فصل: باب: عدة الإماء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: لا عدة على من لم يدخل بها:

9814- صدَّر الشافعي رضي الله عنه الباب بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49]. وغرض الباب أن العِدد المتعلقة بطرق الفراق في الحياة مشروطة بالمسيس، والأصل فيه الآية التي ذكرناها.
ولو فرضت خَلوة خِلوَةٌ عن المسيس، فالمذهب الظاهر أن المهر لا يتقرّر بالخَلوة العريّة عن الدخول، خلافاًً لأبي حنيفة، وفي المسألة قول يوافق مذهبه، وقد ذكرنا القولين في كتاب الصداق؛ فإن حكمنا أن المهر لا يتقرر بالخَلْوة، فلا تجب العدة بها، وإنْ حكمنا بأن الخَلوةَ تُقرر المهرَ، فالذي ذكره الأصحاب أنها توجب العدة.
وهذا فيه أدنى غموض، وكنت أود أن نحمل تقريرَ المهر على التمكين؛ فإن التمكين من المنافع تسليمٌ، كما إذا ألقى المكري مفتاحَ الدار المكراة إلى المكتري، وخلّى بينه وبين الدار.
فأما العدة، فكان لا يبعد في القياس ألاّ تجب وإن تقرر المهر؛ فإن تقرير المهر مأخوذ من قياسٍ في المعاوضة لا تؤخذ العدة من مثله، ولكن لعل الأصحاب رأَوْا العدة عليها من آثار التسليم وتقرير الملك؛ فإن التي تبين بالطلاق ليس النكاح مقرراً فيها، فكما يتقرر العوض على الزوج يتقرر النكاح على الزوجة، ومن أثر تقرره ألا ينبتّ. هذا هو الممكن في توجيهه.
9815- ثم إذا كان الطلاق رجعيّاً، فقد قال أبو حنيفة: لا نثبت الرجعة، واختلف أصحابنا في ثبوتها: فمنهم من وافق أبا حنيفة، وهذا يخرم الفقه الذي ذكرناه، ولا ينقدح فيه وجه خالصٌ عن الشوائب، والأوجه إثبات الرجعة إن أثبتنا العدة.
ثم الممكن في توجيه نفي الرجعة أن العدة وإن ثبتت، فالرجعة تستدعي كمالاً، وليست المعتدة عن الخلوة على نعت الكمال في تربصها، فكأنها على مَرْتبةٍ بين المرتبتين، فإذا أُحْوِج الفقيهُ إلى مثل هذا الكلام، لم نُقم له وزناً؛ فإن القول يتعارض فيه.
9816- ثم فَصَل أبو حنيفة بين الخلوة الصحيحة وبين الخلوة الفاسدة، وقال: لو خلا بها وهما مُحرمان أو أحدهما، أو صائمان صوم فرض، أو أحدهما، لم يتقرر المهر، ولم تجب العدة، ولهم في صوم التطوع تردد.
قال أئمتنا: إذا فرعنا على القول الضعيف ورأيْنا الخلوة مقرِّرةً، لم نَفْصل بين الخلوة الفاسدة والخلوة الصحيحة، ونقضي بتقرر المهر وثبوت العدة، ولو اعتل معتل في التسوية بإمكان الوطء حسَّاً، اعترض عليه خلوةُ المجبوب، والخلوةُ بالرتقاء، فإن الجماع غير ممكن، وقد قال أبو حنيفة: الخلوة تقرر مع هذه الموانع الطبيعية.
ولو روجعنا في ذلك، فالوجه عندنا الحكم بالتقرير مع هذه الموانع؛ فإن المصير إلى أن النكاح لا يتصور فيه تقرير فيه بُعْدٌ، والذي يجرى نهايةُ الأمر.
وفي القلب من الموانع الطبيعية كلام؛ فإن الإمكان مقترن بالصوم والإحرام، ولا إمكان مع الجب والرتق، ولو فصل فاصل بين الجب والرتق، صائراً إلى أن تمكين المجبوب يردّ العجز إليه، وهي في نفسها فعلت ما هو تمكين على أقصى الإمكان، ويجوز أن يقال: الرتقاء عاجزة عن التمكين، فقد جاء من جهتها العجزُ عن الوفاء بالتمكين، ويعترض على ذلك أنها تستحق النفقة، وإن لم يكن الوقاع ممكناً، على ما سيأتي شرح ذلك، والمريضة التي يرجى زوالها من مرضها قد لا تستحق النفقة، فإنما أُتينا من جهة التفريع على قولٍ لا أصل له.
