فصل: باب: عدة المدخول بها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب العدة:

.باب: عدة المدخول بها:

9763- العِدّة من العَدد، استعملت شرعاً في معدودات مخصوصة، فجرت مجرى الصلاة والصيام والحج، ثم العِدّة تنقسم إلى ما يتمحض تعبداً، وإلى ما يشوبه رعاية الاستبراء.
فأما ما يتمحّض تعبداً، فهو العدة التي لا يتوقف وجوبها على جريان السبب الشاغل للرحم، وذلك عدة الوفاة، وعن هذا الأصل تكتفي الممسوسة بها، وإن كانت من ذوات الحيض، من غير جريان حيض، وعماد تلك العدة الأربعة الأشهر والعشر، في حق الحرة، وشَطرها في حق الأمة، وقياسها ألا تتعلقَ بما يدل على براءة الرحم، ولكن ثبت بالخبر أن المتوفى عنها زوجها لو وضعت حملَها وزوجها على السرير تخلّت.
فأما العدة التي يشوبها اعتبارُ براءة الرحم، فهي العدة عن طُرق قطع النكاح في الحياة، وجميعها يتوقف ثبوتها على جريان المسيس، ثم لا نشترط في وجوبها توهم شغل الرحم؛ فإن الصغيرة التي لا يحبل مثلها إذا وطئها الزوج ثم طلقها، اعتدت.
وإذا قال الزوج لامرأته الموطوءة: إذا استيقنتِ براءةَ رحمك فأنت طالق، فاستيقنتها: بأن ولدت، ومضت بعد الولادة ستةُ أشهر، واعتزلت عن زوجها أكثر من أربع سنين، فإذا لحقها الطلاقُ، استقبلت العدة مع القطع ببراءة الرحم، وقد تمر على المطلقة أربعُ سنين، فلا نحكم بانقضاء عدتها، وإن أفاد ما جرى من الزمان القطعَ ببراءة الرحم، فاشتراط المسيس يشير إلى اعتبار براءة الرحم في بعض الصور، ووجوب العدّة مع القطع بالبراءة يدل على أن وجوب العدة لا يتوقف على شَغْل الرحم.
ثم هذه العدة تتعلق بوضع الحمل وغيره، فإذا وضعت الحمل بعد الفراق، ولم يكن الرحم مشتملاً على غير ما وضعت، فقد انقضت عدتها، قَرُبَ الزمانُ أو طال.
وإن كانت حائلاً، فلا يخلو إما أن تكون من ذوات الحيض وإما ألا تكون منهن؛ فإن لم تكن من ذوات الحيض، فعدتها بالأشهر، على ما سيأتي في أثناء الكتاب.
9764- وإن كانت من ذوات الحيض، فعدتها بالأقراء، قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
واختلف العلماء في القُرء ومعناه في الشرع، فذهب أبو حنيفة إلى أن القرء الحيض، وقيل: كان هذا مذهباً للشافعي، وكان أبو عبيد يعتقد أن القرء هو الطهر الذي يحتوشه حيضان، فالتقيا رضي الله عنهما وتناظرا، وكان الشافعي يورد عليه من قضايا الأحكام ما يدل على أن الاعتبار بالحيض في العِدة، وأبو عبيد يورد من قضايا اللسان ما يدل على أن القرء الطهر، فافترقا، وقد أخذ الشافعيُّ مذهبَ أبي عبيد، وأبو عبيد مذهبَ الشافعي.
وهذه حكاية لا تعويل عليها؛ فإن الشافعي كان بحرَ اللغة، وأبو عبيد من نَقَلَتها، وإنما كان ينقل الأئمةُ اللغة من الشافعي ومَنْ في درجته في اللسان، فلا يُعرف للشافعي مذهبٌ في القرء سوى ما يعرفه أصحابه الآن، ولو كان ذلك مذهباً له، لنقل نقلَ الأقوال القديمة.
وقد اضطربت أقوال العلماء في معنى القرء في اللغة: فذهب أصحاب أيي حنيفة إلى أنه الحيض، وذهب أصحاب الشافعي إلى أنه الطهر.
وقال قائلون من أئمتنا: ما يجمع على وزن فعول، فهو بمعنى الطهر، وما يجمع على وزن أفعال، فهو بمعنى الحيض، ثم زعموا أن الذي هو بمعنى الطهر على وزن الفَعْل، فالفَعْل يُجمع فعولاً كالحرب والحروب والضَّرب والضُّروب، والقَرْءْ-بفتح القاف- والقروء.
وما هو بمعنى الحيض على وزن الفِعْل كالجِرم والأجرام، والقِرء والأقراء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعي الصلاة أيام أقرائك».
9765- وكل ذلك من اضطراب الفقهاء والذي صح عندنا أن القُرء والقروء بالضم والفتح من الأسماء المشتركة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك»، وقال الأعشى:
................ لما ضاع فيها من قروء نسائكا
ومن صريح اللغة القَرْءْ بمعنى الجمع، ومنه تقول: قرأت الطعام في الشدق، والماءَ في الحوض، وما قَرَأَت الناقةُ سَلىً قط، أي لم يشتمل رحمها على جنين.
ومما صح النقل فيه القرء بمعنى الطلوع والغروب يقال: قرأ النجمُ إذا طلع، وقرأ إذا غرب، والقراءة يجوز حملها على الجمع، من حيث إن القارىء يجمع الحروف لنظم الكلمة، ثم يجمع الكلمة لنظم الكلام، ويجوز أن يكون بمعنى البدوّ والاكتتام، والكلم هكذا تنتظم بحروفها، فيطلع حرف من مخرجه ويغيب ويطلع آخر، فيتحصّل من ذلك أن القُرء من الأسماء المشتركة.
وقد صح عندنا أن الاسم المشتركَ كالجون الذي يطلق على الضوء والظلمة في أصل الوضع موضوعٌ للغلس ووقت اختلاط الظلام بالضياء، ثم قد يميل العرب إلى أحد طرفي الجَوْن فتسمّي الضوءَ جوناً، وكذلك القول في الطرف الآخر، فالقرء جرى بين طوري المرأة في الطهر والحيض، فمال بعض العرب إلى طرفٍ، والبعضُ إلى الطرف الآخر.
ومن علوّ قدر الشافعي رضي الله عنه أنه لم يتعلق في هذه المسألة باللغة لمّا رأى أصولَها متفاوتة، واعتقد أنه من الأسماء المشتركة، وطلب متعلّقاً من الشريعة، فاستمسك بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وإليه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر؛ إذ قال: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"، ثم إذا استقبلت ذاتُ الأقراء العدة، فلا شك أنها معتدة في زمان الطهر والحيض، ولكن أجمع العلماء على أن الاعتداد يقع بأحد الطورين، وهو المقصود، والآخر لابد منه؛ فإن حكم العدة لا يتقطّع، ثم رأى الشافعي الاحتساب في العدة بالوقت الذي تتهيأ المرأة فيه للاستمتاع في النكاح.
9766- هذا بيان مذهب الشافعي، وله قولٌ في القديم صح النقل فيه أن القرء هو الانتقال، ثم قال: الانتقال من الحيض إلى الطهر في اللغة كالانتقال من الطهر إلى الحيض، ولكن الشرع خصص القرء بالانتقال من الطهر إلى الحيض، ويظهر أثر هذا القول في التفريع، ثم أول حكم نبتديه تفصيل القول في الأقراء.
فصل:
قال: "ولو طلقها طاهراً قبل جماع أو بعده، ثم حاضت بعده بطَرْفةٍ، فذلك قرء... إلى آخره".
9767- نقول: ثبت من مذهب الصاحب رضي الله عنه أن القرء هو الطهر، هذا هو الأصح إلى أن نفرع على قول الانتقال.
ثم إذا وقع الطلاق والمرأة في بقيةٍ من الطهر، فإذا حاضت، فهذا قرءٌ كامل في معنى الاعتداد والاحتساب، وإن لم يكن طهراً كاملاً، حتى لو طلّقها وقد بقي من طهرها زمنٌ يسع طرفةَ عين، فإذا حاضت، كان ذلك المقدار قرءاً ولا فرق بين أن يكون جامعها في ذلك الطهر، وبين أن لم يكن جامعها، وإنما يقع الفصل بين أن يجامع وبين ألا يجامع في طلاق السنة والبدعة، كما سبق مفصلاً في موضعه من كتاب الطلاق.
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فالطلاق على القول الجديد الصحيح يصادف الطهر، ولكن لا يستعقب طهراً، بل يتصل وقوع الطلاق بأول الحيض ولا يعتد بذلك؛ فإنه لم يمضِ بعد وقوع الطلاق شيء من الطهر، ثم إذا كان كذلك، فهل نحكم بكون الطلاق بدعياً؛ من حيث إن وقوعه في هذا الوقت يتضمن تطويل العدة، أو نحكم بأنه طلاق سنة لمصادفته طهراً، على شرط أن يُفرض عارياً عن المسيس؟ فيه اختلافٌ قدمته.
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فاتصل الطهر بوقوع الفراق، وقد ذكرنا الاختلاف في أن الطلاق سني أم بدعي؟ وجمع العراقيون الصورتين وهو إيقاع الطلاق في آخر جزء من الطهر وإيقاع الطلاق في آخر جزء من الحيض، ثم قالوا في الحكم بالسنة والبدعة في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها: أن الاعتبار بالوقت الذي يقع الطلاق فيه، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فالطلاق بدعي.
والثاني: أن الاعتبار بالوقت الذي يعقب الطلاق، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فبدعي.
والوجه الثالث:عدم الفصل بين الصورتين، فإن وقع الطلاق في بقية الطهر- يعني الجزء الأخير-، فهو بدعي اعتباراً بما بعده، وإن وقع الطلاق في آخر الحيض، كان بدعياً اعتباراً بحالة الوقوع، والفرق أن الحيض لا يمكن قلبه عن اقتضاء البدعة، والطهر يمكن قلبه إلى اقتضاء البدعة بفرض الوطء فيه، وإذا كان كذلك، فيقاع الطلاق في الجزء الأخير يكون من الأسباب المغيرة للطهر عن مقتضاه.
هذا بيان التفريع على الجديد.
9768- فأما القول الذي نص عليه في القديم وهو أن القرء هو الانتقال، ففيه أولاً سرٌّ بديع، وهو أنه جمعٌ بين الطهر والحيض، مال الشافعي إليه من وجهين:
أحدهما: أنه وجد في اللغة القرءَ بمعنى الانتقال طلوعاً وعزوباً، والآخر- أن ن ضرورة كل انتقال الجمع بين المنتقَل منه، والمنتقَل إليه، والانتقال معنىً بينهما.
ثم من آثار هذا القول أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فإذا حاضت، فقد تبين أنه مضى من عدتها قرء، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض وعلى القول الجديد لا يعتد بشيء بعدُ، وأول ما يقع الاعتداد به الطهر بعد الحيض، وهذا يظهر أثره إذا احتجنا القولَ في أقل ما يفرض انقضاء العدة فيه من الزمان، إذا كانت المرأة من ذوات الأقراء.
ومما بناه الأصحاب على القولين في أن القرء طهرٌ أو انتقالٌ أن الصغيرة إذا افتتحت العدة في الشهور، ثم إنها حاضت في أثناء الشهور، فلا شك أنها تُردُّ إلى اعتبار الأقراء كما سيأتي، وهل يعتد بما مضى من الشهور قرءاً؟ فعلى قولين مأخوذين مما قدمناه في معنى القرء؛ فإن حكمنا بأن القرء هو الطهر المحقق، فمعناه زمان نقاء بين دمين، فعلى هذا لا يعتد بما مضى قرءاً، وإن حكمنا بأن القرء هو الانتقال، فيعتد بما مضى قرءاً؛ فإنها انتقلت.
ولست أحبّ هذا البناء؛ فإن صاحب قول الانتقال يشترط الانتقال من الطهر إلى الحيض، والذي تقدم للصبية لم يكن طهراً، فالأولى أن نوجّه القولين في الصبية إذا انتهينا إليها.
9769- وقد كنا ذكرنا الزمان الذي يفرض انقضاء العدة فيه في كتاب الرجعة، ونحن نستقصيه الآن، ونقول: الزوج لا يخلو إما أن يطلقها في زمان الطهر، أو يطلقها في زمان الحيض، فإن طلقها في الطهر، فإذا مضت تلك البقيّة، كانت طهراً، فتحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة، انقضت عدتها، وأقل زمان يفرض انقضاء عدتها فيه على الشرائط التي سنستقصيها اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، على القول الجديد.
