فصل: باب: صفة الأذان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: صفة الأذان:

677- لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وشرع الجماعات في الصلوات، وانتشر الإِسلام، وكثر المسلمون فكان منهم المكتسبون والملابسون لما يتعلق بإِصلاح المعايش، وكانوا لا يشعرون بدخول المواقيت فتفوتهم الجماعة، شق ذلك عليهم، واحتاجوا إِلى أمارة يعرفون بها الوقت، فاجتمعوا في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشْتَورُوا، فقال بعضهم: نضرب بالناقوس، وقال آخرون: تلك عادة النصارى، وقاك آخرون: نوقد بالليل، وندخّن بالنهار، فقال آخرون: تلك عادة المجوس، ثم تفرقوا، ولم يجتمعوا على رأي. قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري: كنت بين النائم واليقظان إِذ نزل ملك من السماء عليه ثيابٌ خضر، بيده ناقوس، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قلت: أضرب به في مسجد رسول الله، فقال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: بلى، فاستقبل القبلة، وقال: الله أكبر. وذكر الأذان، ثم استأخر غير بعيد، وأقام، فلما أصبحتُ أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذكرتُ له ذلك. فقال: رؤيا حق، ورؤيا صدق إن شاء الله، ألقِه على بلال، فإنه أندى صوتاً منك، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي لأؤذن مرة، فأذّنت، فلما سمع عمر صوته، خرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأى، فقال: الحمد لله، فذلك أَثْبَتُ. ثم أتاه بضعةَ عشر من الصحابة قد رأى كلهم مثل ذلك. فهذا أصل الأذان.
واعتمد الشافعي في باب الأذان حديثَ أبي محذورة، قال عبد الله بنُ مُحَيْريز: كنت في حجر أبي محذورة، فلما أردت الخروج إِلى الشام قلت: إِني خارج إِلى الشام، وإِني أخشى أن أُسأل عن تأذينك، فأخبرني به، فقال: نعم! كنت عاشر عشرة، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، ونزل منزلاً، فأذن بلال، فجعلْنا نصرخ عليه ونستهزىء به، فبعث إلينا رسول الله، حتى وقَفْنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع، فأشاروا إليَّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم وحبسني، ثم قال: قل الله أكبر-ولا شيء أكره إليّ من رسول الله ولا مما يأمرني به- وسَرَدَ الأذان، ونصَّ على الترجيع بالأمر بالشهادتين سراً، ثم قال: ارجع ومُدَّ من صوتك، وقل أشهد أن لا إله إِلا الله، ثم ذكر هكذا إِلى آخر الأذان، ثم أدناني فمسح يده على ناصيتي ووجهي، فما بلغت يده صدري حتى عادت تلك الكراهية كلها محبّةً، ثم ألقى إِليَّ صُرةً فيها دُريهمات، فقلت: يا رسول الله اجعلني مؤذن مَكة، فبعثني إِلى عتّاب بن أَسيد، فكنت أؤذن عنده. فهذا هو الأصل في الأذان.
678- ثم الذي نرى تقديمه القول في أن الأذان من السنن، أم من فروض الكفايات؟ وقد ذكرَ بعض المصنفين في المذهب: أنّ الأصحّ الذي، ذهب إِليْه جمهور الأئمة أن الأذَان من فروض الكفايات، على ما نفصله في التفريع، وقال: ذهب أبو سعيد الإصطخري إِلى أن الأذان سُنة، فحكي هذا حكاية الشَّوَاذِّ والنوادِر.
وقال الصيدلاني: الأذان عندنا مستحب، ولم يحك عن أصحابنا إِلا هَذا، قال: وذهب بعض أهل العلم إِلى أنه فرض على الكفاية.
والمذهب الذي عليه التعويل ما ذكره الشيخ أبو بكر.
ثم نستكمل التفريع على مَا ذكره بعض المصنفين، ونذكر ما يتحصل آخراً.
فإِن قلنا: إِنّه فرض على الكفاية، فقد قال هذا الرجل: الصحيح أنه يجب في اليوم مرة واحدة في كل محلة، والذي يقرب في ضبط هذا أن يترتب المؤذنون في محالّ البلدةِ، بحيث لا يبقى قطرٌ منها لا يبلغها صوت مؤذن، وَحُكي عن عطاء أنه أوجب الأذان على هذا الترتيب على الكفاية في اليوم والليلة خمس مرات. ولم أر هذا المذهب مَعْزياً إِلى أحد أصحابنا.
قال: وذهب ابن خَيْران إِلى أن الأذان يجب في كل جمعة مرة.
فهذا ما حكاهُ في فرض الكفاية وتفريعه.
ونحن نُوجه هذا، فإِن ما يعد من فروض الكفايات سيأتي مجامعه في كتاب السير، ولكن من أظهر فنون فروض الكفايات ما يتعلق باستيفاء الشعائر الظاهرة المستمرة في الشريعة، وهذا يظهر في شعارٍ لو خلا عنه قُطْر، لتنادى الخلق بالإِنكارِ والاستنكارِ، وقد صح أن رد جواب المسَلِّم من فروض الكفايات، من حيث إِن ذلك من شعائرِ الإِسلام، فالأذان بذلك أولى. ثم لا يُؤْذِنُ الشعار بالدَّرْس إِذا كان مما يقامُ في اليوم والليلة مرّة واحدة.
وأما وجه ما ذكره ابن خَيْران، فهو أن الأذان دعاء إِلى الجماعات، وإِنما تجب الجماعة على الأعيان، مع الاختصاص بأوصافٍ معروفة يوم الجمعة، فاختص الأذان الذي هو دعاء إِليها بكونه فرضاً على الكفاية.
وسمعت شيخي يفرِّع على هذا الوجه، ويذكر فيه اختلافاً، ويقول: من أئمتنا من قال: الأذان فرضٌ يوم الجمعة، وهو الأذان الذي يقام بين يدي الخطيب؛ فإِنّه من الشعائر المختصة بصلاة الجمعة، فلا يمتنع القضاءُ بفرضيته كالجماعة، والخطبةِ، وقيامِ الخطيب في الخطبتين، وقعودِه بينهما. ومنهم من قال: يسقط بالأذان الذي يؤتى به لصلاة الجمعة، وإِن لم يكن بين يدي الخطيب، واتفق هؤلاء أن الأذان ينبغي أن يكون لصلاة الجمعة، ولا يسقط بأذانٍ لصلاة أخرى في يوم الجمعة، فإِن ذلك عند هذا القائل مختص بصلاة الجمعة على الخصوص.
ثم لا يكاد يخفى معنى فرض الكفاية فيما ذكرناه. فإِذا قام بالأذان-الذي يبلغ أهلَ البلدة- رجل أو رجال، سقطت فريضة الأذان عن الباقين، وسيأتي فصل بعد ذلك في أنه إِذا سقط فرض الكفاية على رأي من يقول بالفرضيّة، فكيف الترتيب في استحباب الأذان لآحَاد الناس بعد فراغ المؤذنين المسقطِين للفرض؟
679- فإِن فرعنا على ما كان يصححه شيخي، وقطع الصيدلاني به، وهو أن الأذان سنة، فلو أطبق أهل ناحيةٍ على تركه، وتعطيل المساجد منه، وقُدِّمَ إِليهم نذير، فلم يقبلوا واستمروا عليه، فهل يقاتَلون؟ ما ذهب إِليه الأصحابُ أنهم لا يقاتَلون، وحكَوْا عن أبي إسحق المروزي أنه قال: إِنهم يقاتلون، وإِن حكمنا بأن الأذان في وضع الشريعة سنة، واستدلّ هؤلاء بما روي أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في زمانه كانوا إِذا مَرُّوا بناحية، ولم يسمعوا صوت الأذان، صابحوا أهلها بالقتال. وربما تعلقوا من طريق المعنى بأن النفوس لا تطمئن إِلى إِماتة الشعائر الظاهرة إِلاَّ إِذا أضمروا ردَّ الشريعة، واعتقدوا بطلانها.
ونحن نقول: أما الخبر، فلا حجة فيه؛ من جهة أنهم كانوا يَرَوْن ترك الأذان علامةً في أن أهل الناحية من الكفار؛ إِذْ كانوا قاطعين بأن قابلي الإِسلام، ومصدقي الرسل في علو الدين وصدمة الشريعة، وصفوة الملة، كانوا لا يتركون الأذان، ولم يكن ذلك عندهم-في حُكم عرف الزمان- أمراً مظنوناً، بل كان مقطوعاً به، والدليل عليه أن أبا إسحق لما رأى نَصْب القتال إِنّما رآه إِذا أُنذروا، فامتنعوا، واستمروا، وكان رسول الله وأصحابه يشنون الغارة على أهل النّاحية-إِذا علِموا أن لا أذان فيهم- من غير إِنذار وإِعلام، وإِشعار.
