الوصية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يكون رجوعاً في الوصية:

7574- العطايا المحتسبة من الثلث تنقسم، فمنها: ما ينجزها المريض في حياته ويتممها في ظاهر أمره، فما كان كذلك لم يملك هو في نفسه استدراكه، وإن كنا قد نردّ ما يزيد منهما على الثلث، إذا مات من مرضه الذي يتبرع فيه، وهذا كالعتق المنجز والهبات المبرمة بالقبض والصدقات، والإبراء المنجّز، والمحاباة في البيع والشراء.
وأما الأعطية التي يُضيفها إلى حالة الموت، فهي محسوبة من الثلث، فجملتها وصايا، والموصي بها يملك الرجوع في جميعها، إلا التدبير، ففيه قولان:
أحدهما: أنه بمثابة الوصايا، وفائدة ذلك تمليك المدبِّر الرجوع عن التدبير لفظاً، مع إدامة الملك على الرقبة.
والقول الثاني- أنه تعليق عتق. وفائدة ذلك أنه لا يملك الرجوع عن التدبير لفظاً، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب التدبير، إن شاء الله تعالى.
وحظ هذا الباب منه ما يتعلق بحكم الرجوع، هذا تمهيد قاعدة الباب.
7575- ثم التبرعات الجارية في مرض الوفاة إذا تمت تصرف المتبرَّعُ عليه تصرف مثله لو جرى التبرع في الصحة من المتبرّع، وإن كنا في الزائد على الثلث ننعطف نتعقب تلك التصرفات بالنقص تبيّناً من غير إنشاء نقض، وقد نتبين بطلان جميعها، إذا ركب المريضَ دينٌ مستغرق المال.
ومما يفارق التبرعاتُ فيه الوصايا المضافةَ إلى الموت أن الوصايا تقع محسوبة من الثلث، وإن وقع الإيصاء بها في الصحة؛ نظراً إلى حالة الموت، والتبرعات الواقعة في الصحة لا تحتسب من الثلث، ولو جرى تعليق في الصحة في عتقٍ ووجد الصفة في مرض الموت المعلق، فللأصحاب وجهان مشهوران في أن الاعتبار بحالة التعليق أم بحالة وقوع العتق؟ وسيأتي شرح ذلك في موضعه من كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
7576- وقد تمهد أن الرجوع في الوصايا سائغ، والباب معقود لبيان ما يكون رجوعاً عن الوصية وما لا يكون رجوعاً عنها، فنقول: ما يقع به الرجوع ينقسم إلى ما هو صريحٌ في الرجوع، وإلى ما يتضمن الرجوع.
فأما التصريح في الرجوع، فإذا قال: رجعت عن هذه الوصية، أو قطعتُها، أو رفعتها، أو أبطلتها، أو نسختها، فهذه الألفاظ وما في معناها رجوعٌ.
ولو قال: حرمت هذه العين على فلان، وكان قد أوصى له بها، فظاهر المذهب أن هذا يكون رجوعاً عن الوصية؛ فإنا نكتفي في ثبوت الرجوع بمخايل وعلامات في الأقوال والأفعال، سنشرحها في الباب، ولفظ التحريم أوضح منها وأولى بإفادة الرجوع.
7577- ولو قيل له: أوصيتَ لفلان، فأنكر، وقال: ما أوصيتُ، فالذي ذهب إليه الأصحاب، وهو ظاهر النص أن هذا يكون رجوعاً، وقد يتجه في هذا نوعٌ من الاحتمال؛ من جهة أنه قد ينسى الوصيةَ، فينكرها، والإنكار إخبار، وليس بإنشاء قطع.
ولو قيل له: أوصيتَ لفلان، فقال: لا أدري، فهذا لا يكون رجوعاً عند الشافعي رضي الله عنه إذا كان أوصى، خلافاً لأبي حنيفة.
فهذا ما يكون رجوعاً تصريحاً، أو تلويحاً بقولٍ مقصودٍ في إظهار الرجوع.
وانتظم منه أن النص في الرجوع يقطع الوصية، واللفظ الظاهر كالتحريم فيه تردّدٌ، والتصريح بالإنكار ملتحق بالظاهر عندي، والنص قول الأصحاب فيه ما ذكرته، وهذا كلامٌ في قسمٍ واحدٍ.
