فصل: باب: ما يقول إذا أخذ الصدقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما يقول إذا أخذ الصدقة:

2198- يستحب للساعي أن يدعو لصاحب المال إذا أخذ الصدقة، لظاهر قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة أبي أوفى فقال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى"، ثم المستحب الذي ورد به الأثر، وهو لائق بالحال، أن يقول الساعي: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت.
2199- ثم تكلم الأئمة في اختصاص الصلاة بالأنبياء صلى الله عليهم أجمعين، إذ جرى ذكر الصلاة في قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، فقالوا: لا ينبغي أن يصلّي أحد على غيرهم قصداً، والمتبع فيه ما كان الناس عليه في الأعصار السابقة، قبل ظهور الأهواء، فما كان أحد في الأولين يقول: أبو بكر صلى الله عليه. وهذا كما أن قول القائل: الله عز وجل مما لا يسوغ استعماله في حق غير الله. وإن كان الجليل من الجلال، والعزيز من العزة، ثم ما كان مما لا يمتنع منه السلف ذكر الصلاة تبعاً للأنبياء في حق غيرهم، إذا ذُكِروا تبعاً، كقول القائل: صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وأصهاره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل لفظ الصلاة في حق غيره، كما ورد في الحديث، أنه قال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى" فقال الأئمة: كان الصلاة حقَه، فله وضعها فيمن شاء، ممّن يحل له الدعاء، وهو كمجلس الكرامة في دار الإنسان، هو أولى به، وله أن يُجلس فيه من أراد.
وكان شيخي يقول: السلام بمنزلة الصلاة فيما ذكرناه، فلا نقول: أبو بكر وعليّ عليهما السلام.
وظاهر ما ذكره الصيدلاني أن الصلاة على غير الرسل في حكم ترك الأولى والأدب، وهذا لا يبلغ ما يوصف بالكراهية، وفي هذا نظر؛ فإن المكروه يتميز عندنا عن ترك الأولى، بأن يُفرض فيه نهي مقصود، كالنهي عن الاستنجاء باليمين، وقد ثبت نهي مقصود في التشبه بأهل البدع، وإظهارِ شعارهم، وذكر الصلاة والسلام مما اشتهر بالفئة الملقبة بالرفض، وينضم إليه توقي السلف عن إطلاق ذلك مقصوداً في حق غير الأنبياء، فالقول في ذلك قريب. والله أعلم.

.باب: من تلزمه زكاة الفطر:

2200- قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرض زكاة الفطر في رمضان على الناس، صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعير، على كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين".
وفي بعض الروايات: "أو صاعاً من بُرّ". وذكر الأئمة: أن أبا حنيفة خالف هذا الخبر، من وجوه كثيرة، ولا حاجة بنا إلى ذكرها، وإن مست الحاجة إلى ذكر مذهب أبي حنيفة في مجاري الكلام، ذكرنا قدرَ الحاجة منه.
2201- وزكاة الفطر تجب على المرء في نفسه، وتجب عليه بسبب غيره.
فأما الشرائط المرعية في وجوب الفطرة على الرجل في نفسه، سيأتي فيها فصل يحوي المعتبرَ فيها.
والشافعي صدّر الباب بتفصيل القول فيمن تجب الفطرة بسببه على الإنسان ونحن نقول: لو رددنا إلى القياس الذي عقلناه، لما أثبتنا على الإنسان صدقة فطرة غيره؛ فإن القُربات بعيدة عن التحمل، وإن نحن قلنا: الفطرة غير محتملة، بل وجوبها بسبب الغير، بمثابة وجوب زكاة المال بسبب المال، فهذا بعيد أيضاًً، من جهة أن قريبَ الإنسان ليس محلّ ارتفاقه، كماله، فبَعُد إيجاب إخراج الفطرة عنه قياساً على زكوات الأموال، ولكن أجمع المسلمون على أن الفطرة تجب على الغير، بسبب الغير، ثم اضطربت المذاهب، فاعتبر أبو حنيفة في ذلك الولاية، وأوجب على الولي إخراجَ الفطرة عن المُولَّى عليه، ثم نقض هذا، ولم يطرده، وسبيل الرد عليه موضَّح في الأساليب، ونحن لم نستمسك بتعليل، ولكنا نعتمد حديثا نقله الأثبات، عن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أدوا صدقة الفطر عمن تمونون»، فالفطرة تتبع المؤنة في أصلها، ثم يعتبر في وجوبها بسبب الغير كونه من أهل الطهرة، على ما سيأتي ذلك في أثناء الكتاب-إن شاء الله تعالى-
والغرض الآن مقصور على الجهات المرعيّة. ثم نستفتح الآن تفصيلَ ما أجملناه، فنقول:
2202- الجهات المقتضية للمؤنة تنقسم ثلاثة أقسام: قرابة، وزوجية، وملك.
أما القرابة، فتفصيل القول فيما يوجب النفقة منها، وفي الصفات المرعيّة مع القرابة سيأتي مستقصى في كتاب النفقات، إن شاء الله تعالى، وفيه نذكر محل الخلاف والوفاق، فإذا وجب على الأب نفقةُ ولده: صغيراً كان، أو كبيراً، وجب عليه إخراجُ الفطرة عنه، إذا كان من أهل الطُهرة، وإذا لم تجب النفقة، لم تجب الفِطرة وإذا اختلف المذهب في النفقة، تبعه الاختلاف في الفِطرة، وهذا يطّرد، وينعكس، كدأب الحدود الجامعة، المانعة.
وقد ذكر شيخنا أبو بكر فصلاً بين الصغير والكبير من الأولاد، في حكمٍ يتعلق بالنفقة، ثم ألحق به حكمَ الفِطرة، وذلك أنه قال: إذا استهل هلال شوال، وللطفل الصغير من خاصِّه قوتُ يومه، فلا يجب على الأب نفقته في ذلك اليوم، ويجب عليه فطرته. ولو فرضت هذه الصورة في الابن البالغ، لقلنا: لا فطرة على الابن البالغ، لأنه لا يفضل من قوته شيء، ولا تجب الفطرة على الأب أيضاًً، لسقوط النفقة عنه في يوم وجوب الفطرة. ثم قال: نفقة الصغير آكد، ولهذا تتسلط الأم على الاستقراض على الأب في غيبته، وعند امتناعه؛ لمكان نفقة الصغير. وهذا يفضي إلى تقرير النفقة في الذمة من جهة الاستقراض، ومثل ذلك لا يثبت للابن البالغ المعسر، فإن كانت نفقة الصغير آكد، عُدّت الفطرة جزءاً من النفقة.
وهذا بعيد عن القياس.
وقد قال شيخي: لا تجب فطرة الطفل في الصورة التي ذكرها، والقياس ما ذكره.
وتردد شيخي في جواز الاستقراض، وقال: القياس المرتضَى امتناعُ ذلك من الأم، إلا أن يسلطها السلطان، فيجري استقراضها مجرى استقراض السلطان.
فإن جرينا على ما ذكره أبو بكر، كان حكم الطفل في الصورة المذكورة مستثنىً في العكس، وظاهر المذهب عندي ما ذكره الشيخ أبو بكر، والأقيس ما ذكره شيخنا.
فهذا غرضنا الآن في جهة القرابة.
2203- فأما الزوجية، فالزوج يخرج فطرةَ زوجته، معسرة كانت الزوجة، أو موسرة، بناء على ما مهدناه تلقِّياً من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" والقول في تفصيل الزوجة الأمة، والمكاتبة، منصوص في أثناء الباب، فلم نذكره هاهنا.
فرع:
2204- الابن إذا أعف أباه، فزوجه، فعليه الإنفاق على زوجة أبيه، وهل يجب عليه إخراج الفطرة عنها، فعلى وجهين:
أحدهما: تجب، جرياً على إتباع الفطرة النفقةَ، والوجه الثاني- لا تجب، لأن الابن ليس أصلاً في التزام نفقة زوجة الأب، بل الأصل في التزامها الأب، بحكم الزوجية، ولكنها نثبتها وفاءً بالإعفاف، وإذا انحسم القياس، وتعين اتّباع لفظ الشارع، ولم يرد لفظه، والأصل أَنْ لا تُحملَ، فلا نوجب التحمل.
والأصح عندي إيجابُ الفطرة؛ لأندراج زوجة الأب المعسر فيمن يمونه الابن الموسر.
ومما يخرج على هذا الخلاف أن الأب المعسر إذا كان يتعفف بمستولدةٍ له، فالابن يُنفق عليها، وفي إيجاب الفطرة الخلاف المقدم.
فرع:
2205- الزوجة إذا كانت مخدومة، فعلى الزوج أن يَقيم لها خادمة تكفيها المَهْن والخدمة، ثم إن استأجر امرأة لخدمتها، لم يخرج الفطرة عن المستأجرة؛ فإن الأجرة عوض مَحْض، وليست من المؤن، وإن أخدمها الزوج واحدةً من مماليكه، ففطرتها تجب عليه بحكم الملك، وإن كان ينفق على أمة الزوجة لتخدمها، فقد قال بعض أئمتنا: على الزوج إخراج الفطرة عنها، نظراً إلى المؤنة. والأصح عندنا أن ذلك لا يجب، لأمرين:
أحدهما: أن نفقة الخادمة قد لا تجب؛ إذ لو حصل الغرض بمستأجرة، أو متبرعة، لكان ذلك ممكناً. والوجه الثاني- أن مؤونة الخادمة تتمة نفقة الزوجة وقد أخرج الفطرة عن زوجته.
2206- وأما جهة الملك، فعلى المولى فطرة عبيده، وإمائه، وأمهات أولاده، إذا كانوا من أهل الطُهرة.
ثم الذي ذهب إليه المحققون أن صدقة الفطر في المملوكين، لا يُنحى بها نحو زكاة الأموال، حتى يراعى في إيجابها تمكن السيد من مملوكه؛ فإن الماليةَ غيرُ مرعيةٍ في هذه القاعدة، ولهذا وجبت الفطرةُ بسبب الابن، والزوجة. والمالية مختلة، في المستولدة، والفطرة واجبة، ولا يمتنع إيجاب الفطرة، وزكاة التجارة، كما تقدم في باب التجارة.
وذهب بعض أصحابنا إلى تنزيل فطرة العبد منزلة زكاة الأموال، وبنوا على ذلك أحكاماً: منها- تخريج فطرة العبد المغصوب على القولين المذكورين في زكاة المال المجحود والمغصوب.
ومنها- أن الحول إذا حال على نصاب زكاتي، ولم يتمكن المالك من إخراج الزكاة، حتى تلف المال، فلا زكاة وإنما الخلاف في أنها وجبت، ثم سقطت، أو لم تجب أصلاً، ولو استهلّ الهلال، ولم يتمكن من إخراج الزكاة حتى تلف العبد، قال هؤلاء: تسقط الفطرة بتلفه، وهذا بعيدٌ جداً.
