فصل: باب: قدر النفقة من ثلاثة كتب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشهادة في الرضاع:

قال الشافعي: "وشهادة النساء جائزة... إلى آخره".
10067- الرضاع يثبت بشهادة أربع نسوة عدول، وقال أبو حنيفة: لا يثبت الرضاع بشهادة النساء المتجردات ويثبت بشهادة رجلين وشهادة رجل وامرأتين، وحكى صاحب التقريب عن الإصطخري أنه كان يقول: لا يثبت الرضاع ولا عيوب النساء والأمور الباطنة منهن بشهادة الرجال، وإنما يثبت بشهادة النساء المتمحّضات، وهذا متروك عليه، غيرُ معتدٍ به، ثم شهادة الرضاع تفرض على الحسبة، كالشهادة على الطلاق، و تفرض متعلقةً بالدّعوى كالشهادة على الطلاق، وسيأتي بيان هذه المراتب على حقائقها في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
ثم قال الأصحاب: الكلام فيمن هو من أهل الشهادة، وفي كيفية تحمل الشهادة، وفي كيفية إقامة الشهادة:
10068- فأما من هو من أهل الشهادة، فالغرض أن نذكر أن أم الزوجة وابنتها لو شهادتا على رضاع يحرمها على زوجها، فالقول في ذلك مفصّل، فإن ادعت المرأة الرضاع وأنكر الزوج، فلا يُقبل شهادةُ أمِّها وابنتها، فإن هذه شهادةٌ لها وشهادة الأمهات والبنات مردودة للأولاد والأصول.
ولو ادّعى الزوج الرضاع، وأنكرته المرأة لغرض المهر، فشهد على الرضاع أمها وابنتها، فالشهادة مقبولة، فإن شهادة الفروع والأصول مقبولة على الشخص وإن لم تكن مقبولة له.
وإن لم توجد دعوى الرضاع من الرجل ولا المرأة، ولكن شهدت الأم والبنت على الرضاع المحرم حسبةً، فالوجه عندنا قبول هذه الشهادة؛ فإنها ليست بأن يقال: هي لها أولى من أن يقال: هي عليها، والوجه أن يقال: ليست لها ولا عليها، وإنما هي شهادة أقيمت لله تعالى، فهذا المقدار غرضُنا من هذا الفصل.
10069- فأما القول في تحمل الشهادة، فينبغي أن يكون التحمل على علم وبصيرة، فإذا رأت المرأةُ أو الرجلُ الرضيعَ قد التقم الثديَ من ذات لبن، وهو يمتص والصبي ينهش والحنجرة تترقى وتنخفض، وقد ينضم إليه جرجرةٌ عند البلع والتجرع، فهذا القدرُ يفيد العلمَ بوصول اللبن إلى الجوف، ومن ظن أن هذا اكتفاءٌ في التحمل بغلبة الظن، فليس على بصيرة في الباب؛ فإن القرائن التي ذكرناها تُثبت العلم الحقيقي بوصول اللبن، نعم، قد يكتفي الشاهد بالظنون الغالبة فيما لا يتصور فيه العلم، ثم يسوغ له أن يجزم الشهادة، وعلى هذا النحو يتحمل الشاهد الشهادة إذا شاهد اليد والتصرف على ما يقرّر في موضعه، وهذا لا يفيد العلم بالملك، ولكن يجوّز الشهادة على الملك إذا اجتمعت هذه الأسباب.
10070- فأما القول في صيغة الشهادة المقامة على الرضاع، فلتكن الشهادة مجزومة، ولو وصف الشاهد أو الشاهدةُ الأحوالَ التي وصفناها عند التحمل، لم تصح الشهادة.
فإن قيل: هلا صحت والشهادةُ لا تعتمد غيرها؟ قلنا: نعم تلك الأحوال تفيد العلم لمن يعاينها، ويدرك بالعيان منها أموراً دقيقةً هي المفيدة للعلم، والعبارات لا تدركها، فلابد من جزم الشهادة، كما وصفتُها.
ثم في هذا الطرف تردُّدٌ في أمر أصفه، وهو أنا هل نشترط أن يصرح الشاهد
بوصول اللبن إلى جوف الصبي، أم يكفي أن يقول: أشهد أن فلانة أرضعته خمساً في الحولين؟ هذا مما يتردد فيه فحوى كلام الأئمة ويظهر أثر التردد على تفصيلٍ.
فإن وقع التصريح بذكر وصول اللبن إلى الجوف، فهو المراد.
وإن ذكر الشاهد أو الشاهدة لفظَ الإرضاع، واستراب القاضي، وجوّز أن يكون الإرضاعُ غير مفضٍ إلى وصول اللبن إلى الجوف المعتبر، فله أن يستفصل الشاهدَ، هذا لا خلاف فيه، وسيأتي كشفه في موضعه من الشهادات، إن شاء الله.
ولو فرضت الشهادة على الإرضاع، ثم مات الشاهد قبل الاستفصال، وفات إمكان الرجوع إليه، فهل يجوز التوقف في الشهادة والحالة هذه؟ هذا هو الذي يظهر فيه تردد الأصحاب، وقد يعتضد وجوب الحكم بالإرضاع وإن لم يَجْرِ للوصول إلى الجوف ذكرٌ بما قدمنا ذكره من أنه يجوز الاقتصار على معاينة الأحوال التي وصفناها في تحمل الشهادة على الإرضاع، وإن كان معاينة وصول اللبن إلى الجوف ممكنة بخلاف تحمل الشهادة على الزنا، فإن من عاين أحوالاً تماثل أحوال المرضع والمرتضع، لم يجز له أن يعتمدها في الشهادة على الزنا، حتى يعاين ذلك منه في ذلك منها، كالمِرْود في المُكْحلة والشَّطَنُ في البئر، والذي يعضد ذلك أن اشتراط هذا التأكيد في التحمل في الزنا، واشتراط التصريح في صيغة الشهادة، وإثبات مزيد العدد، كل ذلك يشعر بأن للشرع غرضاً في دفع الزنا ودفع حَدِّه، والأمر في الرضاع على التغليظ، والحظرُ على التغليب.
فانتظم إذاً وجهان:
أحدهما: أن الشهادة لا تثبت ما لم يصرح الشاهد بوصول اللبن إلى الجوف، وهذا ما ذكره الصيدلاني.
والثاني: أن الرضاع يثبت بالشهادة على الإرضاع والارتضاع إذا عسر الاستفصال، كما سبق تصويره.
10071- ومما يتعلق بهذا الفصل وله ارتباط بالأصل الأول أيضاً، وهو أن التي أرضعت لو شهدت على وصول اللبن إلى جوف الصبي على الحد المحرِّم عدداً وزماناً، فشهادتها مقبولة عندنا، وهو مذهب جماهير العلماء.
فإن قيل كيف يقبل شهادتها وهي تثبت فعل نفسها، وتتعرض للإخبار عنه؟ قلنا:
ليس الغرض من شهادتها فعلُها، وإنما الغرض وصول اللبن إلى جوف الصبي، وإذا كان قد يتفق الوصولُ إلى جوفه من غير صاحبة اللبن، فلا أثر لإرضاعها، ولا يختلف به حكم كان أو لم يكن.
وليس كما لو شهد القاضي بعد الانعزال على أنه قضى لفلان؛ فإن شهادته مردودة لتضمّنها إثباتَ فعله، والمعوّل على قضائه وتنفيذه، فكانت الشهادةُ من القاضي على ثبوت القضاء مردودة، فإن تنفيذ القضاء هو المطلوب، ووجه تعلق ما ذكرناه في المرضعة بهذا الفصل أنها لو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، أو أوصلت اللبن إلى جوفها، فشهادتها مقبولة على هذه الصيغة.