7578- فأما القسم الثاني، فهو ما لا يكون رجوعاً صريحاً، ولكنه يتضمنه، وذلك ينقسم إلى تصرفاتٍ بالأقوال وإلى تصرفاتٍ بالأفعال.
فأما الأقوال، فما يتضمن بتَّ الملك، فلا شك أنه يقتضي رجوعاً مثل أن يوصي بعبد لإنسان، ثم يبيعه بيعاً لازماً، فهذه التصرفات تنفذ متضمنةً رجوعاً.
فأما ما لا يتصف باللزوم ولكنه يشعر بقصد الرجوع، فقاعدة المذهب أنه يتضمن الرجوع، فإن كان من تردّدٍ في بعض المسائل، فهو لاعتقاد من يتردد في بُعد المسألة عن القاعدة.
قال الأئمة: لو عرض العينَ الموصى بها على البيع، كان ذلك رجوعاً منه، وإن لم يبعها، وكذلك قالوا: لو وكل ببيعها، كان ذلك بمثابة العرض على البيع، فلعله أظهر في الدلالة على قصد الرجوع.
ولو رهن، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يكون رجوعاً؛ فإن مقصود الرهن بيعُ المرهون في الدين، فلا ينحط الرهن عن العرض على البيع.
والوجه الثاني- أن الرهن لا يكون رجوعاً؛ فإن الذي يُضمر إبقاء الوصية قد يرهن الموصى به لحاجة باديةٍ مع إبرامه العزم على فك الرهن، فليس الرهن إذاً من علامات الرجوع، وليس كذلك العرض على البيع؛ فإنه تحكُّمٌ خاص في الدلالة على البيع القاطع للوصية.
ولست أرى في الرهن فرقاً بين أن يتصل بالإقباض وبين ألا يتصل به؛ فإنه إنما يكون رجوعاً-إذا كان- لدلالته على القصد، وهذا لا يختلف بوجود الإقباض وعدمه.
ولو وهب العين الموصى بها، يجب القطع بكون ذلك رجوعاً؛ فإن الهبة عقد تمليك، وظهور القصد كافٍ، ثم لا يتوقف حصول الرجوع على الإقباض، وذكر بعض الناقلين خلافاً في الهبة قبل القبض، وهذا مما لا نستجيز عدَّه من المذهب.
وإذا رأينا العرض على البيع رجوعاً، فإذا جرى البيع على شرط الخيار، لم يسترب الفقيه في كونه رجوعاً، وإن فسخ العقد، وسرُّ هذا الفصل أن مبنى الوصية على تقدّم الإيصاء على القبول بزمانٍ متطاولٍ، والعقود التي ينبني انعقادها على الإيجاب والقبول المتصلين لو تخلل بينهما قاطع، لقضينا بانقطاع الإيجاب عن القبول، ولا يشترط في الوصية وقبولها تواصلٌ زماني، ولكن إذا جرى من الموصي عَلَمٌ ظاهر في الرجوع، كان ذلك خَرْماً للإيصاء، وقطعاً له.
وهذا يتضح بذكر أصولٍ يفرض في مثلها رجوع، والغرض بذكرها امتيازها عما نحن فيه، فالراجع في هبته بعد الإقباض وإن ملك الاستبداد بالرجوع لا يصح رجوعه بالمخايل والعلامات؛ فإن رجوعه في حكم تملك جديد، حتى نقول: لو أعتق العبدَ الموهوبَ المسلَّمَ، لم ينفذ عتقه عند بعض الأصحاب، ما لم يقدِّم على العتق رجوعاً، ولو باع، فالبيع أولى بالرّد من العتق.
ومن باع عبداً بشرط الخيار، ثم عرضه على البيع، فلسنا نرى العرض على البيع فسخاً منه، بخلاف الوصية.
7579- والغرضُ في ذلك يتبيّن بنظم ترتيبٍ: أما الرجوع في الهبة بعد التمام، فيليق به التصريح بالرجوع؛ فإن الهبة بعد التمام أفادت تمام نقل الملك، وليس ملك الرجوع في الهبة خياراً في عقدٍ، وإنما هو تسلط-على ملك الغير- شرعيٌّ.