وأما ما ذكروه من إِنذار ترك الشعائر بالخلو عن الاعتقاد، فليس وراءه حاصل؛ فإِنهم إِذا اعتقدوا كون الأذَان سنة، وتناجى بذلك الخواص والعوام، وشهروا فيما بينهم، وانضم إِلى ذلك عسر القيام بدرك مواقيت الصلاة، فينبني عليه ترك الأذان على تدريج، ثم يستمر، فحملُ الأمر على وجه واحد،-سيما مع إِطباق القوم على بذل كنه الجهْدِ في إِقامة فرائض الشرع- تحكُّمٌ، وقتلُ النفوس، وسفكُ الدماء من غير ثَبَت لا سبيل إِليه.
ثم الذي نختم هذا الفصل به أن هذا المحكي عن المروزي على قولنا: إِن الأذان سنة، وهذا مُضطرب؛ فإِن كل ما يتعلق بتركه في عاقبة الأمر قتلٌ، وهو نهاية العقوبات، فيستحيل القضاء بكونه سُنة، ومن حقيقة السنن جواز تركها، وما يجوز تركه يستحيل أن يَجُرَّ قتلاً.
نعم: إِن قال ذلك قائلٌ، على قولنا: إِنّه من فروض الكفايات-فإِذا عطله أهل ناحية، كانوا بمثابةِ وَاحدٍ عطل فرضاً من فرائض الأعيان؛ إِذ الحرج ينال الكافة من فرض الكفايات، كما ينال الحرجُ الواحدَ في فرض عينٍ- كان مُتَّجِها، فإِذاً، القتال باطل، ثم المصير إِليه على قولنا: الأذان سنة، لا أصل له أصلاً.
وليس مَا ذَكَرناه من طريق رد مذهبٍ بمسلك الفقه في أساليب الظنون، ولكن الكلام في نفسه غير منتظم.
فهذا تفصيل المذهب في أن الأذان سنة، أو فرض كفاية.
والقول في الإِقامة كالقول في الأذان في جميع ما ذكرناه.
فصل:
قال: "ولا أحب أن يكون في أذانه وإقامته إلا قائماً مستقبل القبلة... إلى آخره".
680- ثَم ينبغي للمؤذن أن يؤذن قائماً، مستقبل القبلة، ولو ترك القيام والاستقبال، أو ترك أحدهما، فذكر شيخي وجهين في الاعتداد بأذانه، وذكرهما بعض المصنفين. وظهر ميله إِلى أنهما شرط في الأذان في كتابه المترجم "بمختصر المختصر"، وكان يوجه ذلك بأن شرائط الشعار متلقى من استمرار الخلق على قضية واحدة، وهذا ما بنى عليه الشافعي مذهبه في إِيجاب القيام في الخطبتين، والقعود بينهما في يوم الجمعة.
والأصح القطع بأن القيام والاستقبال ليسا مشروطين في الأذان.
681- ثم إِذا فرعنا أن الأَوْلى أو المشروط هو الاستقبال، قلنا: لو التوى يميناً وشمالاً في الحيعلتين، كان حسناً، حتى يُسمعَ النواحي، وكان ذلك معتاداً مألوفاً من دأب المؤذنين في العُصُر الخالية، ولكن لا ينبغي أن يستدير على المئذنة، بل يُقر قدميه قرارهما، ويلتوي يميناً وشمالاً بقدر التفات المسلم في آخر الصلاة.
ثم اختلف الأئمة، فقال الأكثرون: يقول: حيَّ على الصلاة مرتين عن يمينه، ثم يقول: حيَّ على الفلاح مرتين عن يساره، وهذا ما عليه العمل، وكان القفال يرى أن يقسّم الحيعلتين على الجهتين، فيقول: حيَّ على الصلاة عن يمينه، ثم حيَّ على الصلاة عن يساره، ثم حيَّ على الفلاح عن يمينه، ثم حيَّ على الفلاح عن يساره.
ثم الذي ذهب إِليه الأصحاب استحباب الالتفات على الوجه المذكور في الإِقامة.
وحكى بعض المصنفين أن القفال ذكر مرّة أن الالتفات غير محبوب في الإِقامة.
وهذا غير صحيح، والرجل غير موثوق به فيما ينفرد بنقله.
فصل:
682- الترجيع مأمور به عندنا في الأذان، وهو أن يقول عقيب التكبيرات الأُوَل في صدر الأذان: أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، وكذلك يقول: أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، ولا يمد صوته، ثم يعود ويرجع إِلى سجيته في رفع الصوت، فيقول مادّاً صوته: أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، وأشهد أن محمداً رسول الله مرتين.
والترجيع منصوص عليه في قصة أبي محذورة.
وأما أبو حنيفة فإِنه لم ير الترجيع، وحمل حديث أبي محذورة على أن النبي عليه السلام كرر الشهادتين سرداً على أبي محذورة لتأكيد حفظه في التلقين؛ إِذْ كان صبياً، ثم لما رآه استظهرَ، أَمَرَه بأن يرجع ويمدّ صوته، فهذا طريقه.
وأما مالك فقد حكى الصيدلاني من مذْهبه أَنّهُ كان يرى الترجيع، ولا يزيد في كلمات الأذان، وكان يقول: ينبغي للمؤذن أن يقول مرة واحدة أشهد أن لا إِله إِلا الله، ثم مرة أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يرجّع فيمد صوته، فيقول: أشهد أن لا إِله إِلا الله رافعاً صوته مرة واحدة، أشهد أن محمداً رسول الله مادّاً صوته.
وما ذكره الشافعي أقصد الطرق، ومعتمده قصة أبي محذورة، وهي مدوَّنة في الصحاح.
وما قدره أبو حنيفة من ترديد الكلام لاستمرار حفظ المتلقن غيرُ صحيح من أوجه: أحدها: أنه خصص كلمتي الشهادتين بهذا، وعُسْرُ الحفظ، والتلقين كان متوقعاً في غيرهما.
والثاني: أنه صح أن أبا محذورة كان يرجّع في أذانه طول زمانه، وهذا قاطع في أنه فهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ بالترجيع.
والثالث:وبه يبطل مذهب مالك- أن أبا محذورة قال: "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة" وأراد أصناف الكلِم في الأذان، وإِنما يبلغ هذا العدد إِذا حُسب الترجيع من الأذَان وَكُرِّرَ مرتين، فاستدّ مذهب الشافعي على قصة أبي محذورة، وعلى ما فهمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه وأخبر عنه.
683- ثم اختلف أئمتنا في أن الإِتيان بالشهادتين بالصوت الرخيم ركن لا يعتد بالأذان دونه أم لا؟ فمنهم من قال: ليس بركن للأذان، ولعله الأصح؛ فإِن مبنى الأذان على الإِسماع، والإِبلاغ، فإِذا لم يشترط ذلك في هذا، دل على أنه ليس رُكنَ الأذان.
ومنهم من قال: هو ركن الأذان، لما روي عن أبي محذورة أنه قال: "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسعَ عشرةَ كلمة" فَعَدَّ ما فيه الكلام من متن الأذان.
وذكر بعض المصنفين، أن التثويب على قولنا: "إِنّه مشروع" ليس ركنَ الأذان وجهاً واحداًْ، وإِنما الخلاف في الترجيع، وهذا إِن صح، فسببه أنه صح في الترجيع عَدُّه من كلم الأذان في قَرَن، ولم يصح مثله في التثويب، وفي التثويب عنْدي احتمال، من جهة أنه يضاهي كلم الأذان في شرع رفع الصوت به، وهو أيضاً موضوع في أثناء الأذان. والأظهر في الترجيع أنه غير معدود من أرْكان الأذان.
684- ومما يتم القول به في الترجيع، أن المصلي في الصلاة السِّرِّيَّة يقتصر مع سلامة حاسة السمع على إِسماعه نفسَه، والمُرَجِّعُ فيما يأتي به في صوت خفيض كيف حده؟ كان شيخي يقول: ينبغي أن يُسمع من بالقرب منه، أو أهل المسجد إِن كان واقفاً عليهم، وكان المسجد مقتصِدَ الخِطّة، وهذا فيه احتمال ظاهر، ويحتمل أن يكون المرجِّع كالقارىء في الصلاة السرية، ويحتمل أن يكون فيه رَافعاً صوته قليلاً، كما ذكره شيخي. وهذا ينشأ مما حكي عن مالك، كما ذَكرناه؛ إِذ عدَّ الترجيعَ من كلم الأذان، ولم يزد في الأذان، ويشبه عندي على هذا أن يقال: يكون صوت المرجع في ترجيعه كصوت الذي يؤذن في نفسه؛ وسيأتي فصلٌ في تعليم الأذان يحوي ذلك وغيره.
