فصل: باب: قطع اليد والرجل في السرقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: قطع اليد والرجل في السرقة:

قال الشافعي: "أخبرنا بعض أصحابنا... إلى آخره".
11128- مذهب الشافعي أن اليدين والرجلين مستوفاة في كَرَّات السرقة على ما سنذكر تفصيلَ استيفائها. والأصل في ذلك ما رواه الشافعي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سرق فاقطعوا يدَه، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله، ثم إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله»، فالأطراف الأربعة مستوفاة، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال في الكرّة الخامسة: «فإن سرق، فاقتلوه». وقيل: للشافعي قول قديم أنه يقتل في المرة الخامسة؛ تعويلاً على هذه الرواية، فإن معتمد الباب الخبر، ولكن هذا القول في حكم المرجوع عنه، فلا اعتداد به، وتلك الزيادة شاذة، لم يتعرض لها الشافعي.
فإذا سرق أربع مرات، واستوفينا أطرافه وعاد وسرق، بالغنا في تعزيره. وإن رأى الإمام أن يحبسه، فعلى ما سنصف الحبسَ الواقعَ تعزيراً في كتاب الأشربة، إن شاء الله.
فإذا تمهد أصل المذهب، فمن سرق وأطرافه الأربعة سليمة، قطعنا يده اليمنى، في الكرة الأولى، فإن اعتماد التناول عليها؛ فلما كانت هي الآخذة، كانت هي المأخوذة في الحد.
فإذا سرق مرة أخرى، فاليد اليسرى أقرب إلى التناول والأخذ، ولكن لو أخذناها، واستوعبنا جنس اليد، لعظُم الضرار، ولكان هذا في حكم ضم عقوبةٍ إلى عقوبةٍ، يعني الاستيعاب بالقطع، فَمِلْنا إلى الرجل؛ فإن غَناءها في السرقة بيّن، وأثرها يلي أثر اليد، فَنَقطع في المرة الثانية رجلَه اليسرى، لأصلين:
أحدهما: أنا وجدنا أثر قطع اليد والرجل دفعةً واحدة في الحرابة على هذا الوجه والأخذة الواحدة مجاهرةً معدَّلةٌ بسرقتين.
والثاني: أن الأخذ إذا وقع على خلافٍ أمكن أخذُ خشبة باليد الأخرى والاتكاء عليها في المشي، وإذا وقع القطع عن وفاق، لم ينتظم هذا الغرض.
فإذا عاد فسرق مرة ثالثة، لم نجد بُدّاً من استيعاب جنس اليد، فعدنا إلى اليد، كما بدأنا به أول مرة، فنقطع اليد اليسرى، ثم نقطع في الرابعة الرجل اليمنى، هذا هو الترتيب المستحق في قطع الأطراف.
11129- ثم إذا سرق في المرة الأولى ويمناه سليمة، قطعناها ولو كان عليها إصبع واحدة، اكتفينا وقطعنا اليدَ من المعصم.
ولو كان يمناه كفّاً، بلا أصابع، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نكتفي بقطعها، كما لو كان عليها إصبع، ويحصل بهذا القطع الإيلام التام، والتنكيل.
والثاني: لا نقطعها؛ فإنها كالعديمة؛ إذ لا مقدّر فيها، وننتقل إلى الرجل، كما نفعل ذلك في الكَرّة الثانية، ولا خفاء أنا نقطع الرجلَ اليسرى.
ولو كان على اليمين إصبعٌ زائدة، قطعنا اليد، ولم نبال بتلك الزيادة، وهذا يعادل اكتفاءنا بكف عليها إصبع، واستحقاقُ اليد في السرقة لا يشبه استحقاقها في القصاص؛ فإنا نَرْعَى في القصاص التساوي في الخلقة والسلامة، فلو قطعنا يداً عليها زيادة خلقية بيد معتدلة، لقابلنا يداً وزيادة بيد.
ولو كانت اليد اليمنى شلاء، فإن كنا نخاف نزف الدم لو قطعناها، لم نقطعها، وقدّرنا كأنه سرق ولا يمنى له، وإن لم نخف نزفَ الدم، فالذي ذكره الأصحاب أنا نكتفي باليمين الشلاء إذا كانت ذات أصابع، وفي هذا احتمال؛ من جهة أنه لا تَقَدُّرَ فيها، وليست عاملة، فإذا سقط العمل، وتَقُدُّرُ الأرش أمكن أن يقال: لا اكتفاء بها.
والأظهر الاكتفاء؛ فإن من قطعت يده السليمة، وكانت يد القاطع شلاء، فاكتفى بها مستحق القصاص، وقعت موقع الإجزاء، فإذا لم يبعد اكتفاء مستحق القصاص بالشلاء، لم يبعد اكتفاء الشرع بقطع الشلاء في السرقة، والعلم عند الله تعالى.
ولو كان على الساعد اليمنى كفّان، فقد قال الأصحاب: نقطعهما. ونعلم أن الأصلية إحداهما، ولا مبالاة بالأخرى إن قطعناها؛ لما ذكرناه من أن اليمين لو كانت عليها إصبع زائدة، لقطعناها، ولم نحتفل بتعطيل الإصبع الزائدة.
وهذا فيه تفصيل عندنا: فإن كانت اليد الأصلية بيّنة، فأمكن قطعها، فلا سبيل إلى قطع الأخرى، وإن كان لا يتأتى قطع الأصلية إلا بقطع الزائدة فهل نقطعهما حينئذٍ إن كان قد أشكل الأصلي منهما؟ فالذي رأيته للأصحاب أنا نقطعهما ليتحقق قطع اليد المستحقة، ولا مبالاة بإبانة الزائدة. وهذا ظاهر التوجيه، فليتأمله الناظر.
11130- ثم مذهب العلماء أن قطع اليد من مفصل الكوع، وقطع الرجل من الكعبين، وذهب بعض أصحاب الظاهر إلى أن اليد تقطع من المنكب، وهذا ْمذهب متروك، وقد ذكرنا في مواضع من الأصول والفروع، أن أصحاب الظواهر ليسوا من علماء الشريعة، وإنما هم نقلة إن ظهرت الثقة بهم.
