فصل: باب: ما على الأولياء وإنكاح الأب البكرَ بغير إذنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما على الأولياء وإنكاح الأب البكرَ بغير إذنها:

7849- إذا دعت الحرة البالغة العاقلة وليّها إلى تزويجها من كفء، وجبت عليه إجابتها، لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} [البقرة: 232] قال الشافعي: هذه أبين آية في كتاب الله تعالى دلالة على أنه ليس للمرأة أن تتزوج دون الولي؛ لأنها لو تمكنت من تزويجها نفسها، لما كان لمنع الولي وعضله معنى.
ولا تصلح عبارتها بعقد النكاح مطلقاً، فلا تزوج نفسها، ولا غيرها بولاية، ولا ملك، ولا نيابة، لا موجبة، ولا قابلة.
وقال أبو حنيفة: تلي عقد النكاح بنفسها، فإن تزوجت مَن لا يكافئها، اعترض الولي على عقدها.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا زوجت نفسها، انعقد موقوفاً على إجازة الولي، وإن زوّجها الولي انعقد موقوفاً على إجازتها.
وقال داود: الثيب تزوج نفسها، والبكر لا تزوج نفسها.
وقال مالك: الوضيعة تزوج نفسها، والشريفة لا تزوج نفسها.
7850- وإذا أقرّت المرأة بالزوجية، فإن قالت: زوجت نفسي، فإقرارها مردود؛ لأنها لا يصح إنشاؤها له، ولو قالت: زوجني وليّي، قبل في الجديد، ويردّ في القديم، إلا أن تكون مع الزوج في بلد غربة، فيحكم به؛ لأنه يعسر استصحاب الولي في أسفارهما، فلو عادا إلى الوطن، لم يتبع ذلك الإقرار بالنقض. وقال شيخه: لا حكم له؛ تفريعاً على القديم، وزعم أن إقرارها في الغربة غير مقبول ولا يفرّق بينهما، للضرورة التي أشرنا إليها. قال: وإن اتجه هذا في القياس، فهو بعيد من المذهب. ولا شك أنه لا ينقض القضاء المتصل به.
وإن فرعنا على الجديد، فأقرت بالنكاح مطلقاً، انبنى على سماع دعواها بمطلق النكاح، فإن لم تصح دعواها المطلقة، لم يصح إقرارها المطلق.
وإن قالت: زوجني وليي، فإن كان غائباً، لم نتوقف على حضوره، بل تسلم إلى المقرّ له، وإن كان الولي حاضراً، فالوجه مراجعته، فإن صدّقها، فهو المراد، وإن كذبها، لم يقبل القفال إقرارها؛ لأنها مقرة على الولي. وقيل: يقبل إقرارها؛ لأنها أثبتت حقاً عليها لزوجها، فهي كالمقرة بالرّق لغيرها.
وإن قلنا: تكذيب الولي يبطل إقرارها، فجرى في غيبته، سلمت إلى الزوج، فإذا عاد الولي، فكذبها، فيخرج إلى أنّا إذا قبلنا إقرارها في الغربة، ثم عادت إلى الوطن، هل يستدام ذلك القبول؟ وإن قلنا: نقبل إقرارها على الإطلاق، فقال الولي: "لا ولي لك غيري، وما زوّجتك"، فهو على الخلاف الذي ذكرناه، والأظهر أنه لا يؤثر تكذيبه.
7851- أما الولي إذا أقر بتزويجها، فإن لم يملك إجبارها، لم نقبل إقراره عليها؛ لأن رضاها شرط يجب اعتباره.
وإن كان مجبراً لها، فإن أقر في حالة يملك إنشاء العقد عليها، قُبل إقراره؛ لأن ملك الإقرار يتبع ملك الإنشاء نفياً وإثباتاً، وإن كان قد زال عنها الإجبار، فزعم أنه زوجها حال بكارتها، فإقراره مردود، وإن أضافه إلى حالة يملك إجبارها؛ لأن الاعتبار بحالة الإقرار.
فإن وكّل الولي المرأةَ أن توكّل رجلاً في تزويجها، فإن قال: وكّلي عن نفسك، لم يصح. وإن قال: وكّلي عنّي، فوجهان مبنيان على أن وكيل الوكيل وكيله، أو وكيل الموكِّل.
7852- فإذا زوجت المرأة نفسها، ودخل بها الزوج، فهو وطء شبهة، يوجب المهر دون الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أصابها، فلها المهر بما استحل من فرجها».
وقال الصَّيْرَفي: يجب الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الزانية من أنكحت نفسها». قلت: الصيرفي شرط أن يكون الزوج شافعياً يعتقد تحريمه، ولا يحدّ الذي يعتقد حلّه. قال: والمذهب الأول، والحديث يتأول على أنها إذا تزوجت واستقلّت به، فقد فعلت فعل الزانية، وقد جاء مثل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان».
ولو حكم بصحته حاكم، لم ينقض حكمه إذا وقع البناء؛ لأنه مجتهد فيه.
وقيل: ينقض، لمخالفته النص الذي لا يقبل التأويل. قلت: وذلك النص مفقود في هذه المسألة، والحديث الذي يرويه فيه عليه وجوه من التأويل كثيرة.
فرع:
7853- ولا يملك الوصي التزويج؛ لأنه لا يلحقه عار الدناءة؛ فلم يفوّض إليه العقد الذي هو بسبب رعاية الكفاءة، ولا فرق بين أن يصرّح له الموصي بالتزويج، وبين أن يفوّض إليه القيام بمصالح الطفلة، وقصد بذكره الرد على مالك، فإنه يجيز للوصي أن يزوجها.
فصل:
7854- الولي الكامل الشفقة هو الأب والجد، ويملكان إجبار البكر على النكاح في الحالة التي تجبر فيها الأبكار، وشرطه البكارة، ومعتمده قوله عليه السلام: «الثيب أحق بنفسها من وليها» ومفهومه أن الولي أحق بالبكر من نفسها، وسواء في ذلك الصغيرة والبالغ. والثيب لا تجبر؛ فإن كانت بالغة عاقلة لا تزوج إلا بإذنها، ولو كانت صغيرة، لم تزوج حتى تبلغ وتأذن.
وإن كانت مجنونة صغيرة، فوجهان:
أحدهما: لا تزوج حتى تبلغ، كالعاقلة، لعدم حاجتها.
والثاني: تزوج، كالمجنونة البالغة، ولأن الجنون ليس له وقت معلوم يُرتقب زواله فيه، بخلاف الصغر؛ ولأنّ الجنون مع الصغر أبلغ في إبطال معنى الاستقلال من البكارة؛ فكان أولى بالتجويز.
فاما المجنونة البالغة، فإن بلغت مجنونة، لم تزُل ولاية الإجبار عنها، ولأن مع البلوغ والشهوة تمس الحاجة إلى النكاح، وهو من أسباب زوال الجنون، كما، أنّ العُزْبة من أسباب الجنون.
وإن بلغت عاقلة، ثم جنّت، انبنى على ولاية مالها، وفيه قولان:
أحدهما: للأب والجد، كما قبل البلوغ.
والثاني: للسلطان؛ لأنها ببلوغها عاقلة رشيدة زالت ولاية الأب، فلا تعود بالجنون. فإن قلنا: ولي مالها الأب، فهو ولي نكاحها كالصغيرة. وإن قلنا: السلطان ينظر في مالها، فالقول في تزويجه مع وجود الأب كالقول في تزويج البالغ المجنونة مع الأخ.
7855- وكما يزوج الأبُ البكرَ الصغيرة يزوج ابنه الصغير، ولا تعتبر البكارة والثيوبة هاهنا، وإن اعتبرت في باب الإحصان في الزنا في الذكور، والمعتبر في تزويج الابن بالصغر والجنون العقلُ والبلوغ، فيزوّج الأب ابنه الصغير العاقل، فإذا بلغ عاقلاً، لم يجبره، فإن كان رشيداً، استقل بالعقد، وإن كان مبذراً، فقد ذُكر في الحجر، وسنعيد منه شيئاً، إن شاء الله عز وجل.
وإن كان الابن البالغ مجنوناً، نظر، فإن بلغ مجنوناً، زوجه الأب ناظراً، وإن بلغ عاقلاً ثم جن، فعلى الخلاف في الثيب إذ بلغت عاقلة ثم جنت.
وإن كان المجنون صغيراً، فظاهر المذهب أن الأب لا يزوجه، بخلاف الثيب الصغيرة المجنونة؛ لأنه يستفيد به القيامَ بمؤنتها، والابن الصغير يكلّف المؤنة. وقيل في الابن والثيّب الصغيرين المجنونين أوجه: أحدها: يزوجان.
والثاني: لا يزوجان. والثالث: تزوج البنت، دون الابن.
والبكارة عبارة عن جلدة العُذْرة، فإن زالت بجماع حلال أو حرام، أو وطء شبهة، صارت ثيباً، ولو زالت بقفزة أو وثبة، أو بأصبع، أو بطول التعنيس والتعزب، ففيها وجهان:
أحدهما: أنها ثيب؛ لزوال البكارة.
والثاني: أنها بكر؛ لأن البكارة عبارة عن عدم الممارسة واختبار الرجال، وذلك لم يحصل.
وتردد الشيخ أبو محمد في دخولهن في وصية الأبكار والثُيَّب. وقال الشيخ أبو علي: لا يدخلن فيهما؛ لأنهن لم يجامَعْن، ولا معهن جلدة العذرة.
وقال صاحب التلخيص: يُقْسم لهنّ حق العقد قسمة الأبكار وجهاً واحداً؛ لأن الغرض إيناسهن عن نفار الأبكار. وقال الشيخ أبو علي: هي على وجهين.
