فصل: باب: صوم التمتع بالعمرة إلى الحج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الاختيار في إفراد الحج:

قال: "وأحب إليّ أن يُفرد... إلى آخره".
2497- قد ذكرنا إجزاء الجهات الثلاث في النسكين، وقد قيل: الإفراد مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، والقِران من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والتمتع مصرَّحٌ به في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
ثم قال الأئمة: القِران مؤخَّرٌ عن الإفراد والتمتع. وفي الإفراد والتمتع قولان: أظهرهما- أن الإفراد مقدّمٌ على التمتع. نصَّ عليه في مختصر الحج. والقول الثاني- أن التمتع أفضل. نص عليه في اختلاف الأحاديث.
2498- توجيه القولين: من قال التمتع أفضل، احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال، لطوائف من أصحابه، عامَ الوداع: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهديَ، ولجعلتها عمرة "؛ فدل أن تقديم العمرة أفضل.
وشهد له تمنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لما نزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، «أن كل من معه هدي، فليحج، ومن لا هدي معه، فليطف، وليسع، ثم ليحل».
وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلحةَ رضي الله عنه الهديُ، ولم يكن مع غيرهما، فلما خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً، حيث أمرهم بالعمرة ليتمتعوا، وأقام على حجه، قال ما قال، وكانوا يعتقدون من قبلُ أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وأكبر الكبائر، فشق عليهم ذلك، وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيّاً، معناه على قرب عهدنا بالجماع، ويمكن أن يكون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمهيداً لعذرهم، وتسكيناً لقلوبهم.
2499- ثم عندنا من ساق الهديَ، ومن لم يسق سواءٌ في الجهات الثلاث، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم-على هذا- محمولٌ على أني " سقتُ الهديَ لأتطوَّع"، وهو الهدي في إطلاق الشرع، فلو تمتع، لصار ما ساقه كفارة، ويخرج عن كونه هدياً، متطوَّعاً به، فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبطل قصده في تحقيق التطوع.
وأبو حنيفة يجعل سوق الهدي إحراماً بالحج، ويتمسك بالحديث.
2500- ومن قال الإفراد أفضل، تعلق بما صح عند الشافعي، من إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، في روايةٍ عن جابر، وحمل ما قدمناه من إظهار التمني، على تمهيد معاذير الصحابة، رضي الله عنهم. والمعنى: إني لو لم أسق، لآثرت موافقتَكم على الإفراد؛ فإن الموافقة أجلب للقلوب، وهي أولى من تحصيل فضيلةٍ، ولهذا يؤثر للمتطوع بالصوم، أن يفطر لمن يبغي منه أن يفطر.
فهذا بيان القولين.
وقد أجمع أصحابنا قاطبة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مفرداً عام الوداع، وقال ابن سُريج: إنه كان متمتعاًً. وهذا مما انفرد به ابن سُريج، فإن من نصر تفضيل التمتع، سلّم وقوعَ الإفراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلّق بتمنيه، كما روينا.
فهذا ما أردناه في تفضيل الجهات، بعضها على بعض.
وفي بعض التصانيف أن الإفراد مقدَّمٌ على التمتعِ والقران، قولاً واحداً، وإنما اختلف القولُ في أن التمتعَ أفضلُ من القِران، أم القِرانُ أفضلُ من التمتع؟ فعلى قولين. وهذا-إن لم يكن سقطةً من ناسخٍ- غيرُ سديد. وإنما المسلك المشهور في التفضيل ما قدمناه.
2501- ومما يجب التفطنُ له أن الشافعي اعتمد فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، روايةَ جابر بن عبد الله، قال: إنه أحسن الرواة سياقة للحديث، وفي روايته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبهم الإحرام أولاً، ينتظر الوحي، فنزل عليه جبريل: أن اجعله حَجة.
فقال بعض أئمة العراق: الأفضل أن يُبهم الرجلُ إحرامه تأسِّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا وَحيَ بعده، ولكن كل إنسان يتفكر بعد إحرامه، ويعلم ما هو الأرفق به والأوفق له، فإن لم يمنع مانعٌ من الإفراد، ابتدره ورآه أفضلَ من غيره.