ثم من سلك هذا المسلك، قال: إن أوجبنا الفطرة بسبب العبد المغصوب، ففي وجوب إخراجها على التعجيل وجهان:
أحدهما: أن لا تعجَّل، كما لا تعجَّل زكاة المال المغصوب، وإن فرعنا على وجوب الزكاة.
والوجه الثاني- أنه يجب تعجيلها، والفارق بين البابين في ذلك، هو الذي أوجب عدم ترتيب صدقة الفطر على زكاة المال. وقياسهم هذا يقتضي تخريج هذا الخلاف في موت العبد قبل الإمكان، وكل ذلك تخليط.
والوجه القطع بايجاب الزكاة وتعجيلها.
فرع:
2207- إذا أبق العبد، والتفريع على المسلك الضعيف في أن المغصوب لا تجب الفطرة فيه على المولى، ففي الآبق على ذلك تردد: قال قائلون: إنه كالمغصوب؛ لأنه غير مقدور عليه، وقال آخرون: ليس كالمغصوب؛ إذ لا يد عليه.
ولا حاصل لهذا، نعم، لو خرج هذا على خلاف الأصحاب في أن الآبق هل، يستحق النفقة، لكان قريباً، وفيه خلاف سنذكره في النفقات، إن شاء الله تعالى.
ولا خلاف إذا كانت ناشزة في وقت وجوب الفطرة، فلا يلزم الزوج فطرتَها، فمن جعل إباقَ العبد كنشوز الزوجة في إسقاط النفقة، لم يبعد أن يُسقط الفطرة، ومن لا، فلا.
ولنا إلى هذا عودة، على أثر هذا الفصل.
وقد نجز عقدُ المذهب، في الجهات التي تقتضي إيجابَ الفطرة بسبب الغير، ولم نَرَ بسط القول في تفاصيل النفقات؛ فإنها مذكورة في موضعها.
2208- ونحن نختم هذا الفصل ببيان القول في أن الزكاة يلاقي وجوبُها ذمةَ من منه التحمل أم لا ملاقاة معه، وإنما الوجوب على المخاطب ابتداءً؟ والترتيب في ذلك يستدعي صورتين: إحداهما- أن الكلام إذا كان في الزوجة وهي موسرة، فإذا أوجبنا الفطرة على الزوج، فيظهر في هذه الصورة الخلاف في أن الوجوب هل يلاقيها؟ وربما كان يقول الإمام: فيه قولان مستخرجان من معاني كلام الشافعي رضي الله عنه:
أحدهما: أن الوجوب يلاقيها.
والثاني: لا يلاقيها، وعلى الزوج الفطرةُ ابتداء؛ لأنه صاحب زوجة، فيصير منفعته فيها كملكٍ في نصاب.
ثم يُبتنى على القولين أمران:
أحدهما: أن الزوج إذا كان معسراً، فهل يلزمها الفطرة، فإن جعلناها بمثابة نصابٍ في زكاة المال، فلا يلزمها شيء، وكأنها بالزوجية مستخرجة عن المخاطبة بالفطرة، وإن جعلناها متأصلةً، وقدرنا الزوج حاملاً عنها، فإذا عسر التحمل بالإعسار، استقر الوجوب عليها. فهذا أحد الأمرين.
والثاني: أن المرأة مع يسار الزوج إذا أخرجت فطرة نفسها من غير إذن الزوج، فهل يقع ما أخرجته الموقع؟ فعلى ما ذكرناه، فإن لم يُربط الوجوب بها، لم يُجْزىء ما أخرجت. وإن جعلناها الأصل، وقدرنا الزوجَ حاملاً، أجزأ ما أخرجت.
ثم لم يختلف أئمتنا في أن الزوج الموسر إذا أخرج الفطرة عنها، لم يحتج إلى مراجعتها، ولا حاجة إلى نيتها، ثم إلى استنابتها زوجَها، ووجوب الإخراج على الزوج يقطع هذا الخيال.
ولو نشزت المرأة وأسقطنا الفطرة عن الزوج، لمكان سقوط النفقة، فالوجه عندي القطع بإيجاب الفطرة عليها، في هذه الحالة، وإن حكمنا بأن الوجوب لا يلاقيها؛ لأنها بنشوزها بمثابة المخرجة نفسَها عن إمكان التحمل عنها.
فليفهم الناظر ذلك. وهذا يخالف الإعسار من الزوج، وما ذكرناه ليس خالياً عن احتمال. فهذا بيان إحدى الصورتين.
2209- فأما الأخرى، فمضمونها فطرة المملوك، والقريب الفقير، وقد قال طوائف من المحققين: نقطع بأن الوجوب لا يلاقي هؤلاء، أما العبد، فلا يقدر على شيء، وأما الفقير المعسر، فلا تجب عليه-لو لم يكن عنه متحمِّل- فطرة نفسه، فكيف يقال: إن الوجوب يلاقيه.
وما قدمناه من اختلاف القول في الزوجة الموسرة قد يتجه؛ من جهة أنها تلتزم فطرة نفسها لو لم يكن عنها متحمل.
وقال قائلون: الخلاف في هؤلاء، وأن الوجوب هل يلقاهم، كالخلاف في الزوجة. وهذا بعيد، ولولا لفظ الحديث، لما عددت إجراء الخلاف من المذهب في هذه الصورة، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فرض زكاة الفطر على الناس، على كل حر، وعبد» واللفظ تضمن إضافة الوجوب إلى العبيد والأحرار، فإن قيل: هل وراء التعلق باللفظ مسلك في المعنى؟ قلنا: الممكن فيه أن المولى في حكم الفطرة مادّة العبد ومتعلّقه، وكذلك القول في يسار القريب الملتزم للنفقة، بالإضافة إلى من يُخرج الفِطرة عنه، وإن غمض مُدرك المعنى في واقعة، عسر إجراؤه في التفصيل.
فهذا هو الضبط البالغ على حسب الإمكان.
2210- ثم فيما يجري فيه لفظ التحمل في الشرع مراتب، نذكرها لتُعِين على ضبط الأصول: فالمرتبة العليا: كتأدية الزكاة صَرْفاً إلى الغارم، وهذا تحمل على الحقيقة، وارد على وجوبٍ مستقر.
والمرتبة الثانية: في تحمل العقل، وقد اضطرب المذهب في أن الوجوب هل يلاقي القاتل؟ أم لا؟ ويظهر الحكم بإثبات الملاقاة من جهة أنه المتلف، والتحمل تخفيف عنه، والذي يظهر ذلك أن العواقل لو افتقروا، تعلق الغُرم بمال القاتل، وهذا ظاهر جداً في أن الوجوب يلاقيه.
فإن قيل: فإذ قد قطعتم بهذا، فأي أثرٍ لقول من يقول: الوجوب لا يلاقيه؟ قلنا: أثره أن الإبراء لو وُجه عليه، مع تحمل العقل، لغا. ولو فرض ذلك ممن القاتل وارثه، لم يكن وصيّة لوارث، ويجوز أيضاًً أن يقال: هو مع العاقلة كالبعيد منهم مع القريب، ثم لا توجيه على البعيد مع إمكان مطالبة القريب.
والمرتبة الثالثة: ما نجز الفراغ منه في صدقة الفطر. ثم هذا ينقسم إلى صورتين، والتحمل في إحداهما أخفى منه في الأخرى، كما سبق تقريره. ومن ضعف التحمل في هذه المرتبة، أن المتحمل لو عجز بعد الالتزام، فلا عَوْد إلى من منه التحمل، بخلاف ما ذكرناه في الدية.
والمرتبة الرابعة: ما سيأتي في كتاب الصوم، في كفارة الوقاع، فإنا نقول: الزوج قد يتحمل عن زوجته الكفارة، وهذا أبعد المراتب؛ إذ فيها أمران غامضان:
أحدهما: يوجد في المرتبة المتقدمة، وهو تحمل القُرَب.
والثاني: إيجاد الكفارة.
وليس الأمر في صدقة الفطر كذلك، فإن الإنسان يُخرج الفطرة عن نفسه، ثم عمّن يمونه.
فرع:
2211- إذا قلنا: الزوج هو المخاطب بفطرة الزوجة، ثم كان معسراً، فنفقة الزوجة قارّة في ذمته، إلى أن يجدها، وليس الأمر في فطرة الزوجة كذلك، وذلك أن الفطرة لا تكتفي بالذمة ما لم يقترن بها إمكان، ولهذا لا تجب الفطرة على من كان معسراً حالة الإهلال عن نفسه، فالقول في فطرة زوجته بهذه المثابة.
فصل:
قال الشافعي "وإنما يجب عليه أن يزكي عمن كان عنده منهم في شيء من نهار آخر شهر رمضان... إلى آخره".
2212- في وقت وجوب الفطرة أقوال: أحدها: وهو-المنصوص عليه في الجديد- أن الفطرة تجب مع أول جزءٍ من الليلة الأولى من شوال، ووجه ذلك أن الصدقة منسوبة إلى الفطرة عن رمضان، وهذا يتحقق بانقضاء شهر رمضان.
والقول الثاني-وهو المنصوص عليه في القديم- أن الفطرة تجب مع أول جزء من يوم العيد، وهو طلوع الفجر، وذلك مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، ووجهه أن أثر الفطر إنما يظهر بالوقت القابل للصوم، وعلى الجملة، فيوم العيد في الفطر وتعينه، كأيام رمضان في تعيّن الصوم.
والقول الثالث:حكاه صاحب التلخيص- أن الزكاة لا تجب إلا بالوقتين جميعاًً، وهذا لا يكاد يتجه.
التفريع على الأقوال:
2213- إن حكمنا بأن وقت الوجوب الجزء الأول من ليلة العيد، فلو اشترى مملوكاً بعده، أو ولد له ولد بعده، فلا فطرة عليه فيهما، ولو كانا موجودين ملكاً وولادة في الوقت الأول، ثم زال الملك، ومات المولود، لم تسقط الزكاة.
وإذا فرعنا على القديم، أجرينا هذه التفاصيل مع طلوع الفجر من يوم العيد.
وإن اعتبرنا الوقتين، قلنا: لو ملك عبداً مع الجزء الأول من ليلة العيد، ثم زال ملكه قبل طلوع الفجر، فلا زكاة، وهذا لا خفاء به.
ثم نفرع على اعتبارهما فرعين:
أحدهما: أن من ملك عبداً مع الجزء الأول من ليلة العيد، ثم مات قبل طلوع الفجر، وخلفه وارثه، وطلع الفجر، فلا زكاة؛ إذ لم يجتمع الوقتان في ملك مستمر. قال الشيخ أبو علي في شرح الفروع: من أصحابنا من أوجب الزكاة تفريعاً على قول للشافعي قديم، في أن حول الوارث يبتني على حول المورّث، وهذا ضعيف.
والفرع الثاني- أن من ملك عبداً مع الوقت الأول، فزال ملكه قبل طلوع الفجر، ثم عاد، مَطْلع الفجر، والتفريع على اعتبار الوقتين، ففي وجوب الزكاة وجهان يلتفتان على عود ملك المتّهب، بعد زواله في حكم الرجوع في الهبة. وكذلك إذا فرض هذا في الصداق في حكم الرجوع إلى عين الصداق، عند فرض الطلاق قبل المسيس.
