فصل: باب: عدة المفقود وغيره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: عدة المفقود وغيره:

9921- إذا غاب الرجل عن امرأته ولم ينقطع أثره، ولم يخفَ خبره، وطالت مدة الغيبة، فالنكاح قائم، والمرأة محبوسة في حِبالة الغائب، إلا أن يُفرضَ إعسارٌ بالنفقة، وذلك يأتي في كتاب النفقات، إن شاء الله.
هذا قولنا وإن تضررت بسبب الغيبة؛ وهذا بمثابة ما لو انقطع الزوج عن زوجته في الحضر، واكتفى عنها بالجواري والسُّرِّيات، فليس لها إلا الاستمرار على النكاح.
9922- وإن انقطع الخبر وخفي الأثر، وكان لا يُعلم حياتُه ومماته، فهذا موضع القولين الجديد والقديم، على ما سنذكرهما الآن، ونتأنق أولاً في التصوير، ونقول:
إن خفي الأثر، وانقطع الخبر، انقطاعاً يُشعر مثله بالموت، ويغلب على الظن؛ من جهة أن الحي تنتشر أخباره وينقلها الواردون والوافدون، وفي مثل هذه الصورة نُجري القولين في أنه هل تجب فطرةُ العبد الغائب على هذا الوجه؟ ولو أُعتق عن الكفارة هل نقضي ببراءة الذمة؟ فإن كان انقطاع الخبر على هذا الوجه، فهذا موضع جريان القولين.
وإن انقطع الخبر وأمكن حمله على تنائي الديار، وانتهاء الرجل في الإبعاد في الأسفار إلى مكان لا يتواصل الرفاق من مثله غالباً، فالانقطاع على هذا الوجه لا يُغَلِّب على الظن الموتَ، وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في أن القول القديم هل يجري في مثل هذه الصورة؟ ظاهر الكلام أنه يجري مع احتمالٍ وتردّدٍ.
هذا كلامنا في تصوير محل القولين.
9923- ونبتدىء بعد ذلك ذكرَ القولين: قال في القديم: تتربص بعد انقطاع الأخبار أربعَ سنين، ثم تعتد بعدها عدة الوفاة أربعةَ أشهر وعشراً، ثم تنكِح إن شاءت.
قال الشافعي: قلدت فيه عمرَ بنَ الخطاب، وفيه طرف من المعنى وهو أن الضِّرار إذا عظم مدفوعٌ، وقد نفسخ النكاح بالعجز عن الإنفاق والاستمتاع وغيرهما مع تعرضهما للزوال، فإذا جاز الفسخ بهذا الضرر اليسير، فلأن يصح بالضرار المتفاحش فيما نحن فيه أولى.
وقال الشافعي في الجديد: تصبر حتى يأتيَها يقينُ طلاقه أو وفاتِه، وعنى باليقين أن يثبت سبب الفراق بطريق من الطرق الشرعية وبيّنةٍ من البينات، ثم تتوقف إن استبهم الأمر ما عُمّرت، وبقيت، وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «امرأة المفقود امرأته ما لم يأتها يقين طلاقه أو وفاته». وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "امرأة المفقود لا تتزوج"، ولا عبرة بالصور، فإنه لو تحقق انتقاله إلى قُطرٍ والأخبار متواصلة، فالضرار محقق ولا يثبت حق الفسخ.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه رجع عن قوله القديم، وغلّط من يعتقد بالقول القديم، وصار إلى أنه لو قضى به قاضٍ نقضت قضاءه.
وهذا المسلك يجري في معظم الأقوال الجديدة بالإضافة إلى القديمة؛ من قِبل أن التعويل في نقض القضاء على مصادفة قضاء القاضي سبباً معلوم بطلانه، وكذلك يجري الجديد مع القديم، فإنه بنى أقواله القديمة على اتباع الأثر، وتَرْكِ القياس الجلي، وتحقق عنده في الجديد أن ذلك باطل، فبنى نقضَ القضاء على معتقد إصرارٍ مقطوع به.
قال أبو حنيفة: يلزمها أن تمكث حتى يستكمل الزوج مائة وعشرين سنة، ثم تنكِح؛ لأن هذا أقصى سن الآدميين في زماننا فيما بلغنا. وهذا الذي ذكره مخالفٌ للقياس والسنة.
9924- فإن فرعنا على القول القديم، فأول ما يقع البداية به أن الأربع سنين هل يضربها القاضي أم كيف السبيل فيها؟ أما مدة الإيلاء، فمن وقت الإيلاء، من غير حاجة إلى الضرب من جهة القاضي، وكذلك المدد المرعية في ضرب العقل على العاقلة يعتبر ابتداؤها من وقت الجناية، كما سيأتي، إن شاء الله.
ومدةُ العُنّة لابد من استنادها إلى ضرب القاضي.
وإذا قلنا في التي تباعدت حيضتها: تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد، فلا حاجة إلى ضرب القاضي، وهذه المدّة التي نحن فيها مما ظهر فيه اختلاف الأصحاب أخذاً من فحوى كلامهم: فقال قائلون: لابد من رفع الحكم إلى الحاكم لينظر ويرى رأيه، ثم نبتدىء ضربَ المدة، وهي أربعُ سنين.
وقال قائلون: تمضي هذه المدة من غير ضربٍ من جهة القاضي.
وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في أنا إذا أثبتنا حق الفسخ بسبب الإعسار بالنفقة، فهل تنفرد المرأة بالفسخ إذا تحقق الإعسار، أم القاضي يتولى ذلك؟ فيه اختلاف سيأتي مشروحاً.
ووجه قُرب ما نحن فيه من الإعسار أن الإحاطةَ بانقطاع الأخبار لابد فيها من اجتهاد وبحثٍ، وكذلك القول في الإعسار؛ فإنه إنما يُتوصّل إليه إذا طُلب للزوج مال، فلم يوجد، فاستوى الأصلان فيما نحن فيه.
ثم إذا ضُربَ المدةُ بعد ما قررناه ومضت، واعتدت أربعةَ أشهر وعشراً، فلا يثبت موت ذلك الغائب إلا في هذه القضية، فلا يقسّم ورثتُه مالَه، ولا يقع الحكم بعتق مدبّريه وأمهاتِ أولاده.
والذي اختاره القاضي أنه لابد من حكم الحاكم في ضرب المدة، كمدة العُنَّة.
9925- وإذا أردنا أن نوجز كلاماً على المدد، قلنا: مدة الإيلاء تستند إلى أمرٍ مقطوع به، وكذلك مدة ضرب العقل على العاقلة، ومدة العُنَّة مستندها دعاوى، وفرضُ إنكارٍ أو إقرار، والدعاوى لا تصح إلا في مجلس الحكم، وهذه المدة التي نحن فيها مستندها اجتهاد من غير حاجة إلى دعوى لما ذكرناه في الإعسار.
9926- ثم تمام التفريع على القول القديم أنها إذا تربصت في السنين، ثم اعتدت أربعة أشهر وعشراً، ونكحت، فعاد الزوج الأول، فكيف الوجه؟ فنقول: إن لم تنكِح، فالزوج العائد أحق بها، والزوجية قائمة.
وإن كانت قد نكحت، فالزوج الأول العائد بالخيار بين أن ينتزعَها من الزوج الثاني، ويغرَم له مهرَ مثلها. قال القاضي: هكذا حكى الشيخُ تفريعَ هذا القول، وهو مذهب عمر.
وقد تأملت طرق الأصحاب في التفريع على القول القديم وألفَيْتُها على نهاية الاضطراب، وأنا أذكر جميع الطرق على وجوهها، ثم أسلط المباحثة عليها.
فالذي حكاه القاضي في التفريع أن الزوج الأول إذا عاد، فالخيار إليه؛ فإن أقر الزوجةَ تحت الزوج الثاني، غرّمه مهرَ مثل الزوجة، واستمر نكاح الزوج الثاني.
وإن أراد ردَّ الزوجةَ إلى نفسه، ثم الزوج الثاني يُغرّم الزوجَ الأولَ مهرَ مثل الزوجة.
وهذا على نهاية الميل عن القياس والقواعد.