ثم ينبغي أن نمد اليد والرجل حتى تنخلع، ثم تربط الجارحة على خشبة حتى لا تضطرب، أو على ما تيسّر.
11131- ثم الحسم لابد منه؛ إذ ينقطع بفصل اليد شرايين لا يَرْقَأُ دمُها إلا بالحَسْم، والحَسْمُ أن يغلى الزيت بالنار، ويغمس موضع القطع فيه، فتنسد أفواه العروق، واختلف الأصحاب في أن الحسم حق لله تعالى أو من حق المقطوع: فمنهم من قال: هو تتمة حق الله تعالى، وفيه مزيد إيلام مع رعاية مصلحة، وهذا القائل يستشهد بأن السلاطين ما زالوا يفعلون هذا في المقطوعِ أطرافُهم لا يتركونه، فتُحسم أيديهم على الكُرْه منهم، ولم يتعرضوا لهذا في قطع الأيدي قصاصاً.
ومن أصحابنا من قال: هذا حقٌّ للمقطوع، وهو الظاهر؛ لأن الحد إنما هو القطع، ولا يخفى على المنصف أن الحسم استصلاحٌ ومعالجة. فإن قيل: إذا عرّض الإنسان نفسه للهلاك، فللسطان أن يمنعه عنه قهراً، وترك الحسم تعرّضٌ للهلاك؟ قلنا: ليس الأمر على هذا الإطلاق، فإن الضعيف قد يهلكه ألم الحسم، والسعيُ في قطع الدم ممكن بوجه آخر، والمالك لأمر نفسه لا يتعرض السلطان لتخير معالجته.
التفريع: إن حكمنا بأن الحسم حقُّ المقطوع، فالأمر إليه فيه: إن أراده، فالمؤنة عليه.
وإن قلنا: الحسم من حق الله تعالى، فالمؤنة فيه بمثابة مؤونة الجلاد، وقد سبق الخلاف في أن مؤونة الجلاد على من؟
ثم إذا قطعت يد السارق، ففي بعض الآثار أن يده المقطوعة تعلّق في رقبته؛ تنكيلاً به، وقد اختلف أئمتنا في هذا: فمنهم من لم يصحح الخبر، ولم ير هذا، ومنهم من رآه، ولا ينتهي الأمر إلى الإيجاب في ذلك، ولكنه إلى رأي الإمام. ثم أشار هؤلاء إلى أنه تبقى في عنقه ثلاثة أيام.
11132- ومما يتعلق بذلك أن السارق إذا استحق قطع يمينه، فلو لم يتفق قطعُ يمناه حتى سقطت بآفة سماوية، فالذي اتفقت عليه الطرق أن الحد سقط في هذه الكرّة؛ فإن اليمين كانت مستحَقَّة، وقد سقطت، فسقط الحد عقوبة بسقوط محله.
ونص الأصحاب على أن من استحقت يده قصاصاً، واستحقت يده حداً؛ فإذا قطعت يده قصاصاً، سقط الحد بفوات المحل في القصاص. وفي بعض التصانيف أن اليمين إذا سقطت بعد الاستحقاق، فإنا نَعْدل إلى الرجل اليسرى، فنقطعها، ونجعل كأنه سرق ولا يمين له، ولو كان كذلك، لتعلق الوجوب بالرجل اليسرى.
وهذا غلطٌ لا مراء فيه، والمذهب الذي عليه التعويل ما ذكره الأصحاب.
ومما نذكره متصلاً بذلك أن من سرق أول مرة، فقال له الجلاد: أخرج يمينك فأخرج يساره، فقطعها الجلاد، نص في الأم على سقوط قطع السرقة وحكى الحارث بن سريج النقال، وقيل البقال: إن الجلاد إن تعمد ذلك فعليه القصاص في اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين، وإن قال: دهشت فحسبت أن الذي قطعته اليمين، وجبت الدية بسبب قطع اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين: فحصل قولان:
أحدهما: أن قطع السرقة لا يسقط، كما لا يسقط القصاص لو وجب في اليمين بالعدول في اليسرى.
والثاني: يسقط الحد، وهو ظاهر النص في الأم.
وقد استقصيت مسألة الدهشة في القصاص والحد في كتاب الجراح، وأتينا بها على الاستقصاء، وأوضحنا أن اختلاف القول فيه إذا جرى القطع على الدهشة، ثم فصّلنا الدهشة.
فأما إذا جرى قطع اليسار عمداً على علم، فالحد باقٍ، والقصاص واجب.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال مفرِّعاً على أن القطع لو صادف اليسرى غلطاً، لسقط الحد: لو سقطت اليسرى قبل اليمين بأَكِلَةٍ، لم يمتنع أن يكون سقوطها بالآفة بمثابة غلط الجلاد إليها بالقطع، وهذا سخيف لا اعتداد به، وقد زيفه العراقيون فيما نقلوه.
فصل:
قال: "ولا يقطع الحربي إذا دخل إلينا بأمان... إلى آخره".
11133- العقوبات ضربان: حق الله تعالى، وحق الآدمي، كحد القذف، والقصاص، فإذا صار سببهما من الذمي والمعاهد، وجبا عليهما وفاقاً.
فأما العقوبات التي هي حدود الله تعالى، فهي أقسام: منها حد الشرب، وقد قال المحققون: لا يجب على الذمي حد الشرب، لأنه يعتقد حِل الخمر، وقد ذكرنا خلافاً بعيداً في ذلك.
وقد ذكرنا نصَّ الشافعي على أن الحنفي إذا شرب النبيذ حُدّ، وذكرنا تخريجاً في هذا، والذي نزيده أن من أصحابنا من قال: إنما أحد الحنفيّ إذا شرب وسكر؛ فإن ما يُعقب السكرَ حرام وفاقاً، فيعود الخلاف إلى نفي الحد ووجوبه، والخلاف في الحد لا يمنع الإمام من الجريان على موجَب عقده في استيفاء الحد، وهذا فيه تأمّل؛ فإنا إن لم نجر على نص الشافعي أن الحنفي يحد إذا شرب وإن لم يُسكر، فالحكم بتحريم المقدار المسكر على رأي أبي حنيفة عسر، وللاحتمال على الجملة مجال، والمعتمد النص. هذا قولنا في حد الشرب.