وإن فرعنا على قول الانتقال، فاثنان وثلاثون يوماً ولحظة، ولكن إن كانت عادتها مضطربة أو كانت عادتها على الأقل، فالأمر على ما ذكرناه.
فإن كانت لها عادة، فادعت انقضاء العدة لأقل من عادتها، فهل يقبل قولها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يُقبل؛ تعويلاً على إمكان الصدق، وليس اضطراب العادة أمراً بدعاً، وقد يغلب على النسوة تفاوت الأدوار، وهو على الجملة من فضلات الطبيعة، ويجوز تفاوت نقصانها وزيادتها بالأغذيةِ، واختلافِ الأحوال، وهي مؤتمنة على الجملة.
والوجه الثاني- أنه لا يقبل قولها. قال القاضي: هذا هو الأظهر، وعليه يدل نص الشافعي في (الكبير)، فأنه قال: "لو كانت لها عادات مختلفة، فادعت انقضاء العدة لأقل عاداتها، قَبِلتُ ذلك"، ومفهوم النص أنها لو ادعت الأقل من أقل عاداتها لا يقبل قولها، وهذا محل الوجهين أيضاً.
9770- ثم تفصيل الاثنين والثلاثين واللحظتين-على قولٍ، حيث يُقبَلُ- أن يفرض الطلاقُ في آخر الطهر بحيث يستعقب لحظةً واحدة، فهذه اللحظة قرء، ثم إنا نفرض بعدها يوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشرَ يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشر يوماًً طهراً، ثم تطْعَن في الحيضة الثالثة، ومجموع ما ذكرناه اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.
فإذا فرعنا على قول الانتقال، فنفرض الطلاق معلقاً بالجزء الأخير من الطهر، فيستعقب وقوعُ الطلاق يوماً وليلة دماً، والانتقالُ محسوب قرءاً، ثم بعد الدم خمسةَ عشرَ طهراً، وبعدها يوم وليلة دماً، وبعد الدم خمسة عشر يوماً نقاءً، ثم تطعن بلحظة من الحيض، فتنقُصُ المدةُ بلحظة عما ذكرناه؛ لاحتسابنا الانتقال إلى الحيض قرءاً.
هذا أقل الإمكان والطلاقُ واقعٌ في الطهر.
فأما إذا وقع الطلاق في الحيض، فأقل ما تصدّق فيه على انقضاء العدة سبعة وأربعون يوماً، ثم لابد من لحظةِ الطعنِ في الحيضة الأخيرة، وبها يتبين الانقضاء، كما سنشرح ذلك بعدُ، إن شاء الله، وذلك أنا نفرض وقوع الطلاق في اللحظة الأخيرة من الحيض، وليست محتسبة من العدة، وبعدها خمسة عشر يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسة عشر طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسة عشر يوماً طهراً، ثم تطعن في الحيضة الأخيرة.
9771- وإذا قال لها: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا طُلِّقت بالولادة، فقد قال الأصحاب: أقل ما تُصَدَّقُ على انقضاء العدة سبعةٌ وأربعون يوماًً ولحظتان، لحظة للنفاس؛ فإنها أقل النفاس، وخمسة وأربعون يوماًً لثلاثة أطهار، ويومان لحيضتين متخللتين بين الأطهار، واللحظة الثانية لتبين انقضاء العدة.
وهذا يخرّج على أحد المذاهب؛ إذ قد اختلف أصحابنا في أن المرأة إذا عاودها في مدة النفاس بعد مضي أقل الطهر حيضٌ، فذاك نفاس أو حيض؟ منهم من قال: هو حيض، فعلى هذا يخرج ما ذكرناه، ومنهم من قال: ذاك نفاس، فلا نصدقها إذاً في انقضاء العدة في هذه المدة؛ إذْ لا يُحتسب الخمسةَ عشرَ الواقعةُ نقاء طهراً معتداً به قرءاً.
وهذا تفصّل في تفريع التلفيق من أبواب الحيض.
ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه في السبع والأربعين ولحظتين إذا نُفست، وقد يتصور عندنا أن تلد المرأة ولا تنفَس أصلاً، ويتصل الطهر بالولادة، فعلى هذا تسقط لحظة وضعناها لأقل النفاس.
9772- ومما أخرناه وهذا أوان بيانه أن اللحظة التي يقع الطعن بها في الحيض، فهي التي سميناها لحظةَ التبين فيها كلام، وظاهر النص أن اللحظة الواحدة كافية، وإذا ثبتت، فقد خلت عن العدة، وحلَّت للأزواج.
وحكى البويطي أيضاً عن الشافعي أنه لا يقع الحكم بانقضاء عدتها ما لم يمض بها يوم وليلة؛ فإنا لا نأمن أن ما رأته من الدم دمُ فساد، وقد ينقطع على ما دون الأقل المعتبر في الحيض، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما وهو الظاهر أن اللحظة الواحدة كافية؛ لأنها في الظاهر حيض، واليقين ليس مطلوباً فيما نحن فيه.
والثاني: أنه لا يحكم بانقضاء العدة ما لم يمض يوم وليلة، ووجهه بيّن.
وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً مخرجاً، وهو أنها إن رأت الدم على موجب عاداتها، فاللحظة الواحدة كافية، وإن رأت الدم على خلاف العادة، فلابد وأن تتربص يوماً وليلة.
هذا مسلك الأصحاب: منهم من قطع بالاكتفاء باللحظة الواحدة وجعل قول البويطي محمولاً على الاحتياط، والاستظهار.
ثم اللحظة التي يقع اليقين بها أو اليوم والليلة على القول البعيد هل تكون محسوبة من العدة أم لا؟ ذكر العراقيون والقاضي وجهين أحدهما-أنها ليست من العدة وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإنه للتبين حتى نعلم أن الأقراء الثلاثة انقضت، و هي من العدة بمثابة استظهار الصائم بلحظة من أول الليل وآخره، وهو كأخذ المتوضىء جز ءاً من رأسه في محاولة استيعاب الوجه بالغَسْل.
والوجه الثاني- أنه من العدة؛ فإنــه يجب فيه الاحتباس؛ لأنه لابد منه، وهي فيما نسميه طعناً في الحيضة الأخيرة محتسبة في غير هذا الوجه، وقد قضَّيت العجبَ من حكاية القاضي له.
9773- ومما نذكره في اختتام هذا الفصل أن المرأة إذا ادعت انقضاء العدة في مدة لا يحتمل انقضاءُ العدة في مثلها، فلا شك أنا لا نصدقها؛ فإنها ليست تدعي أمراً ممكناً على قاعدة الشرع، فإذا مضى من وقت دعواها زمانٌ يمكن انقضاء العدة الآن بجَمْع ما تقدم وما تأخر، فهل تصدق والحالة هذه؟
تفصيل المذهب فيه: أنها إن كذّبت نفسها فيما قدمته من دعوى الانقضاء، وقالت: الآن انقضت عدتي؛ فإنها تصدق، ويقبل قولها، ولو أصرت على دعواها الأولى، فهل يحكم بانقضاء عدتها إذا انضم إلى الزمن الأول من الزمان ما يظهر الاحتمال فيه؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي:
أحدهما: أنه لا يحكم بانقضاء العدة؛ فإنها ليست تدعي الانقضاء على حسب ما يُرى التصديق فيه، وما ادعته باطل، لا سبيل إلى التصديق فيه، وهذا صححه القاضي.
والوجه الثاني- أنها تصدق؛ فإن إصرارها على ادعاء الخلو عن العدة بمثابة تجديد ادعاء الانقضاء، وربما كان يقطع شيخي بهذا ولا يذكر غيره، والأقيس ما ذكر القاضي.
ولكن في هذا الوجه غائلة، وهي أنها لو أصرّت على دعواها الأولى إصرار من لا ينزل عن سابق قوله، فلا موقف والحالةُ هذه يُنتهى إليه ويُحكم إذ ذاك بانقضاء العدة، وهذا بعيدٌ إذا لم يكن قد تباعدت حيضتها، فلا وجه إلا تنزيل قولها على أقل مراتب الإمكان.
وما ذكرناه يناظر مسألةً في تكذيب المخروص عليه الخارصَ على قولنا: الخرصُ حكم، فإذا ادعى المخروص على الخارص غلطاً فاحشاً يندُر وقوعُ مثله للخبير بالغرض، فهذا غير مقبول منه، ولكن إذا ردَّ قولَه فيما لا يمكن، هل يقبلُ في القدر الممكن؟
فيه اختلافٌ، والأوضح قَبُول قول المخروص عليه في القدر الذي لو لم يدع غيره، لقُبل، والخلاف وإن جرى في المسألتين، فالأصح في مسألة الخرص التصديقُ في القدر الممكن؛ لأن عين دعواه تشتمل على القليل والكثير، فلا يبعد أن يُردّ في مقدارٍ ويقبلَ في مقدار، وهذا لا يتحقق في التي ادّعت انقضاء العدة لزمانٍ لا يحتمل؛ فإن دعواها لا تشتمل على ما ذكَرتْ وعلى ما بعده.
فصل:
قال: "فأقل ما علمناه من الحيض يوم... إلى آخره".
9774- تعرض الشافعي لأقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر، وقد أجرينا فصولَ الحيض في كتابه، على نسقٍ لا نرى عليه مزيداً، فلم نغادر-فيما نظن- لطالبٍ مطلباً، فلتُطْلب هذه الأصول من كتابها.
9775- ثم قال: "ولو طبق بها الدم... إلى آخره".
وهذا خوض منه في أحكام الاستحاضة، فلا مطمع للخوض فيها، وقد جرى على بيانٍ شافٍ.
والذي يتعلق بأمر العدة من جملة تلك الأحكام أحكامُ الناسية، وتفصيل القول في أن عدتها بماذا تنقضي؟ فإن جعلنا الناسيةَ في أحكامها كالمبتدأة، فهي في عدتها كالمبتدأة، وإن أمرناها بالاحتياط في عباداتها ووجوب اجتنابها، كما تفصّل في موضعه، فالذي ذهب إليه الأئمة أنها مردودة في عدّتها إلى الأهلّة والدم دائم عليها؛ فإن الغالب أنه لا يخلو شهر عن حيض وطهر، سيّما إذا كانت ترى الدم المستمر.
ثم الذي نقله المزني أنه إذا أهل الهلال الرابع، فقد انقضت عدتها.
ونقل الربيع إذا أهل الهلال الثالث، فقد انقضت عدتها.
فمن أصحابنا من قال صورة نَقْل المزني إذا كان قد طلقها والباقي من الشهر خمسةَ عشرَ يوماً، أو أقلُّ، فلا يحسب ذلك قرءاً لاحتمال أنَّ كله حيض، فإذا أهلّ الهلال، ومضى هلالان بعده، وأهلَّ الرابعُ، حكمنا بانقضاء العدة، فتتربص بقية الشهر في الصورة التي ذكرناها، وثلاثةَ أشهر بعدها، ويقع الحكم بانقضاء العدة عند استهلال الرابع.
وهذا القائل يقول: صورة ما نقل الربيع: إذا كان الباقي من الشهر بعد وقوع الطلاق أكثرَ من خمسةَ عشرَ؛ فإنا نحسب تلك البقية؛ لأنا نقطع بأن فيه جزءاً من الطهر، فهذا مسلك الأصحاب.
9776-وهناك من قال: يحسب بقية الشهر قرءاً، وإن كان أقلَّ من خمسةَ عشرَ؛ لأن الغالب أن طهر المرأة يقع في آخر الشهر. وهذا هذيان عظيم.
ويمكن ذلك بتلفيقٍ في الكلام أحسن من هذا.
ثم هذا القائل زعم أن الشافعي فيما نقله المزني عدّ الشهر الذي وقع الطلاق فيه، وقدّر كأنا استهللنا هذا الهلال التفاتاً إلى الاستهلال الواقع قبل الطلاق، ثم نحسبُ هذا وشهرين بعده، فيقع الاستهلال بعد ذلك رابعاً، وفي رواية الربيع لم يعتبره من طريق الشهر الذي وقع الطلاق فيه، واعتبر شهرين بعد ذلك، وعبّر عن الاستهلال الثالث؛ فآل الاختلاف إلى العبارة، وللعبارتين وجهان سائغان.