وكان شيخنا والصيدلاني يحكيان هذا القولَ على نسقٍ آخر، وما ذَكَرا فيه أمثل، قالا: إذا عاد الزوج الأول، فنقول: له الخيار، فإن اختار ردَّ الزوجةَ إليه، رددناها إليه، وقلنا: قد بان لنا أن النكاح في حقك لم يرتفع قط، والنكاح الثاني لم ينعقد أصلاً.
وإن اخترتَ تركها على ما هي عليه، فنتبين أن النكاح في حق الثاني قد صح.
ثم لا يثبت للزوج الأول العائد الخيارُ إلا مرةً واحدة، فإن استردها لم يغرَم للزوج الثاني شيئاً، وإن اختار تَرْكَها فعلى الزوج الثاني أن يغرَم للزوج الأول مهرَ مثل زوجته؛ فإنه قد فوّت على الزوج الأول النكاح فيها، فأشبه ذلك التزام المرضعةِ مهرَ المثل.
9927- وحاصل هذا القول يرجع إلى أن أصل القول القديم مبني على دفع الضرار، ثم ليس الأمر مقطوعاً به؛ فإن النفقة دارّةٌ، وحقوق النكاح قائمةٌ، ولا ضرار: إلا من جهة الانقطاع عن الاستمتاع، فلم ينفذ ارتفاع النكاح ظاهراً وباطناً، فإذا عاد الزوج فيعظم الأمر لو قلنا: ليس له استردادُ زوجته، ولو ألزمناه الاستردادَ وقد نكحت زوجته وولدت، لعظم وقع هذا، فجرى التفريع مردَّداً ناشئاً من وقف العقود. ولكن نجَّزنا الإحلالَ للزوج الثاني، وهذا غريب على قانون الوقف، ولكنا تبينا تنجيز الإحلال على غلبة الظن في الموت، ثم انعطفنا آخراً على أصل الوقف. هذا مأخذ التفريع.
ثم قلنا: إن أقر الأولُ الزوجةَ تحت الثاني، فقد بأن أن الثاني أفسدَ نكاح الأول وقَطَعه، فغرِم المهرَ، فأما إذا اختار استردادَ الزوجةِ، فتغريم الثاني الأولَ المهرَ بعيدٌ، ولم يُفسد الأولُ على الثاني شيئاً، ولكنه خيّب ظنَّه والظن يخطىء ويصيب.
فافترق ما حكاه القاضي، وما حكيناه في المهر؛ فإن القاضي حكى التغريم من الجانبين، ونحن أثبتناه من أحدهما، وهو أقرب، ووجه ما حكاه القاضي مذهب عمر إن صح هذا التفصيل منه.
9928- وذكر بعض المصنفين مسلكاً آخر بدعاً نأتي به على وجهه، فقال: إذا رجع الزوج الأول، فلا خلاف أن نكاحه مفسوخ، ولا سبيل إلى استرداد الزوجة بحكم النكاح الأول، أما النكاح الثاني، ففيه وجهان:
أحدهما: أن الخيار فيه إلى الزوج الأول، فإن فسخ نكاح الثاني انفسخ، وإن أَمَرَّه ولم يفسخه، بقي ولم يرتفع، ثم قال: إذا فسخه يغرَم الأولُ للثاني عند فسخه مهرَ مثل الزوجة.
هذا أحد الوجهين-فيما زعم-.
والوجه الثاني- أنه كما ظهر الأول، انفسخ نكاح الثاني بنفس ظهوره، وقد انفسخ نكاح الأول، كما قدمناه.
وهذا الذي ذكره هذا الرجل يخالف ما ذكره جميعُ الأصحاب، وما أراه إلا غلطاً محضاً؛ فإنه قطع بانفساخ نكاح الأول، ثم قال في وجهه الأول: إذا عاد، له حق فسخ النكاح، وهو لا يستفيد بفسخ نكاحه شيئاًً إلا أن يجدد النكاح عليها إن رضيت، ولا نظير لهذا النوع من الفسخ.
فهذا نقل هذه الطريقة.
9929- وأما العراقيون، فإنهم ذكروا مسلكاً آخر، وأتَوْا مما يقرب بعضَ القرب، فقالوا: إذا تربصت أربع سنين، ثم اعتدت عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشراً، وسلَّطْناها على النكاح، وأظهرنا القضاءَ بالفراق، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أن الفراق يقع عن الأول ظاهراً وباطناً، فعلى هذا لو عاد الأول، فتبقى الزوجة منكوحة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار لأحد، ولا تَراجُعَ ولا تغريمَ بوجهٍ من الوجوه، والفراق الواقع بهذا السبب بمثابة الفراق الواقع بالإعسار بالنفقة أو غيره من الأسباب.
والوجه الثاني- أن الفراق الذي قضينا به ظاهرٌ، ولا نحكم بنفوذه باطناً على الغيب، وفائدة ذلك أن الزوج الأول لو عاد، فهي زوجة الأول، ولا خيار: لا للأول ولا للثاني، بل هي زوجةُ الأول قطعاً، والذي جرى من الثاني وطء شبهة في نكاح الغير.
والوجه الثالث: أن الزوج الأول إذا عاد بعد ما قضينا بالفراق وتزوجت، فلا ننقضُ ما قضينا به، وهي زوجة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار ولا تغريم.
وإن عاد الأول، وسلطنا المرأة على أن تتزوج لكنها لم تتزوج، فهي مردودة إلى الأول حتماً، ولا خيار.
وهذا القائل يجعل عَوْد الزوج الأول بمثابة وجود الماء في حق المتيمم، ويجعل النكاح بمنزلة الشروع في الصلاة، ولو وجد المتيمم الماءَ قبل الشروع في الصلاة، بطل التيمم، ولو شرع في الصلاة ثم وجد الماء، لم يكن له حكم، فالحكم بالفراق بعد التزوج مبتوتٌ ظاهراً وباطناً، وهو قبل التزوّج على التردد.
ثم لم يُثبتوا الخيارَ ولا الرجوعَ بالمهر في شيء من هذه الأوجه، بل صرحوا ببطلان الخيار والرجوعِ إلى الغرم، ثم زادوا على ذلك، فذكروا مذهبَ عمرَ في القول القديم، على ما ذكرناه في طريقة شيخنا والصيدلاني، ثم قالوا: هذا مذهب عمر والشافعي قال بأصل مذهبه، ولم يوافقه في التفريع.
9930- هذا بيان طرق الأصحاب، وإن استقام شيء منها فلا يستقيم إلا طريقةُ العراقيين، وهم أثبت النقلة نقلاً وأصحهم حكاية؛ فإن مذهب عمر في الأصل قد يعتضد بوجه من الرأي، وهو دفع الضرار، ونحن قد نرفع النكاح بالشقاق الدائم على أحد القولين إذا اعتاص علينا فصل الخصومة، فليس ذلك بدعاً.
ثم الحد الذي يجب أن ننتهي إليه في عود الزوج ما ذكره العراقيون، ومجاوزتُه إبعاد نُجعة عن أصول الشريعة.
وأنا أضرب في ذلك مثلاً، وأقول: حديث المصراة والمحفّلة متفق على صحته، وأصل الخيار غيرُ بعيدٍ عن القياس، ومضمون الحديث في إثبات مقابلة صاعٍ من التمر في مقابلة اللبن، وفيه بُعدٌ عن القياس، والأصحُّ ثَمَّ اتباعُ الخبر في الأصل والتفصيل؛ فإن الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما وافق من قضاء عمر وجهاً من النظر، لم يبعد التمسك به.
فأما ما بَعُدَ بعداً عظيماً، فلا سبيل إلى التزامه؛ فإن الخوض فيه يدعو إلى قياسٍ آخر لا عهد به في الشريعة.
9931- ومما يتم به التفريع أن الفسخ الذي جرى القضاء به، وترتب عليه إقدامها على النكاح، هو ارتفاع النكاح أصلاً أو إنشاءُ فسخ؟ وجدتُ كلام الأصحاب متردداً في هذا من غير تصريح بنفيٍ ولا إثبات، وهو لعمري محتملٌ، يجوز أن يقال: يرتفع النكاح، ويُشعر بذلك أمرُنا إياها بعدّة الوفاة؛ فإن هذه العدة لا تليق بفسخِ يُنشأ وفراقٍ يقطع النكاحَ. هذا وجهٌ.
ويجوز أن يقالَ: لابد من فسخٍ؛ فإنا لا نعرف خلافاً في أنها لو رضيت وصابرت، لاستمرت على ظاهر النكاح.
