فصل: باب: ما جاء من الترغيب في النكاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في أحكام نسائه:

7838- فنقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع، وكان يقسم لثمان، وهنّ: عائشة بنة الصديق، وحفصة بنة الفاروق، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس، وصفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وهي التي كانت امرأة زيد. فهنّ اللواتي مات عنهن صلى الله عليه وسلم، وهنّ أمهات المؤمنين، محرمات على الأبد على غيره.
ولو فارق امرأة في حياته هل كان يحل لغيره نكاحها؟ قيل: لا يحل كالتي مات عنها، وقيل: كانت تحل؛ لأن النكاح لم ينته نهايته، وقيل: إن كان صلى الله عليه وسلم دخل بها، لم تحل لغيره، وإن لم يكن دخل بها حلّت لغيره. ولهذا روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه، فرفعت قصته إليه، فحبسه وهمّ برجمه، فذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان دخل بها، فكفّ عنه وتركها في حِباله.
ولا خلاف أن اللاتي خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اختارت واحدة منهن الدنيا، لحلّ لها أن تتزوج؛ لأنها لو منعت ما تمكنت من غرضها من الدنيا.
وليس المراد بكونهن أمهات المؤمنين أنه يجوز لهنّ التكشف لهم، كتكشف الأم لأولادها، بل المراد به التشبه بالأمهات في التحريم.
7839- وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشبهن أخوات المؤمنين؛ لأنه لو كان كذلك، لحرمن كما حرم زوجاته، لكن يقال: هن بنات أمهات المؤمنين. ومن ذلك لا يقال: معاوية خال المؤمنين، بل نقتصر على ما جاء التوقيف به ولا نتعداه.
قال المزني رحمه الله: "إنّ الله تعالى لما خص به رسوله صلى الله عليه وسلم، وميز بينه وبين خلقه لما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة إليه".
والقراءة المشهورة (لِمَا) مخففة مكسورة اللام؛ ليكون بمعنى التعليل.
وفي الكلام خلل من وجوه، ينقدح في بعضها الذب والتأويل، ولا يتجه في بعضها جواب، فمن وجوه الخلل أنه قال: "إنّ الله تعالى لما خصّ به رسوله من وحيه، وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء"، فجعل تخصيصه بما افترض عليه معللاً بما خُص به من الوحي، وفُرِض على الخلق من طاعته، فهذا كلام مضطرب، نبيّن ما فيه من الخلل. قلنا: لفظ الشافعي على ما نقل المعتمدون عنه، قال رضي الله عنه: "إن الله تعالى لما خصّ به رسوله فأبان من فضله بالمباينة بينه وبين خلقه، افترض عليهم طاعته" فجعل افتراض طاعته منوطاً برسالته. ثم استأنف فقال: "وافترض عليه أشياء خففها عن خلقه". فإن تكلّف متكلّف وعلّل ما خص به بعلو منصبه بما خص به من الوحي وافتراض الطاعة، أمكن تقريب القول فيه، لكن الأوجه ما ذكره الشافعي.
وقوله: "وأبان بينه وبين خلقه" غلط في اللغة والعربية لا يخفى دركه على الشادي؛ فإن العرب لا تقول: أبنت بين فلان وبين فلان، بل تقول: أبنت الشيء عن الشيء، بمعنى القطع. وأبنت الشيء إذا أظهرته، وباينت بين فلان وفلان. ولفظ الشافعي "وأبان من فضله بالمباينة بينه وبين خلقه". وقوله "ليزيده بها قربة إن شاء الله" لا يرجع الاستثناء فيه إلى نفس القربة، بل إلى جهتها؛ لأنه لا شك في حصول القربة له لما خصه به.

.باب: ما جاء من الترغيب في النكاح:

7840- والنكاح على الجملة مرغوب فيه، والأصل فيه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فوعد به الغنى، وكان الحسن بن علي منكاحاً مطلاقاً، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الله وعد الغِنى عليهما، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] فأنا أطلب الغنى بهما.
والأخبار في الترغيب فيه كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم: «تناكحوا، تكثروا». وقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» و «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه، فليتق الله في الثلث الباقي» فقيل: المراد به أكل الحلال. وقال صلى الله عليه وسلم لعَكاف بن وَدَاعَة الهلالي: «أتزوجت؟» فقال: لا، فقال: «إنك إذاً من إخوان الشياطين، أو من رهبان النصارى، فإن كنت من رهبان النصارى، فالحق بهم، وإن كنت منا، فمن سنتنا النكاح».