وفي بعض المصنفات أنها إن قالت: أشهد أن فلانة ارتضعت منِّي، فالشهادة مقبولة، لأنها في صيغتها لم تتضمن إثبات فعل مضاف إلى الشاهدة، ولو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، فهذه الشهادة مردودة، فإنها تضمنت إثبات فعلٍ مضافٍ إلى الشاهدة.
وهذا غلط محض، لم يتعرض له أحد من الأصحاب، وقد ذكرنا أن الإرضاع لا أثر له، وإنما الأثر للوصول، فلا يضر التعرض لما لا يتعلق الحكم به.
فصل:
قال: "وذكرت السوداء أنها أرضعت رجلاً... إلى آخره".
10072- مضمون الفصل أن الرضاع إذا كان مشكوكاً فيه أصلاً، أو كان تمام العدد مشكوكاً فيه، فلا يقع القضاء بالتحريم، ولكن يتأكد استحثاث الشرع على التورعّ؛ فإن الرضاع لو ثبت، تأبدت حرمته، وعظُم وقعُه، فالتمادي على خلاف الورع مصادمة خطر عظيم.
واستدل الشافعي على تأكيد الأمر بالتورّع بما روي أن رجلاً تزوج بابنة أبي إهاب بن عزيز، فجرت بينها وبين امرأة سوداء في جوارها خصومة، فأشاعت السوداءُ الخبرَ في الجيران: أني أرضعتُها وزوجَها، فسمعه الرّجل وساءه ذلك، فسأل أهلَه وأهلها، فقالوا: لا نعلم أنها أرضعتك، وذلك بمكة، فركب إلى المدينة، وقال: يا رسول الله إني تزوجت بابنة أبي إهاب بن عزيز، وزعمت امرأة سوداء أنها أرضعتني وإياها، فوالله ما أرضعتني ولا أخبرتني قبل ذلك، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأعادها، فقال في الثالثة أو الرابعة: "كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما " وفي رواية: "فكيف وقد قيل " فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه، ونكحت زوجاً غيره.
والحديث دل على فوائد: إحداها- أن الرّضاع لا يثبت بالإمكان، والدليل عليه إعراضُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردده، وتركُ جزم القول بالتحريم، ثم دلت حالُه ومقاله على تأكيد الأمر بالتورّع، ثم فهم الرجل وجهَ الاحتياط في ذلك المجلس أو كان عَلِمه من قبل، فطلقها، وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جرى دليلٌ آخر على أن الرضاع لم يكن محكوماً به؛ إذ لو كان، لما كان للطلاق معنىً، ودل أن مقتضى الورع التطليق، فإنها لو تركت تحت الإشكال والاحتمال، لأضرّ ذلك بها، ولو سُيِّبت، لم يحل لها أن تَنْكِح.
10073- ثم ذكر أن الزوجين لو تقارّا على الرضاع، ثبت وابتنى عليه فسادُ النكاح، ثم لا يخفى حكمه، ولو رجعا عن الإقرار، لم يُقبل رجوعهما، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق والرّجعة أن المرأة لو ادعت انقضاءَ العدة، حيث تُصدَّق وأبطلت رجعةَ الزوج، فلو رجعت عن قولها، فهل يقبل رجوعها، وذكرنا تفصيل المذهب فيه إذا أقر الرجل بالطلاق الثلاث، ثم رجع، أو زعمت المرأة أن زوجها طلقها ثلاثاًً، وذكرت ذلك بعد البينونة، ثم كذبت نفسها، وأرادت أن تعود إلى الزوج، ففي ذلك كلام قدمناه على الاستقصاء، فلا نعيده.
10074- ثم ذكر الشافعي التداعي بين الزوجين في الرضاع نفياً وإثباتاً، وقال: "إذا ادعى الزوج جريان رضاعٍ وقَصْدُه إسقاطَ المسمى، فأنكرت المرأة، فالأصل عدمُ الرضاع، وهي تحلف بالله: لا تعلم أن رضاعاً جرى وإذا كانت تنفي فعل الغير فيمينها على النفي".
فإن قال قائل: ألستم قلتم: مطلوبُ الرضاع بالشهادة إثباتُ وصول اللبن إلى جوفها، ولا أثر للإرضاع كان أو لم يكن، وهذا يتضمن أن تنفي هي وصولَ اللبن إلى جوفها، أو تنفي ارتضاعَ نفسها، ولو كان كذلك، فالقياس يكون اليمين على البت.
قلنا: لا حكم لارتضاعها، ولا يتصور أن تكون على علمٍ في وصول اللبن إلى جوفها في الوقت المعتبر، فإن التمييز يبتدىء بعد مدة الرضاع بسنتين؛ فتكليفها بتّ اليمين لا معنى له، وإذا كنا نكتفي بنفي العلم في فعل الغير بسبب تعذر الاطلاع على نفي فعل الغير، فهذا المعنى أظهر فيما فيه الكلام، فإذا آل الأمر إلى اليمين، فلا أثر لارتضاعها، ولما يثبت منها، لما أشرنا إليه، ومعتمد اليمين نفي الإرضاع، وصيغة اليمين في مثل ذلك تجري على نفي العلم، فإن حلفت على ما وصفناه، فلا كلام.
وإن نكلت عن اليمين، رددنا اليمين على الرجل، فيحلف على البتّ أن الرضاع المحرّم كان، وحكى الصيدلاني أن القفال، كان يقول: إذا ارتدت اليمين على الزوج، فالأولى أن يقول: "بالله أني أعلم أن الرضاع المحرِّم قد كان " وقصد بهذا أن يكون يمين الرد على الضد من يمينها؛ فإنها لو حلفت، لقالت: لا أعلم أن الرضاع كان، فليقل الزوج: أعلم أنه كان، فظاهر ما نقله الصيدلاني أن هذا من طريق الإمكان، وفي بعض التصانيف عن القفال ما يدل على اشتراط ذلك.
وهذا عندي كلام منحرِفٌ عن الصواب، سواء قدر اشتراط ذلك، أو قيل: الأَوْلى ذلك؛ فإن الزوج إذا قال: بالله لقد كان الرضاع، فهذا إخبار منه على علمه بكون الرضاع، فأي أثرٍ لقوله: "أعلمه". فإن حُمل على الأوْلى، فلست أرى فيه وجهاً يقتضي هذا من طريق الأَوْلى، والمعنى هو المتبع.
ثم لا يختص هذا المحكي عن القفال بهذه الصورة، بل كل يمين هو في جانب المدعى عليه على نفي العلم، وفي جانب المردود عليه على البت، فهو جارٍ على النحو الذي وصفناه.

.باب: رضاع الخنثى:

قال الشافعي: "إن كان الأغلب من الخنثى أنه رجل... إلى آخره".
10075- الرجل إذا درّ له لبنٌ وأرضع به، فالمذهب الصحيح أنه لا تعويل عليه، ولا حكم له؛ فإن الرضاع يتبع الولد، وإذا لم ينزل اللبن ممن يتصور منه الولادة، فوجوده وعدمُه بمنزلة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً أن الحرمة تتعلق بلبن الرجل قياساً على لبن المرأة، وسيتجه هذا بعضَ الاتجاه بالمسائل التي سنذكرها بالبكر والثيب التي لم تلد قط إذا در لهما لبن، ففي تعلق الحرمة بذلك اللبن وجهان ظاهران:
أحدهما: أن الحرمة تتعلق به نظراً إلى الجنس.
والثاني: أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإنه لم يتبع مولوداً، فلا حكم له.
