فصل: باب: بَيعْ المصرَّاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في تلف المبيع قبل القبض وتعيُّبه:

3103- الكلامُ في التلف والنقصان: فأما التلف، فلا يخلو إما أن يكون بآفة سماوية، وإما أن يكون بإتلاف متلفٍ. فإن كان التلفُ بآفةٍ، فالبيع ينفسخ، والمبيع يرتدُّ إلى ملك البائع تبيُناً قبل تقدُّر تلفه. وهذا من ضرورة الحكم بالانفساخ، فإنه لو هلك ملكاً للمشتري، لاستحال أن يُستردَّ الثمنُ، ويُقضَى بانفساخ العقد، حتى قالَ الأئمةُ: لو مات العبدُ المبيعُ قبل القبض، فمؤنةُ تجهيزه ودفنهِ على البائع.
ثم إذا كان يتقدم انتقالُ الملك على التلف، فقد ذكر بعضُ المصنفين وجهين في التقدير:
أحدهما: أنه ينتقل الملك إلى البائع قبيل التلف.
والثاني: أنه يستند إلى أول العقد. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نتبين بالأَخَرة أن لا عقدَ أصلاً، فيكون العقدُ قبل القبض موقوفاً على ما تبين، فإن لم يسلَم المبيع، تبيَّنا أن لا عقدَ فيما مضى.
وهذا في نهايةِ البُعد.
وبنى هذا القائلُ الزوائدَ المتجدّدة بعد العقد على ما ذكره. وقال: إن قدرنا النقلَ قبيلَ الموت، فالزوائدُ المنفصلةُ تسلم للمشتري؛ لأنها تجدّدت على ملكه، وإن حكمنا بتبين انتفاء العقدِ، فالزوائد تكون للبائع على طرد التبين أيضاًً، ولعلنا نعيد فصل الزوائد في باب الخراج.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا تلف المبيع لا بجنايةِ جانٍ.
3104- فأما إذا أتلفه متلفٌ، لم يخلُ إما أن يتلفَه أجنبي، أو يتلفَه المشتري، أو يتلفَه البائع.
فإن أتلفه أجنبي، فالذي قطع به المراوزةُ أن البيعَ لا ينفسخ. وذكر العراقيون قولين في انفساخ العقد:
أحدهما: أنه ينفسخ، كما لو تلف بالآفة السماوية؛ فإن المعقود عليه العينُ المبيعةُ وقد فاتت. والقول الثاني- أن البيع لا ينفسخ، ولكن المشتري بالخيار. كما سنفصله في التفريع. ووجه هذا القولِ أن إتلاف الأجنبي أعقب ضماناً على المتلف، والقيمةُ إذا ثبتت خلفت المقوَّمَ في الأعواض المالية.
التفريعُ:
3105- إن حكمنا بأن البيع ينفسخ فالمشتري يسترد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بقيمة المتلف.
وإن قلنا: لا ينفسخ البيع، فالمشتري بالخيار. وسببُ خياره أنه عدِم العينَ التي كانت مورداً للبيع؛ فإن فسخ العقدَ، عاد التفريع إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ.
وإن أجاز العقدَ استقرّ الثمنُ عليه، واتبع الأجنبي بقيمةِ المتلَف، فإذا غرِم الأجنبي القيمةَ، والتفريع على أنه يثبت للبائع حقُّ الحبس، فهل يستحق حبسَ القيمةِ حتى يتوفر الثمن عليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يستحق ذلك، كما لو أتلف أجنبيٌ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ؛ فإنها تكون محبوسةً بالدين. والوجه الثاني- أن البائع لا يملك الحبسَ؛ فإن حق حَبْسه لم يكن مقصود عقدٍ حتى ينتقلَ من العين إلى القيمة، بل ثبت على طريق التبعية، فينبغي أن يسقط بتلفِ العين. والدليل عليه أن الراهن لو أتلف العينَ المرهونةَ في يد المرتهن، فإنه يغرِم قيمتَها لتكون رهناً، والمشتري لو أتلف المبيعَ، لم يلزمه بَذْلُ القيمةِ للبائع لتكون محبوسةً.
التفريع:
3106- إن قلنا: لا يملك البائع حبسَ القيمةِ المأخوذةِ من الأجنبي، سِيقت القيمةُ إلى المشتري، ولم يملك البائعُ إلا مطالبتَه بالثمن. وإن قلنا: يملك البائعُ حبسَ القيمةِ، فلو تلفت تلك القيمةُ المحصلة في يده بآفة سماوية، فالمذهب أن البيعَ لا ينفسخ؛ فإن سببَ انفساخِ البيع تلفُ المبيع. وليست القيمة مبيعةً؛ إذ قد تكون ألفين والثمنُ ألفاً. ومن أصحابنا من حكم بالانفساخ.
وهذا خبطٌ. وسببه أن الأصح أن البائعَ لا يملك حبسَ القيمة، والتفريعُ على الضعيف أضعفُ من أصله.