2214- ثم اتفق الأئمة على أن الاعتبار بوقت الوجوب، فإذا حكم به، ثم طرأ الإعسار، فالزكاة مستقرة في الذمة، وملتزمها مُنْظَر إلى الوجود، والتمكن، ولو لم يكن من أهل الالتزام في الوقت الأول، ثم استجمع الصفاتِ المرعيةَ بعد ذلك، فلا وجوب.
والمذهب أن من صدر منه موجِب كفارة، وكان معسراً، وعاجزاً عن إقامة البدل، ببدنه، فلا تسقط الكفارة. وإن حكمنا بأن الاعتبار في صفتها بحالة الوجوب، فقد ذكر صاحب التقريب وجها أنها لا تجب، قياساً على زكاة الفطر، وأخذاً من حديث الأعرابي كما سنرويه في موضعه. والفرق على ظاهر المذهب أن الكفارة شبيهة بقيم المتلفات، وجبران ما تحدثه الجناية من نقص، فلم تسقط، وقرّت في الذمة، وليست زكاة الفطر كذلك، بل هي شبيهة بزكاة المال، إذا انقضى الحول والنصاب ناقص.
فصل:
قال: "وإن كان عبد بينه وبين آخر... إلى آخره"
2215- تجب فطرة العبد المشترك على الشريكين، خلافاً لأبي حنيفة، وأصلنا خارج على القاعدة الممهدة في إتباع الفطرة المؤنةَ، فإذا وجبت المؤونة على الاشتراك، وجبت الفطرة كذلك. وأبو حنيفة خالف أصله في إتباع الفطرة الولايةَ؛ فإن ولاية الملك ثابتة على الاشتراك ولا زكاة. وقد قال: لو اشترك رجلان في عبدين، لكل واحد منهما النصف من كل عبد، فلا زكاة وإن كان يبلغ ما يخاطب به كل واحدٍ صاعاً، لو قدر ثبوته، وقالوا: لو اشترك رجلان في ثمانين من الغنم، فعلى كل واحد منهما شاة، والأشقاص تقدر أشخاصاً، فجرى مذهبهم في العبد المشترك خارجاً عن قوانينهم، واستمر قولنا على الأصل.
2216- ثم لا يخلو العبد المشترك من أحد أمرين:
أحدهما: أن لا يكون فيه مهايأة بين الشريكين، والثاني: أن تجري مهايأة بينهما، فإن لم تجر مهايأة، فالأكساب والمؤن على الاشتراك، ما يعم منها، وما يندر، وصدقة الفطر تجري كذلك مشتركة.
ثم المذهب يتفصل فيما يخرجه كل واحد منهما، إذا اعتبرنا قوت كلّ مخرِج، وقد اختلف قوتاهما. وهذا سيأتي بعد ذلك.
2217- وإن جرت مهايأة وتواضع الشريكان على أن يستعمله كل واحد منهما في يوم، فأصل المذهب أن المهأياة لا تلزم، وسيأتي شرحها، في كتاب الرهن-إن شاء الله تعالى- وحقيقتها ترجع إلى مفاصلة في المنافع، وينفرد كل واحد بمنفعته في نوبته، ثم المنافع تنقسم فؤائدها، فيما يجري على العادة في الاستفادة، فحكم الاختصاص به جارِ على حكم المهايأة، ثم المؤنة الراتبة تنزل على المنافع، فمن اختص بمنفعة في نوبةٍ، اختص بالتزام مؤنة العبد في تلك النوبة؛ فإن المؤنة تتبع المنافع، وإليه أشار الرسول صلى الله عليه وسلم، في المرهون؛ إذ قال: "الرهن محلوب ومركوب، وعلى من يحلبه ويركبه نفقته".
ولئن اختلف المذهب في نفقة العبد الموصى بمنفعته أبداً، وكان الأصح توجه النفقة على الورثة لملكهم الرقبة، فالسبب فيه مفارقة الملك جهة المنفعة، ولا خلاف أن استحقاق المنفعة لو كان إلى أَمدٍ، فالنفقة على مالك الرقبة.
ونفقة الأمة المزوّجة على زوجها وإن كان الملك للسيد المزوِّج، تنزيلاً للنكاح في الأمة، منزلة النكاح في الحرة. وما أشرنا إليه فيه إذا افترق الملك واستحقاق المنفعة، فأما إذا اجتمعا، فلا شك أن النفقة تتبع المنفعة، وملكَ الرقبة.
وأما الأكساب النادرة كصيدٍ يتفق من عبدٍ ليس اكتسابه بالاصطياد، أو كقبول هبةٍ ووصيةٍ، فالمذهب الأصح أنها لا تختلف بالمهايأة، بل تكون مشتركة أبداً؛ والسبب فيه أن المهايأة مقصودها تفاصُلٌ في المنافع، وإنما يُحتمل ذلك في المعتاد منها المعلوم، وما يندر لو دخل تحت المهايأة، لجر دخولُه جهالةً في المفاصلة.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنها داخلةٌ تحت قضية المهايأة، مَصيراً إلى أن التفاصُل وقع في المنافع، والأكسابُ نتائجها، فلا مبالاة بالندور فيها.
ثم كما اختلف الأئمة في الأكساب النادرة، اختلفوا في المؤن النادرة، جرياً على إتباع المنفعة المؤنةَ، في محل الوفاق، والخلاف.
2218- فإذا تمهد ذلك، بنينا عليه أمر الفطرة، وقد اختلف أئمتنا فيها، فذهب بعضهم إلى أنها من المؤنة النادرة، فتخرج على الخلاف المقدم، وقال آخرون: هي من المؤن المعتادة؛ لأنها وظيفةٌ معلومة الوقت والمقدار، وهي أقرب إلى الضبط من النفقة؛ من جهة أن بناءها على الكفاية، وهي تختلف باختلاف الرغابة والزهادة. ومن قال بالأول، انفصل عن هذا بأن قال: يومُ العيد لا يتعين في السنة؛ من جهة اختلاف الأهلة؛ فلا يدرى أن العيد في أي نوبة يقع، وأيضاًً، فالمؤنة الراتبة هي التي تقيم البدن، وتديم التمكن من المنفعة، وليس كذلك زكاة الفطر. فإن جعلناها نادرة خرجت الآن على الاختلاف، وإن جعلناها راتبة، فالفطرة على من يقع وقتُ الوجوب في نوبته ولم يختلف العلماء في أن العبدَ المشترك لو جنى، لم يختص الأرش بالتزام أحد الشريكين، لمكان المهايأة، وإن جرت الجناية في نوبته؛ والسبب فيه أن الجناية يتعلق أرشها بالرقبة، والملك مشترك، ولم يجر فيه تفاصُل، وآية ذلك: أن المولى لا يلزمه الفداء، بل يخاطَب بالخِيَرة كما لا يخفى.
2218/م- ولو كان نصف الشخص عبداً، ونصفه حراً، فالفطرة واجبة، وترتيب المذهب في تفصيل ما بين مالك الرق وقدر الحرّية، كتفصيله بين الشريكين في العبد المشترك.
ولو فرعنا على أن الفطرة تجب بإدراك الوقتين: غروب شمس النهار الأخير، وطلوع فجر العيد، فاتفق وقوع أحد الوقتين في إحدى النوبتين، ووقوع الآخر في الأخرى، فإن كنا نرى لزوم الفطرة على الاشتراك، فلا إشكال، وإن حكمنا بتأثير المهايأة فيها، فنقطع القول في هذه الصورة بثبوتها مشتركة؛ من جهة أنه لم ينفرد واحد منهما في نوبته بموجب الفطرة.
فصل:
وقال: "وإن باع عبداً على أن له الخيار... إلى آخره".
2219- من اشترى عبداً بشرط الخيار، ثم استهل الهلال في زمان الخيار، فالقول في زكاة الفطر يبتنى على الملك. وقد تفصل المذهب في حصول الزهو في زمان الخيار، والقول الجامع الآن أن زكاة الفطر يُنحى بها نحو زكاة المال في جميع ما قدمناه، إلا أن زكاة الفطر أحق بمجامعة الملك الضعيف، والاكتفاء به؛ من جهة أنها لا تعتمد المالية اعتماد زكاة المال، ولذلك اتجه القطع بإيجاب صدقة الفطر في العبد المغصوب وكان تنزيله على القولين المذكورين في زكاة المال بعيداً!
2220- وقد ذكر الشافعي بعد هذا وقوعَ العبد موصىً به، ونحن نرى ضمّ ذلك الفصل إلى هذا، فنقول: إذا أوصى رجل بعبدٍ لرجل، ثم مات الموصي، فاستهل الهلال، وجرى قبول الوصية أو ردها، فالقول بوجوب الفطرة يستدعي تقديمَ مراسم الكلام في الملك، فإذا مات الموصي، ففي الملك الموصى به ثلاثة أقوال- أحدها: أن الملك يحصل للموصى له بموت الموصي، فإن قبل الموصى له الوصية، استمر الملك، وإن ردَّها، انقطع الملك من وقت ردّه.
والقول الثاني- أن الملك يحصل للموصى له بالقبول.
والقول الثالث: أن الملك موقوف، فإن قبل الوصية، تبينا حصول الملك له مع موت الموصي، وإن رد، تبينا أن الملك لم يحصل أصلاً. وتوجيه الأقوال وتفريعها يأتي في كتاب الوصايا- إن شاء الله تعالى.
2221- ومما تمس الحاجة إليه في غرض الفصل أنا إذا قلنا: الملك يحصل بالقبول، ففي الملك للموصَى به ما بين موت الموصي إلى اتفاق القبول وجهان: أحدهما: أن الملك فيه للورثة، والثاني: أن الملك فيه مستصحب للميت في ذلك الزمان.
ونحن نفرع بعد ذلك الزكاة، فنقول: إن قبل الموصَى له الوصية، والتفريع على أن الملك يحصل له بموت الموصي، وقد جرى الاستهلال بين الموت والقبول، فزكاة الفطر تجب على الموصى له. وهذا يناظر ما قد تقدم في زمان الخيار، إذا فرعنا على أن الملك للمشتري، وفرضنا انفراده بالخيار. وإذا كان كذلك، فوجوب الزكاة مقطوع به، أعني زكاة المال، وإذا قطعنا بوجوبها، فزكاة الفطر أولى بالوجوب. وقد ذكرنا وجهاً لصاحب التقريب في أن الزكاة لا تجب في الملك في زمان الخيار، وإنما قال ذلك إذا كان الخيار لهما؛ فإن ذلك يقصر تصرّفَ المشتري، وقصور التصرف قد يمنع وجوبَ الزكاة في قول مخرّج على المغصوب.
وملك الموصَى له على القول الذي نفرع عليه يناظر الانفراد بالخيار، مع ثبوت الملك، من جهة أنه قادرٌ على التصرف والوصول إليه من غير معترض عليه.