ومعتمد مذهب الشافعي صحة الأصول، والأصول الصحيحة لا تُفضي إلى مثل هذا الخبط.
9817- ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا في الإصابة، فالقول قول مَنْ ينفيها إلا في مسائل، منها: الاختلاف في جريان الإصابة في مدة العُنّة، فإذا ادعاها الزوج وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج، وكذلك لو فرض مثل هذا في الإيلاء.
فإذا ادعت المرأة على الزوج الإصابةَ تبغي بذلك تقررَ المهر، فأنكر الزوج الإصابةَ، فالقول قوله.
فإذا طلقها، وجرى التنازعُ على هذا النسق، وصدقنا الزوجَ مع يمينه، فلو أتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، فالنسب ملحق، فلا ينفيه ما تقدم من حلف الزوج على نفي الإصابة، وهذا بيّنٌ.
قال الشافعي: إذا ألحقنا النسب أشعر بجريان إصابةٍ في صلب النكاح، فنعود ونقول: القول قول المرأة في ادعاء الإصابة، فتحلف، ويتقرر مهرها.
قال الربيع: "وجب ألا يتقرر المهر؛ لأن كلا الدعويين محتمل، فينبغي أن يُصدّق الزوج فيما يتعلق بنفي التقرير، ويُقضى بلحوق النسب؛ لأنه يَلْحقُ بإمكانٍ وإن بعد"، ولا بأس بما ذكره.
وهذا شبَّب بعضُ الأصحاب بموافقته، والمذهب ما نص عليه الشافعي، ووجهه أن القول في الدعاوى قولُ مَن الظاهر معه، وإذا كنا نحلّف صاحب اليد-مع انقسام الأيدي- للظاهر، فلحوق الولد يُظهر دعوى الإصابة.

.باب: العدة من الموت والطلاق والزوج غائب:

9818- مضمون الباب مسألة واحدة هي أن المرأة إذا طلقها زوجها في الغَيْبَة، أو مات عنها، ثم لم تعلم بموته أو طلاقه حتى انقضى زمان العدة، فإذا بلغها الخبر، فهي خليّة من العدة، ولا يضرّ عدمُ علمها بكونها في العدة.
وعن علي رضي الله عنه: أنها تبتدىء العدة من وقت ما أحاطت علماً بطلاقه، أو وفاته، لا يعتد بما مضى. وهذا مذهب مهجور لا معول عليه.

.باب: عدة الإماء:

قال الشافعي رضي الله عنه: "فرق الله تعالى بين الأحرار والعبيد... إلى آخره".
9819- الأحكام على ثلاثة أقسام: منها ما يستوي فيها العبيد والأحرار، والإماء والحرائر، كوظائف الصلوات، وأصل الإسلام، والصيام، وكثير من العقوبات، كالقصاص، وقطع السرقة، والعدة بوضع الحمل.
ومنها ما لا مدخل للعبيد فيه كالولايات، والشهادات، والمواريث، وافتراض الجمعة، وحجة الإسلام.
ومنها ما يشترك الأحرار والعبيد في أصله ويختلفان في الكيفية، فيَلْحَقُ العبيدَ والإماءَ فيه نقصٌ، وهذا فيما ذكره المرتبون قسمان: منه ما يكون العبد فيه على النصف من الحر وكذلك الأمة تكون على النصف من الحرة، وذلك كالحد بالجلد، والقَسْم في النكاح.
ومنها ما تكون الأمة فيه على الثلثين كالأقراء والطلاق، وقد قيل: هذا أصله اعتبار النصف، ولكن لما لم يقبل القدَّ والتنصُّفَ، وكذلك الطلاق، كَمَّلْنا نصفَ طلْقةٍ طلقةً، ونصف قرءٍ قرءاً، وقال داود تعتد بثلاثة أقراء، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعتد الأمة بحيضتين» وإنما ذكر الحيض لدلالته على الطهر، هذا إذا كانت الأَمَةُ من ذوات الأقراء.