ولو أَجْهَضَت المرأةُ جنيناً يُحكم بكونه ولداً، ودرَّ اللبنُ، ثبت الحكم.
والصبية إذا نزل لها لبن؛ فإن كانت على سن يُتصوّرُ بلوغُها فيه، فلبنها كلبن البالغة التي لم تلد، ونزل لها لبن.
ومن أسرار المذهب أن اللبن إذا جرى الحكم به، فهو على تقدير إمكان البلوغ، ولكنا لا نحكم بالبلوغ في سائر القضايا التي يشترط البلوغ فيها، ولا نقول: اللبنُ علامةُ البلوغ، وكيف يقدر ذلك والغالب أن اللبن لا ينزل إلا على ولد، ولا ولد قطعاًً في الصورة التي ذكرناها.
والتحقيق فيه أنا نثبت اللبنَ بإمكان البلوغ، ولا نعلِّق به الحكمَ بالبلوغ، وهذا كما أنا نلحق ولد الزوجة بالزوج إذا كان استكمل عشراً بإمكان البلوغ في أثناء السنة العاشرة، ثم إذا جرى حُكمنا بذلك، لم يصر هذا حكما بالبلوغ في سائر الأحكام؛ فإن الحكم بالنسب لا يستدعي العلم بالبلوغ، بل يُكتفى بإمكان البلوغ، ثم إمكان الشيء لا يتضمن وقوعَه قطعاًً.
ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو نزل لابنة الثمان لبن، فالبلوغ غير ممكن، وقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أنه لا حكم له، وقال آخرون هذا بمثابة لبن الرجل؛ فإن هذا اللبن من غير إمكان الحمل، فصار كلبن الرجل.
10076- وأما الخنثى إذا نزل له لبن، فإن كان قد بأن كونه ذكراً أو أنثى، فلا يخفى حكم اللبن على موجَب الأصول المقدمة.
وإن كان على الإشكال، فلا نحكم للّبن بحكمٍ مبتوت. وكان يحتمل أن يقال: الغالب أن اللبن إنما ينزل للنساء فَنُنزِل اللبن-إذا نزل- منزلةَ نهودِ الثدي، وفي دلالته اختلافٌ قدمناه في مواضعَ، فإن جعلنا نزول اللبن علامة معتبرة، فيفيد اللبن ثبوتَ الأنوثة، ثم يتعلق به ما يتعلق بلبن المرأة إذا لم تحبَل.
وإن لم نجعله علامةً على الأنوثة، فلا تثبت الحرمة مع الإشكال، إلا إذا علقنا الحرمة بلبن الرجل.
فهذا بيان مسائل الباب، وانتظم من مجموعها أن اللبن الدارَّ على الولد هو الأصل، واللبنُ من المرأة من غير ولد على الاختلاف، والأظهر أنه تتعلق الحرمة به.
ولا حكم للبن الرجل، وفيه وجه غريب غيرُ معدودٍ من المذهب.
واللبن على سن إمكان البلوغ كاللبن بعد البلوغ، ولبن الخنثى المشكل مجرًى على الإشكال؛ فإن الحرمة لا تثبت مع التردد، والله أعلم.

.كتاب النَّفَقَاتِ:

10077- الأصل في النفقات الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]، قيل: معناه ذلك أدنى أن لا يكثر عيالكم، فلا تستقلّوا بالنفقات.
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه، وقال: "يا رسول الله معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على خادمك، فقال: معي آخر، فقال: افعل به ما شئت". وجاءت هند بنت عتبة لما فُتحت مكةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من النسوة من قريش ليبايعنه فقال عليه السلام: «أبايعكن على أن لا تسرقن» فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرّاً، فهل علي في ذلك شيء، فقال عليه السلام: «خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف»، وروي أنه لما عرفها قال: «إنك لهند»، قالت: نعم، والإسلام يجُب ما قبله. وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: «أبايعكن على أن لا تزنين، قالت: أيْ!! أوَ حُرَّةٌ تزني، فقال: أبايعكن على أن لا تقتلن أولادكن، فقالت: ربيناهم صغاراً، فقتلتموهم كباراً»
وأجمع المسلمون على أصول النفقات.
ثم الأسباب الموجبة للنفقة على الخصوص: الزوجيةُ، والقرابة، والملك فالزوجية توجب النفقة للزوجة على الزوج، والملك يوجب نفقة المملوك على المالك، وأما القرابةُ، فيتصور وجوب النفقة بها من الجانبين على البدل، فالابن الفقير يستحق النفقةَ على الأب الغني، والأب الفقير يستحق النفقةَ على الابن الغني.
والمملوك لا يجب عليه الإنفاق بالقرابة، وإنما يجب عليه الإنفاق بسبب الزوجية على الزوج، وقد نقول: المكاتَب ينفق على ولده المكاتَب، وليس ذلك للولادة، وإنما هو لأن ولده في حق المملوك له، وإن كان لا يبيعه و يستكسبه، كما يستكسب المماليك، والقول في ولد المكاتب والمكاتبة من أعظم أقطاب الكتابة، وسيأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل.

.باب: قدر النفقة من ثلاثة كتب:

10078- قال الشافعي: "النفقة نفقتان، نفقة الموسِعِ ونفقةُ المُقْتِر... إلى آخره".
صدّر الشافعي الكتاب بنفقة الزوجات ومؤنهن، فلتقع البداية بالنفقة، والقولُ فيها يتعلق بأصولٍ: أحدها: في المقدار، والثاني: في الجنس، والثالث: في نفقة الخادمة، والرابع- في الأُدُم، والخامس- في كيفية إيصال النفقة إلى الزوجة.
فأما القول في المقدار، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أن نفقة الزوجة لا تتقدر، وإنما الواجب كفايتها، وذلك يختلف بالرَّغابة، والزهادة، وإن وقع نزاع، رُد مقدار الكفاية إلى اجتهاد القاضي وفرضِه، وقد ثبت عند الشافعي بطلانُ المصير إلى الكفاية؛ فإن المرأة لو كانت لا تحتاج إلى النفقة في يوم أو أيامٍ لعارضٍ بها، فلها طلب حقها من النفقة، ولهاطلب التملك، ثم تصنع بالنفقة ما تشاء.
ولو أكلت من مالها، لم يسقط حقها من النفقة، وكل ذلك ينعكس بنفقة الأقارب والمماليك، فلما تحقق عند الشافعي بطلانُ اعتبار الكفاية، ولم يجد في الشرع توقيفاً في تقدير نفقة الزوجات، ولم يجد مسلكاً بعد بطلان الكفاية إلا التعلُّقَ بالتقدير، ولا سبيل إلى الاحتكام به.
فإذا عسر النظر إلى الكفاية؛ لأن أقدار الكفايات تختلف باختلاف الأشخاص، وتختلف الحاجات، وقد ينتفى أصلها، فرأى الرجوعَ إلى الطعام الشرعي، وهو ما أوجبه الله في الإطعام في الكفارات، ولسنا ننكر أن الشارع رأى هذا قصداً وسطاً في الكفاية على الجملة، فكان التعلُّقُ به أولى متعلَّق.
ثم قال الشافعي: "في نص القرآن ما يدل على الفرق بين الموسع والمقتر"، فإنه عز من قائل قال: {يُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فاقتضى مضمونُ هذا الخطابِ الفرقَ في الإنفاق بين الموسع والمقتر، ثم نزّل الشافعيُّ نفقةَ المعسر على المدّ؛ فإنه أقلُّ مبلغٍ في الإطعام الشرعي، وطلب للموسع متعلّقاً شرعياً، ورأى في فدية الأذى صرفَ مدّين إلى كل مسكين، فاتخذه معتبره، ثم خطر له توسطٌ بين الموسع والمقتر؛ فإن ما يختلف باليسار والإقتار يجب أن يؤثر التوسُّطُ فيه، وهذا يظهر تقديره، فلم يجد في التوسط مستنداً شرعياً، فقال: مقدار النفقة على المتوسط للزوجة مُدٌّ ونصف.
