فصل: باب: تعجيل الصدقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: من تجب عليه الصدقة:

1907- المرعيُّ في صفة من يلتزم الزكاةَ الإسلامُ وكمالُه، فلا يُرعى التكليف، والزكاة تجب في مال الصبي وجوبَها في مال البالغ، خلافاً لأبي حنيفة.
ولا زكاة فيما تحويه يدُ المكاتَب؛ لأنه ناقص الملك، والسيد إذا ملَّك عبدَه نصاباً زكاتيّاً، فإن قلنا: لا يملك العبد بالتمليك، فالزكاة واجبةٌ على السيِّد، والذي جرى من التمليك لا أثر له. وإن قلنا: يملك العبد، فلا زكاة عليه، كما لا زكاة على المكاتب، والمذهب أنه لا زكاة على السيِّد لزوال ملكه.
وذكر في شرح التلخيص وجهاً أن الزكاة تجب على السيد، وذلك التمليك لا أصل له؛ فإن السيد يتصرف فيه كيف شاء، ولا ينتهي إلى اللزوم، بخلاف ملك المكاتب؛ فإنه إذا عَتَق، لزم ملكُه، والعبد الرقيق، إذا أعتق، ارتد ملكه إلى المعتِق.
وهذا الوجه ضعيفٌ، لا أصل له؛ فإنا إذا قلنا: يملك العبد، فمن ضرورته زوال ملك السيد المملك، ويستحيل إيجاب الزكاة على من لا يملك، وإن كان قادراً على اجتلاب الملك.
ومن بعضه رقيق، وبعضه حر إذا استقر ملكه على نصابٍ بسبب نصفه الحر، فالزكاة تجب فيه. وقد نصّ الشافعي على أن من نصفه حر، ونصفه عبد يُكَفّر كفارة الحرّ الموسر، وخالفَ فيه المزني.
وإذا كنا نوجب كفارة الأحرار على من بعضه رقيق، فالزكاة بذلك أولى؛ فإن المعتمد في الزكاة الملك التام والإسلام، وقد تحقق ذلك.
هذا ما ذكره الإمام، وهو منقاس.
وقطع العراقيون بأنه لا تجب الزكاة فيه، لنقصان المالك في نفسه، وهذا بعيد مع ما حكيناه من نص الشافعي في الكفارة.

.باب: الوقت الذي تجب فيه الصدقة:

1908- إذا كان السلطان يرى جباية الصدقات، فينبغي أن يبعث السعاةَ الأمناءَ الكُفاة. وإذا كانت أحوال الأموال تختلف، فالوجه أن يعيّن شهراً من السنة يؤدي فيه أرباب الأموال زكاتَهم، فإن وجبت الزكاة قبلُ، انتظر المالكُ مَقْدِم الساعي، وإن كان وقت وجوب الصدقة عليه، فذاك، وإن لم تجب الزكاة، فحسنٌ تعجيلُ الزكاة، حتى لا يتعب الساعي في العَوْد، عند وجوب الزكاة.
ثم لا يكلفهم الساعي ردَّ أموالهم من مراعيها إلى القرى؛ فإن ذلك عسر، ولا نكلف الساعي الترددَ على المراعي، ولكن نسلك طريقاً وسطاً، فنرُدُّ الأموال إلى مَنْهلٍ قريب من المرعى والقرى، ويحصرها الساعي، ثم إذا حاول عدَّها ردّها إلى مضيقٍ، وأخرجها منه، فذلك أهون لعدّها

.باب: تعجيل الصدقة:

1909- إذا انعقد الحول على نصاب زكاتي، جاز تعجيل صدقته قبل وجوبها بانقضاء الحول، وذكر المزني في صدر الباب حديث أبي رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكْراً من رجل".
والشافعي لم يستدل به في تعجيل الصدقة، وإنما احتج به في جواز استقراض الحيوان، وقد خالف فيه أبو حنيفة.
وردُّ الحديث إلى تعجيل الصدقة تكلّفٌ.
ونُقل عن ابن عمر أنه كان يبعث صدقة فطره إلى من كان تُجمع عنده قبل العيد بيوم أو يومين، وهذا لا يدل على تعجيل الصدقة؛ فإنه لم يرو عنه أنه كان يوصل صدقةَ فطره إلى المستحقين قبل العيد، والظاهر أن الصدقات كانت تُجمع، ثم تفرق يوم العيد.
1910-ثم لما علم المزني أن ما ذكره لا حجة فيه في تعجيل الزكاة، احتج بما هو حجة في الباب ظاهرةً، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب ساعياً، فلما رجع شكا ثلاثةَ نفر: خالدَ بنَ الوليد، والعباسَ بن عبد المطلب، وابن جميل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما خالد، فإنكم تظلمون خالداً؛ فإنه حبس أفراسه، وأعتُدَه وروي وأعبده، وروي وأَدْرُعَه في سبيل اللهِ، وأما ابنُ جميل، فما نقم إلا أن أغناه الله، وأما العباس فقد استسلفتُ منه صدقةَ عامين» معناه استعجلت.
أما قوله فإنه حبس أفراسه أشبه المعاني أن عمر كان يطلب منه زكاة التجارة في أفراسه وغيرها، فأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حبسها في سبيل الله، وكان الساعي قبل أيام عثمان يطلب زكوات الأموال الباطنة والظاهرة جميعاً، وقصة ابن جميل معروفة.
فثبت أن تعجيل الصدقة قبل وجوبها جائز، ووافق أبو حنيفة فيه، ومنع تقديم الكفارة على الحنث، وقال مالك يجوز تقديم الكفارة، ولا يجوز تعجيل الزكاة.
ومضمون الباب فصول نرسمها على الترتيب، ونذكر في كل فصل ما يليق به.
فصل:
1911- أما الفصل الأول، فمقصوده أن المال إذا كان ناقصاً عن النصاب، فلا يقع تعجيل الصدقة عنه موقعها، على تقدير أنها إذا صارت نصاباً، وانقضى حولها، فالمخرَج زكاتها. هذا لو نواه، ثم جرى الأمر إلى ما قدّره، لم يقع ما أخرجه زكاةً، والسبب فيه أن مبنى هذا الباب، ومبنى تقديم الكفارة، أن الحق المالي إذا قدر تعلقه بسببين، فثبت أحد السببين المقصودين، فيجوز تقديم الحق المالي على وجود السبب الآخر، كما إذا حلف الرجل، ثم كفر بالمال قبل الحنث.
ووجوب الزكاة معلق بملك النصاب، وانقضاء الحول، فإذا ثبت النصاب، فقُدّمت الزكاة على انقضاء الحول، جاز، فأما إذا لم يكمل النصاب، فلا يتحقق واحد من السببين، فكان كما لو قدم كفارةَ اليمين على اليمين.