فإن كانت من ذوات الشهور ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أنها تعتد بشهر ونصف؛ لأن الشهر مما يتجزأ ويتبعض وإن كان القرء لا يتبعض، فينبغي أن تكون الأمة على الشطر من الحرة، كما أنها في عدة الوفاة على الشطر، منها تتربص شهرين وخمسة أيام.
والقول الثاني- أنها تعتد بشهرين؛ فإن كل شهر في مقابلة قرء، وقد تأصل فيها قرءان، وروي عن عمر أنه قال: "يطلِّق العبد تطليقتين، وتعتد الأمة بحيضتين، وإن لم تحض، فشهران أو شهر ونصف " ومنهم من جعل هذا شكّاً من الراوي، ومنهم من جعله ترديدَ قولٍ من عمرَ، وهذا ظاهر الرواية، وهو شاهدٌ بيّن في أن ترديد القول ليس بِدعاً.
وفي المسألة قول ثالث- أنها إذا عدمت الحيض، تربصت ثلاثة أشهر، وقد قيل: أقلُّ زمان يدل على براءة الرحم ثلاثةُ أشهر، وما يرجع إلى الجبلة لا يختلف بالرق والحرية، وإنما خرّج هذا القولَ الثالث من الاستبراء، قال الشافعي: أم الولد إذا لم تكن من ذوات الحيض فعَتَقَت، فبماذا تستبرىء؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنها تستبرىء بشهر واحد؛ فإنها لو كانت من ذوات الحيض، لاستبرأت بقرء واحد، فإذا كانت من ذوات الشهور، أقمنا شهراً مقام قرء.
والقول الثاني- أنها تستبرىء بثلاثة أشهر؛ لأنه أقل زمان يدل على براءة الرحم، وخرج هذا في المطلقةِ الأمةِ إذا كانت من ذوات الشهور.
فصل:
قال: "ولو عتَقَت الأمةُ قبل مضي العدة... إلى آخره".
9820- الأمة إذا فارقت زوجها، وشرعت في العدة، ثم عَتَقَت في أثنائها، نُظر: فإن كانت بائنة، فعتقت في خلال العدة، نص في القديم على أنها تقتصر على عدة الإماء، ونص في الجديد على قولين في البائنة.
وإن كانت رجعيةً، فعتقت في أثناء العدة، المنصوصُ عليه في الجديد القطعُ بأنها تُكمل عدةَ الحرائر، وفي القديم قولان، والقديمُ يميل إلى الاقتصار على عدة الإماء، والجديد مَيْلُه إلى الإكمال، والرجعية أولى بالإكمال من البائنة، والبائنة أولى بالاقتصار من الرجعية.
فينتظم من الجديد والقديم ثلاثة أقوال: أحدها: الاقتصار على عدة الإماء، رجعية كانت، أو بائنة.
والثاني: الإكمال، رجعيةً كانت أو بائنة.
والثالث: أنها إن كانت رجعية، أكملت عدة الحرائر، وإن كانت بائنة، اقتصرت على عدة الإماء.
توجيه الأقوال: إن قلنا بالإكمال، وهو اختيار المزني، فوجهه أن المغيّر للعدة طرأ على العدة فأشبه ما لو طرأ الحيض على الأشهر، وأيضاً في العدة مشابهُ العبادات، والعبرة فيها بحالة الأداء.
ومن قال بالقول الثاني- احتج بضرب من التشبيه، فقال: ذو عدد محصور يختلف بالرق والحرية، فالعبرة فيه بحالة الوجوب كالحد.
ومن فصل بين الرجعية والبائنة، قال: الرجعية في حكم الزوجات، والدليل عليه أنها تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن يلحقها موجَبُ المغيِّر الذي طرأ، والبائنة لا تنتقل من عدتها إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن تلزم العدةَ التي حاضت فيها، ولا تنتقل عنها، ثم أطنب المزني في توجيه ما اختاره، وليس في نقل كلامه مزيدٌ مذهبيّ.
فصل:
قال: "ولو أحدث لها رجعة... إلى آخره".
9821- إذا طلق الرجل امرأته طلقة رجعية، ثم راجعها مرة أخرى، فإن وطئها بعد المراجعة، لم يَخْفَ أنها تستأنف عدةً إذا طلقت.
وإن راجعها ولم يطأْها، وعاد وطلقها، فهل يجب عليها عدةٌ مستأنفة بعد الطلاق أم تبني على ما كان بقي من عدتها قبل المراجعة؟ في المسألة قولان مشهوران.