ثم إذا أثبتنا إنشاء الفسخ، تردد الرأيُ في أنها تُنشئه أم القاضي على حسب التردد في الفسخ بالإعسار، كما سيأتي، إن شاء ألله تعالى؟
ثم إن حكمنا بارتفاع النكاح، فهو بعد أربع سنين ليستعقب عدةَ الوفاة، وإن حكمنا بأنه لابد من إنشاء الفسخ، ففي النفس تردد، ولعل الأشبه أنه يقع بعد الأربع سنين والعلم عند الله.
9932- ثم قال العراقيون: إذا فرعنا على القول القديم؛ وشرعت المرأة في التربص أربعَ سنين، فلها طلب النفقة من مال الزوج الأول في السنين الأربع، وهذا تصريح منهم بأن الحكم بارتفاع النكاح بعد ذلك، فإذا استفتحت التربّص أربعة أشهر وعشراً، فليس لها طلبُ النفقة، وإن بأن لنا أنها كانت حاملاً، لأنها تربصت على نيّة عدة الوفاة، والمعتدة عدة الوفاة لا تستحق النفقة.
وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا بنفوذ الفراق ظاهراً وباطناً. وإن قلنا: الفراق لا ينفذ باطناً عند عود الزوج الأول، فإذا عاد، فقد بأن أنها كانت زوجة، فيحتمل ما قالوه من سقوط النفقة؛ فإنها كانت على اعتقاد الاعتداد، وهذا لا ينحط عن النشوز، ويحتمل أن تستحق النفقةَ إذا عاد الزوج الأول، فإنها لم تُحدث شيئاًً، وإنما أضمرت عقداً مجرداً والعقد المجرد لا يكون نشوزاً مخالفةً، كما لو أضمرت أن تبرح ووطّنت النفسَ عليه، ولكن منعها من إيقاع ما اعتقدته مانع، فلا تكون ناشزة بمجرد النية.
وللأول أن ينفصل ويقول: ليس الاعتداد إلا تربصاً في مسكن النكاح، وقد وُجد هذا مع انضمام القصد إليه، وإضمار التبرج عزم متعلق بأمرٍ موعود غيرِ موجود.
هذا تمام التفريع على القول القديم.
9933- فأما إذا فرعنا على القول الجديد، فحكمنا عليها أن تصابر النكاحَ إلى ثبوت يقينِ الموتِ، أو الفراقِ، فإن نكحت، فالنكاح فاسد، قال الشافعي: قضاء القاضي به منقوض، وقد بيّنا وجه ذلك.
ثم قال الأصحاب: إذا نكحت، صارت ناشزة على الزوج، وسقطت نفقتها، وهذا الذي ذكره الأصحاب بيّنٌ إذا برزت عن مسكن النكاح.
فأما إذا جرى النكاح، ومضت أيام قبل اتفاق الزفاف وجريانِ الخروج من مسكن النكاح، فظاهر كلام الأصحاب أنها تكون ناشزة، وقد يتطرق إلى نظر الفقيه في هذا احتمالٌ، كما قدمته في التفريع على القول القديم عند خوضها في عدة الوفاة وتجريدها القصدَ إليها.
وسقوطُ النفقة بالنكاح المجرد تفريعاً على الجديد أَوْجَه؛ إذ قد صار إلى تصحيح هذا النكاح عمرُ بنُ الخطاب، ثم طوائفُ من العلماء بعده، والنكاح أمرٌ أنشىء وظهر، وليس كالتربص على قصد الاعتداد.
فهذا ما أردناه نقلاً وتنبيهاً.
فلو فُرِّق بينها وبين الزوج الثاني، وعادت إلى ملازمة حكم الزوج الأول، فهل تعود نفقتُها قبل أن يبلغ الخبر زوجَها الأول، فعلى قولين سيأتي ذكرهما في كتاب النفقات-إن شاء الله- في كل نشوز يجري في غيبة الزوج، ثم يفرض تركه والعَوْدُ إلى الطاعة قبل بلوغ الخبر، إن شاء الله.
9934- ثم قال الأصحاب: إذا نكحت والتفريعُ على الجديد، فأتت عن الزوج الثاني بولد، فالكلام في إلحاقه بالأول أو بالثاني وفي تردده بينهما على حسب ما تقدم الرمز إليه فيما سبق، واستقصاؤه في باب القائف، إن شاء الله.
ثم الزوج الأول يعود، ونكاحه قائم، ويحال بين الزوجة والزوج الثاني، غيرَ أنها تعتد عن الزوج الثاني في صلب نكاح الأول عدةَ الشبهة، وفي ابتدائها القولان المقدمان:
أحدهما: أنها من آخر وطأة.
والثاني: أنها من وقت الافتراق.
ولو كانت أتت بولد، فلحق بالثاني، وكان يحتاج إلى اللِّبأ، الذي لا يعيش الرُّضَّع إلا به، فلابد من تمكينها من ذلك، وإن لم نجد مرضعاً ذاتَ لبنٍ غيرَها، وكان الولد لو فطم، لهلك وضاع، فلا مَحال بينه وبينها، ثم نفقتُها ساقطةٌ في مدة اشتغالها بالرضاع إن كان يتعذّر استمتاع الزوج، فنفقتها تُدَرُّ عليها، وسيأتي تقرير هذا الأصل في كتاب الرضاع، إن شاء الله.
ولو أذن الزوج الأول للزّوجة في الإرضاع الذي يتعذر بمثله الاستمتاع، فإن لم يكن الإرضاع واجباً عليها، وكنا نجد مرضعةً سواها، فإذنُ الزوج الأول في الإرضاع بمثابة ما لو أذن لها في أن تسافر في شُغل نفسها، وقد اختلف القول في أنها لو سافرت بإذن زوجها في شُغل نفسها، فهل تسقط نفقتها؟
وإن كان إرضاعُها حتماً، وكان في ترك الإرضاع ما يؤدِّي إلى ضَياع المولود، فإذا أذن الزوج، فهذا فيه تردُّدٌ عندنا: يجوز أن يقال: لا حكم لإذنه؛ فإن الإرضاع مستحَقٌ، وإذا أسقطنا أثر إذنه، ففائدتُه سقوط النفقة قطعاًً؛ فإن الإرضاع وإن كان واجباً، فهي التي تسببت إلى ذلك، وجرّت إلى نفسها الإرضاع.
ويجوز أن يقال: إذا أذن لها في الإرضاع-وإن كان واجباً- فالمسألة تُخرّج على القولين المذكورين فيه إذا سافرت بإذن زوجها في شغل نفسها.
ولو أذن السيد لعبده في الإحرام بالحج، لم يمكن تحليله، وأبو حنيفة يقول: له أن يحلله؛ فإن إذنه في الإحرام لغوٌ، مع تصور الإحرام منه، وتلك المسألة تنفصل عما نحن فيه؛ فإن الشافعيَّ حمل الإذن في الإحرام على استدامته، وليس يتحقق مثلُ هذا فيما نحن فيه، فإن ابتداء الإرضاع وإدامتَه جميعاً واجبان في الصورة التي ذكرناها.
وقد يتصل بالتفريع على القول الجديد ما أشار إليه المزني، وهو أن الزوج في الغيبة لو مات، وتبين فساد النكاح الثاني، فيجتمع عليها عدة الوفاة، وعدة الوطء بالشبهة.
وقد تمهد القول في أن العدتين لا تتداخلان، وذكرنا الفرق بين أن يتقدم موجَب العدة من جهة الزوج وبين أن يتأخر، ولا حاجة بنا إلى إعادة تلك الفصول.
"باب استبراء أم الولد من كتابين"
9935- الأصل في الاستبراء ووجوبِه السنةُ والإجماعُ، فأما السنة، فما روي أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سبي أَوْطاس: "ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائِلٌ حتى تحيض " وأجمع المسلمون على أصل الاستبراء، وإن اختلفوا في التفاصيل، ثم التربص الواجب ينقسم في أصل الوضع إلى ما يجب بعد المسيس عند زوال النكاح، وإلى ما يجب في ملك اليمين.
ثم ما يجب على أثر النكاح يُسمّى عِدّة لتعلقه بعَددٍ من الأطهار أو الحيض على اختلاف العلماء.