وقال عمر لأبي الزوائد: "أتزوجت؟ فقال: لا، فقال: لا يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور".
ولما احتضر معاذ قال: "زوجوني، زوجوني؛ لا ألقى الله عزباً".
وفي القرآن الثناء على المتعفف القاعد عن النكاح، قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60] وقال في صفة يحيى بن زكريا: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] فسّره بعض أهل اللغة بالذي لا يقدر على إتيان النساء، وفسره الشافعي بالذي لا يأتي النساء مع القدرة؛ لأنه ذكر في سياق المدح والإطراء، ولا يستحق المدح عاجزٌ.
ونظر الشافعي في الأخبار المرغّبة في النكاح، وما يعارضها من الحث على التخلي لعبادة الله تعالى، فسلك طريقاً وسطاً، فقال: من تاقت نفسه إليه، ووجد أهبته، فالمستحب له أن ينكح، ومن لم تتق نفسه إليه، فالأولى أن يتخلى للعبادة. ومن تاقت نفسه إليه ولم يقدر على أهبته، فالأولى له أن لا يتزوج؛ لأنه لو تزوج، لوقع في شغل شاغل عن العبادة. ثم يشتغل بما يكسر توقان نفسه وهو الصوم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء».
والمعنى فيه أن النكاح ليس من القربات، وتحصيل النسل به مظنون، وفي الحال يشتغل بالمُلهي عن عبادة الله تعالى بتوقع أمر لا يتحقق وجوده، ولو وُجد، فلا يدري أصالح أم طالح؟ والمعتبر ليس إلا توقان النفس والحذار من الوقوع في المخازي الموبقات، فإن أمكن ذلك، فليأخذ المرء حذره، وإن لم يمكن، فالوجه الاعتصام بالله، وكسر قوى النفس بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معصوم إلا من عصمه الله، وكم من ناكح يفجُر، ومن عَزْبٍ يتقي.
فإن تزوج ولا أهبة له، فقد يجر ذلك خللاً في في ينه.
7841- وينبغي أن يقصد ذات الدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليك بذات الدين تربت يداك».
ويطلب الحسيبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم وخضراء الدِّمن، قيل: وما خضراء الدمن، قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء» وقال صلى الله عليه وسلم: «تخيروا لنطفكم، لا تضعوها في غير الأكفاء».
ويقصد البكر، لما روي أن جابراً تزوج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تزوجت؟» فقال: نعم. فقال: «بكراً أم ثيباً؟» فقال: ثيباً. فقال صلى الله عليه وسلم: «فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟» فقال: إنّ أبي قتل، وخلف بنات صغاراً، ولم أرد أن أدخل عليهن خرقاء مثلهن.
وصح الندب إلى نكاح الولود، لما روي عن معقل بن يسار أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني وجدت امرأة ذات منصب وجمال غير أنها لا تلد، أفأنكحها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح إلا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم».
ويستحب ألا ينكح القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاوياً، يعني ضئيلاً محمَّقاً هزيلاً. قال صلى الله عليه وسلم: «أغربوا ولا تضووا».
فصل:
7842- لا يحل للرجل أن ينظر من الرجل إلى ما هو عورة، ولا يحل مسّ ذلك، ولا الإفضاء إليه من غير حائل.
ويحل أن ينظر إلى غير العورة إذا أمن منه الفتنة.
فأما الأمرد إذا خيف من ترديد النظر إليه الفتنة، فإن كان لشهوة، فهو حرام اتفاقاً، وإن لم يقصد قضاء وطر شهوة. وإن لم يمكن فتنة، فلا بأس، وإن أمكنت فتنة وظهر إمكانها، قال صاحب التقريب: لا يحرم. وقال طوائف: يحرم، لاجتناب الفتنة، ووجه نفيه أن الأمرد الوضيء محل الفتنة، ولا يُمنع من الدخول بين الناس على أحسن بزّة وهيئة، والغالب من الشباب الافتتان، ثم لم يُضرب على المرد الحجاب، فالوجه نفي تحريم النظر، والأمر بالتقوى، وقد روي أن قوماً وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام حسن الوجه، فأجلسه من ورائه، وقال: "إني أخشى على نفسي مثل ما أصاب أخي داود"، وهذه القصة تستحث على الورع، ولا تقتضي التحريم؛ لأن ذلك الصبي كان بمرأى من الحاضرين الناظرين، ولم ينههم عن النظر.