ولو خالع امرأته، ثم جدد عليها النكاح في أثناء العدة، ثم طلقها قبل الدخول، فلا خلاف أنها تبني على بقية العدة، ولا يلزمها عدةٌ مستأنفة، وإذا أصدقها صداقاً جديداً في النكاح الثاني، ثم طلقها قبل الدخول، فليس لها إلا نصفُ المهر الجديد.
وقال أبو حنيفة: لها تمام مهرها في النكاح الثاني، وهي تستأنف عدةً كاملة، والمسألة مذكورة في الخلاف.
فإن قيل: ما الفرق بين الرجعية تُرتَجع ثم تُطلق، وبين المختَلِعة؟ قلنا: الرجعية بالرجعة مردودة إلى أصل النكاح، وقد سبق في أصل النكاح وطء وانقطعت العدة بالرجعة، ويجوز أن يقال: إذا طلقها تستانف عدة؛ فإنها مطلقة عن نكاح جرى فيه مسيس.
وأما المختلعة إذا نكحها، فهذا نكاحٌ جديد، وهو عريٌّ عن المسيس، فإذا طلقها، لم يقتض الطلاقُ عدة مبتدأة. فإن قيل: فأنزلوها منزلة الرجعية تنكِح؛
فإن العدة الأولى انقطعت بالنكاح الجديد.
قلنا: هذا قياس لا ينكر، ولكن فيه أمر لا سبيل إلى التزامه واقتحامه، وهو أنه لو وطئها في النكاح الأول، ثم طلقها، فلابد من الاستبراء بالعدة، فلو نكحها على مكانتها، ثم طلقها، فلو نكحت، لكانت مشغولة الرحم بالوطء الجاري في النكاح الأول.
ثم لو قال قائل: فاكتفوا باستبرائها بحيضة. قلنا: الأصول لا تغيّر لآحاد المسائل، وقد وضع الشرع استبراء المطلقات بثلاثة أقراء، فلا حطّ من هذا المنتهى بعَوْد المختلعة إذا طلقت إلى بقية العدة، لما ذكرناه.
9822- ثم إن الشافعي ذكر القولين " في أن الرجعية إذا طلقت من غير مسيس بين الرجعة والطلاق الثاني، فهل تستأنف عدة أو تبني؟
ثم قال: من قال تستأنف، لزمه أن يقول: لو لم يرتجعها، وطلّقها في العدة تستأنف عدة جديدة، فلا يُكتفى ببقية العدة".
فاختلف أصحابنا في هذا اللفظ: فمنهم من جعله احتجاجاً، ومنهم من جعله تفريعاً، وبيان ذلك أن من يجري في الاحتجاج لمذهب قد يذكر شيئاًً-لا يجوز أن يُعتَقدَ- إلزاماً، فقول الشافعي محمول على هذا المحمل.
ومن حمل هذا على التفريع-وقوله أظهر- قال: لا يليق بالشافعي: الاحتجاج بهذا مع وضوح الفرق؛ فإن الرجعية إذا ارتجعها زوجها، انقطعت العدة بالرجعة، وعادت منكوحة كما كانت من قبل، فاتجه أن يقال: الطلاق الثاني يلحق منكوحةً ممسوسة، فقد بطلت العدة، وقد نُبطل مدّةً شرعية بطريان طارىء، وإذا زال تستأنف مدة أخرى، كما ذكرناه في مدة الإيلاء إذا طرأ عليها طلاقٌ أو ردّة، ثم ارتجعت المطلقة وزالت الردة، وإذا طلق الرجعية ولم يرتجعها، فالعدة لم تنقطع، فلا يظهر الاحتجاج.
والوجه حمل كلام الشافعي على ترديد القول، فإذا طلق زوجته الرجعية، فتبني أم تستأنف؟ فعلى قولين على هذه الطريقة، مرتبين على القولين فيه إذا راجعها ثم طلقها، وهذه الصورة أولى بالبناء لما أشرنا إليه.
فإن قيل: فوجهوا القولين، قلنا: من لم يوجب الاستئناف فوجه قوله بيّن؛ إذ العدة مستمرة، ويستحيل أن يقطعها الطلاق؛ فإن الطلاق يؤكد العدة، ولا يناقضها.
