فصل: باب: ثَمَرِ الحَائِطِ يُبَاعُ أَصلُهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: بيع اللَّحمِ باللَّحْم:

2982- اختلف قول الشافعيّ بأن اللُّحمان جنسٌ واحدٌ أو أجناس، وذكر المزني أن الشافعي ذكر القولين، ثم زيّفَ قولَه أنها جنسٌ واحد.
توجيه القولين: من قال: إنهما أصنافٌ رجع إلى العادة؛ فإن الناس لا يعدُّون لحمَ الطائر من جنس لحم البقر، ولا يشكّون في اختلاف أجناس الحيوانات التي هي أصول اللحم، فلتكن اللحوم مختلفةً اختلافَها. ومن قال: إنها جنس واحد، احتج بأنها مشتركةٌ في اسمٍ لا تخصَّص بعده إلا بالإضافة، فكانت جنساً واحداً.
وفيما ذكرناه احترازٌ عن اجتماع المختلفات في اسم الثمار؛ فإن كلّ جنس يَختصُّ وراء اسم الثمار باسم خاصّ من غير إضافة، فيقال: خوخ، وتفّاح، ومشمش.
واللحوم لا تتميّزُ إلا بالإضافة إلى الأصول، فيقال: لحم البقر، ولحم الغنم.
التفريع على القولين:
2983- إن حكمنا بأنهما جنسٌ واحد، فلحوم البرِّيات كلها جنس، ولحوم البحريّاتِ بَعضُها مع بعضٍ جنسٌ، وفي لحوم البرّيَّاتِ مع لحوم البحريَّاتِ على هذا القول وجهان:
أحدهما: أنها جنسٌ واحدٌ؛ طرداً لحكم الاتحاد.
والثاني: البريُّ والبحريُّ جنسان، وإن حكمنا باتحاد الجنس في اللُّحمان؛ فإن المعتمدَ في الحُكم بالاتحاد الاجتماعُ تحت الاسم، وهذا لا يتحقق في لحوم البحريّ مع البرّيّ، بدليل أن من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان.
وإن قلنا: اللحوم أجناس، فالبقر جنس ذو أنواع، كالجواميس مع غيرِها، وأنواع الإبل جنس، والضأن مع المعز جنس، والطيور أجناس: فالحمام على اختلاف أنواعها جنس منها: اليمام والقُمْرِي، والدُّبسي، والفَواخت، والقطا، وهي كل ما عَبّ وهَدَر، والبطُّ جنس، والدجاج جنس، والعصافير على اختلاف جثثها وألوانها جنسٌ.
والبحريّ مَع البريّ جنسان، والسموك جنس، والحيوانات المائيّة كبقر الماء، وغنم الماء، بالإضافة إلى ما يُسمَّى حيتاناً، على اختلافٍ بين الأصحاب: فمنهم من قال: جَميعُ البحريَّات بعضِها مع بعضٍ جنسٌ واحدٌ، ذو أنواع. ومنهم من قال: الحيتان مع ما لا يُسَمى حوتاً جنسان. ثم هذا القائل يحكم باختلاف ما عدا الحيتان، نظراً إلى البرّيّات، فغنمُ الماء وبقرُه جنسان.
وهذا التردُّد خارج على اختلافِ الأصحاب في أن جميع البحريات لها حكم الحوت، وإن اختلفت صُورُها حتى تحل ميتتُها، أم لا يثبت لها حكم الحوت؟ على ما سيأتي في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.
والوحشيات-على قول الاختلافِ- تخالف الأهليَّاتِ. ثم لا يخفى اختلاف أجناس الأهلياتِ، كذلك تختلف أجناس البرّياتِ كالبقر الوحشي؛ فإنها جنس، والظباء جنس. وكان شيخي يتردَّد في الظباء والإبل، وقرارُ جوابه على أنها جنس، كالضأن مع المعز، ولا يتجه غَيرُه.
هذا قَولُنا في النظرِ إلى لحوم الحيوانات بعضها مع بعض.
2984- فأمَّا القول فيما يشتمل عليه حيوان واحدٌ مما لا يعدّ من اللحم عند الإطلاق، ويخصص بأسماءَ من غير إضافةٍ، كالكرِش، والكبد، والمِعى، والطِّحال، والرئة.
فتحصيل القول في هذا يستدعي تقديم رمزٍ إلى أصلٍ في الأَيْمان. فإذا قالَ الرجل: والله لا آكل اللحمَ، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب، أنه لا يحنث بأكل الكبد، والكرِش، والطَّحال، والمِعَى والرِّئة؛ فإنّ هذه الأشياء لا تسمى لحماً.
وحكى الشيخ أبو علي عن أبي زيد المروزي قولين:
أحدهما: ما ذكرناه، والثاني أنه يحنث؛ فإنّ هذه الأشياء في معنى اللحم. وهذا بعيدٌ، لم أره لغيره، ولم يختلف الأصحابُ في أن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الشحم. ولست أعني سَمْنَ اللحم؛ فإنه معدود من اللحم، اتفق عليه من يوثق به. وأما القلب، فقد قطع الصيدلاني وغيرُه من المراوزة أنه لحم، وذكر العراقيون أنه كالكبدِ. والذي قالوه محتمل، والكُلية عندي في معنى القلب، والأَلْيةُ لم يعدُّها المحققون من اللحم، ولا من الشحم، وجعلوه مخالفاًً لهُما، وهذا فيه احتمالٌ عندي، فيشبه أن يقال: هو كاللحم السمين يجتمع للضائن على موضع مخصوص.
2985- فإذا ثبت ما ذكرناه من حكم الأَيْمان-واستقصاؤه محال على موضعه- عُدنا إلى غرضنا.
فالطريقةُ المشهورة أنا إذا حكمنا بأن اللحوم أجناس، فهذه الأشياء من الحيوان الواحد أجناسٌ؛ فإنها مختلفة الأسماء والصفات. وإن حكمنا بأن اللحوم جنسٌ واحد، فقد ذَكرنا خلافاً على هذا القول في لحوم البرِّيّات مع البحريّاتِ، ومأخذ قول من يَقول: إنهما جنسان من حكم اليمين؛ فإن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الحيتان، فما ذكرناه من الكَرِش وما في معناه يخرج على موجَب اليمين الذي ذكرناه. فكل ما يحنَثُ الحالف بأكله والمحلوف عليه اللحمُ، فهو من جنس اللحم على قولنا باتحاد جنس اللحمان، وكل ما لا يحنَث الحالفُ على اللحم بأكله، فهو خارجٌ على الوجهين، اعتباراً بلحوم الحيتان مع لحوم البرِّيَّات.
فهذه الطريقة المرضيَّة.
وحكى شيخي عن القفال عكْسَ هذا، فقال: إن حكمنا بأن اللُّحمانَ جنسٌ واحدٌ، فالمُسمَّياتُ التي ذكرناها ملحقةٌ باللحم مجانسة له، وليس الحكم بمجانستها للحم بأبعدَ من حكمنا بمجانسة لحم العصفور لحمَ الجزور.
وإن حكمنا بأن اللحمان أجناسٌ، ففي هذه المسمّيات من حيوانٍ واحدٍ وجهان:
أحدهما: أنها ملتحقة باللحوم، لاتحاد الحيوان، فكأن لحم كل حيوان يختلفُ أجزاؤُه، والكل لحمٌ. وهذه الطريقةُ رديئةٌ، لم أرها إلا لشيخنا؛ فلا أعدُّها من المذهب.
والعظمُ لا شك أنه ليس بلحمٍ، الصلبُ منه والمُشاشي، والغضرُوفي، وكذلك المِخَخَة.
وقطع أئمتُنا بأن الأكارع لحمٌ في اليمين، وهو من الشاة مجانسةٌ لسائر لحمها، ولا اعتراض على الاتفاق. ولعل ذلك من جهة أنه يؤكل أكْلَ اللحم، وإلا فالظاهر عندي أن العصبةَ المفردةَ ليست لحماً. والرؤوس من اللحوم لا شك فيه، وإنما أشرت إلى إشكالٍ في المعنى، من جهة أن الأكارعَ أعصابٌ تحويها الجلود، ولكنها إذا تهرَّت، أُكِلت أكلَ اللحم.
فهذا كلّه ترتيبُ القول في اتحاد الجنس واختلافِه.
2986- فلا يخفى بعد هذا أن كل لحمين حكمنا باختلافِ جنسهما، فلا حرجَ في بيع أحدهما بالآخر، مع حقيقةِ التفاضل، ولا تعبّدَ إلا في التقابضِ وامتناع النَّساء.
وإن حكمنا باتحاد الجنس، أو فرضنا في بيع لحم الغنم يباع البعض منه بالبعضِ، فقد قطع معظمُ الأصحاب بأنهُ لا يجوز بيع اللحم الرَّطْب باللحم الرطب. بل يجب أن يُجفَّفا حتى لا تبقى في اللحم رطوبة، فيباع القديد، ولو كان على القديدِ ملحٌ يظهر له أثرٌ في الوزنِ، لم يجُز بيع البعضِ بالبعض. وحكى بعضُ الأئمة وجهاً أن بيع اللحم الرَّطْب باللَّحمِ الرَّطب جائزٌ، وخرّجوا هذا على بيع الخوخ الرطب بالخوخ الرطب.
وقد ذكرنا، فيه وفي أمثاله خلافاً، ووجه شبه اللحم بما ذكرناه، أن تقديدَ الخوخ قد يلتحق بما لا يعم، واستعماله رطباً أعم. كذلك القول في اللحم. وهذا غريبٌ، وظاهر المذهب ما قدمناه.
وبقيةُ الكلام في الباب التعرضُ للعظم.
2987- لم يختلف أصحابنا أن بيعَ اللحم المنزوعِ العظمِ بلحمٍ يُشابهه في نزع العظم جائز، وليس كنزع النوى من التمر، وقد قدّمت هذا في الجواز مع النزع، وهل يجوز البيع مع العظم؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من لم يُجوّز، وإليه ميل الأكثرين؛ فإن العَظم يُفسد اللحمَ ولا يُصلحُه، وليس كذلك النوى في التمر. ومن أصحابنا من لم يوجب نزعَ العظم الخِلقي، وهذا مشهور، ولكنهُ مزيف.
ثم إذا جوَّزنا البيعَ مع العظم، فلا يُشترطُ اتحادُ صنفِ اللحمين حتى تتقاربَ العظام، بل يجوزُ بيع الفخذ بالجنبِ، وإن كانت أقدارُ العظام تتفاوتُ، وهذا كتفاوت النوى في التمر.
وعندي: يجب أن يُرعى في هذا نظر؛ فإن العضوَ الذي فيه اللحم لو نحي منه مقدار صالح من اللحم، فالعظم الباقي في العضوِ لا يُحتمل في شراء ذلك العضوِ، فيجبُ أن يقالَ: إذا كان كذلك يمتنعُ بيعُ ذلك العضوِ بعُضو لم يُقطع من لحمه شيء.
وإن قلّ المقدار المقطوع بحيث لا يبالَى به، فلا بأس إذن على الوجه الذي نفرع عليه.

.باب: بَيعِ اللحْمِ بالحَيوانِ:

روى الشافعي بإسناده عن ابن المسيّبِ أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع اللحم بالحيوان " ومراسيل ابن المسيب مقبولٌ عندَ الشافعي، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "أن جزوراً نُحرَتْ على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعنَاقٍ، فقال: أعطوني جزءاً بهذا العَناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا المبيع".
فالمتبع في الباب الحديث، والقياسُ يقتضي تجويزَ لحم الشاة بالشاة، من جهة أن الحيوان ليس مالَ رباً، فالمتّبعُ الحديثُ إذاً. ثم اتفق الأصحابُ على منع بيع لحم الشاة بالشاةِ.