هذا تأسيس مذهبه، فانتظم من نصوصه التي نقلها المزني وغيرُه أن على المعسر مُدّاً، وعلى الموسع مدين، وعلى المتوسط لزوجته مد ونصف.
10079- وإن كانت المرأة مخدومةً على ما سنصف ذلك في الفصل المعقود له، فعلى المعسر والمتوسط مُدٌّ للخادمة، وعلى الموسر مدٌّ وثلث.
هذا الذي نقلناه أصل المذهب.
10080- وقد حكى شيخي أبو محمد قولاً غريباً للشافعي مثلَ مذهب أبي حنيفة في أن الاعتبار بالكفاية، والرجوعُ عند فرض النزاع إلى اجتهادِ القاضي وفرضِه.
وهذا لم أره إلا لشيخي. نعم، حكى صاحب التقريب والشيخُ أبو علي في نفقة المتوسط والزيادة على المد في نفقة الخادمة في حق الموسر أنه لا تقدير في الزيادة، وإنما النظر إلى اجتهاد القاضي، هذا وإن كان بعيداً في النقل، فالحاجة ماسة إليه لدقة مأخذ التقديرين، كما سنخوض فيه الآن.
فإن أصل المذهب أن المد والنصف تقدير في حق المتوسط، والمد والثلث تقدير في حق الموسر في نفقة الخادمة، وهذا عسر؛ فإن الشافعي يُطنب في الوقيعة فيمن يتحكم بالتقدير من غير ثَبَت، ولئن وجدنا مستنداً في المد والمدين معتضداً بنصِّ القرآن في الفرق بين الموسع والمقتر، فالمدّ والنصف، والمد والثلث، لا نجد لهما مستنداً قويماً.
ثم الأصحاب ذكروا وجوهاً رأَوْها أقصى الإمكان في المُدّ والثلث في حق الخادمة، والذي دل عليه فحوى كلامهم في المد والنصف في حق المتوسط أنه على تردد بين المعسر وبين الموسر، فلا يبعد أن يقتضي تردده بينهما، تنصيف المُدّ، حتى كأنه من وجه يلتفت إلى المقتر، والإقتار يوجب الإسقاط، ويلتفت إلى الموسر من وجه وذلك يوجب الإثبات، فوزعنا المدَّ الزائد في حق الموسر على الإيجاب والإسقاط، فاقتضى ذلك إيجابَ نصفٍ وإسقاط نصف، وهذا على حالٍ كلام منتظم.
10081- فأما إيجاب المد والثلث للخادمة تقديراً جازماً، فمشكل وقد ذكر أصحابنا فيه وجهين:
أحدهما: حكَوْه عن القفال الشاشي أنه قال: من أصناف القياسِ القياسُ المقرّب، وهو عندنا إن صح من أقسام الأشباه.
ثم قال: الأب والأم في الميراث لهما حالتان: حالة نقصان وحالة زيادة، فإذا كان في الفريضة ابن، فللأبوين السدسان، وإن كان وضع الفرائض يقتضي حطَّ الأم، ولكن إذا رُدَّ الأب إلى السدس، فكأنا نعتقد أن لا أقل منه في فرض الأبوين، فللأم السدس، وهذه الحالة تناظر حالة الإعسار، والأم بمنزلة الخادمة والأب بمنزلة الزوجة، فتستوي الخادمة والزوجة؛ إذ لا نقصان من المد.
فإن لم يكن في الفريضة ابنٌ، فللأب الثلثان بالتعصيب، وللأم الثلث، فنزيد للأب ثلاثة أمثال ما كان للأم في حالة النقصان، أو ثلاثةَ أمثال ما نزيد للأم، وهذا محل تعلقنا، فكذلك إذا فرض اليسار ينبغي أن نزيد للزوجة التي هي محل الأب ثلاثةَ أمثال ما نزيد للخادمة التي هي بمحل الأم، وذلك يقتضي أن نزيد للزوجة مداً، وللخادمة ثُلث مد، هذا ما حكوه عن القفال الشاشي.
10082- وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخرَ مأخوذاً من نفقة المتوسط؛ فإنه يلتزم لزوجته مداً ونصفاً، والموسر يلتزم مدين، فيزيد ما عليه على ما على المتوسط بمثل ثلثه، وعلى المتوسط مد ونصف، كذلك يزيد للخادمة في حال اليسار مثل ثلث ما كان لها في حالة التوسط، وللخادمة على المتوسط مُدّ بلا مزيد، فلها على الموسر مثل ما لها على المتوسط ومثل ثُلثه، وذلك مدّ وثلث.
وهذا عندي-وإن ذكره كافة الأصحاب- مما لا يسوغ اعتماده والتعويل على مثله، ولست أرى ما حكيته في درجةٍ من درجات الأقيسة، ولا معنى للإطناب في البينات، والوجه عندي أن نقول: ما ذكره الأصحاب في نفقة المتوسط قريب لائق بهذا الأصل، فليقع الاكتفاء به، وأما المد والثلث، فأقرب مسلكٍ فيه أن نقول: إذا اتسعت نعمة الله، لم يمتنع التوسع على الخادمة، ثم لا ضبط يصار إليه، ولا وجه لتبليغ الزيادة مبلغ ما نزيد للزوجة في حالة التوسع، والثلث مما يقرب النظر إليه اعتباراً بثلث المال في الوصايا؛ فإن الرسول عليه السلام قال: «إن الله تعالى زادكم في آخر أعماركم ثُلثَ أموالكم زيادة في أعمالكم» وهذا وإن لم يكن بالبيّن، فهو أولى مما قدمناه، وفي نص الشافعي في المختصر ما يشبر إليه، هذا منتهى قولنا في التقدير.
10083- ونحن نختتمه بالكلام على المعسر ومعناه، والمتوسط، والموسر، ولست أدري كيف طاب للمصنفين تخطي أمثالَ هذه المغمضات من غير التفاتٍ على محاولة شرح فيها، مع العلم بأن هذه الأسماء مشتركة، وهذا مما تمس الحاجة إلى النظر فيه، في أوائل المراتب إذا رفعت الوقائع إلى المفتين، أو إلى الحكام.
فأما المعسر، فإن كان على رتبةٍ تستحق سهمَ المساكين، فهو معسر، ومن لا يملك شيئاً تستقر نفقةُ الزوجية في ذمته.
ومن جاوز حد المسكنة، فكيف السبيل فيه؟ هل نقول: هو من المتوسطين؟ فإن قال بذلك قائل، فليس على علم بالباب؛ فإن الإنسان قد يخرج باكتسابه عن حد المسكنة، إذا كان قادراً على تحصيل القوت يوماً بيوم، ولست أرى مثل هذا الشخص من المتوسطين في نفقة الزوجات، بل هو معسر ونفقتُه نفقة المعسرين، وهذا مما لا أتمارى فيه، فأما إذا كان يخرج بملك مالٍ لا بقدرةٍ على الكسب عن حدِّ المسكنة، فالذي أراه أنه في حد التوسط، وإن كان على اقتدارٍ وتوسع في الاكتساب بحيث يَرُدُّ عليه الكسبُ-على يسرٍ-أضعافَ ما يحتاج إليه، فقد يتردد الفطن في هذا: أما إلحاقه بالموسرين، فلا سبيل إليه، وإنما تردد النظر في إلحاقه بالمتوسطين.