والذي يجب بسبب ملك اليمين يسمى استبراءً، ومعنى الاستبراء يشمل النوعين، ولكن شُهر ما يتعلق بملك اليمين بلقب الاستبراء، وما يتعلق بحرمة النكاح بلقب العدة.
أما ما يتعلق بالعدة، فقد سبق استقصاؤه.
9936- وهذا أوان استفتاح القول في الاستبراء، وفي هذا الأصل ركنان:
أحدهما: يشتمل على تفصيل القول في الاستبراء عند زوال الملك.
والثاني: ينطوي على تفصيل الاستبراء عند جلب الملك، وقد عقد الشافعي في كل ركن باباً وبدأ بباب الاستبراء عند زوال الملك.
فإذا أعتق الرجل أم ولده أو مات عنها، فعَتَقت بموته، فعليها الاستبراء بقرء واحد، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه أوجب عليها أن تتربص ثلاثَ حيض، ونظر إلى كمالها بالحرية مع أول جزء من الاستبراء، ومعتمدُنا أن الزائل عنها ملك يمين، والتعويلُ في إيجاب العدة ذات العَدَد على زوال النكاح، وهذا ما قررناه في (الأساليب) ومجموعات الخلاف.
ثم الذي نذكره قبل الخوض في مقصود الباب أن القرء الواحد الذي أطلقناه في الاستبراء في هذا الباب الذي مضمونه زوال الملك، والقرء الواحد الذي سيأتي اعتباره في الباب الثاني، وهو جلب الملك طهرٌ أم حيض؟ ذكر الأئمة قولين وقالوا: أصحهما والجديد منهما- أنه حيض واحدٌ.
والقول الثاني- أنه طهرٌ.
توجيه القولين: من قال: إنه طهر، قاس على القرء المعتبر في العدة؛ إذ لا فرق بين البابين إلا في الاتحاد والتعدد، وقد بان أن الأقراء المعتبرة في العِدد هي الأطهار، فليكن الاستبراء واحداً منها، ولعل هذا يترجح في الاستبراء بشيءٍ، وهو أن التعبد في الاستبراء أغلب، ولهذا يجب الاستبراء على من اشترى جاريةً من امرأة، أو من ملكِ صبيٍّ لا يطأ مثلُه، فإذا غلب التعبدُ على الباب، لزم قطعُ النظر عن اعتبار ما هو علامة براءة الرحم.
ومَنْ قال بالقول الثاني، احتج بظاهر الخبر المنقول في سبي هوازن، واحتج أيضاًً بأن قال: إذا اتحد المعتَبر هاهنا وقد تمس الحاجة إلى تبرئة الرحم عن شغل سبق، فيجب أن يكون ذلك الواحدُ المعتبر علامةً دالة على براءة الرحم، وليس كذلك الأطهار في العِدد؛ فإنها تقع محتوِشَة بالدماء، فيحصل تربصُها في الزمان الذي كان تحل فيه لزوجها، وهو الطهر، ويحصل معه دلالاتٌ من براءة الرحم، وهذا المعنى لا يتحقق والقرء المعتبر واحد، فيجب تغليب ما يدل على براءة الرحم.
وأيضاًً فإن النكاح يُجَدّد بعد العدة، فانقضاؤها يفيد حِلَّ النكاح، فلا يضرّ أن تنقضي العدة بالطعن في الحيض؛ فإن الحيض لا ينافي صحة النكاح، وأما الاستبراء في الملك، فإنما يُعنى لاستعقابه حلَّ الوطء، فلو جعلنا الاستبراءَ بالطهر، لما حلت بالحيض.
هذا توجيه القولين.
التفريع:
9937- إن حكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فلا خلاف أن بعض الحيض لا يقع الاكتفاء به، ولو دخلت وقتَ الاستبراء، وهي في بقية من الحيض، فلتطهر، ثم لتحض حيضة كاملة، وهذه الحيضة هي المحسوبة استبراء، ثم إذا طهرت من الحيضة الثانية، فاستبراؤها الحيضةُ الثانية، وما تقدمها من طهرٍ غيرُ معتد به، وإن كانت محرمةً فيه، إذا فرعنا على الأصح الأظهر، وهو أن الاستبراء بالحيض.
فأما إذا قلنا: الاستبراءُ بالطهر، فنذكر صورتين، ونأتي فيهما باضطراب الأصحاب: الصورة الأولى- إذا صادفها العتق في الجزء الأخير من الحيض، وتربصت للاستبراء طهراً كاملاً، وطعنت في الحيض، فهل نقول: كما طعنت قضينا بأنها تحل، إذا فرعنا على أن الاستبراء طهر؟
ظاهر كلام المشايخ في التفريع على هذا القول أنها لا تحل ما لم تمض الحيضةُ، حتى يحصل دليلُ براءة الرحم؛ فإنا أقمنا الأطهار في العدد أقراءً معتداً بها بجريان حيضتين أو حِيَض دالّة على البراءة، فيجري الطهر الواحد معتداً به بشرط أن ينضم إليه حيض كامل.
وهذا وإن كان مشهوراً-ذكره الشيخ أبو علي أنه المذهب- فيحتمل أن يكون الطعن في الحيض يخرجها عن الاستبراء، وهذا هو القياس، على القول الذي نفرع عليه.
ولست فيه على ذِكر احتمالٍ مجرد، بل في كلام الأصحاب ما يدل عليه؛ فإنّ الحيضة إن كانت هي المعتبرة، فهذا تفريعٌ على أن الاستبراء بالحيض، وإن كان المعتبر الطهر، فيجب الاكتفاء بالطعن في الحيض، لاستبانة انقضاء الطهر، ومحال أن يقع آخرُ التربص معدوداً من التربص. نعم، قد يقع هذا في الأول من حيث أنا ننتظر بعده ما تعتد به.
ويتجه على هذا تردُّدٌ في أن الطعن في الحيض باللحظة الواحدة هل يكفي، أم لابد من مُضي أقل الحيض استظهاراً، ليُعلَم أن ما رأته ليس دمَ فساد، وهذا قد قدمنا له في كتاب العدة نظيراً.
هذا تفصيلُ القول فيه إذا جرى موجِب الاستبراء في الجزء الأخير من الحيض، ووقع الطهر الكامل بعده.
9938- فأما إذا جرى موجِب الاستبراء في أثناء الطهر، والتفريع على أن الاستبراء بالطهر، فالذي ذهب إليه المحققون من الأئمة أن بعض الطهر طهر، كما أن بعض الطهر في العدة طهرٌ، ويعود الكلام إلى أن الطعن في الحيض هل يكفي، أم لابد من مضي الحيضة الكاملة؟ وقد قدمنا ذلك في الصورة المتقدمة على هذه.
ومن أصحابنا من قال: بعض الطهر لا يقع الاعتداد به على القول الذي نفرع عليه، بل نقول: لا احتساب بالبقية، فتحيض، ثم تطهر طهراً كاملاً، ثم تحيض، وهذا أورده المعلِّقون عن القاضي.
ويمكن أن يقال في توجيهه: إنا أقمنا بعض الطهر في العدة مقام طهر كامل، لأن العدة أقراء، وهي ذات عَددٍ متعلقةٍ بالزمان، ومن شائع الكلام تسمية شيئين وبعض الثالث في الزمان بصيغة الجمع، كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وإنما وقت الحج شهران، وبعض من الثالث، فأما الواحد من الجنس لا ينطلق على بعضه.
ثم إذا اشترطنا طهراً كاملاً، فيجب القطع بأن الطعن في الحيضة الثانية كافٍ: إما بلحظة وإما بيوم وليلة، لأنه مضى حيض كامل، قبل هذا الطهر، فليقع الاكتفاء به إن كنا نطلب علامةً دالّة على براءة الرحم، بل يكفي الطعن في الحيضة الثانية.
هذا بيان ما يقع الاستبراء به إن كانت المستبرأة من ذوات الأقراء.
9939- فإن كانت من ذوات الأشهر، فقد قدمنا في المطلقة الأمة ثلاثة أقوال إذا كانت من ذوات الأشهر: أحدها: أنها تعتد بشهر ونصف.
والثاني: أنها تعتد بشهرين.
والثالث: أنها تعتد بثلاثة أشهر.