وخرّجوا بيعَ لحم الشاة بالبقر والبعير، على القولين في تجانس اللُّحمان واختلافهما، وقالوا: إن قضينا بتجانسِها، فالبيع يمتنع، كبيع لحم الشاة بالشاة، وإن حكمنا بأن اللُّحمان مختلفةُ الأجناس، ففي البيع قولان: أقيسُهما الصحّةُ؛ لأن بيع لحم الشاة بلحم البقر جائزٌ متفاضلاً، وإذا منعنا بيعَ لحم الشاة بالشاة، فهو على تقدير الشاة لحماً، فإذا كان لا يمتنع البيع مع مصير الحيوان المقابل للحم لحماً، فكيف يمتنع بيع اللحم بذلك الحيوان.
والقول الثاني- أن البيع ممتنع، لظاهر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان.
وطرد بعض الأصحاب القولينِ في بيع لحم الشاة بالعبد من جهة أنه بيع اللحم بالحيوان.
2988- والذي يجب التنبه له في مضمون هذا الباب، وأمثالِه أن من الأصول ما يستند إلى الخبر، أو إلى ظاهر القرآن، ولكن القياس يتطرق إليه من أصول الشريعة، فلا يمتنع التصرف في ظاهر القرآن والسنة، بالأقيسة الجليّة إذا كان التأويل منساغاً، لا ينبو نظر المصنف عنه، والشرط في ذلك أن يكون صَدَرُ القياس من غير الأصل الذي فيه ورُود الظاهر، فإن لم يتَّجه قياس من غير مورد الظاهر، لم يجز إزالةُ الظاهر بمعنىً يُستنبط منه، يَضمنُ تخصيصَه، وقصْرَه على بعض المسمَّياتِ، وقد ذكرت هذا على الاستقصاء في كتاب (الأساليب)، وألحقت فيما مهَّدتُه في ذلك الردَّ على القائلين بالأبدال في الزكوات.
هذا فيما يتطرق إليه المعنى.
فأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمرٌ صابرٌ على السَّبْر، فالأصل فيه التعلّقُ بالظاهر، وتنزيلُه منزلةَ النصِّ. ولكن قد يلوح مع هذا مقصودُ الشارع بجهةٍ من الجهات فيتعيّن النظرُ إليه، وهذا له أمثلة: منها أن الله تعالى ذكر الملامسة في قوله {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وحملها الشافعي على الجسّ باليد، ثم تردّد نصُّه في لمس المحارم؛ من جهة أن التعليلَ لا جريان له في الأحداث الناقضةِ، وما لا يجري القياس في إثباته، فلا يكاد يجري في نفيه، فمال الشافعي في ذلك إلى اتباع اسم النساء، وأصح قوليه أن الطهارة لا تنتقض بمسهنَّ؛ لأن ذكْر الملامسة المضافة إلى النساء، مع سياق الأحداث، يُشعر بلمس اللواتي يُقصدن باللَّمسِ، فإن لم يتَّجه معنى صحيح، دلَّت القرينةُ على التخصيص.
ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس للقاتل من الميراث شيء» فالحرمان لا يستدُّ فيه تَعليلٌ كما ذكرنا في الخلاف، وإذا انسد مسلكُ التعليل، اقتضت الحال التعلّق بلفظ الشارعِ، فردَّد الشافعي نصَّه في أن القتل قصاصاً، أو حدّاً، إذا صدرَ من الوارث، فهل يتضمن حرمانَه؟ فوجهُ تعليق الحرمان بكل قتلٍ التعلّقُ بالظاهر، مع حسمِ التعليل، ووجه إثبات الإرث التطلعُ على مقصود الشارع، وليس يخفى أن مقصودَهُ مضادّةُ غرض المستعجل، وهذا لا يتحقق في القتل الحق.
2989- والذي نحن فيه من بيع اللحم بالحيوان خارج على هذا القانون، فمن عمم تعلّقَ بقول الشارع، ومن فصَّل تشوَّف إلى دَركِ مقصودهِ، وهو أن في الحيوان لحماً، فبيعُ الشاة به كبيع الشاة بلحمه. وعن هذا قال مالكٌ: إن قصد من الحيوان اللحمَ، لم يجز بيع اللحم به، وهذا يقربُ من مذهبهِ في اشتراط قصد الشهوة في ملامسة الرجال.
ومن تمسك بظاهر اللفظ، فقد يترتبُ كلامُه، فيقرب بعضُ المراتب ويَبعُد بعضها، وهذا كما ذكرناه في قتلِ المورِّث. فالقتل قصاصاً أقربُ قليلاً، وأما القتل حدّاً سيّما إذا ثبت بإقرارِ من عليه الحدُّ، فاعتقاد جريان الخبر فيه بعيدٌ. ومن هذا القبيل منع بيع اللحم بالعبد، ولو ادّعى العلم في أن هذا ليس مرادَ الشارع، لم يكن بعيداً.

.باب: ثَمَرِ الحَائِطِ يُبَاعُ أَصلُهُ:

2990- صَدَّرَ الشافعي البابَ بما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع نخلاً بعد أن يُؤبر فثَمرتُه للبائع إلا أن يشترط المبتاعُ» وقد ذكرَ الشافعي في هذا الباب تفصيلَ القول في بيع الأشجار وعليها الثمار، وفصّل القول في أنها متى تستتبع الثمارَ ومتى لا تستتبعُها، ثم ذكر في بابٍ آخر بعد هذا تفصيلَ القول في إفراد الثمار في البيع، وبيان تبقيتها وقطعها، وتفصيلَ الأقوال في ذلك.
2991- والأشجار المثمرةُ أقسام، فمنها ما تبدُو ثمارها في أول الأمر كالتين، ومنها ما تطلع ثمارها وهي في سواتر، ثم تزول السواتر أو تُزال، وتبرز الثمار، ومنها ما يتردّدُ الناظر في اعتقاد ظهورها. فأما الأشجار التي تكون ثمارُها بارزةً من أول الفِطرةِ، فإذا بيعت الأشجار وأُطلق تسميتُها من غير تعرضٍ لذكر الثمار، فالثمار تبقى للبائع، ولا تدخل تحت مطلق تسميةِ الأشجار؛ فإنها ليست جزءاً، وقد استقلت بظهورها.
وأما ما يطلعُ مستتراً بساتر كطلع النخل؛ فإنه يكون مستتراً بالكِمام، وأكِمّةُ الطلع غُلفٌ كثيفة تبدو مستطيلةً كآذان الحُمر والطلع في أوسَاطِها فإذا شُقَقت ظهر الطلعُ على العناقيد أبيضَ، وهو أشبه شيء بالرُّز، فإذا أُطلق بيعُ النخلة والطلع مستتر بالكِمام، فمذهب الشافعي أن الثمار تتبعُ مطلقَ تسميةَ الأشجار، ويملكها المشتري.
هذا تأصيل المذهب في الباب، وسيأتي التفصيل الآن.
فأما ما يتردّدُ الاعتقاد في ظهوره، فمن جملته الأشجارُ التي تُبدِي أزهارَها، وهي تنقسم، فمنها ما يحتوي مركَّبُ الأزهارِ وأصلُها على الثمارِ، على هيئةِ خَوخاتٍ صغار، كالمشمش، والخوخ، وما في معناهما. فإذا بيعت هذه الأشجار وعليها أزهارُها، فالثمار في مطلق البيع للمشتري؛ فإنها مستترةٌ استتار الطلع، وفيها مزيدُ معنى، وهو أنهُ لا يعد ثمراً حتى يشتدَّ ويصلبَ، وذلك بعد انتثار الأزهار، وانكشافِها عن الخوخات.
ومن الأزهار ما لا يحتوي على الثمار، ولكنها تطلع والثمرةُ تحتها، كالكمثرى والتفاح، فما كان كذلك، فقد اختلف الأصحابُ فيه: فالذي مال إليه العراقيون أن الثمار لها حكمُ الظهور؛ فلا تتبع الأشجارَ المطلقةَ في البيع. ومن أصحابنا من قال: هي للمشتري؛ لأنها غيرُ منعقدة بعدُ، وإنما انعقادُها بعد انتثار الأزهار، وهذا هو الذي ذكره الصيدلاني.
ومما يتعلق بهذا القسم الكلام في الجَوْز، وقد قال العراقيون: القشرةُ العليا ساترةٌ للجوزِ سَتْرَ الكِمام للطلع، فإذا جَرى بيعُ الشجرة مطلقاًً، فالجوز تابعٌ. وقطع صاحب التقريب بخلاف هذا، واحتجَّ بأن هذه القشور لا تزول في الغالب إلا عند الأكل، وحقّق بما ينبّه على المقصود؛ فقال: القشرة العليا تُعَدُّ من الثمرة، والكِمام تُعدُّ من الشجرة، وإذا برزَتْ منها العناقيد وأقطفت، قُطفت، وتُركت الأَكِمَّة على الأشجار، تركَ السعف والكرانيف، وقشورُ الجَوْز ليست كذلك. والقُطن ملحقٌ بالنخيل، والمُراد ما يكون شجراً باقياً على مَمرّ السنين، فالقطن يؤخذ ويُتركُ القشرُ على الشجر، كما صوَّرناه في الكِمام. وأما الورد؛ فإنه يتستر بجزء من الشجرِ، يتشقق ذلك الجزءُ وتَبرُز الوردة، فهو كالنخل، وقد تبرز الوردةُ في غبَنِها متضامَّة الأوراقِ، ثم تَتَفتّق، فماذا برزت بجُملتِها، فهي ظاهرةٌ لها حكمُ البروز إذ ذاكَ، فلا تتبع.
فهذا بيانُ الظهورُ والكمونِ في الثمار.
2992- ونرد التفصيل بعد ذلك إلى النخيل، وهي فحولٌ وإناث، والفحول لا تعنى ثمارُها للأكل، ولكنها تُعنَى لتؤخذَ، وتشقق أكِمّةُ الإناث ويُذرُّ فيها طلعُ الفحول، فتربو وتنمو. وقد تشَّققُ الأكِمَّة بأنفُسها. ثم التأبيرُ قد يختلف باختلافِ أنواع النخيل، فيتقدّمُ التأبيرُ في البعضِ، ويتأخر في البعض، ثم هي تتفاوتُ في أوان القطاف، ولم يجر عُرفُ القائمين بتعهد النخيلِ بتأبير جميعها، بل يكتفون بتأبير البعضِ، وقد تنبث رياح الفُحول إلى الجميع فتتأبر. ثم إن اتحد النوعُ تلاحق التأبيرُ على قُربٍ من الزمانِ، وإن اختلفت الأنواع، فقد تختلف أوقات تأبيرها.
فإذا تُصوِّر ما ذكرناه، قلنا: إذا باع الرجل نخيلَ بستانٍ والنوعُ متّحدٌ، وقد أبَّر بعضَها، فالذي لم يؤبَّر ملحقٌ في الحكم بالمؤبَّر، حتى لا يتبعَ الأشجارَ في إطلاق التسمية، فالكامن منها على الصورة التي ذكرناهَا يتبع الظاهرَ، والسببُ فيه أن رعايةَ الظُّهور في الجميع عسرٌ مفْضٍ إلى تتبع كل عنقود.
والقولُ في ذلك يختلفُ إذا كَثُرت النخيل، فعسُرَ التزامُ التفصيل، وإتباعُ الكامنِ الظاهرَ أوجَهُ؛ من جهة أن الكامن إلى الظُهور في أوقات متلاحقة، والأصل استقلال الثمار بأنفسها، وانقطاعُها عن تبعية الأشجار، وظهرَ بذلك وجوب الميل إلى إتباع الكامنِ الظاهرَ.
2993- ثم صور الوفاق فيما ذكرناه والخلاف، تنشأ من معنيين:
أحدهما: اشتمالُ البيع واختصاصُه.
والثاني: اختلافُ الأنواع، وتباينُ أوقات التأبير، لأجلها.
فإن اشتمل البَيعُ على نخيلٍ، وقد جَرى التأبير في بعضِها والنوعُ متحد، فقد اجتمع الاشتمالُ واتحادُ النوع، فيتبع الكامِنُ الظاهرَ وجهاً واحداً.
