فصل: باب: رهن الماشية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: رهن الماشية:

1993- مضمون هذا الباب مأخوذ مما تقدم في تعلّق الزكاة.
فإذا ملك الرجل أربعين شاة، ووجبت الزكاة فيها، فرهنها، فالقول في صحة الرهن وفساده في قدر الزكاة، كالقول في البيع من غير فرق وترتيب؛ فإنَّ ما صح بيعُه، صح رهنه، وما لا فلا.
وإذا أفسدنا الرهن في مقدار الزكاة، ففي الباقي قولان مرتبان الآن على البيع.
والرهن أولى بالصحة وأقبل للتفريق؛ من جهة أن جهالة العوض تؤثر في البيع، ولا عوض في الرهن، وكل جزء من المرهون رهنٌ بجميع الدين، وسيأتي ذلك في باب تفريق الصفقة. إن شاء الله تعالى. فليتجاوز الناظر إذا أحلناه.
ثم ذكرنا تخيّر المشتري على قول تجويز التفريق. والتخيّر ثابتٌ للمرتهن، إذا كان الرهن مشروطاً في بيعٍ، وفائدته أن يفسخ البيع، وإن لم يكن مشروطاً في بيعٍ، فلا معنى لإثبات التخيّر، فإن المرتهن أبداً بالخيار في فسخ الرهن.
1994- ومما يتعلق بالباب أنه لو رهن نصاباً، قبل وجوب الزكاة، وقلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة، أو كان للراهن أموالٌ تفي بالدين، فإذا وجبت الزكاة في يد المرتهن، فإن لم يكن للراهن مالٌ سواه، وقلنا: الدين لا يمنع، فقد قال شيخي: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالمال تعلق الدين بالرهن، فحق المرتهن مقدم على الزكاة؛ فإن الرهن في حقه سابق، والمرهون لا يُرهن، فإن كان دينُ المرتهن مستغرقاً لقيمة النعم صُرف إلى دينه.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالمال تعلق شركة واستحقاق، فمقدار الزكاة مقدّم على حق المرتهن، وإن قلنا: تعلقه تعلق الأرش، فمقدار الزكاة مقدم أيضاًً؛ فإن العبد المرهون لو جنى، تَعَلَّقَ الأرشُ برقبته، فإن لم يفْدِه الراهن، بيع في الجناية، ولم يُنظر إلى بطلان حق المرتهن من وثيقة الرهن، هكذا رتب رضي الله عنه.
والذي أراه أن مقدار الزكاة مقدمٌ، على قولنا إنّ تعلّقها تعلّق المرهون، ولا ينبغي أن يعتمد الباحث اللفظَ، ونحن إنما قدمنا أرش الجناية؛ من جهة أن تعلقه بالرقبة لا يستدعي اختيار الراهن، فإذا كان تعلقُ الأرش يزحم حق المالك في ملكه، فكذلك يزحم حق المرتهن في وثيقته، والرهن إنما يمنع الراهن من اختيار تصرفٍ ينافي ما التزمه للمرتهن، من حق الاختصاص. فأما ما يثبت من غير اختيار، فينبغي أن يزاحم حقَّ المرتهن. وكيف يستقيم الحكم بوجوب الزكاة والمالك لا مال له غيرُ المرهون، ثم يد الساعي مقبوضة عن تتبع المال، الذي وجبت الزكاة بسببه، هذا ما لا يكون.
وقد حكينا من وفاق الأئمة أنا إذا فرعنا على القول المشهور بالذمة، ونفذنا البيعَ بعد وجوب الزكاة، فالساعي إذا لم يجد البائعَ، اتبع عينَ المال، وأخذ منه حق المساكين، ثم يبطل البيع في ذلك المقدار، ويتفرع تفريق الصفقة انتهاءً؛ فإذاً ليس من غرض الأئمة في الفرق بين تعلّق الرهن، وتعلق الأرش أن يثبتوا الزكاة في المرهون على قول الأرش، وينفوها على قول الرهن، بل غرضهم أنا على قول الرهن نقطع ببطلان البيع في مقدار الزكاة، وعلى قول الأرش نُردِّد القول كما سبق. فالوجه القطع بإخراج الزكاة من المرهون، إذا كان لا يجد الراهن ما يؤدي زكاةً غيرَ المرهون.
1995- ثم إذا أخرجنا الزكاة عن المرهون، فلو تمكن الراهن وأيسر، فهل يلزمه أن يَرهَنَ مقدارَ الزكاة جبراً للنقص الذي وقع في المرهون بأخذ الزكاة منه؟ قال الصيدلاني: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فيجب ذلك عليه، وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، ففي وجوب ذلك وجهان، مبنيان على أن الزكاة إذا وجبت في مال القراض، والتفريع على أن العامل لا يملك ما شُرط له قبل المقاسمة، فإذا أخرجت الزكاة منه، فمن أئمتنا من قال: سبيل الزكاة سبيلُ المؤن الواقعة في المال، فتحسب من الربح. ومنهم من قال: إخراجها بمثابة استرداد طائفةٍ من المال. فإن جعلناها كالمؤن، فلا يمتنع ألا نوجب على الراهن جبرَ النقصان إذا أيسر، وإن جعلناها كاسترداد طائفةٍ من مال القراض، فيتجه إيجابُ الجبران.
وما ذكره من الاحتمال متجهٌ، ولكن في البناء نظر، من جهة أن نفقات عبيد القراض من الربح، ونفقة المرهون واجبةٌ على الراهن.
والوجه أن نقول في تخريج الاحتمال: من رهن عبداً وسلّمه، فجنى جنايةً، وتعلّق الأرش بالرقبة، فلا يجب على الراهن أن يفديه، فلو سلّمه حتى بيع، لم يلزمه للمرتهن بسبب فوات الرهن شيء، والزكاة تثبت قهراً من غير اختيار الراهن، فكان لزومها كلزوم الأرش، ولكن مثار الاحتمال ما قدمناه في تمهيد تعلق الزكاة، وهو أن الأمر متوجه بتأدية الزكاة والتقرب بها على المالك، ولا يتوجه الأمر على السيد في الأرش، فقطعنا القول في الأرش بأنه لا يجب جبرُه للمرتهن. والزكاة من حيث إنها مأمور بها، والمالك مثاب عليها، فإذا اتفق أداؤها من مال الرهن وقعت حقاً للراهن، فاتجه إيجاب الجبران عليه، وإن لم يكن وجوبها باختياره.
ثم ينتظم أن نقول: إذا فرعنا على قول الذمة، فهذا يشير إلى تغليب الخطاب، والأمرُ بإيجاب الجبران أوجَهُ.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، فهذا يشير إلى تضعيف تعلق الذمة من وجه، ثم قد يخطر للفقيه أنا إذا فرعنا على قول الاستحقاق والشركة، فذكر الخلاف في الجبران ظاهر، ولكن نفيه أوْجَهُ في القياس.
فهذا تحقيق الفصل.
1996- ثم قد ذكر الشيخ أبو بكر: أن الراهن إذا كان يتمكن من تأدية الزكاة من مالٍ آخر، فهو محتوم عليه على الأقوال. وإنما التردد في صورة الإعسار، كما مضى.
وأنا أقول: إن قلنا: بوجوب الجبران في صورة الإعسار إذا طرأ عليها الإيسار، فيجب على الموسر ابتداءً أن يؤدي الزكاة من مالٍ آخر. وإن قلنا في صورة الإعسار: لا يجب الجبران، فلا يتعين على الموسر تأدية الزكاة من مالٍ آخر كما لا يجب عليه فداء العبد المرهون إذا جنى.

.باب: زكاة الثمار:

1997- روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمسة أوْسُق من التمر صدقة إلى آخره» صدر الشافعي الباب بذكر مذهبه في أن النصاب مرعيٌّ في المعشَّرات، فمن أنبتت له الأرض وأخرجت له الأشجار أقلَّ من نصاب، لم يلزمه العُشر، والمعتمد الخبر.