ويجري في الاستبراء قولان:
أحدهما: تُستبرأ بشهر واحد؛ فإن الشهر الواحد في مقابلة القرء، والقول الثاني- أنها تستبرأ بثلاثة أشهر؛ فإنها أقل مدة يدل مضيُّها على براءة الرحم، كما سبق تقريره في العِدد.
وإن كانت المستبرأة حاملاً، نظر: فإن كانت حاملاً ممن منه الاستبراء، فإذا وضعت الحملَ، حصل الاستبراء، وهو الأصل في كل ما يتطرق إليه اعتبار براءة الرحم، قال منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا توطأ حامل حتى تضع».
هذا إذا كان الحمل عمن منه الاستبراء، فأما إذا كان الحمل عن أجنبي: زناً، فإذا وضعته في زمان الاستبراء، فالمشهور الذي ذهب إليه الجماهير أن الاستبراء ينقضي بوضعه، لعموم قوله: "ألا لا توطأ حامل حتى تضع "؛ ولأن المرعيَّ فيه قيامُ دلالة البراءة، ووضمع الحمل إذا خلا الرحم بوضعه أول الأدلة على البراءة.
وذكر القاضي وجهاً آخر أن الاستبراء لا ينقضي بوضعه، قياساً على العدة، فإنها لا تنقضي بوضع حملٍ نقطع بانتفائه عن الزوج، ثم قال: الوجهان يمكن بناؤهما على القولين في أن الاستبراء بماذا في حق ذات الأقراء؟ فإن قلنا: الاستبراء بالحيض، فكأنا نعوِّل على ما يدل على براءة الرحم، وإن قلنا: الاستبراء بالطهر، فكأنا نرعى تعبداً في الباب، فيليق بهذا ألا يحصل بوضمع الحمل العالق عن الزنا المحض.
هذا كلامه رضي الله عنه.
وقد انتجز ما يقع الاستبراء به ولا اختصاص لما ذكرناه بالباب الذي افتتحناه.
9940- ونحن الآن نخوض في مقصود الباب، فنقول: إذا أعتق الرجل أم ولده، ولم يقدم على العتق استبراءً، أو عتقت بموته، ولم يتقدم على الموت الاستبراءُ، فيجب الاستبراء بقُرء، كما سبق تفصيله، ويحرم نكاحُها في زمان الاستبراء، على من يبغي نكاحها.
ولو اشترى جاريةً ووطئها، ثم أعتقها، وجب الاستبراء، كما يجب في المستولدة إذا أعتقها أو عَتَقت بالموت.
فأما إذا استبرأ مالكُ المستولدة أمّ ولده، ثم زوجها، فالأصح المشهور صحةُ التزويج، على ما سيأتي في أمهات الأولاد.
ولو كانت مشغولةَ الرحم منه، فأراد أن يزوِّجها، لم يجد إلى تزويجها سبيلاً، وكذلك لو وطىء جاريتَه القِنّة ثم استبرأها، فله أن يزوّجها. ولو وطئها ثم أراد أن يزوجها من غير استبراء، فالنكاح باطل عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة.
والأصل الذي يجب الإحاطة به أن اشتغال الرحم بالماء المحترم يمنع تسليط الغير على الشغل قطعاًً، وما يفرض من تعبدات العدد وراء هذا.
ثم مواقع الكلام منها تختلف، فقد يتمحض التعبد، وقد يتجه الحمل على حسم الباب، مع الالتفات على أصل الشغل، فأما التسليط على شغل رحم مشغول، فلا يتخيله ذو بصيرة في الشريعة.
9941- فإذا تبين ما ذكرناه من صحة النكاح في دوام الملك على العتيق المستولدة إذا جرى الاستبراء، وانتظم معه الحكم بفساد النكاح قبل الاستبراء عن الشغل الواقع، فيبتني على ذلك غرضنا، ونقول: إذا جرى استبراءٌ في الملك مسلِّط على النكاح، ثم لم يتفق التزويجُ حتى عَتَقَت أم الولد، أو عَتَقَت القِنّة، ففي وجوب الاستبراء ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجب الاستبراء؛ فإن التزويج كان جائزاً قبيل العتاقة، فليجز بعدها، فإن العتاقة أزالت الملك، وما جدّدت ملكاً حتى نقولَ: تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب القطع ببراءة الرحم، كما سيأتي في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثاني- أنه لابد من الاستبراء كتبدّل الحال، والتي عتَقَت ملكت نفسها بالعَتاقة، كما يملك المشتري الجاريةَ بناء على ملك البائع، وكما يملك السابي المسبيةَ بناء على الحرية الأصلية، ثم تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب الاستبراء، فتجددُ العَتاقة المفيدةِ ملكَ العتيقة نفسَها يوجب الاستبراء.
والوجه الثالث: أنا نَفْصِل بين القِنَّة تعتِق، وبين المستولدة، فنقول: لابد من استبراء المستولدة إذا عتَقَت فإنها على الجملة تُشابه المفترَشات، وقد ثبتت لها بعضُ أحكام الفراش في لحوق الولد، وجريان اللعان على أحد القولين. وأما القِنّة إذا عتَقَت، فليس عتقها زوالاً لفراش ولا ملكاً جديداً.
هذا بيان الأوجه الثلاثة.
9942- ولو اشترى الرجل جاريةً، ولم يدر ما كان قبل شرائه، واستبرأها، ثم أعتقها، فهذا أحد الصور المدرجة في الأوجه.
ولو استبرأها البائع قبل البيع، ثم باعها، فأعتقها المشتري، ولم يطأها، فهل يجوز تزويجُها من غير استبراء؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا استبرأها المشتري ثم أعتقها. والصورة الأخيرة أولى بوجوب الاستبراء، وامتناعُ التزويج قبله؛ من جهة أن الاستبراء لم يوجد قَبْلَ الملك المتقدم على العتق، والدليل عليه أن المشتري لو أراد أن يطأها تعويلاً على استبراء البائع، لم يكن له ذلك وفاقاً، فإذا لم يؤثر ذلك الاستبراء في استباحته إياها بملك اليمين، وجب ألا يؤثر في تزويجها.
ويتّصل بهذا أن المشتري لو أراد تزويجها، وقد تقدم الاستبراء من البائع، ففي المسألة وجهان مع دوام الملك، وسبب هذا الخلاف أن التزويج مبني على الاستبراء، والاستباحةُ بملك اليمين ليس تعتمد تقدّم شغل، بل هو تعبد محض، كما سنذكره في الباب الثاني.
ولهذا نقول: من اشترى جارية من امرأة لم يستبحها بملك اليمين حتى يستبرئها، وإن لم يجر وطء.
9943- ولن يقف الناظر على سر الاستبراء ما لم يَنْفصل له باب التزويج عن باب الاستباحة بملك اليمين.
ويتم غرضنا في ذلك بسؤال وجواب عنه، فإن قال قائل: صورتم الاستبراء من البائع، وبنيتم عليه تصرفاً وخلافاً، ومعلوم أن الزوج لو استبرأ امرأته أقراءً، ثم طلقها لم يكن لذلك الاستبراء الجاري في صلب النكاح أثر، وذلك بسبب جريانه في حالة استمرار الحِل عليها، وهذا محقق في استبراء البائع؛ فإنه إذا استبرأها، فالاستحلال دائم بملك اليمين؟
قلنا: الاستبراء المطلوبُ لأجل النكاح لا يبعد جريانه في ملك اليمين أصلاً، وعليه بنينا استبراء الرجل مملوكته لزوجها، فهذا الأصل متفق عليه، فبنينا عليه استبراء البائع، وذكرنا تزويج المشتري، فانتظم الكلام على السداد، ولاح انفصال الباب عن الباب. وهو الأمر كله في هذا المنتهى.
لا جرم، نقول: إذا استبرأ البائع الجاريةَ ثم باعها، لم يستبحها المشتري باستبراء البائع وجهاً واحداً، إذا أراد الاستباحة بملك اليمين، فلا أثر إذاً للاستبراء في الملك في الاستباحة بالملك، وإنما التردد في استباحة النكاح بالاستبراء الجاري من البائع.
9944- ومن تمام البيان في ذلك أن السيد إذا أعتق المستولدةَ حيث يجب الاستبراء ويحرم التزويج من الغير، فهل يحل له أن يتزوجها في زمان الاستبراء؟ فعلى وجهين.