11134- فأما قطع السرقة، فإنه يجب على الذمي، فإن سرق من مال المسلم، قطعه الإمام، ولا يتوقف الأمر على رضاه بحكمنا؛ فإن الذمي مزجور عن التعرض لمال المسلم بالحد، فلو توقف الحد على رضاه، لبطل هذا المعنى، وإذا سرق الذمي من الذمي، فذاك مما يتوقف إقامة الحد فيه على ترافعهما، ثم يجري القولان في أنا هل نحكم على الممتنع إذا ارتفع إلينا الخصم المطالِب في المال؟.
وكذلك لو زنى الذمي بمسلمة، فالوجه عندنا القطعُ بإقامة الحد عليه؛ لما حققناه في السرقة، فأما إذا زنى بكافرة، فيقع ذلك في تفصيل حكمنا عليهم قهراً واختياراً.
ثم كما يجب على الذمي القطع بسرقة مال المسلم يجب على المسلم القطع بسرقة مال الذمي، فالعصمة لماله والحد لله تعالى، وليس مبنياً على معنى المكافأة بخلاف القصاص.
وفي كلام أصحابنا ما يدل على أنا لا نفصل بين زنا الذمي بمسلمة أو ذمية في رد الأمر إلى القولين في قهرهم إلى أحكامنا، ويؤول الكلام إلى أن عهده هل ينتقض؟ وهذا غلط لا يعتقده خبير بسر المذهب؛ فإنا إذا لم نر إقامة الحد قهراً-وليس في حق الله تعالى خصمٌ مطالِب إلا الإمام- لجرّ ذلك فضيحةً عظيمة، والحكم بانتقاض عهده لا نراه شيئاً مع أنه يطلب الذمة فنجددها له، ولا وجه إلا ما قدمناه.
وهذا كلام في الذمي المؤبد العهد.
11135- فأما المعاهَد إذا سرق، فقد تعارضت النصوص فيه، والحاصل مما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحد لا يجب عليه؛ فإنه بالعهد المؤقت لم يلتزم الاستسلام لأحكام الإسلام، وحدود الله تعالى، وإنما تقام على ملتزم. والقول الثاني- أنه يقطع كالذمي؛ فإنه حال السرقة في عهد، وموجَب العهد العصمة، ومن الوفاء بها التزامُ الزواجر عند ركوب موجِباتها. وذكر أصحابنا قولاً ثالثاً- أنه إن شرط عليه القطع لو سرق، لزمه، وإن لم يشرط عليه القطع لو سرق، لم يلزمه.
ولو سرق المسلم مال المعاهد، فالتفصيل فيه كالتفصيل في المعاهد إذا سرق مال المسلم؛ إذ يبعد أن يُقطع المسلم في مال المعاهد، ولا يقطع المعاهد في مال المسلم.
ولو زنى المعاهد بمسلمة، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجراه مجرى السرقة، ومنهم من رأى القطعَ بأن حدّ الزنى لا يتوجه عليه؛ لأنه محض حق الله تعالى، ولا يتعلق بطلب الآدمي وخصومته.
ولا خلاف أن ما أخذه المعاهد أو أتلفه من المال، فهو مطالب بالأحكام المالية، وإنما التردد الذي ذكرناه في العقوبة التي تجب لله تعالى.
فصل:
11136- العين الواحدة إذا تكررت السرقة فيها، فيتكرر القطع عندنا سواء سرقها من مالكين أو مالك واحد، وخلاف أبي حنيفة مشهور في ذلك، وكل سرقة عندنا جريمة على حيالها، ثم لا يشك الفقيه أن ما ذكرناه في تخلل الحدّ بين السرقتين؛ فإنه لو سرق مراراً، ولم يتفق استيفاء الحد منه، فإنا لا نقيم عليه إلا حداً واحداً، فنقطع يمناه، وتكرر السرقات من غير تخلل قطع بمثابة سرقة نُصب بدفعة.

.باب: الإقرار بالسرقة والشهادة عليها:

قال الشافعي رحمه الله: "لا يثبت على سارق حد إلا بأن يثبت على إقراره... إلى آخره".
11137- لا شك أن وجوب القطع واستيفاءه يترتب على ثبوت السرقة الموجبة له، والسرقة تثبت بالإقرار، أو البيّنة، ثم الإقرار ينقسم قسمين: إقرارٌ قبل الدعوى، وإقرار بعدها، وكذلك البيّنة تنقسم على هذا الوجه، وسنستوفي الأقسام، ونأتي في كل قسم بما يليق به.
ونقول أولاً: إذا ادعى مالك مالٍ السرقةَ على إنسان، فلا يخلو، إما أن يكون له بينه أو لا يكون له بيّنة؛ فإن لم يكن له بينة، فلا يخلو إما أن ينكر المدعَى عليه أو يقر، فإن أنكر، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف المدعي، واستحق دعواه، وغرّمه المال؛ لأن النكول مع ردّ اليمين كالبيّنة، أو كالإقرار، ولا شك في ثبوت الدعوى بهما جميعاً، ثم كما يثبت المال، يثبت القطع حقاً لله تعالى، هكذا ذكره الأصحاب؛ فإن يمين الرد إن جعلناها كالإقرار، فالقطع يثبت به، وإن جعلناها كالبينة، فهي كبينة كاملة، والدليل عليه أن القصاص يثبت بها، والقصاص لا يثبت إلا ببينة.
وقد يخطر للناظر في هذا أدنى إشكال؛ من حيث إن الدعوى لا تتعلق إلا بالمال، والقطع لله تعالى، وإجراء حدود الله تعالى بالأيمان فيه إشكال.