وأوجب أبو حنيفة العشرَ في القليل والكثير، غيرَ أنه قال: ما دون خمسة أوسق يتولاه المالك بنفسه، ولا يلزمه تسليمه إلى الوالي، فإذا بلغ خمسة أوسق، لزمه تسليمه إلى الساعي.
وقال داود: ما يوسق من مكيل أو موزون يعتبر فيه خمسة أوسق، ولا تجب الزكاة فيما دونه، وما لا يوسق تجب الزكاة في قليله وكثيره.
وعندنا ما يوسق فالنصاب مرعي فيه، وما لا يعتاد توسيقه، فالوَسْق معتبر فيه.
1998- ثم الوَسْق ستون صاعاً، والصاع أربعةُ أمداد، والمُدُّ رِطلٌ وثلث، فمجموع الأوسق الخمسة ثمانمائة مَن.
ثم الذي قطع به الصيدلاني أن ذلك تقريب، وليس بتحديد، وذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه تقريب كما ذكرناه، والثاني: أنه تحديدٌ، ثم قالوا عليه: إن نقص ثلاثة أو خمسة أرطال، فلا بأس. والقول في ذلك من خاصية كتابنا؛ فالأولون يتجاوزون أمثالَه، لا عن تقصيرٍ أو عدم إحاطة، ولكن اعتمدوا أفهام طلبة زمانهم، والآن فأمثال هذا مما لا يستقل به بنو الزمان. والله المستعان.
وقد قدمنا في كتاب الطهارة تردّدَ الأصحاب في أن قلتين تقريب أو تحديد، أتينا فيه بالكلام البالغ. ونحن الآن نسلك في ضبط القول في هذا مسلكاً عجيباً بدعاً، إن شاء الله تعالى.
فنقول: الصاع قد يحوي نوعاً من الحنطة الحدْرة الرزينة، ولو ردَّ مِلأها إلى الوزن، لكانت مبلغاً، وملؤها من الحنطة الرخوة دون المبلغ الأول بكثير، وهذا واضح في التصوير، وذلك يجري في التمر العَلِك والزبيب، جريانه في الحنطة والشعير.
1999- فنقول بعد ذلك: ما علقه الشارع بالصاع، أو المُد، فهو تقدير وِفاقاً، كالصاع في صدقة الفطر، والمد في الكفارة، والفدية. ثم الذي لا أستريب فيه أن الصاعَ والمُدَّ لا يُعنى بهما ما يحوي البر وغيره، وإنما هو مقدار موزون مضاف إلى صاعٍ، أو مد، والصيعان يبعد ضبط أجوافها على وتيرةٍ حتى لا تتفاوت، وقد تكون متسعة الأسافل متضايقة الأعالي على تخريط، ويعسر تساوي صاعين، ثم تفاوت الأوزان في الأنواع ليس من النادر الذي يتسامح فيه.
قلت: وكنت بمكة أرى ملء صاعٍ من الحنطة المجلوبة من سراة المسماة الحجرية، تزن خمسة أمناء، وملء ذلك بعينه من الحنطة المصرية أربعة، أو أقل، فإذا اتفق الأئمة على مقدارٍ موزون، دلّ أنهم عَنَوْا بالصاع هذا المقدار، فالصاع في الفطرة خمسة أرطال وثلث، والمُدُّ رطل وثلث، ولا ينبغي للفقيه في هذا المقام أن يلاحظ التساوي المرعي في الربويات؛ فإن بيع الحنطة بالحنطة صاعاً بصاع جائز مع اختلاف الأنواع، وتفاوت الأوزان، وذلك لأن المماثلة التي تُعبدنا بها في الربويات لا ترتبط بتعليلٍ معنوي مستقيم على السَّبْر، فاتّبعنا فيه قول الشارع، وقد قال في سياق حديث الربا: "إلا كيلاً بكيل".
والذي يوضّح الحقَّ في ذلك أن ما كان مكيلاً في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً بوزن، وإن كان الوزن فيه أحصر وأضبط، وما اعتيد الوزن فيه لا يستعمل الكيل فيه، فقد انفصل هذا الباب مما نحن فيه.
هذا قولنا في الصاع والمدّ.
2000- فأما الوَسْق، فقد فسره أئمة اللغة أنه ستون صاعاً، ولكن لسنا فيه على تحقق ظاهر، ولا يبعد أنه وِقرٌ مقتصد، فلما لم يكن الوَسْقُ كالصاع الذي أوضحناه، تردد فيه الأئمة: فقال بعضهم: الوَسْق ستون صاعاً والصيعان متقدّرةٌ شرعاً، فكل وَسْق بالوزن مائةٌ وستون منّاً، والخمسة الأوسق ثمانمائة منٍّ، فنحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوسق على هذا، كما نحمل الصاع في نفسه على المقدار الذي ذكرناه.
ومن حمل ذلك على التقريب، فأقرب مسلك فيه أن نتخيل الصيعان من الحب الرزين، أو من التمر العلِك، ثم نعتبر الخفيف من كل نوع، ثم يحمل على الوسط.
هذا طرِيق التقريب، ويمكن أن يعبر عنه بأن الأوساق هي الأوقار، والوِقر المقتصد مائة وستون مناً، فكل نقصان لو بُثَّ، وفرق على الخمسة، لم يُقَل: إنها منحطة عن الاعتدال، فهو غير ضائر، وما يُظهر الانحطاطَ، فهو مُنْقِصٌ، ولو أشكل الأمر، فالأظهر على التقريب، أنه لا يؤثر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علّق باسم الأوسق، ولا يبعد أن يميل الناظر إلى النفي استصحاباً للقلة إلى تحقق الكثرة.
فهذا منتهى الإمكان الآن. والعجب ممن يطيب له ذكر ثلاثة أرطال، أو خمسة، وهو لا يدري من أين يقول ما يقول. والله ولي التوفيق بمنه ولطفه.
فصل:
قال: "والخليطان في النخل يصَّدَّقان صدقة الواحد... إلى آخره".
2001- وقد ذكرنا في باب الخلطة اختلاف القول في أن الخلطة هل يثبت حكمها في النخيل؟ وحاصل المذهب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا حكم للخلطة فيها، ولكل مالكٍ حكم ملكه، ولا فرق بين الشركة والجوار.
والقول الثاني- أنه تثبت الخلطتان جميعاً.
والثالث: أنه تثبت خلطة الشركة، ولا تثبت خلطة الجوار.
ثم فرع الشافعي على أن خلطة الشركة يثبت حكمها، فقال: "لو خلّف ميت نخيلاً مثمرة بين ورثة، فبدا الصلاح في ملكهم، فكانت الثمار خمسة أوسق، إذا صارت تمراً؛ فيجب العشر، فلو اقتسموا النخيل في البستان، قبل بدو الصلاح، وكان لا يبلغ نصيب الواحد خمسة أوسق، فالنخيل متجاورة، وقد زالت الشركة بالقسمة."
فإن قلنا: خلطة الجوار كخلطة الشركة، فحكم الزكاة قائم، كما كان قبل القسمة، وإن قلنا: لا تثبت خلطة الجوار، فلا عشر على واحد منهم؛ إذ نصيبه ناقص عن النصاب.
2002- اعترض المزني وقال: كيف تصح القسمة في الثمار، والقسمةُ بيعٌ، وبيع الرطب بالرطب باطل، فقال الأصحاب: قال الشافعي في الكبير: لو اقتسموا قسمة صحيحةً، فنبّه على ما ذكرتُه، وغرضه أن يتفاصلا، وتصوير ذلك بوجه من المقابلة ممكن من وجوه: منها أن الورثة اثنان زيد وعمرو وبينهما نخلتان شرقية وغربية، ولكل واحد منهما النصف من أصل كل نخلة وثمرتها، فيبيع زيد نصيبه من النخلة الشرقية، من عمرو أصلها وثمرتها بعشرة، ويبيع عمرو نصيبه من أصل النخلة الغربية وثمرتها، من زيد بعشرة، ثم يتقاصَّان العشرة بالعشرة، فتخلص الشرقية لعمرو، والغربية لزيد. فهذا وجه في التفاصل.