1912- ولو ملك أربعين من الغنم المعلوفة، وعجل الزكاة على تقدير أن يُسيمها، ثم ينقضي حولُها، لم يجز ذلك؛ لأن المعلوفة ليست مالَ الزكاة، كالناقص عن النصاب.
فمعتبر المذهب في ذلك أن الزكاة إنما تُعجل إذا انعقد الحول، فكان المال جارياً فيه.
ولو انعقد الحول، فأراد تعجيلَ صدقة سنتين فصاعداً، فأما ما يقع لسنةٍ فمجزىء، وأما الزائد، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يقع موقع الاعتداد؛ فإنه لم ينعقد الحول في ذلك الزائد.
والثاني: يُعتدُّ به إذا دامت الشرائط إلى انقضاء الأحوال؛ فإن المال مال الزكاة، وهو كائن، والحول منعقد عليه، ويشهد لهذا الوجه قصةُ العباس.
1913- ولو ملك الرجل مائة وعشرين من الغنم، فواجب ماله شاة، فلو زادت واحدةً، فواجبه شاتان، فلو انعقد الحول على مائة وعشرين، فعجل زكاة مائةٍ وواحدة وعشرين على تقدير نتاجٍ في الحول، ففي الشاة الثانية وجهان مرتبان على تقديم زكاة السنة الثانية، فإن قلنا: يجوز تقديم زكاة السنة الثانية، فجواز تقديم الشاة الثانية في الصورة التي ذكرناها أولى، وإن منعنا تقديمَ زكاة السنة الثانية، ففي الشاة الثانية وجهان.
والفرق أنه لو اتفق نتاجٌ في آخر الحول الأول، وبلغت الماشيةُ مائة وإحدى وعشرين، وجبت الشاةُ الثانية، وإذا وجبت، فلا حاجة إلى حول جديد، فكان حول المال الذي واجبه شاة منعقداً على ما واجبه شاتان، وليس كذلك حكم زكاة السنة الثانية؛ فإنه لم يدخل حولها أصلاً.
1914- ومما يتعلق بهذا الفصل أن صدقة الفطر تجب إذا انقضى رمضان على ما سيأتي، ولو أخرج الرجل صدقة الفطر بعد دخول شهر رمضان، كفاه؛ فشهر رمضان إذا دخل بمثابة الحول إذا انعقد على النصاب.
1915- فأما إخراج العُشر من الثمار والزروع، ففيه اضطراب. ونحن نأتي به مرتباً إن شاء الله تعالى.
فأما الرطب إذا جفّ، وصار تمراً، والعنب إذا صار زبيباً، فقد تعيّن إخراج الزكاة، ولا يكون الإخراج تعجيلاً؛ إذ لو أخر مع التمكن، كان مفرطاً عاصياً.
فأما الحب إذا اشتد، ولم يُفرِك بعدُ، ولم يُنْقِ، فالمذهب جواز إخراج الزكاة.
وذكر شيخنا وجهاً أنه لا يجوز إخراج الزكاة ما لم يُنقِ، وهذا ضعيف جداً؛ فإنا إذا كنا نخرج الزكاة قبل حلول الحول، فجواز ذلك وإجزاؤه فيما نحن فيه أولى، وقد وجب العشر.
ووجه المنع أن النصاب لا يمكن الاطلاع عليه ما لم تحصل التنقية، ونصاب سائر الأموال الزكاتية يمكن إدراكه.
قلت: إن لم يكن من هذا الوجه بد، فلعله فيه، إذا كنا لا نقطع بأن في السنبلة نصاباً من الحب، فقد ينتظم أن يقال: لم يتحقق النصاب، وهو الأصل، وأما إذا تحققنا أن السنابل مشتملة على أكثر من النصاب، فلا وجه لمنع تعجيل العشر. هذا بعد اشتداد الحب، وإدراكه. أما إذا ظهر الحب واشتد، ولم يُدرك ولم يُفْرِك بعدُ، فاشتدادُ الحب يناظر بدوّ الزهو والصلاح في الثمار، فأما إذا اشتد الحب وبدا الزهو، فمن الاشتداد إلى التنقية، ومن الزهو إلى الجفاف على الجرين وجهان، في جواز التقديم:
أحدهما: يجوز، وهو القياس.
1916- ومن عجيب ما يجب التفطن له أن الأئمة أطلقوا القول بأن الزكاة تجب باشتداد الحب، وبَدْوِ الزهو، كما سيأتي ذلك في بابهما، ثم ترددوا في تعجيل الصدقة، والتعجيل يقع قبل الوجوب. وهذا اختلاف في التعجيل بعد الوجوب، والسرّ فيه أنا وإن قلنا بوجوب الصدقة بعد الصلاح؛ فإنا لا نوجب إخراجها إلى التنقية والتجفيف، وفائدة الحكم بالوجوب منعُ التصرف في حق المساكين من الزرع والثمار، فصار عدم إيجاب الإخراج قريباً مما قبل حلول الحول في المواشي وغيرها.
هذا مع أمرٍ آخر، وهو أنه لو أخرج من الحب قبل التنقية، ومن الرطب، لم يجز.
ثم قد يوجّه منعُ التقديم بأن مقدار النصاب لا يتبين على التحقيق قبل الإدراك، والزروع والثمار متعرضة للآفات. والصحيح جواز تعجيل العشر.
1917- فأما إذا نبت الزرع، ولم تبد السنبلة، وطلعت الثمار ولم تزهُ بعدُ، فمن نبات الزرع إلى بَدْوِ الحب واشتداده، ومن طلوع الثمرة إلى الزهو وجهان مرتبان على الوجهين، في الصورة التي قبل هذه، والصورة الأخيرة أوْلى بمنع التعجيل؛ لأنه لم يبد فيها ما يمكن تقدير النصاب فيه تخميناً وخَرْصاً، ومن يخرص إنما يخرص بعد اشتداد الحب وبَدْو الزهو.
ولعل الزرع إذا كان بقلاً أولى بالمنع؛ لأن جنس المعشر لم يحدث بعدُ، والطلع هو الذي يلحقه التغايير إلى الجِداد.
وذكر شيخي وجهاً في الفرق بين الزروع والثمار، وقال: يجوز التعجيل في الثمار دون الزروع في الصورة الأخيرة، التي نحن فيها، وفرّق بأن النخيل يقبل معاملةً على الثمار قبل بَدْوها، وهي المساقاة، والزروع لا تحتمل ذلك.
وهذا غير سديد؛ إذ لا خلاف أنه لا يجوز التعجيل قبل بَدْو الثمار وطلوعها، كما لا يجوز ذلك قبل نبات الزروع، فإن لم يكن من الفرق بد، فما أشرت إليه من الفرق أقرب، وهو أن عين المعشّر مفقودة والزرع بقل، وعين الثمار موجودة وإن كانت غير مؤبّرة بعدُ، فإذا بدا الحبُّ، ولم يشتد، فلا يتضح إذ ذاك فرق.