ومن قال: تستأنف، قال: الطلاق الجديد يقتضى حَلاً جديداً، ولولا هذا التقدير وإلا لم يكن للطلاق الثاني معنى، وكل حلٍّ يستعقب تربّصاً جديداً.
وهذا عندنا أولى من بناء هذين القولين وتقريبهما من القولين فيه إذا قال لامرأته: كلما ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولدين عن بطن واحد، فتخوض في العدة بوضع الولد الأول، وهل يلحقها الطلاق بوضع الولد الثاني الذي يخلو الرحم به؟ فعلى قولين قدمناهما.
ووجه التقريب أنا نقدر استئناف عدة، ثم نفرض هذا الطلاق على متصل العدّتين، فكذلك نقدّر إذا طلقت الرجعية كأن عدتها نكاح، فإن طلقت، فهذا ابتداء حَلٍّ، ثم يقع هذا الطلاق بين تقدير ارتفاع ما مضى وابتداء ما وجب من العدة، وتوجيه القول على حسب الإمكان أولى من هذا البناء؛ فإن القولين في وقوع الطلاق بالولد الأخير لا أعرف لأحدهما وجهاً على ما قدمت كشفَه وبيانَه.
9823- ثم نفرع على هذا الأصل فروعاً ونبيّنها في أنفسها، ونبين بها حقيقةَ الأصل، فلو طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فكانت حاملاً، فراجعها، ثم طلقها وهي بعدُ حامل، فإذا وضعت حملها، انقضت عدتُها على القولين، وذلك أن بقية مدة الحمل صالحة لأن تكون عدة مستأنفة، فيؤول القولان إلى التقدير.
فنقول: في قولٍ: هي في بقية الحمل في بقية العدة، ونقول في القول الثاني:
بقية العدة عدةٌ مبتدأة، والدليل على ذلك أنه لو راجعها ووطئها ثم طلقها، فوضعت حملها، كفى ذلك، ولو كان الوطء بعد الرجعة يوجب عدة مستأنفة بلا خلاف، فيتجه وجه التقدير في هذه الصورة، ونقطع بأن بقيةَ الحمل عدةٌ كاملة.
وبمثله لو طلقها حاملاً ابتداء كما صورناه، ثم راجعها، فوضعت حملها في النكاح، ثم طلقها من غير مسيس، فإن فرعنا على قول الاستئناف، اعتدت بثلاثة أقراء بعد الطلاق.
وإن قلنا بالبناء، ولم نوجب عدة مستأنفة، ففي هذه الصورة وجهان:
أحدهما: أنه لا يلزمها بعد الطلاق الثاني تربصٌ أصلاً؛ إذ لا سبيل إلى إيجاب عدة مستأنفة، وقد انقضت مدة الحمل.
والوجه الثاني- أنها تعتد بثلاثة أقراء؛ إذ لابد من تربصٍ بعد الطلاق، وما جرى في حالة ردها إلى النكاح لا يقع الاعتداد به، وإذا ابتدأنا تربُّصاً، فلا موقف نقف عنده، والوجه إيجابُ التربص ثلاثةَ أقراء، فيلتقي القولان: قول الاستئناف وقولُ البناء في هذه الصورة.
9824- ومما يتعلق بهذه الجملة أنه لو طلقها، وشرعت في الاعتداد بالأقراء، وطعنت في الطهر الثالث من عدتها، فراجعها في أثناء الطهر الثالث، ثم طلقها في الحيض، والتفريع على قولنا: إنها تبني ولا تستأنف، فعلى هذا قال القفال فيما حكاه شيخي عنه: كما راجعها انقضت العدة؛ فإنها كانت في بقية طهر، فيقع الاعتداد بما مضى من الطهر.
قال شيخي: هذا كلام مضطرب؛ فإن بقية الطهر إنما يكون قرءاً إذا اتصل بالحيض في زمان التربص، والنصف الأول من الطهر يستحيل أن يكون قرءاً، بل إذا طلقها بائناً، فعليها الاعتداد بقرء.
وذكر العراقيون القولين في أن الرجعية إذا طلقت في العدة هل تبني أو تستأنف، ثم قالوا: لو طلقها رجعياً، ثم خالعها في العدة، وصححنا مخالعة الرجعية، قالوا: إن قلنا: الخلع طلاق، فقد ألحق الطلاقَ، ففي استئناف العدة الطريقان المعروفان للأصحاب.