ويكره تضاجع الرجلين في ثوب واحد، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوبٍ واحد» والحديث صحيح أخرجه مسلم.
7843- فأما نظر المرأة إلى المرأة، فقد ذكرنا أنه يجب على المرأة ستر جميع بدنها إلا الوجه والكفين لأجل الصلاة، فجملة بدنها إلا ما استثني لأجل الصلاة بمثابة ما بين سرّة الرجل وركبته. وقيل: لا تنظر المرأة من المرأة إلا ما ينظر الرجل من محارمه.
ولم يَصِر أحد من أصحابنا إلى قصر النظر من المرأة إلى المرأة على الوجه والكفين.
وذهب المحققون إلى أن المرأة من المرأة كالرجل من الرجل في كل قسم، إلا ما يجب ستره في الصلاة؛ فإن ما يجب على الرجل ستره في الصلاة يجب في غير الصلاة، حتى في الخلوة عند طائفة من الأئمة.
وما يجب على الحرة ستره في الصلاة لا يجب عليها ستره في غير الصلاة، إلا ما بين السرة والركبة.
والذّميّة فيما تنظر من المسلمة كالمسلمة، إلا أنه يستحب البعد منها، وقيل: إنها لا تنظر من المسلمة إلا ما ينظره الرجل الأجنبي منها، لقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] فخصّ نساء المسلمين بذلك.
7844- أما نظر الرجل إلى المرأة التي تحل له، فجائز إلى جميع بدنها، وما وراء إزارها، وإلى الفرج على المذهب الصحيح، لأنه يباح له الاستمتاع به، وهو زائد على النظر، وأما الخبر، ففيه ضعف، ويُحمل إن صحّ على الكراهية؛ لأن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يوجد خلافه. وقيل: يباح النظر إلى ظاهره دون باطنه، ولا معنى فيه، وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما قال لجاريته: "تجردي، وأقبلي وأدبري ولك ألف درهم".
ولا يحرم نظر الرجل إلى فرج نفسه، لكنه يكره من غير حاجة.
7845- وإن كانت المرأة لا تحل له، فإن كانت محرماً له بقرابة، أو رضاع، أو صهر، فله أن ينظر منها إلى ما يظهر عند المهنة، كالساق، والساعد، والعنق، والرأس، والوجه، ولا يحل له ما بين السرة والركبة. وفيما فوق السرة وتحت الركبة وجهان. وفي الثدي في زمن الرضاع طريقان، منهم من ألحقها بمحل الوجهين، ومنهم من ألحقها بما يظهر عند المهنة في هذا الزمان، فما هو عورة من الرجل يجب أن يكون مستوراً منها أبداً، وعليها وراء ذلك رعاية هيئة، وأخذ ريبة وإذا لابست الصلاة، راعينا نهايته، ولا تكلف ذلك في تصرفاتها، فيشق عليها.
أما الأجنبية فلا يحل للأجنبي أن ينظر منها إلى غير الوجه والكفين من غير حاجة.
والنظر إلى الوجه والكفين يحرم عند خوف الفتنة إجماعاً، فإن لم يظهر خوف الفتنة، فالجمهور يردعون التحريم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال أكثر المفسرين: الوجه والكفان، لأن المعتبر الإفضاء في الصلاة، ولا يلزمهن ستره، فيلحق بما يظهر من الرجال.
وذهب العراقيون وغيرهم إلى تحريمه من غير حاجة. قال: وهو قوي عندي، مع اتفاق المسلمين على منع النساء من التبرج والسفور وترك التنقب، ولو جاز النظر إلى وجوههنّ لكُنَّ كالمُرد، ولأنهنّ حبائل الشيطان، واللائق بمحاسن الشريعة حسم الباب وترك تفصيل الأحوال، كتحريم الخلوة تعمّ الأشخاص، والأحوال إذا لم تكن محرميّة. وهو حسن.