وهذا عندي هفوةٌ ظاهرةٌ؛ فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمولٌ
على انتظاره الوحي قطعاً، فلا مساغ للاقتداء به في هذه الجهة.

.باب: صوم التمتع بالعمرة إلى الحج:

2502- على المتمتع دمُ شاةٍ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ثم الدمُ يبدله الصوم، وهذه الكفارة مرتَّبة بدليل نص القران، والإجماع.
ونحن نبدأ بما يتعلق بالدم حتى إذا نجز، خضنا في بيان الصوم.
فنقول: إذا تحلل المتمتع من العمرة، وأحرم بالحج، فقد وجب عليه دمُ شاةٍ، إن وجدها؛ فإن وجوبَ الدم منوطٌ في الكتاب بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وإنما يتحقق هذا إذا شرع في الحج، ثم إذا وجب الدمُ، فلا وقتَ له على الخصوص، بعد الوجوب، فله أن يُريق الدمَ قبل العيد، قياساً على سائر دماء الجبرانات.
وخالف أبو حنيفة في ذلك، وقضى بأنه يتأقّت بأيام النحر، وبنى ذلك على مذهبه، في أن دمَ التمتع دمُ نسك، فيتأقت بما يتأقت به القرابين والهدايا.
فإن تحلَّلَ من العمرة، فاراد إراقة الدم، وتفرقةَ اللحم، قبل الشروع في الحج، ففي إجزاء ذلك قولان ذكرهما الأئمة: أحد القولين- أنه يجزىء؛ فإن الكفارة متعلقةٌ بالعمرة والحج، وكل كفارة ماليةٍ نيطت بسببين، فيجوز تقديمُها على السبب الثاني، إذا تقدم الأول، قياساً على كفارة اليمين، فإنها إذا كانت مالية، جاز تقديمها على الحِنث.
والقول الثاني- لا يجزىء، بخلاف كفارة اليمين؛ فإن تلك الكفارة منسوبةٌ في لسان الشرع إلى اليمين، والدم الذي نتكلم فيه ليس متعلقاً بالعمرة، وإنما تعلّقه بالتمتع من العمرة إلى الحج، و هذه خصلة واحدةٌ، لا انقسام فيها، ولا حصول لها، إلا بالشروع في الحج.
التفريع على القولين:
2503- إن قلنا: لا يجوز تقديم الإراقة على الشروع في الحج، فلا كلام.
وإن قلنا: يجوز التقديم على الشروع في الحج، فلو لابس العمرةَ، وأراد الإراقةَ قبل التحلل منها، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ فإن العمرة على القول الذي نفرع عليه أحدُ السببين، فينبغي أن يتم، ثم يقع التقديمُ على السبب الثاني، بعد تمام الأول. والدليل عليه: أن من وكل وكيلاً حتى يعتق عن كفارة يمينه عبداً، ورسم له أن يعتقه إذا اشتغل هو بلفظ اليمين فإذا ابتدأ الموكِّل الحلف، فأعتق الوكيل العبدَ، قبل أن يتم لفظ الحلف، فالعتق لا يقع الموقعَ، وِفاقاً، فكذلك يجب أن تكون ملابسة العمرة، بهذه المثابة.
والوجه الثاني- أن إراقة الدم مجزئةٌ، في خلال العمرة، والفرق أن انعقاد العمرة حكمٌ واقعٌ، وأمرٌ شرعيٌّ ثابتٌ، والإتيان ببعض لفظ اليمين ليس بشيء، فإذا خاض في العمرة، فقد تحقق السببُ، ولا نظر إلى الأعداد، فإن الإنسان قد يحنث بأفعالٍ جمّة، ويجوز تقديم الكفارة على جميعها، بعد ثبوت اليمين.
هذا قولينا في دم التمتع.
وقد مهدنا في المذهب أنه دمُ جبران، فينبني عليه أنه يحرم على المتمتع الأكل منه كما يحرم، الأكل من سائر دماء الجبرانات.
2504- وقد حان الآن أن نتكلم في بدل الدم، وهو الصوم؛ فنقول: الصوم في بدل التمتع مقدّم في نص القرآن، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
والكلام في الصوم يتعلق في التقسيم الأول، بذكر الأيام الثلاثة، ثم نتكلم بعدها في الأيام السبعة، ثم ننظر فيما يقتضيه نظمُ الكلام:
فأمّا الأيام الثلاثة، فإن حقها أن تقع في الحج، كما قال الله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196].