ولو قال رجل: استكره فلانٌ جاريتي وزنى بها، فأنكر المدعى عليه، وأفضت الخصومة إلى يمين الرد، فالمهر يثبت بها، ويبعد أن يثبت حد الزنا.
فإذاً يجب ترديد الرأي في ثبوت حد السرقة؛ لما أشرنا إليه، ويجب القطع بأن حد الزنا لا يجب؛ من جهة أنه يثبت حقاً لله تعالى، وسنذكر بعد هذا مسائلَ تشير إلى التسوية بين حد السرقة والزنا، حتى صار كثير من الأصحاب إلى إجراء الخلاف فيهما بطريق النقل من أحدهما إلى الثاني. هذا فيه إذا أنكر.
11138- وإن أقرّ، ثبت الغرمُ والقطعُ بإقراره، وإن أصر على الإقرار؛ فلا كلام، وإن رجع عن الإقرار، فللأصحاب طريقان: قال قائلون: إذا رجع، لم نقبل رجوعَه في المال، والغرم قائم عليه، وفي قبول رجوعه في القطع قولان:
أحدهما: يقبل، وهو قياس العقوبات حقوقِ الله تعالى، ولا خلاف أن حد الزنا إذا ثبت بالإقرار، سقط بالرجوع، والقول الثاني: أن القطع لا يسقط، لأنه قرين الغرم، فإذا لم يؤثِّر رجوعه في المال، وجب ألا يؤثِّر في القطع.
وهذا قد يشير إلى فقهٍ لائق بالباب، وهو أن قطع السرقة يرتبط بحق الآدمي من وجهٍ؛ لأنه أثبت عصمةً لماله، ولهذا يتعلق بمخاصمة المالك في المال، وللغلوّ في هذا المعنى صار أبو حنيفة إلى أنه لا يجمع بين القطع، وتغريم السارق. هذا مسلك لبعض الأصحاب سديد، وهو طريقة القاضي.
وذهب طوائف من الأئمة إلى عكس هذا، وقالوا: إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، ثم رجع عن إقراره، فرجوعه عن الإقرار مقبولٌ في القطع ساقطٌ قولاً واحداً، وهل يسقط الإقرار بالمال؟ فعلى قولين، فهؤلاء قطعوا بسقوط القطع، ورددوا القول في إتباع المال القطعَ وشبهوا ذلك بإقرار العبد بالسرقة، فإن إقراره في وجوب القطع مقبول، وفي المال قولان.
والطريقة الأولى أفقه؛ فإن قبول الرجوع عن الإقرار بالمال بعيد عن القولين، والذي يوضح ذلك أن ضمان السارق المالَ يسبق استيجابه القطعَ؛ فإنه إذا أثبت يده على مال الغير، ضمنه بالعدوان، ثم يستوجب القطع بالإخراج من الحرز.
والطريقة المُثلى المصير إلى أن القطع يسقط، والغرم يبقى، وقد ذهب إلى القطع بسقوط القطع وبقاء الغرم طوائف من المحققين، منهم الصيدلاني وغيره، وليس هذا كإقرار العبد؛ فإن سبب قبول إقراره انتفاء التهمة، ولولا ذلك، لما قبلنا إقراره في القطع، وفيه إتلاف طرف مملوك للسيد، ولو أقر الرجل بأنه استكره جارية على الزنا، وثبت عليه الحد والمهر بإقراره، فلو رجع عن الإقرار، لم يسقط المهر، وفي سقوط حد الزنا جوابان للقاضي. قال: يحتمل أن يكون كحد السرقة، ويحتمل أن يقال: يسقط الحد قولاً واحداً؛ لأن وجوب الحد ينفك عن المهر، ووجوب القطع لا ينفك عن مطالبةٍ بردّ عينٍ أو غرم، فارتباط القطع بالمال أشد من ارتباط الحد بالمهر.
ومن سلك الطريقة الثانية في حد السرقة وقال: إذا رجع عن الإقرار، سقط الحد، وفي الغرم خلاف قد يلتزم مثل هذا فيه إذا أقر بالاستكراه على الزنا ثم رجع عن الإقرار، فيقول: الحد يسقط، وفي سقوط المهر تردد.
وكل ذلك خبط، والوجه القطع ببقاء المال، وسقوط الحد.
11139- ثم قال الأصحاب: إذا رأينا سقوط القطع بالرجوع عن الإقرار، فقطع الجلاد بعض اليد، فرجع، فعلى الجلاد أن يكف، فلو قال الراجع: اقطع البقية وأرحني، فإن كان الباقي على حياة، فلا يحل قطعه، وإن بقيت جلدة نعلم أنها لا تستقل، وستسقط، فيجوز قطعها.
وليس هذا من أحكام الحد، بل كل من قطع يده ظلماً أو حداً، أو انقطع بعض يده لمصادمة آلةٍ، فإن كان في الباقي حياة، فلا سبيل إلى قطعه، وإن كان كالجلدة التي وصفناها، فالخِيرةُ إلى صاحب اليد: فإن أراد قطعها، فلمن يأمره بقطعها أن يقطعها، وإن أراد تركها، تركها، وقد استقصيت حكم ذلك في الجراح، في الطهارة والنجاسة، وأحكام الصلاة، ووجوبُ القصاص على من ينهي القطع من يد المجني عليه إلى هذه الغاية، فلا معنى للإعادة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الخصومة على إنكار المدعى عليه، أو إقراره.
وقد انتجز الكلام في إقراره مترتباً على دعوى المدعي.
11140- فلو أقر بالسرقة قَبْل بدعوى المسروق منه، فإقراره ثابت، ولكن هل نقطع يده في غيبة المسروق منه، أو نصبر إلى أن يحضر؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نقطع يده، ولا نبالي، كما لو أقر أنه زنى بفلانة، أو زنى بجارية فلان، فحد الزنا يقام عليه بحكم إقراره في غيبة هؤلاء، وكذلك حد السرقة.
