فصل: باب: عقد نكاح أهل الذمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ارتداد أحد الزوجين، أو هما إلى الشرك

8180- المرتد لا ينكح أبداً مسلمة ولا مرتدة ولا كتابية، والمرتدة لا ينكحها أحد: لا مسلم ولا كافر؛ لما فيها من حرمة الإسلام، ولا ينكحها مرتد، هذا هو القول في امتناع ابتداء النكاح مع الردة.
8181- فأما إذا طرأت الردة على النكاح، فلا يخلو: إما أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول، تنجزت الفرقة من غير توقف، ولا فرق بين أن ترتد، أو يرتد الزوج، أو يرتدا معاً، فعلى أي وجه فُرض طريان الردة، فالنكاح ينفسخ على الفور، ثم العود إلى الإسلام لا يرد النكاح، وليس كملك اليمين؛ فإنا وإن حكمنا بأن ملك المرتد يزول عن ماله، فإذا عاد إلى الإسلام عاد ملكه، وهذا لا يتصور في النكاح، وخالف أبو حنيفة فيه، إذا ارتدا معاً، وحكم بأن النكاح لا ينفسخ إذا ارتدا معاً.
فأما إذا طرأت الردة بعد الدخول، فلا فرق بين أن ترتد المرأة أو يرتد الرجل، وبين أن يرتدا جميعاً، فالحكم لا يختلف عندنا فيما يتعلق ببقاء النكاح وارتفاعه.
فنقول في هذه الصور الثلاث: إذا جرت الردة، ثم فرض الاستمرار عليها إلى انقضاء العدة، فنتبين أن النكاح ارتفع وانفسخ من وقت الردة، وما جرى بعد الارتداد اعتداد محسوب؛ وإن فرض زوال الردة الطارئة قبل انقضاء مدة العدة، فالنكاح قائم بين الزوجين.
هذا مذهب الشافعي، فلو ارتدت المرأة مثلاً والزوج مسلم وهي مدخول بها، فلو وطئها الزوج في أثناء العدة، فإن اتفق زوال الردة قبل انقضاء مدة العدة، فلا مهر على الزوج بسبب ما جرى؛ فإنا تبينا آخراً أن وطْأه صادف زوجته لا يُلزمه مهراً جديداً.
ولو جرى الوطء، ثم أصرّت المرأة على الردة حتى انقضت العدة، وقد تبينا أن الوطء جرى مع بائنة، فعلى الزوج مهر المثل. هذا مقتضى النص في الردة.
ونص الشافعي على أن الزوج المطلق إذا وطىء زوجته الرجعية في أثناء العدة، فإنه يلتزم مهرها وإن راجعها بعد الوطء، وهذا يخالف ما حكيناه عن النص فيه إذا وطىء الزوجُ المرتدةَ، ثم عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة.
والكلام في هذا الفصل يأتى مستقصى في كتاب الرجعة، وفيه نستقصي حكم ثبوت المهر في الرجعية-إن شاء الله عز وجل- إذا وطئها الزوج ثم راجعها أو لم يراجعها وتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فإذا نحن ذكرنا ثَمّ حكمَ المهر في الرجعة، فنذكر بعد نجاز الغرض منه كلام الأصحاب فيه إذا ارتدت المرأة ووطئها الزوج ثم عادت إلى الإسلام، وإنما رأيت تأخير ذلك لشدة تعلقه بأحكام الرجعية.
8182- ونحن نذكر الآن حكمَ المهر المسمى في النكاح وأنه متى يسقط؟ وكيف السبيل فيه؟ إن شاء الله عز وجل.
فنقول: إذا ارتد أحد الزوجين أو ارتدا جميعاً، نُظر: فإن كان ذلك بعد النكاح والدخول، فالمسمى ثابت بكماله، كما قدمنا ذكره في نكاح المشركات.
وإن لم تكن المرأة مدخولاً بها، نظر: فإن كانت هي التي ارتدت، سقط المهر بكماله، كما إذا سبقت إلى الإسلام وكانت مشركة تحت مشرك، فالحكم بهذا أولى إذا ارتدت عن الإسلام.
8183- وإن ارتد الزوج قبل المسيس، تشطر الصداق، لم يختلف أصحابنا فيه، ونزل ذلك منزلة الطلاق قبل المسيس، وذلك القول فيه إذا أسلم الزوج المشرك وتخلفت المشركة الوثنية، وذلك قبل المسيس، فالحكم تشطر الصداق.
ولو ارتد الزوجان معاً قبل المسيس-على ما أوضحنا تصوير الوقوع معاً-، فلا شك في ارتفاع النكاح، واختلف أئمتنا في المهر: فمنهم من قال: يجب لها نصف المهر، وقد وجد سبب الفرقة من جهة الزوج، فيحال الحكم عليه ويضاف وقوع الفراق إلى ما وجد منه، وإن أتت المرأة بمثله، كما لو خالعها، فإنه يجب لها نصف المهر، وإن كانت المرأة قد شاركت زوجها فيما وقعت به الفرقة.