فخرج مما ذكرناه أن الحب إذا اشتدّ، وأفرك، فالمذهب جواز التقديم، ومن الاشتداد إلى الإفراك، ومن الزهو إلى الجفاف وجهان: أصحهما جواز التقديم؛ ومن نبات الزرع إلى الاشتداد ومن بدو الثمار إلى الزهو ثلاثة أوجه، مرتبة على الصورة المتقدمة.
ولا تعجيل قبل النبات، وقبل بدو الثمار.
فهذا مضمون الفصل الفصل الثاني
فيما يفرض على المؤدي والقابض
1918- قال الأئمة: ينبغي أن يكون قابض الزكاة المعجّلة على صفة الاستحقاق من وقت الأخذ إلى انقضاء الحول، فلو كان فقيرا حالة الأخذ، ولكنه استغنى بمال آخر سوى ما أخذه، أو ارتد، أو مات قبل حلول الحول، فحال الحول وهو غني، أو مرتد، أو ميت، فيتبين أن الزكاة التي عجلها، لم تقع موقعها. اتفق الأئمة عليه.
ولو ارتد بعد الأخذ، ثم أسلم قبل انقضاء الحول، فانقضى الحول وهو مسلم، أو استغنى، ثم افتقر، على الترتيب الذي ذكرناه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الزكاة لا تقع موقعها؛ لطريان ما نافى الإجزاء في الأثناء.
والثاني: وهو الأصح أنه يجزىء، فإن المعتبر صحةُ الأخذ، وكان من أهله حالة الأخذ، وكذلك يعتبر كونه من أهل الأخذ حالة الوجوب، ليقدر أنه أخذ الزكاة الآن.
فأما ما يتخلل بينهما، فلا معنى لاشتراط شيء فيه.
ولا خلاف أنه لو لم يكن من أهل الأخذ، فأخذ، ثم صار من أهله، ودام عليه، حتى انقضى الحول، فلا يجزىء ذلك الأخذ أصلاً، وآية ما ذكرناه، تظهر فيه إذا أخذه غنيّاً، ثم استنفقه فقيراً، وحال الحول.
فهذا ما يراعى في الآخذ.
1919- ويشترط في المعطي الباذل صفات وأحوال:
ينبغي أن يبقى ماله، فلو تلف، أو نقص عن النصاب نقصاناً يمنع إيجاب الزكاة، كما سنصف ذلك، فيتبين أن الزكاة لم تقع الموقع، وكذلك لو مات صاحب المال، فيخرُج المقدَّمُ عن كونه زكاة؛ فإن الحول ينقطع بموته، وكذلك لو ارتد، وقلنا: الردةُ تمنع وجوبَ الزكاة، كما تقدم تقرير ذلك.
فطريان هذه الصفات يبطل إجزاء الزكاة.
ثم إذا جرى ما يبطل إجزاء ما عجل، فهل يثبت استردادُ المعجل؟ اضطربت النصوص وتخبط المذهب، ونحن نستعين بالله ونفصل ما ينبغي أن يذكر، إن شاء الله تعالى.
1920- فنقول: إن عجل الزكاة، وذكر أنها معجلة، وشرط أن يرجع إن لم تقع الزكاة موقعَها، فإن طرأ شيء مما ذكرناه، فيثبت حق الرجوع في ذلك وفاقاً، والأداء على هذا الشرط لا خلاف ولا إشكال.
ولو ذكر أنها زكاتُه المعجلة، ولم يشترط الرجوع، أو علم القابض ذلك من غير ذكر، فهل يثبت الرجوع إذا لم يُجْزِ ما أخرجه؟ فعلى وجهين: أصحهما أنه يثبت حق الرجوع؛ فإنه عيّن الجهةَ، فإذا لم تحصل تلك الجهة، لم يبق بعدها تمليك، فليس إلا الرد.
ووجه من قال: لا يرجع أن التمليك قد حصل، فإن حصلت الجهة المعيّنة، فذاك، وإلا فالتنفّل ممكن.
ولو قال: هذه صدقتي المعجلة، فإن وقعت الموقع، فذاك، وإلا فنافلة، لكان ذلك صحيحاً، وكان الوفاء به لازماً.
وهذا يقرب عندي من أصل في كتاب الصلاة: وهو أن من نوى صلاة الظهر قبل الزوال، فهل تنعقد صلاته نفلاً؟ فعلى قولين. وله نظائر.
1921- ولو لم يذكر المؤدي أنه زكاة معجلة، ولم يقترن بالقبض عِلْمُ القابض، ثم تبين أنها زكاة معجلة وأنها لم تقع الموقع، ففي الاستراد ثلاثة أوجه:
أحدها: لا رجوع.
والثاني: يثبت الرجوع.
والثالث: يفصل بين أن يكون المسلِّم إلى المسكين الوالي، وبين أن يكون المسلِّم المالك، والرجوعُ والمسلِّمُ السلطان أولى؛ فإنّ تصرفه محمول على صرف الصدقات المفروضة إلى مستحقيها، وبذلُ المالك ينقسم وجهُهُ. وهذه الصورة مرتبة على الأُولى، ومنع الرجوع أَوْلى فيها، والفرق لائح.
1922- ولو قال المخرج المالك: هذه صدقته المفروضة، ولم يقل: إنها معجلة، ففيه طريقان: منهم من ألحقه بما إذا ذكر التعجيل، ولم يقيّد بالرجوع.
ومنهم من فَصَل بينهما، بأن الصدقة المفروضة قد تكون حالّة واجبة، وما يطرأ بعد قبضها لا أثر له، فإذا أمكن ذلك، فقد انفصل عن التقييد بالصدقة المعجلة.
1923- فإذاً معنا مراتب: التقييد بالتعجيل والرجوع، يثبت الرجوع فيه وفاقاً.
وفي التقييد بالتعجيل أو العلم به خلافٌ. وإذا كان مقيِّداً بالفرض من غير تعجيل، ففيه تردد. وإن كان مُطلِقاً، ففيه أوجه. وهذه المراتب مترتبة فيما نقصده. كما أوضحنا.
فرع:
1924- إذا كنا نرى الاسترداد عند التقييد، ولا نراه عند الإطلاق، فلو اختلف القابض والمسلِّم فقال المسلِّم: قيدتُ فأَرْجِعُ، وقال القابض: بل أطلقتَ ولم أعلم، فالقول قول من؟
فعلى وجهين:
أحدهما: القول قول المالك؛ فإن الرجوع إليه، وهو مؤتمن شرعاً، وقد ذكرنا شواهد ذلك في اختلاف الساعي والمصَّدِّق.
والثاني: أن القول قول القابض؛ فإن المالك اعترف بظاهر التمليك، ثم ادعى ما يُثبت له حقَّ الرجوع والنقض.
ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك: أنا إن صدقنا المالك، فقياسه أنه لو قال: لم أشترط التقييد لفظاً، ولكني نويتُ زكاتي المعجلة قصداً وأنا النَّاوي، فصدّقوني.
فهذا الفرعُ مبني على أنا لا نصدقه؛ فإنا فرعناه على أن التقييد لابد منه في ثبوت حق الرجوع ظاهراً، والله يتولى السرائر.
نعم إن كنا نثبت الرجوع عند الإطلاق، في أحد الوجوه، فمعناه أنه يصدق في أني أردت زكاة مالي المعجلة. هذا لابد منه في هذا الوجه. فليفهم المنتهي إليه.
فرع:
1925- إذا أخرج زكاة ماله تعجيلاً، ثم إنه أتلف ماله قصداً، فهل يثبت له حق الرجوع والاسترداد، حيث يثبت له ذلك في التفصيل المقدم؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من لم يثبت له حق الرجوع؛ لأنه المتسبب إلى الإتلاف، وحق الاسترداد في حكم رخصة، تثبت لمن اجتاحت الجائحة ماله.
ومنهم من قال: له الاسترداد، لزوال شرط إجزاء الزكاة، والعلمِ بأنها لم تقع الموقع.
فرع:
1926- مما ينبغي أن يتنبه له الناظر في أثناء الكلام أن الزكاة إذا كانت مفروضة، فلا حاجة في أدائها-وقد وجبت- إلى لفظٍ عند الأداء؛ فإن تسليمها في حكم توفية حق على مستحق، فأما من أراد الهبة والمنحة، فلابد من لفظٍ، كما سنصفه في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى.
فأما إذا أراد الباذل صدقةَ التطوّع، ففي الاحتياج إلى اللفظ ترددٌ للأصحاب مرموز، وهو محتمل. والظاهر الذي به عمل الكافة أنه لا حاجة إلى اللفظ في صدقة التطوع؛ تشبيهاً لها بصدقة الفرض، وإن لم تكن مستحقّة.
فرع:
1927- إذا أثبتنا لمن عجل الزكاة استردادَ ما بذله، وكان باقياً في يد من أخذه، أو في تركته إن مات، من غير زيادة، ولا نقصان، فإنه يسترد تلك العين.
وإن كانت زادت زيادة متصلة، فلا حكم لها، والعين مستردة معها.
وإن كانت زادت زيادة منفصلة قبل أن حدث ما يوجب الاسترداد، فتلك الزيادة هل تسترد مع الأصل؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا تسترد؛ فإنها حدثت في ملك القابض، قبل أن حدث ما يوجب الاسترداد.
والثاني: تسترد؛ فإن الأمر في الرجوع يستند إلى التبيّن، فكأنا نتبين أن الملك لم يحصل للقابض في أصله إذا حدث ما يوجب الاسترداد، وسيتضح هذا بما نذكره من بعدُ إن شاء الله تعالى.
1928- ولو كانت العين ناقصة نقصان صفة، فهل يغرَم للراجع القابضُ أرشَ النقصان أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يغرَم؛ بناء على التبيّن، ولو تلفت العين، وطرأ ما يوجب الاسترداد، غرَّمه القيمة، فنقصان الصفة في معنى فوات الموصوف، وليس كما لو نقصت العين الموهوبة في يد المتَّهب، فأراد الواهب الرجوع؛ فإنه لا نُغرِّمه أرشَ النقصان؛ لأن العين لو كانت فائتة، لم نغرِّمه القيمةَ.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الرجوع بالنقصان، وهو الذي حكاه الصيدلاني عن القفال؛ لأن القابض لم تكن يده يد ضمان وعهدة، وهذا القائل يحكم بانتقاض الملك، من وقت حدوث السبب الذي يوجب الاسترداد.
ولما حكى أبو بكر هذا عن القفال، أظهر في المسألة تردّداً، ونقل عن القفال في الاستشهاد مسألةً، وهي أن من اشترى عيناً، وَوَفَر الثمن، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ بالعين؛ فإنه يردّها، فلو صادف الثمن ناقصاً نقصان صفةٍ، قال: يكتفي به ناقصاً، ولا يرجع في مقابلة نقصان الثمن بشيء.
وهذا مشكل؛ فإن الذي ذكره الأئمة أن من وجد بالعين المشتراة عيباً، وتمكن من ردّها، فلو رضي بها، لم يرجع إلى أرش، فإنه كان متمكناً من الرد، فإن رضي، لم يرجع. فأما إذا كان العيب في عوض المسترد، فلو قُدِّر تلفُ العوض، لكان يرجع بمثله، أو قيمته، فإلزامه الرّضا بالثمن المعيب بعد الرد بعيد.
1929- ومما يتعلق بتحقيق القول في المسألة أنه إذا جرت حالةٌ توجب الاسترداد، فلا حاجة عندي إلى نقض الملك والرجوع فيه، بل ينتقض الملك، أو يتبين أن الملك في أصله لم يحصل، أو حصل ثم انتقض، وليس كالرجوع في الهبة؛ فإن الراجع بالخيار، إن شاء أدام ملك المتَّهِب، وإن شاء رجع. وليس لملك القابض وجهٌ إلا وقوعُ المقبوض عن جهة الزكاة، فإذا امتنع وقوعها عنها، زال الملك، ولو قدرنا وقوعها نفلاً-إذا لم تقع فرضاً- فموجب هذا امتناع الرجوع والاسترداد، وتفريعنا على ثبوت الرجوع.
فإذا تقرر ذلك، فنقول: ما ذكرناه من الرجوع في الزيادة، وتغريم النقصان، على التردد الذي قدمناه فيه، إذا جرت الزيادة والنقصان قبل حدوث السبب. فأما إذا جرت الزيادة بعد السبب، فلا شك أن الزيادة للراجع، فإنها إنما حدثت في ملكه على القاعدة التي ذكرناها.
وإن فرض نقصان بعد حدوث انتقاض الملك، أو فرض تلف، فالوجه عندي أن يقال: يجب الضمان؛ فإن العينَ لو تلفت وهي على ظاهر ملك القابض، ثم حدث ما يوجب الاسترداد، لوجب على القابض الضمان، وكذلك إذا حصل التلف بعد انتقاض الملك.
وهذا يناظر شيئاً: وهو يدُ المستعير، فإنها ثابتة بإذن المالك من غير عدوان، ولكنها يدُ ضمان، وسبب ذلك أن حقيقةَ العارية، أن المستعير ملتزم أن يرد ما قبض، إذا انتفع، فإذا لم يتمكن من الرد، لزمه الضمان. كذلك تعجيل الزكاة، هو على تقدير وقوعها عن الفرض، فإذا لم تقع عنه، فالضمان ثابت.