وإن قلنا: الملك موقوف، فالزكاة تابعة له، وقد قبل الوصية فتبينا وقوع الاستهلال في ملكه.
وإن قلنا: الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة على الموصَى له؛ فإن الاستهلال مقدّم على حصول الملك.
ثم إن حكمنا على هذا القول بأن الملك قبل القبول للورثة، وقد جرى الاستهلالُ في ملكهم، ففي وجوب الزكاة عليهم وجهان:
أحدهما: أنها تجب لمصادفة الوقت الملكَ.
والثاني: لا تجب؛ فإن الملك المحكوم به تقدير في حقوقهم، وقد ذكرنا في زكاة الثمار في مثل هذه الصورة، أن الأصح نفيُ الزكاة عنهم، وزكاة الفطر أحرى بالوجوب، لما مهدناه.
فإن حكمنا بأن الملك قبل القبول مستدام للميت، فالذي قطع به الأئمة أن الزكاة لا تجب؛ فإن الحكم بوجوبها ابتداءً إيجاب قُربة على الميت؛ وهذا بعيد. وفي بعض التصانيف وجهان:
أحدهما: ما ذكرنا.
والثاني: أن الزكاة تجب؛ فإن معتمدها الملكُ، والإرفاقُ على أصل الشافعي؛ ولذلك انقدح وجوب الزكاة على الصبي، والمجنون، وإن كان لا يثبت تكليفهما.
وهذا الخلاف يخرج عندي على مسألة تردد فيها الإمام، والدي وهي أن الزكاة هل تجب في نصاب يعزى ملكه إلى حَمْل، فالذي ذهب إليه الأئمة أن الزكاة لا تجب فيه؛ فإن حياة الحَمْل غيرُ موثوق بها، وكذلك وجودُه، فإنا وإن قضينا بأن الحَمْل يعرف، فالحكم يتعلق به عند انفصاله، وهذا قبل الانفصال غير موثوق به.
وذكر شيخي وجهاً في وجوب الزكاة إذا انفصل؛ فيخرج على ذلك ما حكيناه الآن من إيجاب الزكاة على الميت، ولا فصل بأن يقال: الحمل إلى الوجود مصيره؛ فإن الاستصحاب في حق الميت مستند إلى وجوبٍ محقق سابق؛ فيعتدل الأمران في نظر الفطن.
فهذا تفريعُ الزكاة مع تصوير القبول من الموصَى له.
2222- فأما إذا ردّ الوصيةَ، فإن فرعنا على أذن الملكَ حصل له بالموت، ثم انقطع بالرد، فالذي ذكره الأصحاب وجوبُ الفطرة إذا جرى الاستهلال قبل رده، بناء على الملك.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر: أن الفطرة لا تجب في صورة الرد، لضعف الملك، وإفضاء الأمر آخراً إلى الرد، وهذا ضعيف جداً، سيّما في صدقة الفطر.
وإن فرعنا على أن الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة على الموصَى له، وإن قلنا: الملك للورثة، فيعود الخلاف، ووجوب الزكاة عليهم في صورة الرد أولى؛ فإن الذي كنا نقرره في الملك، أفضى إلى التحقق بسبب الرد، وإن قلنا: الملك للميت، فالكلام كما مضى في نفي الزكاة عنه، أو إيجابها على الوجه البعيد، ولا ينقدح فصلٌ في ذلك بين الرد والقبول.
فهذا ما أردناه في ذلك.
2223- ولو كانت المسألة بحالها، ولكن مات الموصي، واستهل الهلال، ثم مات الموصى له قبل الرد والقبول، فهذا فرعه ابن الحداد في صدقة الفطر.
ونحن نقدم على غرضه أصلين:
أحدهما: في الملك، فنقول: ورثة الموصَى له يتخيّرون بين الرد والقبول تخيّرَ الموصى له لو بقي، خلافاً لأبي حنيفة، فإن قبلوها، فالملك على الأقوال، ففي قولٍ هو حاصلٌ بنفس موت الموصي، وقبول الورثة يقتضي إلزاماً و تثبيتاً، وفي قولٍ الأمر على التبيّن، فإن قبلوا، بان أن الملك حصل بنفس موت الموصي، وفي قولٍ يحصل الملك بالقبول، فعلى هذا يستعقب قبولُ الورثةِ الملكَ، ثم يثبت الملكُ للموصَى له الميت في ألطف لحظة، وينتقل إرثاً إلى ورثته القابلين، وسبيله سبيل التركة، يُقضى منها ديون الموصَى له، وتنفذ وصاياه، ثم لا نقول: يتقدم الملك على قبولهم، مستنداً إلى وقت موت الموصى له؛ فإن قول القبول لا يحتمل إلا استعقابَ الملك.
فهذا ما أردناه من القول في الملك.
والأصل الثاني- في بيان المذهب فيمن يملك عبداً، لا يملك سواه، واستهل الهلال، فهل يلزمه إخراج الفطرة عنه، وقد تردد الأئمة في ذلك: فذهب الأكثرون منهم إلى إيجاب الفطرة عن العبد، وإن كان لا يملك مولاه غيرَه؛ فإن المعتمد في المال المعتبر في إيجاب الفطرة أن يفضل عن القوت يوم العيد مقدارُ الفطرة، والعبد في نفسه فاضل عن القوت.
ومن أصحابنا من قال: لا تجب الفطرة عن العبد؛ فإن الفاضل ينبغي أن يكون مالاً غيرَ ما منه الإخراض.
ومن أصحابنا من فصل بين أن يكون العبد مستغرَقاً بحاجة الخدمة، وبين أن لا يكون كذلك، فإن كان مستغرقاً بالحاجة، فلا فطرة فيه لتعذر تقدير بيعه، وإن لم يكن الرجل محتاجاً إلى الخدمة، فالعبد مال كسائر الأموال.
وهذه المسألة فيها وقفة: أما من أوجب الفطرة، فلا التفات له إلاّْ على الذمة، ووجود المالية في الرقبة، وأما من يلتفت على تقدير صرف العبد إلى هذه الجهة، فقد يقال له: مقدار الصدقة من الرقبة إن كان ينقص من المالية، فالزائد عليه يجب أن يُخرَج قسط من الفطرة عنه، تخريجاً على إيجاب الفطرة عن العبد المشترك، وهذا لابد منه.
ولكن الذي أطلقه الأصحاب نفيُ الزكاة في وجه، ولست أرى لذلك وجهاً، وقد نص الشافعي على أن الطفل إذا كان لا يملك إلا عبداً، وكان مستغرَقاً بحاجة خدمته، فعلى الأب الموسر إخراجُ الفطرة عنه، وعن عبده، فأما إخراجُ الفطرة عنه، فبين؛ فإن العبد من حيث كان مستغرقاً بحاجته كالمعدوم، وأما إيجابه الفطرة عن العبد، فيدل على أصلين:
أحدهما: أن الابن إذا أعفَّ أباه بزوجةٍ، فقد ذكرنا في فطرتها وجهين، فإذا أوجب الشافعي إخراج الفطرة عن عبد الطفل، اتجه به وجوب إخراجها عن زوجة الأب، وحاجةُ الإعفاف، ثَم كحاجة الخدمة هاهنا.
وليس ينحسم عندي تقدير الخلاف في عبد الطفل، على ما تمهد في زوجة الأب، ويدل، نص الشافعي على أنه لا يقدّر بيع العبد، ولا بيع شيء منه، ولا يتغير أمر الفطرة بهذا التقدير، ويتطرق إلى محل النص الإمكان، فليتأمل الناظر ما انتهى إليه.
هذا منتهى الغرض في الأصلين الموعودين، قبل كلام ابن الحداد.
ونقول الآن:
2224- إذا أوصى بعبدٍ لإنسانٍ، ومات الموصِي، واستهل الهلال، ومات الموصَى له، وقبل ورثتُه، فإن فرعنا على حصول الملك بموت الموصي، أو على قول الوقف، فقد تحققنا أن الاستهلال وقع في ملك الموصَى له، فتجب الفطرة. قال ابن الحداد: إنما تجب إذا مات موسراً، ولم يُقدَّر ملك العبد يساراً مغنياً، تفريعاً على أضعف الوجوه المتقدّمة فيمن لا يملك إلا عبداً.
وإن فرعنا على أن الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة في تركة الموصَى له ولا على ورثته؛ فإن الاستهلال سابق على حصول الملك، وهل تجب الفِطرة على ورثة الموصي، أو الموصي نفسه؟ فيه التفصيل المقدم في صدر الفصل.
2225- ومن تمام البيان في هذا أن ما ذكرناه مفروض فيه إذا وقع الاستهلالُ بعد موت الموصي، وقبل موت الموصَى له.
فأما إذا وقع الاستهلال بعد موت الموصى له، وقبل قبول الورثة، فإن فرعنا على أن الملك يحصل بموت الموصي، فالأصح أنه لا فطرة في تركة الموصَى له؛ فإن سبب الوجوب وجد بعد موته، فلو أوجبنا الفطرة، لانتسبنا إلى إثبات إيجابها ابتداءً على ميت.
وقد ذكرنا وجهاً عن بعض التصانيف أن الزكاة في مثل هذه الصورة قد يلقى وجوبُها الميتَ ابتداء.
وإن وقع الاستهلال مع موت الموصَى له، فهو كما لو وقع بعد موته. وباقي التفريع لا خفاء به.
2226- ثم إن ابنَ الحداد أجرى في بعض الاستشهاد مسألةً من العتق نحن ذاكروها: وذلك أنه قال: لو أوصى لرجل ببعض أبيه أو ابنه، ومات الموصي، ثم مات الموصَى له قبل القبول، ثم قبل وارثه، فإن صح القبول، وعتَقَ المقبول، فإن كانوا ورثوا عنه مالاً سواه، قُوِّم باقيهِ في تركة الميت، وإن لم يكن ترك الميت شيئاًً، اقتصر العتق، ولم يقوّم عليه، وكلام ابن الحداد يجرّ أموراً يقع بيانها في منازل: فمما تقع البداية به أن الأئمة ذكروا وجهين في أن قبول الورثة هل يصح في هذه الصورة؟ أحدهما- أنه يصح، وهو القياس، اعتباراً بقبول سائر الوصايا.
والثاني: لا يصح منهم القبول؛ إذ لو صح، لعتق الشقص المقبول عن الميت الموصَى له، وثبت الوَلاء له، وصَرْفُ العتق إلى الغير، وإثبات الولاء له بعيد، وليس ذلك كقبولهم سائر الوصايا؛ فإن الملك مقدر للموصَى له، ثم ينتقل منه إليهم، فاستقرار الملك عليهم.
وهذا يناظر اختلافَ القول في أن من مات وعليه كفارة يمين، فاختار الورثة من الخلال الثلاث الإعتاق، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان: والأصح أن الورثة لو تبرعوا بإعتاق عبدٍ عنه، لم يقع الموقع، ومما يشابه ما ذكرناه بعضَ المشابهة أنه إذا وُهب لطفل من يعتِق عليه، فهل يقبله وليُّه؟ فيه اختلاف-وسيأتي بيان هذه الأصول في كتاب العتق- والأصح تصحيح القبول، وتنفيذ العتق، على تفصيلٍ سنذكره على أثر ذلك، والسبب فيه أن قبول الوارث حالٌّ محل قبول المورِّث، فليصح منه ما يصح من قبول الموصَى له.