والوجه الثاني- أنه لا يقطع في غيبة المسروق منه، والفرق أن المقَرَّ له بالسرقة من ماله لو حضر وقال: ما سرقه ملكُه، وليس ملكي، أو قال: كنت أبحتُ له أخْذ ما أخذه، فالقطع يسقط، وإن أنكر السارق ذلك. فإذا كنا نتوقع هذا، فلا معنى لابتدار القطع قبل حضور مالك المال، وليس كالزنا؛ فإن مالك الجارية لو قال: كنت أبحت الجارية للواطىء، فلا حكم لذلك، فلا معنى لانتظاره.
وقد نُنشىء من هذا المنتهى أن مالك الجارية لو قال: كنت بعته الجارية أو وهبته إياها، وقبضها، فيجب أن يقال: لا يسقط حد الزنا بذلك، مع إصراره على الإقرار بالزنا، وتكذيبِ مالك الجارية. وأبو حنيفة يسقط الحد بمثل هذا.
ولو قال الرجل: زنيت بفلانة وذكر حرّة فقالت: كنت منكوحته، لم يسقط الحد بقولها مع تكذيبه إياها، وإصرارِه على الإقرار بالزنا. وفي هذا المقام يظهر انفصال حد الزنا عن حد السرقة.
11141- فإن قلنا: لا يقطع السارق في غيبة المسروق منه، فهل يحبس السارق المقر؟ نُظر: فإن كانت الغيبة قريبة، حُبس، وإن كانت بعيدة، فقد قال الأصحاب: إن كانت العين التي أقر بسرقتها تالفة، حبس، وإن كانت قائمة فوجهان:
أحدهما: يحبس، كما لو كانت تالفة.
والثاني: لا يحبس، بل ينتزع الحاكم العينَ من يده، ويحفظها للمقَر له.
ومن تمام البيان في هذا أن العين لو كانت تالفة، فقال المقِر بالسرقة: أنا أبذل قيمتها، فخذها وخلِّ سبيلي، فهذا يخرج على الخلاف المذكور في بقاء العين.
ووراء ما ذكرناه سر، وهو أن من أقر لرجل بمال في غيبته، فالسلطان لا يحبسه؛ فإن الحبس موقوف على استدعاء مستحِق الحق، فهذا الحبس يستحيل أن يكون لأجل المال، فيجب رد النظر إلى القطع. فإن قلنا: القطع يسقط بالرجوع عن الإقرار؛ فلا معنى للحبس. وإن قلنا: لا يسقط القطع بالرجوع، فيجوز أن يقال: يحبس؛ فإنه لو خُلّي، لأوشك أن يفلت ويفوت الحق، فليكن الخلاف مأخوذاً من هذا المأخذ. ثم لا يختلف الأمر في هذا الترتيب بين أن يكون المقَرُّ به عيناً، أو ديناً.
وقد نجز مقدار غرضنا في الإقرار بالسرقة.
11142- فأما إذا كان على السرقة بيّنة أقامها مدعي السرقة، فلا يخلو: إما أن تكون كاملة أو تكون ناقصة، فإن كانت كاملة، وذلك بأن يشهد رجلان عدلان، فالقطع يثبت، والغرم يثبت. ولو قال المدعى عليه: كان المسروق ملكي غصبنيه، فهل يسقط الحد عن السارق؟ هذا فيه اختلاف قدمته، ونص الشافعي رضي الله عنه على سقوط القطع بمجرد الدعوى.
وفي هذا فضل نظر؛ فإن ما ذكرناه من سقوط القطع على النص بالدعوى فيه إذا لم تكن بيّنة، فإذا قامت بينة كاملة يثبت بمثلها العقوبات، فيبعد المصير إلى إسقاط القطع إذا كانت الحالة هكذا.
والذي تحصل لنا من قول الأصحاب تفصيلٌ نطرده على وجهه، فنقول: إن ثبتت السرقة من حرز هو بما فيه تحت يد إنسان، فحكم الظاهر أن المسروق مردود على صاحب اليد، فلو فرض من السارق دعوى الملك، فهذا موضع النص، وسقوط القطع متضح فيه؛ فإنه لم يثبت إلا صورة السرقة والأخذ عن يد المسروق منه، ويجري في هذه الصورة القول المُخَرَّج.
وجه جريان النص: سقوطُ القطع، ثم يبقى الخصام في الملك، فإن ادعى المسروق منه أنه ملكه، ففو مردود في يده أولاً، والقول قوله مع يمينه، فإن حلف، ثبت له الملك، وانتفى القطع، وإن نكل، لم يخف جريان الخصومة على قياسها.
ووجه جريان التخريج: أنا نقول: القول قول المسروق منه مع يمينه، فإن حلف ثبت الملك، وثبت القطع، فيرجع الخلاف إلى أن القطع هل يثبت بيمين المدعى عليه ثبوته بالبينة القائمة على الملك، وسر المذهب في هذه الصورة أنا على التخريج لا نحكم بثبوت القطع ما لم نفرض يمين المدعى عليه ودعواه الملك، وعلى النص نفس الدعوى في الصورة التي ذكرناها يتضمن انتفاءَ القطع. هذا بيان ذلك.
11143- صورة أخرى: إذا ادعى رجل على رجل سرقةَ متاعٍ من ملكه وحرزه، ووصف ما تفتقر السرقة إليه في اقتضاء القطع، وأقام شاهدين عدلين على أنه سرق من ملكه هذا المتاع، فلو قال السارق: كان أباح لي أخذه، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريجَ لانتظام الدعوى، ولا مضادة بينها وبين قضية البينة، فيجري في ذلك النصُّ في سقوط القطع، والتخريجُ في بقائه إذا حلف المدعى عليه، كما سنصف ذلك، إن شاء الله تعالى.
ولو قال المدعي: كنت اشتريته منه، فمنعنيه، فسرقته، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريج؛ فإن البينة لو تعرضت لنفي الشراء، لكانت شاهدة على النفي، ولو فرض دعوى على غير هذا الوجه في غير صورة السرقة- لسمعت على معارضة البينة المطلقة على الملك، ولقيل للمدعى عليه: احلف، فإذا جرى الدعوى وأمكن تقديرها مع البينة جرى النص والتخريج.