فرع:
1930- إذا أثبتنا الرجوعَ، وكانت العين تلفت في يد القابض، وأثبتنا الرجوعَ بقيمتها، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في القيمة المعتبرة:
أحدهما: أن الاعتبار بقيمة يوم القبض.
والثاني: أن الاعتبار بقيمة يوم تلف العين، ولا يخفى توجيههما.
وقد ينقدح عندي وجه ثالث في إيجاب أقصى القيم، من يوم القبض إلى التلف؛ بناء على أنا نتبين أن الملك غيرُ حاصل للقابض، واليد يدُ ضمان تبيُّناً، وقد ذكر مثل هذا في يد المستعير والمستام، وهذا الوجه بعيد، في هذا المقام، مع ثبوت ظاهر الملك للقابض.
1931- ومما يجب التنبيه له في مقام المباحثة التي انتهينا إليها أنا حيث لا نُثبت حقَّ الرجوع، فتقديره ترديد الصدقة المقدمة بين أن تكون عن الفرض، وبين أن تكون نفلاً، ثم لا رجوع في واحدةٍ من الجهتين.
وإذا أثبتنا حقَّ الرجوع، فلهذا تقديران، لم يصرح بهما الأصحاب، وحوّم عليهما صاحب التقريب:
أحدهما: أن نتبيّن أن ملك المعطي لم يزل، فكان الملك موقوفاً إلى ما ينكشف عنه الأمر في المآل، فإذا حدث أن الزكاة لم تقع موقعها، تبيّنا آخراً أن ملك المعطي لم يزل. هذا تقدير.
والتقدير الثاني- أن يُردَّدَ قبضُ القابض بين أن يكون عن زكاةٍ مستحقة، وبين أن يكون قرضاً: فإن وقعت الزكاة موقعها، فلا كلام، وإن لم تقع، فالقابض مستقرض. وهذا في نهاية الحسن.
1932- ثم من استقرض عيناً، فقد اختلف القول في أن المستقرض متى يملك العين التي قبضها قرضاً؟ فأصح القولين أنه ملكها بالقبض، فعلى هذا لو أراد المُقرض أن يرجع في عين ما أقرض-وهي موجودة- لم يمكنه دون رضا المقترض، وللمقترض أن يأتي ببدلها مِثْلاً أو قيمة على ما يقتضيه الحال.
والقول الثاني- أن المستقرض لا يملك ما قبضه قرضاً، ما لم يتصرف تصرفاً يزيل الملك، ثم إذا جرى، تبيَّنا أن الملك انتقل إلى المستقرض قبيل التصرف بزمان، فعلى هذا قبل اتفاق التصرف مهما أراد المُقرض أن يرجع في العين، رجع.
فإذا ثبت هذا بنينا عليه ما يُوضحه، وقلنا: إن أثبتنا حق الرجوع، وكانت العين قائمة، فهل للقابض إبدالُها أم لا خِيَرَةَ فيه؟ إن قلنا: بالتبيّن، لم يملك الإبدال.
وإن قلنا: بتقدير القرض، ففي ملك الإبدال القولان. فإن قلنا: المُقْرَض يملك بالقبض، فالخِيَرةُ إليه في العين، وإن قلنا: لا يملك ما لم يتصرف، فللمعطي الخيار كما في القرض.
ولو قبض القابض الزكاةَ، وباع ما قبض، ثم جرى ما يوجب الاسترداد، فإن قلنا: بالتبيّن، فقياسه أن نتبين أن التصرف مردود منتقض، وهذا يناظر ما لو قال السيد لعبده أنت حر يوم يقدم فلان، ثم إنه باع العبد ضحوةً، وقدِم وقتَ الظهر، ففي تبيّن انتقاض البيع قولان، مبنيان على أنه لو كان في يده حتى قدم فلان، فإنه يعَتِق عند قدومه، أو يتبيّن أنه عَتَق من أول النهار، فإن نحن قدّرنا العتق للحال، لم يُنقض تصرفُه المزيل للملك.
فإن قيل: ألستَ ذكرتَ أنه إذا حدث ما يوجب الاسترداد، انتقض الملك من غير حاجة إلى النقض، وهذا يوجب ارتداد العين إلى معطيها؟ قلنا: هذا يوجب ثبوت حق المعطي لا محالة، فأما إنه يرجع إلى العين، أو إلى بدلها، فهذا يخرج على ما أوضحناه الآن من التبيّن، أو تقدير الإقراض.
فهذا غاية المقصود.
ثم إن قدّرنا القرضَ، وكان نقصان، فالوجه القطع بالضمان فيه، كنظيره من القرض. وإن بنينا الأمر على التبيّن، فالوجه الظاهر إثباتُ ضمان النقصان، كما تقدم تصويره في القرض؛ فإن يدَ المقترض لا تنقص في اقتضاء الضمان عن يد المستام.
وأما الزوائد المنفصلة، فردّها يخرج على التبيّن.
ثم إن جعلناه قرضاً، فهو خارج على الطريقين، أم كيف السبيل فيه؟ فإن جعلنا المقترض مالكاً بالقبض، فالزوائد له، وإن قلنا: يملك بالتصرف، فلو استقرض أغناماً، ثم نُتجت في يده، ثم باعها، واستبقى النِّتاج، فإن قلنا: إن المستقرض يملك بالقبض، فالنتاج للمستقرض، وإن قلنا: إنه يملك بالتصرف، فينقدح في ذلك أمران:
أحدهما: أن نقول: نقدّر نقل الملك في الأغنام إلى المستقرض قبل بيعه إياها، والنتاج متقدم على هذا التقدير، فهو للمقرض.
والثاني: أنا إذا نقلنا الملك أسندناه إلى حالة القبض، فالنتاج للمستقرض.
فهذا وجه المباحثة عن هذه القواعد.
فرع:
1933- ومما يُبتنى على ما تقدم، وهو في التحقيق من أصول الباب: أن من ملك أربعين شاة، وانعقد الحول عليها، فله أن يخرج شاة منها، ومنع أبو حنيفة ذلك؛ صائراً إلى أن انقضاء الحول يصادف مالاً ناقصاً عن النصاب، فكيف تقدّر وجوب الزكاة؟ وعندنا يجوز ذلك.
ثم إن سلمت الأحوال، ولم يطرأ ما يوجب أن يقال: لا تقع الزكاة موقعها.
فكيف يقدّر الكلام؟
قال صاحب التقريب: يقدّر كأن ملك المعطي لم يزل عن الشاة التي أخرجها؛ حتى يَنْقضي الحول وفي ملكه نصاب. وهذا فيه نظرٌ عندي؛ فإن تصرّف القابض نافذ، وملكه في ظاهر الأمر جارٍ، ولو باع الشاة التي قبضها، ثم حال الحول، فكيف نقول ملك المعطي قائم فيها؟
ولو اجترأ مفرع على مذهب صاحب التقريب، وقال: إذا كان التعجيل ينقُصُ المال عن نصاب، فلا ينبغي أن يتصرف القابض، كان ذلك فاسداً، فلا معنى للتعجيل إذاً مع القبض على يد القابض.