والوجه الثاني- لا يجب لها نصف المهر؛ لأن المرأة أحدثت ما يستقل باقتضاء الفرقة لو انفردت، فيسقط مهرها وإن أتى الزوج بمثله، وليس كالاختلاع؛ فإن المرأة لا تستقل به والزوج في الحقيقة هو المطلق، ولم يوجد منها مشاركة في الطلاق، وإنما شاركت في قبول عوض الطلاق، فظهر الفرق.
والاختلاف في ارتدادهما يقرب من الاختلاف الذي حكيناه فيه إذا اشترى الزوج زوجته، فهل نقول يسقط المهر إذا جرى ذلك قبل المسيس، أو يجب نصف المهر للمَوْلى؟ فيه تردد؛ لأن البيع يتعلق على نسق واحد بالبائع والمشتري جميعاً، وليس كالخلع، وكأن البيع شبيه بارتداد الزوجين؛ من حيث إن أحدهما لا يختص بكونه مفارقاً بخلاف الخلع؛ فإن المطلق هو الزوج.
8184- ومما يتعلق بقاعدة المذهب، أن النكاح مهما ارتفع قبل المسيس أو بعده بردة أحد الزوجين، أو بردتهما جميعاً، فسبيل ارتفاعه عندنا الانفساخ لا غير، وأبو حنيفة قد يجعل ارتفاع النكاح بسبب ردة الزوج طلاقاً.
8184/م- ومما يتعين إجراؤه في قاعدة المذهب سؤالاً وجواباً، أن المرأة إذا ارتدت فهي بردتها متسببة إلى فسخ النكاح وتفويته على الزوج، فلو قال قائل: هلا غرمتموها قيمة البضع لزوجها لانتسابها إلى تفويت البضع عليه، وهلا نزلتموها منزلة الأجنبية تفسد النكاح بالرضاع، أو منزلة الشهود إذا شهدوا على الطلاق، وبعد القضاء بشهادتهم رجعوا عن الشهادة؛ فإنه يجب الغرم على الشهود، وعلى الأجنبية المرضعة، على تفاصيلَ ستأتي مشروحة-إن شاء الله عز وجل- في مواضعها.
قلنا: المرأة لا تغرم لزوجها شيئاًَ إذا هي ارتدت فانتسبت إلى فسخ النكاح؛ لأنها عاقدة، ولو غرمت، لغرمت بالعقد، وسبيل الغرامة بالعقد أن يسقط العوض المستحق، فإن أسقطنا جميع المهر-وقد جرى وطء- لأدى ذلك إلى تعرية الوطء عن العوض، وهذا لا سبيل إليه، وإن أسقطنا بعضاً، لم نجد إلى درك ما يصيب الوطاة الواحدة سبيلاً؛ فإن التوزيع إنما يمكن إذا كان ما عليه التوزيع مضبوطاً متناهياً، وهذا-على إشكاله- قد أوردنا الممكن فيه في مجموعاتنا في الخلاف.
ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك، أن الشافعي نص على أن النكاح إذا فسخ بعيب بعد المسيس فيسقط المسمى بكماله، وللمرأة مهر المثل؛ لأنها قد وطئت، وذكر الأصحاب قولاً آخر أن المسمى لا يسقط بعد تقرره بالدخول، وسيأتي شرح ذلك-إن شاء الله عز وجل- في باب العيوب والغرور.
8185- وأنا أقول: إن كانت الردة من الزوج فالمسمى بعد الدخول لا يسقط قولاً واحداً؛ من جهة أن ما يشطر المسمى لو جرى قبل المسيس، فإذا جرى بعده تقرر المسمى كالطلاق، فأما المرأة إذا ارتدت، فمعلوم أن ردتها قبل المسيس تسقط المهر بكماله، وإن ارتدت بعد المسيس، ففي كلام الأئمة تردد، وهو محل الاحتمال، فمنهم من يلحق الانفساخ الحاصل بردتها بما إذا فسخ النكاح بعيب؛ حتى يخرَّج قولٌ في سقوط المسمى والرجوع إلى مهر المثل، ومنهم من قطع بأنَّ المسمى لا يسقط قولاً واحداً، وهو ظاهر النص، وإليه ميل الجماهير؛ فإن ردته إذا لم تسقط المسمى وإن كان النكاح يرتفع بها انفساخاً؛ فيجب ألا يسقط أيضاًً بردتها، والفسخ بسبب العيب لما تضمن سقوط المسمى بعد الدخول-على القول المنصوص- استوى فيه الجانبان، وهذا- وإن كان ظاهر المذهب، فالقياس إجراء القول المنصوص إذا كانت الردة صادرة من جهتها، ولا يمتنع الفرق بين الجانبين كما فرقنا بينهما في الردة قبل المسيس.
8186- ثم ذكر الشافعي بعد ذلك التحول من ملة إلى ملة، وقد قدمنا في ذلك قولاً بالغاً.
وعقد باباً في طلاق الشرك، وقد استقصينا القول في أنكحتهم، وذكرنا أن المذهب الذي عليه التعويل ينفذ طلاقهم في الشرك، وحكينا في ذلك خلافاً بعيداً، وليس ذلك مما يعتد به من المذهب، ولم أجد في مضمون الباب مزيداً، فلم أعقده، واقتصرت على ما تقدم.