والرتبة الثانية في الفسخ-الفسخُ من البائع في زمان الخيار، فهذا يصادف جوازاً من العقد، ولكن العقد ثَمَّ يسعه، فإن لم يصرح الفاسخ بالفسخ، فلابد من أحد أمرين: إما أن يتصرف تصرفاً يستدعي نفوذُه الفسخَ، كالإعتاق والبيع، وإما أن يأتي بعلامة في نهاية الظهور كالوطء.
ولسنا نلتزم الآن ذكرَ تلك التفاصيل؛ فإنا استقصيناها في أول البيع، وإنما غرضنا التنبيه على المراتب لنفصل البعض منها عن البعض.
7580- ثم الذي نستقصيه الآن ما يتعلق بالوصية، فالوصية إذاً مستأخرة عن المرتبتين؛ من جهة أنه لم يثبت إلا أحد شقيها، فلا هي أفضت إلى إثبات حق، ولا أدّت إلى انعقاد عقد، فوقع الاكتفاء بعلامةٍ تخرم الإيصاء.
والذي يدور في الخَلَد عند ذلك أنه لو عَرَضَ الموصى به على البيع، ثم قال: كنت نسيت الإيصاء به، أفنقول: انبتّت الوصية ظاهراً وباطناً، أم نقول: الوصية بحالها؟ هذا فيه تردد، والظاهر انقطاع الوصية ظاهراً وباطناً؛ فإنه اختل الإيصاء في هذه العين بما جرى وانقطع الإيصاء عن القبول. وفي المسألة احتمال.
7581- ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى لإنسانٍ بعبد، ثم إنه دبره، فهذا يستدعي تقديم مسألةٍ مقصودة في نفسها، وبها يحصل الغرض فيما ذكرناه: أجمع الأصحاب في الطرق على أن من أوصى بعبدٍ معين لزيد، ثم لم يتعرض لتلك الوصية، وأنشأ إيصاءً بذلك العبد لعمرو، قال فقهاؤنا: العبد مشترك بين الرجلين إذا تمت الوصية؛ فإن كل واحد منهما موصًى له، فيصيران فيه بمثابةٍ، وإذا ازدحم شخصان على هذه النسبة على عينٍ، اقتضى ذلك تشطيرها بينهما، وقد ذكرنا في ذلك قواعد ومسائل في الوصية بالكل والجزء، ثم نبهنا في هذا على دقيقة وقلنا: الاقتسام يقع على حكم الازدحام من غير فرض رجوع عن الوصية الأولى، حتى لو لم يقبل الموصى له الثاني ورَدَّ، فالعبد بكماله مصروف إلى الأول، وهكذا يكون سبيل القسمة التي تقتضيها الزحمة.
ومن لم يعتقد هذه المسألة حسيكة في باب الرجوع، فليس من الفقه على حظّ؛ فإنا إذا كنا نرى ارتفاع الوصية بالعلامات القريبة، فالوصية بكمال الموصى به لغير الموصى له الأول في نهاية الظهور في قصد الرجوع عن الوصية الأولى.
وقد قال الأئمة: إن ذكر في الوصية الثانية لفظةً تدل على الرجوع عن الأولى، كان رجوعاً عنها، وذلك أن يقول: العبد الذي أوصيت به لفلان قد جعلته لفلان، أو العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان، أو العبد الذي أوصيت به لفلان قد أوصيت به لفلان. وقالوا: هذه القرائن تتضمن الرجوع عن الوصية الأولى، وإنما يحمل الأمر على ازدحام الوصيتين إذا جرت الوصية الثانية مطلقةً، من غير تعرضٍ للوصية الأولى، وما ذكروه الآن من أن الرجوع يثبت في الوصية الأولى جارٍ على قياس الباب، وإنما الإشكال في أن الوصية كيف لم تكن رجوعاً عن الوصية السابقة؟ فهذا لا وجه في تعليله إلا أن الوصايا يثبت فيها أصل الازدحام، وصار ذلك قانوناً متبعاً وأصلاً في حكم المتفق عليه، فالوصايا تزدحم على الثلث إذا زادت عليه ورُدّت إليه، فكل ما ظهر حمله على الزحمة ولم يقترن به أمر زائد على اقتضاء الزحمة، فهو محمول عليها.