ثم قال الإمام وغيره: لا يجوز تقديمُ هذه الأيام على الشروع في الحج؛ فإنها عبادة بدنية، وهي لا تجب قبل الشروع في الحج والعبادات البدنية لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها. ونحن لما جوزنا تقديمَ كفارة اليمين، إذا كانت بالمال على الحنْث، لم نجوّز تقديم الصيام على الحنْث، والمعنى في ذلك ظاهر.
والعجب أن أبا حنيفة جوز للمتمتع أن يصوم الأيامَ الثلاثة، قبل الشروع في الحج، والدمُ لا يقدمه على الحج، فإنه هدي، والهدي يتقيد بيوم النحر، وأيامِ التشريق.
والحج يتقدم لا محالةَ عقدُه على يوم العيد، ثم إذا شرع في الحج، دخلَ وقتُ صيام الثلاثة، ولو طالت مدة إحرامه المتقدمة على يوم عرفة، فليصم الثلاثةَ متى شاء، وليقدّمها على العيد، والأوْلى أن يقدمها على عرفة؛ فإن صومه، وإن كان صحيحاً من الحاج، فالأوْلى فيه الفطر، كما مضى ذكره، في كتاب الصيام.
ثم قال الأئمة: إذا اتسع الوقت قبل العيد، فهو بالخيار: إن شاء صام الأيامَ الثلاثة متتابعة، وإن شاء، صامها متفرقةً، فالتتابع غيرُ مشروطٍ فيها.
2505- ولو لم يتفق صومُ الثلاثة قبل العيد، فالذي نص عليه في الجديد أن أيام التشريق لا تقبلُ الصيام أصلاً، كيوم العيد، ونص في القديم على أن المتمتع إذا لم يصم قبل النحر، فله أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة، في أيام التشريق.
ثم إذا جوزنا له ذلك، تفريعاً على القديم، فلو أراد غيرُ المتمتع أن يصوم أيامَ التشريق، فهل يصح صومُه، فعلى وجهين- أحدهما- يصح، فإنها إذا قَبِلت صوماً على الاختيار، قبلت كلّ صومٍ.
والثاني: أن قبولها يختص بصوم المتمتع رخصةً له، وفُسحة، ثم إذا لم يتفق صومُ الثلاثة في الحج، ولا في أيام التشريق، على القديم.
وبقي على الحاج طوافُ الزيارة، فإنه من جهة الآخر لا يتأقت، فهو في بقية الحج لا محالة، وكيف لا؟ وقد بقي عليه ركنٌ من الحج.
ثم قال الصيدلاني: لو أراد أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق، وقبل طواف الزيارة، فالذي يأتي به لا يكون أداء، بل يكون قضاء، إن قلنا: الصيامُ في الثلاثة مقضيٌّ، وهو ظاهر المذهب، كما سيأتي الآن شرحُه.
فإن قيل: من عليه الطوافُ في الحج بعدُ، فهلا قلنا: صوم الثلاثة مؤدّى، ما دام عليه طوافُ الزيارة؟ قلنا: الحج المذكور في قوله تعالى {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، هو الحج التام والأيام الثلاثة واقعةٌ في صلبه. هذا ما ذكره الصيدلاني، وعلى هذا القياس إذا قلنا: للمتمتع أن يصوم أيام التشريق على القديم، فالصوم مؤدَّى، وإن وقع بعد التحللين؛ فإن المفهومَ من القرآن تقييد صوم الثلاثة، بأيام الحج، وهي مضبوطةٌ، وأيام التشريق ملحقةٌ بأيام الحج، على بُعد.
فأما النظر إلى البقاء في الإحرام. لامتداد زمان طواف الزيارة، فليس مرادَ الكتاب؛ فإن تأخير الطواف عن أيام التشريق يبعد وقوعه، فليفهم الناظر حقيقةَ ذلك؛ فإني لم أقله رأياً واستنباطاً، وإنما نقلته من فحوى كلام الأئمة.