وأنا أقول بعد هذا التنبيه: هو معسر؛ فإنه يبعد تكليفه المزيد على قدر الحاجة بالاكتساب والله أعلم.
وأما المتوسط الذي يملك ما يرقِّيه عن حد المسكنة، فلي فيه نظر: فأقول: أرى المتوسط رجلاً يؤثِّر الإنفاق في ماله إذا زاد على الأقل الذي قدمناه، فكأنه لو أخرج مُدَّين أوشك أن ينحط إلى الإعسار، والموسر لا ينحط بمدّين إلى المتوسط فضلاً عن الإعسار، وهذا يؤخذ من التشطير في المد، حتى كأنه بإخراج الزائد، وهو نصف مدٍ لا ينحظ إلى الإعسار، وبإخراج المد يوشك أن ينحط إليه، وأقرب المآخذ ما يداني الحكمَ، فالحكمُ تشطير المد الزائد، فليكن التوسط مأخوذاً منه.
ومما يحق الاعتناء به أن اليسار لا ينظر فيه إلى المال فحسب، بل يُضَمُّ إلى اعتباره رخاءُ الأسعار وانخفاضُها وارتفاعها، فالرجل في المكان الذي تتّسع الأقوات فيه يتبلّغ بمقدارٍ من المال لا يتبلّغ بمثله في موضع تغلو الأسعار فيه، ولن يكون الطالب واقفاً على دَرْك اليسار والإعسار والتوسط ما لم نمزج ملكَ المال بما أشرنا إليه من رخاء الأسعار وغلائها؛ فإن الغرض في كل باب من الإعسار واليسار على حسب ما يليق بالمقصود منه، فإذا كنا نبغي الكلام في أقدار النفقات ثم دُفعنا إلى النظر في المراتب، فالوجه اعتبار اليسار على وجهٍ لا يُنافي النفقة الدارّة، ومن ضرورة ذلك ما أشرنا إليه من اعتبار الأسعار رخاءً وغلاء.
فانتظم مما ذكرناه أن الموسر من لا يتأثر بالمُدَّين، والمتوسط من يتاثر بالمُدَّين ولا يتأثر بالمد والنصف، والمعسر مخرّج على ما قدمناه.
وهذا نجاز الكلام في أقدار النفقات.
10084- فأما الكلام في الجنس المخرَج، فإن كان في البلد الذي فيه الكلام قوتٌ واحد غالب يستوي في اقتياته أهل الموضع على اختلاف درجاتهم، فلا شك أن المعتبر ذلك الجنسُ، ولا يتأتى هاهنا أن نقول: يعتبر القوت الغالب، أو يعتبر قوت كل شخص؛ فإن القوت إذا عم طبقاتِ الخلق، على ما صورنا، فقوتُ كل شخص هو القوت الغالب.
وإن لم يكن في الموضع قوتٌ غالب نحكم بغلبته، ولكن كانوا يقتاتون على حسب الدرجات أقواتاً مختلفة، فلا وجه-والحالة هذه- إلا وأن نعتبر في حق كل شخص قوتَه جنساً؛ إذ لا غالب، والأقوات متعارضة، ولابد من متعَلَّق، ونحن مدفوعون إلى مسالك ضيّقة، نقنع فيها بأدنى متعلَّق، فيكون الجنس في اعتبار حال الزوج معتبراً بالقدر، وقد ذكرنا أن النظر إلى حال الزوج في يساره، وتوسطه، وإعساره في المقدار، فليكن النظر إليه في جنس القوت.
ولو كان في البلد قوت يمكن أن يوصف بالغلبة، ولكن الفقراء قد يعتادون اقتياتَ غيره، فهذا موضع التردد: يجوز أن يقال: الاعتبار بالقوت الغالب، ويجوز أن يقال: يعتبر قوتُ ذلك المعسرِ، وإن كان الغالب في البلد غيرَه، وهذا إذا كان يعد اقتياتُ مثله الشعيرَ مثلاً نادراً في حال مثله، وقد ذكرنا مثل هذا الترددَ في الجنس الذي يُخرج في صدقة الفطر.
ومما يتعلق بذلك أن المخرَج يجب أن يكون حَبّاً أو تمراً، هذا هو الأصل، فإن أخرج خبزاً، فللمرأة ألا تقبلَه، وإن رضيت بقبوله، ففيه تفصيل سيأتي في بعض الفصول الموعودة، إن شاء الله.
10085- فأما الكلام في نفقة الخادمة، فحقه أن يُصدَّر بمراتب النسوة؛ فإن نفقة الخادمة لا تثبت لكل زوجة، والمقدار الذي ذكره الأصحاب أن المرأة إذا كانت تُخدَم في العرف، ولو كلفت الاستقلالَ بحاجات نفسها، لكان ذلك غضّاً من قدرها، وحطّاً من منزلتها، فهذه مخدومة وإن كانت لو خدمت نفسها، لم ينلها ضرر لكمال مُنّتها، واعتدال بنيتها.
وهذا يناظر ما ذكرناه في الكفارات في العبد الذي يَخدِم ملتزمَ الكفارة.
ولو كانت في العادة لا تعدّ على مرتبة المخدومات، فلا تستحق نفقة الخادمة.
ولو كانت تُخدم، ومنزلتُها لا تقتضي ذلك، بل تُعدّ مجاوِزةً قدرَها، فلا تُخدم في النكاح، ولو لم تكن على منزلة من المروءة يُخدم أهلها، ولكن كانت على ضعفٍ في بنيتها، فإن كان ذلك مرضاً عارضاً، فلا تستحق على الزوج إقامةَ مُمرِّضٍ متفقّد، كما لا تستحق عليه المعالجةَ والقيامَ بمؤنِ الأدوية.
وإن كانت على ضعفٍ لازم لبنيتها، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر من جهة مشابهةِ الخادمةِ الممرّضةَ والمعينةَ على المعالجة، ويظهر عندي أن تستحق نفقةَ الخادمة؛ لأن الحاجة الدائمة أولى بالاعتبار من غضٍّ في المروءة، وقد ذكرنا في الكفارات أن من كان له عبد وهو يحتاج إلى خدمته لعجزه اللازم له، فلا نكلفه أن يعتقه، كما لو كان يحتاج إليه في حفظه مُروءته.
هذا قولنا في التي تُخدَم، والتي لا تُخدَم.
10086- فإذا كانت مخدومة، فالذي قطع به الأئمة أن على الزوج القيامَ بمؤونة الخادمة، وقد ذكرنا من مؤنها النفقةَ، وسنذكر الباقي، ونقل بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال في عِشرة النساء: "ويشبه أن يكون عليه نفقةُ خادمها " فردد القول في ذلك، وقد جعل المزني المسألة على قولين في نفقة الخادمة، وهذا نُقل عنه في غير المختصر، وخالفه معظم الأصحاب في إجراء القولين.
ومن أصحابنا من ساعده وأجرى قولاً أن نفقة الخادمة لا تجب على الزوج قط، وهذا بعيدٌ جداً، ولكن ذكره صاحب التقريب، والشيخُ أبو علي، ومعظم الأئمة مع إطباقهم على تزييفه.
فإذا أوجبنا نفقةَ الخادمة، فإن استأجر الزوج حرّة أو أمةً لتخدِم الزوجة، فالذي يبذله أجرةٌ، وليس نفقةَ الخادمة.
وإذا أخدمها الزوجُ جاريةً من جواريه، سقط حق الخدمة بذلك، وليس هذا من نفقة الخادمة في شيء؛ فإن الزوج يُنفق على أمته بحق الملك.