وهذا يناظر اختلاف النص في ضبط مسافة السفر الطويل، قال الشافعي في موضع: ثمانيةٌ وأربعون ميلاً، وقال في موضع: ستةٌ وأربعون ميلاً، فحيث ذكر الثمانية عدّد الميلَ الذي هو المبدأ والميلَ الذي إليه الانتهاء وحيث ذكر الستة، لم يعتبر ميلين: المبدأ والمنتهى، واعتبر ما بينهما، والأمر في ذلك قريب.
والذي تحصَّل لنا فيه الاختلاف في أن البقيةَ بعد وقوع الطلاق إن كانت أقلَّ من خمسةَ عشرَ، فهل يقع الاعتداد به قرءاً، وفيه ما قدمناه.
وقد نجز ما اختاره أئمة المذهب.
9777- وقد يدور في نفس الفقيه أنا إذا تناهينا في التغليظ على الناسية في عبادتها وتحريم الزوج عليها معظمَ عمرها، فليس يليق بهذا التشديدِ أن نتساهل في أمر العدة، حتى ننتهي إلى اعتبار الأهلة والأشهر، وليست هي من اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن؟
ذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من احتاطَ في عدة الناسية على قول الاحتياط، كما يحتاط في سائر أحكامها، ثم سبيل الاحتياط والتغليظ أن يقدِّر جميعَ ما تراه دمَ استحاضة، ويقدرَ كان الحيضة قد تباعدت، ثم القول في أن المرأة إذا تباعدت حيضتُها إلى ماذا تُردّ مذكورٌ بين أيدينا، فقد نقول: تصبر إلى سن اليأس في قولٍ، وقد نأمرها أن تتربص تسعةَ أشهر، أو أربعَ سنين على ما سنذكر ذلك على أثر هذا.
وهذا الذي ذكره حسن منقاس.
9778- والذي يجب إنعام النظر فيه طلبُ ما رغَّبَ الأصحابَ عن هذا، وذكرُ السبب الذي منعهم عن رعاية هذا الضرب من الاحتياط، ولا يمكن حمل ما نطلبه على امتناعهم عن التناهي في التشديد؛ فإنهم شدّدوا من وجوهٍ.
فالوجه أن الدم إن تمادى إلى سن اليأس واستمر بعده، فالاحتياطات المتعلقة بالحيض والطهر لا تنقطع على قول الاحتياط، وأقصى ما يفرض في العدة انتظارُ سن اليأس، وهذا مضطرب مع اطراد الدم، وما ذكره صاحب التقريب مع هذا قائم من وجهين:
أحدهما: أنا قد نأمل انقطاع هذا على سن اليأس.
والوجه الأصح- ألا نبالي باستمرار الاحتياط في العدة، والذي يحقق هذا أن مصيرها إلى سن اليأس في أقصى نساء العالم لا يغير الاحتياط، وكان لا يبعد عندي أن يتمسك متمسك بهذا؛ فإن سبب الاحتياط في الناسية أنا لا نجد متمسكاً. فالعلم عند الله.
وقد يجوز أن يقال: لو تمادت العدة على ما وصفنا، لعظمت المؤنةُ في السكنى إن كانت بائنة، وهذا يدخل عليه تباعد الحيضة، وكان يليق بتضييق الاحتياط ألاّ تستحق السكنى؛ فإنها مخاطبة بما عليها، وهذا لابد من إجالة الفكر فيه على الوجه الذي حكاه صاحب التقريب، وفيه احتمال بيّن، والعلم عند الله.
وقد ينقدح هذا الاحتمال إذا جرينا على ظاهر المذهب، وقلنا: إنها تعتد بالأهلة.
وإذا قال قائل: لا يمتنع انقضاء عدتها بأقل من ذلك، فلا تثبتوا لها حقَّ السكنى على الزوج إلا في أقل مدة يفرض انقضاء العدة فيها.
قلنا: هذا لا قائل به، والأهلّة في حق الناسية أصلٌ معتبر في العدة، يُرجع إليه في جميع قضايا العدة، وعلى هذا يثبت للزوج حقُّ الرجعة في جميع الأهلة المعتبرة؛ فإنا اعتقدنا هذا أصلاً غير مبنيٍّ على الاحتياط، والأهلة في حقها كالأهلة في حق الصغيرة والآيسة، فهذا هو الذي رأينا ذكره من أحكام المستحاضات وما عداه مما اشتمل (سواد المختصر) عليه كلِّه مستقصىً في كتاب الحيض.
9779- ثم ذكَرَ التلفيق وهو باب كبير من أبواب الحيض، وحظّ العدة منه لائح، فإذا كانت ترى يوماًً دماً ويوماً نقاءً، وفرعنا على أنها في أيام النقاء طاهرة، فلا يقع الاكتفاء بعددٍ من نُوب النقاء؛ فإن الطهر الواحد ينقطع على الحيض، والحيض ينقطع على الطهر، فإن انضبط لنا مقدار الحيض والطهر في تفاصيلِ المستحاضات، فهي مردودة في العدة إلى ما يتقدر من ذلك، وإن كانت ناسية، فليس يتبين لحيضتها ولا لطهرها مقدارٌ، وترد إلى أحكام الناسية في عدتها، ومثل هذا مما يُستأنى به في هذه المنازل.
فصل:
قال: "ولو تباعد حيضها، فهي من أهل الحيض... إلى آخره".
9780- الصغيرة عدتها بالأشهر، فلو بلغت بالسن ولم تر دماً؛ فإنها تعتد بالأشهر أيضاً باتفاق العلماء وإن بلغت سنَّ إمكان الحيض وجاوزته، فالتعويل في ذلك على نص القرآن قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وهذه من اللائي لم يحضن، وليس في القرآن تعرض للبلوغ في الاعتداد بالأشهر.
ولو رأت الدم بعدما اعتدت بثلاثة أشهر، فلا حكم لما رأت، وقد جرى الحكمُ بانقضاء العدة، وإذا كان هذا قولَنا فيها، فهو إذا رأت الدّم بعد العدة قبل النكاح، فما يُظن بها إذا اعتدت بالأشهر، ونكحت، ثم رأت الدم؟ فلا حكم للدم، وما قضينا به من انقضاء العدة لا ينقضه.
9781- فأما التي حاضت ولو مرة، ثم ارتفعت حيضتها، فبماذا تعتد إذا طُلّقت، وإلامَ ترد؟ لا يخلو ارتفاع الحيضة إما أن يكون لعلةٍ معلومة، وإما ألاّ يعرفَ له سبب وعلةٌ ظاهرة، فإن كان الارتفاع لعذرٍ من مرض، أو رضاعٍ، أو داء بباطنها، فإذا طلقت، فلابد من انتظار الحيض؛ فإن ارتفاعه معلَّقٌ بسببٍ وعلة، وهي مُرتَقبةُ الزوال.
فإذا كنا نتوهم عَوْد الحيض بزوال العلة، فلا وجه إلا انتظار ذلك، فإن تمادى الانتظارُ حتى انتهت إلى سن اليأس، فتعتد إذ ذاك بالأشهر، وتندرج تحت قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4 الآية].
9782- وإن ارتفعت حيضتها من غير سبب وعلة ظاهرة؛ فللشافعي ثلاثة أقاويل في اعتدادها: قولان في القديم، وقول في الجديد ونجمع الأقاويل: أولاً قولان:
أحدهما: وهو المنصوص عليه في الجديد أنها تنتظر سن اليأس، ثم تعتد إذا انتهت إليه بثلاثة أشهر.
والقول الثاني- أنها لا تنتظر سن اليأس، وعلى هذا القول قولان منصوصان في القديم:
أحدهما: أنها تتربص تسعة أشهر، ثم تعتد بثلاثة أشهر ثم تنكِح، وروي مثل ذلك عن عمر: "قضى به في التي ارتفعت حيضتها"، وقلّده الشافعي في القديم، وكان يرى إذ ذاك تقليدَ أئمة الصحابة، وقال في القديم في توجيه ذلك: أمير المؤمنين قضى به بين يدي المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه أحد، وأشار أيضاً إلى أن الحمل في الغالب لا يمكث في البطن أكثرَ من تسعةِ أشهر، فوقع الاكتفاء بذلك في الاستظهار.
والقول الثاني- أنها تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد بثلاثة أشهر، وتنكِح؛ إذ الحمل قد يمكث في البطن أربع سنين، فبلّغنا أمد الاستظهار مبلغاً يفيدُنا يقينَ البراءة، ثم لابد من العدّة بعد ذلك تعبداً، فتتربص ثلاثة أشهر.
ثم أنكر الشافعي في القديم على القولين الردَّ إلى سن اليأس لما فيه من المضرّة العظيمة واستمرار الأَيْمة في معظم العمر، ثم إذا بلغت سنَّ اليأس، تقاعدت الرغبات عنها، ويعظم الضرر على الزوج من مؤونة العدة.
والقول الثالث المنصوص عليه في الجديد- أنها تنتظر سنَّ اليأس، واحتج بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4 الآية]. ثم قال: ليست هذه من اللائي يئسن، ولا من اللائي لم يحضن، فلابد فيها من انتظار الحيض، فإن عاد، فذاك، وإن لم يعد، اندرجت-إذا بلغت سن اليأس- تحت قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ}.
ثم استأنس بمذهب عبد الله بن مسعود فيما روي أن أبا الأحوص طلّق امرأته وهي من ذوات الأقراء، فارتفعت حيضتها، قال عبد الله بن مسعود: "أبقى الله الميراث بينكما، لا تنقضي عدتها حتى تحيض أو تأيس" وطلق حَبّانُ بنُ منقذ امرأته، وكانت من ذوات الأقراء، وكانت تُرضع ولده، فارتفع حيضتها تسعةَ عشرَ شهراً، فمرض حَبّان، فخاف أن يموت، فترثه، فسأل، فقال عثمان لعلي وزيد رضي الله عنهم: ما تريان فيهما؟ فقالا: نرى أنها لو ماتت ورثها ولو مات ورثته؛ فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن، قال علي: هي على عدة حيضها، فرجع حَبّان إلى الدار وانتزع الولد منها ففقدت الرضاع، وحاضت، فلما مضى بها حيضتان مات حَبان فورثته.
فإن قيل: القصة في انقطاع الحيضة لعلةٍ، وإن كان كذلك، فلا خلاف. قلنا: الحجة في قولهما وتعليلهما، لا في حال المرأة، وقد دل قولُهما على أن المعتبر الحيض إذا لم تكن من اللائي لم يحضن.
ومعتمد هذا القول من جهة المعنى أن العدة مبتنيةٌ على التعبد، ولا يختلف الأمر فيها باستيقان براءة الرحم وعدمِ الاستيقان، فلولا أن عدة الفراق في الحياة يختص وجوبها بالممسوسات، لحسُن إطلاقُ القول بأن العدة مبنية على التعبد المحض، فإذا كان ذلك كذلك، فلا وجه فيها إلا الاتباعُ، وقد أوضحنا أن فحوى القرآن يقتضي في هذه الآية ألاّ يكتفى بالأشهر، فإذا سَلّم من يخالف في ذلك انقطاعَ الحيض بعلّة، فكل شابّة ترتفع حيضتها لا ترتفع إلا بعلة؛ فإنها بخروجها عن اعتدال البِنْية تتقاعد.
ولما لم يكن استئخار الحيض عن البلوغ معتبراً، وكانت ملتحقة بالصبيّة، لم يفرق بين أن يكون ذلك لعلة ظاهرة وبين أن يكون لأمرٍ خافٍ، تعويلاً على قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4].
9783- هذا بيان الأقوال في الأصل، ونحن نفرع عليها، فنقول: إن رأينا أن نأمرها بالتربص تسعة أشهر والاعتدادِ بعدها بثلاثة أشهر، فلو أنها رأت الدمَ في خلال مدة التربص بالأشهر التسعة، فإنها تنتقل إلى الأقراء؛ فإن هذه المدة ضربت لانتظار الحيض، فإذا عاد، فهو المقصود، ثم إن استمرت الأقراء بها، فذاك، وإن انقطعت، وارتفع الحيض، فقد أجمع المفرعون على أنا نأمرها بأن تستفتح التربصَ تسعةَ أشهر أخرى، ثم تعتد بعد هذه التسعة الأشهر بثلاثة أشهر؛ وسبب ذلك أن الأشهر التسعة مقصودُها طلبُ الحيض؛ فإذا رأت الدم، فهو الأصل، فإذا ارتفع، احتجنا بعده إلى طلبٍ جديد، وانتظارٍ مبتدأ، هذا إذا رأت الدمَ في أثناء التسعة الأشهر.