والذي يوضح ذلك أن الشافعي لما نص في القديم على تخصيص المتمتع بصيام أيام التشريق، عد ذلك رُخصةً في حقه، ولو كان الصيام مقضياً، لما كان لذلك معنَى؛ فإن أيام القضاء لا نهاية لها.
هذا تمام ما أردناه في أداء صيام الأيام الثلاثة، المقيدة في نص القرآن بالحج.
2506- فأما صومُ الأيام السبعة، فإنه مقيد في القرآن بالرجوع، قال عز من قائل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]. وقد اختلف العلماء في معنى الرجوع، ونحن نذكر ما جرى من تلك المذاهب: قولاً لصاحب المذهب، أو وجهاً لبعض أئمة المذهب.
قال الشافعي في قولٍ: "الرجوع هو الفراغ من الحج". وقال في قولٍ: "الرجوع هو الرجوع إلى الوطن"، وفي بعض التصانيف قول ثالث: "إنه الرجوع إلى مكة"، وهذا لا أصل له في مذهب الشافعي. وهو قولُ بعض السلف.
فإن قلنا: الرجوعُ معناه الفراغ من الحج، فلا شك أنه لو أوقع صيامَ السبعة مع الثلاثة في صلب الحج، في اتساع المدة، لم يُعتد بالسبعة؛ فإنها مقدَّمةٌ على وقتها، ولا يجوز تقديمُ العبادة البدنية على وقتها.
وكان يقول شيخي: إذا قلنا: أيامُ التشريق تقبلُ كلّ صوم، فلو أوقع فيها ثلاثةَ أيامٍ من السبعة، والتفريع على أن الرجوع هو الفراغ، فلا يجزئه صومُه؛ فإن العاكفَ بمنى، وإن لم يكن في حج، فهو في أشغال الحج. ولذلك لا يصح منه الإحرام بالعمرة، مادام عاكفاً على مناسك مِنى.
وإذا قلنا: الرجوع معناه الوصول إلى الوطن، فلو فرغ من الحج، واستقبل صوبَ الوطن، فأراد أن يصومَ الأيامَ السبعة، في طريقه، فقد ذكر الصيدلاني وجهين في ذلك:
أحدهما: أنه لا يجزئه؛ فإن صيام السبعة مقيَّدٌ بالرجوع مؤَقَّتٌ به.
والثاني: يجوز؛ فإن إمهاله الوصولَ إلى الوطن رخصةٌ، والتأقيتُ الحقيقي بالفراغ من الحج.
وهذا الوجه عندي هو بعينه تفسير الرجوع بالفراغ، ولكن يرجع الخلاف إلى تفسير القرآن، ولا خلاف في حقيقة المطلب والمذهب من جهة الفقه.
فإذا ثبت ما أردناه في أداء صيام الأيام الثلاثة، وفي أداء صيام الأيام السبعة.
فنتكلم بعد هذا في فوات صيام الأيام الثلاثة، بانقضاء الحج، خالياً عنه، ثم نرتب عليه ما ينبغي.
2507- فنقول: إذا لم يصم المتمتع الأيامَ الثلاثةَ، حتى انقضى الحج، فقد قال أبو حنيفة، فات صيامُ الثلاثة، ولا تقضى.
وظاهر مذهب الشافعي أنه تُقْضَى قياساً على كل صوم مؤقت بوقتٍ يفوت.
ونسب صاحبُ التقريب-في تصرفاتٍ حكاها عن ابن سُرَيج- قولاً إلى الشافعي، مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يقضي الصوم في الأيام الثلاثة، ووجهه على بعده أنه في حكم رخصةٍ عُلِّقت بالسفر، وحقه في السفر، فإذا فاتت، لم تُقض. وهذا في نهاية البعد، وهو غيرُ معدودٍ من المذهب.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن الحاج المتمتع لو مات في الحج، بعد التمكن من الصيام، ونحن نقول: الصيامُ بعد الفراغ من الحج مقضي، فإذا تَقدَّر الموتُ في الحج، فللشافعي قولان حكاهما طوائف من الأئمة: أحد القولين- أن الصوم يسقط، لا إلى بدل.
والثاني: أنه لا يسقط.
التوجيهُ: من قال لا يسقط، احتج بأن الصوم قد وجب، بالشروع في الحج، فلا يصقط من غير تقدير بدلٍ.