ثم الذي يؤذن في نفسه لا يقتصر على إِسماعه نفسَه، كما سيأتي إِن شاء الله.
فصل:
قال: "وأحب رفع الصَّوت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك".
685- الأذان مشروع للإِبلاغ والإِسماع، والأصل الذي ذكرناه في الأذان من اجتماع الصحابة واشتوارهم، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألقهِ إلى بلال فإنه أندى صوتاً منك» قاطعٌ في أن الغرض من الأذان الإِسماع والتنبيه على دخول المواقيت، وهذا يقتضي لا محالة رفعَ الصوت، وإِذا كان كذلك، فلو لم يرفع صوتَه بحيث يحصل الإِبلاع، فمقتضى هذا الأصل أنه لا يعتد بالأذان، وإِذا سبق الفقيه إِلى اعتقاد ذلك، ورامَ الجريانَ على مراسم هذا المذهب في محاولة هذا الضبط في مكان الانتشار، فسيطرأ عليه التشوّف إِلى ضبط أقل ما يُراعي في إِجزاء الأذان مما يتعلق برفع الصوت، وهذا يستدعي تقديمَ أصل مقصودٍ في نفسه، وبذكره ينتطم ما نريد.
فنقول: إِذا كان في المسجد مؤذن راتب، فأذن، وحضر من الجمع من حضر، فلا شك أن الذين حضروا يكتفون بالأذان الراتب، والإِقامة الراتبة، ولا يؤذن واحد منهم.
ولو صلى الناس في الجَمْع الأول، ثم حضر جمع آخر، وأرادوا عقد جماعة في ذلك المسجد بعينه، فقد قال صاحب التقريب: لا ينبغي أن يؤذن مؤذنُ الجمع الثاني مع الإِسماع والإِبلاغ؛ فإِن ذلك إِن فُرِضَ، جَرَّ لبساً، وتعاقبت الأصوات، والتبس الأمرُ.
ولكن هل يؤذن مؤذنٌ في نفسهِ من غير إِبلاغٍ في رفع الصوت؟ ذَكر صاحبُ التقريب نصوصاً مضطربة في ذلك، وانتزع منها قولين:
أحدهما: أنهم يكتفون بما سبق من الأذان الراتب؛ فإِنه يتضمن دعاء كل من يحضر أولاً وآخراً إِلى انقضاء الوقت، فليقع الاكتفاء به.
والقول الثاني- أنه يؤذن المؤذن في نفسه ولا يبالغ في رفع الصوت، ويقيم، فهذا على قولٍ أذان ليس فيه إِبلاغ في رفع الصوت. والقول الثاني حكاه المزني عن الشافعي في الأذان والإِقامة من غير إِبلاغ في الرفع، في المختصر الكبير.
قال صاحب التقريب: هذا فيمن يحضر المسجد الذي جرى فيه الأذان، وقد انقضى الجمع الأول، فأمَّا إِذا أذن مؤذنو المصر على مواضعهم، وبلغت أصواتُهم الناسَ في رحالهم، فأرَاد من لا يحضر المسجد أن يصلي في بيته، فهل يؤذن ويقيم؟ أم يكتفي بأذان المؤذنين في المصر؟ قال: هذا محتمل، يجوز أن يقال: يكتفي بأذان البلد، ويجوز أن يقال: يؤذن ويقيم.
686- وممّا نذكره مرسلاً، أن المرأة لا تؤذن رَافعةً صوتَها، ولو أذنت في جمع الرجال لا يعتدّ بأذانها وفاقاً، وذلك يناظر حكمنا بامتناع اقتداء الرجال بها، وإِن كانت صلاتها صحيحة، والقياس أن من صحت صلاتُه، صح الاقتداء به، ولكن ظاهر النص أن المرأة تقيم ولا ترفع صوتها، وكان شيخي يقطع بأن المرأة ليست مأمورة بالأذان، وهذا ما قطع به العراقيون.
وحكى صاحب التقريب عن الشافعي في الأم أنه قال: "ليس على النساء أذان، وإِن جمعن الصلاة، فإِن أذَّنَ وَأقمن، فلا بأس، وإِن تركت الإِقامة، لم أكره لها مِن تركها ما أكره للرجال". هذا لفظ الشافعي في "الأم". ومساقه مشعر بأمور منها: أن الإِقامة على الجملة مَأمور بها في حقها؛ فإِنه قَدَّر في تركها كراهية، وحطّ قدرها عن كراهية التركِ في حق الرجال، وتَخصيصُه الإِقامة بالذكر في الكراهية دَليل على فصله بين الإِقامة والأذان، وهو مشعر بأن لا كراهية عليها في ترك الأذان، وقول الشافعي في الأذان والإِقامة "لا بأس" مشير إِلى أن الأمر لا يظهر في الأذان والإِقامة جميعاً، فهذه وجوه في التردد.
ونظم الأئمة من مجموع ذلك أقوالاً: أحدها: أن المرأة لا تؤذن وتقيم.
والثاني: أنها تؤذن وتقيم.
والثالث: تقيم ولا تؤذن، ثم إِن أذنت لم ترفع صوتها.
ومما نذكره مرسلاً أن الرجل إِذا انفرد بنفسه في الصلاة، وكان ذلك في موضعٍ لم ينته إِليه صوتُ مؤذن، فظاهر المذهب، أنه يؤذن ويقيم، وهو المنصوص عليه في الجديد.
وفي بعض التصانيف قولٌ محكي عن الشافعي في القديم، أنه لا يؤذن المنفرد ولكنه يقيم.
وقال بعض أئمتنا: إِن كان يرجو حضور جمعٍ، فالأذان مأمور به، وإِن كان لا يرجو، فلا يؤذن.
وإِذا رأينا له أن يؤذن، فالظاهر أَنا نُؤثر له رفعَ الصوت، والأصل فيه ما روي أن النبي-عليه السلام- قال لأبي سعيد الخدري: "إنك رجل تحب الغنم والبادية، فإذا دخل عليك وقت الصلاة فأذّن وارفع صوتك؛ فإِنه لا يسمع صوتك حجر ولا مَدَر إِلا يشهد لك يوم القيامة".
ومن أئمتنا من قال: إِن كان يرجو حضورَ جمع، رفع صوته، وإِن كان لا يرجو أذَّنَ في نفسه، وحديث أبي سعيد الخدري وقول الرسول له ليس نصاً في حالة انفراده؛ فإِنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لذلك، وليس يبعد عن الحال أنه كان يتبدّى مع عُصبة من خدمه وحشمه.
687- فهذه مسائل أرسلناها وحكينا ما قيل فيها، ونحن الآن نبغي فيها ضابطاً، ونؤثر تخريج محل الوفاق والخلاف عليه إِن شاء الله تعالى.
فالغرض الأظهر الذي انبنى عليه أصل الأذان إِظهار الدعاء إِلى الصلاة، وإِعلام الناس دخول الوقت، والغرض من الإِقامة إِعلام من حضر أو قرب مكانُه ممن يحضر أَنَّ الصلاةَ قد قامت، وهذا واضح بينٌ. ثم من اندرج تحت الدعاء وحضرَ الجمع، فهو مدعوٌّ مجيب، فلا يؤذن ولا يقيم، ومن لم يحضر أصلاً، ولزم موضعَه، ولكن بلغه الدعاء العام، فالأصح أنه يؤذن، ولكن ليس أذانه إِقامةَ الشعار الذي وصفناه؛ فإِنه ليس يَطلبُ دعاءَ جمع، وقد قام بالدعاء العام المرتَّبون له.
وكذلك المنفرد الذي لا يرجو حضور الجماعة، فإِن لم تبلغه دعوةٌ عامة، ففيه خلاف حكيته، وهو بالأذان أولى. ثم ينتظم من كونه أولى، مع ما تقدم في حق من بلغته الدعوة أقوال: أحدها: يؤذنان، والثاني: لا يؤذنان، والثالث: يؤذن المنفرد، حيث لم تبلغه دعوة، ولا يؤذن من بلغته دعوة.