ووجهٌ آخر، وهو أن يقول زيد لعمرو: بعت منك نصيبي من أصل النخلة الشرقية، بنصيبك من ثمرة النخلة الغربية، ويقول عمرو لزيد بعت منك نصيبي من أصل النخلة الغربية بنصيبك من ثمرة النخلة الشرقية، فإذا قبلا، خلصت الشرقية لأحدهما بثمرها، وخلصت الغربية للثاني، ولا ربا؛ لأن الجذع من كل نخلة هو المجعول عوضاً للنصيب من الثمرة. وهذا القدر كاف في التصوير.
والصيدلاني لما ذكر الوجه الثاني، قال: هذا مما لم يذكره الشيخ، فقضَّيتُ العجب من هذا، فأين يقع التصوير من معاصات الفقه، حتى ينتهي التأنق إلى قَطْع الأستاذ في تصوير، وكأن الطبقة المتقدمة فرغوا من معاصات الفقه، وأخذوا يستفرغون بعدها جُمام الكلام في التصويرات.
نسأل الله تعالى حسنَ الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا. وهو ولي التوفيق.
فصل:
2003- الأوسق التي ذكرناها تُعتبر في الزبيب والتمر، لا في العنب والرطب، إلا أن يكون الثمر بحيث لا يجفف، ولو جفف، يفسد، ففيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى، ثم الأوسق معتبرة في الحبوب الزكاتية لا محالة، فلو كانت على الحبوب قشور، فالمعتبر فيها أن الحبوب إن كانت بحيث تطحن مع ما عليها من قشر، كالذرةِ، فهي توسق مع قشورها، وإن كانت لا تطحن مع القشور، لم توسق مع القشور، كالبر وما أشبهه.
فصل:
قال الشافعي: "وثمر النخيل يختلف، فثمر النخيل يُجدّ بتِهامة، وهي بنجدٍ بُسرٌ وبلح... إلى آخره".
2004- مضمون هذا الفصل يتعلق بتكميل النصاب، وضم ثمرة نخلة إلى ثمرة نخلة.
فنقول: أولاً- إذا كان للرجل نخلة تثمر في السنة مرتين: كانت تُثمر وتُجدّ، ثم تُطْلِع، وتثمر، وتُجَدّ، فقد قطع الشافعي، واتفق الأصحاب على أنه لا يضم الحَمْل الثاني إلى الحَمل الأول، حتى لو كان كلُّ حَمْلٍ ناقصاً عن النصاب، وكانا نصاباً، فلا عشر، والحَمْلان في السنة الواحدة كالحَمْلين في سنتين إجماعاً.
2005- ثم إذا تمهد هذا قلنا: نخيل تِهامة أسرع إدراكاً من نخيل نجد، فإذا أطلعت نخيل الرجل بتهامة، ثم أطلعت نخيله بنجد، فقد يضم ثمار نجد إلى ثمار تِهامة، وقد لا يضم. ونحن نذكر الوفاق في طرفي النفي والإثبات، ونذكر موضع الخلاف.
فنقول: إن أطلعت نخيلُ تهامة، ثم أطلعت نخيل نجد قبل بدوّ الزهو والصلاح، في ثمار تهامة، فلا خلاف أنا نضم ثمارَ نجدٍ إلى ثمار تهامة، في تكميل النصاب.
ولو جُدّت ثمارُ تهامة، ثم أطلعت النجديّات، فلا خلاف أنا لا نضم، ثم نفرد ثمرةَ كل ناحية بحكمها.
ولو بدا الصلاح في التهاميّات، ولم تُجَدّ بَعْدُ، فأطلعت النجديات، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من يرى الضمَّ، وهو الذي قطع به الصيدلاني، ومنهم من لا يضم؛ فإن النجديات أثمرت بعد وجوب الزكاة في الثمار التهامية؛ إذ الزكاة تجب ببدوّ الصلاح، كما سنصفه إن شاء الله تعالى، فإذا تلاحقت قبل الوجوب، تضامَّت، وإذا وجد آخرها بعد وجوب الزكاة في أولها، فلا ضم وهذا اختاره بعض المصنفين، وزعم أنه المذهب.
فإذاً اعتبر بعض الأئمة الزهوَ، واعتبر بعضهم الجِداد، ووجهه أن الثمرة ما دامت على الشجرة، فله حكم التلاحق في العادة، والأحكام تتبع العادات فيما يتعلق بالمعاملات.
ثم الذين اعتبروا الجداد، اختلفت عبارتهم، والمحصَّل منها وجهان:
أحدهما: أن الاعتبار بوقوع الجداد، فإن لم يقع، فالثمار النجدية المطلقة تلحق، والثاني: أن الاعتبار بدخول وقت الجداد، فلا ضم ولا إلحاق بعده، وإن تركت الثمار على الأشجار أياماً، فهي في ترك الضم كالمجدودة.
2006- ثم تمام البيان فيه أنه قد يدخل وقت الجداد، بحيث لو فرض، لم يكن بعيداً، وإن كان تركه أياماً أَوْلى بها، فمن يعتبر وقت الجداد لا عينَه، فالأمر فيه متردد عندي بين أول الوقت في الجداد وبين أوْلى الوقت فيه. ولعل النهاية التي هي الأولى أحق بالاعتبار، حتى تصير الثمار كأنها مجدودة. والله أعلم.
2007- ثم فرع الشافعي مسألة وقال: إذا كانت له تِهاميّة تثمر في السنة مرتين، فلو أطلعت نجدية قبل جداد الثمرة الأولى، والتفريع على اعتبار الجداد، فثمرة النجدية مضمومة إلى الثمرة الأولى التهامية. فإذا جُدّت التهامية، وبقيت ثمار النجدية، ولم تجد، حتى أطلعت تلك التهامية مرة أخرى، قال الشافعي: لا أضم الثمرة الثانية إلى ثمار النجدية، وعلل بأنه لو ضمها إلى ثمرة النجدية، وهي مضمومة إلى الحَمل الأول للتهامية، فيلزم من ذلك ضمُّ الثمرة الثانية إلى التهامية الأولى منها بواسطة النجدية، وذلك ممتنع لا سبيل إليه عنده.
وبمثله لو جُدّت التهامية في حَملها الأول، ثم أطلعت بعدها نجديّة، فلا تضم إلى الحَمل الأول للتهامية، فلو أطلعت التهامية مرة أخرى، والنجدية لم تجد بعدُ، فالحمل الثاني من التهامية مضمومة إلى ثمار النجدية، على قياس الضم؛ إذ ليس في هذا الضم ما استبدعناه في المسألة الأولى، من ضم حَمْل شجرة إلى حملها. وهذا بيّن.
فصل:
قال الشافعي: "ويُترك لصاحب البستان جيّدُ الثمر... إلى آخره".
2008- إذا اشتمل البستان على أنواع محصورة من الثمار، وكان الأخذ من كل نوع بقسطه متيسراً، فإنا نفعل هذا؛ فإن التبعيض فيها لا يجرّ ضرراً. وليس كما إذا تعددت أنواع الماشية، مع اتحاد الجنس؛ فإنّ القول اختلف فيها، ففي قولٍ نعتبر الأغلب، وفي قولٍ نعتبر قيمَ الأنواع ونقسطها، ونأخذ ما يتوزع من قيمتها، ونصرفه إلى نوعٍ. والتشقيصُ على كل قولٍ في الحيوان مجتنب، ولا تعذّر في تشقيص الثمار؛ فإنها قابلة للتجزئة.
فأما إذ كثرت الأنواع، وعسر تتبعُ كل نوع، وإخراج العشر من كل واحد، فقد اتفق الأئمة على أنا نعتبر الوسط، فنترك الجيد البالغ من البَرْنيِّ والكَبيس، ولا نأخذ الرديء كالجُعْرور ونحوه، فنرتاد نوعاً وسطاً بين الجيد والرديء، والغرض في الحيوان والمعشرات توفيةُ الوسط على أيسر وجه على المستحقين.