فإن أَفْرَدَ مالكُ النخيل نوعاً منها بالبيع المطلق، والبستانُ يشتمل على نوع آخر، وقد جرَى التأبيرُ فيما لم يبع، ولم يجرِ في شيء مما باع، فالمبيع مقتَطَعٌ عما لم يبع.
فإذا لم تكن ثمارُ النخيل المبيعةِ مؤبرة، وما كان جرَى التأبير في شيء منها؛ فإنها تتبع أصولَها في مطلق البيع، ولا نظرَ إلى ما جرى من التأبير في النوع الذي لم يُبع، وقد اجتمع في المبيع معنيان:
أحدهما: اختصاص البيع، والثاني: تميُّزُ النوعِ المبيع عن الذي لم يُبع بوجه، يقتضي التفاوتَ في أوقات التأبير، فاقتضى مجموعُ المعنيين تخصيصَ مورد البيع بحُكمه.
وإن اتَّحد نوعُ النخيل في البستانِ، وكان جرى التأبيرُ في بعضِها، فأَفرَدَ بالبيع نخيلاً منها، لم يؤبر شيء منها، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نُتبعُ الأثمارَ الأشجارَ المطلقة في البيع، ولا ننظر إلى ما أُبّر؛ فإن المؤبَّر غيرُ مدرج في البيع؛ فلا يلحق البيع منه حكم.
والثاني: أن الثمار كالمؤبّرة، فإنها ستتأبر على القرب، ودخول وقت التأبير عند هذا القائل كالتأبُّر نفسه.
وإن باع نوعين تختلف أوقات التأبّر فيهما، وقد جرى التأبيرُ في أحد النوعين، فهل يثبت للنوع الذي لم يؤبّر حكمُ التأبير، حتى لا تتبعُ الثمارُ الأشجارَ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يثبتُ لها حكمُ التأبير؛ إتباعا لما أُبّر؛ فإن البيع مشتمل على النوعين، والجنس واحد، فلا نظر إلى اختلاف النوعين، وقد يفرض تفاوت الأوقات في النوع الواحد بصفاتٍ يختلف النخيل بها مع اتحاد النوع.
فهذا بيان صُور الوفاق والخلاف في ذلك. وسنذكر نظائرَ لهذا في تصوير بدُوّ الزَّهو والصلاح، في الباب المعقود لبيع الثمار وحدَها.
فرع:
2994- الفحول تُطلِع إطلاع الإناث، وتتأبّر على صورة تأبّر الإناث، فإذا لم يكن إلا الفحول، فبيعُها قبل التأبير كبيع الإناث، فتتبع الثمارُ الأشجارَ، هذا هو المذهب الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: ثمار الفحول لا تتبع الأشجارَ إذا أُطلق بيعها، وإن لم تؤبر، فالنظر إلى وجود ثمار الفحول ظاهرة كانت، أو كامنةً؛ فإن المقصود منها طلعُها لتجفَّف وتُذر في شقوق أَكِمّة الإناث، وإذا كان كذلك، فمنتَهى ثمارِها وجودُها، بخلاف ثمارِ الإناث؛ فإنها تُعنى للإرْطاب وظهُورُها في حكم المبدأ للمقاصدِ منها.
ومما يتفرع على ذلك أن البستان إذا اشتمل على الفحول والإناث، وكان ظهر طلع الفحول، فهل يستتبع الإناثَ في حكم التأبير؟ فعلى وجهين: وهما كالوجهين في استتباعِ النوعِ النوعَ وقد مضى.
فرع:
2995- إذا أُبّرت نخيل، فاطلعت بعد تأبيرها نخيل، فما صار إليه ابنُ أبي هُريرة أن التي أَطْلَعت بعد التأبير لا تتبع المؤبرّةَ وإنما تتبعُ المؤبرةَ فيما كان طلعها موجوداً عند تأبير ما قد أُبرّ. وقال غيرُه من أصحابنا: إن التي ظهر طلعُها بعد التأبير تتبع التي أُبّرت من قبل على تفصيلِ النّوع والأنواع كما تقدم.
فرع:
2996- الثمرةُ التي لم تؤبَّر إذا أراد مالكُها أن يُفردَها بالبيع فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب جوازُ ذلك، وهذا مما تعلق به أصحاب أبي حنيفة إذْ منعوا إتْباعَ الثمارِ النخيلَ، وقالوا: لما جاز إفراد الثمار بالبيع، دَلّ ذلك على استقلالها بنفسها، وحكى العراقيون عن أبي إسحاقَ المروزي أنه منع إفرادَ الثمارِ قبل التأبير في البيع، وقد ذكر صاحب التقريب في ذلك قولَين: وبناهُما على بيع الحنطةِ في سُنبُلها، وهذا منقدح حسن. وسنذكر تفصيلَ القولِ في الزروع، واكتتام الطلع بالكِمام لا ينقص عن اكتتام الحب بالسُّنبل.
فرع:
2997- كل شجرةٍ لا تُعنى أوراقُها، فإذا بيعت، دخلت أوراقُها تحت البيع، وإن كانت ظاهرةً؛ لأنها لا تعد مستقلةً بنفسها، فليُعتقد كونُها تابعةً، وإن كانت لا تبقَى وتنتثر، لا خلاف في ذلكَ.
ولو كانت الأوراق مقصودةً، كأوراق شجر التُوتِ، فإنها تُقطع لدُودِ القَزّ، فقد قال العراقيون: قال أبو إسحاقَ: الأورَاقُ الباديةُ كالثمار الظاهرةِ، فإذا أطلق بيعُ الأشجار، بقيت الأورَاقُ للبائع، اعتباراً بالثمار الظاهرة. وقال غيرُه من الأصحاب: إنها تتبع الأشجارَ بمطلق التسميةِ، طرداً لما قدّمناه من الأصلِ في أوراق الأشجار، من غير نظر إلى تفاصِيلها.
ولم يختلف علماؤنا في أن شجرة الخِلاَفِ إذا بيعت، دخلت أغصانُها التي تُقطع عادةً، وتُخلَفُ تحت مطلق البيع، فإن تيك الأغصان من جِرْم الشجرة.
فكأنا نتخيَّل مراتبَ مرتَبةً: منها في جرم الشجرة، وهو داخل تحت مطلق البيع؛ فإن اسم الشجرة صريح فيما هو من جرمه، وإن كان يُقطع فيُخلَف.
والمرتبةُ الأخرى الأوراق، وهي تكاد تكون كالجرم في الاعتبار، وإن لم تكن من جِرم الشجرة في الخِلقة؛ من حيث إنها تظهر وتنتثر، ظُهورَ الثمار والأزهار، فهي ملحقة بما هو من جرم الشجرة، إلا إذا كانت بحيث تُقصدُ وتنتَحى، كما تُقصد الثمار، فإن كانت كذلك، ففيها خلاف أبي إسحاق. والجماهيرُ على إلحاقها بجنس الأوراق.
والمرتبةُ الأخرى في الثمار، وليست هي من جِرم الأشجار، ولا تُعدُّ تابعةً كالأغصان، فالقول فيها ينقسم إلى الظهور والكُمون، كما سَبقَ تفصيلُه. وكان شيخي أبو محمدٍ يقول: إذا أبَّر الطلعَ وحكمنا ببقائه للبائع، فجِرم الكِمام للمشتري؛ فإنه يُترك على النخلة.
فرع:
2998- ذكرنا أن الكُرسفَ الحجازيّ كالنخلة، فإن أصول الكُرسفِ في الحجاز أشجارٌ تبقى على مكرِّ السنين، ويعتقب القطنُ عليها اعتقابَ الثمار، والقُطن في بلادنا زرعٌ، فلا يجوز بيعُه مع استبقاء الكرسُف؛ فإن أصله ليس باقياً، وسنقرر هذا في الزروعِ، وإنما نبَّهتُ عليهِ الآن حتى لا يلتبس ناجزاً.
فصل:
قال: "ومعقولٌ إذا كانت الثمرةُ للبائع أن على المشتري تركَها... إلى آخره"
2999- إذا باع الرجل شجرة وعليها ثمارٌ ظاهرةٌ، والبيع مطلق، فالثمرةُ للبائع، ولا يُجبَر على قطعها قبل أوانها، وحكم البيع اختصاصُ المشتري بملك الشجرة، وبقاء استحقاق التَّبْقية للبائع إلى أوان القطافِ، فبقي للبائع ما كان له من حق التبقية.
وورُود استحقاق المشتري على هذا الوجه على رقبة الشجرة.
وكذلك لو باع الرجلُ ثماراً مُزهيةً على أشجاره، على ما سنصف ذلك في بابه، فالمشتري يُبقي الثمارَ إلى أوان القطع، إذا جرى البيع في حالة الزَّهو.
3000- فإذا تبيّنَ هذا عدنا إلى غرَضِنا من المسألة.
فإذا بقيت الثمرةُ للبائع، وجَرى ملك المشتري على رقبةِ الشجرة، فللبائع أن يسقي الشجرةَ التي باعها، إذا كان السقيُ لا يضرّ بالشجرة، وينفع الثمرةَ.
وليس للبائع أن يكلِّف المشتري السقيَ، لتنمو ثمارُه؛ فإن المشتريَ لم يلتزم تنميةَ الثمار، وإنما عليهِ تركُها إلى أوانِ جِدادها. نعم من الوفاء بتركها أن يمكِّن البائعَ من تنميتِها؛ إذْ لو منعه منه، لفَسدت الثمارُ، وأدَّى هذا إلى اضطراره إلى القَطعِ قبل أوانه، أو إلى فساد الثمارِ، فإذن على المشتري أن يمكنه من السقي.
وإذا باع الثمارَ المزهيةَ فمؤنةُ السقي إلى الجِداد على بائع الثمار، كما سَيأتي ذلك في بابها، والقدْرُ الناجزُ الآن أن السقيَ من تمام التسليم، وكأنه التزمَ تسليمَ الثمار تامَّة، ومن هذا نشأ اختلاف القول في الجوائح ووضعِها، كما سيأتي ذلك في بابها إن شاء اللهُ تعالى.
3001- فإذا باع الأشجارَ واستبقَى الثمارَ، ولو سقَى الأشجارَ، لتضرَّرت، وتعرَّضت لعلّةٍ تنالُ الأشجارَ من السَّقي، ولو تَركَ السقْيَ، لانتقصت الثمارُ، أو فسَدَت، فالطُرُقُ مضطربةٌ في هذا المقامِ. ونحن نجمع حاصل أقوال الأصحاب.
فمن أئمتنا من يرعَى جانبَ المشتري، مَصيراً إلى أن بائع الشجرة التزمَ تسليم الشجرة على كمالها للمشتري، وكل ما يؤدي إلى تنقيصِ الشجرة، فهوَ نقيضُ الوفاء بموجب العقد.
ومن أصحابنا من قال: للبائع أن يسقي إذا كان ينتفع ولا يبالي بتضرر المشتري.
وهذا حكاه العراقيون عن ابن أبي هريرة، ووجهه أنه استحق تبقيةَ الثمار، لا على الفساد. فكأنه استحق تنميتَها، والبيعُ لم يَرِد إلا على هذا الموجَب.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاقَ المروزي، وذلكَ أنه قالَ: إذا تعارض حقاهما، نُظر، فإن رضي أحدُهما بترك حقِّه، فذاك. وإن تدافَعا وتمانعا، فسخ القاضي العقدَ بينهما.
وحقيقةُ الأوجُه تؤول إلى أن من أصحابنا من يرعى جانبَ المشتري، ومنهم من يرعى جانبَ البائع، ومنهم من لا يقدّم أحدَ الحقَّين على الآخر. ثم من ضرورة استواء الحقين إذا كانا متناقضَين، ولم يكن أحدهما أولى من الثاني، أن يُفسَخ العقدُ بينهما.
3002- ولو كانت الثمار لا تحتاج إلى السقي، بل كانت تتضررُ به، وكانت الأشجار لا تتضرَّرُ بالسقي، فالخلاف يعود على النحو المتقدِّم. فمن أصحابنا من رَاعى جانب المشتري، ومنهم من راعى جانب البائع، ومنهم من لم يُقَدِّم أحدَهُما على الآخر. ثم موجَب ذلك الفسخ، كما ذكرناه.