فالوجه أن يقال: تعجيل الزكاة خارج عن قانون القياس، وهو في حكم رخصة، فكأن الشرع جعل الحالة التي يقع التعجيل فيها، كحالة انقضاء الحول، لحاجة المساكين. فإذا انقضى الحول لم يتحقق الوجوب في الحال، ولكن أغنى ما تقدم عن الوجوب. وتأديةُ الواجب رخصةٌ حائدة عن المنهاج المستقيم، في ترتيب الواجب، وبناء الأداء عليه.
1934- ثم قال صاحب التقريب: إذا أخرج شاة عن أربعين، ثم طرأ ما يمنع إجزاء الزكاة، فإن لم يثبت الاسترداد، فكأنه تطوع بشاة قبل تمام الحول، فينقطع الحول، ولا تجب الزكاة. وإن أثبتنا حقَّ الاسترداد. قال: إن رأينا استرجاع الزوائد، فهذا على قول تبيّن استمرار ملك المعطي، ونفي ملك القابض، فإذا رجعت الشاة بعينها، فتجب الزكاة عند الحول، لمكان النصاب الكامل تبيّناً.
قلت: ويجوز أن يلتفت في تلك الشاة التي تسلط القابض على التصرف فيها إلى المال المجحود والمغصوب.
قال: وإن قلنا: الزوائد لا تسترد، فكأنا نقول: زال الملك عن الشاة، ثم عاد عند الاسترداد، فلا تجب الزكاة للحول الماضي، ولكن ينعقد الحول الجديد، من وقت تمام التصاب، بانضمام هذه الشاة إلى ما في يده.
1935- وذكر العراقيون ثلاثة أوجه فيه إذا أخرج شاة من أربعين، ثم طرأ ما يمنع الإجزاء، ونحن نسرُدها على وجهها، ثم نوضح الخلل فيها.
قالوا: إذا اقتضى الحال استرجاعَ الزكاة، وكان ما في يده ناقصاً، وبضم المسترد يكمل، وتم الحول من التاريخ الأول في الحول، فهل يجب إخراج الزكاة الآن إذا تم الحول الأول؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: يجب.
والثاني: لا يجب. والثالث: يفصل بين الماشية وغيرها؛ فإن الماشية إنما تجب الزكاة فيها إذا كانت سائمة، والشاة في الذمة ليست بسائمة، والدراهم إذا كانت دَيْناً تضم إلى العين في النصاب.
وهذا كلام مختبط، لا صدر له عن معرفة القواعد، ولعلهم صوروا فيه إذا كان القابض أتلف الشاة، فإن كان كذلك، فلا معنى لترديد القول في ذلك؛ فإن المواشي إذا كانت ديوناً لا تجب الزكاة فيها قطعاً، فالوجه التخريج على التبيّن وزوال الملك، كما ذكره صاحب التقريب، مع الالتفات على القول في المجحود والمغصوب.
ونقول أيضاًً: من استقرض حيواناً، ففيما يجب عليه خلاف مذكورٌ في القرض، فإذا قررنا معنى القرض في الزكاة، اتجه فيه التردد في أن القابض يطالب بقيمة الشاة أو بشاة.
فرع:
1936- حكى صاحب التقريب نصاً للشافعي، ثم أخذ يتكلم عليه. وذلك أنه قال: لو عجل الإنسانُ زكاة ماله، ثم مات قبل انقضاء الحول، قال الشافعي: تقع الزكاة عن الوارث، كما كانت تقع عن الموروث لو بقي حياً. ثم قال: هذا النص يحتاج إلى التأويل.
فنقول: المذهب الظاهر المنصوص عليه في الجديد أن الحول ينقطع بموت المالك، ويستفتح الوارث حولاً جديداً، وذلك أن المالك قد تبدل، وتجدد ملك لم يكن، ونص في القديم على أن حول الوارث يبنى على حول الموروث، فإذا تم الحول الذي كان للميت، وجبت الزكاة على الوارث. وكأن المورِّث حيٌّ، فإن قلنا بذلك، فالنص يخرَّج عليه.
ولكن لابد من تفصيل، فإذا اتحد الوارث، وورث نصاباً، أو نُصباً، فهو بمثابة المورِّث لو كان حياً، فإذا تم الحول، وجبت الزكاة. وإن تعدّد الورثة، فإن كان المخلَّفُ ماشيةً، فالخلطة ثابتة، والزكاة تجب بحكمها، وإن كان الملك من غير جنس الماشية، وقلنا: تثبت الخلطة فيه، فالجواب كما مضى.
وإن قلنا: لا تثبت الخلطة، فقد قال صاحب التقريب لما انتهى إلى ذلك في التفريع: الظاهر أنه إذا نقصت حصة كلّ واحدٍ عن نصاب، وقلنا: لا خلطة، فينقطع الحولُ واعتباره. قال: ويحتمل أن يقال: نجعل الورثة كالشخص الواحد، وكأنه عينُ المتوفى، ونستديم ذلك في حقوقهم في هذه الصورة، فإنا إذا كنا لا نستبعد استدامة الحول مع انقطاع الملك وتجدده، فلا يبعد أن يثبت حكم الخلطة في هذه الصورة على الخصوص.
ثم قال: لو اقتسموا المخلَّف قبل انقضاء الحول، وحصل كل واحد على ما هو ناقص عن النصاب، فهذا محتمل أيضاًً، فنجعل كأن لا قسمة، وكأنهم شخص واحد.
هذا إذا فرعنا على القول القديم في أن حول الوارث مبني على حول المورِّث.
فأما إذا فرعنا على الصحيح، وحكمنا بانقطاع حول المورّث ونصوّر في اتحاد الوارث، حتى لا نقع في تفريع الخلطة، فلا شك أنا نبتدىء حولاً جديداً للوارث، فأما إذا مضى حول، فهل يقع الآن ما أخرجه المورِّث من الزكاة عن حول الورثة؟
قال: يحتمل وجهين، بناء على أن من أخرج زكاة عامين، فهل يعتد بزكاة السنة الثانية؟ فيه وجهان: فما مضى من السنة الكاملة في حق الورثة على هذا كالسنة الثانية في حق المعجِّل الحي. هذا محتمل، ويجوز أن يقال: لا يقع المخرَج عن الوارث. وهو الظاهر؛ فإنه مالاً جديد، لا يبنى حولُه على الحول الماضي، وليس كسنتين في حق مالكٍ واحد.
فهذا تمام كلامه على نص الشافعي.