توجيههما: من قال: يحل، قال: لأن الاستبراء عنه، فأشبه عدة الزوج وعدة الوطء بالشبهة، وللزوج أن ينكح المعتدة عنه إذا لم تحرم عليه بالثلاث، وكذلك ينكح الواطىء بالشبهة المعتدةَ عنه.
ومن قال: لا يجوز، قال: تجددت عليها حالةٌ، فلا يُقدم على استباحتها ما لم يمض استبراءٌ، ونفس الإقدام على النكاح استباحة، فصار هذا كالاستباحة بملك اليمين.
ولو باع رجل جارية ولم يرفع يده عنها، واستقال البائعُ فيها، فأقيل؛ فإنه لا يستبيح الوطء ما لم يستبرىء.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أن استباحة النكاح في مسائل الاستبراء هل يُنْحَى بها نحو استباحة الوطء بملك اليمين، وفيه الخلاف الذي قدمناه.
فإن أحببت أَخْذَ ذلك على قرب، قلت: إذا استبرأها، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها؟ فيه اختلاف سبق ذكره: فإن أوجبنا الاستبراء وإن كنا نجوز التزويج قبله بناء على الاستبراء الواقع، فلا محمل لهذا الاستبراء إلا التعبدُ، فعلى هذا إذا أراد السيد بعد إعتاق أم الولد والقِنّة أن ينكحها، لم يكن له ذلك، حتى يمضي الاستبراء تعبداً.
وإن قلنا في الصورة الأولى: لا يجب الاستبراء، ويجوز التزويج من الغير، فإذا منعنا التزويج من الغير، فلا يبعد ألاّ يمنع السيد من التزوج وقد انكشف الغطاء بالانتهاء إلى هذا المنتهى، والله أعلم.
فصل:
قال: "فإن مات سيدها وهي تحت زوج أو في عدة... إلى آخره".
9945- مسائل هذا الفصل تستدعي تقديمَ أصلين مقصودين في أنفسهما أحدهما- أن المولى إذا زوج أم ولده، حيث يجوز التزويج، ثم أعتقها وهي مزوّجة، أو مات عنها، فالمنصوص عليه أنه لا يجب الاستبراء عليها، وذلك لأن العتق صادفها مشغولةً بحق الزوج، والذي يحقق ذلك أن حق افتراش المولى زال بالزوجية، وصارت مفترشة للزوج بالنكاح، فطريان العتق لا أثر له، والنكاح منعقد، ولئن كان الاستبراء على وجهٍ شرطاً بعد العتق في ابتداء نكاح، فهو محمول على التعبد، فأما فرض تأثير العتق في دوام النكاح، ولا شغل من غير الزوج، فبعيدٌ عن مدارك الفقه.
وذكر بعض أصحابنا قولاً آخر أُراه مخرجاً، ذكره الشيخ وغيرُه من أحبار المذهب: أنه لابد من الاستبراء-كما سنصفه ونفصله-.
9946- فإن قلنا: لا يجب الاستبراء، فإن جرى العتق في دوام النكاح، فلا استبراء، ولو كان الزوج طلقها أو مات عنها، وكانت في العدة، فجرى العتق، فلا استبراء أيضاًً. والعبارة التي استعملها الأصحاب في توجيه نفي الاستبراء: "أن العين صادف اشتغالها بزوجيةٍ أو حق زوجية، ولم يتضمن انحلالُها عن افتراش المالك، فلا يجب الاستبراء مترتباً على زوال ملكه".
فعلى هذا لو صادفها العتق وهي في اللحظة الأخيرة من عدة الزوج، فلا استبراء أصلاً.
وإن قلنا: يجب الاستبراء، نظر: فإن جرى العتق وهي في العدة، كان الاستبراء بالإضافة إلى العدة بمثابة عدة من شخص يطرأ سببها على عدة الزوج، فالوجه تقدم عدة الزوج، فلتستكملْها، ثم تبتدىء الاستبراء، بعد نجاز العدة، كما تفعل ذلك إذا وُطئت بشبهة في أثناء عدة الزوج، ولم تعلق عن الواطىء.
وإن جرى العتق في أثناء النكاح، فهو بمثابة ما لو جرى وطءُ شبهة في أثناء النكاح، ولو فرض ذلك، لتعين استقبال العدة على أثر الوطء، إذ ليس للنكاح منتهى نرتقب الانتهاءَ إليه، وزوالَ النكاح به، فلابد من استعقاب سبب العدّة العدةَ.
كذلك إذا جرى العتق في أثناء النكاح، فالوجه استقبال الاستبراء على الاتصال بالعتق.
والمذهبُ الصحيح الذي عليه التعويل أن العتق في النكاح والعدّة لا يوجب الاستبراء.
ولو وطئت المستولدة بشبهة، وخاضت في العدة، فأعتقها مولاها، فالأصح إجراء ذلك مجرى النكاح، والعدة عن النكاح، حتى نقول: العتق لا يوجب الاستبراء على المذهب الصحيح، وفيه القول المخرج.
ومن أصحابنا من قال: يوجبُ الاستبراءَ ولا يمنع من وجوبه عدةُ الشبهة؛ فإنها ليست فراشاً ولا تابعاً لفراش، وهذا غير سديد. فهذا أحد الأصلين الموعودين.
الفصل الثاني
في بيان ما إذا طلق زوجُ المستولدة المستولدةَ مع بقاء الملك
9947- فإذا طلقها بعد الدخول، واعتدت عن الزوج، ثم عتَقَت بعد العدة، فهل يجوز تزويجها من غير استبراءٍ جديد، أم لا يجوز تزويجها حتى تستبرأ؟ في المسألة قولان منصوصان:
أحدهما: أنه لا حاجة إلى الاستبراء، وفيما تقدم من العدة عن الزوج مقنع في إفادة براءة الرحم، ثم لم يوجد من المولى بعدها افتراش وشغل رحم، فليقع الاكتفاء بما تقدم.
والقول الثاني- أنه لابد من الاستبراء بعد العَتاقة؛ فإن الاستبراء بتبدل الحال إما من الرق إلى الحريّة، وإما من الحرية إلى الرق، وإما من ملكٍ إلى ملك، فلا حكم لما مضى من العدة عن الزوج، والعتقُ يوجب برأسه استبراءً.
وهذان القولان مأخوذان من الأصل الذي مهدناه في صدر الباب، وهو أن المولى لو استبرأ الجارية المستولدة أو القِنة، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها من غير استبراء؟ فيه الخلاف المقدم، ووجه التداني في المأخذ بيّن، فإنه استبرأها في الأصل الأول، ثم أعتقها، وهاهنا جرى الاستبراء عن الزوج، ثم اتفق الإعتاق.
فإن قال قائل: العدة عن الزوج، والاستبراء إن يثبت، فهو عن المستولد.
والأصل الذي تقدم فيه إذا استبرأ السيدُ أمَّ الولد عن نفسه، ثم أعتقها. قلنا: الأمر كذلك، ولكن سبيلُ الكشف في هذا أنه ما زوّجها إلا وقد استبرأها استبراءً معتبراً، ثم تخلل النكاح، وجرى الاستبراء عنه، فكان العتق مترتباً على الاستبراء الأول المقدم على النكاح، فلا فرق إذا بين المسألتين إلا أن نكاحاً جرى، واستبرأت العدة منه، وهذا القدر كافٍ في التنبيه على الغرض.
9948- ومما يتعلق بتمام الغرض منه أن الزوج لو طلقها واستقبلت العدةَ، والملك مطرد عليها، ثم انقضت العدة وحصل العتق متصلاً بالانقضاء، ولم تعد إلى حكم المستولِد في لحظة بعد العدّة، فهل يجب الاستبراء لأجل التزويج من الغير؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يجب الاستبراء، لأنها لم تعد بعد العدة إلى فراش المولى، ولكنها كانت معتدة، ثم عتَقَت.
ومنهم من قال: في هذه الصورة أيضاًً قولان؛ فإنّ تبدّل الحال من الرق إلى الحرية قد تحقق.
وإذا ضممنا هذه الصورة إلى ما إذا تخلّت عن العدة، وبقيت على الملك، ثم عتَقَت، انتظم من مجموع ما ذكره الأصحاب وحكَوْه في الصورتين ثلاثةُ أقوال: أحدها: أنه لا يجب الاستبراء أصلاً، والقول الثاني- أنه يجب الاستبراء، والقول الثالث: أنه يفصل بين أن يتصل العتق بمنقرَض العدة، وبين أن يقع بعدها بزمان، فإن اتصل لم يجب الاستبراء، وإن انفصل وجب.