فأما إذا انقضت التسعةُ، وشرعت في الاعتداد بالأشهر، فمضى شهر مثلاً، فرأت الدم، ردّت إلى الدم، فإن استمرت الأقراء، فذاك، وإن ارتفع الحيض أطلق المفرعون إيجاب التربّص على الابتداء تسعةَ أشهر، لِما بنينا عليه الكلامَ من أن الحيض مطلوبٌ، وسبيل طلبه وانتظارِه في هذا القول ما ذكرناه.
وهذا ينتظم بسؤال وجواب عنه: فإن قيل كانت التسعةُ الأشهر لاستفادة غلبة الظن في براءة الرحم؛ فإنّ الحمل لو كان، لظهر في هذه المدة، فإذا حاضت، فالعود إلى التسعة الأشهر لا معنى له؛ فإن الحيضة التي انقضت لم تخرِم ظننا ببراءة الرحم، بل أكدّته؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن العدة تجب مع القطع ببراءة الرحم، كما ذكرناه، فلا وجه للتعلق به، وإنما اعتمد الشافعي رضي الله عنه لهذا القول قضاء عمر. فإن ذكر ذاكر معنى طلب البراءة فهو ترجيح لا يعتمد إلا على خياله والذي يحقق ذلك أن الحيض إذا طرأ، ثم ارتفع، فليس لارتفاعه منتهى نتخذه موقفنا، ولابد من الانتظار، فلا وجه إلا التعلق بالمدّة التي جرى القضاء بها.
ثم إذا تربصت بعد أن رأت الحيض في أشهر العدة تسعةَ أشهر، فلم يعاود الدمُ، فنأمرها بالبناء على ما كان مضى من العدة أم نأمرها باستئناف العدة بالأشهر؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنا نأمرها بالاستئناف، كما أمرناها باستئناف عدة التربص؛ فإن العدة قد تقطعت، وطرأ عليها ما هو أولى بالاعتبار؛ فالوجه الاستئناف.
والوجه الثاني- أنا نأمرها بالبناء على ما مضى، والفرق بين العدة وبين مدة التربص أن المدة التي شرعت للانتظار والتربصِ تنقطع بطريان الحيض، ويليق بهذا المنتهى افتتاح انتظار، والعدة لم تثبت لانتظارٍ.
والأوجه عندنا الأمرُ باستئناف العدة؛ لأن العدة وقعت بعد مدة الانتظار، وقد وقع الشهر قبل تمام الانتظار، إلا أنها عادت إلى مدة التربص، فالوجه أن أتقع العدةُ كلُّها بعد نجاز التربص.
التفريع:
9784- إن حكمنا بأنها تستأنف، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنها تبني، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في كليفية البناء:
أحدهما: وهو المشهور أنها تبني باعتبار حساب الشهور، فإن كان مضى شهر، تربصت شهرين تكملةَ الثلاثة الأشهر، وإن كانت-قبل طريان الحيض- تربصت ثلاثة أشهر إلا يوماًً، فتكتفي بالتربص يوماً واحداً، هذا معنى البناء.
والوجه الثاني- أنا نعتد بما مضى قرءاً، إن كانت رأت الدم مرة، ثم نقول: إذا تباعد الحيض، فعليها قرءان، فإذا عدمتهما، أتت ببدل قرأين وهو شهران، وعلى هذا لو رأت الدم في اليوم الأخير من الثلاثةِ الأشهر، فإذا تباعد الحيض، اعتدّت بشهرين، وكذلك لو رأت الحيضَ في اليوم الأول.
وهذا بعيد لا تعويل عليه؛ فإن حاصله تحصيل العدة ملفقة من الأصل والبدل، ونحن لا نرى التلفيق من أصول، فكيف الظن بالتلفيق من أصلٍ وبدل.
وبيانه أن من لزمته كفارة اليمين وكسا خمسةً وأطعم خمسةً، لم يبرأ عن الكفارة، والإطعامُ والكسوةُ أصلان متعارضان.
وقد ذكرنا حالتين في طريان الحيض: إحداهما- فيه إذا طرى في التسعة الأشهر، وهي مدة التربص، والثانية إذا طرأ بعد الاشتغال بالعدة، فأما إذا طرأ الحيض بعد انقضاء التربص والعدة، فقد قال الأئمة إن رأت الدم بعدما نكحت، فلا حكم للدم، ولا نُتْبع النكاحَ بالنقض، وإن رأت الدم بعد الأشهر والحكمِ بانقضاء العدة قبل النكاح، فهل نردها إلى اعتبار الدم؟ المنصوصُ عليه أنها مردودة إلى الدم، فإنا مهما حكمنا بانقضاء العدة على الظاهر وأن الحيض قد انقطع انقطاعاً لا يعود، فإذا عاد، تبيّنا أن ما قدرناه عدة لم يكن عدة.
وذكر الأصحاب قولاً آخر أن العدة قد انقضت، ولا حكم لرؤية الدم بعد ذلك، كما لو نكحت.
هذا هو الترتيب الذي ارتضاه المحققون، وفيه شيء سنذكره من بعدُ.
وكل ما فرعناه على قولنا: إنها مأمورة بالتربص تسعةَ أشهر يجري على قولنا بأنها تتربص أربعَ سنين، حتى لو فرض عودُ الدم في أثناء السنين، فالأمر باستفتاح السنين ابتداءً والقضاءُ بإبطال ما مضى على ما تقدم حرفاً حرفاً.
وقد يطرأ في فكر الفطن شيء في هذا المقام، وهو أن التسعة الأشهر قد جرى بها قضاء عمر وليس في اعتبار أربع سنين قضاءٌ ولا فتوى، وإنما قاله الشافعي طلباً به للقطع ببراءة الرحم، فإذا طرأ الحيض، فأي معنى لإعادة السنين مرة أخرى؟
وهذا غير سديد، وإن كان مُخيلاً؛ فإن اعتبار أربع سنين لا يجوز حمله على طلب يقين البراءة؛ إذ لو كان محمولاً على ذلك، لما وجب اعتباره مع القطع ببراءة الرحم، ولكنَّ نظرَ الشافعيِّ يُحمل على تحويمٍ على مسالك التشبيه؛ إذ لو اتجه هذا السؤال في طلب اليقين، لاتجه مثله في طلب غالب الظن بالبراءة بانقضاء تسعة أشهر، فإذا نظمنا على ذلك القولَ بالاستئناف، فهو يجري على القول الآخر لا محالة.
9785- فأما التفريع على القول الجديد، وهو أنها مردودة إلى سن اليأس، فاول ما نذكره التردُّدُ في سن اليأس، وقد ذكر المعتبرون من أئمة المذهب قولين:
أحدهما: أنا نردها إلى أقصى سنٍّ في اليأس لامرأة في دهرها، فإنا إذا احتجنا إلى اعتبارها بغيرها، فليس بعض النساء أولى من بعض، وعلى هذا يستقيم طلب النهاية.
والقول الثاني- أنها تعتبر بأقصى سنٍّ في قرابتها وعشيرتها، ولا يُخصَّص بذلك جانبُ الأب عن جانب الأم، بل نعتبرهما، وليس هذا كمهر المثل؛ فإنا نعتبر فيه النساء من جانب قرابة الأب؛ إذ الركن الأولى بالاعتبار في مهر المثل النسب، وجانب الأب يختص بالنسب، وإنما تأكد أمر النسب لمكان الكفاءة، وعمادها الأظهر النسب.
وذكر بعض المصنفين وجهين آخرين سوى ما ذكرناه:
أحدهما: أنا نعتبر أقصى امرأة في بلدتها.
والثاني: أنا نعتبر أقصى سن اليأس في نساء عصبتها، كمهر المثل، وهذان الوجهان ضعيفان، أما اعتبار البلدة، فلعله مأخوذ من تأثير الهواء والبقاع والأصقاع في الخِلَق الكلّيّة، كما أنها تؤثر في قِصَر الأعمار وطولها، وفي الألوان وغيرها، ثم لعلّ المرعيَّ فيه الصُّقع والناحية ولا يختص بالبلد، ويُقرِّب اعتبارَه ظهورُ اختلاف الأهوية والعلم عند الله فيه، فلا نُمعِنُ الفكر فيما لا أصل له.
وأما اعتبار نساء العصبات فلا أصل له.
وقد يُعترض على قولنا باعتبار أقصى نساء العالم إشكالٌ؛ من جهة أن ذلك لا يمكن ضبطه، مع اتساع رُقعة الدنيا، والممكنُ في الجواب عن ذلك أنا لا يمكن أن نكلّف طَوْف العالم والفحص عن سكانه، وإنما المراد ما يبلغ خبرُه ويعرَف أمكن القضاء به على خِطّة الدنيا، وليس الغرض إلا التعلقَ بمُدرَكٍ من الظن.
هذا قولنا في سن اليأس.
9786- فإن قيل: أيليق بمحاسن الشريعة حبس هذه وضَرْبُ الأَيْمة عليها ما عُمِّرت؟ قلنا: الأصل المرعيُّ في هذا أن ما يعمُّ الابتلاء به لا يبنى إلا على السهل السمح، والأصول لا تُنقض بالشاذ النادر، وتباعدُ الحيض ليس مما يعم، فإن تمسكنا فيه بطرد أصلٍ لم نُبعد؛ سيّما وقد وجدنا في غير ما نحن فيه الوفاقَ إلى الرد إلى اليأس فيه إذا انقطع الحيض، بعلّةٍ ظاهرة، كيف ولا ينقطع الحيض إلا لعلة، وكما يرجى زوال العلة الظاهرة يرجى زوال العلة الخفيّة، ولعل ما يخفى أقربُ إلى الزوال؛ إذ لو كان أمراً متفاقماً، لظهر.
وهذا يناظر بناءَنا القصاصَ على الردع ومصيرَنا إلى أن السبب في وجوبه عصمةُ الدماء، ولولا القصاص لأدى الأمر إلى الهَرْج.
ثم إذا قال القائل: من لا يمين له يقطع أيمان الناس، ولا قصاص عليه؟ قلنا: هذه صورة نادرة، والأصول لا تنقض بالصور النادرة، ومن الأصول أنه لا يقطع باليمين إلا اليمين.
9787- فإذا ردَدْناها إلى سن اليأس، كما ذكرنا، فتعتد بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، رُدّت إلى الدم، فإن ما تراه من بطنها على سن اليأس على ترتيب الحيض حيضٌ بلا خلاف، وإن بلغت السنَّ الأعلى-وليس كرؤية الدم على سن الصغر، كما تفصّل أقلُّ الأسنان في ذلك-فنتبين أنها ليست آيسة، فماذا تفعل؟ فإن استمرت عليها الدماء، تخلت عن العدة، وتخلصنا عن تفريع أمرها.
وإن تباعد الحيض، فما الطريق؟ وإلى متى الانتظار؟ لم أعثر في هذا المنتهى إلا على مسلكين أقْربُهما ما ذكره القاضي من أن الحيض بعد وقوعه إذا ارتفع، احتسبنا من وقت ارتفاعه ثلاثة أشهر، وقلنا: إنها خلت عن العدة، ثم قد يتغير هذا كما سنذكره، إن شاء الله، وإنما قلنا هذا، لأنا لا نجد مردّاً نستمسك به، فليس إلا اعتبار صورة العدة، وفي بعض التصانيف: أنا على هذا القول ننتظر الحيض تسعة أشهر: أغلب مدة الحمل، وهذا-وإن كانت الحاجة ماسةً إلى متعلق- لا أصل له، ولست أدري هل يُجري صاحبُ هذا القول الأربعَ سنين.