فرع:
1937- إذا كان للرجل مال غائب، فأخرج الزكاة، وقال للقابض: هذا زكاة مالي الغائب.
فنقول: إن كان ذلك المال سالماً، فالمخرج واقع موقعه، وإن تبين أنه كان تالفاً لمّا أخرج الزكاة عنه، فسبيله كسبيل تعجيل الزكاة إذا انخرم شرط من شرائط الإجزاء، وفي ثبوت الاسترداد من التفصيل في مسألة المال الغائب ما في الزكاة المعجلة، إذا لم تقع مجزئة.
وجملة التفاريع عائدة من غير فصلٍ.
1938- ولو أخرج الرجلُ شاةً، وقال: هي زكاة الأربعين من الغنم إن ورثتها عن أبي، ثم وافق تقديرَه التحقيقُ- فالزكاة المخرجة على الظن، لا تقع الموقع؛ فإن النية مقصودة فيها، وهي مردّدة لا استناد لها إلى أصل.
ولو كان له مال غائب، فأخرج زكاته على تقدير البقاء، وكان باقياً، وقعت الزكاة موقعها، وصحت النية، وإن لم يكن على يقين من البقاء؛ فإن النية مستندة إلى بقاء المال، والمسألتان تماثلان مسألتين في طرفي رمضان: إحداهما- لو شك الناس فنوى ناوٍ صومَ غده إن كان من رمضان، ولم يسند نيتَه إلى أصل، ثم بان أنه من رمضان، فلا يقع صومُه مجزياً، وإن نوى في الليلة الأخيرة من شهر رمضان صومَ غده، إن كان من رمضان، ثم تبين أنه من رمضان، فالصوم صحيح؛ فإن النية مستندة إلى بقاء رمضان.
1939- ومما يتعلق ببقية الفصل: أن الذي يخرج الزكاةَ عن ماله الغائب إن نوى أنه من ماله إن كان سالماً، وإن كان تالفاً، فنافلة، ثم بان أنه كان تالفاً، فالمخرَج يقع تطوعاً، وإن كانت نيته في التطوع مترددة. والأصل بقاء المال، ولكن يقع التطوع مجزياً مع هذا التردد وفاقاً.
والسبب فيه أن من يخرج الزكاة على ظن، فغالب أمره أنه لا يسترد ما قدمه، ويحتسب به أجراً، وهكذا سبيل تعجيل الزكاة، فمن الوفاء بتصحيح التعجيل الحكمُ بوقوع الصدقة نافلةً لو نواها على التقدير الذي ذكرناه.
فرع:
1940- له التفات على قواعد هذا الباب في الملك والتبيّن.
المريض إذا أعتق عبداً يستغرق ثلثَ ماله، ثم وهب منه بعد الإعتاق جاريةً وسلّمها، ووطئها المتَّهِب، وولدت له، ثم مات المريض، وردّ الوارث ما يزيد على الثلث، فالعتق ينفذ لتقدمه، والهبة مردودة، والوارث يسترد الجارية، ويسترد ولدها رقيقاً، إذا كان الإعلاق على علمٍ بحقيقة الحال وحكمها، وقطع شيخي الجواب فيه، وهو كما قال.
وقد ذكرنا وجهين في أن الراجع في الزكاة المعجّلة عند طريان ما يقتضي الرجوع هل يستردّ الزاوئد؟ والفرق لائح، لا حاجة إلى تكلف إيراده، مع ما ذكرناه من نهاية البيان في تقرير قاعدة المذهب في الزكاة المعجلة.
فإن قيل: إذا حكمتم بأن الوارث إذا أجاز، فهو منفِّذ، وليس بمبتدىء في العطاء، فهل يحتمل إذا وقع التفريع عليه أن يقال: الملك في الجارية ينقطع بالردّ؟
قلنا: تحقيق ذلك سيأتي في الوصايا. ولكن إذا جرى هذا، فنقول: مبنى الرد والإجازة في الوصايا على الإسناد، فإذا ردت وصيته، فيتبين أن الملك لم يتمّ بها أصلاً، وإن كنا نرى الإجازة من الوارث تنفيذاً. والقول في هذا يتنزل منزلة القول في الهبة تُنقض قبل القبض.
وإنما يلتبس الكلام في الوصية؛ من جهة أن المريض إذا تصرف، ووهب كما صورناه، فإن المتّهب يتسلط على التصرفات المفتقرة إلى الملك التام، ولكن سبب تجويز الإقدام عليها تقدير استصحاب حياة الواهب؛ فإن الأصل بقاؤها، فإذا مات واقتضى الحال الرد، نَقضنا ما سبق، وتتبعناه. والملك في الزكاة المعجلة متردد بين الحصول تقدير طارىء عليه يقطعه، وبين الوقف المبني على التبين، فكان الخلاف في استرداد الزوائد لذلك.
فصل:
مضمونه الكلام في استقراض الإمام للمساكين، وفي تأدية الدين من الزكوات إذا وجبت وحلّت
1941- فنبدأ بالاستقراض، ونقدم عليه أن من وكل وكيلاً حتى يستقرض له شيئاً، جاز ذلك. ثم إن علم المقرض أنه وكيل فلان، فهل للمقرض مطالبةُ هذا الوكيل إذا أراد المطالبة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يطالبه كما يطالب الوكيلَ بالشراء، وإن علم كونه وكيلاً، هذا ظاهر المذهب في الوكيل في الشراء.
ومنهم من قال: لا يطالب الوكيل بالاستقراض وإن طالب الوكيل بالشراء، والفرق أن الوكيل بالشراء يقول: اشتريت، وهذه الكلمة في صيغتها ملزمة، فيجب الجريان على موجبها، ولو تبرع رجل بضمان مال، للزمه الوفاء به، وإن كان الضامن متبرعاً، فإذا لزمه الضمان وإن كان متبرعاً، فالوكيل بالشراء بمثابته، وأما الوكيل بالاستقراض، فلم يصدر منه ما يتضمن الضمان، ثم ينبني على هذا أنا إن لم نضمن الوكيلَ بالاستقراض، فنقول: لو قبض ما استقرض، وتلف في يده من غير تفريطه، فلا ضمان عليه، والضمان على موكِّله.
وإن أوجبنا الضمانَ على وكيل القرض، طولب، ولكنه يرجع على موكِّله؛ فإن يدَه يدُ موكله ولم يوجد منه تفريط.
ولو قال الوكيل: اشتريت العبد لفلان، فأضاف العقدَ إلى موكله فِعْلَ السفير، لم يتعلق به الضمان أصلاً، من جهة أنه لم يُضف العقدَ إلى نفسه، وهو الملزِم، فلم يتضمن اللفظُ التزامَه، كما لو قبل نكاحَ امرأة لرجل، وأضاف العقد إليه، فلا يصير ملتزماً للمهر، والاعتبار باللفظ. فافهم.