وإن قلنا: الخلعُ فسخ، وجب أن نقطع بأنها تبني ولا تستأنف.
وهذا الذي ذكروه لا يقبله المراوزة، فإذا جرى سبب من أسباب الفراق: فسخاً كان أو طلاقاً، ففي استئناف العدة والبناء على بقية العدة الاختلافُ الذي ذكرناه، سواء كان ذلك الطارىء فسخاً أو طلاقاً، والسبب فيه أن قول الاستئناف يعتمد أن الفراق الطارىء حَلٌّ جديد، والحلّ يتضمن استعقاب العدة، وهذا الفقه يستوي فيه الطلاقُ الطارىء والفسخ الطارىء، بل هو في الفسخ أظهر؛ من جهة أن الفسخ يَحُل الملكَ، والطلاق الثاني لا يَحُلُ الملكَ، ولكنا نتكلف حلّه مع مِلْك رده ورجعه.
والمذهبُ المرتضى القطعُ بأن طريان الفراق لا يوجب استئناف العدة كيف فرض، والمرأةُ تبني على البقية، وترديد الشافعي يحمل على الاحتجاج والإلزام، لا على التفريج، وهو كقول الشافعي في مسألة اللحمان: "من قال: اللحمان جنس واحد لاجتماعها تحت اسم اللحم، يلزمه أن يقول: الثمار جنس واحد"، ثم اتفق أصحابنا أن هذا إلزام، وليس للتفريع؛ إذ لا خلاف أن الثمار ليست جنساً واحداً.
9824/م- ثم ذكر الشافعي أن الاعتبار في عدد الطلاق بحرية الزوج ورقه، وهذا ما قدمناه في كتاب الطلاق، فأما العدة، فالاعتبار فيها برق المعتدة وحريتها وفاقاً؛ فإنها الملابسة للعدة، والقائمة بتأديتها.

.باب: عدة الوفاة:

9825- عدة الوفاة ثابتة على التي مات عنها زوجها، سواء جرى في النكاح دخولٌ أو لم يجر، وقيل: كانت العدة في ابتداء الإسلام سنةً كاملة، وكانت المرأة تجلس في شرّ بيتها في شرِّ أحلاسها، ثم كان تؤتى بكلب، وكانت ترمي إليه ببعرة، وكانت تعني بذلك: أن تفجُّعي على زوجي طول هذه السنة أهون وأيسر عليّ من رَمْي الكلب بهده البعرة.
وكان في ابتداء الإسلام لا إرث للمتوفى عنها زوجها، وكان يجب الإنفاق عليها في تلك السنة من التركة، بدلاً عن الإرث، ثم نسخت العدةُ على هذه الصفة، وردّت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وروي أن امرأة قتل زوجها فرمدت عينُها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستأذن لها في الاكتحال، فقال عليه السلام: «كانت إحداكنّ تقعد في شرّ بيتها في شرّ أحلاسها سنةً، أفلا أربعة أشهر وعشراً!!».
فنقول: إذا مات الزوج، لم تخل المرأة إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، فإن كانت حائلاً حرة، اعتدت بأربعة أشهر وعشرِ ليالٍ.
وإن كانت أمة: تربصت شهرين وخمسَ ليال بأيامها، وقال داود: الأمة كالحرة في عدة الوفاة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: تعتد بأقصى الأجلين من ثلاثة أقراء ومن أربعة أشهر وعشر، وهذا يخالف الآية؛ فإنه تعالى لم يثبت في كتابه التعرضَ للأقراء في عدة الوفاة، مع انقسام النساء إلى ذوات الأقراء وغيرهن، وفَصَّل العِدَدَ عن الطلاق وَذَكر الأقراء أصلاً فيها.
هذا إذا كانت حائلاً.
9826- فأما إذا توفي الزوج والزوجة حامل، فإذا وضعت حملها انقضت عدتها، وليس في كتاب الله بيان ذلك، وإنما أُخذ هذا من السنة، وروي أن سُبَيْعةَ الأسلمية أبِق لزوجها عبيد فاتبعهم ليردَّهم، فأدركهم فكرُّوا عليه وقتلوه، وكانت سُبَيْعةُ حاملاً، فوضعت لنصف شهر، فخطبها أبو السنابل بن بَعْكَك، فرغبت عنه ولم تردّه، فرآها يوماًً تتصنع للأزواج، فقال: أتتصنّعين للأزواج، لا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وقال ذلك راجياً أن يعود أولياؤها الغُيّب، فيرغبوا ويحملوها على الإجابة، فجاءت سُبَيْعةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بقوله، فقال: "كذب أبو السنابل، بل حللتِ، فانكحي من شئت". وقال عمر: إذا وَضَعَتْ وزوجها على السرير لم يدفن، حلّت. فوضْعُ الحمل إذاً ينقضي به كل عدة.