ولا ينبغي أن يختلف القول في المنفرد الذي لم تبلغه دعوة وهو يرجو حضور جمع. ثم من لم تبلغه الدعوة وهو يرجو حضور جمع، فنرى له رفعَ الصوت، ومن لا يرجو، ولم تبلغه دعوة ففي رفع الصوت تردّد وخلاف، ومن بلغته دعوة وهو يصلي في رَحلِه، ولا يقصد جمع طائفة، ففي رفع الصوت خلاف، وهو أوْلى بألاّ يرفعَ صوته.
ويترتب من المسألتين ثلاثة أوجه: فحيث نقول: لا يرفع، لا نكره رفع الصوت، ولا ننهى عنه، بل هو أولى قطعاً، وإِنما الكلام في الاعتداد بالأذان من غير رفع الصوت، وقد يُنهى عن رفع الصوت في بعض الصور، كما نصّ عليه، فالمرأة ممنوعة من رفع الصوت منعَ تحريم. ومن حضر الجمع الثاني في المسجد الذي أقيم فيه الأذان الراتب والجمع الراتب، لا يحرم عليه رفع الصوت بالأذان، ولكن الأولى ألا يرفع.
ثم حيث حرّمنا الرفع-وهو في حق المرأة- فهل يشرع الأذان؟ فيه التردد المقدم، والأظهر أنه لا يشرع، وحيث ننهى ولا نُحرِّم، فهو في الأذان من غير إِبلاغ في رفع الصوت أوْلى، فينتظم في الصّورتين في شرع الأذان من غير رفع الصوت ثلاثةُ أوجه، من حيث ترتُّبُ صورةٍ على أخرى في الأوْلى، وكذلك يجري ترتيبُ كل مسألةٍ على الأخرى من طريق الأولى.
ثم في كل صورة استحببنا الأذان، فلا شك أنا نؤثر فيها الإِقامة، وحيث لا نرى الأذان من جهة كون الإِنسان مدعوّاً مجيباً في الجمع الأول، فلا إِقامة، وحيث لا نرى الأذان في غير هذه الصورة من الصور المقَدَّمة، ففي شرع الإِقامة خلاف.
فهذا ضبط هذه المسائل.
688- وقد خرج منها أن أصل الأذان الإِبلاغ، وما عداه مما شرعناه إِذا لم يكن فيه معنى الإِبلاغ، ففي أصل شرعه تردد، ثم من يراه يثبته تشبيهاً بما هو للإِبلاع، ثم ما هو للإِبلاغ يتعين فيه الوفاء بتحقيق الإِبلاع، وذلك برفع الصوت، والذي ليس إِبلاغاً لابدّ فيه من نَوْع رفعٍ، على ما سنشير إِلى ضبطه.
فإِن قيل: فما الذي تراعونه في أقل درجات رفع الصوت في الأذان من المبلِّغ؟
قلنا: ينبغي أولاً: أن تبلغ أصواتُ المؤذنين أهلَ الناحية، فإن قام بذلك رجل واحد جَهْوَرِيُّ الصوت، كفى، وإِن قام به عدد في المحالّ، جاز، كما تقدّم ذلك، حيث ترددنا في أَنَّ الأذان فرض على الكفاية أم لا.
ثم الغرض من إِبلاع الأذان أمران:
أحدهما: التنبيه على دخول الأوقات، والثاني: الدعاء إِلى الجماعات، فليبلغ صوتُ كلّ من يقوم بالتبليغ من يحضر الجمع، أو يُتصوّر حضوره في الأمر الوسط، فقد يحضر الجمع طوائفُ تمتلىء بهم أرجاء المسجد، وقد لا يحضر إِلا شرذمة تقوم بهم الجماعة، فالوجه اعتبار الوسط، وهؤلاء هم الذين عبر عنهم الأئمة بأن المؤذن يُبْلِغ جيران المسجد.
فإِن قيل: هلاَّ نُزِّلَ أقلّ الرفع على ما يدعو أقلّ الجمع؟ قلنا: ليس ذلك بأذانٍ يسمى إِبلاغاً، وشَهْراً، وإِقامةً للشعار، فليدع الداعي جمعا وسطاً، فهو أقلُّ مرعيٍّ في ضبط الإِسماع والإِبلاغ، ولو أذن المؤذن في نفسه لا يبلغ بذلك شرذمة، والذي يطرأ علينا في ذلك أنه لو كثر عدد المؤذنين، ولم ينته كلّ مؤذن في نفسه إِلى ما ذكرناه، ولكن عمَّ الأذان البلدة بكثرة الدعاة لا برفع الصوت، فهذا فيه احتمال ظاهر.
فهذا في أذان الإِبلاغ، فأمَّا حيث يؤذن المؤذن في نفسه، فلو اقتصر فيه على حدِّ قراءة القارىء في الصلوات السرية، فلا يكون ما جاء به أذاناً ولا إِقامة، فليرفع صوته.
قلنا: والضبط فيه أنه يعني تنبيه من حضر أو على حَدِّه، وإِن لم يحضر أحد.
فهذا تمام ما انتهى إِليه الفكر في تقاسيم الأذان، وفيما يُراعى فيها من رفع الصوت.
فصل:
قال: "ويكون على طُهر فإن أذن جنباً كرهته"
689- أذان الجنب والمحدِث معتدّ به، فإِنا إِن نظرنا إِلى نفس الأذان، فهو دعاء وأذكار، وإِن نظرنا إِلى مقصود الأذان، فلا ينافيه الحدث، غير أنا نكره الأذان من غير طُهر، وسبب ذلك على الجملة أنه إِن حضر الجَمْعَ، فإِنه خيرٌ كثير، وقبيح أن يدعو ولا يُجيب بنفسه، فكان في حكم من يعظ ولا يتعظ، وتسوء الظنون به أيضاً.
ثم الكراهية في الجنابة أشدّ، من جهة أن الشغل في رفعها أكثر، وإِن انتظر المؤذن، كان أمدُ الانتظار أطولَ، وعلى الجملة حدث الجنابة أشد وأغلظ، وليس الجنب أيضاً من أهل المكث في المسجد للتأذين.
والكراهية في الإِقامة أشد منها في الأذان؛ لأن المقيم إِذا كان جنباً، أو حدثاً، فهو حري بأن تفوته الجماعة أو صدْر منها.
وإِنما اختلف الأئمة في اشتراط الطهر في خُطبتي الجمعة، كما سيأتي، وإِن كانتا أذكاراً، من جهة الاختلاف في أنهما مُقامتان مقام ركعتين، وهذا قد يتطرق إِليه سؤال، كما سنذكره في موضعه. وأقرب منه التردد في اشتراط الموالاة بينها وبين افتتاح الصّلاة، وهذا يتعذر مع تخلل الطهر بينهما، وبين ابتداء الصّلاة، ولا يتحقق ما ذكرناه في الأذَان والإِقامة.
فصل:
قال: "وألا يتكلم في أذانه، فإن تكلم لم يُعِد".
690- إِذا تكلم المؤذن ولم يرفع صوته، ولم يطوِّل بحيث ينقطع وِلاءُ الأذان، لم يبطل الأذان بما جاء به وفاقاً.
والترتيب في مضمون الفصل أنه إِن سكت سكوتاً طويلاً بحيث يظن السّامعون أنه أضرَبَ قصداً، أو نابه مانع من استتمامِه، ففي بطلانه قولان مرتبان على القولين في تفريق الطهارة. والأذانُ أولى برعاية الموالاة؛ من جهة أن المقصود منه الإِبلاغ والإِسماع، وإِذا تَبَتَّر، التبس الأمر على السامعين، وهجس لهم أن الذي جاء به لم يكن أذاناً، وكان الغرض منه تعليم الغير الأذانَ، أو ما في معنى ما ذكرناه، ولا يتحقق من الوضوء مقصود يُفرض زواله بترك الموالاة والمتابعة.
وهذا فيه إِذا ترك الموالاة في الأذان بالسكوت، فأما إِذا طوّل، وضمَّ إِليهِ الكلامَ مع رفع الصوت، فهذا يترتب على السُّكوت، وهو أوْلى بالإِبطال من جهة أنه أبلغ في إِبطال مقصود الأذان، وجَرِّ اللبس على السامعين.
وإِذا لم نحكم ببطلان الأذان، فالمؤذن يبني على بقية أذانهِ، ويأتي بها، وهل يبنى غيرهُ عليه؟ فعلى هذا القول قولان، فإِنَّ صدور الأذان من رجلين غاية في جرّ اللبس ومدافعةِ مقصود الأذَان.