7856- فأما الولي النسيب الذي لا يوصف بكمال الشفقة، وهم العصبة المدلون بالأب والجد، فليس لهم ولاية الإجبار؛ لعدم كمال الشفقة فيهم، فلا يزوّجون صغيرة ولا كبيرة-وإن كانت بكراً- بإجبار، لكن يزوجونها والثيبَ العاقلة البالغة برضاهما وإذنهما، وفي إذن هذه البكر وجهان:
أحدهما: أن إذنها بالسكوت، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذنها صماتها».
والثاني: يعتبر صريح نطقها. قال: وهو القياس البيّن، ويُحمل الحديث على البكر التي يجبرها أبوها أو جدها، فإنه يكتفى بصماتها إذا استؤمرت. قلت: وفي نفس المسألة نصّ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإن سكتن، فهو إذنهن» فلا يمكن تأويله بذلك، لأن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ.
7857- وإذا أجبرها الأب على نكاح الكفء، كان له ذلك، وإن سخطته، ولو دعت الأب إلى تزويجها، فظاهر المذهب أنه تلزمه إجابتها إذا كان كفؤاً، واحتج به أصحاب أبي حنيفة فقالوا: لو ملك الأب إجبارها، لما ملكت هي إجباره. والعذر عنه أنه أقيم لقضاء حاجتها، فإذا أعربت عنها، لزمه تحصيلها لها، كالطفل إذا طلب الطعام من وليه، يجب عليه إجابته، مع قصوره وعدم عبارته، فهذا أولى. وقيل بأن البكر مسلوبة العبارة في النكاح أصلاً. قال: وهذا غلط، نعم، لو عيّنت شخصاً، وأراد الأب تزويجها من غيره، قيل: لا يجوز، وقياس المذهب جوازه إذا كان كفؤاً؛ لأنه لا خِيَرة لها في العقد، فكذا في التعيين، والأول مزيّف.
7858- وأما المزوِّج بغير القرابة، فهم ثلاثة: أحدهم- من له ولاء، فحكمه حكم القريب الناقص الشفقة، كالأخ والعم.
والثاني: المالك يزوج أمته جبراً، ثيباً كانت أو بكراً، مميزة أو بالغة، مجنونة أو عاقلة. والثالث: السلطان ولا يزوج على مذهب الشافعي صغيرة؛ لأن ولايته متأخرة عن ولاية عصبات النسب، وهم لا يملكون تزويج الصغيرة.
والمواضع التي يزوج فيها السلطان خمسة: أحدها: إذا عضل الولي المناسب، أو من له ولاء إذا دعت إلى كفء فامتنعا، زوجها السلطان. والموضع الثاني- إذا غاب الأخ، وحضر العم، زوّجها السلطان. والثالث: ألا يكون لها ولي ولا مولى، فالسلطان ولي من لا ولي له. والرابع- أن يريد الولي أن يتزوج مولاته، وليس له مشارك في الولاية، فيزوجه السلطان. الخامس- تزويج المجنونة البالغة إذا كان النظر في تزويجها، ولا أب لها ولا جد، ففي أحد الوجهين تزويجها إلى السلطان؛ لأنه هو الناظر العام، وليس لها قريب كامل الشفقة، ولأن السلطان يلي مالها في هذه الحالة، فإذا مسّت حاجتها إليه، زوّجها، بخلاف الصغيرة؛ فإنه لا حاجة بها، فتؤخر إلى حين بلوغها واستئذانها. والوجه الثاني- يزوج المجنونة البالغة عصباتها؛ لأن القريب النسيب أولى من السلطان؛ لأن مرتبة الولاية تقتضيه؛ فعلى هذا يراجِع السلطانَ، فإذا أذن له، زوّجها؛ فيقوم السلطان مقامها في الإذن عند عجزها عنه، ولأن عصبتها لا يستبد بتزويجها؛ لقصور شفقته، فإن امتنع العصبة، زوّجها السلطان، كما لو عضل.
وإن قلنا: يزوجها السلطان، استحب له مراجعة العصبة ذوي الآراء، وقيل: يجب؛ لأنهم أخبر ببواطن الأحوال، وهو ضعيف. فإن تستّر العصبة، استبد به السلطان.
ولا تقف معرفة حاجة المجنونة على قولها؛ لأنه لا حكم له، بل تُعرف حاجتها بمخايل لا تخفى، فإن لم تظهر مخيلة حاجتها، ورأى أهل الرأي تزويجها، زُوّجت.
وإن لم يرَ الأطباء تزويجها، ولا ظهرت مخيلة حاجتها، ورأى السلطان أو النسيب تزويجها لكفاية نفقتها ومؤونتها، فأصح الوجهين أنها لا تزوج؛ لأنه يكون إجباراً على النكاح، ولا يملكه غير الأب والجد. والسلطان قال: يثبت له حق الإجبار في المجنونة البالغة. قلت: ولا يصح تسمية تزويجها إجباراً؛ لأن الإجبار لمن يكون له اختيار.
قال: وإذا عُدِم الولي الخاص، زوج السلطان بحق الولاية، لقوله صلى الله عليه وسلم "السلطان وليّ من لا وليَّ له" فأما إذا زوج عند عضل الولي، فهو نائب عنه، لا بحكم الولاية؛ لأنه لو كان بولاية، لوجب إذا عضلها الأخ ولها عم ألا يزوجها السلطان إلا بإذن العم، والأمر بخلافه؛ فإن الولاية تقتضي تقديم العم على السلطان. وقيل: يزوجها بحكم الولاية؛ لأنه لا يجوز لغيره التزويج هاهنا.
والأولى أن يقال: تزويجه عند العضل نيابة قهرية أنتجتها الولاية لاقتضاء الحق من الممتنع قهراً، لكن يبعد أن يقال: التزويج حق للمرأة على الولي، فيُشكل عند هذا تحقيق النيابة، وللولي معنى الولاية.
وقد أطلق الأصحاب معصية العاضل، قال: وليس كذلك؛ لأن تزويج السلطان إذا أمكن، فلا يتضح كون التزويج حقاً على الولي، إلا ألاّ يكون سلطان؛ فإنه يجب على الولي تزويجها، فإذا امتنع عصى. أما مع وجود السلطان، فلا. وعلى هذا التردد يخرج تزويج السلطان في غيبة الولي، وكذا تزويجه المرأة من وليها، وكذلك تزويجه المجنونة، وضابط محل التردد تزويجه مع قيام الولي الخاص، وعند عدمه تحقق الولاية المحضة.
7859- والولايةُ الحقيقية تقتضي أحكاماً على المَوْلِيِّ عليه، واستبداداً بالتصرف للنظر، فإن لم يكن المتصرَّف له أهلاً، لصغر أو زوال عقل، فعليه نهاية الولاية، وإن كان أهلاً، وامتنع من عليه الحق، استقلّ السلطان باقتضاء الحق قهراً، وإن انقطع نظرُ الأهل لغيبة، فهذا محل تصرف السلطان.
والولي الخاص يتصرّف في المال والبدن، أما في المال، فلا يثبت إلا للأب، أو أبيه، عند فقد الأب- في مال الصغير، والمجنون، والسفيه، قهراً واستبداداً.
وإذا غاب المستقلّ بالتصرف في ماله، وخيف عليه، لم يتصرف في حفظه إلا السلطان، ولو خلت البلدة عن سلطان، فليس للأب أن يتصرف فيه، ولو خيف ضياعه.
أما التصرف في البدن، فمنه الحضانة، ومنه التزويج، فما يَجْبرُ فيه الولي، فلا يثبت إلا لأب أو جد، ولا يثبت إلا مع البكارة، والثيابة مع جنون، ولا يثبت لغيرهما من العصبة تزويج قهري، وكذا المال، لا تثبت ولايته لعصبةٍ غيرهما؛ لأنها ولايةٌ قهرية، فلا تثبت إلا لمن كملت شفقته؛ لأن طلب النظر مع العدالة لا يحصل إلا بكمال الشفقة الباعثة عليه.
وهل يسمى الأخ ولياً لأخته الصغيرة؟ قيل: لا؛ لأنه لا يملك تزويجها، وقيل: نعم؛ لأنه يملكه عند بلوغها، والبلوغ لا يؤثر في إثبات الولاية. قال: ولا حقيقة لهذا الاختلاف؛ لأن تزويج من لا يَجْبُر ليس على قياس الولايات، لما قدمناه، والسلطان يلي المال حق الولاية عند عدم الأب والجد.
قلتُ: ويفتقر إلى ذكر عدم الولي أيضاً؛ لأنه قائم مقامه، وكان القياس يقتضي أن يزوج الصغيرة، كما يلي مالها، كما في المجنونة، إلا أنّ ولاية النكاح تباين ولاية المال في قاعدتها، ولا تساويها نفياً وإثباتاً؛ فإن الأب يلي مال البنت الصغيرة، وإن كان لا يزوّجها، ويجبر البكر البالغة، ولا يلي مالها، وسرّه أنّ ولاية التزويج تخرج بعض الخروج عن قاعدة النظر؛ لأن مبناها على الإعفاف، وذلك يتعلق بالجبلات، ويقتضي ألا تزوج غيرُ بالغة، فلو زُوجت صغيرة ربما تبقى دهرها في رقّ النكاح، مع كراهتها لبعلها، فلا يدخل تحت الولاية، كالطلاق. والمالُ لا يمكن تأخيره؛ فيضيع، ولذلك الوصي يتصرف في المال، ولا يتصرف في البضع، والسلطان يلي مال الصغيرة، ولا يملك تزويجها.