.باب: كيف تؤخذ صدقة النخل والكرم والخَرْص:

2009- أولاً- نصدّر الباب بأن الخرص ثابتٌ شرعاً، وقد خرص عبدُ الله بنُ رواحة نخيل خيبر على أهل خيبر، في قصة مشهورة، وكيفية الخرص أن يأتي الخبير بأقدار الثمار، وما تصير إليه إذا جفت الأشجار، ويحزر قدرَ كلِّ نوع على الأشجار، ثم يستبين أن كل نوع إذا جف، فإلى أي مقدار يرجع، ثم يضبط المبلغ ويخبر عنه، فهذا صورة الخرص.
ثم اختلف القول في أن الخارص الواحد يكفي أم لابد من خارصين؟ كما اختلف القول في القاسم، وسأجمع في ذلك قولاً شافياً، أذكر فيه مواقع الوفاق والخلاف، فيما يُشترط العدد فيه، وفيما يكتفى فيه بالواحد، في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى.
2010- فإذا ثبت أصلُ الخرص، فالذي نرتبه عليه بيانُ القول في أن العُشر متى يجب في الثمار والزروع؟ فالذي ذهب إليه الأئمة، وشهدت به النصوص أن حق المساكين يتعلق بالثمار إذا بدا الصلاحُ فيها، كما سنصفُ معنى بدو الصلاح في كتاب البيع-إن شاء الله تعالى- وبدو الاشتداد في الحب بمثابة بدو الصلاح في الثمار، وتمام الاشتداد في الحب، ليس شرطاً، كما أن تمام الصلاح غيرُ مرعي في الثمار.
ثم إذا وجب حق المساكين، فيجب حقُّهم تمراً وزبيباً، وحباً مشتداً منقًّى، ولا خلاف أن الخطاب بالتأدية لا يتوجه قبل انتهاء مدة المعشَّرات نهاياتِها، التي يتأتى تأدية العشر كما وصفناه منها.
فهذا حكم الوجوب من غير إيجاب التأدية، وإن كان تأدية الثمر وما في معناه ممكناً، باعتبار الخرص.
2011- وذكر صاحب التقريب قولاً غريباً في كتابه: أن حق المساكين إنما يجب عند جفاف التمر والزبيب، وتمييز الحب، وزعم هذا القائل أن وجوب الزكاة في وقت وجوب تأديتها، لا يتقدم الوجوب على الأمر بالأداء.
وهذا شبيه بالقول الذي حكيناه في أن الإمكان من شرائط الوجوب، ولعل ما ذكره أقرب في ظاهر النظر من قول الإمكان؛ فإن الواجب التمرُ، وإيجاب التمر قبل وجوده أبعد من الحكم بوجوب زكاة المواشي والنقود في الذمة، مع ارتقاب من يسلّم إليه.
وهذا الذي نقله بعيد غير معدود من المذهب عندي.
2012- ومن أجرى الأبواب كلَّها على قياسٍ، ولا يُجوِّز أن يتميز كل باب بخاصية، فليس مِن طلب الحقيقة في شيء، فليعلم الناظر أن الثمار يخلقها الله تعالى على تدريج، وفيها منتفع عظيم قبل الجِداد والتجفيف؛ فإن الانتفاع بالأعناب، والأرطاب، لا ينقص عن الانتفاع بالتمور والزبيب، وأصل الوضع مشعر بأن الله تعالى إذا أفاد الموسر ثمرةً، وانتهت إلى الانتفاع، فيلزمه أن ينفع المساكين، فهذه القضية تقتضي لا محالة ثبوتَ حق المساكين عند بدو الصلاح، ولكن لو كلفنا أربابَ الأشجار إخراجَ العشر، لعسر عليهم، فقد يريدون أن يجففوا، وحقوق المساكين لا تنقص بالتجفيف قدره، بل تزيد؛ فأوجب الشرع حقَّ المساكين، وأخر-لما ذكرناه- التأدية، ثم ألزم رب النخيل أن يقوم بمؤنة الجداد والتجفيف في حصة المساكين، كما يفعله بحصته، وليس هذا كالإمكان الذي أشرنا إليه؛ فإنه قد يتفق الإمكان مع الوجوب، فإن اتفق تأخّره، ففي الذمة متسع. وليس بدعاً أن يثبت الوجوب مع عسر الأداء، كما في الديون.
2013- ونحن الآن نذكر آثار الوجوب عند بدو الصلاح، فنقول: من اشترى الأشجار والثمار قبل بدو الصلاح، ولزم له الشراء، ثم بدا الصلاح، فقد تعلّق حق المساكين، فلو رام ردّه بعيب قديم، فهو كما لو اشترى أربعين من الغنم، وحال عليها الحول، ووجبت الزكاة، ثم اطلع على عيب قديم. وقد بان تفريع مثل هذا عند ذكرنا الأقوالَ في متعلق الزكاة في الذمة والعين، وكذلك لو بدا الصلاح، ثم أراد بيعَ الثمار، فهذا بيعُ مالٍ تعلق به حقُّ المساكين، ثم القول في تغليب الذمة والعين وتخريج البيع في قدر الزكاة وتفريق الصفقة وراءه على ما مضى، حرفاً حرفاً.
2014- ومما يجب أن يكون على ذُكر من الناظر في ذلك أن الأوقات التي تجري من بدو الثمرة إلى بدو الزهو، ليست في حكم الحول الذي ينقضي على الأموال الزكاتيه، حتى يقال: من لم يكن ابتداء بدو الثمار في ملكه، وكان ابتداء الزهو في ملكه، لا تلزمه الزكاة، بل لو ملك المالك بجهةٍ من الجهات الثمارَ في أيامٍ قليلة، وبدا الزهو، وجبت الزكاة، فبَدْوُ الزهو في حكم استهلال هلال شوال في وجوب فطرة العبيد.
2015- ثم قال الأئمة: إذا أوصى بثمارٍ، ومات، فقبل الموصَى له، ثم أزهت، فالعشر على الموصَى له، وإن كان وُجد الزهو في حياة الموصي، فالعشر واجب عليه، يؤدَّى من تركته.
وإن بدا الزهو بعد موته، وقبل قبول الوصية، فهذا يخرج على أن الملك في الموصَى به، بين موت الموصي وقبول الموصى له لمن؟ وفيه خلاف سيأتي في موضعه.
فإن قلنا: الملك في ذلك الزمان للموصى له، نظر: فإن قبل الوصية، فقد تأكد الملك، فالعشر واجب عليه، وإن رد، فقد زال ملكُه بعد ثبوته، ففي وجوب العشر عليه وجهان، وسنذكر نظيرهما في صدقة فطرة العبد الموصى به في فروع ابن الحداد، وإنما لا أستقصيه لأنه بين أيدينا.
وإن قلنا: الملك موقوف، فإن قبل، بان أنه حصل بموت الموصي، فعلى هذا يلزمه العشر، وإن ردّ، بان أنه لم يحصل بالموت له ملك، فيرد. فعلى هذا لا يلزمه، ويلزم الورثةَ.
وإن قلنا: الملك بين الموت والقبول للورثة، فهو ملك ضعيف، فإن رد الموصى له، لزم الورثةَ العشرُ، وإن قبل، فوجهان:
أحدهما: يلزمهم؛ لمكان وقوع الزهو في ملكهم.
والثاني: لا يلزمهم؛ فإن الملك الذي أضيف إليهم ملكُ تقدير، لا يفيد ارتفاقاً وانتفاعاً، فلا يوجب إرفاقاً.
وإن قلنا: الملك للميت إلى قبول الموصَى له، فلا زكاة؛ فإن إيجاب الزكاة ابتداءً على الميت محال، وإذا لم نوجب على الموصَى له والورثة، أسقطنا العشر رأساً.
وسنعود إلى ذلك في مسألة الوصية بالعبد، وجريان الاستهلاك بعد الموت.
ونذكر-إن شاء الله تعالى- الخيارَ في البيع، والتفريع على أقوال الملك، والقول في عُشر الثمار عند الزهو، وفي زكاة الفطر على وتيرة واحدة.
فهذا بيان القول في وقت وجوب العشر.
ثم وراء ما ذكرناه دقيقةٌ، بها ينكشف الغطاء، وسيأتي بابٌ في الزكاة في الأملاك في زمان الخيار، وما يجري فيها من زهو وغيره، وفيه نستقصي هذا إن شاء الله عز وجل.