والذي يجب التنبه له أن المتوفى عنها إذا كانت حاملاً، فممّا يدرك بمسلك المعنى أن الأربعة الأشهر والعشر إذا انقضت، والحملُ قائم، فلا سبيل إلى التزوج مع اشتغال الرحم، وإنما الذي يحيد عن القياس بعضَ الحَيْد أنها لو وضعت لدون أربعة أشهر؛ فإنها تحل.
قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: لولا حديث سُبَيْعة، لكان الأخذ بأقصى الأجلين: أجل الوضع، والأربعة الأشهر والعشر قريباً من القواعد، لمِا غلب وظهر في عدة الوفاة من التعبد، حتى أنها وجبت مع العُرُوّ عن الدخول، فإذا كنا لا نرعى في وجوب العدة جريان ما يشغل الرحم في جنسه، كان لا يبعد رعاية المدة المذكورة في كتاب الله تعالى، مع حصول براءة الرحم بوضع الحمل، ولكن المتبع السنةُ، فلا معدل عنها.
9827- ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه التعرض للسكنى في عدة الوفاة، ولسنا نخوض فيها الآن، فإنها بين أيدينا.
9828- ثم قال الشافعي: "وليس عليها أن تأتي فيها بحيض"، وهذا مما قدمناه، وغرضه الرد على مالك؛ فإنه يقول: إذا كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضتان، وإن كانت عادتها في كل ثلاثة أشهر أن تحيض مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضة.
واحتج الشافعي رضي الله عنه عليه، وقال: لا ذكر للحيض في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، والعدة قسمان:
أحدهما: بالأشهر
والثاني: بالأقراء، ثم ما يقع بالأقراء لا يعتبر فيه حساب الأشهر، فما يقع بالأشهر لا يعتبر فيه حساب الأقراء.
ثم ذكر بعدها أنها لو ارتابت بالحمل، فهل تنكح أم لا تنكح؟ وهذا مما قدمناه مستقصًى، وتعرّض بعد ذلك لتوريث المبتوتة في مرض الموت وحرمانها، وقد مضى ذلك مستقصًى في موضعه.
فصل:
قال: "ولو طلق إحدى امرأتيه ثلاثاً... إلى آخره".
9829- ذكرنا أن التعويل في عدة الوفاة على الأشهر إذا لم تكن المرأة حاملاً، فإن فرض وقوع الوفاة في الجزء الأخير من شهر، وتحقق ذلك، استقبلت التربصَ أربعةَ أشهر بالأهلة، فتربصت بعدها عشرةَ أيام بلياليها.
فإن وقعت الوفاة في كسر شهر، وكان بقي من ذلك الشهر عشرةُ أيامٍ، من غير زيادة ولا نقصان، فقد قطع الأئمة بأنا نحتسب هذه الأيام من العشر، فنأمرها أن تتربص بعدها أربعةَ أشهر بالأهلة، ولا نقول: تُحْتَسبُ العشرُ الباقية من الأشهر حتى ينكسر الشهر الأول، ثم إذا تصرّمت الأشهر، تربصت عشرة أيام بعدها، ولكن إذا أمكن حَسْبُ تلك الأيام من حساب العشر؛ حتى لا تنكسر الشهور، فعلنا ذلك، ولا يقع العشر مع الأشهر على حكم الترتب، والغرضُ انقضاء هذه المددِ، وبعضها يقدَّر بالأهلة، وبعضها بالأيام، والغرض مُضيّها.
ولو كان الباقي من الشهر أكثرَ من عشرة أيام، فينكسر الشهر الأول لا محالة؛ لمكان ما يبقى بعد العشر، وكذلك لو كان الباقي من الشهر بعد وقوع الوفاة أقلَّ من العشر، فينكسرُ الشهر الأول لا محالة، ثم الكلام في الانكسار على ما قدمنا ذكره.