ولو قال السارق: لم يزل هذا المسروق ملكي، وإنما غصبنيه المسروق منه، فهذا إنكار منه لأصل الملك، والبينة قائمة على إثبات الملك، فتناقض الدعوى يقتضي البينة، وفيه سر، وهو أن دعوى الملك لا تستند إلى يقين، كما أن البينة لا تستند إليه، وهذا فيه احتمال ظاهر، وفي كلام الأصحاب ما يدل على التردد فيه، فإن جرينا على التخريج، فلا خفاء، وإن جرينا على النص، فيجوز أن يقال: لا يسقط القطع في هذه الصورة؛ لأن الدعوى تبطل بالبينة في وضع الخصومات، وليست البينة كاليمين يفرض من المسروق منه.
ويجوز أن يقال: يسقط القطع، لإمكان الصدق وانتصاب السارق خصماً، وإن كان مقضياً عليه، فلا فرق بين أن يقضى عليه بالبيّنة وبين أن يقضى عليه باليمين. وإذا قضينا بسقوط القطع والملك مقضي به، فهل يحلف مقيم البينة؟ فيه كلام سيأتي الشرح عليه في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى. وليس من غرض هذا الفصل، لأن القطع ساقط كيف فرض الأمر، وهذا مقصود الباب.
11144- ولو قال السارق كان أباح لي أخذ ما أخذته، والتفريع على النص، فلا يحلف المغصوب منه بلا خلاف؛ لأنه لا غرض له في نفي الإباحة باليمين؛ إذ لا يرتبط بها غرض مالي والقطع ساقط كيف فرض.
وذلك الذي أبهمنا الكلام فيه لابد من رمز إليه الآن تفصيلاً، ثم يأتي شرحه في موضعه إيضاحاً وتقريراً: فإذا ادعى رجل على رجل عين مالٍ وأقام على ملكه وتحقيق دعواه بينة، فقال المدعى عليه: أسند الشهود شهاداتهم بظاهر الحال، ولهم ذلك، ولكن المدعي يعلم سراً أنه كاذب، فحلِّفوه، ففي التحليف على هذا الترتيب خلاف سيأتي مشروحاًْ، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز الغرض، وكل ما ذكرناه إذا قامت البينة مترتبة على الدعوى، بأن يدعي على رجل وفي يده ثوب أنه سرقه بعينه من ملكه، وقد تفصّل المذهب في هذا الطرف.
11145- فأما إذا قامت بينة على أن فلاناً سرق هذا المتاع من ملك فلان، والمشهود له غائب، فقد نص الشافعي على أنه لا يقطع في الحال، ونص على أنه لو شهد شاهدان على واحد بأنه زنى بجارية فلان أنه يجب الحد، فاختلف أصحابنا في المسألتين: فمنهم من نقل وخرّج، وأجرى قولين في المسألتين؛ من حيث إن السبب ارتبط فيهما بملك لم يدّعه من نسبت البينةُ الملكَ إليه، ويجوز فرض الجارية ملكاً للواطىء، كما يجوز فرض المسروق ملكاً للسارق.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرق بأن المسروق منه ربما يقول لو حضر: كُنت أبحت له ذلك ولو قرر هذا، لسقط الحد، ولو قرر مثل ذلك في الجارية، ووطْئها، لم يسقط الحدُّ، فانتظار حضور الغائب في السرقة لتوقع شبهة دارئة لا يتأتى مثلها في الجارية ووطئها.
ومما ينتظم وراء ما ذكرناه أن من وطىء جارية، ثم زعم أنها ملكُه، أو وطىء حرة، ثم زعم أنها زوجته، فقد ذكرنا أن مضمون النص في ذلك سقوط القطع في السرقة، وهذا في حد الزنا متردد: ظاهر المذهب والنص أن الدعوى العرية لا تُسقط حد الزنا بخلاف السرقة، فإن القطع في السرقة يكاد يتبع حقَّ الآدمي، فترتبط الدعوى به، بخلاف حد الزنا، ولذلك لا يسقط حد الزنا بالإباحة، وينشأ هذا الاختلاف من تردد الأصحاب في النصين المذكورين في البيّنة المقامة وصاحب الملك غائب.
ثم إذا جرينا على النص، وقلنا: لا يقطع السارق ما لم يحضر المسروق منه، فقد قال الأصحاب: يحبس السارق إلى أن يحضر المسروق منه، وهذا مشكل؛ فإن البينة قامت على مالٍ قَبْل دعواه، وحق البينة إذا قامت قبل الدعوى أن ترد في حقوق الآدميين، وهذا الآن يوضحه ترتيب فنقول: ما تمحض حقاً لله تعالى، فشهادة الحسبة فيه مقبولة، وما تمحض حقاً للآدمي، فالمذهب أن شهادة الحسبة فيه مردودة، وفيه قول حكيناه وأجريناه في باب الشهادة على الجناية، ووعدنا استقصاءه في البينات، والقطعُ المتعلق بالسرقة متردِّدٌ؛ من جهة أنه يتعلق بحق الله تعالى، ويتعلق بحق الآدمي، والقطع مشروع لصون حق الآدمي، وقد ظهر لنا تردد الأصحاب في هذا، فقال قائلون: البينة مردودة، فلا يحبس السارق إذاً. وقال آخرون: البينة مسموعة لارتباطها بحق الله تعالى وإحياء حده.
التفريع:
11146- إن قلنا: ترد، فمعنى ردّها أنا لا نُصغي إليها، ولا يترتب عليها حبس. وإن قلنا: هي مسموعة، فالمشهود عليه محبوس؛ لمكان الحد، وسبب الامتناع عن الإقامة توقعُ شبهةٍ تدفع الحدَّ.
فإذا جاء المسروق منه، فادعى، فهل نشترط إعادة البيّنة في المال وثبوته؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لابد من إعادتها، والتفريع على أن شهادة الحسبة لا تثبت في الأموال. وهذا وجهُ هذا الوجه.