2016- فنقول إذا جرى الخرص، فقد اختلف قول الشافعي في أن الخرص هل يُثبت حكماً لا يَثبت دونه؟ فقال في أحد القولين: لا حكم له، إلا أنا نضبط المقدار، ونطلبُ العشرَ في أوانه بحسبه.
والقول الثاني- أنا نُثبت حكماً على ما سنصفه، فنقول: الخارص يُضمِّن المالكَ حصةَ المساكين تمراً، ويُطلق تصرفَ المالك في جميع الثمار بما بدا له، وينقلب حق المساكين إلى ذمته. وفي القول الأول لا يتغير بالخرص في ذلك حكم، وحكم تصرف المالك في الثمار، كما سنوضحه الآن.
وعبّر الأئمة عن القولين بأن قالوا: الخرص في قولٍ عِبرة: أي يفيد الاطلاع على المقدار ظناً وحسباناً، ولا يغيّر حكماً، وفي قول هو تضمين، أي يضمَّن المالك حق المساكين، ويُطلَق تصرفُه في الثمار.
فإن قلنا: الخرص عِبرةٌ، فربُّ الثمار يتصرف في تسعة الأعشار، ولا يتصرف في العشر، الذي هو حق المساكين.
2017- وهاهنا وقفةٌ طال فيها نظرنا، فليأخذ الناظرُ المقصودَ عفواً صفواً، فرب ساع لقاعد.
فنقول: أما إذا وجبت الزكاة في المواشي أو غيرِها، ففي قول الذمة يتصرف في الجميع، كما مضى، وفي قول العين لا يتصرف في مقدار الزكاة، فإن تصرف في الجميع، ففيه التفريق والقول الطويل كما مضى، ولو أبقى مقدار الزكاة، وتصرف في الباقي على منعنا التصرفَ في مقدار الزكاة، ففي نفوذ تصرفه فيما يزيد على مقدار الزكاة كلامٌ وخلافٌ ألحقته بالحاشية فيما تقدم، والعشر عندنا يتعلق بالمعشَّر على حسب تعلّق الزكاة بالنُّصُب، من غير فرق، فما معنى قطع الأصحاب بالتصرف في تسعة أعشار الرطب والعنب؟.
والغرض يَبينُ في ذلك بذكر ثلاثة منازل: إحداها- إذا وجبت الزكاة، وتحقق الإمكان، فأرادَ التصرف في بعض المال، على قولنا: يُرَدُّ تصرُّفُهُ في مقدار الزكاة، وقد ذكرنا فيه خلافاً. ووجه المنع شيوع واجب الزكاة في الجميع.
المرتبة الثانية- ولو حال الحول، ولم يتمكن المالك من تأدية الزكاة، وقلنا بوجوبها، فالتصرف-على المنع- في مقدار الزكاة مردود، وفي الباقي خلاف، فالأولى تنفيذه إذا أبقى مقدارَ الزكاة؛ فإنه غير منسوب إلى التقصير في التأخير، فلو سددنا عليه التصرف فيما يزيد على قدر الزكاة؛ لكان ذلك حجراً مضراً. فهذه المرتبة الثانية.
والمرتبة الثالثة- الحكم في الثمار بعد الزهو، على قول العِبْرة، فالذي رأيته للأئمة القطع بنفوذ التصرف في الزائد على قدر الزكاة؛ فإن المنع من التصرف في الثمار بالكلية خروجٌ عن الإجماع، وهو خلاف ما درج عليه السلف، وفيه منع الناس من أكل الرطب والعنب؛ فإن تأدية الزكاة لا تقع إلا من التمر والزبيب، وفيه طرف من المعنى وهو أن مالك الثمار ملتزم مؤنة تربية الثمار إلى جفافها، وهو في ذلك يُرَبِّي حقَّ المساكين، فقوبلت هذه المؤنة بإطلاق تصرفه في التسعة الأعشار، فهذا إذن مقطوع به كما ذكرناه.
2018- ونعود بعد ذلك إلى تفريع القولين في أن الخرص عِبْرة، أو تضمين؟ فأما حكم التصرف على قولنا إنه تضمين؛ فإنه يتفرع على أصلٍ نذكره مقصوداً، ثم نفرع عليه التصرف، فإن قلنا: الخرص تضمين، فلو حصل التضمين كما سنذكره؛ فإن فيه تفصيلاً، فلو تلفت الثمار بعد بدو الصلاح وجريان التضمين، فإن أتلفها هو بنفسه، فعليه للمساكين عشرها تمراً؛ فإنه قد ضمن حقَّهم.
وإن قلنا: الخرص عبرة، فإن أتلف الرطب، لم يضمن إلا يضمنه متلفُ الرطب على غيره، فليلتزم قيمةَ العُشر لما أتلفه؛ فإنه لم يضمن للمساكين حقهم تمراً.
فهذا إذا أتلف وقد جرى الخرص، فأما إذا دخل وقت الخرص، ولم يتفق بعدُ جريانه، فلو أتلف رب الثمار الثمارَ، فإن قلنا: الخرص لو جرى، لكان عبرة، فالجواب كما تقدم. وإن قلنا: الخرص تضمين لو جرى، فإذا أتلف الثمر قبل الخرص، ففيما يلزمه وجهان مشهوران:
أحدهما: يلزمه قيمة العشر رطباً، كما أتلفه؛ فإن التضمين لم يجر بعدُ بالخرص.
والثاني: يضمن التمرَ؛ فإن العشر قد وجب، ولا يجب العشر إلا تمراً، فيما يقبل التجفيف.
وحقيقة هذا ترجع إلى أن الشرع يُلزم التمرَ الجاف، والخرصُ يُظهر مقداره، فأما أن يتضمن الخرص بنفسه إلزاماً لا يقتضيه نفسُ بدو الصلاح، فلا. وهذا حسن في التوجيه.
فإذا قلنا: الخرص عِبْرة، فلو جرى التضمين من الخارص صريحاً، والضمان من صاحب الثمار قبولاً، فهو لغو على قول العبرة، ولو أتلف الثمارَ، لم يلتزم إلا قيمة عشر ما أتلف.
2019- ومما يتعلق بإتمام القول في ذلك أن من أئمتنا من قال: الخرص يتضمن التضمين إذا جرى ذكر ضمان التمر صريحاً، بأن يقول الخارص: ألزمتك حصة المساكين تمراً جافاً، فإن جرى الخرص المجرد من غير ذكر ضمان، فلا يلزمه عند صدور الإتلاف منه إلا قيمةُ ما أتلف.
فإذا جمعنا ما قيل في التضمين إلى قول العبرة، انتظم منه أقوال في أنه إذا أتلف الثمار ماذا يلزمه؟
أحدها: أنه يلتزم التمر، وإن لم يجر خرص، إذا كان الإتلاف بعد بدو الصلاح، مصيراً إلى إلزام الشرع.
والثاني: أنه يلتزم التمر إن جرى الخرص، مطلقاً كان، أو مقيداً، ولا يلتزم إلا قيمة ما أتلف إذا لم يجر خرص.
والثالث: أنه يضمن التمر إذا جرى ذكر التضمين. وإن لم يجر ذكره، فأتلف لم يلتزم إلا قيمةَ ما أتلف.
2020- ثم الذي أراه أنه يكفي تضمين الخارص، ولا يشترط قبول المخروص عليه.
فإن فرعنا على قول العبرة، فلا يلتزم إلا قيمةَ ما أتلف، ولو جرى التضمين والقبول مثلاً. فهذا بيان الحكم في الإتلاف.
ولا يخفى أن الإتلاف قبل بدو الصلاح لا حكم له؛ فإنه قبل وجوب حق المساكين، فهو بمثابة إتلاف مال الزكاة قبل حولان الحول. وكل ما ذكرناه مفروض في الإتلاف.
2021- فأما إذا تلفت الثمار بآفة سماوية، قبل أوان الجداد، فينبغي أن يعلم الناظر أنا إذا فرعنا على قول العبرة، فلا يخفى القطع بسقوط حق المساكين؛ فإنه تلف حقُّهم، وفات بفوات الثمار، من غير تقصير من المالك، فكان هذا بمثابة تلف مال الزكاة بعد الحول، وقبل الإمكان.