ومن قال: إنه يسقط، احتج بأن قال: هو كفارةٌ في مقابلة تمتع، وإنما ينتفع المتمتع إذا تم له النسكان على رفاهيةٍ، وربْحِ سفرٍ، فإذا مات، لم يتحقق ذلك.
وهذا بعيدٌ، والأصح الأول.
ثم هذان القولان يجريان في الدم، إذا كان واجداً له، ولكنه مات قبل انقضاء الحج، ففي قولٍ: نُخرجُ الشاة من تركته. وفي قولٍ: نتبين أنها لم تجب؛ إذ لم يتم الانتفاع بالتمتع. وإذا قلنا: يسقط الصوم، فمعناه أنه تبين عدمُ وجوبه.
2508- فأما صوم الأيام السبعة، فلا يتصور فواتُه في الحياة؛ فإنه إذا دخل وقتُ أدائه، فالعمر وقتُ الأداء، ولكن قد نفرض فواته بالموت، ونقدر فواته أيضاًً تفريعاً على قولٍ بعيدٍ في الحياة، ونحن إن شاء الله تعالى، نأتي بتمام التفريع في حالة الحياة، ثم نذكر التفصيل في الموت.
فإن فات صيام الأيام الثلاثة في الحج، فظاهر المذهب أنه يقضي، وقال أبو حنيفة: لا يقضي، وقد عُزي هذا إلى الشافعي قولاً.
فإن قلنا: إنه لا يقضي، فالوجه ما قال أبو حنيفة، وهو أنه يرجع إلى الدم فإن وجده أخرجه، وإن لم يجده، بقي في ذمته، إلى أن يجد، ثم إذا تحقق الرجوع إلى الدم، يسقط صيام الأيام السبعة؛ فإنه يستحيل تقدير الدَّم، وهو الأصل مع شيء من البدل، ويتفرع على ذلك أن إمكان صيامِ الأيام السبعة موقوفٌ، على جريان صيام الأيام الثلاثة في الحج.
ومما يجب التنبه له: أنا لا نوجب على المتمتع أن يصوم في الحج؛ فإنه مسافر، ونحن نُسقط أداء صوم رمضانَ، وهو ركن الإسلام بالسفر، فما الظن بصوم الكفارة.
وحاصل القول فيه، يرجع إلى أن الأصل الدمُ، على هذا القول. فإن لم يجده، ورام إسقاطه بالكلية عن ذمته، فليصم ثلاثةً في الحج، وإن لم يصم، فلا يقضي، ولكن يستقر الدَّمُ في ذمته على العسر واليسر.
هذا حقيقةُ هذا القول، وهو غير معدودٍ من متن المذهب.
فأما إذا قلنا: صوم الأيام الثلاثة مقضي، فإذا تصرّم الحجُّ ورجع، مثلاً إلى وطنه؛ فعليه قضاءُ الأيام الثلاثة، وأداء الصيام في الأيام السبعة.
2509- وقد اختلف الأئمة في أنه هل يجب التفريق بين الثلاثة، والسبعة؟ فمنهم من قال: لا يجب التفريق، وإذا كان يقعُ تفريقٌ في تصوير أداء الصيام في الحج، فذاك لحق الوقت، وكل ما يقع لحق الوقت، فلا يجب رعايته في القضاء، والدليل عليه أن الصيام في أيام رمضان متتابعة، من جهة الوقت، ولكن ليس التتابع معيّناً فيها، فلا جرم لا يجب التتابع في القضاء.
وإذا كان هذا قولَنا في التتابع، وقد ثبت التعبد برعاية نوع التتابع، وفيه نَصَبٌ بيّن، فالتفريق الواقع في الوقت أولى بأن لا يُعتَقد مستحَقّاً في القضاء. هذا وجهٌ منقاس. فعلى هذا لو صام عشرة أيامٍ وِلاءً أو مفرقة كما شاء، فلا بأس.
ومِن أصحابنا من قال: التفريق يجب مراعاتُه، في القضاء، بين الثلاثة والسبعة. وهذا وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا وجه له.
والتفريع عليه يستدعي تجديدَ العهد بوقت الأداء، في النوعين من الصيام، وهذا يختلف بقولينا: تقبل أيام التشريق الصيام، وبالتفصيل في معنى الرجوع، وقد مضى ذلك موضحاً.