.باب: عقد نكاح أهل الذمة:

8187- قد ذكرنا في نكاح المشركات أن أنكحتهم التي عقدوها في الشرك على وفق اعتقادهم منفّذةٌ في الإسلام إذا لم يتصل بالإسلام مفسد، وقد تفصّل ذلك على أبلغ وجه في البيان، ومقصود الباب الكلام في مهورهم إذا اتصلت العقود بالإسلام، فنذكر ذلك، ونذكر معه حكم عقودهم في الأموال وتعاملهم على الخمور والخنازير، فنقول:
إذا أصدق المشرك زوجته خمراً أو خنزيراً، ثم اتصل النكاح بالإسلام، فالمذهب الذي عليه الجريان: أن المرأة إن قبضت صداقها الفاسد في الشرك، ثم فرض الإسلام بعد ذلك، فليس لها طلب المهر، ويجعل كما لو كان أصدقها الزوج مهراً صحيحاً وقبضته.
ولو أسلمت قبل قبض المهر، فلها طلب مهر مثلها في الإسلام؛ وذلك لأنها ما رضيت بالنكاح عارياً عن الصداق، ولما أسلمت وهي على استحقاق المهر ويستحيل أن تطلب الخمر، فلا مرجع إلاَّ إلى مهر المثل، وتنزل هذه الحالة منزلة ما لو نكح مسلم مسلمة على خمر، فالخمر لا تثبت، ولكن يثبت مهر المثل.
8188- وذكر شيخي مسألتين غريبتين بعد تمهيد أصل المذهب وكنت أستبعدهما حتى رأيتهما لصاحب التقريب. فقد حكاهما عن نصوص الشافعي في سير الواقدي، إحدى الطريقين- أنها إن لم تقبض الصداق في الشرك، وأسلمت، طلبت مهر المثل، كما ذكره الأصحاب، وإن قبضت الصداق الفاسد؛ ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنها لا تطلب شيئاًً، وهو ما صار إليه جماهير الأصحاب؛ فإنها أسلمت بعد انفصال الأمر وانتهاء النكاح إلى حالة لا يبقى لها فيه طَلِبة على موجب عقدها، وقد ذكرنا أن عقدهم متبع في تفاصيل الأنكحة وأحكامها، فصار انتهاء النكاح إلى هذه الحالة قبل الإسلام بمثابة ما لو جرى في الشرك عقد تفويض، ومعتقدهم أن التفويض يعرّي العقد عن المهر ولا يتضمن وجوبه وإن اتصل بالمسيس. هذا أحد القولين، وهو الذي لم يعرف معظم الأصحاب غيره.
والقول الثاني- أن لها طلب المهر إذا اتصل النكاح بالإسلام؛ فإن القبض الجاري في الشرك فاسد، فوجوده كعدمه، وهذا يعتضد باقتضاء دوام النكاح للمهر. هذه طريقة واحدة.
والثانية- أنَّ القبض إذا جرى في الشرك، ثم اتصل النكاح بالإسلام فلا طلبة لها، وهذا هو الذي قطع به الجمهور.
وإن لم تقبض المهر الفاسد حتى أسلمت؛ ففي المسألة قولان:
أحدهما:وهو ظاهر المذهب- أنها تطلب مهر مثلها، وقدمنا توجيه ذلك، والقول الثاني- أنه لا شيء لها؛ فإنها رضيت في الشرك بالخمر، وحكم رضاها ثابت عليها في الإسلام، وقد عسر عليها قبض الخمر، فسقطت طلبتها.
فهذا ما حكاه شيخي وأورده صاحب التقريب معزيّاً إلى النصوص، وليس للمتصرف في المذهب أن يلحق ما ذكرناه بالقانون، فالأصل الذي عليه التعويل ما سبق، وهو قطع القول بالفصل بين أن يجري قبض وبين ألا يجري، كما ذكرناه في صدر الفصل قبل حكاية المسألتين الغريبتين.
8189- ومما يتصل بذلك أنهم إذا ترابوا فباعوا درهماً بدرهمين، فإن تقابضوا ثم أسلموا، أو ترافعوا إلينا ورضوا بحكمنا؛ فالذي أجرَوْه لا نتبعه بالنقض.
وإن أسلموا أو ترافعوا قبل القبض، فلا طلبة بينهما، والذي أجرياه من العقد يسقط، وتنقطع عهدته وآثاره.
فإن قيل: ما حكيتموه من الطريقين هل تجرونه في تعاملهم على الربا وفي شرائهم الخمر و أثمانها؟ قلنا: ليس من الرأي التفريع على الضعيف الشاذ، وإن أردناه، فلا ينبغي أن يكون للطريقين جريان في تعاملهم على الخمور والخنازير والربويات، وذلك أن النكاح يبقى بعد الإسلام مستمراً مقتضياً دوام أحكامه، والمهر من أحكامه وحقوقه، وقد يطرأ في الإسلام على النكاح ثبوت مهر لم يقترن بالعقد وجوبه، ولذلك نوجب المهر للمفوِّضة بالمسيس، وإن فرعنا على أنها تستحق بالعقد مهراً ونثبت للمفوضة أيضاًً المطالبة بالفرض على تفصيل سيأتي موضحاً في بابه من كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فهذا سبب جريان الطريقين على بعدهما.