فصل:
7860- روى الشافعي عن الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لانكاح إلا بولي وشاهدي عدل» لكنه مرسل، والشافعي يستحسن مراسيل الحسن، قال المزني: رواه غير الشافعي عن الحسن عن عمران بن الحصين مسنداً مرفوعاً. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل».
قال الأئمة: خالف أبو حنيفة الخبر من أربعة أوجه: أنه جوز النكاح بلا ولي، ولم يشترط عدالة الولي، وقد اشترطها في الخبر؛ فإن المرشد بمعنى الرشيد، كالمسمع بمعنى السميع. وأجاز النكاح بحضور فاسقين. وفي الخبر اشتراط حضور الذكور وأبو حنيفة يجيزه برجل وامرأتين.
فنقول: كل صفة تسلب العبارة، وتسقط حكمها، فهي منافية للولاية، كالصبا والجنون، وكل محجور عليه لحقه، فليس بولي، والرق ينافي الولاية إجماعاً، أما المحجور عليه للفلس، فولايته ثابتة؛ لأن حجره ليس لحقه، بل لحق الغرماء مع صفات الكمال، وقد حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل وباع عليه ماله.
وأما السفيه، فلا يلي؛ لأن الحجر عليه يطول لقصوره، ومن لا ينظر لنفسه كيف ينظر لغيره؟ قلت: وللعراقيين وجه في تولِّيه؛ لأن الحجر عليه في المال لخوف إضاعته، وقد أُمن ذلك في تزويج ابنته.
ولا يزوج مسلم كافرة بالولاية الخاصة، كما لا يزوج كافر مسلمة. والكافر يزوج ابنته الكافرة إذا كان عدلاً في دينه، قال الشافعي: "ولي الكافرة كافر".
وقيل: لا يزوجها. وقيل: هو كالفاسق.
ومن استولت عليه الغفلة والذهول، أو كان به ألم يلهيه عن النظر، فلا يلي.
وإذا دعت المرأة إلى التزويج مع قيام الصفات المانعة، تولى السلطان تزويجها، كما لو غاب أو عضل.
7861- وإذا اتصف الولي بالفسق، فظاهر نصوص الشافعي في القديم والجديد أن الفاسق يلي عقد النكاح. وقال أيضاًً: لا ولاية للسفيه، واختار القفال كونَه ولياً.
والمعنيّ بالسفيه المخبَّل المحجور عليه لعدم رشده، وقيل: فيه قولان.
وقيل: شارب الخمر لا يزوِّج؛ لأن السكر والنشوة تغلبه على رأيه، فلا تعويل على نظره، وإن كان فسقه بغير الشرب، فإنه يلي، وقيل: إن كان نسبه يقتضي له ولاية الإجبار على النكاح، لم ينافه الفسق، وإن كان لا يُثبت له ولاية الإجبار، نافاه الفسق؛ لأنه إذا قوي سبب الولاية بعُد زوالها، فالأبوّة والجدودة لهما قوة؛ لكمال الشفقة فيهما، فلا يغالبهما الفسق، وإذا ضعف السبب، قرب زوال أثره.
وقيل بعكس هذا: إن الفسق ينافي ولاية الإجبار، ولا ينافي ولاية الاستئذان؛ لأن الخوف من نظر الفاسق يُؤْمَن بمراجعتها.
ولو زوجها العدل بغير كُفْءٍ برضاها، لم تعترض على عقده، وقيل: إن الأب إذا فسق، لا يجبر البكر، وإذا استأمرها، فالقياس يقتضي أن ينعقد نكاحه، فالفسق يسلب الإجبار، لا أصل الولاية.
وقال شيخه: السفه الذي يقتضي اطّراد الحجر، أو ابتداءه ينافي الولايةَ، أما إذا بلغ رشيداً، وعاد سفيهاً، فقد قيل: يعود الحجر من غير حجر حاكمٍ عليه؛ فيخرج عن الولاية. ومن قال: لا يعود الحجر عليه، لا يراه ولياً ناظراً لغيره مع جهله. ومن بلغ فاسقاً لا ولاية له، أمّا الفسق الطارىء بعد البلوغ، فالمذهب أنه لا يعيد حجراً، فإذا لم يُعدّ صاحبه قاصر النظر مضطرب الرأي، فالوجه القطع بكونه ولياً، مجْبِراً كان أو غير مجْبِر؛ لقيام سبب الولاية، ووجود الشفقة، وتمام النظر، وفسقه جناية على نفسه، ولهذا كان ناظراً لنفسه، لكن يُلزَم عليه الشهادة، فمن الفسقة من لا يكذب، وإن أشفى على الحتوف، ويؤثر الصدق تحت ظلال السيوف، وهو مردود الشهادة! ويجوز الانفصال عن هذا بأن العدالة شرط قبول الشهادة كالحريّة، فالعبد وإن كان صادق اللهجة- مردودُ الشهادة، والتعبد غالب على أحكام الشهادات، ولذلك اعتبر فيها عدد مخصوص، ومجلسُ القضاء، وتقدُّم الدعوى. ومطلوب الولاية الشفقةُ، وهي منه محققة، ويعضدها أن الأولين لم يعترضوا على أنكحة الفسقة، ولا يرون قبول شهادتهم.
قال المحققون: ولاية المال تنزل منزلة ولاية النكاح، وهذا هو الذي لا يتضح غيره.
وإن قلنا: الفاسق يلي تزويج موليته، تولَّى تزويج أمته، وإن قلنا: لا يزوج مَوْليِّته، ففي أمته وجهان: أصحهما- أنه يزوجها. وإذا قلنا: الفسق ينافي الولاية، فوكّل الولي فاسقاً في قبول النكاح، فالطريقة المعتمدة جوازه، كما يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، فأما توكيله في التزويج، ففيه وجهان:
أحدهما: أن الفسق ينافي التزويج بالوكالة كما ينافي بالولاية، والثاني: يجوز؛ لأن عبارته صحيحة، وهو غير مستقل، ونظر الولي يعضده، والأول يقول: الفسق يمنع تقليد القضاء وإن عضده نظر الإمام. قال: وهذا لا يشبه الوكالة، لأن نظر القاضي ينتشر وتعسر مراقبته في التفصيل، بخلاف الوكيل.
7862- ويجوز للخاطب أن يوكّل عبد نفسه في قبول النكاح له وفاقاً، وكذا لو وكل عبد غيره بإذنه، ولو وكّله بغير إذن سيده، فالجمهور أن النكاح ينعقد؛ لأنه لا يفوت بكلمة القبول على مولاه شيء من منافعه، ولا عهدة عليه فيها كتسبيحةٍ منه، وقيل: لا يصح، وهو ساقط لا يعتد به.
ولو وكل الولي عبداً يزوج عنه، فوجهان مرتبان على الوجهين في توكيل الفاسق، والعبد أولى ألا يكون وكيلاً؛ لأنه مُجْمَعٌ على أنه لا يكون ولياً، وفي الفاسق الخلاف.
وفي كون الأعمى ولياً وجهان، وجهُ المنع قصور نظره. قال شيخه: لا خلاف في أنه يتزوج، وفي شرائه قولان، وسببه أنّ في الرؤية أثراً في شراء الأعيان يمنع الصحة على قول، ويمنع اللزوم على قول، ولا أثر لها في النكاح بحال.
وفي فسق الوالي العام خلاف يترتب على أنه هل ينعزل بالفسق؟ فإن قلنا: ينعزل، فإذا فسق، انقطع تصرفه، وإن قلنا: لا ينعزل، فقد قيل: ينفذ تصرفه، وهو طرد القياس، وقيل: لا ينفذ إذا كان يتوقع إضراراً، وتكون حاله في الفسق كحاله لو أحرم بحج أو عمرة، فلا يخرج عن كونه ولياً، وإن امتنع عليه التزويج.
فصل:
7863- لا ينعقد النكاح إلا بحضور شاهدين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»، ولأنه عقد خطير يترتب عليه مقاصد يحتاط لها؛ فوجب صيانته عن التجاحد.
ولا ينعقد بحضور عبدين، وإن كانا من أهل الشهادة، لأنه لا ينعقد بشهادتهما.
قلت: قوله "وإن كانا من أهل الشهادة" بعيد من أصلنا؛ فإن العبد عندنا ليس أهلاً للشهادة، ولهذا قال: لأنه لا يثبت بشهادتهما.
وكذا حكم المراهقين.
ولا ينعقد بحضور فاسقَيْن خلافاً لأبي حنيفة. وظاهر النص أنه ينعقد بحضور مستورين في أمر العدالة، ويتسلّط به الزوج على استباحتها، فلو بان أنهما فاسقان حالة العقد، ففيه قولان يبتنيان على ما إذا حكم بشهادة اثنين ظاهرهما العدالة، ثم بان أنهما كانا فاسقين حالة الحكم، ففي نقض الحكم قولان. ولم يسمح المراوزة بذكر خلاف في انعقاد النكاح بمستورَيْن وتسلط الزوج به.
قال: والقياس الجلي أن ما يؤثِّر الفسق في إبطاله، فالجهل بالعدالة يوجب التوقف فيه، ومساق هذا ألاّ يتسلط به، حتى يتبين أمرهما، والممكن في تعليل التسليط أن الاكتفاء بهما يليق بحال العقد؛ لأنه يقع غالباً في مواضع يقل فيها المعروف العدالة، والبحث عنها يؤدي إلى طول الأمر، وترك الخِطبة، ولا حاجة ترهق إلى البينة في الحال، بخلاف حالة الحكم.
وكان شيخه يردد القول في مستوري الحال في الحريّة، فيجتمع من هذا ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يتسلط ما لم تظهر الحرية والعدالة.