ثم قال القاضي: إذا شرعت في الاعتداد بالأشهر، ورأت الدمَ، وبطل ما كان مرّ من الأشهر، فتستأنف ثلاثة أشهر، وجهاً واحداً، وقد ذكرنا وجهين في التفريع على أنها لا ترد إلى سن اليأس، بل تؤمر بأن تتربص إلى تسعة أشهر، أو أربع سنين، فإذا حاضت في الاعتداد بالأشهر بعد التسعة أو بعد الأربع، ثم رأت دماً، ثم تباعد، وأعادتْ مدةَ التربص، كما أوجبناه، فهل تبني على ما مضى من عدتها أم تستأنف؟
فإذا كنا نُفرِّع على أنها مردودة إلى سن اليأس، فإذا افتتحت الأشهر، ورأت الدم، ثم تباعد، استفتحت الأشهر ولم تَبْنِ وجهاً واحداً، هكذا ذكره القاضي، وفرّق بأنا على القولين القديمين لسنا نبغي قُرباً من اليقين، فضلاً عن اليقين؛ فإنا نكتفي بتربصٍ وأشهرٍ بعده، فإذا طرأ الحيض، ثم تباعد، لم نُبعد البناء على ما كان مضى من الأشهر.
والمعتمد على القول الجديد الرد إلى سن اليأس، ووقوعُ الاعتداد بعدَه، وإذا رأت الدَم، ووقع الحكم بكونه حيضاً، فقد تحققنا أن تربصها في تلك الأيام من الأشهر، كان قبل سن اليأس، فلتقع عدة بالأشهر بعد اليأس، وهذا يوجب افتتاحَ العدة، وبطلانَ المصير إلى البناء.
وهذا الفرق متجِه حسن.
9788- ومما نفرعه على هذا القول، أنا لو رددناها إلى السن الذي ظنناه سن اليأس، واعتدت بثلاثة أشهر، ثم رأت الدم قبل النكاح، ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنا نحكم بأن ما تقدم منها، لم يكن عدة، فننظر إلى الحيض، فإن استمر حتى انتظمت الأقراء، فهو المراد، وإن لم يستمر، افتتحت الاعتداد مرة أخرى؛ لأنا تبينا أن تلك الأشهر متقدمةً على اليأس.
والقول الثاني- لا نحكم ببطلان العدة؛ لأن الحكم نفذ بكونها عدة، وسلّطناها على التزوج، تزوجت أم لم تتزوج، فلا نتتبع الحكم الذي تقدم بالنقض.
هذا إذا رأت الدم بعد الأشهر الثلاثة وقبل النكاح.
فأما إذا نكحت، ثم رأت الدم، ففي المسألة قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى، والفرق أنها اتصلت بحق الغير لما نكحت، فإن الزوج استحق في ظاهر الأمر منافعَ بُضعها، فقطْعُ هذا الاستحقاق بعيدٌ، وإذا رأت الدم بعد الأشهر وقبل النكاح، فلم يتعلق بها استحقاق الغير.
وإذا جمعنا المسألة الأولى إلى الثانية، وقلنا: إذا انقضت الأشهر، فرأت الدّم، ففي المسألة أقوال: أحدها: أنا نبطل العدة تبيُّناً سواء نكحت أو لم تنكح، ثم إذا أبطلنا العدة، وقد نكحت، فحكم بطلان العدة يقتضي لا محالة القضاءَ ببطلان النكاح.
والقول الثالث- أن نفصل بين أن ترى الدم بعد النكاح وبين أن تراه قبله، فإن رأته قبل النكاح، تبيّنا بطلانَ العدة، وإن رأته بعد النكاح، فلا أثر لما رأت، فإن قالوا: كيف يتجه قول من يقول: العدة لا تبطل، وقد بأن أنها مضت قبل سن اليأس؟
قلنا: هذا مبني على أنا لا نشترط استيقان اليأس، بل نكتفي بظهوره، وإذا ابتنى على ظهوره مضيُّ المدة المرعية في العدة، فلا يضر ما يطرأ من بعدُ، وإن كنا نتحقق بما ظهر أن الأمر على خلاف ما ظنناه، وبنى الأصحابُ هذا على قواعد تُبنى على اشتراط أمور، ثم إنها تظهر، ثم يتبين الأمر على خلاف المظنون، وهذا بمثابة قولنا: إن المعضوب الموسر إذا أحجَّ عن نفسه، وكان به عضب يبعُد زوالُه، فإذا حج النائب، ثم زال العضب، ففي وقوع الحج عن المستنيب قولان.
ومما يقرُب من ذلك أن من رأى سواداً، فظنه عدوّاً وصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن ما تخيله لم يكن عدواً، ففي صحة الصلاة خلاف مشهور، ويقرب من هذه الأصول أن بيع الرجل مال أبيه على ظن أنه حيٌّ، ثم تبين أنه كان مات، وانقلب المبيع ميراثاً للبائع، وصادف معه حصولُ الملك، فهذه القواعد متناظرة، فالخلاف فيها آيل إلى أنَّ الحكم فيها على قولٍ بموجب الحقيقة، ونحكم على قولٍ آخر بموجب الظاهر، وإذا أجرينا الحكم به، لم ننقضه، وإن كان الأمر بخلافه.
9789- ومن تمام الكلام في المسألة أنا ذكرنا في التفريع على قولي القديم أنها إذا تربصت كما أمرناها، واعتدت بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، ففيه خلافٌ قدمناه، ولو نكحت، ثم رأت الدم، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن رؤية الدم بعد النكاح لا أثر له تفريعاً على قولي القديم، وإنما الخلاف إذا رأت الدمَ قبل النكاح وبعدَ انقضاء الأشهر.
والفرق بين القول الجديد والقديم في التفريع الذي أشرنا إليه أنا لم نَبْنِ قولي القديم إلا على ظهور أمرٍ، وهذا يتأكد بانقضاء العدة من غير دم، ولسنا نعتمد الغاية القصوى، ولهذا لا نردها إلى سن اليأس، فلم يَقْوَ إذاً الحكمُ بإبطال العدة إذا رأت الدمَ قبل النكاح، فإن نكحت واتصل أمرها بثالثٍ، بَعُد أن نَلتفت على الدم، وعلى قول اليأس إذا رأت الدمَ بعد النكاح، تبين أن اليأس لم يتحقق، وهذا يتضمن الحكم من طريق التبين بإبطال ما مضى وانعدام ما كنا نظن.
وفي بعض التصانيف ما يدل على إجراء خلاف إذا رأت الدّم بعد النكاح، وإن وقع التفريع على قولي التربص في العدة. وهذا فيه بُعْدٌ، والله أعلم بالصواب.
وقد نجز القول في تباعد الحيض وما على المرأة فيه.
فصل:
قال: "ولو مات صبيّ لا يجامِع مثلُه... إلى آخره".
9790- إذا مات الصبيّ الذي لا يولد له، فعدة امرأته بالأشهر والعشر، ولو كانت حاملاً، فوضعت الحملَ قبل انقضاء مدة العدة، لم تنقض العدة بوضع الحمل، خلافاًً لأبي حنيفة، ولا فرق بين أن تكون حاملاً من الزنا وبين أن تكون حاملاً بولدٍ من وطء شبهة، فإذا كان منتفياً قطعاً عن الزوج، فلا تنقضي بوضعه عدّتُه.
وهذا يفرض ويصوّر في حالة الحياة، فإذا طلق الرجل زوجته، فأتت بولدٍ نعلم قطعاً أنه ليس من الزوج، فعدة الطلاق لا تنقضي به، وقد يفرض ارتفاع النكاح في حياة الزّوج بفسخٍ، والزوجُ صبيٌّ لا يتصور أن يولد له، وأبو حنيفة يخالف في عدة الفراق في الحياة وفي عدة الممات.
ولو كان نَفَى الزوج الحملَ باللعان-على قولنا: الحمل يُنفى- ثم ولدت الملتعنةُ المنفيَّ، فالذي رأيته مقطوعاً به أن العدة تنقضي بوضعها الولدَ المنفىَّ؛ وذلك لأنا وإن حكمنا بانتفائه، فلسنا نقطع بذلك، فلا يبعد أن يكون الزوج كاذباً في النفي، والقولُ فيما يتعلق بانقضاء العدة قولُها، وهي تدعي أن ولدَ اللعان ولدُ الملاعِن، فإنه ظَلَم لمَّا نفاه، وهي مقبولة القول فيما يتعلق بأمر العدة.
هذا ما رأيت الأصحاب مطبقين عليه.
9791- وقد يلتحق بهذا الفصل مسألةٌ نرسُمها، ونذكر شرحَها بعد هذا في فصلٍ، فنقول:
إذا قال الرجل لامرأته مهما ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت ولداً ولحقها الطلاق، ثم أتت بعد ذلك بولد لستة أشهر فصاعداً، فنعلم قطعاً أن الولد الثاني حصل العلوق به بعد البينونة، فإذا وضعت الولد الثاني، فهل نقول: تنقضي العدة بالولد الثاني؟ هذا هو الذي نرى أن نقتصر فيه على الوعد والإحالة، وهو قريب، سنذكره بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
9792- ثم ذكر الشافعي بعد هذا تفصيلَ القول في الخِصيّ، والمجبوب، والممسوح إذا طلقوا، فأتت نسوتُهم بأولاد، هل نحكم بانقضاء العدة؟ وهذا أمر قد قدمنا أصله في كتاب اللعان، والقولُ الجامع فيه أنا إن ألحقنا النسب، فإذا وضعت المرأة حملاً، انقضت العدة به، فإن نفاه باللعان، فلينتفِ، ولم يتغير أمر انقضاء العدة بسبب اللعان.
فإن لم يلحق النسب ببعض هؤلاء، ولم نُحْوَج إلى اللعان، فإذا أتت المرأة بولد، لم تنقضِ العدة.
ثم قال الشافعي: "وإذا أرادت الخروجَ، كان له منعها... إلى آخره".
9793- هذا فصلٌ أورده المزني في غير موضعه، ومضمونُه طرفٌ من الكلام في سُكون المعتدة منزلَ النكاح، والقول في هذا يأتي في بابٍ، ولكنا نذكره هاهنا للجريان على ترتيب السواد مما يليق به، فنقول:
إذا كانت المرأة في العدة وكانت تستحق السكنى على زوجها، فللزوج أن يُلزمها السكونَ مسكنَ النكاح، ويمنعَها أن تبرح إلى انقضاء العدة، وكذلك إذا أوجبنا للمعتدة عدة الوفاة السكنى في تركة الزوج، فالورثة يُلزِمون المرأةَ سكونَ مسكن النكاح.
وإن حكمنا بأن السكنى لا تجب في عدة الوفاة، فلو تبرع الورثة بإسكانها وتقريرِها في مسكنِ النكاح، أو ببذل المؤنة إذا لم يكن للنكاح مسكن، فالذي ذكره القاضي وشيخي والأئمة: أنه يَلزمُها ملازمةُ المسكن، يعني مسكن النكاح، فإن لم يكن للنكاح مسكن لهم أن يُلزموها بأن تسكن مسكناً يعيّنوه.
وهذا قد يعترض فيه سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا لم تملك المرأةُ مطالبةَ الزوج أو مطالبةَ الورثة، فكيف يمتلك هؤلاء مطالبتَها، والإنصافُ يقتضي التسويةَ بين الجانبين في حق الطلب؟
ولكن لا معوّل على هذا؛ وذلك أن العدة واجبةٌ عليها وجوباً لا نجد إلى درائه سبيلاً، وعليها لحق الله ورعاية حق الزوج أن تلزم مسكناً يقتضيه الشرع، كما سيأتي تفصيل ذلك؛ فإذا قطعنا المؤنة، لم يبعد أن تتخير الزوجة في الخروج، كما لو أعسر الزوج بالنفقة، فللمرأة أن تخرج، وإذا أدرّ الزوج النفقة، حرم عليها الخروج، ولزمها لزومُ مسكن النكاح، وشرح هذا يأتي في فصول السكنى، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو طلق مَنْ لا تحيض من صغرٍ أو كبرٍ... إلى آخره".
9794- الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي تباعدت عن الحيض عدتهما بالأشهر، فإن صادف الطلاقُ أول شهرٍ، وهذا إنما يفرض بتقدير وقوع الطلاق في آخر جزء من الشهر تنجيزاً أو تعليقاً، والتعليق أقرب إلى التصوّر، وذلك أن يقول لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من الشهر، فإذا كان كذلك، استقبلت الاعتداد بثلاثةٍ من الأهلة، نقصت الشهور أو كملت، أو نقص بعضها وكمل البعض.