فأما التعامل على الخمور والربويات إذا اتصل بالقبض، وانفصل الأمر، فيبعد تتبعه في الإسلام، ومن اجترأ على تتبع أثمان الخمور بعد ما قبضت في الشرك، كان هاجماً على خرق الإجماع، وقد قال أمير المؤمنين عمر: "ولّوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها".
8190- ولو أتلف كافر على كافر خمراً، ثم غرم للمتلَف عليه عوضها دراهم، ثم أسلم، لم يرجع بما بذله في الشرك عوضاً ولو أسلم قبل أن يغرم، فلا شك أن المتلَف عليه لا يطالبه بشيء، سواء كان مُصراً على شركه، أو أسلم.
ولو أتلف الكافر على الكافر خمراً ثم ألزمه حاكمُهم قيمةَ الخمر، فبذلها محكوماً عليه قهراً، فلا يخلو إمَّا أن يبقيا على الشرك ويترافعا إلى حاكمنا، وإما أن يسلما، فإنْ ترافعا إلى حاكمنا وهما كافران؛ ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنا لا نتبع ما جرى من حكمهم بالنقض، ولا نُلزم قابض قيمة الخمر ردها؛ جرياً على ما مهدناه من أن معاملاتهم إذا اتصلت بالقبض، انفصلت عن تتبع حاكم الإسلام، ولا خلاف في أن المتلف لو بذل القيمة طوعاً، ثم أسلم لا يرجع، وكذلك إذا ارتفع إلى مجلسنا على كفره؛ فإنه لا يجد مرجعاً. ومن عقدهم نفوذ حكم حاكمهم، كما أن من عقدهم جريان حكم بذل الثمن طوعاً على الصحة والاستحقاق.
والقول الثاني- إنا نكلف المتلَف عليه رد القيمة؛ لأنا إنما لا نتعرض لهم فيما تقابضوه بالتراضي، وهذه القيمة مأخوذة من المتلِف بغير رضاه قهراً، فلا حكم له.
هذا قول ضعيف لا اتجاه له، ولكن حكاه الأئمة في الطرق، ولم يخل كتاب مبسوط عن حكايته عن أن بعض الأئمة ذكر قولين، وذكر صاحب التقريب وجهين.
ولو جرى الإتلافُ والحكمُ وتغريمُ حاكمهم المتلِفَ القيمة- كما سبق تصويره، ثم أسلم المتلَف عليه، قطع المحققون بأنا لا نغرِّم المتلَف عليه في الإسلام ولا نلزمه رد القيمة التي قبضها في الشرك، وإسلامه يقطع عنه هذه التبعة بخلاف الرافع.
وطرد شيخي الخلاف في الإسلام والرافع جميعاً، وهذا منقاس؛ لأن التزامهم أحكامنا بالرفع أضعف من التزام الأحكام بالإسلام، فإذا كنا نلزمهم حكم الإسلام بسبب الرفع والرضا بحكمنا، فلأنْ نُلزم المسلمَ حكمَ الإسلام أولى.
فصل:
قال: "ولا تحل ذبيحة من وُلِدَ من وثني ونصرانية... إلى آخره".
8191- الولد المتولد من بين من تحل ذبيحته ومناكحته ومن لا تحل ذبيحته ومناكحته، تفصيل المذهب فيه: أن أباه إن كان مجوسياً أو وثنياً فلا تحل ذبيحته ومناكحته نظراً إلى أبيه قولاً واحداً.
ولو كان أبوه ممن تحل ذبيحته ومناكحته وكانت أمه مجوسية أو وثنية، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أن مناكحة الولد مباح ومذكاه مستباح، نظراً إلى أبيه؛ فإنه إليه ينتسب وبه يعرف.
والقول الثاني-إن هذا الولد يلتحق بمن لا يناكح ومن لا تُستحل ذبيحته- تغليظاً عليه وتشديداً للحكم في حقه.
وعبّر بعض الأئمة عن هذين القولين بعبارة مرسلة تؤدي هذا الغرض المفصّل، فقال: في الولد المتولد من بين من تحل ذبيحته ومن لا تحل ذبيحته قولان:
أحدهما: أن الاعتبار بأبيه فيه، والثاني: أنا نأخذ بالتغليظ ونحكم بتحريم الذبيحة والمناكحة إذا كان أحد أبويه ممن لا يناكح ولا تستباح ذبيحته، سواء كان أباً أو أماً، وهذا بعينه ما ذكرناه مفصلاً قبل.
8192- وقد ذكر صاحب التلخيص جملاً من أحكام الأولاد رأيت معظمها مذكوراً مكرراً في الكتب، وأنا أذكر منها ما أراه مفيداً.
أما الإسلام، فيلحق الولد من كل واحد من أبويه لقوته واستعلائه؛ فإنه يعلو ولا يعلى، هكذا قاله المصطفى، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم "الإسلام لا يشركه الشرك، والشرك يشركه الشرك".
وأما الجزية فلا يخفى مأخذها من النكاح والسفاح وملك اليمين ووطء الشبهة، ولسنا لتفصيلها على وضوحها.