والثاني: يتسلط. والثالث: الفرق بين العدالة والحرية.
7864- ولا ينعقد عندنا نكاح مسلم على كافرة بحضور ذميين، خلافاً لأبي حنيفة.
وفي انعقاد النكاح بحضور أعميين وجهان:
أحدهما: ينعقد، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «وشاهدي عدل» وهما شاهدا عدل.
والثاني: لا ينعقد؛ لأنه لا يمكن إثباته بشهادتهما. قال: وأرى القطع بهذا؛ لأن الاكتفاء بهما يبطل مقصود شرط الشهادة في النكاح.
ولو حضر ابنا الزوجين، أو ابن له وابن لها، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ينعقد بهما. قال: وهذا يضاهي انعقاده بحضور أعميين. قلت: إن هذا الوجه يضاهي حضور الأعميين، فكيف يضاهي القولُ الجزمُ ما فيه خلاف؟ وإن أراد أنّ أصل الصورة تضاهيه، فحضور الأعميين على ثلاثة أوجه، فلا تتحقق المضاهاة.
ثم زيّف الوجه وقال: هو في نهاية الركاكة. قلت: وليس لفظ الركاكة مما يستعمل في الجواز والمنع والصحة والإبطال، وعلة التزييف أنهما إن كانا ابنيهما، لم ينفكا أن يشهدا لأحد أبويهما وإن كان ابن له وابن لها، لم يمكن إثبات النكاح بشهادتهما بحال.
قال: ولا مساغ لهذا الوجه إلا أن يسلك به مسلك أبي حنيفة وأصحابه في حمل شرط الشهادة على طرفٍ من التعبد، وله وجه؛ لأن النكاح هو المحتاط له، ولا يشترط له الإشهاد على رضا المرأة وإذنها، ولو جحدت، لم يثبت إلا بالشهادة على إذنها، فيشكل حمل الشهادة على الاحتياط، وإنما لم نكتف بحضور فاسقين؛ لأن ما لا يُعقل يتبع فيه مورد النص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وشاهدي عدل» والفاسق ليس بشاهد، وإن سمي به مجازاً، فليس بعدل.
ولا يُكْتفى بحضور الأصم؛ لأن حضوره كغيبته.
والوجه الثاني: أنه لا ينعقد بحضور ابنيهما وابن له وابن لها، لما ذكره في تزييف الوجه الأول.
والثالث: أنه لا ينعقد بحضور ابنيهما، أو ابن له وابن لها؛ لأنه لا يتوقع إثباته بشهادتهما، وينعقد بشهادة ابني أحدهما؛ لأنه يتعلق به إثباته إذا جحده أحدهما فشهدا عليه.
ولو حضر ابنان له، وابنان لها، انعقد النكاح قولاً واحداً؛ لأنه يمكن إثباته من الجانبين.
وهكذا لو حضره عدوّان لهما، أو عدو له وعدو لها، أو عدوان لأحدهما على أقسام البنين.
ولا ينعقد ولا يثبت برجل وامرأتين.
فرع:
7865- إذا قال الشاهدان بعد العقد: كنّا فاسقَيْن حالة العقد، أو تعمدنا الكذب، لم يُنْقَض القضاء، وإنما القولان إذا قامت به البينة.
ولم يذكر في حكم الستر شيئاً. وعندي أنه إن لم يعلم الزوجان بفسقهما حالة العقد، لم يزُل حكم الستر، فأما إذا تصادق الزوجان على أن الحاضرَيْن كانا فاسقَيْن حالة العقد، وعلما بذلك، فالوجه القطع بتبين فساد العقد؛ لأنهما لم يكونا مستورين عنهما، وعليهما التعويل في التحليل والتحريم، بخلاف ما لو ثبت بالبينة؛ فإن الستر قارن العقد فجُرحا بالتبيّن على القولين. ولو قال الزوجان: لم نعرف أعيانهما، وقد تذكرنا أنهما كانا فاسقين حالة العقد، فيحتمل أن يخرج على القولين، كما في قيام البينة.
ولو أن الزوج سمع ممن يثق به أن فلاناً فاسق، ثم عقد النكاح بحضور المجروح، فهل يزول الستر وينحى به نحو الأخبار، فلا يشترط فيه العدد ولا الحرية؟ فيه تردد، والظاهر أن الستر يزول بأخبار من تقبل روايته وإن لم يثبت به الجرح في مجلس القضاء. ويجوز أن يقال: من لا يجرح في مجلس القضاء، فهو مستور، ومن استيقن الزوج فسقه، فعلمه في حقه كافٍ في زوال الستر.
وكان الشيخ أبو محمد يسْتَتِيب شهود النكاح إذا حضروا، ويعتاد ذلك في حق المستورين استظهاراً، وكان يتردد في المعلنين بالفسق إذا أظهروا التوبة في مجلس العقد: هل يلحقون بالمستورين؟ فلو قلنا: يلحقون، فعاود الفجور على الفور، فالظاهر سقوط أثر توبتهم.
وإذا أقرّ الزوجان بالعلم بفسق الشاهدين حالة العقد، حكمنا بأنه لا نكاح بينهما، ولا ينتقص بذلك الطلاق، ولا يجب به المسمى؛ للحكم بأنه لا نكاح بينهما، لكن إذا كان قد وطئها، لزمه مهر المثل. وإذا تزوجها بعد ذلك، ملك عليها ثلاث طلقات.
ولو اعترف الزوج بذلك، وأنكرت المرأة، فيحكم بارتفاع النكاح، قال الصيدلاني: سبيله سبيل طلقة بائنة: فإن جرى ذلك قبل الدخول، لزمه نصف المسمى، وإن جرى بعده، فجميعه. ولو نكحها بعده عادت إليه بطلقتين؛ لأنها لم تصدقه فيه، ولا وُجد سبب يستحق به الفسخ، فهو في حكم الطلاق.
وحكي عن الشافعي أنّ الحرّ إذا تزوج أَمَة وقال عقيبه: كنت واجداً طَوْلَ حرة، بانت منه بطلقة، وهو مشكل، لكنه ينزل الفراق المحكوم به منزلة الطلاق في تنصيف المسمى قبل الدخول، وتكميله بعده، ولو عادت إليه، عادت بطلقتين.
قال: هذا لا وجه له؛ لأنه لم ينشىء طلاقاً، ولا في موجب إقراره ما يقتضي الطلاق.
فصل:
7866- من بلغ سفيهاً اطّرد الحجر عليه، ولم نُجز له أن يتزوج بانفراده؛ لأنه محجور عليه لنفسه، وذلك ينافي استبداده، ولا يملك الولي تزويجه من غير طلبه؛ لأنه يملك تطليق زوجته؛ فلا يصح إلا بإذن الولي، وطلبه. وقد نص الشافعي في موضع: "للولي تزويجه". وفي موضع "لا يزوجه". وليست على قولين، بل على اختلاف حالين، فحيث قال: "يزوجه"، يريد إذا كان أباً، أو جداً، أو قيّماً أذن له الحاكم في تزويجه. وحيث قال: "لا يزوجه"، يريد به القيّم الذي لم يؤذن له في تزويجه. فإن تولى الولي تزويجه عند طلبه بإذنه، جاز، وإن فوضه إليه-عند وجود شرائطه- جاز؛ لأن عبارته صالحة للعقد.
ولوليه أن ينفرد بالتصرف المصلح لماله من غير مراجعته، كالطفل، ولو فوض إليه عقداً معيناً في المال، فالمذهب صحتُه، وقيل: لا يصح، وهو بعيد؛ لأنه مكلَّف، صحيح العبارة، وبه فارق الصبيَّ والمجنونَ، ويستثنى من ذلك المرأة؛ فإن عبارتها مسلوبة في النكاح خاصة، مع أنها مكلفة تستأذن وتراجع فيه، ولا يستند ذلك إلى معنى محقق.
ومتى أبدى السفيه حاجته إلى النكاح، صُدِّق ولا ينظر إلى بِنْيته، ولا يرجع إلى قول الأطباء فيه؛ لأنه لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الداعي إليه؛ فلا يعرف إلا من جهته، فإذا أخبر عن حاجته إلى النكاح، وجبت إجابته، وقضاء حاجته.
فلو لم نجبه فللعراقيين وجهان:
أحدهما: لا يتزوج، لقصوره، وعدم تفويض الولي إليه.
والثاني: يستقلّ به، كما لو طلب الطعام. وهذا بعيد عن القياس.
ويتجه أن يقال: يرفع المحجورُ عليه أمره إلى الحاكم، كما لو عضل المرأةَ، وسَلْبُ عبارتها بمثابة منع السفيه من الاستقلال.
وجملةُ حاله إن احتاج إلى المطاعم، ولم ينته إلى الضرورة؛ فاشترى بنفسه، فقد تردد العراقيون فيه. وإن انتهى إلى حد الضرورة، قال: فالوجه عندي القطع بتجويز تصرفه لضرورته؛ لأنه من أهل العبارة، ونَصْبُ الناظر لمصلحته، فعند الضرورة منعُه لا مصلحة له فيه، لكن لا تُتصور الضرورة في النكاح وإن تناهت الحاجة فيه.
والمرضيُّ أنه إن أمكن رفع الأمر إلى الوالي، لم يجز أن يستقِلّ بنفسه، وإن تعذر الرجوع إلى الوالي، ترتب على ما ذكرنا في تحقق الحاجة إلى المطاعم والكسوة وما في معناه، والنكاح أولى بالمنع؛ لأنه لا تتحقق فيه الحاجة تحققها في الطعام ونحوه؛ ولذلك يجب على الأب نفقةُ ولده، ولا يجب إعفافه، وظاهر مذهب العراقيين إجراء الوجهين في استبداده من غير مراجعة السلطان عند امتناع الولي الحاضر.