والمباح من الكف من البراجم إلى المعصم، ولا يختص بالراحة، وغلط من خصّ التحليل بالراحة دون ظهر الكف، وفي جواز ظهور أخمص قدمي المرأة الحرة وجهان في الصلاة، وقيل: هو في جواز كشفه والنظر إليه في غير الصلاة على الخلاف، والصحيح تحريم النظر إليه. ولا يجري ذلك الخلاف في ظهر القدم أصلاً، بخلاف ظهر الكف. وسئل أبو عبد الله الخِضْري عن الأجنبي ينظر إلى قلامة ظفر المرأة، فأطرق طويلاً، فقالت زوجته-وكانت ابنة أبي علي الشَّنوي-: لمَ تفكر؟ وقد سمعت أبي يقول في جوابها: إن كانت قلامة أظفار اليد، جاز، وإن كانت قلامة أظفار الرجل لم يجز؛ لأن كفها ليس بعورة، بخلاف ظهر القدم، ففرح الخضري، وقال: لو لم أستفد من اتصالي بأهل العلم إلا هذه المسألة، لكانت كافية.
وقد قطع الأصحاب بتحريم النظر إلى العضو المبان من الأجنبية، كتحريم النظر إليها ميتة.
ونصّ الشافعي على تحريم النظر إلى شعر الأجنبية إذا وصلته الزوجة بشعرها.
والنظر إلى شعر الأمة من رأسها متصلاً ومنفصلاً جائز، فلو اختلط شعر حرة بشعر أمة ولم يتميز، فلا يليق بدأب الفقه منع النظر إليه؛ لأن تحريم المناظر يبتني على تميز المنظور من غيره، وكذلك حكم جلده يسقط ويشكل. وهذا مقتضى الرأي الكلي، ولأن أئمة الورع كانوا لا يغضون الطرف عن الشعور الملقاة في الطرقات، مع جواز كونه شعر من لا تحل رؤية شعرها لما ذكرناه.
ومن أصحابنا من فرّق بين الحرة والأمة، وجوّز أن ينظر من مملوكة غيره ما ينظر الرجل من محارمه، لما روي أن عمر رأى أمة مقنعة، فعلاها بالدرة، وقال: "يا لكعاء تتشبهين بالحرائر" وهذا قد يتجه بأن حكم العورة في الحرائر أضيق منه في الإماء، ولهذا افترقا فيما يجب ستره في الصلاة، فما لا يجب على الأمة ستره في الصلاة فهو منها بمثابة الوجه من الحرّة، لكنا بينا أن الظاهر أنه لا يحل النظر إلى وجوه الحرائر، وأولى الأعضاء بمنع النظر إليه الوجه، ومملوكته التي لا تحل له كأخته من الرضاع والنسب، والمجوسية والوثنية والمرتدة والمعتدة والمكاتبة والمزوجة كأمة غيره.
7846- أما نظر المرأة إلى الرجل، فإن كان زوجها أو مالكها، فهو كنظر الزوج والمالك إلى زوجته ومملوكته، وفي فرجه ما قدمناه في فرجها.
وأما نظر الأجنبية إلى الأجنبي، فقيل: هو بمثابة نظر الرجل إلى المرأة، وقيل: لا يحل أن تنظر منه إلا الوجه والكفين، وقيل: إلى ما يظهر منه عند المهنة، وقيل: إلى ما فوق السرة وتحت الركبة، وهو القياس المحقق. وروي أن عبد الله بن أم مكتوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة وحفصة، فقال: لمَ لمْ تحتجبا عنه، فقالتا: إنه أعمى. فقال صلى الله عليه وسلم: «أفعمياوان أنتما».
7847- مسائل مفردة: إذا كان للمرأة عبد مملوك، فقد قيل هو محرم لها، لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وقيل: لا؛ لأن النفوس تتقاضى أربابها بالكف عن المحارم، فصار الإطباق عليه مانعاً من التهم، ولسنا نرى ذلك بين السيدة وعبدها، والآية محمولة على الإماء، وفيه نوع استكراه، واحتماله أهون من خلوة العبد بسيدته، ولا يحمل قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} [النور: 31] على المخانيث المتشبهين بالنساء، بل حكمهم حكم الرجال.
وحكم العنِّين حكم المقتدر على الوطء. والشيخ الهِمّ بمثابة الشباب.
وأما الخصيُّ الممسوح، فالأكثرون نزَّلوه من الأجنبيات بمنزلة الرجل المَحْرَم، وقيل: هو كالفحل؛ لأنه يحل له نكاح التي ينظر إليها، ولو التحق بالمحارم، لسُدَّ عليه بابُ نكاحها. ولو كان مسلولا سليم الذكر أو مجبوباً سليم الأنثيين، فحكمه كالفحول.
وقد حمل بعض أصحابنا قوله تعالى: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31] على الخصي الممسوح، والإربة الحاجة. وقيل: المراد به الأطفال الذين لم يتشوفوا إلى الشهوة تشوف نزوان، ويحملون قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ} [النور: 31] على التأكيد. وهذا بعيد لا يوافق نظم القرآن.