وإن كان للزوجة أمةٌ، وكانت تخدِمها، وأراد الزوج الإنفاق عليها، ورضيت المرأة بذلك، فهذه النفقة نفقةُ الخادمة، وهي التي تتقدر بالمد، والمد والثلث، على التفاصيل المقدمة، ولا يتصور نفقة الخادمة إلا في هذه الصورة؛ فإنا إذا صورنا استئجاراً، كان ذلك إخداماً بأجرة، ومقدارُ الأجرة على حسب التراضي.
وإن لم يكن لها أمةٌ، فلا يكلف الزوج أن يستأجر حرة أو أمة بأكثرَ من النفقة التي أثبتناها للخادمة؛ فإنه ربّما لا يجد من يخدِم بمدٍّ وأوقية زيت.
ولو قلنا: يجب أن يكفيَها الخدمةَ، فهذا وقوعٌ في مذهب أبي حنيفة في اعتبار الكفاية، وأقرب لازم على هذا الأصل أن يلزمه أن يكفيها ما يسد جوعتَها إذا كانت رغيبة لا تكتفي بمدٍ، فإذا كنا لا نُلزمه ذلك، فلا يَلزمُه في جهة الخدمة إلا ما ذكرناه.
فلو كانت تجد حرة تخدِم بالمدّ وما يُلحَق به، فلا يتصور أن تُلزم الحرةُ بغير طريق الاستئجار، ولكن القدر الذي علينا أن نوضحه أن على الزوج تحصيل هذا القدر، فإن تيسر به استخدامُ حرة، فليس على الزوج النظر في التفاصيل.
ولو قالت المرأة: أنا أخدم نفسي فسلِّم إليّ نفقةَ الخادمة، فلست أرى لها ذلك؛ فإنها أسقطت مرتبة نفسها، والله أعلم، فلينظر الناظر في هذا الموضع.
10087- ومما يتعلق بذلك أن الرجل إذا نكح أمة، وكانت تُخدَم لجمالها، فهل يجب عليه نفقةُ الخادمة؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه لا يجب على الزوج نفقةُ الخادمة؛ فإن الرق ينافي هذه المنزلة، والرقيقة تَخدِم ولا تُخدَم. والوجه الثاني- أنها تستحق نفقة الخادمة؛ لأن ذلك غيرُ مستنكر في العرف، ولا محمولٌ على الرعونة ومجاوزة الحد، والمحكّم في ذلك العاداتُ.
10088- ولو قال الزوج لزوجته المخدومة: أنا أخدمك بنفسي، فلا تكلفيني نفقةَ الخادمة، فقد قال الأصحاب: الأمور التي لا تستحي المرأة من تعاطي الزوج إياها يتعاطاها الزوج، كالخروج وكنس البيت وغيرها من أشغال المهن، فيجوز أن يقوم بكفاية هذه الأمور، وأما خدمتها الخالصة كحمل الماء إلى بيت الماء، وما في معناه من الأمور التي تستحي النساء من إظهارها للأزواج، ويؤثرن الاختفاء بها، فالمذهب الأصح أن الزوج لو قال: أتعاطى ذلك أيضاًً-والمرأة تأبى- فليس للزوج ذلك، فإنا إذا كنا نقيم الخادمةَ محافظةً على مروءتها، فالذي ينالها من إظهار هذه
الأمور للزوج أعظم مما ينالها من غضّ المروءة وتعاطي الخدمة.
10089- هذا نجاز الفصل. وفي القلب منه غائلة وغُصّة، وذلك أن الأصحاب ذكروا أن الخادمة تُملّك الحَبَّ، وترددوا في الأدم، فكيف يتصور ذلك؟ فإن الإجارة لا ضبط للأجرة فيها، ومملوكة الزوج لا تملّك شيئاًً وإنما الإنفاق عليها من فن الكفاية.
فالذي أراه أن الزوجة لو رضيت بأن تخدمها حرة، ورضيت الحرة بأن تخدِم بالنفقة، فإنها تستحق نفقةَ الخادمة، ولكن مهما شاءت فارقت؛ إذ لا ضبط ولا عقد على اللزوم يُلزمها الاستمرارَ، والنكاح لا يشملها، فيجب القطع بعد الاستخارة وإطالة الفكر بأنها إذا خدمت يوماً، استحقت وظيفة الخادمة.
ثم الظاهر عندي أن استحقاقها يكون على حسب استحقاق الزوجة نفقتها، فلها وظيفتها في صبيحة كل يوم، كما للزوجة وظيفتها، ثم لا نجعلها بأخذ الوظيفة ملتزمةً للخدمة، فإن بدا لها، ردّت الوظيفة وتطلقت، وإن أرادت استكمال الخدمة، فعلت؛ فحقها مأخوذ قبل العمل، مستقر بالعمل، وحق الزوجة يُداني ذلك من وجهٍ، وإن كان يخالفه من وجهٍ، كما سنصف بعد ذلك، إن شاء الله.
وهذا شاذ لا أرى له نظيراً ولا أجد من القول به بُدّاً.
10090- ثم الخادمة في الابتداء إلى تعيين الزوج، فأمَّا إذا كانت قائمةً بالخدمة، فإن هي ألفت خادمةً، وأراد الزوج أن يبدلها، فإن رابه منها أمرٌ، فليفعل، ولا يكلَّف في مثل ذلك إقامةَ حجة، ولا ينتهي الأمر إلى محاكمة ومخاصمة، وإن أراد إبدالها-والزوجةُ قد ألفتها- من غير خيانة وريبة، فالذي رأيته للأصحاب أنه ليس للرجل ذلك من غير غرض؛ فإن انقطاع النفس عن المألوف شديد، وربما انبسطت إليها، وستلقى عُسراً أن تنبسط مع أخرى، وهذا بيّن من هذا الوجه.
10091- ومن تمام القول في ذلك أن الزوج لو قام بالأشغال الظاهرة وترك الأمور الخفية على خادمة، فهل تستحق تلك الخادمةُ الوظيفةَ التامة، ومعظم الأشغال مكفية؟ هذا يقرب عندنا من تردد الأصحاب في أن السيد إذا زوج أمته، وكان يستخدم الأمة نهاراً ويردها إلى الزوج ليلاً، فهل على الزوج كمالُ النفقة؟ فيه اختلاف قدمناه في كتاب النكاح: من أصحابنا من قال: يجب تمامُ النفقة، ومنهم من أوجب نصفَها، ومنهم من لم يوجب عليه شيئاًً.
ويخرج عندنا في الخادمة وجهان خروجاً ظاهراً:
أحدهما: أن للخادمة نصف الوظيفة، ولا توزيع على أقدار الأعمال كالليل والنهار. والوجه الثاني- أن لها تمامَ الوظيفة؛ فإن الخادمة في الأمور السرّية لابد منها، وهي تحتاج أن تتربص في جميع الأزمان لمسيس الحاجة إلى تلك الأشغال، ولا ترضى بأقلَّ من الوظيفة، والزوج هو الذي تجشم من عملها ما تجشم.
وهذا الوجه أفقه وأليق.
ولا يمتنع عندنا أن توزع الوظيفة إذا فتحنا بابَ التقسيط، بخلاف الليل والنهار في نفقة الأمة المزوجة؛ فإن الليالي والأيام جعلها الله خِلْفة، وهي تتناوب على نسب مستويةٍ في الطول والقصر، وأما الأعمالُ البادية والخفية؛ فإنها متفاوتة ليست متناسبة.