وإن قلنا: الخرص تضمين، فالذي أراه أن يسقط الضمان بالتلف؛ فإنه ضمان على شرط ألا تكون جائحة، ولو قيل: تسليطه على التصرف في حق المساكين يُلزمه الضمان وإن تلف، وكأنه قبض حقهم، وألزم ذمته التمرَ إلزامَ قرار-والعلم عند الله تعالى- فهذا احتمال معنوي. والذي قطع به الأصحاب سقوطُ الضمان بالجائحة.
فهذا بيان حكم التلف والإتلاف.
2022- فأما التصرف، فعلى قول العبرة يتصرف فيما يزيد على حقوق المساكين، كما تقدم ذكره، وفي تصرفه في مقدار حق المساكين من التفصيل ما في تصرف مالك المال الزكاتي في حق المساكين، بعد وجوب الزكاة.
وإن قلنا: الخرص تضمين، فحيث ثبت ضمان التمر، على ما تقدم تفصيله، نفذ تصرفه في حق المساكين. وحيث قلنا: لا يثبت الضمان، فتصرفه في حق المساكين كتصرفه على قول العبرة.
فهذا تمام ما أردناه في ذلك.
2023- ثم ذكر صاحب التقريب في التفريع على وجه حكاه وجهاً بعيداً، لم أذكره؛ حتى لا يختلط بالمذهب ونظمه، وأنا أذكره الآن.
فإذا جرى الخرصُ، ولم يجر ذكرُ الضمان، فقد قال بعض الأصحاب: لا ضمان بمجرد الخرص، فإذا أتلف في هذه الحالة الثمارَ، والتفريع على هذا الوجه الذي انتهينا إليه، فالمذهب أنه يلتزم قيمة ما أتلف.
وذكر وجهاً آخر هاهنا، أنه يضمن أكثر الأمرين من مكيلته تمراً جافاً، أو قيمةِ العشر كما أتلفه. وهذا غريب لا أصل له، فليسقط.
وبالجملة إذا لم يثبت الضمان على قول التضمين، التحق التفريع بقول العبرة.
فرع:
2024- إذا كان بين رجلين رطب مشترك على النخيل، فخرص أحدهما على الثاني، وألزم ذمتَه حصةَ نفسه تمراً جافاً، فقد قال صاحب التقريب: يتصرف المخروص عليه في الجميع، ويلتزم لصاحب التمر، على قولنا: الخرص تضمين، كما يتصرف في نصيب المساكين بالخرص.
وإن قلنا الخرص عبرة، فلا أثر للخرص في حق الشركاء.
وهذا الذي ذكره بعيد جداً في حق الشركاء، وما يجري في حق المساكين، لا يقاس به تصرف الشركاء في أملاكهم المحققة؛ فإن المذاهب على التردد، في أن المساكين هل يستحقون من عين الثمار، ولا شك أن المالك مطالب بحقهم، وحقوق الشركاء في أعيان الثمار لا مطالبة لأحد على أحد.
ثم إن ثبت ما قاله صاحب التقريب، فمستنده عندي خرصُ عبدِ الله بنِ رواحة على اليهود؛ فإنه ألزمهم التمرَ، وكان ذلك الإلزام في حقوق الملاك والغانمين. والله أعلم.
والذي لابد منه في مذهب صاحب التقريب في ذلك، أن الخرص في حقوق المساكين يكفي فيه إلزام الخارص، ولا يشترط رضا المخروص عليه، فأما في حق الشركاء، فلابد من رضا المخروص عليه لا محالة.
فرع:
2025- سنذكر في كتاب المساقاة اختلاف القول في أن الخرص هل يجري في سائر الثمار؟ وفائدة الخلاف جوازُ المساقاة، أو منعها فيما عدا النخل والكرم، فأما أمر الزكاة، فلا حاجة إلى الخرص في غير النخيل والكروم من الأشجار؛ إذ لا عشر إلا في النخل والكرم، كما سيأتي، ورأيت الأصحاب قاطعين بأن الخرص لا يجري في الزروع أصلاً؛ فإن الحبوب لا يضبطها الخرص، فلا خرصَ، وإن جرى، فلا حكم له أصلاً.
فصل:
2026- إذا ادّعى أصحاب الثمار جائحة، وسبباً في ضياع الثمار، فإن كان ما ادَّعَوْه ممكناً غيرَ بعيد، مثل أن يدّعوا اختلال الثمار ببَرَدٍ، ولقد كان البرد وأثره يختلف في الأشجار، اختلافاً متفاوتاً، فإذا ادَّعى صاحب ثمرة أثراً، فما قاله محتمل، وهو مصدق فيه، وإن اتّهم، حُلِّف.
وإن ادعى شيئاً يكذبه المشاهدة، مثل أن يدّعي حريقاً، ونحن نعلم أنه لم يقع، فهو مكذَّب.
وإن ادعى أمراً مثله يشيع، ولا يخفى، وقد يفرض خفاؤه على بعد، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يقبل قوله، ويطالب بالبينة، وطردوا هذا في الوديعة، فقالوا: إن ادعى المودعَ سبباً في الضياع يشيع مثلُه غالباً، طولب بالبينة، فإن لم يأت بها، لم يحلّف. وقد دل ظاهر كلام الصيدلاني عليه.
والذي قطع به شيخي أن كل مؤتمن ادعى شيئاً محتملاً، وإن كان بعيداً، فهو مصدّق مع يمينه، وإنما يردّ قوله إذا قطعت بكذبه، وهذا قياس ظاهر؛ فإن المودعَ إذا ادعى ردَّ الوديعة، فالأصل عدم الرد، ولكنه مصدق على يمينه، فيكفي في تصديقه الإمكانُ، وإن بَعُد.
فالأمر في تلف الثمار على هذه التقاسيم.
ثم من يطلب البينة فيما يظهر غالباً، لا يشترط إقامة البينة في تأثير الحريق الذي ادعاه في ثماره، بل إذا أثبت الأصل بالبينة، صار اختلال ثمرته ممكناً غيرَ بعيد، فيحلف الآن على ما يدعيه من النقصان.
2027- ثم ذكر الشافعي في الخرص دعوى من المخروص عليه، فقال: "إن قال: قد أحصيتُ مكيلة ما أخذت، فكان كذا... إلى آخره".
إذا صح الخرص من أهله في وقته، فادّعى المخروص عليه آخِراً تفاوتاً، نُظر، فإن قال: اعتمد الخارص في التحيّف قاصداً وظلمني، فلا يقبل ذلك منه؛ فإنه نسبَ مَن هو مؤتمن شرعاً إلى ما يخالف منصبه.
ولو قال: أخطأ ولم يتعمد، نُظر؛ فإن نسبه إلى خطأ فاحشٍ يبعد أن يقع مثله لذي بصيرة وخبرة، فلا يصدَّق، مثل أن يقول: خرص عليّ مائة وَسْق، وإنما هو خمسون، أو سبعون. والرجوع فيما يُعدُّ غلطاً فاحشاً، إلى أهل البصائر.
وإن ادعى غلطاً يقع مثله، فالذي ادعاه ممكن لا ينافى الأمانة، والخبرة، فيقبل ذلك منه، مع يمينه.
ولو ادعى غلطاً فاحشاً، فقد قال الأئمة: إن رُدّ قولُه فيما يتفاحش، فقوله مقبول في القدر الذي لا يتفاحش؛ فإن الذي ذكره فيه محتمل، وإنما الزائد هو البعيد، فقوله في القدر الزائد على المحتمل مردود، وقوله في المحتمل مقبول.
وسنذكر لذلك نظيراً في العِدَّة، فنقول: يتصوّر أن تنقضي عدّةُ ذات الأقراء باثنين وثلاثين يوماً وساعتين، فلو ادعت انقضاء العدة بأقلَّ من هذه المدة، لم تصدق، فإذا مضت المدة التي يتصوّر الانقضاء فيها، فتصدق الآن، وتكذيبها قبل هذا لا يوجب تكذيبها في المحتمل الممكن.