ومن الصُوَر الملتحقةُ بما ذكرناهُ أن البائع لو أمكنهُ أن يسقي، ولو سقى، لانتفعتِ الشجرةُ والثمرةُ، ولو امتنع من السقي امتصَّتِ الثمارُ رطوبةَ الأشجار، وأضرَّت بها، فإذا كان السقْيُ ممكناً، فالبائع مُجبرٌ من جهة المشتري على أحد الأمرين: إما أن يسقي، وإما أن يقطعَ الثمارَ إذا كان يضُرُّ بقاؤُها.
فلو لم يجد البائع الذي بقيت الثمارُ له ماء، ولو أبقى الثمرةَ، لانتفعت الثمرةُ وتضررت الشجرةُ، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه يُجبر على القطع؛ فإنه إنما يملكُ التَّبْقِيَةَ على شرط دفع ضررِها عن الشجرة، فالتبقيةُ إذن مشروطةٌ بما ذكرناه، فإذا تخلف الشرطُ، لم يثبت المشروط.
والوجه الثاني- أن الثمرة تبقى؛ لأنها تنتفع بالتبقيةِ، وإنما على البائع أن لا يترك مجهوداً يقتدر عليه، فإذا انقطع الماءُ، فلا تقصيرَ من البائع، وحقّ التبقيةِ قائمٌ له.
والوجهان يشيران إلى ما قدمناه الآن من أن المراعَى جانبُ المشتري أو جانبُ البائع. ولم يقع التعرضُ لاستواء الحقين، ولابد من هذا الوجه، ثم موجَبُ استواءِ الحقين الفسخُ، كما ذكرناه.
وما ذكرناه من التردد في قدر حاجةِ الثمرة، فأما ما يزيد على الحاجة، ويضر بالشجرة، فهو ممنوعٌ.
وتمام البيان في هذا أن أهل البصيرة، لو قالوا: الثمرةُ لا تفسد بترك السقيِ، بل تسْلَمُ الثمرةُ من غير سقي غير أنها لو سُقيت، لظهرت زيادة عظيمة، والشجر يتضررُ بها، فهذا فيه احتمالٌ عندي، يجوزُ أن يقالَ: يُمنع البائعُ من هذا السَّقْي؛ فإن الزياداتِ في نهايتِها لا تنضبط، فالمرعيُّ الاقتصاد. ويجوز أن يقال: له أن يسقيَ لمكان هذه الزيادة، على مذهب من يرعى جانبَ البائع؛ فإنّ هذه الزيادة تحصلُ بالسقي، ولو ترك السقيَ، لفاتت، ومن يراعي الاقتصادَ في الاحتمال الأول، لم يكتفِ بأن لا تفسدَ الثمرةُ، بل انتقاصُها عن القصد، والمسلك الوسط آفةٌ في القدر المنتقص.
فهذا بيان المذهب في ذلك.
فصل:
قال: "وإن كانت الشجرةُ مما تكونُ فيه الثمرةُ ظاهرةً... إلى آخره".
3003- نذكر في هذا الفصل صورتين: إحداهما- لم يذكرها المزني، وبها البدايةُ، فنقول: إذا اشترى رجلٌ ثماراً على الأشجار، ثم لم يقطعها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً زائدة، لم تكن حالةَ البيع، فلا شَك أنها للبائع، وسبيلُ التقسيم أن نقول: ذلك التلاحق والتجدد لا يخلو إما أن يكون في ثمرة تتلاحق غالباً، وإما أن يكون في ثمرة يَنْدُر فيها التلاحق.
فإن اتفقَ في ثمرةٍ لا تتلاحق غالباً، ولكن اتفق فيها التلاحق، فإن أمكن التمييز، فلا إشكالَ، وإن عسُرَ التمييزُ، واختلط الزائدُ المتجدّدُ بالمبيع الذي كان موجوداً، فلا يخلو إما أن يتفق ذلك قبل التخليةِ بين المشتري وبين الثمار، وإما أن يتفق بعد التخليةِ بينه وبينها.
فإن جرى الاختلاطُ قبل التخلية، وعَسُر التمييزُ فنقول: في أصل المسألة قولان:
أحدهما: أن البيع ينفسخ، والثاني: لا ينفسخ.
التوجيهُ: من قال بالانفساخ، تعلق بتعذرِ اجتلافِ المبيع، واليأسِ من التمكن منه على موجَب العقدِ، فأشبه ذلك تلفَ المبيع، وسنذكر في باب الخراج أن من باع دُرَّةً، فسقطت من يده في لُجّة البحرِ، وأَيِسَ من إصابتها؛ فإن ذلك ينزلُ منزلة التلف المحقق.
والقول الثاني- أن البيع لا ينفسخ؛ فإن عين المبيع قائمةٌ والتصرف فيها ممكنٌ على الجملة، وليس يتعذر رفعُ المانع، كما سنبيّن في التفريع.
فإذا قلنا: البيع ينفسخ، فلو قال البائع: أنا أسمحُ بحقي وأبذله للمشتري؛ قيل له: لا أثر لهذا، والتفريع على قول الانفساخ، وهو حكم نافذٌ لا يستدركُ بعد نفوذِه بتقدير بذل، وهذا لا خفاء به. وإن قلنا: البيع لا ينفسخ، فلا شك في ثبوت حق الخيار؛ فإن تعذر التَّسليم بإباق العبد المبيع وغيرِه يثبتُ الخيارَ للمشتري.
فلو قال البائع: أسمح بحقي، فلا تفسخ، فقد قال الأصحاب: على المشتري أن يقبل ذلك، ويمتنع عليه الفسخ، وشبّهوا هذا بمسألة النعل وسنذكرُها في باب الخراج. وتلك المسألةُ ليست خالية عن الخلافِ، وهذه التي نحن فيها أولى بالخلافِ من تلك؛ فإنَّ إلزامَ المشتري تطوُّقَ مِنّةِ البائع فيهِ بُعدٌ، وفي هبة المجهول غوائلُ، وستأتي مسألةٌ في كتاب الصيود يَحارُ فيها نظرُ الفقيهِ، وهي إذا اختلَطت حمامةٌ بحمام برج، فكيف الخلاصُ منها إذا عسُر التمييز؟ فالمسألة الآن مختلَفٌ فيها. فإن أجبرنا المشتري سقط خيارُه، وإن لم نجبره، فهو على تخيره.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً في المسألةِ، وهو: أن العقدَ لا ينفسخ، ولا خيارَ ونجعلُ الاختلاطَ قبلَ القبض، بمثابة الاختلاط بعده. وإذا فُرِض اختلاطُ مِلكَين مع الجهالة في المقدار، فالأمر موقوفٌ إلى البيان إن أمكن، أو المفاصَلة بمُصالحةٍ، أو مخاصمةٍ، تفصل بطريقها.
وهذا قولٌ بعيد؛ فإنّ تعذُّرَ التسليم في القدر المبيع ثابت، ولو لم يطرأ إلا تغيُّر المبيع أوّلاً، وخرُوجه عن التعيّن آخراً، لكان ذلك كافياً في إثبات الخيار.
3004- وكل ما ذكرنا إذا جرى التلاحق والاختلاط قبل التخلية، فأما إذا خلّى البائعُ بين الثمارِ وبين المشتري، فجرى الاختلاطُ، فهذا يُبنَى على أن الثمار لو تلفت بعد التخلية بجوائحَ، فهي من ضمان البائع، أو من ضمانِ المشتري؟ وفيه اختلافُ قولي سيأتي في بيع الثمار، فإن قلنا: هي من ضمان البائع، فالاختلاط بعد التخلية لا يُوجب انفساخاً، ولا يثبت خياراً، ويكون ما جرى بمثابة ما لو اشترى رجل حنطةً وقبضها، ثم انثالت عليها حنطةٌ للبائع، فلا وجه إلا المخاصمةُ، أو التوقفُ، أو المصالحةُ.
ولا اختصاص لهذا الفصل بما نحن فيهِ، ولا ينبغي أن يَظن الناظِرُ-إذا انتهى إلى هذا الموضع- أنا نقتصر في بيان هذا المشكل على هذا، وإذا انتهينا إلى مسائلِ الصلحِ، أتيتُ في هذا بأشفى بيان وأكملِه.
3005- وهذا كُلّه كلام فيهِ إذا كانت الثمارُ مما تتلاحقُ على ندور، فأما إذا كانت تتلاحق لا محالة في المُدة التي يُبقي المشتري الثمرةَ فيها، كالتين وغيره، فالكلام يقع في هذا الفصل في صحة العقد.
فإذا اشترى ثماراً مزهيةً على شرط التبقية، فقد قال العلماءُ: إذا كانت تتلاحقُ، فالبيع باطلٌ؛ فإنه عقدَهُ على وجهٍ يتعذرُ فيهِ تَسليمُ المبيع، وكان بمثابة ما لو اشترى عبداً آبقاً.
وذكر العراقيون قولاً بعيداً أن البيع موقوف، فإن سمح البائعُ ببذل حقّه تبيناً انعقادَ العقدِ، وإن لم يسمح تبينَّا أن البيع غيرُ منعقد في أصله. وهذا قول مزيّفٌ لا أصلَ له، وهو بمثابة المصيرِ إلى وقف بيعِ العبدِ الآبقِ على تقديرِ فرضِ الاقتدارِ عليه وفاقاً. فإن طردوا هذا، فإنه على فسادهِ مطردٌ، وما أراهم يقولون ذلك.
فإن أراد من يشتري الثمار المتلاحقةَ أن يصحَّ العقد، فليشترط القطع، وإذا فعل ذلك، صحَّ العقدُ؛ فإنّ القطعَ ممكن قبل الاختلاط، وفاءً بالشرط، ثم إذا صح العقدُ، وتأخر القطعُ، واختلطت الثمارُ، فالقول في هذه الصورة كالقول فيه إذا كان الاختلاطُ مما يندُر، ولكنه اتفق على ندور، فالقول قبل التخلية وبعدها كما مضى حرفاً حرفاً.
وكل ذلك كلام في صورة واحدة لم يذكرها المزني.
3006- فأما الصورة الثانية، وهي التي ذكرها المزني، فهي أن يبيع. الرجلُ الأشجارَ، وعليها ثمارٌ بقيت له، فلم يقطُفْها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً للمشتري، واختلطت بالثمار التي كانت للبائع، وقد اختلفَ أصحابُنا على طريقين: منهم من قال: لا ينفسخ العقد في هذه الصورة، ولا يثبت الخيارُ للفسخ؛ فإن المبيع لم يختلط، وإنما الاختلاط في زائدٍ غيرِ معقودٍ عليه.
ولو اشترى رجل أشجاراً، وتجدَّدت ثمارٌ في يد البائع، وعابت، والمبيع في يد البائع، فلا خيار للمشتري بعيب الثمار، وهذا هو القياس الذي لا يسوغ غيرُه.
وهذا القائل يغلّط المزني في النقل، وينسبُه إلى الإخلال بالتصوير، ويقول: صورة مسألة الشافعي هي التي انتجزت الآن، فنقل المزني التصويرَ إلى بيع الأشجار، وهو في بيع الثمار.
ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الصورة الأخيرة في الانفساخِ وخيارِ الفسخ، كما مضى. ويزعم أن الثمار وإن لم تكن مبيعةً، فهي من حق الشجرة المبيعة؛ فإن المشتري إنما ملك الثمارَ بملكهِ الأشجارَ، ومِلْكُ الأشجارِ ثبت بالعقد.
وهذا القائل يفصل بين صورة الاختلاط، وبين تعيُّب الثمارِ المتجددةِ في يد البائع.