فنعود، ونقول: من ذهب إلى إيجاب التفريق، اختلفوا: فمنهم من قال: يكفي أصل التفريق، ولا نلتزم مضاهاة التفريق الذي يقع بين الصومين، في الأداء؛ فعلى هذا يصومُ ثلاثة متتابعة أو متفرقة، ثم يفطر بعد نجاز الثلاثة يوماً، ويصوم السبعةَ. وإن زاد على يوم، فذاك إليه.
والغرض أن ينفصل اليوم الأخير عن اليوم الأول من السبعة بفطرٍ. هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من لم يكتفِ بإيقاع أصل التفريق، واشترط أن يكون التفريق مضاهياً لما كان يقع في أداء الصومين. وهذا الوجه أمثل، وإن كان الأصل الذي عليه التفريعُ ضعيفاً، بالغاً في الضعف، وذلك أنا إذا التزمنا التفريقَ في القضاء، لأجل التفريق في الأداء، فينبغي أن نجعل التداركَ في هذا محاكياً للأداء، فعلى هذا يختلف المذهب في المقدار المرعي. فإن قلنا: أيام التشريق لا تقبل الصيامَ، ومعنى الرجوع الفراغُ من الحج، فقد كان يتعين تخلل أربعة أيامٍ بين آخر الثلاثة، وأولِ السبعة. هذا هو الأقل الذي لابد منه؛ فإنه يضم إلى يوم العيد الأيام الثلاثة بعده، فالجميع أربعة أيام.
وإن فرعنا على أن أيام التشريق لا تقبل الصيام، والرجوعُ معناه الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق في القضاء بأربعة أيامٍ، كما ذكرناها، ومدةِ الرجوع إلى الوطن، على الاقتصاد في السفر.
وإن قلنا: أيام التشريق كانت تقبل الصيام، والرجوعُ هو الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق بمدة الرجوع فحسب، فإننا ننزل التفريق المستحَق على أقل الإمكان، فإن زاد، لم يضرّ.
وإن قلنا: أيام التشريق تقبل الصيامَ، والرجوعُ هو الفراغُ، فكان لا يقع التفريق بين النوعين في تصوير الأداء، فعلى هذا ذكر الشيخ أبو علي وجهين:
أحدهما: أنه لا يجب التفريق، نظراً إلى الأداء.
والثاني: يجب التفريق، فإن الثلاثة كانت تنفصل عن السبعة، بحالتين متغايرتين، إذ أحدُ النوعين في الحج، والثاني بعد الفراغ منه، فينبغي أن نُقيم مقامَ ذلك تفريقاً بين النوعين بفطرٍ في يومٍ.
وهذا في نهاية الضعف.
2510- ومن بديع الأمر ضراوة الأئمة بتعديد هذه الوجوه الضعيفة، وأصلها استحقاقُ التفريق، ولا مساغ له من جهة المعنى، وليس مع القائل به فرقٌ بين التتابع في قضاء رمضان، وبين التفريق فيما نحن فيه.
ولكن حق هذا المجموع أن يحوي الوجوه المشهورة، والبعيدة، مع التنبيه على حقيقة كل مسلك.
فرع:
2511- إذا قلنا: التفريق مستحق، فلو صام عشرةَ أيامٍ وِلاء، فالمذهب أنه يجب صومُ يومٍ آخر، إذا اكتفينا بأصل التفريق، ولا يقع الاعتداد باليوم الرابع.
ومن أصحابنا من قال: لا يعتد بشيء من الأيام السبعة، بعد الثلاثة، ذكره بعضُ المصنفين، وأورده صاحبُ التقريب، ولولا إيراده لما حكيته، وكأن هذا القائل يعتقد أن التفريق إذا لم يقع بفطرٍ، لم يعتد بشيء من السبعة. وهذا باطل قطعاً؛ فإنه إن نوى يومَ الرابع التطوعَ، أو قضاءً كان عليه، كفى ذلك في التفريق وِفاقاً، فما لنا نشتغل بما لا خفاء ببطلانه.
وقد نجز تفصيل القول في حال الحياة.
2512- ونحن الآن نبتدئ القول فيه إذا لم يصم في الحياة حتى مات.