فهذا بيان حكم منزلة المنزلة الثانية في البحث عن تنفيذ العتق في جميع المقبول. والتفصيل فيه إذا فرَّعنا على أن الملك يحصل بموت الموصي مثلاً، فالموصَى له إما أن يقدر صحيحاً إذ ذاك، أو يقدر مريضاً مرض موته، فإن كان صحيحاً، ثم جرى القبول من الورثة، فينفذ العتق في كمال القبول لا محالة، وإن كان مريضاً مرض الموت، فهذا يخرج على أن المريض لو وُهب منه من يعتق عليه، فقبله، فالعتق فيه من ثلثه، أو من رأس ماله؟ وفيه اختلاف مشهور، وهذا بعينه يخرج فيما نحن فيه.
المنزلة الثالثة في البحث عن سريان العتق بعد تقدير نفوذه في المقبول- قال ابن الحداد: يختلف ذلك بيسار الموصَى له وإعساره، وزعم أنه إن كان موسراً، قُوّم العبد على تركته، وإن كان معسراً، اقتصر العتقُ على المقبول، إذا لم يخلف غيرَه، وهذا الذي ذكره قد وافقه عليه بعضُ الأصحاب، ونزّلوا قبول الوارث منزلة قبول الموصَى له.
وليقع الفرض فيه إذا كان صحيحاً عند موت الموصي، والتفريع على الوقف، أو على حصول الملك بموت الموصي، والأصح ما اختاره الشيخ أبو علي، وهو أن العتق لا يسري أصلاً، وإن خلف تركة وافيةً؛ لأن الميت في حكم المعسر، وما خلفه الميت مستغرَق باستحقاق الورثة، ولم يختلف علماؤنا في أن الرجل إذا قال: إذا مت، فأعتقوا عني نصف عبدٍ، فإذا نفذت وصيتُه، لم يَسْر العتق، وما ذكره الأولون من أن قبول الورثة بمثابة قبوله في حياته خطأ من وجهين:
أحدهما: أن قبوله صادر عن اختياره، بخلاف قبول الورثة، وما يعتبر فيه اختياره في حقه، لم يقم فيه قبول الورثة مقام قبوله، وليس ذلك كقبول سائر الوصايا؛ فإنهم إنما يقبلونها في حقوق أنفسهم؛ فيجوز أن يقال: ورثوا حقَّ القبول لأنفسهم، والعتق النافذ على الميت ليس من حقوق الورثة، وأيضاًً فإنه إذا قبل في حياته، فله حكم اليسار إن كان يملك مالاً، ولا يثبت حكم اليسار فيما يقع بعد موته بدليل المسألة التي ذكرناها من الوصية بإعتاق نصف العبد.
ثم قيد ابن الحداد تصوير مسألة العتق بأن قال: إذا أوصى له بنصف أبيه، فلم يعلم به حتى مات، وقد أجمع الأئمة على أن التقييد بعدم العلم غير مفيد، ولو علمه، كان كما لو لم يعلمه. وقد يجري لابن الحداد تقييدات في الصور وفاقية، لا حاجة إليها، هذا منها.
فصل:
قال: "ولو مات بعد ما أهل شوال، وله رقيق، فزكاة الفطر عنه، وعنهم في ماله مبدّأة على الدَّين... إلى آخره".
2227- قال الأئمة: إذا اجتمعت الديون، وزكاة الفطر، والكفارات المالية، ففي المسألة أقوال:
أحدها: أن الحق المالي الواجب لله، مقدم على ديون العباد.
والثاني: أن الديون مقدمة.
والثالث: أنها مستوية، تزدحم وتتساوى في التضارب بالحصص.
2228- توجيه الأقوال: من قدم حقوق الآدميين استدل بابتنائها على الضِّنّة، وبعدها عن السقوط، واستشهد باجتماع القصاص، وقطع السرقة في اليد الواحدة، فإن القصاص مقدمٌ وفاقاً، ومن قدّم حق الله، احتج أولاً بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "دين الله أحق بالقضاء"، وقال من جهة المعنى: الحقوق المالية مصرفها الآدميون، فكأنها حقوق لهم، وهي معتضدة بحق الله تعالى، ويخرج على ذلك القصاص؛ فإنه عقوبةٌ محضة زاجرة، وكذلك حد السرقة ولا مصرف لقطع السرقة، على نحو مصرف الزكاة، ومن سوّى أضرب عن الترجيح، وقابل مستمسك القائلين بعضه ببعض، ورأى الأمر مفضياً إلى الاعتدال.
هذا في زكاة الفطر والكفارات.
وأما زكاة المال، فقد تمكن فرضها بتعلقه بالذمة بعد الموت، وذلك بأن تجب الزكاة، ويتحقق الإمكان، ويتلف المال، ثم يموت من عليه الزكاة، فالقول في الزكاة في هذه الصورة كالقول في زكاة الفطر، فأما إذا تعلقت الزكاة بالمال، فمات، واجتمعت الديون، فالأصح تقديم زكاة المال؛ فإنها متعلقة بعين المال على حالٍ، وإنما التردد في كيفية التعلق، على ما سبق تقريره.
وقال بعض أئمتنا: إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فالأقوال الثلاثة في التقديم والتأخير جارية. وهذا ضعيف مزيف.
فصل:
قال: "ولو ورثوا رقيقاً، ثم أهلّ شوال، فعليهم زكلاته بقدر مواريثهم... إلى آخره".
2229- من مات وخلف عبداً وورثة، ولم يخلف ديناً، فاستهل الهلال قبل قسمة التركة، فالفطرة تجب في ذمم الورثة؛ لمكان اشتراكهم في الرقيق.
ولو كانت التركة مستغرقةً بالدين، فظاهر النص وجوبُ الزكاة، من غير فرق بين أن يباع العبد في الدين، أو لا يتفق بيعه فيه، ونقل الربيع عن الشافعي أنه قال: على الورثة إخراج الزكاة عن العبيد إن بقوا لهم، وهذا بمفهومه دليل على أنهم إن بيعوا، فلا زكاة على الورثة.
وترتيب القول فيه أن الملك في أعيان التركة حاصل للورثة، وإن كانت مستغرقةً بالديون، وهذا هو المذهب.
وذكر بعض أصحابنا قولاً بعيداً: إن الدين المتعلق بالتركة يمنع حصولَ الملك للورثة، وهذا القول ذكره الصيدلاني وشيخي، وغيرهما. ثم رأيت الأمر على تردد في تفريع هذا القول الضعيف، فالذي إليه صَغْوُ معظم المفرعين أن الأمر موقوف، فإن صُرفت أعيان التركة في الديون، تبينا أن الورثة لم يملكوها، وإن أبرأ أصحاب الدين الميتَ، أو أدى الورثة الدين من خواص أموالهم، واستبقوا التركة لأنفسهم، فيتبين أنهم ملكوا التركة بموت المورث. وما نقله الربيع مشعر بذلك؛ فأنه قال: "عليهم الزكاة في العبيد إن بقوا لهم".
وقال قائلون: الملك يثبت للورثة عند زوال الديون من غير تبين وإسناد، وهذا في نهاية الضعف.
ثم مما يُحتاج إلى التزامه أن الورثة إذا لم يملكوا التركة، فيجب القضاء بتبقيتها على تملك الميت؛ إذ لا سبيل إلى الحكم بالملك فيها للغرماء، ولا يستقيم على مذهبنا إثبات ملكٍ لا مالك له، فإذا لاحت المقدمة، قلنا بعدها: إن جرينا علي الأصح في إثبات الملك للورثة، فالوجه القطع بوجوب زكاة الفطر عليهم، لثبوت ملكهم عند الاستهلال، وقد قطع أئمتنا بأن فطرة العبد المرهون واجبة على الراهن، وسيد العبد الجاني، وعندي أن انسداد التصرف بالرهن لا ينقص عن انسداده بغصب العبد، وقد ذكرنا طريقين في العبد المغصوب، وعادة أئمة المذهب إذا ذكروا شيئاًً ضعيفاً أن لا يعودوا إليه.
وإن قلنا: إن الورثة لا يملكون التركة، فلا زكاة عليهم، ولا زكاة على الميت أيضاًً، لما تقدم، وفيه الوجه الضعيف، فلا عود إليه بعد هذا.
2230- قال شيخنا أبو بكر: إذا ورث الرجل مَنْ يعتِق عليه، ولكن التركة مستغرَقة بالديون، لم يختلف أئمتنا في أنّه لا يعتِق عليه. هكذا قال. فإن قيل: هلا خرجتم هذا على إعتاق الراهن العبدَ المرهون؟ قلنا: قد قطع شيخي والأئمة بأن الوارث إذا أعتق عبداً في التركة المستغرقة بالديون، فنفوذ عتقه خارج على نفوذ عتق الراهن، وكذلك السيد إذا أعتق عبد عبده المأذون، وقد أحاطت به الديون، فنفوذ العتق خارج على أقوال عتق الراهن، فإذا كان كذلك، فتعليل ما ذكره الصيدلاني أنا لو نفذنا العتق، لألزمناه القيمة، وذلك بعيدٌ من غير صدَر اختيار منه، وإذا أنشأ العتقَ، فقد اختار إزالة المالية، فضمن حقوقَ الغرماء، وشاهد ذلك أن من اشترى النصف من أبيه، وعَتَقَ عليه، سرى العتقُ إلى باقيه على شرط اليسار، ولو ورث النصف من أبيه عتَقَ عليه ما ورثه، ولا سريان؛ إذ لو سرّينا، لغرمناه قيمة الباقي من غير اختيارِ منه، فنفوذ العتق في عبد التركة من غير إنشاء عتق يضاهي السريان، وليس الاحتمال منقطعاً مع ذلك، لحصول الملك، ولكن لم أجد إلا ما نقله الصيدلاني، والتعويل على النقل.
فصل:
قال: "ومن دخل عليه شوال، وعنده قوتُه، وقوتُ من يقوته... إلى آخره".
2231- وجوبُ الفطرة على الإنسان يعتمد الإسلامَ، وكونَه من أهل الملك التام، ولا يَشترط استجماعَ شرائط الخطاب، فتجب الفطرةُ في مال الظفل والمجنون.
ومضمون الفصل شيئاًن بعد ذلك:
أحدهما: تفصيل القول في اليسار المعتبر في الفطرة، مع ردّ الكلام إلى التفرد بالالتزام عن النفس.
والثاني: القول في إخراج الفطرة عن الغير إذا اجتمع جمعٌ، ويتصل به القول فيه وفي غيره إذا ضاق الفاضل عن الوفاء بالجميع.
2232- فأما اليسار الذي اعتبره الأئمة في الفطرة، فليس معناه ملك النصاب الزكاتي، خلافاً لأبي حنيفة.