وليس كما لو علم كونه وكيلاً في الشراء، لأن صيغة اللفظ الالتزام، فكان كما ذكرناه من الضمان؛ فإنه يلزم مع العلم بكون الضامن متبرعاً في نفسه متفرعاً على الأصل.
فإذا ثبت هذا، قلنا بعده: لو قال المتوسط إذا قبض القرضَ: استقرضتُ هذا لفلان، فلا يتعلق به الضمان، كنظيره من الوكيل في الشراء، وإن لم يكن للّفظ في الاستقراض حكم، ولكنه تضمن نفيَ الضمان، وإثباتَ منزلة السفارة.
1942- ونحن نقول بعد هذا: إن استقرض الإمام لجماعةٍ من المساكين شيئاً بإذنهم، صح ذلك، وكان القول في أنه هل يطالب، أو إذا تلف المقترَضُ في يده كيف السبيل فيه، على ما ذكرناه في وكيل المستقرِض.
وإن لم يوجد من المساكين إذن، ولكن علم الإمام حاجة حاقّة بهم، فاستقرض لهم شيئاً، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أن الاستقراض يقع لخاصّ الإمام، ولا يقع عن المساكين، وعلل الشافعي بأن قال: المساكين أهل رشد، لا يولّى عليهم، فالاستقراض لهم دون إذنهم لا يقع عنهم، وليس كما لو استقرض وليّ الطفل شيئاً له، على حسب النظر، فإنه يقع للطفل.
وينبغي أن يقع هذا فيه إذا لم يقصد الإمام بالاستقراض أطفالاً من المساكين، لا أولياء لهم؛ فإن ذلك لو فرض، فهو صحيح، بحكم ولاية الإمام أمثال هؤلاء.
والوجه الثاني- يصح الاستقراض للمساكين بحكم الحاجة، كما يصح ذلك لهم إذا أذنوا فيه، وسألوه؛ وذلك أنهم لا يتعينون في نظر الإمام، ولكن الزكاة مصروفة إلى جهة الحاجة، والإمام ناظرٌ لها وفيها نظرَ الوليّ للطفل المولَّى عليه، والتفريع على ما ذكرناه بيّن هيّن.
1943- فإن لم يصح القرضُ لهم، وقع عن خاصة الإمام، فإن صرفه إلى المساكين، كان متصدقاً بطائفة من مال نفسه. فإن صححنا ذلك، فالقرضُ واقعٌ لمن يقبضه من الإمام، وهو مطالب به، والإمام هل يطالَب في نفسه مطالبةَ الوكيل بالشراء؟ فعلى وجهين.
ومما ذكره الأصحاب في تفصيل ذلك: أن رب المال لو جاء إلى الإمام، وسأله أن يسلم شيئاً إلى المساكين قرضاً، ولم يقصد تعجيلَ زكاةٍ، ولكن قصد أن يصرف الصدقات إليه إذا حلّت؛ فقصد في الحال ذلك، فهذا إذا تُصوّر كذلك، يقطع الطِّلْبةَ بالكلية عن الوالي، حتى لو تلف ما قبضه في يده، لم يضمن أصلاً.
ولو سأل المساكين ذلك، فتلف ما قبضه في يده، ففي الضمان الخلاف المقدم في وكيل المستقرض.
ولو وُجد السؤال من المساكين، وانضم إليه مجيءُ رب المال إليه ومسألتُه أن
يصرف طائفةً من ماله إلى المساكين، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة: فذهب بعضهم إلى أنها تلتحق بما لو تمحض سؤال المساكين، كما تقدم.
وذهب بعضهم إلى أنها تلتحق بما لو تمحض سؤال رب المال. وقد مضى القول فيه.
فهذا ترتيب القول في الاستقراض للمساكين.
1944- وقد حان أن نذكر صرفه الصدقة إلى هذه الجهة، والمسلك البيّن فيها أنه إذا استقرض لمسكينٍ بإذنه، ثم حلت الصدقة، والمسكين غارمٌ، فإن كان ممّن يحل صرف الصدقة إليه، فَعَل ذلك، فأدّى ديْنه. وإن ارتد، فحلّت الصدقاتُ؛ فديْن المرتد لا يقضى من الصدقة، بل هو مطالب به في نفسه، وكذلك إذا كان غنياً، لمّا حلّت الصدقة، فدينه لا يقضى من الصدقة.
وبالجملة فرضُه منفصل عن الصدقات، وفي تأديته من الصدقة ما في قضاء الديون من الصدقات، وهو مبيّن مفصّل في قَسْم الصدقات.
1945- وذكر الشيخ أبو بكر كلاماً فيه إشكال، فقال: لو حلّت صدقةُ زيد، والمستقرض من المساكين ممن يحل له أخذ الصدقة لدَيْنه، ثم استغنى بجهة، أو ارتد، فحلّت صدقةُ عمرو، فلا تصرف إلى دينه صدقةُ عمرو، ويصرف إلى دينه صدقة زيد.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه مديون عليه دين، لا يتعلق بزكاة زيد ولا عمرو، فينبغي أن يكون النظر إلى صفة حالة الآخذ، سواء كان من صدقة زيد، أو من صدقة عمرو، وإنما يتجه ما قاله لو فرع على منع النقل، وصوّر في انحصار المستحقين، ثم فرض طريان التغايير بعد الاستحقاق، فقد لاح ما ذكرناه، ولم يبق في جوانبه غموض.
فرع:
1946- رب المال إذا سلّم الزكاة إلى الوالي، فقد بلغت الصدقة محلّها، فلو تلفت في يده من غير تقصيره مثلاً، فقد وقعت الزكاة موقعها.
ولو عجل الزكاة، وسلّمها إلى الوالي، فتلفت في يده، كما تقدم تصويره، ففي بعض التصانيف أنها تقع الموقع كذلك، كما لو وقع التسليم بعد الوجوب. وإن كنا قد نغيّر الأمر في الزكاة المعجلة بالتغايير التي تطرأ وتعرو؛ فإنا بنينا هذه القاعدة على أن يد الإمام يدُ المحاويج، فما يتلف في يده بمثابة ما يسلّم من الزكاة المعجلة إلى المسكين، ثم تتلف في يده، وهذا غير ضائر، والتلف في يده كإتلافه إياه استنفاقاً، وهذا لائح واضح.
ثم الإمام إذا أمسك الصدقة حتى تلفت في يده من غير عذر، فيضمنها للمساكين، وإن كان يحفظها، حتى تكثر ثم تُفرق، فهو معذور؛ فإنه لا يجب عليه أن يفرق كل قليل يحصل في يده، فإذا قُدّر التلف، وكان ينتظر اجتماعاً يُنتظر مثله، ولا يسمى تفريطاً، فلا ضمان عند تقدير التلف في ذلك، وقد بلغت الصدقةُ محلّها.