فنقول: إذا انتهى إلى وطنه، ومات، فلا يلزمه شيء، والحالة هذه، وإن حكمنا بأن الرجوع هو الفراغ من الحج، والسبب فيه أن السفر من الأعذار التي يجوز ترك صوم رمضان لأجله، فلو دام السفر إلى الموت، وقد اتفق تركُ صومِ رمضانَ فيه، فلا شيء على الذي مات، ودوام السفر بمثابةِ دوام المرض، وقد مضى تقرير ذلك في موضعه، من كتاب الصوم.
فصيام الأيام الثلاثة في الحج وإن كان ثابتاً على الغرباء، فلا يَزيد تأكّدُه على تأكّد صوم رمضان، أداءً، واستدراكاً.
وإن أقام صاحب الواقعة أياماً، تسع صيام العشرة، على التفصيل المقدّم، والتفريعُ على ظاهر المذهب، في إيجاب قضاء الأيام الثلاثة، فإذا لم يتفق استدراكُها، وصومُ السبعة، حتى مات، فالشافعي نص على أنه لا يجب شيء: لا الفدية، ولا نيابة الوليّ. حكاه صاحب التقريب، وهو مذكورٌ في بعض التصانيف.
والمذهب المشهور أنه يجب شيء إذا جرى الموت، كما وصفناه. ووجه المذهب بيّن، وهو قياسُ كلِّ صومٍ واجبٍ، اتفق تأخيره، من غير عذرٍ مستمر.
ووجه النص الغريب أن الفدية إنما تثبت في صوم رمضان، كما أن الكفارة إنما وجبت بسبب إفساد الصوم فيه، والفدية هي الكفارة الصغرى، فلا يعدّى بها موضعها، اعتباراً بالكفارة العظمى.
وأما سقوط نيابة الوليّ، فتعليله هيّن.
التفريع:
2513- إذا لم نوجب شيئاً، فلا كلام، ولا عود إلى هذا القول.
وإن أوجبنا، ففي الواجب أقوالٌ جمعتها من الطرق- أحدها: أن وليّه يصوم عنه، وهذا قولٌ حكيته وأجريته، في صوم رمضان، وهو ضعيفٌ.
والقول الثاني- أنا نقابل الصوم في كل يومٍ بمدٍّ من الطعام، كدأبنا في صيام رمضانَ، على القول الجديد. والقول الثالث: حكاه صاحب التقريب وغيرُه: أنا نرجع إلى الدم، فنوجب دمَ شاةٍ، من تركته، فإنه أولى، وأقرب في هذا الصوم، من الأمداد، فيجب في مقابلة الأيام العشرة دمُ شاةٍ.
وذكر العراقيون قولاً هو راجع إلى هذا، فقالوا: للشافعي قولٌ: "إنه يجب في يومٍ ثلث شاة، وفي يومين ثلثا شاة، وفي ثلاثةٍ فصاعداً إلى تمام العشرة شاة"، والأيام تنزل منزلةَ الشعرات التي يأخذها المحرم من نفسه، وكذلك أعداد من الأظفار، وأعدادٌ من الجمرات. وستأتي هذه الأصول موضَّحة في مواضعها-إن شاء الله تعالى-.
ثم لما ذكروا هذا القولَ، ذكروا معه أن كل يوم مقابَلٌ بمد في قولٍ، أو بدرهمٍ في قولٍ، إلى الثلاثة، ثم فيها إلى تمام العشرة دمٌ. وهذه الأقوال تجري في الشعرة والشعرتين ونظائرِها، وهي منشأة من اعتقاد الرجوع إلى الدم إذا فرض ترك ثلاثة أيام، فصاعداً، والتردد فيما دون الثلاثة.
فهذا بيان ما قيل، فيما يلزم المتمتعَ، إذا مات بعد الوصول إلى الوطن، وجريان أيامٍ بعد الوصول، يمكن تقدير الصوم فيها، من غير عذر، وقد انتهى بذكرها أقصى الغرض في أحكام التمتع.
ثم ذكر المزني في آخر الباب طرفاً من القول في طواف الوداع، فلم أرَ ذكره؛ فإن ذكر طواف الوداع، قبل بيان أركان الحج بعيدٌ عن الترتيب المطلوب.