وللأب تزويج ابنه الطفل لمصلحة ظنية، مع العلم بعدم حاجته إلى النكاح.
وولي المحجور عليه يرعى في مصلحته هذا المعنى، لكن لا يجبره عليه، والخلاف في استقلاله إذا ذكر حاجة جلية داعية، فأما لمصلحة جلية من غير طلب، فلا خلاف فيه.
7867- والأولى لولي السفيه أن يعيّن له امرأة، ويقدر مهرها، ويأذنَ له في العقد عليها، فإن عيّنها ولم يقدّر مهرها، صح الإذن، وعقد السفيه بمهر مثلها أو بأقلَّ منه، فإن زاد على مهر المثل، صح النكاح ولزم مهر المثل، وسقط الزيادة. ولو قدّر مهراً، فتخيّر به السفيه امرأة، جاز، إذا كان مهرَ مثلها، وإن كان أكثر منه، لزم مهر المثل، ورُد الزائد؛ لأنه تبرع، وتبرعه مردود.
ولو أذن فيه من غير تعيين امرأة ولا تقدير مهر، صح الإذن على وجهٍ، فإن زاد على مهر المثل، رُدّت الزيادة، وقيل: لا يصح؛ لأنه قد يتزوج من يستغرق مهرُ مثلها مالَه، فالوجه أنه لا يصح نكاحها إذا لم يقع موافقاً لمصلحته، وإن أفسدنا الإذن، فالنكاح باطل، وإن وافق المصلحة، فكأنه لم يأذن.
7868- وأما العبد، فإنه لا ينكح بغير إذن سيده، كالسفيه بغير إذن وليه، فلو قال له المولى: انكح من شئت بما شئت، صح الإذن، وينكح هذا، ويتعلق المهر بكسبه، بخلاف السفيه، فلو لم يجد السفيه إلا من لا ترضى بمهر مثلها، وأخبر بحاجته إليها، ففيه احتمال.
ولو أذن السيد لعبده أن يتزوج بمهر المثل، فزاد عليه، قال الشافعي: لا تثبت الزيادة في حق السيد، ولا تتعلق بكسبه، بل بذمة العبد، يُتْبع بها إذا عَتَق، فيصح المسمى، ويتبعض متعلقه.
ولو عين ولي السفيه له امرأة، فنكحها على أكثر من مهر مثلها، رُدَّت الزيادة، ولم يطالب السفيه بها ولو فك الحجر عنه لرشده؛ لأنا نرعى فيما لا يتعلق بكسب العبد حقَّ السيد، وفي حق السفيه حق نفسه، ولو طولب بها إذا رشد، لطولب بها في الحال، كما لو أتلف مالاً، أو جنى جناية توجب المال.
قال: وفي النفس مما حكيته متفقاً عليه أثر؛ فإنّ السيد إذا قال لعبده: انكح هذه، فلو نكح غيرها، لم يصح، لمخالفة الإذن، وكذا لو علق إذنه بوقت أو صفة، وجب اتباع ما عيّنه، فإذا قال: انكح هذه بألف، فنكحها بألفين، فليس هذا النكاح المأذونَ فيه، فمثله في ولي السفيه.
ووجه الجواب عنه، أن النكاح قائم بنفسه دون العوض، فإذا أذن فيه، استقل الإذن، ومخالفتُه في مقدار المهر مخالفة في الإذن في المهر؛ ولأن الأمر في المهر مردود إلى مهر المثل، بخلاف ما لو عين امرأة، فنكح غيرها؛ لأنه ترك مقتضى الإذن بالكلية.
ويلزم إذا وكل في قبول نكاح امرأة بألف، فقبل الوكيل بألفين، قال: فالمذهب الصحيح أن النكاح لا ينعقد؛ لأنه لا مستند لنكاح الوكيل إلا الإذن، فإذا خالفه، لم يتبق له مستند، وقيل: بأن الوكيل إذا خالف في مقدار المهر، يصح نكاحه؛ لأنه غير مقصود في النكاح، فلا يؤثر الخلاف فيه. قال: وهو بعيد ومنقول.
ولو قيل: بأن نكاح العبد والسفيه إذا خالفا في المهر لا يصح، لكان أوجه في المعنى مما ذكره في الوكيل.
ولو قال السيد لعبده: انكح هذه بألف، فإن زدتَ ولو درهماً، فلا إذن فيه، فكما أذنت لك فيه بألف نهيتك عنه بالزيادة، فالذي يقتضيه الرأي أنه إذا زاد، لا يصح نكاحه مع تصريحه بنفي الإذن فيه، والنكاح وإن كان حقَّ العبد، فلابد من رعاية إذن المولى فيه، لتعلّق حقه به.
وقد نصّ الشافعي رضي الله عنه أن العبد إذا زاد على ما قدره السيد، تصح تسميتُه وتلزم ذمتَه، يُتبع بها إذا أعتق، وفيه غوص؛ فنُقدِّم أن الجمهور على أن العبد إذا ضمن ديناً بغير إذن سيده، لم يصح، ولا يثبت في ذمته المال، وقيل: يصح، ويتبع به إذا أعتق، وهو منقاس، فتعلّق بما نصّ عليه؛ فإن الزيادة وما ضمن لم يأذن السيد فيهما، وعدم تضرر السيد بالضمان لا يوجب صحته؛ بخلاف الزيادة لأن للسيد تعلقاً بها، ولهذا لو ضمن لسيده شيئاًً عن أجنبي، لم يصح، وإن أمكن مطالبته إذا عتق، فكذلك القيمة الصحيحُ أنها تتعلق بذمته إذا عتق، وقيل: لا يطالب بها بعد العتق، والفرق أن الإتلاف لا يمكن ردُّه، ولا إحباطُ حق المتلف عليه، والضمان عقد نسيئة، وتصحيحه وإبطاله إلى الشرع.
ولو اشترى العبد شيئاً بغير إذن سيده، فالمذهب أنه لا يصح، وفي صحته قول غريب حكيناه، والفرق بينه وبين الضمان، أن الضمان التزام مجرد، والبيع عقد عهدة، وثبوت الملك فيه للسيد من غير عهدة محال؛ فإن وارث المشتري يملك المبيع إرثاً، مع التزام العهدة، وإلزام السيد العهدة بعقد انفرد به العبد محال، ولا يتحقق هذا في الضمان لو صح، بخلاف الزيادة؛ فإنها وإن التزمها العبد بغير إذن سيده إلا أنها جارية في سياق عقد مأذون فيه، فكانت أقرب من الضمان؛ ولأن أصحابنا وإن اختلفوا في العبد إذا قبل هبة أو وصية بغير إذن السيد هل تصح؟ وإذا صح فهل يملك السيد؟ لم يختلفوا في أن العبد إذا خالع زوجته على مال أن المال يدخل في ملك السيد قهراً، لأنه جرى في سياق الطلاق، وهو خارج عن الحجر، ويجمُل في القياس ألا تلزم الزيادة في المهر أصلاً، كالضمان، والفرق بينهما عسر، ولا يكتفى فيه بالجهالات، كاكتفاء أصحاب الرأي، ويؤيده أن الظن إذا كان أغلب في الاجتماع من الافتراق، وجب الحكم بالاجتماع، ولا عبرة بفرق بعيد.
ولو اشترى السفيه شيئاً بغير إذن وليه، فشراؤه فاسد، فلو قبضه وأتلفه، لم يضمنه؛ لأن بائعه هو الذي سلّطه على إتلافه، وما لا يضمنه محجوراً عليه، لا يضمنه إذا فك حجره؛ لأن المرعيّ في الحالين حقه؛ ولأن تسليطه على إتلافه واضح، وشرط ضمانه محتمل؛ فثبت حكم تسليطه، ولم يلزمه الضمان.
ولو باع سفيه من سفيه شيئاًً، فقبضه وأتلفه، قطعنا بوجوب ضمانه عليه؛ لأن البائع ليس من أهل التسليط، وقد وجد من المشتري الإتلاف، فهو كما لو أتلفه من غير بيع.
7869- ولو تزوج السفيه امرأة بغير إذن، وحكمنا بفساد نكاحه، ووطئها، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يلزمه مهر مثلها؛ لأنه عوض منفعة البضع؛ فلا يسقط بالتسليط، بخلاف ما لو أتلف المبيع في البيع الفاسد، لما قدمناه. والوجه الثاني- لا يجب المهر، كما لا تجب قيمة المبيع في البيع الفاسد، والوجهان مبنيان على القولين في المرتهن إذا وطىء الجارية المرهونة بإذن الراهن ظاناً جوازه، ففي وجوب المهر قولان.
والوجه الثالث: أنه يلزمه أقل ما يتمول ولا يلزمه كمال المهر، حتى لا يعرى الوطء عن بدل، وهذا لا وجه له؛ فإن زوج المفوضة إذا وطئها، لزمه كمال مهر المثل، فلا يكتفى بأقل المال، وكذلك المرتهن إذا وطىء بإذن الراهن لا مهر عليه في قول، وفي الثاني يجب تمام مهر المثل.
7870- والمحجور عليه للفلس يصح نكاحه، والسفيهة المحجور عليها المبذرة، في النكاح كالمُطْلَقة التصرف الرشيدة، فلو تولى مالها قيّم من قِبل الحاكم، فزوّجها أخوها، صح، وسرُّه أن الرشيدة لا تستبد بالنكاح، ولو كانت ثيباً بالغاً، وإذا طلبت التزويج، وجب إجابتها، فالحجر وعدمه في حقها سواء.