واختلف أصحابنا في دية المتولد من اليهودي والمجوسية، فالذي ذهب إليه صاحب التلخيص أنا نوجب أعلى الديتين نظراً إلى أعلى الأبوين دية، وذلك لتغليظ الجناية وتشديد أثرها على الجاني. هذه طريقة اختارها صاحب التلخيص.
ومن أصحابنا من قال: القول في دية المتولد يجري على القولين المذكورين في تحليل الذبيحة والمناكحة؛ فإنه إن كان يتجه التغليظ على الجاني فقد يتجه الالتفات على أن الأصل براءة الذمة، فلا ينبغي أن تشغل إلا بثبت.
وأما حكم الجزية، فالذي ذهب إليه المحققون أن المتولد من بين من يؤخذ منه، ومن لا يؤخذ منه الجزية-وهذا أصل مهدناه مراراً وسيأتي تمامه في كتاب الجزية إن شاء الله تعالى- فالميل إلى تغليب أخذ الجزية؛ ولذلك أُخِذت من المجوس مع تحريم المناكحة والذبيحة، وأخذت الجزية من الذي ترددنا في أن أول آبائه دان بالتهود قبل المبعث أو بعده.
ومما أجراه القفال في الشرح أن المتولد من بين يهودي ومجوسية إذا بلغ، وأراد الاستمساك بالتمجس، فلا معترض عليه ولا نلزمه التمسك بالتهود، كما نقول في المسلم المتولد من بين المسلم واليهودية: إنه يلزمه التمسك بالإسلام، ولكن إذا أظهر التمجس، فله حكم المجوس، وإنما ترددنا فيه قبلُ.
هذا مسلك القفال، وليس يمتنع أن نقول: إذا أثبتنا له حكم التهود في تحليل المناكحة والذبيحة، نمنعه من التمجس إذا منعنا الانتقال من ملة إلى ملة، وهذا سيأتي مستقصى في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.
والنسب إلى الآباء، وكل حكم يناط بالنسب فالاعتبار فيه بجانب الأب، فإذا أعطينا بني هاشم وبني المطلب فالمولود بين هاشمي وتيمية يستحق السهم. والكفاءة بالأب؛ فإنه معتمد النسب في هذا المعنى ولا غموض فيه.
فصل:
قال: "ولو تحاكموا إلينا، وجب أن نحكم بينهم... إلى آخره".
8193- إذا ارتفع إلى مجلس حاكمنا ذمي راضٍ بحكمنا، والتمس أن نحكم له أو عليه، فهل يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم بموجب دين الإسلام؟
تفصيل المذهب في ذلك أن الكلام يتعلق بأهل الذمة، ثم بالمعاهدين.
فأما أهل الذمة إذا ارتفعوا إلى مجلس حاكمنا، فإن كان خصم المرتفع إلينا مسلماً، وجب على حاكمنا الحكم، سواء كان مدعياً أو مدعى عليه، أما إن كان مدعياً؛ فلا يجوز تعطيل حقه، وإن كان مدعىً عليه، فيجب الانتصاف منه للذمي، إن اقتضى الحكمُ عليه حقاً له، وإن لم يتبين ذلك، فعلينا أن ننظر، ونفصل الخصام، ونتبين مساق الأحكام، حتى نعلم أن المسلم ظالم أو بريء، هذا إذا كان خصم الكافر مسلماً.
فأما إذا اختصم كافران ذميان، فلا يخلو: إما أن يكونا على ملة واحدة، وإما أن يكونا على ملتين، فإن كانا على ملة واحدة، فهل يجب على حاكمنا أن يحكم بينهما؟ فعلى قولين مشهورين:
أحدهما: أنه لا يجب عليه أن يحكم، لقوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم} [المائدة: 42]، والقول الثاني، وهو الأصح- أنه يجب علينا أن نحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؛ فإنا أُلزمنا أن نكف عنهم عادية الظَّلمة، ويتعين علينا بحكم الذمة أن نذبّ عنهم ذبَّنا عن المسلمين، فكيف ينساغ أن نتركهم يختصمون ويتغالبون؟ أما الآية، فلم يتبين لنا ورودها في أهل الذمة، ولما رضي اليهوديان بحكمه صلى الله عليه وسلم ورجمهما، لم يكونا ملتزمين الجزية، ولذا كانت الآية مبهمة. هذا بيان القولين.
ثم مما يتفرع عليهما أنا إن قلنا: يجب علينا أن نحكم لهم وعليهم حُكْمَنا على المسلمين، فإذا أتانا واحد منهم مستعدياً على خصمه الذمي، فيجب علينا أن نُعْديه ونستحضره المجلس، كما نفعل في المسلمين.
وإن حكمنا بأنه لا يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم، فإذا جاءنا واحد منهم يستعدي على خصمه، لم يجب علينا أن نُعديه، فإنا كما لا نوجب على الحاكم أن يحكم بينهم لا نُلزم من لم يرض بحكمنا حكمَ الإسلام، فوجوب الإعداء عند الاستعداء على الخصم المتخلف عن المجلس مبني على وجوب الحكم على حاكمنا.