9949- ومما يتعلق بكشف المقصود في المسألة أنه لو زوج أم ولدٍ حيث يجوز له ذلك، ثم طلقها زوجها قبل المسيس، فأعتقها المولى، فهل يجب الاستبراء بسبب العَتاقة؟ هذا يخرج عندنا على الخلاف الذي قدمناه؛ فإن التي تطلق من غير مسيس كالتي تطلق بعد المسيس وتستبرأ بالعدة، فلا فرق، وسبب ذلك أن التعويل على الاستبراء المتقدم على النكاح المسلِّط على التزويج، وهذا الأصل جارٍ في الصورتين، فقد تناظرت الصور، ولاحظت أصلاً واحداً، وإن اختلفت في مبانيها.
وقد انتجز الموعود من تقديم الأصلين، ونحن نخوض بعدها في مسائل الفصل والله المستعان فنقول:
9950- إذا زوج الرجل أم ولده، ثم مات الزوج والسيدُ، فلا يخلو: إما أن يقع الموتان معاً، وإما أن يتقدم موت أحدهما على الثاني، فإن ترتب أحد الموتين على الثاني، نُظر فإن تعين السابق منهما، فالحكم ما نصفه، ونقول: إن مات السيد أولاً، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب الاستبراء، فإن العتق صادف اشتغالها بالزوجية، فلا استبراء. هذا ما عليه التفريع.
ثم إذا مات الزوج بعد ذلك بزمان قريب أو بعيد استقبلت زوجتُه عنه عدة الأحرار أربعة أشهر وعشراً، وليست مؤاخذةً باعتبار الحيض لأجل الاستبراء؛ فإن العتق لم يقتَضِ الاستبراء أصلاً لمصادفته النكاح.
هذا إذا سبق موت المولى.
فأما إذا سبق موت الزوج، فإنها تستقبل عدة الوفاة شهرين وخمسة أيام؛ لأنها كانت رقيقة لما مات الزوج، ثم ينظر في موت السيد، فإن مات بعد شهرين وخمسة أيام من موت الزوج، فقد انقضت عدة الوفاة عن الزوج، وحصل العتق بعد تخلّيها عن النكاح والعدة، وهل يقتضي هذا استبراءً عن السيد؟
نُظر إن وطئها بعد انقضاء العدة عن الزوج، ثم عتَقَت بموته، فيجب الاستبراء، وإن لم يطأها، فعتَقَت بعد العدة، ففي الاستبراء ما قدمناه من الخلاف؛ فإنها عائدة إلى الملك، والعتقُ مترتب على العود من غير تخلل شُغل بين العود وبين العتق، وإذا أعدنا الأقوال في هذا الفصل أشعر قولٌ ثالث بالفصل بين أن يحصل الموت بعد العود بلحظة، وبين أن يحصل الموت عقيب العود من غير فصل، ولم نُعد تلك الأقوال لا على صيغة الجمع ولا على صيغة التقسيم والترتيب، فإنا على قرب عهد بها.
هذا إذا مات السيد بعد مضي شهرين وخمسة أيام من موت الزوج.
فأما إذا مات السيد قبل مضي عدة الإماء، فلا يجب الاستبراء، تفريعاً على الأصح؛ فإن حصول العتق صادفها وهي مشغولة.
ولكن يعود اختلاف القول في أن البائنة إذا عتَقَت في خلال العدة، فهل تكمل عدة الحرائر، أم تكتفي بعدة الإماء، نظراً إلى حالتها في ابتداء العدة، واختلافُ القول في هذا مشهور، فإذاً تُكمل أربعةَ أشهر وعشراً في قول، وتكتفي بشهرين وخمسة أيام في قول.
هذا تفصيل القول فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني، وعلم السابق واللاحق.
9951- وأما إذا علمنا ترتب أحد الموتين على الثاني، ولكن أشكل علينا السابق والمتأخر، فلا يخلو إما أن نعلم أنه قد تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، أو نعلم أن المتخلل بين الموتين أقلُّ من هذا، أو يُشكل الأمرُ.
فإن علمنا أن المتخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، فالذي يجب العلم به قبل الخوض في التفصيل أن الاحتياط واجب المراعاة، فلا تخرج عما عليها إلا بيقين، وهذا أصلٌ ممهد في أحكام العِدد.
وإذا بان ذلك، قلنا بعده: إن كنا لا نوجب الاستبراء إذا عادت إلى الملك وعتَقَت، فالواجب عليها أن تتربص أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين، وإذا هي فعلت ذلك، فقد خرجت عما عليها، وإنما أوجبنا المدة الكاملة لجواز أن يكون موت السيد متقدماً، ولو كان كذلك، لم نوجب الاستبراء، وأوجبنا من موت الزوج عدة كاملة أربعة أشهر وعشراً.
ولو قدرنا موت السيد متأخراً، فمقتضى هذا لو علمناه أن يُكتفى بشهرين وخمسة أيام، ولا استبراء إذا كنا نفرع على أن التخلي عن علائق النكاح والعود إلى حكم المولى لا يوجب الاستبراء عند وقوع العتق، فإذاً لا استبراء كيف قدّر الأمر، وتجب العدة الكاملة في تقديرٍ؛ فأقصى الاحتياط الأخذ بأقصى الأمدين، واحتساب الابتداء من آخر الموتين.
فأما إذا فرعنا على أن العود إلى المولى إذا ترتب العتق عليه يوجب الاستبراء عن المولى، فعلى هذا وجوب أقصى الأمرين ممكنٌ، ووجوب الاستبراء ممكنٌ، وهي مؤاخذةٌ بالاحتياط، فعليها أن تعتبر الأمدين جميعاً، فتتربص من آخر الموتين أربعة أشهر وعشراً فيها حيضة، فإذا اتفق لها ذلك، فقد خرجت عما عليها، وإذا تربصت أربعة أشهر وعشراً، ولم تحض وهي من أهل الحيض، صبرت إلى أن يمر بها حيضة، ولو مرت الحيضة بها في أوائِل التربص، كفى مرورها إذا وقع بعد آخر الموتين.
هذا بيان ما عليها، وقد أجرينا المسألة إلى هذا المنتهى مفرّعةً على أن العتق في خلال النكاح لا يوجب الاستبراء؛ فإنه المذهب المنصوص، فلم نر التفريع على مخرج ضعيف يضطرب به نظم الكلام.
9952- وحكى الشيخ أبو علي في الشرح وجه بعيداً وحكاه العراقيون، ونحن ننقله على وجهه، قال: قال بعض الأصحاب: إذا اعتُبِر الجمعُ بين الأمد الأقصى والحيضة، فلتقع الحيضة بعد مضي شهرين وخمسة أيام من العدة المنسوبة إلى الموت المعتبر ابتداؤها من آخر الموتين، حتى لو وقعت قبل ذلك لا يعتد بها، ثم بالغ الشيخ بعد حكاية هذا الوجه في التزييف والتضعيف.
وعندنا أن مثل هذا ليس وجهاً يحكى؛ إذ الوجوه الضعيفة إن كان صدَرُها عن رأي ضعيف، فقد تُذكر وتزيّف، وقد يقع منها ما هو باطل قطعاًً، ولكنه منسوب إلى سوء النظر، والمسائل التي تعد من مسائل الاجتهاد قد يقع فيها نظر فاسد من بعض المجتهدين قطعاًً، وهذا الوجه الذي ذكره ليس من هذا الفن، بل صدَرَ عن غفلةٍ ونسيان.
ونحن ننبه عليه، فنقول: لو جرت الحيضة بين الموتين، فلا اعتداد بها بوجه، وقد صورنا تخلُّلَ شهرين وخمسةِ أيام بين الموتين، فنسي صاحب هذا الوجه أن ابتداء الأمد الأقصى من آخر الموتين، فكان في فكره بقية من أن الحيضة لا يعتد بها لو جرت من دوام النكاح، فقال ما قال عن هذا، فهذا إذاً عثرةٌ تقالُ، وليس وجهاً يقال، ولولا اشتمال الأصول على حكايته، لما حكيته.