واختلف في قوله سبحانه: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فقيل: لم يبلغوا مبلغاً يحكون ما يرون، وتحملهم الدواعي على حكايته. وقيل معناه: لم يتشوفوا على ما فسرناه، والمعتبر هو التشوف في المناظر واعتماد حكاية ما يواريه الإزار، فإذا لم يبلغ هذا المبلغ، فحضوره كغيبته، واعتماد الحكاية تقع قبل سن التمييز، والقول في الصبي المتشوف كالقول في الرجل في وجوب الاحتجاب. وإن لم يبلغ التشوف، نزل منزلة المحارم.
وأما الخنثى، فقيل: هو في نظره إلى المرأة كالرجل، احتياطاً، كما ثبتت أحكامه، ولم يطلق القفال فتواه بالتحريم استدامة لحكمه وحال طفوليته.
قال الإمام: وجه هذا إذا لم تَدْعُ حاجة للنظر، فإن دعت حاجة، أبيح له النظر، فمن الحاجة المبيحة معالجة الطبيب، ويباح له بها المسّ، ومنها تحمّل الشهادة، فقد تفضي إلى النظر إلى ما وراء الإزار، ومطلق الحاجة لا تبيح النظر المحرم، والضرورة المهلكة لا تشترط، فالضابط فيها المرض الذي يبيح الانتقال من الماء إلى التيمم، وقد سبق بيانه.
7848- وجواز النظر إلى الأجنبية عند خطبتها مقصور على الوجه والكفين واليدين، إذا لم يُخف الفتنة، لعموم الحاجة في بناء النكاح على تمييزه، وبيان عمومها أنه ليس في الخلق من يستوي عنده الدمامة والحسن، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الحاقة، وعليه يبنى جواز النظر إلى وجه المرأة عند تحمّل الشهادة عليها دون غيره.
فأما ما يحرم النظر إليه لغير خوف الفتنة كالعورة، فهو حجاب شرعي متاصل، فإزالته في حكم رفع الحجاب بين الرجل والمرأة، فيراعى فيه الحاجة التي ضبطناها، ولا يبعد أن يشترط بعد الوجه والكف مزيد حاجة في عضو دون عضو، ولهذا أبحنا للمحارم النظر إلى ما يظهر في حالة المهنة، ولم نجوز للمحرمية النظر إلى ما تحت الإزار، وردّدنا القول فيما بينهما، ولم تقتض المحرمية إباحة النظر إلى ما تحت الإزار لمزيد تغليظ من الشرع في ستره، ولذلك سوّي في منعه بين الذكر والأنثى. فما جاز الانتقال فيه إلى التراب قطعاً يكون مُسلِّطاً على الكشف، وما اختلف القول فيه في جواز الانتقال هناك يسلط على الكشف هاهنا قولاً واحداً؛ لأن الانتقال إلى التراب من الأحوال النادرة، والحاجة إلى الكشف مما يعم بسبب الأمراض، فلا يرتب ما تعم حاجته وإن خف على ما تندر حاجته.
والأصل في حل النظر إلى من يريد نكاحها قوله صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينكح امرأة فلينظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينهما» وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد أحدكم أن يتزوج بامرأة فلينظر إليها، فإن في أعين الأنصار سوءاً» وروي «شيئاً».
وهذا النظر مستحب لندب الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وقيل: هو مباح، وصيغة الأمر قد تحمل على الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، والنظر مباح وإن خيفت الفتنة، فاستحباب التعرض إلى الفتنة بعيد عن قاعدة الشريعة.
ولا يحل النظر إلى ما سوى الوجه والكفين؛ فإن قصد التزوج، لم يحرم عليه النظر-وإن خاف الفتنة- إلى الوجه والكفين للخبر.
وينبغي أن يقدم النظر على الخطبة؛ لأنه إذا قدم الخطبة، ثم نظر، فقد لا تقع بغرضه، فَتَرْكُ الخطبة يؤدي إلى الإيحاش.
ولا يفتقر إلى إذن المرأة، بل له أن يتغفّلها فينظرها، لأن استئذانها بمثابة تقديم الخطبة. ولو أمر امرأة تنظر إلى مجردها، فلا بأس، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوج امرأة، فبعث إليها أم عطية وقال لها: "شمي معاطفها، وانظري إلى عرقوبها".