وإذا شهدا ورضيا بحكمنا، فمن لم يوجب الحكم على الحاكم، لم يمنعه منه.
و لا شك أنه إذا أراد الحكم جرى على معالم الإسلام، واستتبعهم في حق الدين، ولم يتبعهم في عَقْدهم، إلا أن يترافعوا إلينا وقد انفصل الأمر فيهم بتقابضٍ، كما سبق؛ فإذ ذاك لا يخفى الحكم، كما أوضحناه من قبل، ثم إذا حكمنا عند رضاهم، نفذ الحكم، ولا خيرة لهم بعد نفوذ الحكم.
وما ذكرناه فيه إذا كان الخصمان على ملة واحدة.
8194- فأما إذا كانا على ملتين مختلفتين، فإذا ترافعوا إلينا؛ فالذي ذهب إليه معظم الأئمة: أنه يجب على الحاكم الحكم عند اختلاف الملل، والسبب فيه أنا لو لم نوجب ذلك، لبقيت الخصومة ناشبة بينهم؛ فإن كل واحد من الخصمين المختلفين في الدين لا يرضى بحكم حاكم أهل دين خصمه، فيفضي ذلك إلى اشتجارٍ في ديار الإسلام، لا قاطع له، ولا فيصل فيه.
وذكر العراقيون هذه الطريقة وارتضَوْها، وذكروا طريقة أخرى هي إجراء القولين في الخصمين المتعلقين بملتين:
أحدهما: أنه لا يجب علينا الحكم كما لا يجب بين متفقي الملة.
ومما يجب التنبه له أن من فرّق بين المتفقَيْن والمختلفَيْن عوّل في الفرق على أن المختلفَيْن قد لا يجتمعان على حاكم، فيؤدي ذلك إلى أن تبقى الخصومة فاشية، وهذا لا يتحقق بين المتفقَيْن.
وفي ذلك فضل نظر، وهو أنه إذا لم يكن لأهل الذمة في بلدة الخصومة حاكم، فما قرره الأصحاب من دوام الخصام في المختلفَيْن يتحقق هاهنا، فيلزم على موجَب ذلك أن يجب على حاكمنا الحكم إذا لم يكن لهم حاكم، وكذلك إذا كان لهم حاكم وامتنع أحد الخصمين، فيجب أن يقال: يتعين على حاكمنا أن يحكم؛ إذ يبعد أن نلزمهم حكم الكفر ونكون وزير حاكمهم حتى يُعدي من جهته. ومن تأمل ما نبهنا عليه، استبان ضعف القول إنه لا يجب علينا الحكم بينهم.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المتحاكمان إلينا ذميين.
8195- فأما إذا كانا معاهدين فقد أجمع الأصحاب في الطرق على أنه لا يجب علينا أن نحكم بينهم؛ والسبب فيه أنا لم نلتزم الذب عنهم وأن نسوسهم برأينا سياسَتنا لرعايا الإسلام، وإنما فائدة العهد ألا نتعرض لهم، والسر فيه أن الذمة أوجبت الذبَّ لمكان الجزية التي يبذلونها، ولا جزية على معاهد. وإن بذلوا شيئاًً، فلا حكم لما يبذلونه إذا لم يكن عن استحقاق، وهذا إذا كان المعاهدان متفقي الملة.
فأما إذا كانا مختلفي الملة، فقد قال طوائف من محققينا: يجب علينا أن نحكم بين المعاهدَين المختلفَي الملة، كما ذكرنا في الذمييَّن المختلفَين، وعولوا على ما ذكروه من دوام الخصام.
وقد ذكر بعض الأصحاب في المعاهَدين المختلفَين في الدين خلافاً، ورتبوا فيه المذهب، فقالوا: في الذميين المتفقين قولان، وفي الذميين المختلفين قول واحد في وجوب الحكم، وفي المعاهدين المتفقين قول واحد إنه لا يجب، وفي المعاهدين المختلفين قولان.
وهذا عندي ذهول عن حقيقة العهد ومقتضاه؛ فإنا قد أوضحنا أنا لم نثبت للمعاهدين إلأَ أن نؤمّنهم في دمائهم وأتباعهم وأموالهم، فأما أن نليَهم ونسوسَهم، فلا، فإذا اختصم مختلفان منهم، لم يلزمنا أن نفصل الخصومة؛ جرياً على ما نبهنا عليه من مقتضى العهد.
ولكن اشتهر عن الأصحاب القول بوجوب الحكم بين المختلفَين منهم، وقطع بهذا معظم المحققين من الأصحاب، وهذا محمول عندنا على أصلٍ، وهو أن طائفة من أهل العهد إذا دخلوا ديارنا، ثم ثاروا وأخذوا يصطدمون وينتطحون ويتجالدون بالسيوف، فهل يجوز تركهم على هذه الحالة؟ ما ذهب إليه أهل الإيالة أن ذلك لا يسوغ؛ فإن السيوف إذا شهرت، خرج الأمر عن الضبط، وأَحْكَمت السيوفُ على الطُّلَى، وقد يجر ذلك خرماً للهيبة، وانتهاء إلى اهتتاك محارم الإسلام، ومَنْ إلى وامل عليه، تبين له أن الرجل المستكين تحت الطاعة إذا ثار وشهر السيف، استوى عنده الإمام الأعظم وآحاد الناس، فعلى هذا القانون يجوز أن يجب فصل الخصومات بينهم إذا اختلفوا في الدين، حتى لا يؤدي للمحذور الذي أشرنا إليه.