فإن وقع الطلاق أو السبب الموجب للفراق في أثناء الشهر، فذلك الشهر يُحتسب بالأيام كاملةً، وإن اتفق نقصان ذلك الشهر.
ثم الذي صار إليه الأئمة المعتبرون: أنا نُكمل الشهرَ الأول ثلاثين، ونعتبر شهرين بالأهلة بعد بقيةِ ذلك الشهر، ثم نكمل الشهرَ الذي وقع الطلاق فيه بالأيام من هذا الواقع بعد الهلالين.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا انكسر ذلك الشهرُ من الأول، واقتضى الحال تكميله، فإنا نكمل الأشهر الثلاثة ثلاثين، ولا نعتبر الأهلةَ أصلاً، وهذا مذهب أبي حنيفة، وله متعلّق معنوي لا بأس به، وهو أن الشهر الأول إذا انكسر، فإكماله يجب أن يكون متصلاً به، فإذا أكملتَ الشهرَ الأول من الثاني، انكسر الشهر الثاني، فيجب إكماله، وهكذا القول في الثالث؛ فيلزم من مجموع ذلك إكمال الشهور.
وقيل: هذا مذهب أبو عبد الرحمن أحمد ابن بنت الشافعي.
والمذهبُ ما قدمناه.
ثم قال الأصحاب: إذا وقع الطلاق مع أول جزء من الشهر، فالشهرُ منكسر؛ فإن العدة تجب بعد وقوع الطلاق، فلابد من تصوير وقوع الطلاق في آخر جزء في الشهر.
9795- ثم الصغيرة إذا حاضت في أثناء الشهر، انتقلت إلى اعتبار الحيض، وهل تعتد بما مضى قرءاً؟ فعلى قولين بناهما الأصحاب على أن القرء ماذا؟ وزعموا: أنا إذا قلنا: القرء هو الانتقال إلى الحيض، فقد حصل هذا المعنى؛ فتعتد بما مضى قرءاً، وإن قلنا القرء طهرٌ أو بقية طهرٍ محتوشٍ بحيضتين، فلا تعتد بما مضى قرءاً.
وهذا الكلام فيه اختلال؛ فإن اختلاف القول في الاعتداد بما مضى قرءاً معروف، وقول الانتقال كالمهجور الذي يُذكر استغراباً، وهو في حكم المرجوع عنه.
فالوجه أن نقول في التوجيه: إن قلنا: لا يعتد بما مضى، فالسبب فيه أنه لم يكن نقاءٌ بين دمين، والقرء في اللسان عبارة عن الزمان الذي يُرخي الرحمُ الحيضَ فيه على مذهبٍ، أو عن الزمان الذي يَجْمعُ فيه الحيضَ ليُرخيَه، والوصفان جميعاً مفقودان في الأيام التي مضت على الصبية قبل أن حاضت.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: لا يرخي الرحمُ الحيضَ عن غير جمع؛ فإذا حاضت، ألحقنا ما تقدم على الحيض الأول بالقرء؛ حتى لا يحبَط ذلك الزمان من العدة، وهذا أولى من الأخذ من الانتقال؛ فإن صاحب الانتقال يشترط الانتقال من طهر إلى حيض، فلم تكن هذه في طهر بين حيضين، فلابد من إلحاق ذلك الزمان بالطهر إذا التحق به، فأي حاجة إلى التفريع على الانتقال.
والآيسة إذا حاضت في الأشهر ثم انتقلت إلى الأقراء، يجب القطع بأن ما مضى يعتد به قرءاً؛ فإنه واقع بين الحيضين: الذي مضى في عمرها وبين الحيض الذي وقع، وأكثر الطهر لا نهاية له.
ثم تعرض الشافعي لأقل أسنان الحيض، وهذا مما تقصّيناه في مواضع، ولا حاجة إلى إعادته.
فصل:
قال: "ولو طرحت ما يعلم أنه ولد... إلى آخره".
9796- المعتدة إذا ألقت جنيناً ميتاً، غير منتفٍ عمن منه الاعتداد، وبرىء الرحم، حكمنا بانقضاء العدة، إذا كان قد بدأ التخليق، وشكّلت الأعضاء، ولو ألقت عَلَقة، فلا حكم لإلقائها- وإن زعمت القوابل أنها أصلُ الولد.
وإن ألقت لحماً، وقالت القوابل: إنها لحمُ ولدٍ، فقد نص الشافعي على أن العدّة تنقضي به، ونص في أمهات الأولاد على أن الجارية لا تصير به أم ولد، وقال في الجنايات: لا تجب الغرّة بسببه.
فاختلف أصحابنا: فمنهم من نقل الأجوبة في المسائل بعضَها إلى بعض، وأجرى في الكل قولين:
أحدهما: أنه يتعلق به انقضاء العدة، وتثبت أمية الولد، ويتعلق به الغرة؛ تعويلاً على قول القوابل، فإليهن الرجوع مهما أشكل شيء مما يختصصن بمعرفته.
والقول الثاني- أنه لا تثبت هذه الأحكام؛ لأن الملقَى ليس ولداً، وإخبارُهن عما سيكون لا تعويل عليه، وهو بمثابة قولهن: العلَقة الملقاةُ أصلُ الولد.
ومن أصحابنا من أقرّ النصوص قرارها، وسلك طريق الفرق قائلاً بأن انقضاء العدة يتعلق ببراءة الرحم بسبب وضع الحمل، والذي وضعته يسمى حملاً، قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، والغرّة بَدل مولود، وأمية الولد مربوط صريحاًً بالولد، واسم الولد لا يطلق على اللحم الملقى، ثم هذا القائل يقول: لا نُلْزَمُ العَلَقَةَ في جانب العدة؛ فإن التي ألقتها لا تسمى حملاً.
ثم ما ذكره الأصحاب من قول القوابل في العَلَقة تكلّفٌ؛ فإنهن لا يقطعن بذلك في دمٍ قط، بخلاف اللحم.
ومما ذكره الأئمة: القاضي والعراقيون: أنها إذا ألقت لحماً، وزعمت القوابل أنه بدأ فيه التخطيط الخفي، فهذا بمثابة التشكُّل والتخلق في الأعضاء، ولا يُنكَر أن يعرفن مِنْ ذلك ما لا ندركه حسّاً، ومحل النصوص واضطراب الأصحاب فيه إذا قلن: لم يبدأ التخطيط الخفي والجلي، ولكن الملقَى لحمُ ولدٍ، هذا محل الكلام.
فإذا قلن: لا ندري ما هو، فلا خلاف أنه لا يتعلق به حكم من الأحكام: لا انقضاء العدة، ولا غيره.
9797- ولو ادعت المرأة أنها ألقت جنيناً، فالذي أطلقه الأصحاب أنها مصدَّقةٌ في ذلك، ولو ادعت أنها ولدت ولداً ميتاً، فهل يقبل قولها في انقضاء العدة؟ فعلى وجهين، نصّ عليهما الأئمة في الطرق:
أحدهما: أنه يقبل منها، كما يقبل قولها في الحيض وانقضاء العدة في الزمان الممكن، والوجه الثاني- أنه لا يقبل منها، فإن الولادة مما يمكن الإشهاد عليها، والغالب أن المرأة إذا طُلِقَتْ، شهدتها القوابل، فليس كونُها مشهودةً مما يندر، بخلاف إلقاء الجنين؛ فإن ذلك يَفجؤها، فيَصيرُ دعواها فيه بمثابة دعواها في الحيض.
هذا هو المسلك المشهور.
قال شيخي أبو محمد: من أصحابنا من ألحق إلقاء الجنين بادعاء الولادة؛ فإن المرأة إذا أَجْهَضَتْ، لحقها من العسر قريبٌ مما يلحق الوالدة في أوان الولادة، ثم نحن أحوج إلى أقوال القوابل في الجنين، لنعلم أنه ولد أو لحمة منعقدة لفظتها الطبيعة.
وهذا الذي ذكره منقاس، ولكنه غريب.
9798- ولو قال الزوج قد طلقتك في زمان الحيض، فتطولُ عدتك لذلك، وقالت المرأة: طلقتني في زمان الطهر، فقد أطلق الأصحاب أقوالهم أن القول في ذلك قولُ المرأة؛ فإنها أعرف بما كانت عليه حالة الطلاق، من حيض أو طهر.
ثم ذكر الشافعي القولين في أن ما تراه الحامل من الدم في زمان الحمل على ترتيب أدوار الحيض حيضٌ أو دم فساد، وهذا مما تقدم استقصاؤه في كتاب الحيض، والذي يتعلق باحكام العدة فيه: أنا وإن حكمنا بأنه حيض، فلا يتعلق بالأطهار المتخللة بين تلك الدماء انقضاء العدة، ولابد من وضع الحمل، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق، تعليق السنة والبدعة بها، وما ذكره الأصحاب من خلاف.
فصل:
قال: "ولا تنكح المرتابة... إلى آخره".
9799- إذا انقضت العدة بالأقراء أو بغيرها، فارتابت المرأة في نفسها، وكانت تجوّز أنها حامل، فاستشعرت من نفسها أمارةً على ذلك، فإن بلغت المبلغ الذي يقال فيه: إنها حامل، وإن كان لا يُستَيْقَن الحملُ في أصل الجبلة، فليس لها أن تنكح.
وإن ارتابت ووجدت من نفسها علامةً، ولم تبلغ مبلغاً يقال فيها: إنها حامل، فهذا محل الكلام، وهو المعنيُّ بما أطلقه الأصحاب من الارتياب، وذلك بأن تجد ثقلاً في نفسها، فينبغي أن تمتنع من النكاح إلى أن تزول الريبة.
فلو نكحت قبل زوال الريبة، فالمنصوص عليه في المختصر أن النكاح موقوف، وقال الشافعي: في موضع آخر: النكاحُ باطل.
واختلف أصحابنا: فمنهم من جعل المسألة على قولين، ثم اختلفوا في أصل القولين: منهم من قال: أصله وقف العقود على ما نبيّن، ومن صور هذا الأصل أن يبيع عبداً لأبيه على تقدير حياته، ثم تبين أنه كان ميتاً، وكذلك لو كاتب عبداً كتابة فاسدة، وحسبها صحيحة، ثم باعه، وتبين أن الكتابة كانت فاسدة، ففي صحة البيع قولان.
فإذا ارتابت ونكحت، فهذا يؤخذ من الوقف عند هذا القائل.
قال بعض أصحابنا: هذا البناء غير صحيح؛ فإنه جرى ما هو انقضاء عدّةٍ في الظاهر، ولم يظهر أمر مخالف له، فلو كان مأخوذاً من الوقف، لقيل هذا العقد يصح قولاً واحداً.
فالوجه أن نبني القولين على أصل آخر، وهو أن من شك في صلاته في عدد الركعات مثلاً، فإنه يبني على المستيقن ويتمادى في صلاته، ولو شك بعد الفراغ من الصلاة: أصلى ثلاثاً أم أربعاً؟ ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنه لا يلزمه الالتفات على شكه، وقد انقضت الصلاة على حقها، ثم من يُلزم تتبع الشك بعد الفراغ، فتفصيله مذكور في كتاب الصلاة.
ووجه تشبيه ما نحن فيه بذلك أنها لو ارتابت في أثناء العدة؛ فإنها لا تنكح، وإن انقضت صور الأطهار على ظاهر المذهب، وكانت مؤاخذة بتلك الريبة كما يؤاخذ المصلي، فإذا ارتابت بعد انقضاء ما به الاعتداد، كانت كالمصلي يرتاب بعد التحلل عن الصلاة ظاهراً.
ثم ينشأ من اختلاف الأصحاب في مأخذ القولين ما نصفه، فإن حكمنا بأن القولين مأخوذان من وقف العقود، فلو طرأت الريبة في أثناء العدة ونكحت، ثم تبين أنه لم يكن حمل، فالمسألة تخرج على القولين؛ فإن وقف العقود لا اختصاص له بصورة، وإنما هو تردد ثم تبيُّنٌ.
وإن أخذنا القولين من شك المصلي، فإنا نقول: لو طرأت الريبة في أثناء العدة، ثم جرت العدة ونكحت على الريبة، ثم تبينت براءة الرحم، فلا نقضي بصحة النكاح.