فأما إذا قلنا: لا تستحق الأمةُ شيئاًً من النفقة إذا لم يسلمها السيد إلى زوجها ليلاً ونهاراً، فلست أرى لهذا الوجه خروجاً هاهنا؛ فإن الخادمة لابد منها على الوجه الذي عليه نفرّع، والزوجة لا تجد خادمة متبرعةً بالخدمة، ففي إسقاط حقها تعطيلُ الخدمة في الأمور الخفية.
10092- فأما القول في الأُدْم، فقد قال الشافعي: "لزوجة المعسر كلَّ يومٍ مكيلةُ زيتٍ أو سمن " ولم يختلف علماؤنا في أن الأُدم ليس يتقدّر، وذلك أنا اعتمدنا في تقدير القوت ما وجدناه في أصل الشرع في المُدّ والمدين، ثم سلكنا مسالك في التقريب بينهما، فأما الأُدم، فلسنا نجد له أصلاً في الشرع مقدّراً.
والأُدم ثابتٌ مستحَقٌّ للزوجة، فلا سبيل إلى التقدير، ولكن أمره مبني على ما يكفي أُدماً لمدٍّ، وإن كانت النفقة مدّين، فما يكفي أُدماً لمدين، ولا شك أن الأُدم على الموسر يزداد استحقاقاً؛ على حسب ازدياد القوت، فإذاً الأدم تابع للقوت.
ثم ذكر الشافعي المكيلةَ والمكيلتين، والمكيلةُ مجهولة، وإنما أراد تقريباًً، وقد يُلفَى له ذكر الأوقية والأوقيتين، والأمر في ذلك مرتبط بما ذكرناه.
هذا كلامه في تقريب مقدار الأُدم.
وأما الجنس، فقد ذكر الشافعي الزيت أو السمن، ولم يعين جنساً تعيين إيجاب، ولكن الأُدم الغالب في كل موضع يُرْعى.
ثم إن تبرمت المرأة بالزيت والسمن، وأرادت جنساً آخر قيمته كقيمة ما يغلب أُدماً، فهذا فيه تردد بيّن: يجوز أن يقال: الرجوع في هذا إلى الزوج، ثم إن أرادت المرأة جنساً آخر، تصرفت بنفسها، أو تصرفت خادمتها لها. وهذا كقول الشافعي: إن أرادت المرأة مزيداً في القوت، زادت من أُدمها في قوتها، وإن أرادت مزيداً في الأُدم زادت من قوتها في أدمها.
ويجوز أن يقال: تعيين الأُدم إليها؛ إذ لا ضرار على الزوج في إسعافها، ويظهر تضررها بالمواظبة على أدم واحد، وقد تتضرر بصرف أدم في أدم.
ويظهر هذا الذي ذكرناه منه إذا لم يكن في البلد أدم غالب، فإن كان في البلد أدم غالب، فقد يخرج فيه وجه أن الرجوع إلى الغالب، ويجري الوجهان المقدمان.
هذا قولنا في مقدار الأدم وجنسِه كلَّ يوم.
10093- قال الشافعي: "يشتري لها في الأسبوع رطلَ لحم إن كانت الوظيفة في القوت مداً، وإن كانت الوظيفة مدين اشترى لها في الأسبوع رطلين... إلى آخره".
قال العراقيون: هذا قاله الشافعي على عادةٍ ألفها في دياره؛ فإن أهل مصر قد يستقلون من اللحم، وإذا فرضت عادة على خلاف ذلك في بعض البلاد، فلا اقتصار على رطل ورطلين، ولكن المتبع العادة، فنقول: أي قدر يليق بنفقةٍ قدرها مُدّ؟ وكيف السبيل والنفقة مدان؟ ويختلف ذلك بالأصقاع والبقاع، وهو قول العراقيين، وهو حسن متجه، وكان شيخي يحكي عن شيخه القفال اتباع الشافعي فيما ذكرناه من أن المطاعم والملابس، تدور على سِدادِ الحاجة، ولا تنتهي إلى النعمة والترفه وانبساط بني الدنيا، والدليل عليه أنه أثبت مُدَّين على الملك العظيم، وإن كان هذا نزراً وتْحاً في حق الموسر في حكم العادات.
ويجوز للعراقيين أن يقولوا: ذلك تقدير، والتقدير لا يزول عن وضعه، وما يليق بالكفايات يجب الرجوع فيه إلى موجَب العادات.
ومما يجب التنبيه له أن المرأة إذا كانت تتزجَّى بالحَب القفر، وكانت لا تأتدم، فحقها من الأُدْم لا يسقط، فهذا بمثابة استحقاقها أصل النفقة، ولو كانت قد لا تحتاج إليها في بعض الأحوال.
10094- فأما أُدْم الخادمة، فالذي تحصل لنا من كلام الأصحاب وجهان في أنها هل تفرد بأُدم؟ منهم من قال: تفرد بالأُدم كل يوم؛ فإن الأُدم يتبع النفقة ولا تخلو نفقة عنه، وكما أفردت بالقوت، وجب أن تفرد بالأُدم.
والوجه الثاني- أنها لا تفرد بالأُدم، ولكنها تكتفي بما تُفْضِله المخدومة من الأدم، إذ العادة قد تقتضي الإفراد بالقوت مع الاختلاط في الأدم، فإن فرّعنا على هذا الوجه الأخير، فيجب أن نزيد للمخدومة في الأدم، ونُثبت لها من الأُدم أكثرَ مما نثبته للتي ليست مخدومة، ثم قد لا ننتهي إلى مقابلة مد الخادمة بمكيلة أوقية، فإن أُدْم الخادمة أقل. وإذا فرعنا على الوجه الأول ملّكنا الخادمةَ أُدمها، واعتقدناه ركناً مستحقاً لها في وظيفتها.
ثم الغالب على الظن أن من أثبت لها كلَّ يوم أُدماً لا يخصصها باللحم في أوان اللحم، والعلم عند الله.
ثم يزيد لحم المخدومة على لحم التي ليست مخدومة.
ولا خلاف أن قوت الخادمة من جنس قوت المخدومة، أجمع على ذلك الأصحاب في الطرق، وذكر العراقيون وجهين مفرعين على أنها مخصوصة بالأُدم في أن أُدمها هل يكون من جنس أدم المخدومة، أم يجوز أن يكون دون أدم المخدومة في الجنس؟ وهذا الاختلاف منقدح، وهو مأخوذ من العادات؛ فإن جنس القوت يتحد وأجناس الأدم تختلف.
وقد انتهى الكلام في الأُدم.
10095- فأما القول في كيفية صرف النفقة إلى الزوجة فنقول: أجمع الفقهاء على أن الزوج يتعين عليه تمليك زوجته النفقةَ، وأبو حنيفة وإن بنى مذهبه على الكفاية، وافق في أن المرأة إذا طلبت التمليك، أجيبت إلى غرضها، ثم قد ذكرنا أن حقها المتأصل الحَبُّ، كما مضى، فإذا ملكها الحَبَّ، فطالبته بالقيام بمؤن إصلاح الحب طَحْناً وخبزاً، فلها ذلك، وينتظم من هذا أن لها طلبَ تمليك الحب، ثم لها طلب مؤن الإصلاح.
ولو أخذت الحبَّ وملكته، واستعملته بذراً، أو باعته، فلو أرادت مطالبةَ الزوج بمقدار مؤنة الإصلاح، فهذا أراه محتملاً: يجوز أن يقال: لها ذلك؛ فإنها قد تبغي إصلاح مُدٍّ عندها، وتُصيِّره خبزاً، وتتملّك ذلك؛ فإنه من حقها، وكأنا نقول: لها البرُّ والأُدم، والمقدارُ الذي يُصلح الطعام.