فنقول: الاختلاطُ سببُه بقاءُ ثمرةِ البائع على الأشجارِ، وعلى البائع في الجملة تخلية المبيع للمشترِي، فقد حصَل الاختلاط بسبب ما استبقاه البائع لنفسهِ، ولَعلّنا نذكر ما يُداني هذا في باب الخراج، عند ذكرنا مسيسَ الحاجَةِ إلى قلع باب الدار المبيعة، لنقل ما فيها من أمتعة البائع، وأن الخيار هل يثبت بهذا السبب؟ ويقرب منه نقلُ الأحجار المودَعةِ في الأرض.
فهذا منتهى القول في الصورتين.
3007- وتكلم الأصحاب وراءهما في شيء لا اختصاص له بالمسألة، ولكنا نذكره على ترتيب ذكر الأصحاب.
فنقول: من اشترى حنطةً، واستوفاها، ثم اختلطت بها حنطةٌ أخرى للبائع بعد القبض، فالقولُ في القدْر المختلِط قولُ المشتري إذا نازعه البائع، والسبب فيه أن اليدَ للمشتري، فإذا زعمَ أن المختلِط صاع والباقي لي، فالقولُ قولُه مع يمينهِ. ولكن سبيله في الخصومة ألا يتعرضَ للبيع؛ فإنه إذا ادّعى بيعاً في الصاعين، فسينكره البائع، ثم يرجع الكلام إلى اختلافِ المتبايعين في قدْر المبيع.
وإن اتفق الاختلاطُ قبل التسليم، وقلنا: لا ينفسخ البيع، ولم يفسخ أيضاًً، فالقول قول البائع، في القدر الذي باعه؛ فإن اليدَ له، فيبقى البيعُ فيما يذكره، ويده مستمرة عليه.
وإن جرى هذا الاختلاف في الثمرة؛ فإن لم يخلِّ بين المشتري وبينها، فصاحب اليد هو البائع، فلا رجوع إليه، ولو خَلَّى بين المشتري وبين الثمار ولم يقطُف بعدُ، فقد اختلف أصحابنا في أن اليد لمن في هذه الحالة؟ وهذا الاختلاف مبنيّ على القولين في وضع الجوائح.
وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً ثالثاً في اليد، فقال: الثمارُ في أيديهما؛ فإنه يتعلق بهما: السقيُ على البائع، والتصرف نافذ من المشتري في الثمار بعد التخلية، فاقتضى ذلك ثبوتُ أيديهما على التساوي، وإذا ثبت حكم اليد، فقد ذكرنا حكمَ ما قبل القبض وبعده، وحكمُ يد البائع، ويدِ المشتري. ولو اعترفا-والاختلاط بعد القبض مثلاً- بالالتباس، ورضيا بألاَّ يُفسخَ العقدُ، رجع الكلام إلى الوقف، والاصطلاح.
وسنوضحه في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى.
3008- ومما يتعلق بهذه الجملة أن من باع جِزَّةً من القُرْط، فينبغي أن يشترط في البيع القطعَ؛ فإنه يتزايد، فلو فعل ذلك، ثم لم يتفق القطعُ، حتى زاد القُرْط زيادةً بيّنة، فالذي حدث من جهة الأرض طولاً زيادة لا يستحقها المشتري، فالتفصيل فيها كالتفصيل في الثمار إذا اختلطت، في الفسخ والانفساخ.
وذكرَ العراقيون عن بعض الأصحاب المصيرَ إلى أن البيعَ لا ينفسخ في هذه الصورة، ثم زيّفوا ذلك، واحتجوا بأن تلك الزيادة لا يجبُ على البائع تسليمُها، وإذا لم يجب تسليمُها وتعذر تمييزُها، فلا وجه إلا إلحاقُها بالثمار.
ولست أرى لما حَكَوْه وجهاً. ولكنا في هذا الكتاب الحاوي لا نجد بُدّاً من ذكر ما ذكره الأئمةُ في التصانيف المشهورة، فالوجه أن نذكر الوجوه الفاسدة، وننبه على فسادِها، وإن أمكن توجيهٌ على بعدٍ أتينا به، ولعل الممكن فيه أن الزيادةَ بدت في القُرْط من جهة الجزّ فهي معلومة، والاختلاطُ لا يتحققُ تحقُّقَه في الثمار. وهذا غير سديد.
وقد نجزَ الفصل بما فيه.
فصل:
قال: "وكل أرضٍ بيعت فللمشتري جميع ما فيها... إلى آخره".
3009- ظاهر نص الشافعي هاهنا أن من باع أرضاً، وذكر في البيع اسمَ الأرض، أو الساحة، أو العَرْصة أو البقعة، فيندرج تحت مطلق هذه الألفاظِ البناء والغراس.
ونصَّ الشافعي في كتاب الرهون على أن رهنَ الأرضِ باسمِها، لا يتناول ما فيها من بناءٍ وغرسٍ، ومن أصحابنا من أجرى القولين في البيع والرهنِ. أحدهما- أن البناءَ والغراس يندرجُ؛ لأنها إذا اتصلت بالأرضِ عُدّت من أجزائها، فاستَتْبَعتها استتباعَ الدور حقوقَها، وإن لم يجر لها ذكر. والقول الثاني- أن الأبنيةَ والغراسَ لا تدخل في البيع والرهن. هذا هو الأصح؛ فإن البيعَ معقودٌ باسم الأرضِ، وليس البناء، ولا الغِراسُ، مما يتناوله اسمُ الأرض.
ومن أصحابنا من أوّل ما ذكره الشافعي هاهنا، وقال: أراد إذا زاد البائع على اسم الأرضِ في صيغةِ العقد، فقال: بعتُكَ الأرضَ بحقوقها؛ فإن المعقودَ عليه هو الذي يُسمَّى في العقد. كما قرَّرناه.
وهذا يتضمن نسبةَ المزني إلى الإخلالِ في النقل، والاختصار على بعض لفظ صاحب المذهب.
وذهب بعضُ الخائضين في المذهب إلى تقرير النصَّيْن في البيع والرهن، والمصير إلى أن البيع يستتبع البناءَ والغِراس، بخلافِ الرهن، واعتمد هؤلاء في طلب الفرقِ قوةَ البيعِ وتضمنه إزالةَ الملك، بخلافِ الرهن، وهذا بالغٌ في الضعف؛ فإن المتبع الاسمُ في المزيل وغيرِ المزيل، والقويّ والضعيف. والصحيحُ الجاري على القاعدة اتباع الاسم، ونسبةُ المزني إلى الإخلالِ بالنقل.
ويلي ذلك طريقةُ القولين، ومحاولةُ الفرق ظاهر السقوط.
وإن جرينا على اتباع الاسم، فلو قال العاقدُ: بعتك الأرضَ بحقوقها، فمن أئمتنا من ذهب إلى أن البناء والغِراسَ لا يدخلان بهذا اللفظ أيضاًً؛ فإن الحقوق مجملةٌ والمعنيُّ بها في تفاوض أهل العُرف: مجرى الماء، ومَطْرحُ التُراب، والممرُّ، وما أشبهها.
ومن أئمتنا من صار إلى أن لفظَ الحقوق يحتوي على الغِراس والبناء. وهذا أشهر. والأول أقيسُ.
ولما ذكرناه التفاتٌ إلى أصل نذكره في باب الخراج، وهو أن أجزاء البناءِ بالإضافة إلى الدارِ تنزل منزلةَ الصفاتِ، أو كلُّ جزء من البناء يُقدَّر مبيعاً، حتى يسقطَ قسطٌ من الثمن بتلفه.
3010- ومن مقاصدِ الفصلِ أن الرجل إذا قال: بعتُك هذه الدارَ، فالأصل أن كل ما يعدُّ جُزءاً من الدار، فاسم الدار يتناوله، والبيع يَرِدُ عليهِ، ثم هذا يفصّل بالثبوت ونقيضه، فكل ما ليس مثبتاً في الدار، فهو من الأقمشة وليست مندرجة تحت اسم الدّار، واستثنى صاحب التلخيص مفتاح الدار؛ فإنهُ منقولٌ، والبيع يتناوله.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك: فساعده بعضُهم، واعتلَّ بأن تسليم الدار مستحق، وإنما يتم التسليمُ بتسليم المفتاح، والأغلاقُ من الدار، فتستتبع المفتاحَ، فإن المفتاح إنما يُعنَى للأَغْلاق.
ومن أصحابنا من قالَ: لا يدخل المفتاحُ تحت البيع؛ فإنهُ منقول غيرُ معدودٍ من أجزاء الدار، ولئن عُدَّ من مصالح الدار، كان بمثابة المكانسِ، والمساحِي، والمجارِفِ، وغيرها.
هذا قولُنا في المنقول، وسيلتحق بهذا الفصلِ طرفٌ من مسألةٍ سنُنبّه عليها في القسم الثاني.
3011- فأما الثوابت في الدارِ فتنقسم إلى ما يثبَّتُ تَتِمَّةً لبناءِ الدار، وإلى ما يَثبَّت والغرضُ من إثباته ألا يتحركَ في الاستعمال، كالأجَاجين والأَرْحِيَةِ، فأما ما أُثبتَ ليُعَدّ من الدار، ويستكملَ به بناؤُها، فلا شك في دخولها، وما أُثبت كي لا يتزعزَعَ، فمنه الطاحونة.
وحاصل ما قاله الأصحاب ثلاثةُ أوجُهٍ: أقيسُهما- أن الحجرين الأعلى والأسفل لا يدخلان في البيع؛ فإنهما لا يعذان من أجزاء الدّار، وإن جرى إثباث في الأسفل، فليس هو ليلحقَ بأبنية الدار، وإنما هو لغَرضٍ في الاستعمال.
والوجه الثاني- أنهما يدخلان، أما الثابت، فيدخل لثبوته، ثم يستتبعُ الحجرَ الأعلى، كما تستتبعُ الأَغلاقُ المفتاحَ.
والوجهُ الثالث: أن الأسفل يدخل لثبوتهِ، كما يدخل أيُّ حجرٍ آخرَ يُثبَّت في عرْصةِ الدار، وصورةُ الثبوت لا تختلف، والقصودُ لا معوَّل عليها، والأعلى لا يدخل؛ لأنه من المنقولات، والاستتباعُ باطل هاهنا؛ فإنه لا يتحقق ما لم يتقرر في الحجر الأسفل مقصودُ الأَرْحية، وهذا يُخرجه عن جُزئية الدار، وعما ذكرناه من صورة ثبوت الحجر، وليس كذلك الأغلاق؛ فإنها تعني إغلاقاً، وتُعد مع هذا المقصود من أجزاء الدار، ثم الغَلَق دون المفتاح لا خير فيه، فكان الاستتباعُ متَجِهاً فيه.
وأما الإجانة المثبتةُ، فقد قال الأصحاب: القول فيها كالقول في الحجر الأسفل المثبت من الطاحونة؛ فإنََّ إثباتَ الإجَّانة ليس لإلحاقها بأبنية الدار، وإنما هو لغرضٍ في الاستعمال كما تقدم.
ولو اتخذ الرجل من داره مدبغةً وأثبت فيها أجاجين يمعَسُ فيها الأُهب، نُظر: فإن قال: بعتُك الدارَ، ففي دخول الأجاجين خلاف مرتَّب على الصورة الأولى، والأجاجين أولى بالدخول إذا ظهر قصدُ البائع والمشتري. وإن قال: بعتُ منك هذه المدبغةَ وفيها أجاجين مثبَّتَةٌ، فلا شك في دخولها؛ فإن اللفظ مُصرّحٌ بها، فهو كما قال: بعتُك هذه الطاحونةَ، فالحجرُ الأسفل يدخل لا محالةَ، وفي الحجر الأعلى خلاف، والأظهرُ دخولُه، وهو أوْلى من المفتاح بالدخول؛ فإن الطاحونة تتعرض باسمِها للطحن، والطحنُ لا يقعُ إلا بالحجر. فهذا هو الذي لا يتجه غيرُه.