فانتظم مما ذكرناه أنها إذا ارتابت ونكحت، وبان أنها كانت حاملاً حالة النكاح، فلا إشكال في فساده، وإن بأن أنها بريّة، وقد تقدمت الريبة، فثلاثة أقوال: أحدها: الفساد كيف فرض الأمر، والثاني: الصحة. والثالث: الفصل بين أن ترتاب في العدة، وبين أن ترتاب بعد انقضائها، وكل ذلك طريقةٌ.
ومن أصحابنا من قال: إذا تبين أنها كانت بريّة، فالنكاح منعقد قولاً واحداً، وليس ذلك من وقف العقود، فإن النكاح مستند إلى عدةٍ ظاهرة والريبة خَطْرة، فإذا بان أنه لا أصل له، فلا تعويل عليها، وليس كذلك بيع الرجل مال أبيه على تقدير أنه في الأحياء؛ فإنه ليس مبنياً على أصل ظاهر يُسلِّط على التصرف، وهذه الطريقة حسنة فقيهة موافقةٌ للنص الذي نقله المزني.
9800- ثم قال الشافعي: "ولو كانت حاملاً بولدين... إلى آخره".
إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فولدت ولداً، وكان الرحم مشتملاً على جنين آخر، فلا شك أن العدة لا تنقضي، وإنما نتبين أن الجنين حمل واحد إذا كان الزمان المتخلل بين وضعيهما أقل من ستة أشهر.
9801- ثم قال الشافعي رضي الله عنه: لو خرج بعض الولد، لم نحكم بانقضاء العدة إلى الانفصال، ولذلك تصح الرجعة إذا انفصل بعض الولد، وحكم ذلك حكم الجنين المجتنّ في البطن الذي لم يظهر منه شيء.
ثم قال الأئمة: لو انفصل بعضُه، فصرخ واستهلّ، وقتله قاتل، والبعض منه في البطن، فالواجب الغرّةُ لا دية، ولا يجب القصاصُ، ولو أعتقه والحالةُ هذه عن كفارته، لم يقع العتقُ عن الكفارة وإن نوى صرفه إليها، ولو باع الأم أو وهبها، دخل الولد في البيع، وهو على الجملة في جميع القضايا والأحكام ينزل منزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء.
وقال بعض أصحابنا: إذا صرخ واستهلّ، فقد استيقنّاه، فلو قتله قتلاً مُذفِّفاً، وبعضه متصل بالأم، استوجب القصاص، فإذا آل الأمر إلى المال، التزم الدية بكمالها، ويصير مستقلاً بنفسه في الإعتاق، وكل ما لا نثبته لعدم الاستيقان في الوجود والحياة فهو مثبت.
وهذا وإن كان منقاساً-وقد عزي إلى القفال في بعض أجوبته- فهو ضعيف في الحكاية، ما أراه ملتحقاً بالمذهب.
ثم إن وقع التفريع على هذا الوجه الضعيف، فالعدة لا تنقضي إلا بانفصال تمامه، لا يجوز أن يكون في هذا تردد، ثم يتعلق ببقائها في العدة تصحيحُ الرجعة، وكل ما يتعلق ببقاء العدة.
فصل:
قال: "ولو أوقع الطلاق، فلم يدر أَقَبْل ولادها أو بعده؟... إلى آخره".
9802- مضمون الفصل ذكر اختلافٍ بين الرجل والمرأة إذا طلقها، وولدت، ثم فُرض النزاع في التقدم والتأخر، وهذا تفصله مسائلُ: منها أن يختلفا على الإطلاق من غير تنصيص على تاريخ واحدٍ منهما، فيقول الرجل: طلقت بعد الولادة فأنت معتدة، ولي عليك الرجعة، وهي تقول: لا بل طلقتني قبل الولادة، وانقضت عدتي بها.
قال الأصحاب: القول فيه قول الرجل؛ لأن الرجعة حقُّه، والأصل بقاؤها، والأصل أيضاً عدُم الطلاق وعدم انقضاء العدة.
ولو اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق، وذلك أن اتفقا أنها ولدت يوم الجمعة، واختلفا في الطلاق: فقال الرجل: طلقتك يوم السبت، وقالت المرأة: لا، بل يوم الخميس. قال الأصحاب: القول قوله أيضاًً، إذ الأصل عدمُ الطلاق، وبقاءُ النكاح.
وإن اتفقا على وقت الطلاق، وتنازعا في وقت الولادة، فقال الرجل: ولدتِ يومَ الخميس، فلي عليك الرجعة، وقالت المرأة: يومَ السبت، فالقول قولها، لأن الأصل عدمُ الولادةِ يومَ الخميس، والرجوعُ إليها فيما يتعلق بوقت انفصال الولد.
ولو اتفقا على وقوع الطلاق والولادة واعترفا بالجهالة في التقدم والتأخر، فقالا: لا ندري السابقَ منهما، فعليها استقبال العدة، والرجعةُ ثابتة، فإن الأصل ثبوتها، ولكن الورع ألا يرتجعَها مخافة أن يكون قد فاتت بوضع الحمل.
ولكن هذا الإشكال المقترن به لا يُسقط الرجعة؛ فإن الأصل بقاءُ سلطان الزوج، والارتجاعُ من بقاء النكاح.
وإن ادعت المرأة أنها ولدت بعد الطلاق، والرجل يقول: أنا لا أعلم؟ قلنا: قد ادعت المرأة أمراً جازماً، فأجِبْها، فإن لم يُجب، جعلناه مُنكراً، ثم نعرض عليه اليمين، فإن نكل، حلفت هي واستحقت ما ادعت.
ولو قالت المرأة: أنا أجهل وقت السابق، وأطالب الزوج أن يبيّن، قال الققال: ليس لها ذلك، والرجل لا يطالَب، فإنها ما أتت بدعوى صحيحة وقولٍ جازم، فلا يلزم الإجابة.
9803- ومما يجب الإحاطةُ به في سر المذهب أنا ذكرنا طرقاً مختلفة في تداعي الزوجين في انقضاء العدة، ووقوع الرجعة، وأتينا بذلك الفصلِ مستقصىً، وجمعنا بين طرقٍ متناقضة، ومذاهبَ متباينةٍ.
والذي ذكرناه من التقسيم في هذه المسألة اتفق عليه الأصحاب في طرقهم، ومساقُه ما أوردنا ولا غير، والسبب فيه أن الخلاف إذا آل إلى إنشاء الرجعة وانقضاء العدة، فيتعارض في الحكم بتصديق المرأة وتصديق الرجل أمور دقيقةُ المُدرَك، ويعترض أيضاً تنزيلُ الدعوى رجعةً، وعطفُ قول الزوجة انقضت عدتي على زمان منقضٍ، وشيءٌ من تلك المعاني لا يجري في هذه المسألة، ولا يتأتى إيضاح ما ذكرناه إلا بإعادة تلك المسألة، ومن تأمل تيك كما سقناها وتأمل هذه المسألة، استبان الفرق بينهما.
فصل:
قال: "ولو طلقها، فلم يحدث لها رجعة... إلى آخره".
9804- البائنة إذا أتت بولد من يوم الفراق لأربع سنين أو أقلَّ، لَحِقَ الولدُ الزوجَ، فإنها أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، وتعتبر ابتداء مُدّة الحمل تقديراً يوم الطلاق.
ولو طلق امرأته طلقة رجعية، فمن أي وقت نعتبر مدة أربع سنين في حقها؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنا نعتبر ابتداء الحمل من وقت انقضاء العدة، نصّ على هذا في اجتماع العدّتين، ونقله المزني في آخر الباب.
والقول الثاني- أن ابتداء مدة الحمل يحتسب من وقت الطلاق، وإن كان رجعياً.
توجيه القولين: من قال ابتداء المدّة يحتسب من انقضاء العدة ظاهراً، احتج بأن الرجعية حكمها حكم الزوجات، فينبغي أن يكون اعتبار أول المدة من وقت انقضاء الزوجية.
ومن نَصر القولَ الثاني، احتج بأن الرجعية معتزلةٌ عن زوجها، والزوج معتزل عنها، ولا يليق بها الاستفراش، وهذا التوجيه كافٍ.
وبنى بعضُ الأئمة القولين على أن الرجعية منكوحة أم لا؟ وقد قدّمنا هذا في كتاب الرجعة، وألحقنا بذلك أمثلةً وبيّنا ما يليق بهذا، فلا نعيده.
فإن قلنا: يعتبر مضيُّ أربع سنين من يوم الفراق، فحكمها حكم البائنة، وإن قلنا: يعتبر من يوم انقضاء العدة، فأي ولدٍ أتت به يلحقه، وإن مضت عشرون سنة وأكثر من يوم الفراق، ما لم تقرّ بانقضاء العدة؛ فإن العدة تتمادى على المذاهب الصحيحة إلى آمادٍ طويلة بتباعد الحيض.
فإذا أقرت بانقضاء العدة، ومضى من ذلك الوقتِ أربعُ سنين، فلا لحوق بعد ذلك.
فمن أصحابنا من قال: إذا مضت من يوم الفراق أربعُ سنين وثلاثةُ أشهر، حكمنا بزوال الفراش حتى لو إتت بولدٍ بعد ذلك، لم يلحق؛ لأن الظاهر والغالب أن العدة تنقضي بثلاثة أشهر، والحمل لا يمكث في البطن أكثرَ من أربع سنين.
وهذا الإنسان تعاظمه ما ذكرنا من لحوق النسب بعد الطلاق إلى عشرين سنة، فصاعداً، ولا معنى للحيْد عن القياس بمثل هذه الترّهات.
9805- ثم نقل المزني في الكتاب لفظةً ملتبسةً، وذلك أنه قال: "إذا أتت البائنة بولد لأكثرَ من أربع سنين يكون منفياً عنه باللعان " ثم قال: "وهذا غلط: لا يمكن كونه منه موجِبٌ أن لا يحتاج إلى اللعان، ولعل هذا غلط من غير الشافعي".
وهذا من كلام المزني، ثم استدل على أنه منفي عنه من غير لعان بأن الشافعي قال: "لو قال لامرأته: إذا ولدتِ، فأنت طالق، فولدت ولدين وبينهما ستة أشهر يلحقه الولدُ الأول وتنقضي عدته بالثاني ويكون منفياً عنه بلا لعان".
قال الأصحاب: ما ذكره المزني صحيح في المعنى، ولكن الغلط جاء من جهة النقل: إمّا منه وإما من غيره، ثم التعليل الذي ذكره ليس بواضح، ولفظه معقّد.
9806- وأما المسألة التي أوردها في الولدين، فهي المسألة الموعودة في الفصل المشتمل على عدة امرأة الصبي:
وصورتها: أن تأتي بولد، وقد كان قال الزوج: إذا ولدتِ ولداً، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا ولدت، طُلّقت واستقبلت العدة، فلو أتت بولدٍ لستة أشهر من وقت الولادة، فلا شك أن العلوق به جرى بعد الولادة، وهو منفي بلا لعان؛ فإن العلوق به جرى بعد وقوع البينونة، وهذا بمثابة ما لو أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين بعد البينونة، ثم نقضي بانقضاء عدتها بالولد الثاني مع كونه منفياً.
وهل نُنزله منزلةَ الولد المنفي باللعان، وقد ذكرنا أن المرأة إذا وضعت حملها المنفيَّ باللعان، فعدتها تنقضي مع انتفاء الولد.
وإنما نحكم بأن العدة لا تنقضي إذا كان الولد ولدَ زنا، كذلك إن كان العلوق بالولد الثاني بعد الفراق، فيحتمل أن الزوج وطئها بشبهة، ولو فُرض ذلك، لتداخلت العدتان، ولجرى الحكم بانقضاء العدة بوضع الحمل.
9807- حاصل ما ذكره الأصحاب في انقضاء العدة في هذه الصورة ثلاثةُ أوجهٍ أشار إليها القاضي وغيره: أحدها: أن العدة تنقضي كما ذكرناه في الولد المنفي باللعان.
والثاني: أنها لا تنقضي؛ فإن العدة إنما تنقضي بولد يمكن تقدير العلوق به في حالة النكاح، والولد المنفي باللعان بهذه المثابة، فليس انتفى بسبب عدم الإمكان، والإمكانُ غير زائل، وهي مصدقة فيما يتعلق بالعدة إذا لم تدع أمراً خارجاً عن الإمكان.