فهذا منتهى الإمكان.
والمذهب عندي القطع بأنه لا يجب الحكم بينهم، اتفقوا في الدين أو اختلفوا.
8196- وإذا كان أحد الخصمين مسلماً والثاني معاهداً، فلا خلاف أنه يجب علينا الحكمُ مدعياً كان المسلم أو مدعًى عليه، وتعليله بيّن لمن أحاط بما مهدناه.
8197- وإذا كان أحد الخصمين ذمياً والثاني معاهداً، فهذا مرتب عند نقلة المذهب على اختصام الذميين، فإن لم نوجب الحكم بينهما، فلأن لا نوجب وأحدهما معاهداً أولى. وهذا عندي من الترتيب الركيك؛ فإنا إذا أوجبنا الحكم على الذمي لم ننظر إلى خصمه كالمسلم، وإن لم نوجب الحكم على الذمي، فلا فرق بين أن يكون خصمه معاهداً أو ذمياً.
هذا بيان معاقد المذهب في الحكم بين الكفار.
8198- ونحن نذكر الآن جملاً في أحكامنا عليهم إذا رفعوا إلينا عقودهم، فنقول: مبنى الحكم لهم وعليهم أن نقضي بموجب الإسلام، ولا ننشىء حكماً مخالفاً لقاعدة الإسلام، ولكن لا نتتبع ما مضى منهم وانفصل، وعليه خرّجنا انفصال معاملاتهم بالتقابض، ومن أراد تخريج أنكحتهم على هذا القياس، فقد طمع في غير مطمع؛ فإنا أوضحنا في أول نكاح المشركات ابتناء قواعد الباب على الأخبار، وبيّنّا خروج أحكامنا في كثير من مسائل الباب عن القياس، ولسنا لإعادة تلك القواعد، والقدر الذي نجريه هاهنا على هذا المساق أنه إذا اتصل بالإسلام مفسد أفسدناه، وإن تحققنا مفسداً مقترناً بالعقد حالة الشرك وقد انقضى، فلا نلتفت إليه، كما مضى.
8199- ثم اتصل بهذا المنتهى أنهم إذا ارتفعوا إلينا والتمسوا منا أن نفرض نفقة مجوسية على يهودي، وكان تزوج يهودي مجوسية؛ فالذي قطع به المراوزة أنا لا نجيبهم إلى ذلك أبداً؛ فإنا لا نحل المجوسية والوثنية لأحد.
وذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: ما ذكرناه، والثاني: أنا لا نتعرض لهم إذا نكح اليهودي مجوسية، وإن ارتفعوا إلينا قررنا لهم، وفرضنا النفقة، وهؤلاء يقولون: إنما تحرم المجوسية على المسلم ولا تحرم على الكتابي، وهذا بعيد عن قياس المذهب.
ولا خلاف أن المجوسي إذا نكح واحدة من المحارم، ورفع الحكم إلينا، ورضي بحكمنا في التقرير والبت على موجب الدين؛ فإنا نفرق بينهما؛ إذ لا مساغ في الإسلام لنكاح المحارم.
ومما يجب البت فيه أن المجوسي إذا ارتفع إلينا، وطلب أن نفرض النفقة للتي يعتقدها زوجة، وكانت من محارمه- فلا شك أنا لا نجيبه إلى مُلْتَمسه، ولكن هل نفرق بينها وبين زوجها؟ الذي يقتضيه الرأي في ذلك أنهما إذا لم يرضيا بحكمنا في التفريق، لم نفرق بينهما؛ فإنا إنما نجري أحكامنا عليهم إذا رضوا بها، ولم يوجد في الصورة التي ذكرناها رضاً منهم بالتفريق.
ورأيت في كلام الأئمة ميلاً إلى التفريق في هذا المقام-على بعده- وقد يتجه لسببين:
أحدهما: أن موجب النفقة النكاح، فإذا كان ينفذ حكمنا فيما وقع الرضا به، فلنملك قطع خيالهم في كون هذا النكاح موجباً للنفقة، وهذا تسلط على التفريق لا محالة، وأيضاًً فإنهم إذا ارتفعوا إلينا، فقد أظهروا لنا ما يخالف الملة، وربطوا بعض مقتضياته بحكمنا، فكان هذا بمثابة ما لو أظهروا خمورهم، ولو فعلوا ذلك، أريقت عليهم.
وما ذكرته احتمال. والوجه أنا لا نفرق ما لم يرضَوْا بحكمنا في التفريق.
8200- ومما يتعلق بما نحن فيه أن الأيّم منهم إذا التمست من حاكمنا أن يزوجها، ملك تزويجها على شرط الشرع إذا كانت حرة كتابية- على ما تمهدت الأصول.