قلت: ولأن الحجر عليها في المال خوف إضاعته، وفي تزويجها تكثيره، وتوفيره بالمهر والنفقة، بخلاف الرجل السفيه؛ فإن نكاحه سببٌ في إضاعة المال، ونظيره أن السفيه يجوز أن يخالع زوجته بغير إذن وليه، لما فيه من تكثير ماله، وتوفيره بسقوط النفقة عنه.
فصل:
7871- لا يملك السيد إجبار عبده البالغ العاقل على النكاح في قوله الجديد؛ لأنه يملك حلّه بالطلاق، فلا يجبره على عقد يملك حله؛ ولأنه يُلزمه به مالاً، فلم يجبره عليه، كالكتابة، ونصَّ في القديم أنه يجبره، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه استصلاح لملكه، فهو كالفَصْد ونحوه.
فأما العبد الصغير، فإن قلنا: إنه يُجبَر البالغُ، فالصغير أولى، وإن قلنا: لا يجبر البالغ، ففي إجبار الصغير قولان: إن شئنا، بنيناهما على المعنيين في البالغ، فإن قلنا: لا يجبره؛ لأنه يملك الطلاق، فالصغير لا يملك الطلاق، وإن قلنا: يُلزم ذمته مالاً، فكذا الصغير؛ فإنه لا يملك إجباره على الكتابة، والأوْلى توجيه القولين في الصغير بالصغر: فإن قلنا: يجبره، اعتبرناه بالصغير الموْلي عليه، والسيد بالأب والجد، وإن قلنا: لا يجبره؛ فلأن السيد لا ينظر لعبده، وإنما ينظر لملكه، والنكاح لا يرد على محل ملكه، وكذا الحاكم في المجنون.
قال العراقيون: إن قلنا: السيد يجبر عبده على النكاح، فالعبد لا يجبر سيده على الإنكاح. وإن قلنا: السيد لا يجبر عبده على النكاح، فهل يجبر العبد سيده على الإنكاح؟ قولان. وتعليله أن الطباع مجبولة على التشوف إلى النكاح، والرق لا نهاية له، فلو منع هذا الجنس من النكاح لجر ضرراً عظيماً. وإن قلنا: لا يُجبَر عليه السيد، فهو منعٌ لا ينتهي إلى الضرورة؛ ولذلك لا يجب على الأب أن يُعفَّ ابنَه. فإن أجرينا القولين، فرعناهما على أن السيد لا يجبر عبده، وإن قلنا: يجبره، بَعُد إجراء الإجبار من الجانبين، ويجوز أن نجريهما على القول بأنه يجبره، ويكون للعبد أن يحمله على التزويج، كما أن الأب يجبر البكر البالغة على النكاح، وهي تحمله على أن يزوجها، فالإجبار جائز من الطرفين. فإذا قلنا: العبد يجبر سيده، فمعناه أنه يطلب منه التزويج، فإن أجابه، فذاك، وإن أبى، فعلى وجهين:
أحدهما: أن العبد يتزوج بنفسه، والثاني: لا يتزوج، لكن يأثم السيد بالامتناع.
ومن نصفه حر، لا يملك مالكُ رقه إجباره اتفاقاً؛ لما فيه من الحرية، وهل يملك هو إجبار مالك رقه على إنكاحه؟ على القولين؛ لأن حريته تؤكد استحقاقه إجبار مالك رقه، وتمنع من إجبار السيد له؛ لأن التزويج يتناول جملته؛ فلا يَجبُر موصوفاً بالحرية من غير سبب.
7872- ويملك السيد إجبارَ أمته على النكاح؛ لأنه يعقد على منافعَ مملوكةٍ له، وهي منافع بضعها، بخلاف العبد، فإن كانت تحل للسيد، لم يُجبَر على تزويجها؛ لأنه يُعطِّل حقه من الاستمتاع بها، ولا حجر عليه فيه، ولا تملك مطالبته به؛ فإن الزوجة لا تملك مطالبة زوجها بالجماع، فكيف الأمة؟
وإن كانت لا تحل لسيدها، ففي إجبارها إياه على تزويجها قولان، تقدم توجيههما من مسيس الحاجة.
7873- إذا أذن السيد لعبده في النكاح، فإن المهر، والنفقة، والمؤن الراتبة تتعلق بأكْساب العبد، فالإذن له في التزويج إذنٌ له في ذلك، وأقرب شيء إلى العبد كسبه، فقد أذن في صرفه إلى مؤونته. والقول الجديد: إذا تزوج بإذنه، لا يصير ضامناً للمهر والنفقة، والقول القديم: يصير ضامناً، وإن لم يصرح بالضمان، فوجه الأول- أنه لم يضمن تصريحاً ولا تعريضاً، ووجه الثاني- أن العبد يؤدي ذلك من كسبه، وهو ملك السيد؛ فلا فرق بينه وبين سائر أمواله، ولم يتعرض لتعلق ذلك بالكسب في إذنه، وينبني القولان على القولين في المأذون له إذا قلنا: تتعلق ديونه بما في يده، ففي تعلقها بالسيد قولان، ووجه البناية في قولٍ كأنه ضامن عهدة تصرفاته فيما سلمه إليه، وفي قول تتعلق بسائر مال الإذن، كذلك السيد إذا أذن في النكاح، وهل يتعداه حتى يطالب السيد به؟ على القولين: قال العراقيون: إن قلنا: يطالب السيد، فلا كلام. وإن قلنا: لا يطالب، فلا يلزمه الضمان.
فلو كان العبد عاجزاً عن الكسب، وذلك ظاهرٌ لسيده، ففي مصيرِه ضامناً على هذا القول قولان؛ لأنه إذا كان مكتسباً أمكن أن يقال: أحال السيد الغرم عليه، وإذا لم يكن كسوباً، لم يتحقق هذا المعنى، وظهر التزام السيد له، ولو كان له كسب لا يفي، فإلزامه ما زاد على الكسب بمثابة الجميع، ولا يشترط علم السيد بعدم كسبه في جريان القول الثالث، حتى لو لم يعلم لكنه كان قادراً على البحث، فتركه، فهو كما لو علم.
ولو كان العبد كسوباً حالة العقد، وطرأت عليه زمانةٌ، فهو على أصل القولين، ولا يجري فيه القول الثالث؛ لأنا إذا وجدنا بدلاً نُحيل الضمان عليه حالة العقد، فلا يغيره ما طرأ.
إذا أذن السيد لعبده أن يتمتع بالعمرة إلى الحج ففي لزوم دم التمتع للسيد قولان مرتبان على القولين في ضمان مؤن النكاح ومهره، ولزوم دم التمتع أولى بألا يطالَب به المولى؛ لأنّ له بدلاً، فعليه عوّل السيد، وهو الصيام، وليس ذلك في مؤن النكاح.
فلو قلنا: لا يضمن السيد بمجرد الإذن، فلو قيد الإذن به، لم يصر ضامناً؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
فإذا ضمن السيد المهر بعد العقد، صح ضمانه، وإن ضمن النفقة في المستقبل، لم يصح؛ لأنه ضمان مجهول، فإن ضمن منها مقداراً، ففيه قولان؛ لأنه ضمان ما وجد سبب وجوبه، وعلى القديم يصير السيد ضامناً للمهر والنفقة جميعاً مع الجهالة، ومأخذُه تعلق العهدة والطَّلِبة بسائر ماله من غير اختصاص بكسبه، وعلى الجديد لا يتوجه الضمان على السيد في جميع ماله، بل ينحصر في الكسب فيخلِّي بين العبد وكسبه، فإن اكتسب مقدار نفقته، فذلك مصروف إليها، ويبقى المهر على العبد، فإن فضل عنها، صرف الفاضل إلى المهر، حتى يؤديه منها.
7874- وإن كان مأذوناً في التجارة، وفي يده مال لسيده يتجر فيه، تعلق ما يلزمه بالنكاح بالأرباح اتفاقاً؛ لأنها من كسبه، ونسبتها إلى رأس المال كنسبة الكسب إلى رقبة العبد.
وفي تعلق لوازمه بنفس رأس المال وجهان مشهوران:
أحدهما: لا يتعلق به، لأنه ليس من كسبه، فهي كرقبته، والثاني يتعلق به؛ لأنه معتمد في تعامله، ولهذا تعلقت ديون التجارة برأس المال.
7875- فلو أراد السيد أن يستخدم العبد في حضره، أو يسافر به، قال العراقيون: ليس له أن يشغله عن الكسب ما بقي عليه واجبٌ في النكاح؛ لأن ذلك يشغله عن الكسب الذي تعلقت الحقوق به، وهو حسن متجه. والمراوزة أجازوا استخدامه والسفر به، وألزموه ضماناً.
والله أعلم أن أقوى مراتب تعلق الحقوق تعلّقُ الدين بالرهن، وهو مانع للراهن من التصرف في المرهون ما بقي عليه شيء من الدين، ويليه تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وهو دون الأوّلة؛ لأنه لم يتعلق بقصد المالك، فلذلك اختُلف في بيع العبد الجاني قبل فدائه، ويليه في التعلّق ما نحن فيه؛ لأن الأكساب متوقعة غير حاضرة، والوثائق تتعلق بشيء كائن؛ فإذا بعد رهن الدين، فالكسب المتوقع أولى.
قال العراقيون: إذا ضمن السيد لوازم النكاح، لم يُمنع من استخدامه والسفر به، قال: وفيه نظر؛ فإنه وإن ضمن فما لم يؤد، ينبغي أن لا ينفك التعلق بالكسب.
فإذا جوزنا له أن يستخدم أو يسافر، ففعل، أو منعناه، فاستخدمه يوماً أو أياماً، لزمه حقوق النكاح، كما يلزمه فداء العبد الجاني إذا باعه، وهو ما يتجه.