ثم الذي ذكره الأئمة في تفسير اليسار، أنهم قالوا: إذا فضل عن قوت المرء وقوت من يقوته صاعٌ، أخرجه، ولا شك أنه لا يحسب عليه دَسْت ثوبٍ، يليق بمنصبه، ومروءته، والذي أراه أن المعتبر فيما لا يحسب في هذا الباب، هو المعتبر في الكفارة، وسنذكر في الكفارات المرتَّبة أنا نُبقي على من التزم الكفارة المرتَّبة عبدَه المستغرَقَ بخدمته، فلا يلزمه إعتاقه عن كفارته، وإذا كان هذا قولَنا فيما يتعلق به حاجةُ الخدمة، فالمسكن أولى بالاتفاق.
وسيكون لنا في هذا فضلُ بحض إذا انتهينا إليه.
والقدر المغني هاهنا، تشبيه يسار هذا الباب بيسار الكفارات.
فإن قيل: المسكنُ والعبدُ مبيعان في ديون الآدميين وفاقاً، وقد حكيتم اختلافَ القول في تقديم ديون الله، وديون الآدميين، فما وجه ذلك؟ قلنا: الديون تجب بطرق في التزامها من فعلٍ أو قول، ووضعُها أن تُلتزم عند وجود أسبابها، والفطرة تجب بإيجاب الله تعالى، وكذلك الكفارات، فتوقَّف وجوبُها على الشرائط المرعية شرعاً، ثم إذا وجبت، فالنظر على التسوية، أو على التقديم، يقع بين واجبين.
فإن قيل: المحجور عليه إذا كان عليه كفارات، وقد اطّرد عليه الحجر، فالكفارات على التراخي، وأداء الدين على التضييق، فهل تُجرون الأقوال والحالة هذه؟ قلنا الأقوال في التقديم تُلفَى مرسومة للأصحاب في ازدحام الديون في التركة، وفي إجرائها في حالة الحجر تردد عندنا، أما إن لم نجرها، وقدمنا ديون الآدميين، فهو واضح، وإن أجريناها، فالمرعيُّ حق من عليه الكفارة؛ فإنه قد يحاول تبرئةَ الذمة منها، والتخلصَ من غَرَر الفوات، وهذا التردد عندي قريب من اختلاف القول في أن الديون المؤجلة هل تحل بالحجر حلولَها بالموت؟
ولولا أني وجدتُ رمزاً للأصحاب في أن عبدَ الخدمة غيرُ معتد به في الفطرة، لما قطعت قولي في أن المسكن غيرُ محسوبٍ؛ من جهة أن الفطرة لا بدل لها، بخلاف الكفارات. نعم، الإطعام في المرتبة الأخيرة لا بدل له، ولكن لا يمتنع عودُ القدرة على الصوم.
وقد ذكرنا أن الصحيح أن عبد الخدمة في حق من أخرج صاعاً. عن نفسه، يجب إخراج الفطرة عنه، فهو إذن غير محسوب في فطرة المولى، وهو معتد به في الفطرة المضافة إليه، على المذهب الظاهر.
فهذا ما أردناه في ذلك.
ثم المسكن وعبد الخدمة بعد ثبوت الفطرة مبيعان في الفطرة؛ فإنها بعد الوجوب التحقت بالديون.
2233- وديون الآدميين تمنع وجوبَ الفطرة وفاقاً، وإن رأينا تقديم الفطرة عليها بعد الثبوت، فليتنبه الناظر لذلك، وليفصل بين شرط الثبوت ابتداء، وبين القول في الازدحام بعد الوجوب، وإنما قلت ما قلته آخراً في الديون، من إجماع الأصحاب على تقديم النفقات على القريب والبعيد على الفطرة، فما لم يفضل عن قوته، وقوتِ كل من يقوته- فاضل، لم يجب إخراج الفطرة. ولو ظن ظان أن دين الآدمي على طريق لا يمنع وجوب الفطرة، كما لا يمنع وجوب الزكاة في قول، كان مُبعداً.
هذا منتهى نظري.
2234- والنظر بعد ذلك في الفاضل، فإن فضل صاع من الجنس المجزىء، أخرجه، وإن فضل أقل من صاعٍ، فقد ظهر الخلاف في ذلك: فذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب إخراجه، كما لا يجب إعتاق نصف الرقبة في الكفارة، ولا إطعام خمسة من المساكين، ولا كِسوتهم.
ومن أصحابنا من قال: يجب إخراج الفاضل وإن قل قدره. وهذا هو الأوجه.
وتهذيب المراتب في هذه القاعدة أن نقول: كل أصل ذي بدل، فالقدرة على بعض الأصل لا حكم لها، وسبيل القادر على البعض كسبيل العاجز عن الكل، والمستثنى من هذا الضبط وجود المقدار من الماء الذي لا يكفي لتمام الطهارة، فيه قولان. وسبب الخلاف ورود الماء مطلقاً في الشرع من غير توقيف وتقدير، ثم التيمم مشروط في لفظ الشارع بانعدام جنس الماء، وهذا لا يتحقق في الكفارات المرتبة.
وأما الفطرة، فلا بدل عنها، فالوجه إيجاب الميسور منها. وهذا كالساتر للعورة، فإن لم يجد ما يستر تمام العورة، لم يجز له ترك المقدور عليه. وكذلك إذا انتقصت الطهارة بانتقاص بعض المحلّ، فالوجه القطع بالإتيان بالمقدور عليه، وقد ذكر بعض الأصحاب فيه اختلافاً بعيداً، وهو قريب من التردد فيما نحن فيه، ومن انتهى في الكفارة المرتبة إلى إطعام ستين مسكيناً، فلو وجد طعام ثلاثين، تعين عليه إخراجه عندي قطعاً، وكذلك لو وجد طعامَ مسكينٍ واحدٍ فإن طعام كل مسكين في حكم كفارة. نعم، لو وجد بعضَ مُدٍّ، فقد يتطرق إليه احتمال.
فهذا آخر ما أردناه في أحد مضموني الفصل، وهو الكلام فيما يخرجه المرء عن نفسه، وشرائط الوجدان واليسار.
2235- فأما القول في ازدحام أقوامٍ، فللأصحاب فيه خبط عظيم، ونحن لا نألوا جهداً في التهذيب أولاً، ثم نختتم الكلامَ بالتنبيه على الحقائق، التي من الذهول عنها تثور العمايات، والقول في هذا يتعلق بفصلين:
أحدهما: في فطرة الرجل في نفسه، مع تقدير إخراجه الفطرة عن غيره، والفاضل صاع واحد.
فلتقع البداية بذلك.
2236- فنقول: إذا فضل عن قوت الرجل وقوت من يقوته صاع، وله زوجة، فالمذهب الأصح أنه يتعين عليه إخراج الصاع الفاضل عن نفسه؛ تأسياً بقوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول». وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لو أراد إخراج الفطرة عن زوجته، جاز؛ فهو بالخيار بين أن يُخرج عن نفسه، وبين أن يُخرج عنها.
وحكى العراقيون وجهاً أنه يتعيّن عليه إخراجه عن زوجته، وهذا بعيد، معدود من غلطات المذهب.
أما من خيّر، فلعله تلقَّى مذهبه من مذهب الإيثار في النفقة، لمّا رأى الفطرة متلقاةً من النفقة. وهذا ساقطٌ؛ من جهة أن الفطرة قُربة، ولا إيثار في القُرب. ولست أعرف خلافاً في أن من وجد من الماء ما يكفيه لطهارته، لم يكن له أن يؤثر به رفيقه ليتطهر به. وما تخيله الذاهب إلى التخير من أمر النفقة لا أصل له؛ فإنا لم نُتبع الفطرةَ النفقةَ عن معنى معقول، حتى نلتزم تنزيل الفرع على الأصل، إن كان ينتظم ذلك، وإنما اتبعنا فيه الخبرَ.
ومما يتعلق بهذا أنه لو فضل صاعٌ، وله أب أو ابن، فلا أحد يصير إلى تقديم أحدٍ من هؤلاء على النفس، وإنما الوجه البعيد في الزوجة؛ من جهة تأكد نفقتها و مضاهاتها الديونَ. نعم. الأوجه وجوب تقديم النفس، وذكر الأصحاب أجمعون وجهاً آخر في التخيير.
ثم لا فرق في هذا المقام بين القريب والبعيد، فإنا إذا تعدّينا النفسَ، وجوزنا الإخراج عن الغير، ولا مسلك له إلا تخيّل الإيثار، ولا اعتراض على المؤثر في تقديم ولا تأخير.
2237- وممّا يجري في هذا المقام أنا إذا جوّزنا له الإيثار، فلو أراد أن يفضَّ الصاع على جَمْع، فهل، يجوز ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: لا يجوز، وهو الأصح.
والثاني: يجوز، وقد قدمنا أن الفاضل لو كان أقلّ من صاع، فالأصح إيجاب إخراجه، والصحيح هاهنا منع الفض؛ إذْ إخراجُ مقدارٍ كامل عن شخص ممكن، والوجه الآخر غيرُ بعيد أيضاًً.
فهذا قولنا في ترديد الصاع بين الرجل في نفسه، وبين من يتعلق به.
2238- فأما إذا فضل صاعان، فأخرج أحدهما عن نفسه، وازدحم الباقون في الآخر، فالقول في ترتيبهم، وتقديم الأولى منهم يطول. ونحن نقول: لتقع البداية بالنسب والسبب إذا اجتمعا كاجتماع الزوجة والابن. وقد اختلف الأئمة في التقديم، فقال بعضهم: الزوجة مقدمة، وقال آخرون: القريب مقدم، وقال آخرون: لا فرق، وهو متخير.
أما تقديم الزوجة، فمتجه من تأكد النفقة.
وأما تقديم القريب، فلست أرى له وجهاً، ولم يذكره إلا بعضُ المصنفين. وأما التخيير، فصاحبه لا ينظر إلى المراتب في هذا المقام، وإنما يُجريه على مذهب الإيثار، كما ذكرناه في الفصل الأول المفروض في صدقته وصدقة غيره. وهذا ضعيف في هذا المقام؛ فإن الإيثار إنما يُفهم في ترك الرجل حقَّ نفسه. أما حيث وقع الفرض في فراغه عما عليه، فلا انقداح للإيثار مع تفاوت الرتب وذكر الصيدلاني في هذا المقام وجهاً آخر، وهو أنه يفض الصاع عليهما، وهذا ركيك مع تفاوت الرتب ولا ينقدح إلا حيث ينقدح الإيثار والتخيّر، فأما أن يُثبت هذا الوجه، مع الاعتراف بتفاوت الرتب، فلا وجه لذلك.
نعم، إذا ادعى صاحب هذا الوجه أن الزوجة مع القريب في رتبة واحدة، فيجوز أن يَبتني على ذلك الفضَّ والقسمة، ولست أرى لاعتقاد الاستواء وجهاً؛ فإن الفطرة تبعُ النفقة، ونحن لا نسوّي بين الزوجة وبين القريب في النفقة.