والرفوف في الدار منقسمة، فمنها ما أُثبتت مع الدار جُزءاً منها، وتتمةً لمرافقِها، فما كان كذلكَ، فهو داخلٌ تحت اسم الدار، وما يُبنى لوضع شيء عليه، كالخيوط التي تمدد لوضع الثيابِ عليها، فالمنقولُ منها لا يدخل كسائرِ الأمتعةِ. وما أُثبت بالمسامير حتى لا يتزعزعَ، فهو كالإجانة. والحجر الأسفل من الرحا، والسُلَّم المنقول من أمتعة الدار، وما أُثبت للبناء، فهو من الدار، كالمراقي المبنِيَّة من الطوب والجِصّ، وأما السلاليم المثبتة بالمسامير، فهي كالأجاجين، ومراقي الخشب إذا أثبتت إثبات تخليد، فهي على الأصح كمراقي الآجُر والجصق، بخلاف السلاليم.
فإن قيل: إذا فرَّعْتُم على أن اسم الأرض يتناول البناء، والغِراس، فما قولَكُم في الأجاجين المثبتةِ، والحجرِ الأسفل من الرحا والسلاليمِ المسمّرةِ؟ قلنا: الاختلافُ يجري وإن وقع التفريع على القول الضعيف؛ لأن مأخذَ الخلاف من إلحاق هذه الأشياء بالمنقولات، ورد إثباتها إلى غرضٍ آخرَ يخالف البناء.
3012- ولو قال: بعتك هذه الدارَ، وفيها أشجار، فحاصل ما قاله الأئمةُ أوجه: أحدُها- أن الأشجار لا تدخل، والتفريعُ على الأصح، وهو اتّباع الاسمِ، وذلك أن الأشجار ليست من أركان الدار.
والوجه الثاني- أنها تدخل، واسم الدار يشملها، والدورُ منقسمةٌ، فمنها ما يَعْرَى عن الأشجار، ومنها ما يشتمل عليها.
ومن أصحابنا من قال: إن بلغت الأشجار مبلغاً يُجوّزُ تسميةَ الدار بستاناً؛ فإنها لا تدخل في اسمِ الدارِ، وإن لم تبلغ الأشجار مبلغاً يُكسبُ الدارَ اسمَ البستان، فهي داخلةٌ. وهذا أعدل الوجوه.
ولو قالَ: بعتُك هذا البستانَ، فلا شك في دخول أشجارها تحت الاسم، وتردد جوابُ الأئمة في دخول البناء، فمال بعضُهم إلى أنه لا يدخل، وقالَ الأكثرون: إنه داخل. والبناءُ عندي بالإضافة إلى البستان كالشجر بالإضافةِ إلى الدار.
ولو قالَ: بعتُكَ هذه القرية، فلا شك في دخول دورِها، وأبنيتها، ومزارعها، تحت البيع. وذكر العراقيون في دخول أشجارِها تحت البيع قولين إذا لم يقع لها تعرض، وهذا الذي ذكروه أبعدُ من التردّدِ في أشجارِ الدارِ؛ من جهة أن الأشجارَ مألوفةٌ في القُرى، ولا تستجدّ القريةُ بالأشجار اسماً، والدار تستجدّ اسمَ البستان بكثرة الأشجار.
ولو قالَ: بعتُكَ هذا البَاغَ أو البستان، فقد كان شيخي يتردد بعض التردُّدِ في العُروش التي عليها الكروم، من جهةِ أنها ليست مخلَّدة، والوجه عندنا القطع بدخولها تنزيلاً على المعهودِ من اسم الكرْم، أو البستان، في مُطلق العُرفِ.
وممَّا ذكرهُ العراقيون أن قالوا: من باع داراً وفيها بئر، فلا شك أن ما يحدثُ من الماءِ، فهو للمشتري، وأما الماءُ الذي كان موجوداً حالةَ البيع وهو جَمَّةُ البئر، فلا شَكّ أنه من المنقولات، وليس من أجزاءِ الدار.
فإن قُلنا: لا يُملك الماء، وإنما يُختصُّ به، من جهة احتواءِ ظرفه عليه، وامتناعِ التصرفِ في ظرفه دون إذنه، فإذا جرى البيع، فيصير المشتري أولى بالماء؛ فإنه لا حقَّ في عينه، وقد امتنع على الناس تخطي مِلكِهِ إلى الماءِ، وإن قلنا: الماءُ يملك، فقد قطع العراقيون بأن القَدْرَ الموجودَ في البئر حالةَ العقد ملكُ البائع، ولست أرى قياساً، ولا توقيفاً يخالف ما ذكروه.
ولكن العادة عامة في المسامحة به. فإن نبا قلبُ ناظرٍ عن هذا فلذلك.
ولو كان في الأرض معدن عِدّ كالنِّفظ وغيره، فإذا باع الأرضَ، وفيها المعدِن، فما يتجدَّد بعد البيع للمشتري، وما كان تجمّع، فهو للبائع، ولا تردُّدَ فيه، بخلافِ الماءِ؛ فإن في الناس من قال: إنه لا يُملك.
ونقل الصيدلاني أن الشافعي قال: إذا قالَ: بعتُك الدارَ وفيها حمَّامٌ، لم يدخل الحمامُ في البيع، ونقل عن الربيع أنه قالَ: أراد الشافعيُ حمامات الحجاز؛ فإنها بيوت من خشب، تُنقل وتحوّل، فأما إذا كان في الدار حمامٌ مبني، فهو من مرافق الدار، فيدخلُ تحت اسم الدار، ولا تعويل على اختصاص بعض الدور بالحمام، فإن هذا يجري في كثيرٍ من الأبنية، إذ قد توجد بعضُ الأبنيةِ في بعض الدور دون البعض.
فصل:
3013- من باع أرضاً مزروعةً، فللأئمة طريقانِ في صحة البيع في الأرض، بعدَ الاتفاق على أن الزرعَ لا يدخل تحت تسميةِ الأرضِ، فإنّ سبيلَه سبيلُ المنقولاتِ، وليس معدوداً من أجزاء الأرض، فإذا كان الزرع يبقى للبائع، ففي بيع رقبة الأرض طريقان:
أحدهما:وهو الأصح- أن البيع صحيحٌ.
ومن أصحابنا من خرّج بيعَ الأرض المزروعة على بقاءِ الزرعِ للبائع، على قولي بيع الدارِ المكراة، والجامعُ عند هذا القائلِ أن منافعَ الرقبة مستغرَقةٌ بالزرع حسَبَ استِغراقِها باستحقاقِ المستأجِر. والقائل الأول يفرق بين الأرض المزروعة، والمكراة.
ونقول: إثبات اليد للمشتري على رقبة الدار المكراة غيرُ ممكن مع استمرار يدِ المستأجِر واستحقاقِه، وتسليمُ الأرض المزروعةِ إلى مشتريها ممكنٌ. ثم من اشترى أرضاً وعَلِمَها مزروعة، فلا خيار له، لإقدامه على العقدِ على بصيرة بحقيقةِ الحال.
وليس له مع الفرض في العلمِ أجرةُ مثلِ الأرض، وكان منفعتَها مستثناة.
وهذا بمثابة ما لو علم المشتري أن الدار مشحونةٌ بأمتعةِ البائع، ولا يتأتى تفريغُها إلا في زمنٍ لمثله أجرةٌ، فلا أُجرةَ للمشتري.
ولو كان المشتري جاهلاً بكون الأرضِ مزروعةً، فإذا اشترى، ثم اطّلع، فله الخيارُ، فإن فسخ، فلا كلام، وإن أجاز، فهل تثبت له أجرةُ مثلِ الأرض لمدة بقاء الزرع، فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: ليس له ذلك، لقدرته على الفسخ، فإن أجاز، فلا مرجع له، وهو كما لو اطّلع على عيبٍ قديم بالمبيع، وتمكَّن من الردِّ، فإن أجاز العقدَ لم يرجع بشيء من الأرش.
والوجه الثاني- أنه يثبت له أجر المثل؛ فإن هذا ضررٌ يلحقه فيما ليس معقوداً عليه، وهو المنافعُ. ويرِدُ على هذا الضررِ أن المنافع تنزل منزلةَ نقصِ الرقبة في إثباتِ الخيار، فليَجْر حكمُ الرضا مجرى حكم الرضا في العيب. وسيأتي لهذا الخلافِ في الأجرة نظائرُ في الفصل الذي يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
3014- ولو اشترى داراً وصادفها مشحونةً بأمتعة البائع، وكان لا يتأتى تفريغُها إلا في مُدَّةٍ، وما كان حسِبَ أن الأمرَ كذلك، فهل يثبت له الخيار، كما يثبت لو اطلع على الأرض، فصادفها مزروعة؟ المذهب ثبوتُ الخيارِ. ومن أصحابنا من لم يُثبتة، وصار إلى أن الغالب في العادة اشتمالُ الدارِ على أمتعةٍ، ثم إنها تفرَّغ، ثم لا ضبط لمقدار الأمتعة. والأصح الأول. والرجوع فيما يُثبت الخيارَ إلى ما يحتاج في نقله إلى مدةٍ يتعذّر فيها الانتفاع بالدار، وكان للمدة أجرة.
ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من اشترى داراً مشحونةً بالأمتعة، كما صوَّرنا فقد أطلق الأصحابُ القولَ بصحة البيع، وذكروا في الأرضِ المزروعةِ طريقين في صحة البيع، ولا شك أن القياسَ يقتضي التسويةَ بينهما؛ إذ لا فرق. ولكن المنقول ما ذكرناه، من تخصيص الخلاف بالأرض المزروعة.
وإذا صححنا البيعَ في المزروعة، والدار المشحونة، فلو سلّم البائعُ الأرضَ وفيها الزرعُ، وسلَّم الدارَ وفيها الأمتعةُ، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أن اليدَ هل تثبت للمشتري؟ أحدهما- أنها تثبت، وهو ظاهرُ المذهب؛ فإن الرقبة مسلَّمةٌ إليه، وإنما الاشتغال في المنافع.
ومنهم من قال: لا تثبت اليدُ في الموضعين، ما دامت المنافعُ مستغرَقة بالأمتعةِ والزروع.
ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ثالثاً- فقال: اليدُ تثبت في الأرض المزروعة، دون الدار المشحونة. ولا يكاد يتضح الفرق.
وما ذكرته من تنزيل الدار المشحونة منزلةَ الأرض المزروعة في القياس، يتأكد بما نقلته من الخلاف، في أن اليد هل تثبت للمشتري عليها أم لا؛ فإنه إذا كان يمتنع ثبوتُ اليد حُكماً، فالبقعةُ المبيعة مشبهةٌ بالدار المكراة، من جهة امتناع ثبوت اليد.
3014/م- ولو باع الأرضَ، وهي مبذورةٌ، ما نبتت بعدُ، فالبذر للبائع، ولا يدخل تحت مطلقِ البيع. ثم الكلام في صحة البيع وجميعُ ما ذكرناه في الأرض المزروعة، يعود حرفاً حرفاً؛ إذْ لا فَرْقَ.
ولو باع الأرضَ المزروعةَ مع الزرع، فلا شك في صحة البيع، وانعقادِه عليهما.
ولو باع الأرضَ المبذورةَ مع البَذْر الكامن فيها، فالأصح الحكم بفساد بيع البَذْر؛ لأنه مجهول مستتر، وهذا متَّضح على منع بيع الغائب. ولا يبعدُ الحكمُ بصحة البيع في البذر، على تجويز بيع الغائب، وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً آخر، وهو أن البيع صحيح-وإن منعنا بيع الغائب- إذا بيع مع الأرض، فيجري تصحيح البيع في البذر على قياسِ التبعيّه. وقد يتبعُ الشيءُ في حكم، وإن كان لا يجوز أن يتأصَّل فيه. وإن قلنا: البيعُ في البَذْر صحيحٌ، فلا كلامَ، وإن قلنا: البيعُ فيه فاسِدٌ، ففي الأرض قولا تفريقِ الصفقة، على ما ستأتي مسائله. إن شاء الله عز وجل.