فأما إذا انضم إلى ذلك مزيدٌ في التعرض للوصية الأولى، فإذ ذاك يقع الحكم بالرجوع. فهذا هو الممكن في ذلك.
7582- رجعنا إلى ما ذكرناه من تدبير العبد الموصى به، قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا أوصى الرجل بعبده لإنسان، ثم إنه دبّر ذلك العبدَ، ولم يتعرض للوصية الأولى، كان التدبير رجوعاً عن الوصية، وليس كما لو أوصى لزيدٍ بذلك العبد، ثم أوصى به لعمرو وأطلق الوصية الثانية؛ فإن الوصيتين تزدحمان على العبد، وذكروا مسلكين في طلب الفرق:
أحدهما: أن مقصود التدبير العتقُ، وهو مخالف لمقصود الوصية بملك الرقبة، فإن اختلف المقصودان، ظهر بالثاني قصد الرجوع عن الأول.
هذا وجه.
والثاني: أن العتق يحصل إذا وسعه الثلث، في المدبر بالموت، والقبول يقع بعده، فيتقدم نفوذ مقصود التدبير على قبول الموصى له الأول. هذا ما ذكره الأئمة.
قال صاحب التقريب: إن حكمنا بأن التدبير تعليقُ عتق بصفةٍ؛ فإنه يكون رجوعاً عن الوصية في مقصودها ووضعها، والعتق المعلق عند وجود الصفة كالعتق المنجز عند التعليق.
فأما إذا حكمنا بأن التدبير وصيةٌ بالعتق، فإذا أوصى بعبد لإنسان، ثم دبره، فقد ذكر فيه وجهين:
أحدهما: أن ذلك يكون رجوعاً عن الوصية الأولى، فيثبت التدبير في جميع العبد، وهذا ما قطع به الأصحاب.
والوجه الثاني- أن ذلك لا يكون رجوعاً عن الوصية الأولى، ولكن يثبت حق التدبير على الزحمة في جميع العبد، ويبقى حق الوصية الأولى كذلك في جميع العبد، كما لو أوصى لزيد بعبد، ثم أوصى لعمرٍو بذلك العبد، ثم حكم الازدحام يقتضي التنصيف كما ذكرناه، فيعتِق نصفه بحكم التدبير، ويبقى نصفه موصىً وهذا الذي ذكره صاحب التقريب وإن كان متجهاً في القياس، فهو مخالف لما ذكره أئمة المذهب، فلو دبّره، ثم أوصى به لرجل، فإذا قلنا: التدبير وصية، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الوصية برقبة العبد رجوعٌ عن التدبير؛ فإن الوصية مع التدبير متناقضان. ولا شك أن صاحب التقريب يطرد وجهين في هذه الصورة:
أحدهما: أن الوصية رجوع عن التدبير، والثاني: أن التدبير والوصية يزدحمان.
وإن قلنا: إن التدبير تعليق عتقٍ بصفة، وقد تقدم واستأخرت الوصية، فالوصية ساقطة؛ فإن التدبير لا يزول بالرجوع عنه، والوصية لا تنجز حقاً، بخلاف تنجيز الإعتاق، وبخلاف البيع والهبة مع الإقباض، فإذا امتنع الرجوع، نفذ العتق المعلق بالموت معه، ولا أثر للوصية.
7583- ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى بعبدٍ لزيد، ثم قال: بيعوه بعد موتي، وتصدقوا بثمنه، فالأمر بذلك رجوع عن الوصية؛ فإن الأمر بالبيع يناقض استبقاء الرقبة حتى يفرض الازدحام فيها.
ولو أوصى بأن يباع العبد بعد موته ويصرف ثمنه إلى الفقراء، ثم أوصى بأن يصرف ثمنه في الرقاب، فهذا يقتضي الازدحام، فيتضمن تشطير الثمن بين الجهتين.
وقد نجز الغرض في ذكر الأقوال التي تتضمن الرجوع عن الوصية.
7584- فأما الأفعال، فإنا نعدّد منها جملاً ذكرها الأصحاب، ونشير إلى ما اعتمدوه في قياسها، ثم نذكر المسلك المرتضى عندنا.
قال أئمتنا: إذا أوصى لإنسان بحنطة معيّنة، ثم طحنها الموصي، فيكون الطحن رجوعاً عن الوصية، وكذلك لو أوصى بالدقيق، ثم عجنه وخبزه.