691- ولو أذن مؤذن وأَقام غيره، فالذي قطع به الأئمة أن ذلك جائز، وذَكر بعض المصنفين فيه خلافاً، وزعم أنه مبني على أنه لو خَطب رجل يوم الجمعة، وصلى غيره، فهل يجوز ذلك أم لا؟ وهذا بعيد، وتلقِّي الأذان من الخطبتين غير سديد.
692- ومن تمام القول في ذلك أنه لو تكلم المؤذن ولم يُطوّل ورفع صوته بحيث أسمع من أسمعه الأذانَ، فالذي يقتضيه كلام الأئمة أنه غير ضارٍّ، ولا ينقطع الأذان به، وكان شيخي يتردد في هذا، من جهة أن الكلام يُلبِّسُ على السامعين أمرَ الأذَانِ، كما يتخبط عليهم الأذان بالسكوت الطويل.
693- ولو ارتدَّ المؤذن، ففيه اختلاف نصوص، وتصرف الأصحاب بالنقل والتخريج. وحاصل القول فيه. أنه إِذا أتى ببقية الأذان مع الردةِ، لم يعتد به، كما سيأتي بعد ذلك القولُ في أذان الكافر. وإِن عاد إِلى الإِسلام على قرب من الزمان من غير أن ينقطع الولاء، ففي المسألة قولان:
أحدهما:وهو الأصح- أن الأذان معتدّ به؛ لأن الأذان ليس مفتقراً إِلى نيّة هي رابطته، حتى يُقضى بانقطاعها بطريان الردة.
ومن أبطل الأذان ومنع البناءَ عليه، استدل بأن الردة من المحبِطات، فالأذان لو صدر من المرتد، لم يعتد به، وإِن كانت النية غير مرعية فيه، فينبغي أن يحبِط ما مضى بطريانها.
ولو طال الزمان، ثم عاد إِلى الإِسلام، ولم يأتِ في زمان الردة بشيء من كَلِم الأذان. فالقول الآن يتركب من تأثير الرّدة في الإِحباط، ومن تخلل ما يقطع وِلاءَ الأذان، والخلاف فيه يترتب على أحد الأصلين المتجردين: إما تجرد انقطاع الوِلاء بسكوت، أو طروء الردة، وقربِ الزمان.
فهذا منتهى البيان فيما يتعلق بوِلاء الأذان.
فصل:
قال: "وما فات وقته أقام ولم يؤذن... إلى آخره".
694- إذا أرادَ قضاء فائتة واحدة، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يقيم لها، ولا يؤذن. ونص في القديم على أنه يؤذن، ويقيم. ونص في "الأمالي" أنه إن رجا
جماعةً أذَّن، وإن لم يرجها، اقتصر على الإقامة. فكأنه في "الجديد" اعتبر حرمة
الوقت، واعتبر في "القديم" حرمة الصلاة، واعتبر في "الأمالي" الجماعة.
ولو أراد أن يقضي فوائت وِلاء، ففي الأذان للأُولى منها الأقوال الثلاثة، ويقيم
لها، ولكل فائتة بعدها إقامة، ولا يؤذن لغير الأولى، قولاً واحداً.
وقال أبو حنيفة: يؤذن لكل فائتة ويقيم، ولو كان يقضي فائتة في وقت أداء
فريضة، وكان يؤدي بعدها فرضَ الوقت، فإن أدى فرضَ الوقت أوَّلاً، أذَّنَ وأقام، ويقيم للفائِتة ولا يؤذن.
ولو أراد تقديم الفائِتة، ففي الأذان لها الأقوال الثلاثة، ثم إن رأى أن يؤذن لها، فلا ينبغي أن يؤذن للأداء بعدها؛ فإِنَّ أذانين لا يتواليان، وإن لم يؤذِّن للفائتة-في قول- بل اقتصر على الإقامة، فيؤذن للصلاة المؤدّاة في وقتها، ويقيم ويؤدي.
695- ومما يتعلق بهذا تفصيل القول في الجمع بين الصّلاتين، فإن قدم العصر إلى وقت الظهر، فلا شك أنه يقدم الظهر، فيؤذن ويقيم، ثم يقتصر على الإقامة لصلاة العصر، ولا يسوغ غير هذا؛ فإنه لو أذن لصلاةِ العصر لانقطع وِلاء الجمع، ولا خلاف أن الموالاة مرعية في جمع التقديم.
على أنا ذكرنا أن توالي الأذانين لا سبيل إليه إلا في صورة واحدة على قولٍ، وهي إذا قضى فائتة قبيل الزَّوَال وأذن لها على قولٍ، ثم لمّا فرغ من الفائِتة زالتِ الشمس، فأرَادَ إقامة الظهر في وقته، فإنه يؤذن لا محالة؛ فإن الأذان الواقع قبل الزوال لم يكن معتداً به عن أداء صلاة الظهر، ولم يكن دعاءً إلى صلاة الظهر.
ولو أخر الظهر إلى وقت العصر، فسيأتي في كتاب الجمع الخلاف في أنه هل يجب رعاية الترتيب والموالاة في هذا الجمع؟ فإن قلنا: يجب، فيبدأ بالظهر، ثم يأتي بالعصر، قال الأئمة: هل يؤذن لصلاة الظهر أم لا؟ فعلى الأقوال في قضاء الفائتة؛ فإن هذه الصلاة في حكم الفائتة؛ من حيث أخرجت عن وقتها المعتاد، والأذانُ المتفق عليه إنما يجري دُعاءً إلى الوقت المعتاد للصلوات. فإن قلنا: لا يؤذن لصلاة الظهر، فلا يؤذن أيضاً للعصر؛ فإنه على إيجاب رعاية الموالاة يفرعّ، والأذانُ لو تخللَ، لقطعَ الموالاة.
وهذا فيه نظر عندي. ويظهر أن نقول: يؤذن قبل صلاة الظهر، ثم ينقدح في تعليل ذلك وجهان:
أحدهما: أن الصلاة مؤداة، وهذا وقت أدائها في السّفر إذا أُخِّرت. والآخر- أنه يبعد أن يدخل وقت العصر ولا يؤذن له، ثم لا يمتنع أن يقال: يقع الأذان لصلاة العصر، ويقدّم عليها صلاةُ الظهر، والإنسان يؤذن لصلاة، ثم يأتي بعد الأذان بنوافل وتطوعات إلى أن تتفق الإقامة.
فالوجه عندي: القطع بأنه يؤذن قبل صلاة الظهر ويقيم، ثم يقيم بعد الفراغ من صلاة الظهر، ويفتتح صلاة العصر.
فهذا كله إذا قلنا: يجب رعاية الترتيب والموالاة.
696- فأما إذا قلنا: لا يجب رعاية الموالاة والترتيب، فصلاة الظهر على هذا مقضِيَّة، فإن قدّمها، ففي الأذان لها الأقوال المقدمة، ثم إن أذن لصلاة الظهر على قول، فلا يؤذن مرة أخرى لصلاة العصر، وإن قلنا: لا يؤذن لصلاة الظهر، فيقيم لها ثم يؤذن لصلاة العصر؛ فإن الموالاة ليست مشروطة، فلابد من الأذان، فإن صلى العصر أولاً، فيؤذن لها ويقيم، ثم يقيم لصلاة الظهر، ولا يؤذن، كالذي يقيم فريضة مؤداة، ويُعقبها بفائتة يقضيها، فإنه يؤذن ويقيم للصلاة المؤداة، ويقيم للصلاة المقضية.
697- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: يجب رعاية الترتيب، فعليه أن يقدم صلاة الظهر، فلو قدم صلاة العصر، فقد أساء فيما فعل؛ فإنه حرَّم على نفسه رخصة الجمع، وصلاةُ العصر المقدّمة صحيحة، ولكن تعتبر صلاة الظهر في حكم صلاة أخرجت عن وقتها من غير عذر.
فإذا وضح هذا، فإذا قدم العصر، فقد قال بعض المصنفين: صلاة العصر في هذه الصورة في حكم صلاة مقضية؛ فإنها أخرجت عن وقتها المؤقت لها شرعاً في ترتيب الجمع المثبت رخصة. وهذا خطأ صريح لا وجه له؛ فإن صلاة العصر مؤداة في وقتها قطعاً، وما جرى من إخلالٍ بالترتيب آيلٌ إلى صلاة الظهر؛ فإنها خرجت عن حكم الرخصة إلى تفريط التفويت. فهذا منتهى القول في ذلك.
فصل:
قال: "إذا سمع المؤذن أحببتُ أن يقول مثل ما يقول... إلى آخره".