والوجه الثالث: أنا ننظر: فإن لم تدع المرأة سبباً محترماً يفرض العلوق منه بعد الفراق، فلا نحكم بانقضاء العدة، وإن ادعت أنه وطئها بشبهة، فإذ ذاك نحكم بانقضاء العدة، وإن كان القول قول الزوج في نفيه، ولا حاجة به إلى اللعان، ويكفيه أن يحلف على نفي الوطء، إذا ادعته، وذلك لأن الزوج وإن نفى ما ادّعته وحلف فيمينه لا تقطع إمكان صدقها، ويكفيها في دعوى انقضاء العدة إمكان الصدق.
9808- ثم قال الشافعي: "لو ادعت المرأة أنه راجعها أو نكحها إن كانت بائنة... إلى آخره".
إذا أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين من يوم الفراق، أو كانت رجعية، فأتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم وقوع الطلاق، والتفريع على قولنا أنا نعتبر المدة في الرجعية من وقت الطلاق أيضاً، فإذا ادعت المرأة على المطلِّق أنه راجعها فألمّ بها، وحصل العلوق بعد الرجعة، وادعت البائنة أنه نكحها ووطئها والولد من الوطء الجاري في النكاح الجديد، فالقول قول الزوج لا محالة، في نفي ما تدعيه إن نفاه، فإن حلف، انتفى النسب، وكفى ذلك، وأغنى عن اللعان، وإن نكل عن اليمين، فهل يرد اليمين عليها؟ لم يتعرض الشافعي لذلك بنفى، ولا إثباتٍ.
ولو زعمت المرأة أنها ولدت، وكان النكاح قائماً، فأنكر الزوج الولادة، فالقول قوله، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، قال الشافعي حلفت عند نكوله يمينَ الرد، وقد ذكرنا تصرف الأصحاب في ذلك، في كتاب اللعان، فلا حاجة إلى إعادة ما سبق.
والذي نرى التنبيه إليه هاهنا، أن الأصح الردُّ لليمين عليها؛ لأنها قيّمة في نفقة الولد مُطالِبةٌ بها، كما قال المصطفى عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فهي تستفيد إذاً بالتسبب إلى إثبات الولادة دفعَ النفقة عن نفسها، فالأصح أنها تحلف يمين الرد.
ثم لم يختلف الأصحاب في أنها تبتدىء الخصومةَ ويحلف الرجل، وهذا محل سؤال الفطن!!
فإن قيل: إذا فرعتم على أن اليمين لا ترد عليها، فكيف بنيتم تحليف الزوج على دعواها؟ قلنا: قد ينتصب للدعوى، وعرضِ اليمين، وطلبِ التحليف مَنْ لا يحلفُ كالوصيّ في كثير من الخصومات المتعلقة بحقوق الطفل، وكذلك الوكيلُ بالخصومة يطلب التحليف ولا يحلف، وهذا من الأصول العظيمة في الدعاوى والبينات، وسيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ومهما انتهى كلامٌ إلى استدعاء بيانٍ في طرفٍ وموضعُ كشفه كتابٌ، فالذي يقتضيه الترتيبُ التنبيهَ عليه والإحالةَ على الكتاب الموضوع له، فيجتمع اجتناب التكرار والتنبيهُ لما يجب التنبه له.
فصل:
قال: "ولو نكحت في العدة، فأصيبت... إلى آخره".
9809- المرأة إذا خلت عن العدة ونكحت نكاحاً مستجمعاً لشرائط الصحة في ظاهر الأمر، وأتت بولد في الفراش الثاني، نُظر: فإن أتت به لزمان لا يُحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، مثل أن تأتي به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت النكاح وإمكان الاستفراش، وكان العلوق به ممكناً في النكاح الأول، فالولد يلتحق بالزوج الأول، ويتبيّن بطلانُ النكاح الثاني للعالم، فإنه جرى والمنكوحة حامل بولد نسيبٍ.
فإن أتت به لزمان لا يحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، وكان لا يحتمل العلوق به في الفراش الأول، وذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر في النكاح الثاني، ولأكثر من أربع سنين من البينونة عن الفراش الأول، فالولد منتفٍ عن الزوجين، ولا يُقضى فيه بأنه ولد زنا. ولكن لا أب له، وطريق تحسين الظن حمل العلوق به على وطءٍ بشبهة.
وإن أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في النكاح الثاني، مثل أن تأتي به لستة أشهر من النكاح الثاني فصاعداً، فالولد لا يلحق الأول وإن أمكن أن يكون العلوق به من النكاح الأول، ولكن النكاح الثاني في حكم الناسخ للأول والقاطع لعلائقه واحتمالاته.
وسبب هذا أنا في إلحاق الولد بالثاني لسنا نعطل النسب، فقد نظرنا للولد، ولو قدرنا الإلحاق بالأول، لأبطلْنا النكاح الثاني؛ فإنا على هذا التقدير نتبين أن النكاح الثاني عُقد وهي حامل، والنكاح الذي جرى الحكم بانعقاده ظاهراً لا سبيل إلى الحكم ببطلانه بأمرٍ غيرِ مستيقن، فهذا هو الذي أوجب الإلحاق بالفراش الثاني، وهذا يتأكد بترجيح الاستفراش الناجز على ما مضى وانقطع أثره وخبره.
ثم إذا بأن أن الولد يلتحق بالفراش الثاني بالاحتمال، وإن أمكن أن يكون من الفراش الأول، فما الظن إذا أمكن أن يكون من الثاني، ولم يمكن أن يكون من الأول؟ ولا حاجة إلى ذكر مثل هذا إلا لمحاولة استيعاب الأقسام.
9810- وما ذكرناه كله فيه إذا خلت المرأة عن العدة في ظاهر الحال، ونكحت نكاحاً يقضي الظاهرُ بصحته.
فأما إذا جرى نكاحُ شبهة، واتصل الوطء به على ظن الحِلّ من الجانبين، وذلك بأن تنكِح في بقيةٍ من العدة ظانَّة أن العدة قد انقضت، فإذا أتت بولدٍ من وقت افتراش الثاني إياها، نُظر: فإن لم يحتمل أن يكون العلوق به من الثاني، واحتمل أن يكون من الأول، التحق بالأول، وإن لم يحتمل أن يكون من الثاني ولا من الأول، انتفى عنهما، وإن احتمل أن يكون من الثاني واحتمل أن يكون من الأول أيضاًً، وذلك بأن تأتي به لستة أشهر من افتراش الثاني، ولأربع سنين من الأول أو لدون أربع سنين، فقد تردّد المولود بينهما، وهذا من محالّ القيافة.
والذي يليق بغرضنا الآن أن الولد لا يلتحق بالفراش الثاني لحوقَه بالنكاح الصحيح، والسبب فيه ما قدمناه من أن الإلحاق بالأول وقد جرى نكاح ظاهره الصحة، يتضمن إفساد النكاح المحكوم بصحته ولا وجه لهذا، ولا يتحقق مثلُ هذا في النكاح الفاسد.
ومن أسرار المسألة أنا ردَّدْنا في النكاح الفاسد ولداً بين النكاح الفاسد والنكاح الصحيح الماضي، ولكن لما لم يؤد إلى إفساد نكاح المتقدم، لم نُبالِ بذلك.
والدليل عليه أن المنكوحة لو وطئت بشبهة في استمرار النكاح، وفرض الإتيان بولد وتردد الاحتمال بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج؛ فإنا نُري الولدَ القائفَ، وإذا انتهينا إلى باب القيافة في آخر الدعاوى، أوضحنا في صدر الباب الصور التي تجري القيافةُ فيها.
فهذا منتهى المراد في ذلك، وسياقةُ أحكام القيافة إلى منتهاها ستأتي، إن شاء الله تعالى.
9811- ومما ذكره الأصحاب هاهنا أن المرأة إذا نكحت على الشبهة والفساد، فمتى يثبت حكم الفراش الثاني؟ ظاهر المذهب أنه يثبت بالوطء الأول، وقال القفال الشاشي: يثبت حكم الفراش الثاني بالعقد، وفائدة ذلك أنا من أي وقت نحتسب زمان الحمل ليتبين الاحتمال، فعلى هذا الاختلاف متى ينقطع حكم الفراش الثاني الثابت على الفساد والشبهة؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ينقطع أثر الفراش الفاسد بالتفريق وإليه النظر، والقفال الشاشي يقول: ينقطع أثر الفراش الثاني من آخر وطأة جرت، ولا يتوقف على التفريق: فمن راعى الوطء في الأول، اعتبر التفريق في الآخر، والقفال راعى العقد في الأول، والوطء في الآخر، وذكْر هذين الخلافين على الإرسال حسنٌ لا بأس به.
فأما اعتبارُ العقدِ في الأول والوطءِ في الآخر، فكلام مختلط حكَوْا أن اعتبار الوطء في الأول والتفريق في الآخر يوجّه بأن الوطء إذا أثبت حكمه في الافتراش، لم يبعد أن يتمادى إلى التفريق، ولهذا نظير سيأتي الشرح عليه في أثناء الكتاب.
وهو أن من طلق امرأته طلقة رجعية، وكان يخالطها ولا يغشاها، فهل تنقضي العدة مع صورة المخالطة؟ فيه كلام وتفصيل، وكذلك لو فرض ذلك في البائنة على شبهة. فلا ينبغي أن نشتغل بذلك؛ فإنه بين أيدينا.
9812- ومما يتصل بهذا المنتهى أن من نكح امرأة نكاحاً فاسداً، وأتت بولد من غير فرض تردد بين نكاحين، فهل يلتحق الولد بمجرد النكاح مع تبين فساده من غير إقرارٍ من الزوج بالوطء؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لابد من الإقرار بالوطء؛ فإن الفاسد لا يكون فراشاً ما لم يمض افتراشٌ على التحقيق.
ومنهم من قال: نفسُ النكاح والإمكان كافٍ، وهذا يلتفت على الخلاف الذي ذكرناه من أن المنكوحة على الفساد متى صارت مفترشة؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك.
ويترتب عليه أيضاً أنه إذا أقر بالوطء-على قولنا: إنه يعتبر إقراره- فلو ادعى الاستبراء، فالمذهب الأصح الذي يدل عليه النصوص أن دعوى الاستبراء لاغية، ووجه دلالة النصوص قَطْعُ الشافعي قولَه بجريان اللعان، مع العلم بأن اللعان في النكاح الفاسد إنما يجرى للضرورة الداعية إلى نفي النسب المتعرض للثبوت، وقد أوضحنا في كتاب اللعان أن اللعان حجةُ ضرورة، وأبعد بعض أصحابنا، فجعل النكاح الفاسد كملك اليمين في دعوى الاستبراء: تؤثر فيه، وهذا بعيد عن قاعدة المذهب.
فصل:
قال: "فإن قيل: لمَ لمْ تنفوا الولد إذا أقرت بانقضاء العدة... إلى آخره".
9813- إذا طلق الرجل امرأته وزعمت أنه مرّ بها الأقراء الثلاثة، وادعت ذلك في زمان ممكن محتمل، واقتضى الحال تصديقَها، والحكمَ بأنها خلت عن العدة وحلّت للأزواج، فلو أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح: مثل أن تأتي به لأربع سنين فما دونها، فالولد يلحقُ، وإن جرى الحكم بتصديقها، ونتبين أنها كانت ظنت انقضاء العدة، وما كانت منقضية، هذا مذهبنا.
ونكتة المذهب أن الاحتمال في لحوق النسب كاليقين في وضع الشرع، وصُور الأقراء تزاحمه، وقد اتفق العلماء، وشهدت المشاهدة على أن الحامل قد ترى الدمَ على ترتيب أدوار الحيض، وإنما الخلاف في أنه هل يحكم بكون ما تراه حيضاً في أحكام العبادات، وتحريم الوقاع ونحوه، فإذا أتت بالولد لزمان الإمكان، لحق وإن أُفحمنا حيضاً وأقراءً.
وأبو حنيفة يقول: إذا صدقناها في انقضاء العدة، واتصل ذلك بمجلس حاكم، فإذا أتت بالولد لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به في النكاح، لم يلحق.
وهذا في التحقيق قطعُ النسب، وإبطالُ حق الولد منه بسبب إخبارها بأنها رأت دماً، فإن خبرها عن انقضاء العدة يرجع إلى ما شاهدت من ذلك. والعلم عند الله عز وجل.