3015- ثم ذكر بعض الأصحابِ جُملاً من الكلام في الزروع، وما يصح بيعُه، وما لا يصح، ولم أَرَ ذِكْرَها؛ فإني أستقصيها-إن شاء الله تعالى- في باب بيع الثمار قبل بدوِّ الصلاح وبعد بدوّه.
والذي يليق بمنتهى كلامِنا منها: أن الزروع التي لا تُخلِفُ بعد الجَزّ حكمه بقاؤه للبائع في مطلق بيع الأرض. كما تقدم.
ولو باع أرضاً، وفيها أصولٌ لبقولٍ مُخْلِفةٌ بعد الجَزّ، فقد قطع شيخي بأن تلك الأصول تدخل تحت مطلق تسمية الأرض؛ فإنها من الثوابت، وهي مخالفة للأبنية والأشجار؛ من جهة بدوِّها وظهورها، ومفارقتها الأرضَ في صفتها، وأصول البقول ثابتة كامنة، وكأنها من أجزاء الأرض.
وذكر العراقيون والصيدلاني في دخولها تحت مطلق تسمية الأرض قولين: كالقولين في البناء والغِراس، كما مضى مفصلاً، وهذا هو القياس؛ إذ لا يلوح فرقٌ بينها وبين الغراس والأبنية.
ولو باع أرضاً، وفيها أصلُ البقل، وكان قد ظهر شيء حالةَ البيع، فلا خلاف أن الظاهرَ باقٍ على استحقاقِ البائع، وله تلك الجزّة البادية. وفي الأصول من التفصيل ما ذكرته الآن.
فصل:
قال الشافعي: "وإن كان فيها حجارةٌ مستودعة... إلى آخِره "
3016- إذا باع رجلٌ أرضاً، وفي باطنها أحجارٌ، نُظر: فإن كانت مخلوقةً فيها، فلا شكَّ في دُخولها تحت البيع؛ فإنها من أجزاء الأرض المبيعة، وإن كانت تلك الأحجار مستعملةً في أساس بنيان، فسبيلها كسبيل الجُدرانِ وغيرِها من الأبنية، وقد تقدم القول في أن الأبنيةَ هل تدخل تحت مطلق اسم الأرض في البيع أم لا؟ وإن لم تكن مخلوقةً فيها، ولا مبنية، ولكنها كانت مستودعةً للبائع؛ فلا خلافَ أنها لا تدخل تحت بيعِ الأرض، وهي بمثابةِ ما لو أودع كنزاً في الأرض، ثم باع الأرضَ، فالكنزُ للبائع لا محالةَ، ثم التفصيلُ وراء ذلك.
3017- فنقول: الأرض لا تخلو إما أن تكون مغروسة، وإما أن تكون بيضاءَ، لا غراسَ فيها، فإن كانت بيضاء، لم يخل الأمر من أقسامٍ، وحقُّها أن تُفرض فيه إذا لم يكن المشتري عالماً بكونِ الأحجار، فإذا كان كذلك، فمن الأقسام ألا تضرَّ تَبقيةُ الأحجارِ تحت الأرض، ولا يضُرّ بالأرض نقلُها أيضاًً، فلا خيار للمشتري؛ إذ لا ضرار كيف قُدّر الأمرُ. ولكن ذكر بعضُ المصنِّفين: أن البائع بالخيار، إن شاء نقل الأحجار، وإن شاء تركها؛ فإنه لا يلتحق بالمشتري ضررٌ، على أي وجهٍ صُوّرت الحال. وهذا غلطٌ لا يجوز عَدُّه من المذهب.
والذي قطع به الأئمةُ: أن للمشتري أن يجبر البائعَ على تفريغ أرضه، ونَقْلِ الأحجارِ منها، ولا تعويل على انتفاء الضِّرار، كما صوَّرناه، بل الأصل تمكن المالك من الإجبار على تفريغ مِلكهِ، والذي يوضح ذلك أن انتفاع البائع في التبقية ظاهرٌ، وربَّما يحتاج لو نقل الأحجارَ إلى موضعٍ يكتريه لينضدَ الحجارةَ فيه، فانتفاعُه بملك الغير، من غير إذنٍ واستحقاقٍ محالٌ، وقد يَعِنُّ للمشتري أن يضع مكان الأحجار أحجاراً لنفسه، فلا شك في وجوب القطع بأن المشتري لو أراد، أجْبرَ البائعَ على النقل. نعم، إذا استوى الأمران في عدم الضرار، فلا خيارَ للمشتري في فسخ البيع بسببه.
3018- ولو كانت الأحجار تضرُّ بالأرض، ولكنَّ نقْلَها ودفعَ ضررِها على القُرب واليُسر ممكن، في زمانٍ لا تثبت لمثله أجرةٌ، فلينقل البائعُ إذا كان كذلك- ولا خيارَ للمشتري. وهو بمثابة ما لو باع الرجلُ داراً، ثم لحق سقفَها أَدْنى خَلل، بحيث يمكن تداركُه قريباً، فإذا أدركه البائعُ من غير استعمالِ عينٍ جديدة فيها من ملكه، فلا خيارَ للمشتري.
ولو باع عبداً، فغصبه غاصبٌ، واستمكن البائعُ من استرداده على القُرب، فلا خيارَ للمشتري. وكذلك لو نال العبدَ مرضٌ، وكان يزول بالمعالجة الناجزةِ على التحقيق، فلا خيارَ للمشتري إذا سعى البائعُ في طرد ما جرى.
وقد ذكر العراقيون وصاحبُ التقريب هذه المسألةَ، ولا خفاءَ بها، وما ذكرناه فيهِ إذا لم يكن في النقل ضررٌ، أو كان، ولكن هو عرضة الإزالة على قُرب، وكان لا يحتاج إلى تعطيل الأرض المشتراة، في مُدّةٍ لمثلها أجرةٌ.
فأما إذا لم يكن ضرر راجعٌ إلى رقبةِ الأرض، ولكن كان النقلُ لا يتأتى إلا بتعطيلِ منفعةِ الأرضِ، في مدّةٍ لمثلها أجرةٌ. فأولُ ما نذكره في ذلك أن المشتري يثبتُ له الخيار في فسخ البيع، إذا لم يكن مطّلعاً على شيءٍ حالةَ العقد. فلو قال البائع: لا تَفسخ؛ فإني أَغْرَم لك الأجرةَ، فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه يبطل الخيار، ويجب على البائع النقلُ، وبذلُ أُجرةِ المثل؛ فإن إبقاءَ العقد، وجَبْر حق المشتري، ببذل الأجرة أَوْلى.
والثاني: أنه على خيارهِ، كما لو اطلع على عيب قديمٍ؛ فيثبت له حق الرد. فلو قال البائع: أنا أغرَم لك أرشَ العيب، فلا ترُدّه، فلا يبطل حق المشتري من الردّ وفاقاً، فليكن كذلك فيما نحن فيه. وإن انفصل القائل الأول عن هذا، فقال: الخللُ في المنافع ليس متمكِّناً من نفس المبيع بخلاف العيب الكائن به، فهذا لا ينفع مع ثبوت حق الاختيار في الموضعين.
التفريع على الأصح:
3019- وهو أن الخيار لا يسقط بما ذكرناه من بذل الأجرة. فإن فسخ المشتري، فلا كلام، وإن أجاز العقدَ، ونقل البائعُ الأحجارَ، فهل يلتزم أجرةَ المثل للمدَّةِ التي تُنقل فيها؟ فعلى ثلاثة أوجهٍ: أحدُها- أنه لا يلزمه؛ فإن المشتري كان قادراً على دفع هذه الظُّلامة عن نَفسه بالفسخ، فإذا لم يفعل، فهو الذي قَنِعَ بما يجري من حقوق هذا العقد.
والوجه الثاني- أن البائع يلتزم أجرةَ المثل؛ فإن موجَب البيع المطلق تمكينُ المشتري من منافع المبيع عَقِيب العقد؛ فإذا لم يتأتَّ ذلك، لزمه في مقابلة ما امتنع من المنافع عِوضه.
والوجه الثالث: أنه إن نقلَ وعطّل المنافعَ قبل القبض، لم يلتزم شيئاً، وإن سلّم الأرضَ إلى المشتري، ثم فعل ما ذكرناه بعد التسليم، التزمَ الأجرة. وهذا التفصيل يلتفت على خلافٍ يأتي في باب الخراج، في أن البائع لو جنى على المبيع، وعيّبه قبل القبض، فالعيبُ الصادرُ من جهته كآفهٍ سماويَّةٍ؛ حتى يقالَ: للمشتري الخيارُ فحسبُ، أم هو كعيبٍ يلحقُ المبيعَ بسبب جنايةِ أجنبي؟ فيه قولان: سيأتي شرحُهما. ولا شكّ أن البائعَ لو جنى على المبيع بعد القبضِ، فهو كالأجنبي في التزام أرش النقص، فتفويتُ المنافعِ عند بعض الأصحابِ ينزل منزلةَ تعييب المبيع.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان لا يلحقُ الأرضَ من النقل عيبٌ، وذَكرنا أمرَ تعطيل المنافع على التقسيم المفصَّل.
3020- فأما إذا كان ينال الأرضَ عيبٌ، والغالِبُ أن ذلك يُتصوَّر في الأرض المغروسةِ؛ فإنها إذا كانت بيضاءَ، فغايةُ ما يُرتقبُ منها أن يحدث فيها حفائر، وطمُّها وردُّ التراب إليها ممكنٌ، فإذا كان كذلك، كَلَّف المشتري البائعَ النقلَ، ثم البائعُ يطمُّ الحُفَرَ، ويرد الترابَ إليها، ولا خلاف أن ذلك واجبٌ على البائع، ثم يعود النظر في تعطل المنافعِ، وتطاول المدة وقِصرها، وقد مضى ما يتعلق بأمر المنافع والأجرة.
3021- والذي نستقصيه الآن حديثُ طمّ الحُفَر: أجمع الأئمة على إيجاب ذلك على البائع؛ فإنه ممكن، وسنذكر في كتاب الغصوب-إن شاء الله عز وجل- أن من غصب أرضاً وحفر فيها حفائرَ، فيلزَمُه طمُّها وتَسويتُها.
فإن قيلَ: من اعتدى فهدم جدارَ إنسانٍ، فالواجب عليه أرشُ النقص، ولم يلزمه إعادةُ ذلك البناء كما كان وإن أمكن هذا، فما الفرقُ بين احتفار الحفائر وبين هدْمِ البنيان؟ قُلنا: طمُّ الحفيرَةِ لا تفاوُتَ فيه، فقَرُب إلزامُه والتزامُه، وهدْم الجدارِ يتضمن إبطالَ صفةِ البناءِ، وليست تلك الصفةُ من حكم ذَوات الأمثال؛ فإن هيئات الأبنية تتفاوتُ، وما كان كذلك، فهو مشبه بذوات القِيَم، فتجب مقابلةُ التفويت فيه بالقيمة، وهو أَرْشُ النقصِ. وطمُّ الحفرِ يضاهي مقابلةَ المثليِّ بالمثلي، فالصفات المضمونة تنقسم انقسام المتلفات، فما يضاهي المثليات، يجب في تفويته الإتيانُ بمثل ما فوّت، كما ذكرناه من ردم الحفائر وطمِّها.
ونقول: لو رفع إنسانٌ لبنة من رأس جدارٍ، وأمكنَ ردُّه. فنقول من غير تَخيُّل اختلاف في الكيفية والهيئة، فهذا بمثابةِ طمّ البئر وردم الحفر. ثم إذا ثبت وجوبُ الطمّ، وقُرْبُ زمان الإمكان، فلا خيارَ؛ فإن الاحتفارَ إن أورث نقصاً، فهو مما يمكن تَداركُه قريباً، وقد ضربنا لذلك الأمثلةَ، في صَدْر الفصل.
3022- فأما إذا كانت الأرض مغروسة، ففيها تزدحم الأقسام: فإن لم يكن في تَبْقيةِ الأحجارِ ضررٌ وفي نقلها، فالأمر كما مضى حرفاً حرفاً.