وإن لم يكن لها ولي، فهل يجب على قاضينا أن يزوجها؟ خرّج الأئمة هذا على الخلاف في أنه هل يجب لنا أن نحكم لهم وعليهم؟ وهذا على نهاية البعد عندي، نعم إذا كان لها ولي فعضل فارتفعت إلى مجلس الحكم. فهذا يشبه صورة الاستعداء والخصام، وهو لعمري صورة القولين. والذي قدمناه فيه إذا كانوا لا يرون الانفراد بالتزويج وإن لم يكن للمرأة من يزوجها.
فصل:
8201- قد بنينا قاعدة المذهب على أن المُشْركة إذا قبضت صداقها الفاسد، ثم أسلمت، لم تملك مطالبة الزوج بشيء، وهذا الفصل معقود فيه إذا قبضت البعض-والبناء على قانون المذهب- فنقول: إن قبضت بالجزئية مقداراً من الخمر المصدَقة، سقطت طَلِبتها بذلك المقدار من مهر المثل؛ حتى إن كانت قبضت نصفاً وأسلمت، فإنها تطلب نصف مهر مثلها، وسقط بقبض النصف النصفُ.
8202- ولو جرت كتابةٌ على خمر في الشرك، وقبض السيد البعض، واتصل العتقُ بالإسلام، فإذا قبض تمام الخمر في الإسلام، عتق العبد، ورجع السيد عليه بتمام قيمته، ولا حكم لما قبضه في الشرك، وإن كان قد قبض تمام الخمر في الشرك، وجرى الحكم بالعتق، ثم أسلم، لم يطالب العبد بشيء من قيمته؛ بناءً على ما مضى في الكفر، ولا أثر لقبض البعض في عوض الكتابة، هكذا قال الأصحاب ونص الشافعي.
والفارق أن حكم العوض في الكتابة لا يتبعض، لأن الكتابة نازعة إلى التعليق بعض النزوع، ومن حكم التعليق أن وجود بعض الصفة لا أثر له، والعوض في المعاوضات المحضة يتوزع على المعوض، والصداق وإن كان لا يقابل البضع على حقيقة مقابلة الأعواض، فهو في نفسه منقسم، ووقوعه على مقتضى الانفراد أولى بتحقيق التبعيض فيه، والفرق يتضح بنفي حكم التعليق في الصداق.
8203- ومما يتعلق بمضمون الفصل أنه لو أصدق امرأته أجناساً فاسدة، واشتمل كل جنس مثلاً على أعداد مثل أن يُصدقها في الشرك كلاباً وخنازير ومقداراً من الخمر، ثم أقبضها بعض الصداق، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على أوجه: فذهب بعضهم إلى اعتبار عدد الأجناس، وذهب آخرون إلى اعتبار الأعداد في أنفسها، وصار صائرون إلى اعتبار القيمة عند من يرى لها قيمة، وإيضاح الخلاف بالتصوير: أنه إذا أصدقها ستة كلاب، وثلاثة خنازير، وزقَّ خمر، وأقبضها في الشرك الكلاب، فإن اعتبرنا الأجناس، فقد استوفت ثُلث المهر؛ لأنها ثلث الأجناس، وإن اعتبرنا الأعداد فقد استوفت ثلاثة أخماس المهر؛ فإن الأعداد عشرة، والكلاب منها ستة، ومن اعتبر القيمة، لم يخف المسلك عنده.
ولو أصدق امرأته في الشرك أعداداً من جنس واحد كالكلاب وقبضت بعضها، فينقدح في هذه الصورة وجهان:
أحدهما: اعتبار القيمة عند من يرى لها قيمة، والآخر- اعتبار العدد.
وذكر بعض أصحابنا عبارة حاصلها يرجع إلى القيمة، فقال: تعتبر منافع الكلاب، وما يقدّر لها من أجرة إذا جوّزنا استئجارها، ويقع التوزيع على هذه الستة، وهذا قريب من اعتبار القيمة؛ فإن قيمها عند من يرى لها قيماً على مقدار منافعها، ولكن هذا القائل أحب أن يذكر معتبراً سائغاً في الدين.
ولو أصدقها زِقَّين من الخمر، فقبضَ أحدهما، فهذا محل النظر، يجوز أن يقال: يعتبر العدد، ولا ينظر إلى الكثرة والقلة، وقد صرح بهذا طائفة من الأصحاب. ويتجه اعتبار الوزن إن أمكن الوصول إليه، أو الكيل، فإن جرى القبض من غير كيل ولا وزن، يخرّج أيضاًً اعتبار القيمة، ولذلك مخرجان:
أحدهما: الرد إلى المقدار إذا اتحد النوع، والآخر- النظر إلى اختلاف النوع؛ فإن القيم تتفاوت بتفاوت الأنواع. هذا منتهى ما أردناه في ذلك.
ومما أجراه بعض من ينتسب إلى التحقيق تفريعاً على اعتبار القيمة أنا إذا صادفنا الصداق خنزيرين مثلاً وقد قبضت أحدهما فنقدرهما شاتين ونعتبر قيمتهما، وهذا كلام سخيف لا يصدر إلا عن زلل، وكيف ينتظم تقدير الخنزير شاة، فلا وجه إلا اعتبار قيمة الخنزير عند من يرى له قيمة.