وما الذي يلزمه؛ قيل: يلزمه المهرُ بالغاً ما بلغ، والنفقةُ؛ لأنه قد كان يكسب هذه المدة مبلغاً كثيراً يفي بذلك.
والثاني: يلزمه أقل الأمرين: من أجرة مثل العبد لمدة الخدمة، أو ما لزم من مؤنة النكاح، وهذان القولان يقربان من القولين فيما يفدي به جناية العبد، فلو قتل السيدُ العبد، لم يلزمه إلا الأقل؛ لأن المتلف لا يلزمه إلا قيمة ما أتلفه، وقيل: يُبنى على القولين، وهو بعيد، واستخدام السيد العبد بمثابة قتله؛ لأنه أتلف متعلق حقوق النكاح، وهو منفعته.
ويتجه فيه أن السيد أحال بحقوق النكاح على الكسب، فإذا أفسده، فسائر أمواله ككسبه عنده، بخلاف جناية العبد؛ فإنها تجب من غير سبب صدر من جهته.
ولو استخدم العبدَ أجنبي يوماً أو أياماً، لزمه أجرة المثل بلا شك من غير مزيد، لأنه أتلف منافعه، ولم يورط العبد فيما ورطه المولى من التزام حقوق النكاح.
ونظير استخدام السيد هذا العبد ما إذا استخدم مكاتَبه مدة، ففي قولٍ يلزمه أجرة مثل المدة، ويناظر إلزامنا السيد أقل الأمرين، وفي قول يمهله مثل المدة زيادةً على نجومه، فيناظر إلزامنا السيد أكثر الأمرين.
فإن قلنا: يلزم السيد أقل الأمرين، فلا إشكال فيه، وإن قلنا: يلزمه الأكثر، لزمه المهر ونفقة الأيام التي استخدمه فيها، وفي إلزامه النفقة لمستقبل الأيام وجهان:
أحدهما: تلزمه؛ لجواز أن يكتسب في تلك المدة ما يكفيه لبقية حياته، والثاني: لا يلزمه إلا الواجبات في أيام الاستخدام، أما الحادث الذي لا يحصر، فلا.
قال العراقيون: إذا اشتغل العبد بالكسب نهاراً، لم يكن لسيده أن يستخدمه ليلاً؛ لأنه وقت راحته، وتجب التخلية بينه وبين زوجته؛ لأنه لا يجوز استخدامه طول زمانه، ولا منعه من الاستمتاع.
أما الأمة إذا زوجها مولاها، فلا يلزمه تسليمها إلا ليلاً، وله أن يسافر بها، ولا يمنعه الزوج اتفاقاً.
7876- هذا كله إذا كان النكاح صحيحاً بإذن السيد، أما إذا نكح العبد نكاحاً فاسداً بغير إذن، فإن لم يطأ، لم يلزمه شيء. وإن وطِىء على شبهة، ففي المهر قولان:
أحدهما: يتعلق بذمة العبد؛ يطالَب به إذا عتق؛ لأنه لم يأذن له في العقد؛ فلم يتعلق بكسبه، ولزمه برضا مَنْ له الحق، فلم يتعلق برقبته، ويخالف السفيه إذا نكح بغير إذنٍ ووطىء؛ حيث لا يلزمه المهر على ظاهر المذهب، والفرق أن المرعي في السفيه حقُّه، وفي العبد حق المولى، ولا خلاف أن من باع من السفيه شيئاًً بغير إذن وليه، وأتلفه السفيه أنه لا يلزمه شيء أصلاً، ولو كان ذلك مع العبد، تعلقت القيمة بذمته.
ونص الشافعي في العبد على قول آخر: أنه يتعلق المهر برقبته، كأرش الجناية؛ (لأنه يدخله الإباحة)، وقيل: إنه ليس مذهباً للشافعي إنما حكاه عن غيره ومن أنكر هذا في العبد؛ فإنه ينكر وجوب المهر على السفيه.
7877- ولو أذن له السيد إذناً مطلقاً، فنكح نكاحاً فاسداً، ووطىء فيه، ففي تعلق المهر بكسبه قولان: الأصح أن لا يتعلق به؛ لأن الفاسد غير مأذون له فيه. والقول الثاني- يتعلق المهر بكسبه لوقوع اسم النكاح على الفاسد، فيندرج الفاسد تحت الإذن، وينشأ من هذا أن من حلف لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً، فالمذهب أنه لا يحنث، ويخرج من هذا القول أنه يحنث، وهو مذهب أبي حنيفة. فإن قلنا: يتعلق المهر بالكسب، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتعلق بالكسب، ففيه القولان، أحدهما- يتعلق بذمته، والثاني: برقبته.
إذا أذن له في النكاح، فنكح نكاحاً صحيحاً، وفسدت تسمية الصداق، تعلق مهر المثل بالكسب قولاً واحداً؛ لأنه وجب في نكاح مأذون فيه.
فصل:
7878- إذا زوج الرجل أمته، لم يلزمه تسليمها إلا في الليل وحده، لكنه يستخدمها في النهار، فلو أراد عكس ذلك، لم يكن له؛ لأنه خلاف المعتاد، والليل وقت الاستراحة، وهو عماد القَسْم، ويلزم الحرةَ تسليمُ نفسها إلى زوجها ليلاً ونهاراً، وإن ملكت منافع بدنها، كما ملك السيد منافع الأمة، لكن نكاح الأمة مقتطع عن نكاح الحرائر، ولهذا يملك الزوج أن يسافر بالحرة حيث شاء، ولا يملك زوج الأمة أن يسافر بها، ويملك سيّدها أن يسافر بها، وإن فوت حق الاستمتاع على زوجها.
ولو قال السيد لزوج الأمة: أتخذ لك بيتاً في داري؛ تكون معك فيه، فقولان:
أحدهما: لا يلزمه قبوله؛ لأنه قد يتعذر عليه دخول دار السيد، ويمنعه من ذلك الحياء والمروءة.
والثاني: يلزمه؛ لأنه لا يلزم السيد رفع يده عنها، وفي إخراجها من بيته رفع يده عنها.
فإن سلمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً، وجبت عليه نفقتها، وإن سلمها في الليل دون اللهار، فوجهان:
أحدهما: لا تستحق نفقة؛ لأنها مشروطة بتمام التمكين، ولم يوجد.
والثاني: تستحق نصفها؛ لأنها مكنت في أحد الزمانين. وكان شيخه يقول: "تستحق جميع النفقة؛ لأن التمكين المستحق عليها هو هذا؛ لأنه زمانه المتعارف. ولو كان تسلمها في النهار مستحقاً، لزم الوفاء به كالليل".
أما الحرة إذا سلمت نفسها في الليل دون النهار، ففيها وجهان كالأمة.
قيل: وفي الأمة إذا كانت تحسن صنعة تعملها في بيت الزوج، وجب تسليمها ليلاً ونهاراً، وهو ضعيف؛ لأنه قد يحتاج إلى خدمتها في غير الصنعة.
وإذا سافر السيد بالأمة المزوجة، سقط جميع نفقتها، وإن كان السفر جائزاً. ولو أراد الزوج أن يسافر معها جاز.
فصل:
7879- إذا زُوِّج العبد حرة، وضمن سيده مهرها، أو قلنا: يصير ضامناً له شرعاً، فلو اشترت الحرة زوجها بالصداق، انفسخ النكاح، لأنه لا يتصور أن يكون زوجها مملوكها؛ لأن الزوجية والملك يتنافيان.
وهل تكون الفرقة من جهة سيد الزوج، أو من الزوجة؟ فيه قولان:
أحدهما: من جهة السيد؛ لأنه هو الموجب والقبول يبتني عليه، والثاني: يضاف إليها؛ لأنها هي المالكة، وكذلك لو وهبه منها.
وفائدة القولين أنا إذا أضفنا سبب الفراق إلى البائع، فلو وجد ذلك قبل الدخول، فنصف الصداق، كما في الطلاق، وإن وجد بعد الدخول، لم يسقط منه شيء.
ولو قلنا: يضاف إليها، وكان قبل الدخول، سقط جميع المهر، كما لو ارتدت، أو فسخت النكاح بعيب ونحوه.
وكذلك إذا اشترت الحرة زوجها بثمنٍ غير الصداق قبل الدخول.
وإذا تزوج العبد بإذن سيده، وضمن السيد المهر المسمى، فإن تزوج أمة، فاشترى مولاها زوجَها، فالنكاح دائم، كما لو زوج أمته من عبده، فلو اشتراه بالمهر، سقط المهر؛ لوقوعه عوضاً وملكاً لمن كان له رقبة العبد، ولو اشتراه بألف في الذمة، وكان المهر ألفاً في الذمة، فلكل واحد من السيدين ألف في ذمة الآخر، ويجري فيهما أقوال التقاصّ.
وإن كانت زوجة العبد حرة، فاشترته بغير الصداق، صح الشراء، وملكت العبد وانفسخ النكاح، وسقوط المهر أو تنصيفه على ما فصلناه.
فإن رأينا سقوط مهرها بنسبة التملك إليها، لزمها ثمن العبد بكماله، وإن قلنا بالتشطر، فاشترته بألف، وكان المهر ألفين، سقط ألف بالفرقة، وكان الألف الثاني في مقابلة الثمن، إن جرى التقاص.