فأما إذا اجتمع قريبان، والفاضل صاع، فكيف التفضيل؟ الذي أراه في ذلك أن الفطرة في هذا المقام تترتب ترتب النفقة، فمن كان أولى بالنفقة، فهو أولى بالصاع الفاضل، ولن تجد في المغمضات أصلاً أقوم من إتباع النفقة المؤنةَ. ثم القول في ازدحام الأقارب في النفقة مستقصىً في كتابها.
ولا يجري عندي في هذا المقام وجه التخيير أصلاً، وقد أجراه طوائفُ من أصحابنا. فإذن التخيير على ضعفه لا اتجاه له إلا في المرتبة الأولى، حيث يؤثر المرء غيره على نفسه، ثم إذا تفاوتت الرتب، فكما لا ينقدح التخيير، لا ينقدح الفضُّ والقسمة، فالتخيير والفض قريبان. وقد يجري الفضُّ في مقام آخر سننبه عليه إن شاء الله تعالى.
2239- فإذ نبهنا على الأصل، فنأتي بما صح فيه النقل. فإذا اجتمع الأب والابن، ففيه أوجه: من أصحابنا من أوجب تقديمَ الابن؛ نظراً إلى تأكد نفقته في الصغر، ومنهم من أوجب تقديم الأب لحرمته، ومنهم من خيّر، والتخيير إن خرج، فله مسلك آخر في هذا المقام، وهو اعتقاد استوائهما في النفقة. ووجه الفضّ ينقدح الآن على مذهب الاستواء إن قدرنا البعضَ مجزئاً، ثم المخيَّر قد يجعل التقسيط من خيرته، ويتجه مع اعتقاد الاستواء إبطال التخيير، وتجويز التقسيط أو إيجابه.
ولو اجتمع الأب والأم، فقد ذكروا أوجهاً أُخَر: أحدها: الأب أولى، والثاني: الأم أولى، لتأكد الوصاية برعايتها، والثالث: هما سواء، ثم يجري التخيير، والفض، على نحو ما تقدم.
ولو اجتمع الأب والأم والابن، جرت الوجوه، وزاد وجهٌ لازدياد العدد، فهذا ما ذكره الأئمة.
والأصل ما ذكرتُه من تنزيل الفطرة أولاً على النفقة، فإن اقتضت النفقةُ ترتيباً، اتبعناه، وإن اختلفا في النفقة، انتظم بحسبه اختلافٌ في الفطرة. وإن اتفق على استواءٍ المرتبةُ، انقدح التخيير، والفض على وجهين: أحدهما على الوجوب، والآخر على الخيرة.
2240- وقد نجز الفصل، وبقي وراءه غائلةٌ لابد منها، وهي أنا إن قلنا: الصدقة التي يخرجها المرء عن غيره هو متحمل فيها، والوجوب يلاقي من منه التحمل، فمن آثار ذلك أنه يجب عليه تعيين من يخرج عنه بالقصد، وإن كان لا يجب عليه مراجعته، فهذه استنابة شرعية قهرية.
وإن قلنا: الوجوب لا يلاقي إلا المخرِج، فلا معنى للتقديم والتأخير. نعم إن عين من قلنا: إنه مؤخر أفسد بتعيينه ما أخرجه، وكان هذا كما لو نوى إخراج الزكاة عن بضاعةٍ له بالريّ، فإذا هي تالفة. وقد أوضحنا هذا في باب نيةِ الزكاة بما فيه أكمل مقنع.
هذا منتهى الفصل تحقيقاً وتلفيقاً والله أعلم.
فصل:
2241- ذكر الشافعي في آخر هذا الباب فصولاً تتعلق بصفات من يلتزم الفطرة، وأحكام من يتحمل عنه الفطرة، ونحن نرتبها على مساقٍ يحويها إن شاء الله تعالى.
فنقول: الغرض ينتجز بالكلام في الصفات المعتبرة فيمن يلزمه إخراج الفطرة عن نفسه، وفيمن يلزمه إخراج الفطرة عن غيره، وفيمن تتحمل الفطرة عنه، وإذا عسر التحمل، فكيف الحكم فيه؟
2242- فأما القول في صفات من يُخرج الفطرة عن نفسه، فلابد وأن يكون محكوماً له بالإسلام، فليس على الذمي فطرة، ويشترط أن يجد في وقت الوجوب شيئاًً فاضلاً عن قوته، وقوتِ من يمونه.
ثم تردد الأئمة في صفة ملك الشخص، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لابد وأن يكون من أهل كمال الملك، وزعموا أنه يراعى في وجوب الصدقة على المرء كمالُ ملكه فيما يخرجه، كما يشترط في وجوب الزكاة كمال الملك في النصاب المزكى، فعلى هذا لا تجب الفطرة على المكاتب في نفسه، كما لا تجب الزكاة في أمواله.
هذا هو المذهب الظاهر، فلا فرق إذن بين الزكاتين، في اشتراط الإسلام، والملك التام، وإنما يفترقان في أن النصاب معتبر في زكوات الأموال؛ فإن الزكواتِ حقوقُها، فاشترط أن تبلغ مبلغاً يحتمل المواساة، وزكاة الفطر حق البدن؛ فاكتفى فيها بالوجود. ثم كما لا تجب الزكاة على المكاتب في نفسه، لا يجب على المولى إخراج الزكاة عنه للحيلولة الواقعة بينهما، المقتضية سقوط نفقته عنه.
وذكر ابن سريج قولاً مخرَّجاً إن المكاتب يلزمه إخراج الفطرة عن نفسه، ولم يشترط هذا القائل الملك التام فيما يخرجه، بناء على ترتب الفطرة على النفقة.
وحكى الشيخ أبو علي في شرح الفروع وجهاً عن بعض أصحابنا، أن السيد يجب عليه إخراج الزكاة عن مكاتبه، ووقوع الحيلولة بالكتابة كوقوعها بالغيبة والإباق.
وهذا بعيد لم يحكه غيرُه.
وبنى الأئمة القول المنصوص والمخرَّج، على اختلاف القول في أن المكاتب لو تبرع بشيء من ماله بإذن مولاه، فهل يصح تبرعه، وفيه قولان، ووجه البناء أن من نفَّذ تبرعَه، وجّه ذلك بأن الحق لا يعدوهما، وقد اجتمع في التبرع ملك المكاتب، وإذن مَنْ ضعف الملك بسبب رعاية حقه، ثم صدقة الفطر في وضعها واجبةٌ، فصار تقدير الخطاب بها شرعاً بمثابة الإذن الصادر من السيد في التبرع، وأيضاًً فالمكاتب مملوك السيد، وهو مستقل بنفسه بحكم الكتابة، فالأمر دائر بينه وبين مولاه، فلم يتجه إسقاط الفطرة، فإذا لم يكن بد من إثباتها، فلا تجب على السيد لما ذكرناه، ويتعين لالتزامها المكاتب، فرجع حاصل القول في الصفات إلى اعتبار الإسلام، ووجدان ما يُخرج. والأمر في اشتراط تمام الملك على التردد. والذي ذكرناه نصّاً وتخريجاً.
2243- أما ما يراعى في صفات من يُخرج الفطرة عن الغير، فمن راعى تمامَ الملك في إخراج الفطرة عن النفس، راعاه في إخراجها عن الغير، فكما لا يجب على المكاتب إخراج الفطرة عن نفسه، لا يجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته، ومن أوجب على المكاتب إخراج الفطرة عن نفسه، أوجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته، ولم يعتقد فصلاً بين الإخراج عن النفس، وبين التحمل عن الغير، ولا فرق بينهما باتفاق الأئمة.
2244- فأما الإسلام، فقد اختلف قول الشافعي في أن الذمي إذا ملك عبداً مسلماً، أو كان له ابن مسلم فقير، هل يلزمه إخراج الفطرة عنه؟ فأحد القولين أن ذلك لا يلزمه، والثاني يلزمه.
والقولان منطبقان على أن الوجوب يلاقي الشخص، ثم يتحمل عنه المتحمل، وفيه التردد المتقدم، فإن قلنا: الوجوب لا يلاقيه، فلا تجب الفطرة على الذمي بسببه، كما لا تجب عليه الفطرة عن نفسه، وإن قلنا: الوجوب يلاقي الإنسان، ثم يتحمل المتحمل عنه، فوجوب الفطرة على ذلك يعتمد إسلام العبد والقريب، ثم الذمي يتحمله تحمل النفقة.
وكان يحتمل أن يقال: على قول الملاقاة والتحمل قولان:
أحدهما: ما ذكرناه، والثاني: أنه لا يتحمل لكفره، ويمتنع التحمل بما يمتنع الالتزام به. هذا متّجه كذلك.
ثم إذا قلنا: على الذمي إخراجُ الفطرة عن المسلم، فالنية لا تصح منه، ولم يصر أحدٌ من أصحابنا إلى تكليف مَنْ منه التحمل النية. وكيف يُقدَّر ذلك، وقد يكون صغيراً، فلا خروج لهذا إلاّ على استقلال الزكاة بمعنى المواساة، كما تخرج الزكاة من مال المرتد، وقد تقدّم نظائر هذا.
هذا بيان صفات المتحمل.
فأما الأسباب التي يقع التحمل بِها، فقد مضت مستقصاة في أول الكتاب.
فرع:
2245- ولو أسلمت ذمية تحت زوجها الذمي، ثم استهل الهلال في تخلف الزوج، ثم أسلم في العدة، ففي وجوب النفقة لها في زمان التخلف قولان، وتفصيل. فإن لم نوجبها، لم نوجب الفطرة على الزوج، وإن أوجبناها، ففي الفطرة قولان، كالقولين في الذمي يملك عبداً مسلماً.
2246- فأما القول فيمن منه التحمل، فلابد من إسلامه حقيقة أو حكماً، ولا يشترط أن يكون من أهل الاستقلال، لو قدر له مال؛ فإن المال لا يليق بصفات من يتحمل عنه، والإسلام إنما شرط لوقوع الفطرة طهرة، واتفق علماؤنا على أن المسلم لا يلزمُه الفطرة بسبب عبده الكافر؛ وذلك أنا إن قدَّرنا ملاقاةَ الوجوب، فالكافر لا يلاقيه وجوب الفطرة، وإن لم تقدر الملاقاة، فلا يمتنع أن يكون وجوب الزكاة مشروطاً برعاية صفاتٍ فيما منه الإخراج، كالنُّصب، وصفاتٍ مخصوصة فيها، فكما اختص وجوبُ الزكاة بمالٍ مخصوص، جرى الأمر كذلك في الفطرة، وقد يكون المتحمل عنه على نعت الاستقلال، لولا سبب التحمل، فإن المرأة الموسرة كذلك، والزوج يتحمل عنها. والضابط في التحمل اتباع المؤنة كما تمهد.
فرع:
2247- إذا أبان الزوج زوجته الحرة، وكانت حاملاً، فنفقتها واجبة، وتجب فطرتها عند الاستهلال، إذا بقيت كذلك، جرياً على ما مهدناه، من إتباع الفطرة النفقةَ.
وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب: أنا إن أوجبنا النفقة للحامل، فالفطرة واجبة، طرداً للقياس، وإن أوجبناها للحمل، فلا تجب؛ فإن فطرة الحمل غيرُ واجبةٍ، والنفقة إن صرفت إلى الحامل، فالمقصود الحمل، والأصح الأول.
2248- ونحن الآن نتكلم في اختلال سبب التحمل بأسباب، ثم نوضح الحكم فيمن منه التحمل، فإن اختل التحمل بفقرِ من يقدّر متحملاً، لو كان غنياً، وكان من منه التحمل فقيراً، أو رقيقاً، فإذا زال التحمل، والشخص الذي يعزى التحمل إليه ليس من أهل الاستقلال، فينتظر من ذلك سقوط الفطرة.
فأما إذا عسر التحمل، ولم يعسر تقدير الزكاة من جهةٍ أُخرى، فهذا هو الغرض.
نصّ الشافعي على أن زوج الحرة إذا كان معسراً، فالأولى لها أن تخرج الفطرة عن نفسها، إذا كانت موسرة، قال: ولا يبين لي أن ذلك عليها.
ونصَّ على أن السيد إذا زوَّج أمته من إنسان، فأعسر، فلا فطرة عليه. قال: ويجب على السيد إخراج الفطرة عن أمته المزوّجة، فقال الأكثرون في المسألتين قولان، نقلاً، وتخريجاً؛ فإن الحرة الموسرة من أهل التزام الفطرة لو لم تكن مزوجة، والسيد يلتزم فطرة أمته إذا لم تكن مزوجة، فعُسْر التحمل من الزوج، يُخْلِف قدرةَ الزوجة، والتزامَ السيد بسبب الملك.
وذهب بعض الأصحاب إلى محاولة الفرق، ولا يكاد ينقدح، ولكن الذي ذكروه أن الحرة في النكاح أثبت من الأمة، ولذلك يحتكم الزوج عليها-إذا وفاها حقوقها-بالمسافرة، واستغراق ساعات الليل والنهار، في حق المستمتع، والأمر في الأمة على خلاف ذلك، فلما ضعف تسلّطُ الزوج على الأمة، بقي حق التحمل بحق الملك، وهذا تكلّف. ومثله لا يوجب قطعاً.
ولكن الأولى التنبيه على أمثال ذلك بترتيب الخلاف، على الخلاف.
2249- ونحن الآن ننظم مسائل يجري فيها الاختلاف، ويترتب البعض منها على البعض.
فالحرة الموسرة إذا أعسر زوجها، فهل عليها إخراج الفطرة عن نفسها؟ فعلى قولين. وإن كان زوجها مكاتباً، وقلنا: لا يلزمه الفطرة عن نفسه وزوجته، فالحرة هل تُخرج عن نفسها؟ فعلى قولين مرتبين على الصورة الأولى، والأخيرة أولى بإلزامها؛ لانحسام إمكان التحمل، فكأن لا سبب في التحمل. و إذا زوج المولى أمته من معسر، فوجوب الفطرة على السيد على قولين مرتبين على إعسار زوج الحرة، وهذه الصورة أوْلى بالالتزام لضعف الزوجية، وقوة الملك.
فإن زوجها المولى من عبدٍ أو مكاتب، فقولان مرتبان على الصورة الأخيرة، وهذه الصورة أولى بإيجاب الفطرة لتناهي الضعف في الزوج والزوجة، واستمرار الملك.
فرع:
2250- إذا زوج السيد أمته من حُر وسلّمها إليه، وجبت النفقة، والفطرة على الزوج. وإن كان لا يسلمها إلا بعد الفراغ عن الخدمة، ففي وجوب النفقة خلافٌ، سيأتي ذكره في النفقات، والفطرة مرتبة على النفقة، فإن أوجبنا النفقة على الزوج، أوجبنا الفطرة عليه، وإن لم نوجب النفقة، لم نوجب الفطرة، وعلى السيد إخراجُها عن أمته، فإنا إذا لم نوجب النفقة على الزوج، أوجبناها على السيد.
ومن أصحابنا من قال: النفقة بينهما، فالفطرة إذن بينهما كالعبد المشترك بين شريكين.
فرع:
2251- العبد إذا تزوج بإذن مولاه، فإنه ينفق على زوجته من كسبه، ولا خلاف أنه لا يخرج الفطرة عنها، فإن قال قائل: كسب العبد ملك السيد، فإذا جعلتموه متعلَّقاً لنفقة زوجته، فاجعلوه متعلَّقاً لفطرتها؛ فإن الفطرة تنحو نحو النفقة، قلنا: النفقة تلزمُ ذمةَ العبد، ولكن لما كان النكاح بإذن المولى، اقتضى الإذنُ في الالتزام إذناً في الأداء، ولا محل إلى ذلك أقرب من كسب العبد. أما الفطرة؛ فإنها على من يلزمه النفقة، والعبد ليس من أهل التزام الفطرة، والسيد لم يلتزم نفقةَ زوجةِ عبده، حتى تتبع الفطرةُ النفقةَ. فليفهم الناظر ما يمرّ به.
2252- ولو ملَّك السيد عبدَه شيئاًً-على قولنا بصحة التمليك- فليس للعبد أن يستقل بإخراج فطرة زوجته عنه، ولو قال له: ملكتك ذلك، وأذنت لك في إخراج الفطرة، فقد ذكر شيخي في ذلك وجهين، وهو عندي يترتب على ما تقدم في زوجة المكاتب، وما نحن فيه أولى بأن لا يجب؛ فإن العبد لا استقلال له أصلاً، وليس من الفقه النظرُ إلى نفوذ تبرع العبد على قول الملك، قولاً واحداً، مع اختلاف القول في تبرع المكاتَب، فإن ذلك لسبب يشير إلى استقلال المكاتب، وضعف إذن المولى.
فإذا استهل الهلال، ثم رام السيد أن يرجع، لم يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الاستحقاق إذا ثبت، فلا رَفع له، وهذا بمثابة لزوم تعلق النفقة بالكسب.
والوجهُ عندنا القطع بأنه لا يجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته.
ولو ملكه مالاً، والتفريع على ثبوت الملك، وأذن له في أن يخرج فطرةَ نفسه عما ملكه، فلا نجعله ملتزماً للفطرة، حتى يتوجه عليه الخطاب بها؛ فإن ذلك من مؤن الملك. والسيد هو الأصل في توجه الخطاب عليه، فلا يجد سبيلاً إلى إزالة الخطاب عن نفسه، ولو أخرج العبد بإذن المولى الفطرةَ عما ملكه، كان ذلك رجوعاً من السيد في ملكه، ورداً له إلى جهة الفطرة.
فرع:
2253- إذا غاب العبدُ، وانقطع خبره، واستهل الهلال، فهل يلزمه إخراج الفطرة عنه؟ ذكر الأئمة في ذلك قولين:
أحدهما: أنها لا تجب؛ لأن الأصل براءة الذمة.
والثاني: أنها تجب؛ فإن الأصل بقاؤه، وهذا مستدام إلى تحقّق وفاته.
وعلى نحو هذا ذكر الأئمة قولين في أن العبد الذي انقطع خبره إذا أعتقه المظاهر عن كفارته، فهل يحل له الإقدام على الوقاع أم لا؟ ففي قولٍ يحل؛ بناء على الأخذ بحياته، وفي قولٍ لا يحل بناء على اشتغال ذمته بالكفارة، والمصير إلى اشتراط ظهور براءتها في حل الوطء.
وقال الأصحاب في هذا النوع: إنه من تقابل الأصلين، وهذا مما يستهين به الفقهاء، وهو جزء من مغمضات مآخذ الأدلة الشرعية، وكيف يستجيز المحصل اعتقادَ تقابل أصلين لا يترجح أحدهما على الثاني، وحكماهما النفيُ والإثبات، وهذا لو فرض، لكان متاهةً ومحارة، لا سبيل إلى بتّ قولٍ فيها في فتوى أو حكم.
والوجه في أمثال ذلك ما نصفه، فنقول: إن غاب غيبة قريبة، ولم يظهر انقطاعُ خبره، فالزكاة تلزم، والعتق مُجزىء، وإن كنا لا نستيقن بقاءه، وهو على مائة فرسخ، فلا خلاف في هذه الصورة.
وإن انقطعت أخباره لعائق يقتضي مثلُه قطعَ الخبر، فالأمر عندي كذلك، وإذا انقطعت أخباره، ولا عائق يوجب قطعها، فهذا علَم على الموت، ولكن لا يجوز الحكم به في تحقيق الموت، ولا تقسم به المواريث، ولكن إذا اعتضد هذا العلَم بأصلٍ في الشرع، وهو براءة الذمة، كان ذلك مغلباً على الظن في طريق الاجتهاد، أن الذمةَ لا تشغل، وعدم ثبوت الموت متمسك للقول الآخر، فإذا لم يثبت الموت بطريق شرعي، تعين الحكم بالحياة، فإذن هذا مقام في الظنون والاستدلالات، ولابد من رد هذه المسألة إلى الأصل المقدّم في العبد المغصوب، فإن قلنا: لا زكاة فيه، فما نحن فيه أولى بنفي الزكاة، وإن أوجبنا الزكاة في المغصوب، ففي الذي انقطع خبره قولان.
وسأجمع في ربع المعاملات إن شاء الله جميعَ المسائل التي خرّجها الفقهاء على تقابل الأصلين.
ومما يجب التنبّه له أن خبر الحياة إذا انقطع، فقد يظن الظان أن الموت لو كان، لاستفاض الخبر به، فإذا لم يستفض، لم يتحقق القول بغلبة الظن في الموت، وهذا تلبيس؛ فإن الذي لا يُرْمق قد لا يتحدث بموته، ولكنه يعتني بإنهاء أخبار نفسه، فإذا انقطعت، كان ذلك مسلكاً في الظن بموته.
فصل:
قال: "ولا بأس أن يأخذها بعد أدائها... إلى آخره".
2254- غرض الفصل أن من فضل عن قوته صاع، فأخرجه، فلا يمتنع أن يأخذ الصدقةَ، وذلك أنه لا يستدعي وجوبُ هذه الصدقة غِنىً ينافي المسكنةَ والفقر، والزكاة المنوطة بالغنى وهي زكاة المال قد تجب على من يحلّ له أخذ الصدقة؛ وذلك أن الصدقة تؤخذ بجهاتٍ لا يشترط فيها المسكنة، فإن من لزمه دين عن حَمالة يؤدي ما تحمّله من الزكاة، وإن كان غنياً، وابن السبيل يلتزم زكاة ماله الغائب، ويخاطب بإخراجها، ويأخذ من سهم أبناء السبيل، وفي العامل كلام سيأتي. فهذا وجه.
وقد يملك الرجل عشرين ديناراً وهو من المساكين، فلا يمتنع على الجملة التزامُ الزكاة وأخذُها.