وقالوا أيضاً: لو أوصى بشاةٍ لإنسان، ثم ذبحها، كان الذبح رجوعاً عن الوصية، وكذلك لو أوصى بثوبٍ، ثم قطعه وفصله، فالقطع والتفصيل رجوع.
وتعلق الأصحاب في تعليل ثبوت الرجوع في هذه المسائل بزوال الاسم، فقالوا: هذه التصرفات تزيل الأسماء التي تعلقت الوصية بها، فتحولت وزالت، وحدثت أسماء أخرى، فكان الموصى به في حكم التالف المعدوم، وهذا الذي ذكروه من التعليل غيرُ مرضيّ عندنا، بل المعتمد أن نقول: لما أوصى بالحنطة، فبقاؤها إلى نفوذ القبول فيها مظنون ممكن، فإذا اختار طحنها، استبان بهذه العلامة أنه يبغي استعمال الدقيق، وكذلك إذا خبز الدقيق، فقد صرفه به عن جهة البقاء الممكن له إلى جهةِ هو فيها متشوف إلى الاستعمال، وكذلك القول في الشاة والذبح، والثوب والقطع والتفصيل.
7585- ولو أوصى لإنسانِ بلحمٍ، ثم شواه، فمن يرعى زوال الاسم، فالاسم لم يزل، فلا يبعد أن تبقى الوصية، ومن راعى ظهور علامة الاستعجال والاستعمال، فقد ظهر هذا المعنى.
وذكر العراقيون وجهين فيه إذا أوصى بخبز، ثم دقّه واتخذه فتيتاً:
أحدهما: أن ذلك رجوع بمثابة طحن الحنطة الموصى بها.
والثاني: أنه ليس برجوع؛ فإن الدق لم يسلبه اسمَ الخبز، فلا تنقطع الوصية بهذا القدر من التغيير.
ولو أوصى لإنسان بجاريةٍ، ثم كان يستخدمها، لم يكن الاستخدام رجوعاً؛ فإنه ليس علامة في قطع الوصية؛ إذ الإنسان يوصي بعبده، ثم لا يعطل منافعه.
وكذلك لو أوصى بجارية لإنسان، ثم زوّجها، فأما إذا أوصى بها ثم وطئها، فالطريقة المشهورة أنه إن عزل عنها، لم يكن ذلك رجوعاً، وكان الوطء كالاستخدام، وإن لم يعزل عنها، فيكون ذلك رجوعاً حينئذ؛ فإن ذلك يدل على استبقائه إياها لنفسه، والتسري بها.
ومن أصحابنا من قال: الوطء رجوعٌ كيف فرض ومنهم من قال: إنه ليس برجوع كيف فرض. وهذا أضعف الوجوه.
7586- وقد أجرى الأصحاب في أثناء الكلام في هذه المسألة مسألةً من اليمين، وهي أن مالك الجارية إذا قال: "والله لا أتسرى بها"، فمتى يحنث؟ ذكروا في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن التسري يحصل بالوطء نفسه.
والوجه الثاني- أن التسري إنما يحصل إذا لم يعزل، فأما إذا عزل، لم يكن الوطء تسرياً، ولم يحنث في يمينه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً- وهو أنه إذا أفرزها عن خادمات المهنة وحصّنها، وظهر من قصده إرادة الاستئثار بها، كان ذلك تسرياً، وإن لم يجر وطء، وهذا وجه ضعيف، لا استناد له إلى ثبت.
7587- ومما يتعلق بهذا القسم أن يوصي بعينٍ، ثم يُحدث فيها زيادةً من غير أن يسقط اسمُها، وذلك مثل أن يوصي بدارٍ، ثم يزيد في بنائها، مع بقائها تحت اسم الدار، فهذه الزيادة لا تكون رجوعاً عن الوصية؛ فإنها لا تشعر باستئثاره بالدار، ومن راعى زوال الاسم، فالاسم غير زائل، وقد ذكرت تفصيل المذهب في أن تلك الأعيان التي زادها هل تدخل تحت الوصية.