2028- ولو ادعى المخروص عليه تفاوتاً يقع مثله بين الكيلين، بأن يفرض إيفاءٌ في كَرَّةٍ من غير قصد، واقتصاد في الأخرى، مثل أن يقول الخارص: "مكيلةُ الرطب تمراً مائةُ صاع"، فإذا خرج تسعةً وتسعين، فقد يكال، فيخرج مائة في الكرة الثانية، فقد ذكر الصيدلاني والعراقيون وجهين في ذلك، وتصويرها: أن يزعم المخروص عليه أن هذا النقصان كان لزلل قريب في الخرص. ويقول الخارص: بل هو لتفاوتٍ وقع في الكيل، وكان قد فات التمر مثلاً. فمن يُصدِّقُ المخروصَ عليه، فتأويله الحملُ على ذلك في الخرص. ومن لم يصدِّقْه يقول: لم يتحقق النقص.
والذي أراه تصحيحُ الوجه الأخير.
ولكن توجيه الأول لابد من الوقوف عليه. فمن يصدقه يقول: قد يفرض كيل مع رعاية الاقتصاد، فلا يختلف أصلاً، وإن أعيد مراراً، فيقول المخروص عليه: قد اقتصدت، فنقص، فكان لأجل الخرص ما كان، فقد قال ممكناً، فصدّقه القائل الأول.
ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن الكيل يتفاوت لا محالة.
فرع:
2029- قال صاحب التقريب: الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الخارص يُدخل النخيل كلَّها في الخرص. قال: وللشافعي قول في القديم: أن يترك لرب البستان نخلة، أو نخلات، يأكل ثمارها هو وأهله، ولا تكون النخلات محسوبةَّ عَليه. قال: وهذا على مقابلة قيامه بتربية الثمار إلى الجداد، ثم على تعبه في التجفيف بعد الرد إلى الجَرِين. ثم قال: ويختلف هذا باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم. وهذا ضعيف مرجوع عنه، وفي المصير إليه تغيير القواعد في النُّصب والزكوات.
فصل:
قال: "وإن أصاب حائطه عطش... إلى آخره".
2030- إذا خُرصت الثمار، فأصاب الحائطَ عطش، ولو تركت الثمار على النخيل، لأضرت بها، ولو جُدّت على ما هي عليها، لأضر الجِدادُ بالمساكين؛ فإنهم لا يصلون من هذه الثمار إلى حقهم، قال رضي الله عنه: "ينبغي أن يرفع صاحب الحائط الأمر إلى الوالي"، ثم حق الوالي إذا تحقق عنده هذا أن يأذن في قطع الثمار؛ فإن النخيل إذا بقيت، رجع النفع في بقائها إلى المساكين في السنين المستقبلة، فالنظر لهم يقتضي هذا أيضاًً.
2031- ثم إذا قطعت الثمار كذلك، فقد قال الشافعي: يؤخذ عشر الثمار، أو ثمَنُ عشرها حقاً للمساكين، وهذا اللفظ فيه تردد.
ونحن نذكر طرق الأئمة مذهباً، ثم لا يخفى تنزيل اللفظ عليها.
قال قائلون: إن قلنا: القسمةُ إفراز حق، فيجوز إجراء القسمة في عين الرطب، وإن قلنا: القسمةُ بيع، فهذا يخرج على أن الرطب الذي لا يتأتى منه التمر، هل يجوز بيعُ بعضه ببعض؟ وفيه خلاف سيأتي في كتاب البيع، إن شاء الله تعالى. فإن جوزنا بيع بعضه ببعض، جازت القسمة، وإن منعنا البيع، منعنا القسمة. وهذا القائل يقول في نص الشافعي إنه تردّد منه وإشارةٌ إلى القولين.
فإذاً، إذا جوزنا القسمة، فلا كلام. وإن منعناها-وحق المساكين ثابت في عين الثمار- فالوجه تسليم جملة هذه الثمار إلى الساعي، حتى يصير قابضاً لمقدار حق المساكين؛ إذ ملكهم إنما ينحصر في هذه الثمار إذا اتصل القبض بها، والقبض في المشاع إنما يجري بتسليم الكل، والقسمة ممتنعة على هذا القول، فإذا تعين ملك المساكين بيع جميعُ الثمار وسُلم حصةُ المساكين في الثمن إلى الساعي.
ولو اشترى المالك حصة المساكين مشاعاً، جاز بعد جريان الإقباض كما ذكرناه.
فأما إذا ابتاعه من الساعي قبل تصوير الإقباض، أو فرض اشتراك الساعي، وربّ الثمار في بيع الجميع، فهذا غير جائز؛ فإن حق المساكين إنما يتعيّن وينحصر بالقبض، ونحن وإن قلنا: إنهم يشاركون ربَّ المال في جزءٍ استحقاقا، فلرب المال أن يوفي حقوقهم من مالٍ آخر، فلا يصلح ما نقدره لهم من الملك للتصرف. نعم إذا جرى فيه القبض، تحقق الملك على الأقوال كلها.
2032- وذكر صاحب التقريب طريقةً أخرى. فقال: المحذور من القسمة في القول الذي انتهى التفريع إليه أنها بيعٌ، وبيع الرطب بالرطب ممنوع، في قواعد الربا، والربا غير معتبر في المقاسمة التي تقع مع مستحقي الزكاة، فيجوز قسمةُ الرطب، وإخراج العشر منه، وإن كنا نمنع قسمةَ الرطب بين الشركاء؛ وذلك أن تعبدات الربا إنما تراعى في البَيْعات الخاصة بين المتعاملين المتعينين، فأما تصرف الإمام لأقوام لا يتعينون، فلا يراعى فيه تعبدات الربا. وقد يقع تصرف عام يمتنع إجراء مثله على الخصوص.
ثم زيف هذه الطريقة، وهي مزيفة. والشارع لم يخصص تعبدات الربا بتصرف دون تصرف.
2033- وذكر أئمة المذهب طريقة أخرى، فقالوا: لا مدخل للأبدال في الزكوات في أصل المذهب، ولكن إذا مست حاجةٌ ظاهرةٌ إلى إخراج البدل، حكمنا بجوازه. وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في إخراج البدل عند مسيس الحاجة إليه، بسبب وجوب شقصٍ من حيوان. فإذا تعلق حق المساكين بالثمار، وعسرت القسمة؛ تفريعاً على منع قسمة الرطب، وقد يتعذر البيع، فإذا أخرج من عليه العشرُ بدلاً، أجزأ، لهذه الحاجة؛ فإن الأصل الذي به استقلال الزكوات سدُّ الحاجات، فإن كان تَعبّدٌ وراء حصول ذلك، فهو متبع، ولكن لا يبعد سقوط ذلك التعبد لحاجة، وقد تمهد هذا مذهباً وخلافاً. فإذاً يجوز إخراج القيمة في هذه الصورة إذا حكمنا بتعذر القسمة.
2034- وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر، فقالوا: نحن وإن حكمنا بأن القسمة بيعٌ، فقد نجيزها للحاجة، حيث نمنع صريح البيع، وهؤلاء جوزوا قسمة الأوقاف للحاجة، وإن امتنع بيعها؛ فإذاً يجوز قسمة الثمار، وإن منعنا بيعها، تخريجاً على هذا.
2035- ثم قال المحققون: إذا جوزنا أخذ الأبدال للحاجة، وجوزنا القسمة للحاجة، فالساعي إن شاء أخذ عُشرَ القيمة، وإن شاء أخذ عشر الثمر، وهذا القائل يحمل نص الشافعي على هذا المحمل، حيث قال: يأخذ الإمام عشرَ الثمر، أو عشرَ القيمة، فهذا يبتنى على جواز البدل، وجواز القسمة جميعاً. ثم ما ذكرناه ليس تخيُّرَ تشهِّي، ولكن الإمام يرعى الأصلح والأغبط للمساكين.