هذا كله إذا تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام.
9953- فأما إذا تخلل بين الموتين أقلُّ من ذلك، فأقصى الاحتياط أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من آخر الموتين، ولا استبراء عليها تفريعاً على المنصوص؛ فإنه إن تقدم موت السيد، صادف العتقُ الاشتغال بالنكاح، ولم يجب الاستبراء، وإن تقدم موت الزوج، صادف حصولُ العتق بموت المَوْلى بقية من عدة الوفاة، فلم يجب الاستبراء؛ إذاً كيف فرض الأمر، وأمكن تقدمُ موت المولى أوجبنا أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين.
9954- ولو لم نَدْرِ كم المتخلل من الزمان بين الموتين، فنوجب الأمرَ الأقصى مع الاستبراء، بناء على جواز تخلل شهرين وخمسة أيام فصاعداً، والتفريع على أن العود إلى حكم المولى يوجب الاستبراء عند العتق.
وقد بنينا أجوبتنا على أصلٍ مقطوع به وهو أنها لا تخرج عما عليها إلا إذا قطعت بأداء كلِّ ما يقدَّر وجوبُه.
هذا كله تفريع المذهب فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني.
9955- فأما إذا ماتا معاً، فلا شك أنا لا نوجب الاستبراء؛ فإن ارتفاع النكاح وحصول العتق وقعا معاً، والاستبراء إنما نوجبه على طريقةٍ إذا عُهدت متخلية عن عُلقة النكاح عائدةً إلى المولى ولو في لحظة، فإذا وقع الأمران معاً، فلا عَوْد ولا استبراء.
ويبقى النظر في أنها تستكمل عدةَ الحرائر أم كيف التفصيل فيهما؟ قد ذكرنا قولين في أن العتق لو طرأ على العدة والمعتدةُ بائنة، فتكمل عدة الإماء أم عدة الحرائر؟ ولو قدرنا تقدم العتق على ارتفاع النكاح بلحظة، ثم فرض ارتفاع النكاح عن حرة، فلا شك أنها تعتد عدةَ الحرائر، فإنها كمُلت وهي منكوحة، ثم صادفها الفراق، فلو وقع العتق مع الفراق من غير تقدم ولا تأخر، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: نقطع بوجوب عدة الحرائر؛ نظراً إلى ابتداء العدة.
ومنهم من قال: يخرج هذا على القولين في طريان العتق على عدة الإماء، وأقصى ما يسمح به ترتيب قولين على قولين.
ووجه هذا أن كمال العدة يتلقى من كمال الفراش، وهذه ما كانت على الكمال في الفراش قط، فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أحوال: أحدها: أن تكمل بالحرية ولو في لحظة ثم تطلّق، وحكمها كمال العدة. والأخرى أن تستفتح العدة ناقصة بالرق ويطرأ الكمال، وهذا محل القولين. والحالة المتوسطة بين الحالتين اللتين ذكرناهما- ارتفاع الكمال بالحرية مع الفراق، وفيها طريقان، وما ذكرناه من ترتيب الأحوال يجري في الموت الذي نحن في تفصيل حكمنا في الطلاق وغيره من أسباب الفراق.
9956- ولو لم نَدْرِ أوقع الموتان معاً أو تخلل بينهما زمان، ثم لم ندر لو تخلل الزمان كم كان قدره؟ فالوجه الأخذ بالأحوط، وهو أربعة أشهر وعشر، مع مراعاة حيضة فيها أو بعدها.
وأمثال هذا لا أعدها من معاصات الفقه؛ فإن مدارها على فكرٍ، وإنما أعواص الفقه في التفاف وجوه النظر، وتقابل معاني الأصول ومعارضات الإحالات للأشباه القريبة على حكم المناقضة. والله المستعان في الجلىّ والخفي.
فصل:
قال: "ولو وطىء المكاتَب، أمته فولدت... إلى آخره".
9957- ليس لمقصود هذا الفصل تعلق خاص بالاستبراء، وتحصيلهُ سيأتي مستقصًى في كتاب الكتابة، ولكنا لإقامة رسم الجريان على ترتيب (السواد) نقول: المكاتَب إذا اشترى جارية لم يملك الانفراد بوطئها، والتسرِّي بها دون إذن المولى، وإذا أذن المولى، فهذا من باب الإذن في التبرع، وللشافعي قولان في أن تبرعات المكاتب هل تنفذ بإذن المولى؟ فإن قلنا: إنها تنفذ، حلّت له الجارية إذا أذن المولى.
وإن لم تنفذ التبرعات بالإذن، لم يثبت حِلّ الوطء بالإذن، والقول فيما يكون تبرعاً من المكاتب من أصول الكتابة، وضبطُه ليس بالهين، والغرض الآن إلحاقُ التسرِّي بالتبرعات.
ثم إذا وطىء الجارية فأتت بولد، فالولد يتكاتب عليه، وليس في كتاب الكتابة أصل أعظمُ وأطمُّ من أحكام الولد المكاتب، ثم تكاتب الولد يثبت، سواء فرعنا على أن الوطء يحل أم يحرم؟ وسواء فرض الوطء قبل الإذن أو بعده، ثم إذا ثبت التكاتب في الولد، فمن آثاره أنه لا يبيعه ولكن إن رَقَّ، رَقَّ الولد، وإن عَتَقَ عَتَقَ معه.
فأما القول في أمية الولد للجارية، فحاصل ما ذكره الأصحاب قولان:
أحدهما: أن الأمية تثبت على نسق ثبوت تكاتب الولد.
والثاني: أنها لا تثبت أصلاً.
فإن قلنا: إنها تثبت، فمن آثارها ألا يملك المكاتب بيعها، كما لا يملك بيع الولدِ المتكاتب. ثم إذا رَقَّ رَقَّت، كما يرِق الولد، فإن عُلقةَ الحرية في أمية الولد لا تزيد على ما يثبت للولد، وإن عَتَقَ، تأكدت أمية الولد، وعَتَقَ الولد، وإن لم تثبت أمية الولد في الحال، فمن آثار ذلك أنه يجوز للمكاتب بيعُها في الحال.
9958- فلو عَتَق المكاتَب، فهل تثبت أمية الولد؟ نقدم على هذا تجديدَ العهد بما إذا وطىء الرجل جارية غيره بشبهةٍ، وأتت منه بمولود حرٍّ، فلا تصير أم ولدٍ له، ولكن لو اشتراها أو ملكها بجهة من الجهات، فهل تصير أم ولد له؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله.
فنعود ونقول: لو علقت الزوجة المملوكة من زوجها بولد رقيق، ثم اشترى زوجته، لم تصر أم ولد له عندنا، فإن الولد انعقد رقيقاً قنّاً إِثْر العلوق.
وإذا وطىء المكاتب جاريةَ الغير بشبهةٍ حسبها زوجة نفسه، فالقول في ولده عويص، لسنا نخوض فيه. أما إذا وطىء جارية نفسه، فالولد مكاتب، فإذا عَتَق، والتفريع على أن أمية الولد لم تثبت في دوام الكتابة، فكيف السبيل فيها الآن؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنها لا تثبت؛ فإنها لم تثبت عند العلوق، ولم يكن الولد العالق حراً أيضاًً، فنُجري القولين عند حصول الملك على الأم.
ومن أصحابنا من ذكر في ثبوت الاستيلاد عند عتق المكاتب قولين؛ من جهة أن الولد العالق وإن لم يكن حراً لدى العلوق، فقد كان على عُلقة من الحرية، ثم انتهت تلك العُلقة إلى الحقيقة، فإن الولد يعتِق بعتقه، فلا يبعد تخريج القولين.
وغوائل الفصل تأتي في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
9959- فإن قيل: أي تعلق لهذا الفصل بالاستبراء؟ قلنا: تقدم عليه المستولدةُ وحكمُها، فانجرّ الكلام إلى الاستيلاد في حق المكاتب، هذا ترتيب (السواد)، ويمكن تكلفُ وجه بربط الفصل بالاستبراء، وذلك بأن يقال: إذا قلنا: المكاتب يستبيح الجارية بإذن المولى، وقد اشترى الجارية، فالاستبراء من وقت الملك أو من وقت الإذن، وهذا أصل من الأصول، يأتي في الباب الذي يلي هذا الباب، وقد أوفينا عليه.