وإن أوصى لإنسان بدار عينها، ثم غيرها، واتخذ منها خاناً، فالذين ذهبوا إلى زوال الاسم وبقائه، حكموا ببطلان الوصية، ورأوا هذا التغيير رجوعاً عن الوصية، لأن اسم الدار قد زال. وهذا فيه احتمال عندي؛ لأنه ليس فيما فعله ردُّ العرصة إلى حكم نفسه باستعمالٍ وصرفٍ عن الجهة الأولى، وإنما هذه عمارة رآها وأجراها، وقد ذكرت أن التعويل على الاسم ليس بالقويّ.
7588-ولو أوصى بثوب مفصل غير مخيط، ثم إنه خاطه، فقد قال الشافعي وأبو يوسف: لا يكون ذلك رجوعاً، وتعليله بين؛ فإن الاسم لم يتغير على مذهب من يراعي الاسم، والطريقة التي ذكرناها لا تجرى في هذه المسألة. وقال أبو حنيفة ومحمد: يكون ذلك رجوعاً.
ولو أوصى لإنسان بقطن ثم حشا به جُبة، فقد قال من يعوّل على بقاء الاسم وزواله من أصحابنا: تبقى الوصية؛ فإن اسم القطن باقٍ، والصحيح عندي أن ذلك رجوع عن الوصية؛ فإن القطن إذا حشا به الجبة، فهو إلى الفساد والاتساخ، وسقوط القيمة، والخروج عن معظم المقاصد المتعلقة بالقطن، وهذا يشعر بصرفه عن جهة الوصية إلى جهة الاستئثار والاستعمال.
7589- ومما يتعلق بهذا القسم أنه لو أوصى لإنسانٍ بحنطة معينة، ثم إنه خلطها بحنطة أخرى من عنده، فهذا يكون رجوعاً عن الوصية، فإنّ فعله يُعسِّر تسليمَ الحنطة المعينة فيتضمن هذا رجوعاً عن موجب الوصية، وهذا ظاهر متفق عليه.
ولو أوصى لإنسان بمقدارٍ من الحنطة من جملة حنطة كثيرة، مثل أن يقول: أوصيت لزيد بصاعٍ من حنطة هذا البيت، فلو أنه خلط بحنطة البيت حنطةً أخرى، فقد قال صاحب التقريب: إنْ خلط حنطة البيت بمثلها، فلا يكون ذلك رجوعاً، وإن خلطها بأجود منها، كان رجوعاً، وإن خلطها بأردأ منها، فعلى وجهين.
أما ما ذكره من الخلط بالمثل، فقد اتفق الأصحاب عليه؛ من جهة أنه في وصيته لم يعتمد تعيين مقدار من الحنطة، فلا يكون الخلط مخالفاً لمقصوده. فأما إذا خلط بالأجود، فقد لا يسمح بالتسليم لمكان الجودة، وإن خلط بأردأ، فيتعارض فيه معنيان:
أحدهما: أنه إذا سمح بالحنطة الأولى، فإنه يسمح بالأردأ أيضاً، وهذا يعارضه أنه قد لا يرضى للموصى له بالأردأ، فلهذا خرَّج صاحب التقريب المسألة على وجهين.
وينقدح عندنا من طريق الاحتمال كون الخلط رجوعاً في الأقسام كلّها، فإنه يتعذر به التسليم من تلك الحنطة الأولى، والوصية ضعيفة يتسرع البطلان إليها.
ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، ثم خلطها بمثلها، أو أجود أو أردأ منها، فإنه يتعذر تسليم المبيع، وكل ما يتعذر بسببه تسليم المبيع فبالحري أن يقدر رجوعاً عن الوصية في هذا الفن.
هذا تمام البيان فيما يكون رجوعاً عن الوصية.
7590- واتسق من مضمون الباب أن التبرعات المنفذة في المرض لا يملك المتبرع الرجوع فيها، والوصايا المحضة يملك الرجوع فيها صريحاً وضمناً، والتدبير لا ينزل منزلة التبرع المنفذ؛ من جهة أن السيد له بيعُ المدبّر وتنجيز إعتاقه، والتصرف فيه بجميع الجهات التي ينصرف بها في المملوك القنّ، فالتدبير من هذه الوجوه مباين للتبرعات المنجزة، ولكن في نزوله منزلة التبرعات المحضة-حتى يجوز التصريح بالرجوع فيه- قولان كما ذكرنا.