9830- ولو طلق الرجل إحدى امرأتيه على الإبهام، ومات قبل البيان، إن لم يدخل بواحدةٍ منهما، فعلى كل واحدة أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً، فإن الأمر محمول على الاحتياط في العِدّة، وما من واحدة منهما إلا ويجوز أن تكون هي الزوجة، ولكن لا دخول بواحدة منهما؛ حتى يترددَ النظر بين الأقراء وبين الأشهر والعشر.
فإن كان قد دخل بهما نُظر: إن كانتا حاملين، فالعدة تنقضي بوضع الحمل؛ لأن الوضع تنقضي به العدد كلها: عِدةُ الوفاة وعِدة الفراق في الحياة، وإن كانتا حائلين، نظر: فإن كانتا من ذوات الأشهر، فتتربص كل واحدة أربعةَ أشهر وعشراً من وقت الوفاة، فإن كانت زوجة، فهذه عدة الوفاة، وإن كانت مطلقة، فعدتها بالأشهر، وفي الأربعة ثلاثة.
ولو كانتا من ذوات الأقراء، اعتدت كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر، فيها ثلاثة أقراء، ويعتبر أقصى الأجلين وأبعد المدتين، لأنها مأمورة بالتربص إلى أن تستيقن الخروج عما عليها، وكل واحدة منهما مردَّدة بين أن تكون مطلقة عدتُها الأقراء، وبين أن تكون زوجة عدتها الأشهر والعشر.
فأما حساب عدة الوفاة، فمن يوم الوفاة، وحساب عدة الأقراء يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في كتاب الطلاق: من أصحابنا من قال: حساب الأقراء من وقت الطلاق، ومنهم من قال: حسابها من وقت الموت، فإنا نستيقن انتفاء النكاح وارتفاعَه يوم الموت، وقد تمهد أصل هذا.
ومعنى أقصى الأجلين أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من يوم الوفاة على أن يمضي عليها ثلاثةُ أقراء، إما من يوم الطلاق، وإما من يوم الوفاة، فإن انقضت الأشهر والعشر، ولم تمض الأقراء، صبرت إلى انقضائها كاملة من أوّل تاريخها المعتبر.
وإن أَحْببنا قلنا: تعتد بثلاثة أقراء من أول تاريخها على شرط أن يقع فيها أربعةُ أشهر وعشرٌ من تاريخ الوفاة.
هذا بيان أقصى الأجلين.
وإن كان قد دخل بإحداهما دون الأخرى، فالتي لم يدخل بها تعتد بأربعة أشهر وعشرٍ، والمدخول بها إن كانت حاملاً، اعتدت بوضع الحمل، وإن كانت حائلاً، فبأقصى الأجلين، كما تقدم تفصيله.
9831- ومما ذكره القفال في آخر الباب: أن المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، فلو وضعت وزوجها على السرير لم يدفن، ونفذ الحكمُ بانقضاء العدة، وحل لها أن تنكح، فلها أن تغسّل زوجها بعد وضع الحمل؛ لأن قيام العدة ليس معتبراً عندنا في الغسل؛ لأن الرجل يغسل امرأته إذا ماتت، ولا عدّة عليه.
ثم قال الأصحاب: لو وضعت، ونكَحت والزوج بعدُ لم يدفن، فلها أن تغسل الزوجَ المتوفى، ولا ينبغي للفقيه أن يرتاع من هذا؛ فإنه إذا لم يمتنع الغُسل مع انتهاء النكاح نهايته وانقضاءِ العدة، فلا أثر لنكاحها؛ فإن الزوجة لا تغسل زوجها بتقدير حِلٍّ قائم بينهما، وإنما تغسل لبقائها على عُلقةٍ من النكاح، وهذا المعنى لا يزول بالتزوج.
هذا ما بلغنا في ذلك، وكان لا يبعد أن يقال: تبقى تبعية النكاح ما لم تنكِح، كما أنا نلحق النسب بالاحتمال ما لم تنكِح زوجاً.
وقال الشافعي رضوان الله عليه في مذهب له ظاهر: من فاتته ركعتا الصبح، قضاهما، فإذا زالت الشمس، وتحرّم بفريضة الظهر، انقطعت التبعيّة، وهذا تشبيهٌ من طريق اللفظ، ولكنه كلامٌ على حال.