ويجوز أن يقال: إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز، لم تملك المطالبة، بالمؤن التي تُنهي الحبَّ إلى الخُبز، فإن الإصلاح ليس من الأركان والوظائف القائمة، وإنما هو إصلاح عند الحاجة. نعم، إذا كانت تحتاج إلى إصلاح البرّ، وقد أخرجت البرّ الذي قبضته، فيجب القطع بأنها تكلِّف زوجها ذلك، فأما إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز في يومها، ففيه الخلاف والتردّد الذي أشرت إليه.
ولو اعتاضت المرأة عن البُرّ الثابت لها في ذمة الزوج دراهمَ، أو ما أرادت من عِوض، فقد ذكر أصحابنا فيه وجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز؛ فإنه اعتياضٌ عن طعام ثابت في الذمة، بحكم عقد، فأشبه الاعتياض عن المسلم فيه.
والوجه الثاني- أنه يجوز، كما يجوز الاعتياض عن قيم المتلفات، وهذا الخلاف يقرب مأخذه من مأخذ القولين في جواز الاعتياض عن الثمن الثابت في الذمة، وقد سبق ذكرهما في كتاب البيع.
ولو اعتاضت المرأة عن الحب خبزاً، فقد ذكر بعض الأصحاب فيه خلافاً، وهذا يتطرق إليه تجويز بيع البُرّ بالخبز، وهو ممتنع في البيع وفاقاً، ولكن من جوّز هذا فيما نحن فيه، فوجهه-على بُعده- أنها تستحق الحَبَّ والإصلاحَ، فإذا رضيت بطعام مهيَّأ مُصْلَح، فكأن ما قبضته حقُّها؛ وليس عوضاً عن حقها، فإنه كان لها أن تطلب الحَبَّ، ثم تكلِّف زوجَها إصلاحه، وهذا مما لم يختلف فيه أصحابنا.
10096- ومما أجراه الأصحاب في الخلاف والمذهب أنها لو رضيت بأن تأكل مع زوجها من غير إجراء تمليك وتملّك واعتياض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من جرى على قياس المذهب، ولم يُسقط النفقةَ بهذا، وإن كان الزوج يرى إطعامها عوضاً عن حقها عليه، فما يتعاطاه سحتٌ.
ومن أصحابنا من أجاز ذلك، وبناه على مذهب المسامحة والاتباع؛ فإن الأولين كان يعمّ هذا الاعتيادُ منهم من غير إجراء اعتياض.
وحاصل هذا أنا إن أردنا تخريجه على قاعدة المذهب، قلنا إن المرأة تستحق النفقة تمليكاً إذا لم تَطْعم مع زوجها، فإذا طَعِمت معه واكتفت، سقط حقها من طلب التمليك، وإن لم يكن هذا على حقائق الأعواض، وكأن نفقتها على هذا الرأي بين الكفاية إن أرادت وبين التمليك، على قياس الأعواض إن طلبت.
وهذا حسنٌ غائصٌ.
ومما نوصي به من يطلب التحقيق أن يؤثر ما يليق بالباب على القياس الجلي الذي يستند إلى غير الباب.
وما ذكرناه من الرضا بالتطعم لائق بباب النفقة، غيرَ أنها إذا آثرت الطلب، لاقَ بما تطلب التمليكُ والقدرُ.
10097- ولو قدم الزوج لزوجته نفقة أيام، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنها هل تملك ما قدمه الزوج على نفقة يومها؟ أحد الوجهين- أنها تملكه، كما يملك مستحق الدين المؤجل ما يعجّل له قبل الأجل. والثاني-وهو الأظهر- أنها لا تملك؛ فإن الدين المؤجل ثابت، وإنما المنتظر الحلول وانقضاءُ الأجل لتوجيه الطَّلِبة، والنفقةُ تجب يوماً يوماًً، فلا يقع المقدَّمُ مستحقاً.
ثم قال الشيخ: إن قلنا: إنها تملك ما يقدم لها، فتملك التصرف فيه، وإن قلنا: إنها لا تملكه، لم تملك التصرفَ فيه، والأمر على ما فرعه، وليس ذلك كالقرض- على قولنا: إن المقترض لا يملكه بمجرد القبض؛ فإنا مع ذلك نسلّطه على التصرّف، فإنا نقول: يتوقف جريان ملكه على تصرّفه، وإذا جرى منه التصرف، تبيّنا انتقال الملك إليه قبيل التصرف، فالتصرّف على هذا القول شرطُ جريان ملكه، فيستحيل أن يمتنع التصرف.
10098- وتمام هذا الفصل أن المرأة تملك على زوجها نفقة كل يوم مع أول جزء من اليوم، فكما طلع الفجر ملكت النفقة، وطالبت بها، وتصرفت تصرف الملاك، إما فيما في الذمة وإما فيما تقبض.
ثم قال الشيخ أبو علي: إذا قبضت المرأة نفقة يوم وماتت في أثناء اليوم، لم يسترد النفقةَ، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ولو كان قدم الزوج لها نفقة أيام، وقلنا: إنها لا تملك ما يزيد على نفقة اليوم، فإذا ماتت، تركنا عليها نفقةَ يوم الموت، واسترددنا منها نفقاتِ الأيام بعد ذلك.
وإن قلنا: إنها ملكت ما قدمه الزوج لها، فهل يسترد من تركتها تلك النفقات الزائدة على نفقة يومها الذي ماتت فيه؟ فعلى وجهين- ذكرهما الشيخ:
أحدهما: أنه يستردّها وهو ما قطع به العراقيون؛ فإنها إنما ملكت على تقدير بقاء الزوجية، فإن انتهت الزوجية نهايتَها قبل الأيام التي قدّم الزوج نفقتها، يجب القضاء بانتقاض ملكها.
والوجه الثاني- أنا لا نستردّ ما قدمه الزوج، فإنما نفرع على أنها ملكته، فأشبهت نفقةَ اليوم إذا أخذتها ثم ماتت في صبيحة ذلك اليوم، فمعظم أوقات اليوم باقية، ثم النفقة غيرُ مستردة.
ولا خلاف أنها إذا أخذت نفقة يومها، ثم نشزت، لم نترك عليها النفقة.
فانتظم من هذا أن نفقة اليوم لا تسترد إلا من ناشزة، وأما إذا ماتت، فلا، ونفقةُ الأيام المستقبلة تستردّ من الناشزة، وهل تسترد من تركة الميتة؟ فعلى الخلاف المقدم.
10099- ومن تمام البيان في ذلك أنها لو كانت مطيعةً في بعض اليوم ناشزةً في بعضه، فهل تستحق النفقة لزمان الطاعة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، قريبُ المأخذ من مسألة الأمة المزوّجة إذا سلمها السيد ليلاً واستخدمها نهاراً، ولكنا ذكرنا ثلاثة أوجه ثَمّ: أحدها: أنه يثبت تمام النفقة على الزوج، وهذا الوجه لا يخرّج إذا انقسمت الطاعة والنشوز في اليوم الواحد، بل لا يجري هاهنا إلا وجهان:
أحدهما: أنها تستحق قسطاً من النفقة، وهذا هو الأوجه هاهنا.
والثاني: أنها لا تستحق شيئاً؛ فإن النفقة لا تتبعض.
ثم إن فرض النشوز في أحد الجديدين على الاطراد والطاعةُ في الآخر، فالبعض الذي أطلقناه نصف النفقة.
وإن كان انقسام الطاعة والمخالفة على نسبةٍ أخرى من الزمان، فلا وجه إلا اعتبارُ الأزمنة والتقسيط عليها.
وهذا نجاز القول في الفصول التي وعدناها في النفقة.