والوجه الثاني- لا حاجة إلى إعادة البينة لتعلقها بحق الله تعالى، وكأن حق الله تعالى أغنى ثبوتَ المال عن دعوى، وقد مهدنا للإتباع أمثالاً: منها- أنه لو أقر بالسرقة، ثم رجع، ففي قبول رجوعه في المال تبعاً للقطع، أو في القطع تبعاً للمال خلاف قدمنا ذكره.
وتمام البيان في هذا عندنا أنا إن قلنا: البينة لا تعاد، فيكفي أن يحضر ويدعي، وتقطع يده، وإن قلنا: تعاد البينة لإثبات الملك، فظاهر كلام المشايخ أن القطع لا يتوقف على عَوْد البينة، وهذا فيه احتمال بيّن: يجوز أن يقال: نتوقف في القطع إلى إعادة البينة.
وكل هذا والسارق لا يدّعي الملك لنفسه، فإن ادعى الملك لنفسه، انعكس التفصيل إلى ما تقدم.
11147- ووراء ذلك كلام هو الختام، وهو أنا إن لم نُسقط القطعَ بدعوى السارق، لم نسائله، وإن كنا نسُقط القطعَ بدعواه، فلو قال: لا ملك لي فيما سرقت، قطعناه، وإن ادعى الملك، فقد بيناه، وإن سكت، فهل يستفصله القاضي تذرعاً إلى السقوط، أم كيف السبيل؟ هذا فيه تردد ظاهر مأخوذ من مسألة: وهو أن من أقر بموجب حدٍّ، فهل يشبب القاضي بالرجوع عن الإقرار؟ فيه تردد، فما ذهب إليه الجمهور أنه لا يفعل ذلك.
ومن أصحابنا من قال: للقاضي أن يتعرض لهذا. ومنهم من قال: إن كان المقر ممن يعلم أن الرجوع عن الإقرار يُسقط الحد، لم يشبب، وإن كان ممن يجهل ذلك، فلا بأس، ثم حيث يشبب لا يحثه على الرجوع، بل يُجري مسألة الرجوع والحكمَ فيها، وإن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع بتهمة السرقة إليه: "ما إخالك سرقت، أسرقت؟ قل: لا " فقوله له: "قُل: لا " يشهد للتشبيب بالرجوع؛ إذ لا فرق بين الحث على ترك الإقرار، وبين إجراء ذكر الرجوع.
وسمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ، وهو " قل لا " فيبقى اللفظ المتفق على صحته، وهو قوله: "ما إخالك سرقت " فهذا تعريض بالانكفاف عن الإقرار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله تعالى» حديث متفق على صحته ولابد من الكلام على مضمون هذه الأحاديث وإجراء المذهبين بحبسهما، فأما قوله فليستتر فهذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حدٍّ، أن يظهره للإمام، وقد يستدل بذلك من يرى التوبة مسقطة للحد، وكان شيخي يقطع بأنه لا يجب إظهار موجب الحد للإمام.
وهذا فيه احتمال عندنا إذا قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة، ولكن ما ذكره مستند إلى الحديث الصحيح، إذ قال صلى الله عليه وسلم: «فليستتر» ثم يقتضي طريقه أن التوبة تُسقط تبعةَ الآخرة من العبد وبين الله عز وجل، فإن الحد لله تعالى، والتوبة تحط العقوبة الفستحقة بالذنب، فإذا ظهر استحقاق الحق عند الإمام، فردُّ التوبة على القول الأصح يرجع إلى عدم الثقة بها، أو إلى منع اتخاذ الفَجَرة إظهارَ التوبة ذريعةً تدرأ الفاحشة. هذا في قوله: "فليستتر بستر الله تعالى " وذلك قبل الارتفاع إلى مجلسه.
فأما إذا فرض الارتفاع إلى مجلس الإمام، فقد ظهر خلاف لأصحابنا في جواز التشبيب بالمنع عن الإقرار، ولعل الأصح الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما إخالك سرقت» وإذا فرض الإقرار، ففي التشبيب بالرجوع ما ذكرناه من التردد.
وكل ما ذكرناه في البينة الكاملة وهي إذا شهد عدلان، ثم انشعب الكلام.
11148- وأما البينة الناقصة وهي إن شهد رجل وامرأتان على السرقة، ومِلْكِ المسروق، فالقطع لا يثبت وفاقاً، والأصح ثبوت المال، وأبعد بعض أصحابنا، فلم يُثبته إذا تضمنت الدعوى سرقةً، فلو ثبت، لأوجبت القطع، والشاهد واليمين كالشاهد والمرأتين.
ثم قال الأئمة: الشهادة على السرقة التي تقتضي القطعَ لابد وأن تكون مفصّلة ناصّة على كل ما يُرعى في ثبوت القطع، والسبب فيه أن السرقة منقسمة: فمنها ما يوجب القطع، ومنها ما لا يوجبه، فإذا كانت السرقة مع تحققها، منقسمة فلابد من التفصيل، وليس كذلك الشهادة على البيع، فإنا في المسلك الأصح لا نشترط ذكر أسباب الصحة، كما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى؛ فإن الذي لا يصحُّ ليس بيعاً شرعاً والذي لا يوجب القطع سرقة، ولو أقر السارق بالسرقة، لم يثبت القطع بإقراره المطلق، وسنذكر أن شهادة الزنا لابد فيها من التفصيل، كما لابد في تحملها من الاطلاع على الحقيقة.
واختلف الأصحاب في أن الإقرار بالزنا هل يشترط فيه التفصيل، ولا خلاف أن النسبة إلى الزنا المطلق قذفٌ صريح، وأما شرط التفصيل في البينة، فلغرض الشرع في ستر الزنا، وأما الإقرار بالزنا، فسبب التردد فيه أنه لا يطلق اللفظَ الصريحَ من يقرّ على نفسه إلا بثَبَت، والإقرار بالسرقة المطلقة لا خلاف في أنه لا يوجب القطع، فإن من السرقة ما لا يقطع فيها.