698- إجابة المؤذن مستحبة إذا سمع السامعُ الأذانَ، ولم يكن في الصلاة، والأكمل أن يقول مِثلَ ما يقول حرفاً حرفاً، إلا إذا قال: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فإن المجيب يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنّ معنى الكلمتين الدعاء، ولا يليق بالمدعوّ أن يعيد كلمة الدعاء، ولكن ينبغي أن يقول إذا سمع الدعاء: لا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا نَقْلُ الأثبات عن السلف، وفيه التبرّي من الحول والقوة، مع الاعتصام بالله تعالى. ثم إذا قال: "الله أكبر" قال مثل ذلك وإذا قال: "لا إله إلا الله" قال مثل قوله.
وتستحب إجابة المقيم كما تستحب إجابة المؤذن.
وإذا قال المؤذن في صلاة الصبح: "الصلاة خير من النوم" فجوابه به "صدقت وبررتَ" وإذا قال: "قد قامت الصلاة"، فجوابه "اللهم أقِمها وأدِمها، واجعلني من صالحي أهلها".
وقد روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "من سمع المؤذن يؤذن، فليقل مثل ما يقول المؤذن". وقد روي أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال بعد فراغ المؤذن: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلت له الشفاعة".
ثم اختلف نص الشافعي في أن الرّجل لوْ كان في الصّلاة، فسمع الأذان، هل يُجيب أمْ لا؟، فذكر الأئمة قولين، وكان شيخي يذكرهما في الاستحباب، ويقول: لا تستحب الإجابة فيِ الصلاة في قولٍ؛ فإن الصلاة مشحونة بوظائف القراءة والأذكار، فينبغي ألا يُغيَّرَ ترتيبُها ولا يَثبُت فيها حُكمٌ من أمرٍ خارج منها، وفي قولٍ: يستحب؛ فإنها أذكار، ولو أُخِّرت، فقد يطرأ عائق في تداركها، وأيضاً فإنا أمرنا بالإجابة، والإجابة متصلة بالمسمُوع، فإذا أخرت، لم تكن إجابةً، ثم كان يقول: إن قلنا: لا تجب في الصلاة، فإذا تحلَّل، أعاد تلك الكلمات.
وذَكر آخرون: أن القولين في إثبات الكراهية ونفيها، فأمَّا الاستحباب، فلا، قولاً واحداً، وكأنّا نكره في قولٍ، ولا نكره في آخر.
وذكر الشيخ أبو علي أن المسألة ليست على قولين، بل نقطع بنفي الاستحباب.
ولا يكره ولا يستحب، قولاً واحداً، بل هو مباح. وهذه الطريقة هي المرضية.
ثم من يرى الإجابة، فلا شك أنه ينهى عنها في أثناء قراءة الفاتحة؛ فإن القراءة يُقطعُ وِلاؤها بكلِّ ذكر.
وقد رأيت في كلام صاحب التقريب رمزاً إلى أن إجابة الإقامة-وهي على إدرَاج- لا نراها، وإنما تجاب كلمة الإقامة، وهي قول المقيم "قد قامت الصلاة". وهذا فيه احتمال، ولكن الظاهر ما قدّمناه من قول الأصحاب.
ثم إذا لم يُجب في الصلاة، فينبغي أن يأتي بالأذكار، كما يتحلل، ولو طال الفصل. وهذه تشبه ما لو ترك التالي سجدة التلاوة، ففي أمره بالتدارك تفصيل، سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل: يجمع أحكاماً سهلة المأخذ في الأذان، فنسردها، ونصدِّر كلَّ حكم بقول الشافعي فيه في المختصر.
قال: "وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر".
699- والسَّبب فيه أن المسافر حريّ بالتخفيف عنه، ورخص السفر شاهدة في ذلك أيضاً؛ فإن المسافرين مجتمعون إذا نزلوا، فلا حاجة إلى أذان يجمع المتفرقين، بل يكفي إقامة تنبه على قيام الصَّلاة.
قال: "والإقامة فرادى".
700- مذهب أهل الحديث إفراد الإقامة. ثم مذهب الشافعي المشهور في إفراد الإقامة ما نرى على أبواب مساجد أصحابه، وكأنه- رضي الله عنه- فهم من الإفراد ردَّ التكبيرات الأربع في صدر الأذان إلى شطرها، وذلك يقتضي التكبير مرتين، وردَّ الشهادة إلى مرة، لما ذكرنا من التنصيف.
وأما كلمة الإقامة، فإنها على التثنية مستحقة في الإقامة فتُثنَّى، ولم يجر لها ذكر في غيرها؛ حتى ترد إلى الشطر فيها. ثم يقول المقيم بعد كلمة الإقامة: الله أكبر، الله أكبر، كما يقوله في الأذان في هذا الوضع، ويقول: لا إله إلا الله.
وذهب مالك إلى حقيقة الإفراد في جميع الكلم، فيقول: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: قد قامت الصلاة مرةً، الله أكبر مرةً.
وقال الشافعي: "إن كنت تتحقق الإفراد، فاقتصر على التكبيرة الوَاحدة، ولا تَعُد إليها بعد كلمة الإقامة"، وللشافعي قول في القديم مثل قول مالك، وحَكى بعض الأصحاب قولاً ثالثاً: أنه وافق مالكاً في جميع مذهبه، إلا أنه كان يرى الله أكبر مرتين في صدر الإقامة ويقول "الله أكبر" مرة واحدة بعد كلمة الإقامة؛ ليكون قد ردّ الإقامة إلى شطر الأذان، وهو في هذا القول يوحد كلمة الإقامة، كما قال مالك.
فهذا بيان المذاهب.
والذي استقر عليه مذهبه في الجديد ما ذكرناه. والألفاظ الوَاردة في إفراد الإقامة كثيرة، معظمها في الصحاح، وكل ما روي في التثنية، فمعلول أو مرسل، والاحتجاج على القائلين بالتثنية سهل.
701- وبالجملة المذاهب ثلاثة: أحدها: التثنية، والثاني: مذهب مالك وقول قديم في الإفراد، كما تقدمت الحكاية. والوسطُ مذهب الشافعي في الجديد. ومعتمد هذا المذهب ما رواه ابن عمر قال: "كان الأذان مرتين مرتين والإقامة مرة واحدة إلا قوله قد قامت الصلاة، فإن المؤذن كان يقولها مرتين".
ورواه غيره بألفاظ تداني هذا اللفظ، والتعرض لتثنية كلمة الإقامة مرتين نَص في الرد على مالك، وهو يبطل أيضاً مذهب أبي حنيفة في حمل الإفراد في الإقامة على إفراد الصوت في كل صنف؛ فإن استثناء قد قامت الصلاة مبطل لهذا المسلك في التأويل.
702- ومما يوضح الغرض أنه وقع التعبير في بعض الألفاظ عن الأذان بالتثنية، مع العلم بأن التكبير فيه مُرَبع، فالإِفراد المذكور في الإِقامة على مقابلة تثنية الأذان يقتضي التشطير لا محالة، ولَمَّا تقرر في عرف الشرع ذلك، كان التكبير مرتين بعد الحيعلتين في الأذان، وبعد كلمة الإِقامة في الإِقامة في حكم المفرد. وهذا إِذا تأمله المُنصِف ألفاه أسدَّ المذاهب وأقواها إِن شاء الله تعالى.
703- قال: "ويزيد في أذان الصبح التثويب".
وهو أن يقول المؤذن بعد الحيعلتين: "الصّلاة خير من النوم" مرتين، والذي نص عليه الشافعي في القديم، أن ذلك مستحب مشروع وقد صح أن بلالاً كان يثوِّب كذلك، وقال في "الجديد": أكره التثويب؛ لأن أبا محذورة لم ينقله.
والطريق المشهورة نقل القولين.
وقد قال الأئمة: كل قولين أحدهما جديد، فهو أصح من القديم، إِلا في ثلاث مسائل، منها مسألة: التثويب. وسنذكر مسألتين أخريين عند الانتهاء إِليهما.
وقد ذكرَ الصيدلاني طريقةً حسنةً، وهي أنه قال: ذهب أصحابنا المحققون إِلى قطع القول باستحباب التثويب، وقد اعتمد الشافعي في الجديد حديث أبي محذورة، وقد صح عنده بطرق أنه كان لا يثوب. وكل حكم اعتمد الشافعي فيه الخبر-وقد بلغه الحديث لا على وجهه أو لم يبلغه التمام- فنحن نعلم قطعاً أنه لو بلغه الحديث على خلاف ما اعتقده وصح على شرطه، لكان يرجع إِلى موافقة الحديث. فكأنه في (الجديد) قال: مذهبي في التثويب ما صح من قصّة أبي محذورة.