ثم قد تمهد في باب زكاة الإبل أمثالُ هذا في التخيّر، وسبق الخلاف في أن اعتبار الغبطة واجب، أم يتخير المالك، كما يتخير بين الشاتين والدراهم في الجبران؟
وهذا يخرج على ذلك. فإن فوضنا الأمر إلى اختيار المالك، فليس عليه رعايةُ الغبطة، وإن فرضناه إلى نظر الساعي، فلا شك أنه يتعين رعاية المصلحة، وقد نقول: للمالك إخراجُ زكاة أمواله الظاهرة بنفسه، فننزله في التفريع منزلةَ الساعي في رعاية الغبطة.
فهذا بيان الفصل، وفي الفصل بقية ستأتي في آخر باب الزرع إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ومن قطع من ثمر نخلة قبل أن يحلّ بيعه... إلى آخره".
2036- مقصود هذا الفصل أن صاحب الثمار إذا قطعها قبل بدو الصلاح والزهو، فله ذلك، ثم لا عشر أصلاً؛ فإن حق المساكين إنما يثبت عند بدو الصلاح، ولكن إن اتفق ذلك، ولم يقصد به الفرار، فلا حرج. وإن قصد بذلك الفرارَ من حق المساكين، فلا يُرد تصرفه، ولكن يكره ذلك، وهو بمثابة بيع أموال الزكاة قبل حولان الحول. وقد مضى القول فيه.
فصل:
قال "وفي كلٍّ أحب أن يكون خارصان... إلى آخره".
2037- في الخارص والقاسم قولان: ففي قولٍ، نقيمه مقام الشاهد، فلابد من العدد، وفي قول نقيمه مقام الحاكم، فيكفي واحد. ثم وإن اكتفينا بالواحد، فلابد وأن يكون حراً عدلاً؛ فإنه بين أن يكون كالحاكم، وبين أن يكون كالشاهد، وما ذكرناه مرعيٌّ فيهما جميعاً.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً: وهو أنه إذا كان المخروص عليه طفلاً، أو كان فيهم طفل، فلابد من خارصين، وإلا كفى خارص واحد، وقد ذكر مثلَ ذلك في القاسم، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولا تؤخذ صدقةُ شيء من الشجر، سوى النخل والكرم... إلى آخره".
2038- هذا الفصل يحوي ترتيبَ مذهب الشافعي في الجديد، فيما يتعلق العشرُ به، ثم إذا نجز، استعقب ترتيباً لمذهبه القديم.
فأما الجديد، فالكلام في الثمار والزروع، أما الثمار، فلا زكاة إلا في ثمرة النخل والكَرْم. وأما الزروع، فقد قال الأئمة: لا تتعلق الزكاة إلا بكل ما يُقتات مع الاختيار، ويستنبته الآدميون قصداً، والغرض أنه لا عُشر في البذور التي تنبت في الصحارى. وإن كانت أهل البادية يقتاتونها كالثُّفاء، فإن اقتياتهم لها عن ضرورة ومسيس حاجة. والاقتيات المقرون بالاختيار يغني عن ذكر الاستنبات؛ فإنه ليس فيما لا يستنبت ما يقتات اختياراً، فالحنطة، والشعير، والرّز، والباقلاء، والحِمّص، والذرة، والماش، واللوبيا، أقواتٌ يتعلق العشر بها.
وأما السمسم وبزر الكتان، فلا زكاة فيهما؛ فإن كل ما غلبت الدّهنية عليه لا تقوم النفس بتعاطيه.
ثم كل ما تتعلق الزكاة به في الجديد، فالنصاب معتبر به. والنصاب خمسة أوسق، كما ذكرناه.
2039- فأما ترتيب القديم، فكل ما تجب الزكاة فيه في الجديد، فترتيب القديم فيه كالجديد. وفي القديم أشياءُ زائدة أثبت العشرَ فيها: منها الزيتون، أثبت فيه العشر، وزعم أني رأيت الناس عليه، فأشار إلى الاتباع.
وذكر في القديم أن قوماً من بني خفاش أخرجوا كتاباً لأبي بكر رضي الله عنه، وكان أمرهم فيه بإخراج الزكاة عن الوَرْس، ثم تردد في صحة ذلك. ثم قال: وإن وجب العشر في الورس، فلا يمتنع وجوبه في الزعفران.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق أنه كان ينقل قولين عن الشافعي في القديم أن العسل هل يجب فيه العشر على من يشتاره، سواء كان النحل له، أو يشتاره من المواضع المباحة.
ومما حكوْا فيه الترددَ في القديم التُّرمس، وهو لا يقتات على اختيار، وذكروا في ترتيب الجديد أنه لا يتعلق به العشر.
فهذا مما ذكر في القديم.
2040- ثم لا مجال للقياس؛ فإن الشافعي اعتمد الآثار واتباعَ السلف، وكان يرى في القديم تقليدَ الصحابة، ولو كان يُحْتَمل القياس ويجوز، لكان السمسم والكتان من الزروع ملحَقيْن بالزيتون؛ إذ المقصود منهما الدهن، ولكن لم يصر إلى ذلك أحد.
2041-ثم نقول: أما الزيتون، فالنصاب معتبر فيه، وهو خمسة أوسق، ثم عاقبة الزيتون الزيت، كما أن عاقبة الرطب والعنب التمرُ والزبيب.
وقد اضطرب الأئمة في ترتيب القديم في أن العشر يخرج من الزيتون أم من الزيت؟
وحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يتعين الإخراج من الزيت؛ فإنه النهاية المطلوبة كالتمر.
والثاني: أنه يتعين إخراج الزيتون؛ فإنه الموسَّق بلا خلافٍ في هذا الترتيب، ولا نقول بتوسيق الزيت أصلاً؛ فليؤخذ العشر مما يوسّق. و لما كان العشر مأخوذاً من التمر والزبيب، فالتوسيق يتعلق بهما.
والثالث: أن الخيار إلى المالك، إن شاء أخرج العشر من الزيتون، وإن شاء أخرجه من الزيت.
وعلى الوجوه الموسقُ الزيتونُ بلا خلاف، ثم إن أخرج من الزيتون، فلا كلام.
وإن أخرج من الزيت، فيسلم الزيت إلى المساكين.
والكُسبُ الذي يتخلّف عن عصر الزيت ليس فيه نقلٌ عندي، ولعل الظاهرَ أنه يُسَلِّم نصيبَ المساكين إليهم، وليس كالقصيل والتبن الذي يتخلف عن الحبوب؛ فإن الزكاة تجب في الزيتون نفسه. ثم على المالك مؤنة فصل الزيت، كما عليه مؤنة تجفيف الرطب والعنب، ولا يجب العشر من الزروع إلا في الحب. وفي المسألة احتمال.
فهذا تفصيل القول في الزيتون.
2042- وأما الورس، ففيه على القديم قولان، وفي الزعفران قولان
مرتبان، وهو أولى بأن لا يجب العشر فيه؛ فإن الأثر ورد في الورس، وقاعدة ترتيب القديم الاتباع، فالزيتون في القديم في رتبة مقطوع به، وفي الورس تردد، والزعفران أبعد منه.
ثم إن أوجبنا العشر في الورس والزعفران، فالظاهر أنه يجب في القليل والكثير، ولا يعتبر التوسيق فيه.
وذكر الإمام وغيره أنه يعتبر النصاب فيه؛ طرداً للقياس في الباب، ووجه قول من قال: لا يعتبر النصاب، أن هذه الأشياء يبعد أن يجتمع لمالكٍ واحد منها في السنة خمسةُ أوسق. وقد نقل مطلقاً أخْذُ العشر من الورس، فدل ذلك على أنه كان يؤخذ من القليل والكثير.
والعسل أبعد الأشياء. نقله العراقيون. وأرى القول فيه تقريباً من جهة الرأي، من حيث إسناد إلى أثر.
وكذلك الترمس، وهو-فيما أظن- حبٌّ ببلاد الشام، قريب الحجم من اللوبيا، ولا يقوتُ بل يَهيج الباه.
ونقل العراقيون أيضاًً تردداً في العُصفُر.
وقد لاح الغرض في ترتيب الجديد والقديم. وذكر الصيدلاني أن في حب العصفُر العشر في القديم. والله أعلم.