فصل:
قال: "وفي إقرار العبد بالسرقة شيئان... إلى آخره".
11149- أقارير العبيد بديون المعاملات سبقت مستقصاة في أواخر البيع، فأما إذا أقر بإتلاف مالٍ أو أرش جناية مُتعَلَّقه الرقبة، ولا يجب بسببها عقوبة، فإن صدقه السيد، تعلق برقبته، وإن كذبه، لم يتعلق برقبته، والأصح أنه يتعلق بذمته يتبع به إذا عَتَق.
وإن أقر بسرقة عينٍ موجبة للقطع، ثم زعم أنه أتلف ما سرق، أو أشار إلى عينٍ وذكر أنها مسروقة، فإذا كذبه السيد، لم يصدّق، وما في يده بمثابة ما في يد السيد.
وإن أقر بسرقة موجبة للقطع، فإقراره مقبول عند الشافعي في القطع، وقال المزني: لا يقبل إقراره في القطع، وهو مذهب أبي يوسف وزفر، ومعتمد المذهب انتفاء التهم عن الإقرار، والذي يعضد ذلك ردُّ إقرار السيد بما يوجب القطع، وإن تناول محل ملكه، فإذا لم نبعد الرد بالتهمة، لم نبعد قبول إقرار العبد. وكنت أود لو كان مذهب المزني قولاً مخرجاً، ولكن لم يشر إليه أحد من الأصحاب.
11150- ثم إذا قبلنا إقراره وأوجبنا القطع، فهل نقبل إقراره في المال؟ فيه قولان:
أحدهما: يقبل؛ لأن الإقرار في وضعه لا تهمة فيه.
والثاني: لا يقبل، كما سنوضح الغرض في التفريع إن شاء الله تعالى ويظهر ما كنت أودّه من تردد القولين في قبول الإقرار في المال؛ فإن السرقة لا تستقل بنفسها، دون فرض مسروق، وانقطاع القطع عن المسروق بعيد، وما ذكرناه إبداء وجوه الإشكال، والمذهب ما ننقله.
فإذا ثبت القولان، فقد اختلف أصحابنا في محلهما: فمنهم من قال: القولان فيه إذا أقر بسرقة عين وتلفت في يده، ومعنى قبول إقراره على أحد القولين تعلّق قيمتها بالرقبة، وهذا القائل يقول: لو كانت العين القائمة في يد العبد وزعم أنه سرقها، وأنكر السيد ذلك، وقال: العين القائمة في يده ملكي، فإقراره مردود، واحتج هذا المرتِّب بأن قال: العين الموجودة في يد العبد بمثابة الأعيان الثابتة في يد السيد، فإن يد العبد يد السيد، ولو أقر العبد بأن الأعيان التي في يد سيده مسروقة، وأنه سرقها وسلمها إلى السيد، فإقراره مردود، والطرق متفقة على هذا.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا ادعى العبد أنه سرق عيناً وأتلفها، فإقراره مردود في تعلق قيمة العين التي ذكرناها بالرقبة قولاً واحداً، وإنما القولان فيه إذا أشار إلى عين كائنة في يده. وهذا المرتب يستدل، ويقول: العين القائمة معلومة منحصرة، فإضافة الإقرار إليها ذكر متعلَّق الإقرار مشارٍ إليه، ويد العبد في الظاهر ثابتة عليه، وقد أقر بأن هذه يد سرقة، فظهر ارتباط الإقرار بالمقَرّ به. وأما ما ادعى تلفه في يده، فلا نهاية له، ولا ضبط يفرض الوقوف عنده.
وهذه الطريقة ضعيفة؛ لما قدمناه في الطريقة الأولى، من أن يد العبد يدُ المولى، ثم حكينا اتفاق الأصحاب على أنه لو أضاف السرقة المدعاة إلى ما في يد العبد، لم نقبل إقراره، وهذا أفقه مما خيله المرتب الثاني.
ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في العين القائمة، والعين التي ادعى العبد إتلافها.
11151- وجمع بعض الأصحاب الطرق كلها وأنشأ منها أقوالاً: أحدها: أن إقرار العبد مقبول فيما ادعى إتلافه، وفيما في يده.
والثاني: أن إقراره مردود في الموضعين فيده مقطوعة، والغرم نازل على ذمته. والثالث: أن إقراره مقبول فيما ادعى إتلافه غيرُ مقبول في العين القائمة. والقول الرابع- عكس هذا.
وأما الأموال الكائنة في يد المولى، فإضافة الإقرار إليها مردودة، فإنا لو قبلناه، لجر هذا أمراً عظيماً، وهو أن يوطّن العبدُ نفسَه على قطع اليد، و يُفقرَ السيدَ من آلافٍ مؤلفة، وسيكون لنا إلى هذا التفات في تفريعٍ نذكره، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: إقراره مقبول في العين القائمة في يده، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك:
أحدهما: أن فائدة قبوله أداءُ العين إلى المقر له بالغة ما بلغت؛ لأنه غير متهم.
والثاني: أن فائدة قبول إقراره تعلق قيمة العين برقبته، والعين للسيد، لما ذكرناه من نكتة السيد، إذ قلنا: يد العبد يد المولى، وهو ليس إضراراً عظيماً؛ فإن القول الأصح أن العبد يفدى بأقل الأمرين، فأقصى ما يقرّ به لا يجاوز قيمته فيكون للكلام موقف يُنتهى إليه، وإذا قلنا: السيد يفدي عبده بالأمر اللازم بالغاً ما بلغ، فيمكنه أن يسلم العبد، والعبد يمكنه أن يفوّت رقبته على مولاه، بأن يقر بجناية توجب إهلاكه.
فإذا لاح هذا انعطفنا من هذا المنتهى على أمرٍ تقدم. وقلنا: أطلق الأصحاب القولَ بأن إقرار العبد لا يقبل مضافاً إلى ما في يد السيد، فلو قال قائل: إقرار العبد بالعين يقصر عن قدر قيمته، فلا يبعد أن يقال: يقبل إقراره على هذا النسق فيما يضيفه إلى يد مولاه.