704- قال: "وأحب ألا يُجعَل مؤذن الجماعة إِلا عدلاً ثقة؛ لإِشرافه على الناس".
قوله: "لإِشرافه على الناس" يحتمل وجهين:
أحدهما: لإِشرافه في الغالب على المساكن والبيوت، لصعود منارة أو نَشَز، وقد يقع بصره على العورات.
والثاني: لإِشرافه على الناس في مواقيت أشرف العبادات.
قال: "وأحبّ إليَّ أن يكون صيِّتاً حسن الصوت ليكون أرقَّ لسامعه".
لأن الدعاء من العادات إِلى العبادات جذبٌ إِلى خلاف ما يقتضيه استرسال الطبائع، فينبغي أن يكون الداعي حلو المقال؛ لترق القلوب، وتميل إِلى الاستجابة.
قال: "وأحب أن يكون الأذان على ترسلٍ، من غير بَغْي وتمطيط يزيل نظم حروف الكلم، وتكون الإِقامة على إدراجٍ، مع الوفاء بالبيان".
وبالجملة الأذان افتتاح الدعاء ليتأهب المتأهبون، فيليق به الترسل لغرض الإِبلاغ، والإِقامة للانتهاض للصلاة وتنبيه الحاضرين، فيليق به الإِدراج، ثم المرعي الوسط في الأمرين جميعاً.
705- قال: "وأحب أن يكون المصلي بهم صالحاً فاضلاً... إلى آخره".
الكلام في صفة الأئمة يأتي بعد ذلك في باب، والغرض الآن ذكر كلام الأصحاب في أن القيام بالتأذين أفضل، أو القيام بالإِمامة؟ وقد اشتهر فيه خلاف، قال الصيدلاني: من أئمتنا من قال: التأذين أفضل؛ فإِن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء»، ومنصب الأمين أفضل وأعلى من مرتبة الضامن. وقال عليه السلام: «المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة».
وقد اختلف في تفسيره، فقيل: أكثر الناس أتباعاً من الذين شُفعوا فيهم، والعُنق الجمع من الناس. وقيل: معناه أحراهم بالأمن؛ فإن الآمن في المجامع يتشرف، والخائف يتطامن ويستخفي. وقيل: أصدقهم رجاء، ومن رجا شيئاً امتدّ عُنقه نحو ما يرجوه. وقيل: معناه لا يلجمهم العرق.
وكان شيخي يؤثر تفضيل الإمامة، وسمعتُه في نوب يقطع بذلك وزَيفَ ما عدَاهُ، ووجهه لائح؛ فإنَّ أظهر الأغراض من الأذان الاستحثاث على الجماعات، والإمامة عين القيام بعقد الجماعة، والقيام بالشيء أولى من الدعاء إليه. وما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الأئمة ضمناء» تنبيه على عظم خطر الإمامة، وذلك يشعر بعلو قدرها، مع الحث على التوقي من الغرر.
فإن قيل: لم كان لا يؤذن-عليه السلام؟- قيل: تردد فيه الأئمة، فقيل: كان لا يتفرغ إلى رعاية ذلك، ولم يكن من إقامة الصّلاة بُدٌّ على حال، فآثر الإمامة عليها.
وقيل: لو أذّن، لقال: أشهد أن محمداً رسول الله، وهو محمد، فكان خارجاً عن جزل الكلام، ولو قال: أشهد أني رسول الله، لكان تغييراً لنظم الأذان المعروف، ولو قال: حيَّ على الصلاة، لكان معناه: هلموا، وذلك أمر ودعاء، فكان يتحتم حضور الجماعات، فأشفق على أمته، ولم يؤثر أن يُلزمهم ما قد لا يفونَ به.
قال: "وأحب أن يكون المؤذن اثنين".
706- إذا كان المسجد كبيرا أو مطروقاً، فينبغي أن يُرتَّبَ فيه مؤذنان، اقتداء بما كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان فيه بلال وابن أم مكتوم، ومن أظهر الفوائد فيه أن يؤذن أحدهما للصبح قبل طلوع الفجر، ويؤذن الثاني بعد طلوعه، قال عليه السلام: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابنُ أم مكتوم».
وإذا كثر المؤذنون، فلا يستحب أن يتراسلوا بالأذان، بل إن وسع الوقت ترتبوا، وإن ضاق تبدَّدُوا في أطراف المسجد وأذَّنوا، فيكون كل واحد منفرداً بأذانه، ويظهر أثر ذلك في الإسماع والإبلاغ.
ثم لا يقيم في المسجد إلا واحد. وإن كثر المؤذنون، فولاية الإقامة لمن أذن أولاً، والأصل فيه أن بلالاً غاب عن معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له؛ فأذَّنَ رجل من بني صُداء، فلما رجع بلال، همَّ بأن يقيم في وقت الإقامة، فقال عليه السلام: «إن أخا صُداء قد أذن؛ وإن من أذن فليقم».
فإن أذن المؤذنون معاً في مواضع متفرقة، وتشاحُّوا في الإقامة، أُقرع بينهم. ولو سبق إلى الإقامة سابق، وقد أذن مؤذن قبله، ففي الاعتداد بالإقامة كلام، وقد ذكرته قبلُ عند ذكر بناء مؤذن في بعض الأذان على من صدر منه صَدْرُ الأذان.
707- وممَّا يتعلق بما نحن فيه أن وقت الأذان مفوّض إلى نظر المؤذن العالم العدل، ووقت الإقامة مفوّض إلى إمام المسجد؛ فإنَّ إقامة الصَّلاة إليه، فليراجَع في الإقامة، فإن سَبق إلى الإقامة من يقيم وتعدّى هذا الأدب، كان مُسيئاً، وفي الاعتداد بما جاء به تردّد للأصحاب، ولم يصرِّحوا به، ولكنه بيّن في كلامهم.
وإذا كان في المسجد مؤذن راتب، فتقدم عليه متقدم، وأذن، ثم أذن المؤذن الراتب فيه، ففي ولاية الإقامة ومن يكون أولى بها تردد ظاهر، وهو لعمري محتمل، فيجوز أن ينظر إلى تقدم الأذان؛ من جهة أنه يعتد به ويجوز الاكتفاء به، ويجوز أن يقال: إذا لم يقصِّر المؤذن الراتب، فمن سبقه في حكم المسيء، فلا يستحق بإساءته الإقامةَ، والقصة التي ذكرناها لبلال والصُّدائي كانت في غيبة بلال، وكان الصُّدائي أذَّن بإذْنِ رسول الله.
قال: "ولا يرزقُ الإمام مؤذناً وهو يجد متطوعاً... إلى آخره".
708- الإستئجار على الأذان وتفصيل القول فيما يجوز الاستئجار عليه من هذه الأصناف نذكره في أول كتاب الصّداق، إن شاء الله تعالى، والقدر الكافي هاهنا أن الإمام وكُلَّ من يلي بإذن الإمام هذا الأمر يستأجر على الأذان، وهل لآحاد الناس أن يستأجروا مؤذناً؟ فيه خلاف، والمذهب الصّحيح أنه يجوز. ثم الإمام لا يبذل مالَ بيت المال هزلاً، فإن كان يجد من يتطوع بالأذان، لم يستأجر من مال المسلمين، فإن لم يجد متطوعاً، فيستأجر حينئذ. ثم ظاهر النص أنه لا يستأجر أكثر من مؤذن واحد، والمراد به أنه لا يستأجر في مسجد واحد أكثر من مؤذن، ولو كان صوت مؤذن واحد لا يُسمع أهل البلدة، فلابد من استئجار من يبلُغ صوتهم أهلَ البلدة، وإن بلغوا عدداً. وقد رُوي أن عثمان في خلافته كان يرزق أربعة من المؤذنين، وهو محمول على مَا ذَكرناه من تحصيل الغرض من إسماع أهل البلدة.
وحكى بعض المصنفين عن ابن سُرَيج أنه كان يجوِّز للإمام أن يستأجر أكثر من واحد.
والقول الكافي في ذلك: أن الإبلاغ مما لا شك في جواز الاستئجار بسببه، سواء حصل بواحد، أو جَمْع، فأمّا ما يزيد على هذا من إقامة مؤذنين في مسجد كبير، فهو في حُكم رعاية الأحرى والكمال، وظاهر النص المنعُ من بذل المال فيه.