من مسائل الدور الحكمي
7880- إذا اشترت الحرة زوجها بالصداق، وكانت مفوِّضة قبل الدخول، وفرعنا على الأصح في سقوط جميع المهر، فلو ملكته بهبة أو اشترته بغير الصداق، فقد قال الشافعي: لا يصح الشراء؛ لأن في تصحيحه إفسادَه؛ لأنه لو صح الشراء، ترتب عليه الملك، وانفساخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح، سقط المهر بكماله، وهو الثمن، وإذا عري البيع عن الثمن يفسد، وهذا هو الدور الحكمي.
وإن قلنا: إن الفسخ مضاف إلى البائع، سقط نصف المهر، ولم يتجرد البيع عن جميع الثمن، بل عن نصفه، ونصفُه بمثابة إذا زوج الرجل أمته عبد غيره، فقبض جميع مهرها، ثم أعتق الأمة مالكها في مرض موته قبل الدخول بها، وقيمتها مقدار الثلث عَتَقت، ولا خيار لها برق زوجها؛ لأنها لو فسخت، ارتد المهر وصار ديناً على السيد، وينقص الثلث، لتقديم الدين على الوصية والميراث، ولأنه يُردّ العتق في بعضها؛ فلا يثبت الخيار لها، ففي إثبات الخيار إبطال الخيار.
وكذا لو لم يقبض المهر، وكان محسوباً من التركة، فإنما يكون ثلث التركة مع المهر، وكذلك لو قبض المهر، ولم تستهلكه، فلو ثبت الخيار في هذه الصورة، واسترد المهر، لنقص الثلث لا محالة؛ وبطل العتق في بعضها؛ فيبطل الخيار.
إذا مات رجل وخلف عبدين وأخاً في ظاهر الأمر، فأعتق الأخ العبدين، وعُدِّلا، فشهدا أن فلانة كانت زوجة الميت، وأتت منه بولد لمدة الإمكان، فإن كان الولد ذكراً، لم يرث، وثبتت الزوجية والإرث لها، ويثبت نسب الابن ولا يرث؛ لأن توريثه يحجب الأخ، ويُبطل العتق، وإذا بطل، لم تثبت الشهادة، ولا الزوجية، ولا النسب.
ولو كان الولد أنثى وقلنا: إن عتق النصف يسري عاجلاً، وكان الأخ المعتق موسراً، ترتب على هذا أن البنت ترث؛ لأنها لا تحجب الأخ، وبقي بعضُ العبدين ملكاً له، فإذا نفذ العتق في بعضهما سرى.
وإن كان الأخ معسراً، لم ترث البنت لأن في توريثها ردّ بعض العتق، وكذلك الزوجة لا ترث في هذه الصورة، ويعايا بها فيقال: ولدٌ للميت لو كان ذكراً، لم يرث، وإن كان أنثى، ورثت.
إذا أوصى لرجلٍ بابنه، ثم مات الموصي، ومات الموصى له قبل القبول، وخلَّف أخاه، فقبل الأخ الوصية، صح قبوله وعتق الابن، ولا يرثه، لأنه لو ورثه لحجب الأخ، وإذا خرج الأخ عن كونه وارثاً، لم يصح قبوله، فلا يصح العتق.
ولو خلف الموصى له ابناً، وقبل الوصية، ففي ميراث الابن قولان ذُكرا في الوصية، من قال: لا يرث، قال: لأن القابل ليس جميع الورثة، ومن قال: يرث، قال: لأن القابل كان عند القبول مستغرقاً، ولم يخرج عن الورثة، وهو ضعيف والصحيح أنه لا يرث، ومن ورّثه فرّع على أن الملك يحصل بموت الموصي، أو بناءً على الوقف، لما قدمناه. فإن قلنا: إنما يحصل الملك وقت القبول، لم يرث أصلاً؛ لأنه لم يعتق في حياة الموصى له، وإنما يرث من كان حراً حالة موت الموروث.
من اشترى أباه، أو ابنه في مرض موته، فإن وفى به الثلث، عتق عليه، ولا يرث من عتق عليه؛ لأن عتقه وقع وصية، ولا تصح الوصية لوارث، فسقط الإرث.
وإذا وُهب للمريض من يعتق عليه، فقبل الهبة، فلو نفذنا العتق، ففيه وجهان: فإن قلنا: العتق من الثلث، فلا ميراث، وإن قلنا: من رأس المال، ورث؛ لأنه لا يجمع بين الإرث والوصية.
7881- ومن كان له دين على عبد غيره، أو أرش جناية، فملك رقبة العبد، ففي سقوط دينه وجهان:
أحدهما: يسقط، كما يمنع الملك ابتداءه، والمهر ثابت في ذمة العبد، وهو في مرتبة الأصيل، وإذا برىء الأصيل، برىء الكفيل، لأنه فرعه.
والحرة إذا اشترت زوجها بغير المهر، أو ملكته بسبب غيره، فهل يسقط المهر عنه، فإن قلنا: لا يسقط الدين عنه، فإذا اشترت الحرة زوجها بعد المسيس بمهرها، صح الشراء ولا دور، وإن قلنا: يسقط الدين، قال الفقهاء: تدور المسألة على هذا، ولا يصح الشراء؛ لأنه لو صح، أسقط المهر بملكه؛ لأنه يُسقط الثمن، فيسقط الملك، فيُفضي إلى الدور، وقال القفال: كنت أفتي وأحكي أن البيع يصح بناء على أن المهر لا يسقط، فرأيت في المنام أني سئلت عنها، فأجبت بأن البيع يفسد لسقوط الثمن بطريان الملك، والسيد البائع ضامن، وإذا برىء الأصيل برىء الكفيل، ثم انتبهت، فوجدت في المسألة وجهين مبنيين على العلتين.
فصل:
7882- إذا قال لأمته أنت حرة على زق خمر، فلا تعتِق ما لم تقبل الخمر، فإن قبلتها، عَتَقت بالقبول، ويرجع إلى قيمة الرقبة؛ لأنه لا سبيل إلى الوفاء بما التزمته.
ولا تلتزم العقود في الذمة، وإذا التزمت، لم يجب الوفاء بها.
وإذا قال السيد لأمته: أعتقتك على أن تنكحيني، لم تعتِق بمجرد هذا القول، فإذا قبلت ما أراده، عَتَقَت، ولا يلزمها الوفاء به لما قدمته. ولا يصلح ما التزمته عوضاً، فهو عوض فاسد؛ فرجع إلى القيمة، فإن تزوجت به، فهو عقد مبتدأ، لا يقع عوضاً عن العتق، فإن أصدقها غير ما عليها من القيمة، ثبت الصداق، وله عليها قيمة رقبتها، وقد يقع فيه التقاصّ، ولو أصدقها القيمة التي عليها عالمين بقدرها، صح الصداق وبرئت عما عليها، وإن كانا جاهلين بها، أو أحدهما، ففي صحة الصداق وجهان: أصحهما- أنه لا يصح؛ للجهالة، والثاني: يصح؛ لأنه أضاف القيمة إلى رقبتها، والقصد براءتها منها، لا استيفاؤها، فكأنه أصدقها رقبتها، أو عبداً يجهلان قيمته، وهذا لا يصح؛ لأن القصد القيمة وهي مجهولة، بخلاف رقبتها والعبد، فإنهما معلومان.
ولو أتلفت امرأة عبداً على رجل، فتزوّجها على قيمة العبد الذي أتلفته، فالصداق فاسد، ومهر المثل واجب، وتسمية العبد في إضافة القيمة إليه مع جهالتها لا تُغني.
ولو طُرد فيها الوجهان، فهو قياس، لكن الصحيح ما قدمناه.
ولو قالت الأمة: أعتقني على أن أتزوجك، فقال: أعتقتك، عَتَقَت، ولزمتها القيمة، كما تقدم، قال صاحب التقريب: إذا خاف ألا تفي، فقال: إن قدر الله بيننا نكاحاً، فأنت حرة قبله بيوم، فمضى يوم أو أكثر، فرضيت وتزوجها، صح النكاح، وتعتن وقوع العتق مقدماً عليه، وإن أبت، بقيت رقيقة.
وقيل: لا تصح هذه الحيلة؛ فإنه إثبات نكاح على الوقف، والنكاح لا يوقف على الصحيح، وقيل: يخرج على أن من تزوج جارية أبيه، ثم تبين أن أباه كان قد مات قبل تزوجه، وكانت مملوكة له، ولم يشعر، ففيها هذان القولان، وهذا نوع من الوقف، واختار شيخه صحة النكاح؛ لتبين وقوعه في حال الحرية، بخلاف من تزوج جارية أبيه؛ فإنه نكحها على غير بصيرة؛ فإن الأصل بقاء أبيه.
ولو قالت حرة لعبدها: أعتقتك على أن تتزوج بي، أو على أن أنكحك، فالجمهور على أن العتق ينفذ بمجرد قولها، ولا يتوقف على قبول العبد؛ لأنها لم تشترط عليه شيئاًً يقوم به، بل وعدته خيراً، فهو كما لو قالت: أعتقتك على أن أُعطيك ألفاً، بخلاف قول السيد: أعتقتك على أن تتزوجي بي؛ فإنه قول يقصد به المال، بخلاف نكاحه؛ فإنه وإن كان مقصوداً لها، إلا أنه ليس مما يُقوّم لها، وقيل: لا ينفذ العتق فيما لم يقبل العبد، فإن قبل، لزمه قيمة رقبته؛ فإن المرأة تقصد الرجل، وقد تبذل خزائنها في الوصول إليه، وإن كان ذلك لا يتقوّم شرعاً، فهو مقصود بالمال عرفاً. ولا حاصل له؛ فإن الرجل لو قال لامرأته: طلقتك على ألا تحتجبي عني أبداً، فإنّ هذا لا يعدّ عوضاً، وإن كان مقصوداً لبعض الناس.