وإن كان القلع والنقلُ يضرّ بالغراس، ولو تُركت الأحجارُ، لم يَضُرّ تركُها بالغِراس، بأن كانت معمقةً، لا تنتهي إليها عروقُ الأشجار، ولو اقتُلِعت، تضررت الأشجار، فإن آثر البائعُ النقلَ، فلا شك أن له ذلك، فإنه ناقلٌ عينَ ملكه، وليس لقائلٍ أن يقول: يمتنع عليه النقلُ وفاء بموجَب البيع، وقياماً بتسليم الأرضِ والأشجارِ له. ولكن إذا نقلَ وعيَّبَ، فللمشتري الخيارُ في فسخ البيع.
والمسألة في أطرافِها مفروضةٌ في جهل المشتري بحقيقةِ الحالِ.
فلو قال البائع: لا أنقل الأحجارَ، وأتركُها في الأرضِ؛ حتى لا يَعِيبَ الغِراسُ بالقلعِ، ولا ضِرارَ بالترك، فقد أجمع الأئمةُ في طُرقهم على أن خيارَ المشتري يبطل، والحجارةُ يتركها البائع. وكأن للشَّرع صَغْواً وميلاً إلى إبقاءِ العقد، إذا أمكنَ مع دفْع الضرارِ عن المشتري. وهذا مشبهٌ بمسألةٍ سَنُوردها في باب الخَراج، وهي أن الرجل إذا اشترى دابةً، وأنْعَلَها، ثم اطَّلع منها على عيب قديمٍ، ولو اقتلع النَّعْلَ، لحدثَ بذلك السبب عيبٌ حادثٌ يمنعُ من الردّ بالعيب القديم، فلو قال: تركتُ النعل، فلا أرجعُ فيه، وقصْدُه استبقاءَ حقه من الرَّدّ. قال الأئمة: له ذلك، والبائع المردود عليه مُجبرٌ على القبول، وهذه المسألةُ مقصودُها استبقاءُ حق الردّ. وقولُنا في استبقاء العقد، حتى لا يُفرضَ طريانُ سبب يُسلِّط على نقضه وفسخه، والمعاني هي المتبعة.
3023- ثم قالَ الأئمةُ في مسألة النَّعْل وتَرْكِ الأحجارِ: ما يتركه التارك في المسألتين يملكه المتروك عليه، أم لا؟ فعَلَى وجهين:
أحدهما: أنهُ لا يملِكه؛ فإن الغرضَ ألاّ يحدثَ عيبٌ، وهذا لا يستدعي إثباتَ ملك. والوجه الثاني- أن المتروكَ عليه يملك ما أُجبر على قبوله. وهذا هو الذي يسدّ مسدَّ حقِّه الساقط بسبب الترك، فالحقوق لا تقابل إلا بأعواضٍ مملوكةٍ.
فإن قُلنا: يثبت الملكُ في المتروك، فأثرهُ ظاهر، ويتصرّفُ المتروك عليه في المتروكِ، تصرف المُلاك، ولا يرجع التارك إليه قط.
وإن حكمنا بأن المتروك عليهِ لا يَملك المتروكَ، فلا خلافَ أن البائع يلزمه الوفاءُ بالترك، حتى لو قال بعد الترك: أقلع، وأقنع بأن يُرَدّ عليَّ المبيع، فلا يبالَى به. نعم لو جرت حالةٌ يزول فيها المعنى المقتضي للتركِ، فتلك الأعيان مردودة إذ ذاك على المالكِ التاركِ، كما أن النَّعلَ لو استحق يزالُ، وإن سقَط، رجع فيهِ الراد، وكذا القول في الأحجار.
ولو انقلع الغِراس أو قلعه المشتري قصداً، وزال ما كنا نُحاذره من الضرار، فيعود حق التاركِ.
3024- وتمام البيان في ذلك أن هبة الأحجار إن كانت ممكنةً على الصحة، فوهب البائع الأحجار، وقبلَ الهبةَ المشتري، واستجمعت الهبةُ شرطَ الصحة، فالوجهُ القطع بحصولِ الملك، والمنعُ من الرجوع في الهبة التي لا رجوعَ في مثلِها، فأما إذا كانت الأحجار لا تصح هبتُها على قولٍ، وقد جرت الهبة كما وصفناها، فمِن أصحابنا من صححها للضرورة، وتحصيلِ استبقاء العقد، ومنهم من لم يُصحّحها.
ولو لم تجرِ هبةٌ على شرطها في الإيجاب والقبُول، ولكن قال: تركتُ الأحجارَ، فمن أصحابنا من قال: لا حكم لهذا القول، وإليه صَغْوُ الصيدلاني في كتابه. ومن أصحابنا من قال: هذا القول كافٍ، ويجب على البائعِ المتلفظِ به الوفاءُ بموجَبه، وقد ذكر ذلك طوائفُ من أئمتنا.
3025- فتنخَّل من مجموع ما ذكرناه أنه لو قال: تركت الأحجارَ، فمن أئمتنا من لم يُقم لذلك وزناً، ولم يُثبت له حكماً، ومنهم من صححه، ثم من صحَّحه اختلفوا في أن الملك هل يحصل قهرياً أم لا؟ وإن جرت هبةٌ لا يصح مثلُها مفردةً، ففي صحتها الآن وجهان مرتبان على لفظِ التركِ، وهي أَوْلى بالصحَّةِ، فإنها على حالٍ عقدٌ تُصحّحُهُ الضرورةُ، ثم في إفادته المِلكَ-إن صحَّحناه- وجهانِ مرتبان على ما ذكرناه في التركِ، والملك أوْلى بالحصول في هذه الصُّورَة، وكأنَّ الضرورة رفعت شرطاً معتبراً في حالة الاختيار.
وإن جرت الهبةُ على شرط الصحة، فالمذهب أنها تُفيد الملك. وذهب بعضُ أصحابنا إلى ذكر الخلافِ في إفادة الملك أيضاًً، من جهة صَدَر الهبة عن حاملٍ عليها وليست كالهبة الصادرةِ عن اختيارٍ مجرد.
فهذا مجموع القول فيه، إذا كان النقلُ والقلع مضرّاً، وقد ترك البائعُ الأحجارَ على المشتري.
3026- فأما إذا أبى إلا القلعَ، فله ذلك، وللمشتري الخيارُ، فإن فسخ، فذاكَ، وإن أجاز، وأحدث القلعُ النقصَ، فهل يغرَم البائعُ أرشَ النقصِ؟ قال صاحب التقريب: فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في الأجرة للمدة التي يتعطل فيها المنافع بسبب الاشتغال بالنقل: أحدُها- أنه لا يغرَمُ؛ فإن المشتري بترك الخيارِ راضٍ بما يجري من النقص، والوجه الثاني- أن البائع يغرَم أرشَ النقصِ وفاءً بتسليم المبيع، والوجه الثالث: أنه يفصل بين ما قبل القبض وما بعده، كما ذكرناه في الأجرة.
وابتناءُ هذا على جناية البائع على المبيع بيّن كما تقدَّم.
وهذه فصول نرسلها، وسنذكر بعدَ نجازها ضابطاً لمجال النظر في هذه المسألة، منبهاً على المقصود إن شاء الله تعالى.
3027- ولو كان القلع لا يضر، والترك يضر، يُجبر البائعُ على النقل، ولا خيارَ للمشتري، إلا أن يقتضيَ النقلُ تعطيلَ المنافعِ؛ فإذ ذاك يثبت الخيارُ، وينعكس الأمر على التفاصيل المقدمة في الأجرة عند اختيارِ الإجازةِ.
3028- ولو كان القلْع والترك جميعاً مضرَّين، فلا شك في ثبوت الخيار، لتحقق الضِّرار من كل وجه، ولكن إن فسخ المشتري، فذاك، وإن أجاز وكُلِّف البائعُ النقلَ، لزمه النقل، وهل يلزمه أرشُ النقص؟ فعلى الأوجُه الثلاثة التي ذكرناها.
فرع:
3029- إذا اشترى أرضاً بيضاءَ، وغرسَها، ثم اطّلع على أحجارٍ مدفونة فيها، منعت عروقَ الأشجار من الانتشار، فهذا ضررٌ لحق الأشجارَ التي ابتدأ المشتري غرسَها، فهل يثبتُ له الخيار؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يثبت؛ فإن الضِّرار الذي بدا من آثار ما قدَّمه البائع من إيداع الأحجار، فرجع الضررُ إلى معنى قديم.
ومن أصحابنا من قال: لا خيار؛ فإنه لولا ابتداءُ الغرسِ، لما ظهر ما ظهر من الضررِ، وليس من شرط المبيع أن يصلح لكل جهةٍ من الانتفاع، والبائع لم يلتزم بموجَب العقد إلا السلامةَ الناجزةَ في المبيع، فأما تكليفه تحصيلَ كل غَرضٍ ممكن في جنس المبيع، فبعيد.
3030- وقد نجزت مسائلُ الفصل، وهي مشتملة على أمورٍ بيّنَةٍ، وفي خَلَلها إشكالٌ في مواضعَ، ومهما كان الفصل على هذا النّعْتِ، فتمامُ الغرض في البيان يحصلُ بإرسالِ المسائلِ مقررةً، والتنبيهُ بعد نجازِها على مواقع الإشكال، حتى تكون ماثلة في النظر، يصادفُها الناظر مميزاً مفصلاً.
فأقول: مهما فُرض ضِرارٌ لا يندفع، فلا شك في ثبوت الخيار، بشرط ألا يكون المشتري مطلعاً على حقيقة الحال حالة العقد.
فإن كان مطَّلعاً، فلا خيار، وليس على البائع جُبرانُ نقصٍ في هذا القسم. وإن كان جاهلاً، فالخيار ثابت، ولا يخفى حكم الفسخ. فإن أجاز، وأراد أن يُلزم البائعَ أرشَ النقص، فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يتمكن البائعُ من دفع الضرر بترك الحجرِ. والآخر- ألا يتمكنَ، وذلك بأن يُفرض لُحُوقُ الضررِ، تُرِكَ الحجرُ أو نُقل، فإن لم يكن للضَّرر مَدفعٌ، ففي وجوب أرش النقص الأوجه.
وسبب الخلافِ تقابلُ الظنونِ؛ من جهة أن المشتري يجد خلاصاً بالفسخ، فإذا لم يفسخ، احتمل أن يكون ذلك كاطَّلاعه على حقيقة الحال حالةَ العقد، واحتُمل أن يقال: النقصُ ظهر بعد العقدِ بفعل ينشئه البائع إما قبل القبض وإما بعدهُ؛ إذ النقصُ، وإن استَنَد إلى سبب متقدَّمٍ، فهو حادث. وهذا يلتفتُ على قتل العبد المرتد في يد المشتري، على ما سيأتي في باب الخراج. ومخْرَجُ الفصل بين ما قبل القبضِ وبعد القبضِ بيّن كما مضى.
فأما إذا كان يجد البائعُ سبيلاً في دفع الضرر بترك الحجر، فلا يلزمه أن يترك، ولكن لو نقلَ وظهرَ الضررُ، فمن أصحابنا من قال: في تغريم البائعِ ما تقدم من الخلاف، ومنهم من يقطعُ بتغريمه في هذا القسم بوجهٍ يُجبَر المشتري عليه، وهو تركُ الحجرِ.
ثم ينتظم على هذا تعطُّلُ المنافعِ، من غير نقصٍ في رقبة المبيع. وقد ذكرُوا الخلافَ في الأجرة، فالوجه ترتيبها. والفَرق لائح؛ فإن المنافعَ ليست معقوداًْ عليها، ولو قيل: القدرُ الذي يُفرِّغ البائعُ فيه المبيعَ غيرُ داخلٍ في استحقاق المشتري، لم يكن بعيداً، والمبيع كله مستَحق للمشتري بأجزائهِ، وصفاته.
فهذا مجالُ الإشكال في مسائل الفصل، ميزَّناه، وزدنا في تقريره حتى لا يبقى متشتتاً في المسائل، وقد نجز الفصل- ولله الحمد- بالغاً في البيان.