والوجه عندي فيه أنه إن كان يحتاج إلى المال لأمور واجبةٍ، أو مهمة بالغةٍ في مرتبتها مبلغ أصلِ التبليغ في الأذَان، ولَو صُرِف المال إلى الأولى والكمال، لتعطلت الأصول المرعيّة، فلا نشك أن الصرف إلى التكملة مع تعطيل الأصل غيرُ جائز، فأما إذا وسِعَ المال الأصول، وفَضَلَ، وتصدى للإمام أمران:
أحدهما: الاستظهار بالادِّخار واعتماد ذخيرة في بيت المال، والآخر الصرف إلى تكميلات الأمور، فهذا محل النظر، ونصُّ الشافعي عندي محمول على هذه الصورة، فلعله يرى الادخارَ، وفيه احتمال ظاهر، والقول في مصارف أموال بيت المال الكبير في هذه الفنون، يتعلق بالإيالة الكبيرة، ومن أرادها على كمالها، فعليه بالكتاب "الغياثي" من مصنفاتنا.
ولو بلغ اتساعُ المال مبلغاً لا ينقُصه مثل هذا. فالظاهر عندي القطع بصرف المال إلى التكملات.
ولو وجدَ الإمام متطوعاً بالأذان حسن الصوت، ووجد آخر بالأجر حسن الصوت، رقيقه، فقد كان شيخي لا يرى بذل المال في تحصيل حُسن الصوت ورقته، وهذا خارج عندي على قياس القول في المؤذن الثاني في المسجد الكبير.
709- وقد نجزت مسائل الأذان، ونحن نختمها بذكر من هو من أهل الأذان ومن ليس أهلاً له، فنقول:
من ليس له قصدٌ صحيحٌ، لو اتفق منه نظم كلمة الأذان، فلا يعتد بأذانه، كالمجنون، وهو كالهاذي. والسكران، أمره خارج على الخلاف في تصرفاته، فإن جعلناه من أهلها، فقصده كقصد الصَّاحي، فلو نظم الأذان اعتدّ به.
والصبي المميز من أهل الأذان، فإنَّ قصده صحيح في العبادات، وكيف لا يصح أذانه، وإمامته في الصلوات المفروضة صحيحة؟.
المرأة إذا أذّنت للرجل أذانَ الإبلاغ، لم يعتدّ بأذانها، كما لا تصح إمامتها، فأمّا إذا كانت تؤذن في نفسها، ففيه الخلاف المقدّمُ في صدر الباب.
وأمّا الكافر، إذا أذّن-ويمكن فرض كافر مستمر على كفره مع فرض الأذان- فإن العيسوية يقولون: محمد رسول الله إلى العرب. فلا ينافي مُطلقُ الأذان مذهبَهم.
ومن أذَّن منهم للمسلمين، لم يعتد بأذانه؛ فإن الأذان دعاء إلى الصلاة، والكافر ليس من أهل الصلاة؛ فكيف يكون من أهل الدعاء إليها، والمرأة لم تكن من أهل إمامة الرجل، لما فيها من الشهرة، فلم تكن من أهل الأذان، فكيف يغمُض أن الكافر ليس من أهل الأذان، ثم الكافر ممنوع من سَرْد الأذان، وإظهار الشعار، وهو محمُولٌ منه-مع الإصرار- على الاستهزاءِ، كما تُمنع المرأة من أذان الإبلاغ.
فهذا تفصيل القول فيما أردناه، فإن قيل: فلم صححتم أذان الجنب، وليس هو من أهل الصلاة؟ قلنا: هو من أهلها ومن أهل التوصل إليها على قرب.
فصل:
قال: "وأحب تعجيل الصلاة لأول وقتها... إلى آخره".
710- إقامة الصلاة في أوائل الأوقات من أحسن شعائر أصحابنا. والأصل فيه ما روى أبو بكر الصِّديق- رضي الله عنه- عن النبي الصَّادق المصدوق، أنه قال: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله". قال أبو بكر: يا رسول الله، رضوان الله أحب إلينا من عفوه. قال الشافعي رضي الله عنه: ورضوان الله لا يكون إلا للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين.
وهذا جارٍ في الصلوات المفروضات، خلا صلاة العشاء، ففيها قولان:
أحدهما: أن التعجيل أفضل فيها أيضاً، تعلّقاً بعموم الحديث الذي رويناه، والثاني: التأخير أفضل، لما روي عن النبي عليه السلام، أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل".
وقد يلوح في هذه الصورة معنى، وهو أن من أقامها فقد يبتدره النوم، ومن أخرها فقد يوفَّق لصلاةٍ أو غيرها من الخيرات قبل المنام.
ومما يستثنى من القاعدة، الإبراد بصلاة الظهر، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: قد أكل بعضي بعضاً، فأَذِن لها في نَفَسَينِ، نَفسٍ في الشتاء ونَفَسٍ في الصيف، فأشد ما تجدون من الحرّ من حرها، وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، فإذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة، فإن شدّة الحر من فَيْحِ جهنم».
فالذي صار إليه معظم الأئمة أن الإبراد بصلاة الظهر في الحرّ سنة.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن من أئمتنا من عدَّ الإبرادَ رخصة، ولم يره سنة، والحديث الذي رويناه يدل ظاهره على أن الإبراد محثوث عليه، مأمور به.
ثم ذكر الشيخ أبو علي أن الإبراد-رخصةً كان أو استحباباً- مخصوص بالبلاد الحارة. وكان شيخي يُجريه في بلادنا المعتدلة في شدة الحر، فإن الحر في هذه البلاد ينتهي إلى مبلغ يتأذى المشاة فيه بالمشي في إشراق الشمس، فالمرعي رفعُ الأذى.
وقد ذُكر أن النهيَ عن استعمال الماء المشمس يختص بما شُمِّسَ في البلاد الحارة، والسببُ فيه، أن المحذور منه أثر طبِّي، وهو يختص بحِلابة تتحلّب من النُّحاس وغيره فتلقَى البشرةَ، وهذا لا يتوقع في البلاد المعتدلة، والتأذي بحرِّ الشمس جار في البلاد المعتدلة والحارة جميعاً.
ثم الغرض من الإبراد تأخير الصلاة في الظهر إلى أن يظهر فيء الأشخاص، فيمشي الماشون في الفيء إلى الجماعات، وليس المعني بالإبراد الانتهاء إلى برد العَشيِّ؛ فإن ذلك قد لا يحصل في البلاد الحارة، وإن دخل وقتُ العصر. ثم ذكر الشيخ: أن التأخير بسبب الإبراد لا يُخرج الصلاة عن النصف الأوَّل من المثل الأول. والأمر على ما ذكره.
وإذا وضح أن المقصود من الإبْراد سهولة المشي إلى الجماعات، فلو كان الرجل يصلي في منزله، فلا إبراد في حقه، فليبادر الصّلاة في أول وقتها، وكذلك إن كان ممشى الناس من موضعهم إلى المسجد في كِن، فلا إبراد.
وكان شيخي يحكي وجهاً أن من الأئمة من يعمم الإبراد في حق الناس كافة، ولا يعدِم هذا الإنسان نظائر ذلك، وفيه معنى: وهو أن الناس يقيِّلون في وقت الاستواء، ويقتضي ذلك تأخيرَ وقت صلاة الظهر قليلاً، وهذا لا أعُدُّه من المذهب، والوجه القطع بالمسلك المتقدم.
وذكر بعض المصنفين وجهين في الإبراد بالجمعة:
أحدهما: أنه مستحب في أوانه، اعتباراً بصلاة الظهر في كل يوم.
والثاني: أنه لا يستحب؛ فإنه لو تأخر خروج الإمام ثم قدّم الخطبتين، فيوشك أن تتأخر الجمعة عن وقت الإبراد في صلاة الظهر، والجماعة فيها محتومة، وقد يؤدي علم الناس بالتأخير، إلى التكاسل، ثم تفوت الجماعة إذا تخاذل كثير من الناس.
وذكر أيضاً وجهين في الإبراد في المسجد الكبير المطروق، والوجه في منع الإبراد-إن صح الخلاف- أن المسجد الكبير يشهده أصناف، ولا يتأتى التّواجد منهم على حد الإبراد، فقد يسبق أقوامٌ، فيحتاجون إلى الانتظار في المسجد، فأما المسجد الصغير في محلة لا يطرقه إلا مخصوصون في الغالب، فيتأتى منهم التواطؤ على الإبراد، والتنصيص على انتظار وقته، فإن فرض سبق سابق غريب إلى مثل هذا المسجد، فهو في حكم النادر الذي لا يُخرم به الأصل.
ومما يتعلق بهذا الفصل، القول في بيان فضيلة الأولية، ومحاولة الضبط فيها بتحديد أو تقريب، وقد ذَكرناهُ في باب المواقيت في الفصل المشتمل على بَيانِ وقت المغرب.