3107- فأما إذا تلف المبيع بإتلاف البائع، قال العراقيون: في المسألة طريقان.
وقالت المراوزة: في المسألة قولان:
أحدهما: أن إتلافَ البائع المبيعَ بمثابة تلفه بآفة سماوية. وهذا أحدُ الطريقين للعراقيين. والقول الثاني- أن إتلاف البائعِ كإتلاف الأجنبي، وإتلافُ الأجنبي لا يوجب انفساخَ العقدِ في طريق المراوزة. وهو على قولين في طريقة العراقيين.
التوجيه: من لم يجعله كالأجنبي، احتج بأن ضمانه يجب أن يكون ضمان العقود؛ إذْ لم يجرِ القبضُ بعدُ، و ضمانُ العقودِ يتضمن ردّ الثمن.
والقول الثاني- أنه كالأجنبي، فإنه جنى على ملكٍ مستقرٍّ للمشتري.
التفريع:
3108- إن حكمنا بالانفساخ، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ على اختلافِ الترتيبين، فالمشتري بالخيار بين أن يفسخ، ويرجعَ إلى الثمن، وبين أن يجيز العقدَ، ويُلزمَ البائع قيمةَ المبيع. ثم التفريع وراء ذلك كما مضى.
وكان شيخي يقطع بأنه لا يثبت للبائع حقُّ الحبس في القيمة التي يغرمها؛ فإنه المتسبب إلى إبطال حقه من الحبس في عين المبيع، وليس كالأجنبي. وفي المسألة احتمال على بُعدٍ.
وطرد الأصحابُ وجهين في المرتهن إذا أَتلفَ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ في أن القيمة هل تكون مرهونةً؟ وسيأتي ذلك في الرهون- إن شاء الله تعالى.
3109- فأما إذا أتلف المشتري المبيعَ، فإتلافُه قبضٌ للمبيع، اتفق الأصحاب عليه؛ فيستقر العقدُ والثمنُ، ولا يلزمُ المشتري بذلَ القيمة ليحبسَها البائعُ وجهاً واحداً. وتعليل ذلك أن إتلافَه صادفَ ملكَه، فاستبعد العلماءُ أن يقضُوا بردّ المتلَفِ إلى ملك الغيرِ، بعد صَدَرِ الإتلاف من المالك.
وإذا أعتق المشتري العبدَ المبيعَ قبل القبض، ونفذنا عتقَه على التفصيل المقدّم، كان إعتاقُه قبضاً، وإتلافاً للمبيع، من طريق الحكم.
هذا كلُّه كلامٌ في تلفِ المبيعِ بالجهات.
3110- فأما نقصانُ المبيع، فإنه ينقسم إلى نقصان جزئي، وإلى نقصانٍ لا يتطرق إليه التجزُّؤ.
فأما النقصانُ الجزئي، فهو بمثابةِ ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدُهما، أو كُرَّيْن من الطعام، فتلِفَ أحدُهما، فالبيع ينفسخ في التالف، وفي انفساخِه في الباقي قولا تفريق الصفقة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم المذهب الذي عليه التفريع أنا إذا خيرنا المشتري على قولنا لا ينفسخ العقد في الباقي، فإن أجاز العقدَ في الباقي، أجازه بقِسْطه من الثمن، هذا هو الصحيح. وفيه قول آخر، سنذكره في تفريع تفريق الصفقة.
والنقصان الذي يرجع إلى الجزئية يَحُدُّهُ في ضبط المذهبِ أن يكون التالفُ بحيث يمكن إفرادُه بالبيع، ولا يكون جزءاً من الباقي.
ولو باع رجلٌ داراً، فاحترق سقفُها، فقد اختلف أئمتُنا في ذلك: فذهب بعضُهم إلى أن ذلك بمثابة تلفِ أحدِ العبدين، من قِبَل أنّ إفرادَ السقف بالبيع قد يمكن تقديرُه، وإن عسر فرضُه لتعذُّرِ فصلِه، فلا تعويلَ على ذلك، مع إمكانِ إفرادِ السقف بتقديرِ القيمة له، وليس ذلك كأطراف العبد؛ فإنها لا تستقلّ فيما ذكرناه. ومن أصحابنا من جعل احتراق السقفِ وتلفِ غيره من بنيان الدار بمثابة تلفِ أطرافِ العبد، حتى ينزل منزلةَ العيبِ، على ما سنفصله.
هذا بيانُ ما يتعلق بنقصانِ الجزءِ.
3111- فأما القولُ في العيب الذي يتعلّق بصفةِ المبيع، ولا يتعلق، بما ينقسم في حكم التقويمِ، أو في حكم الإفراد بالعقد، فالوجه أن نُعيد فيه التقاسيمَ الثلاثة.
فإن عابَ المبيعُ بآفةٍ سماوية، مثلِ أن سقطت يدُ العبد بآفةٍ قبل القبضِ، فللمشتري الخيارُ لا غيرُ؛ فإن ردّ ارتدَّ الثمنُ، وإن أجاز لزمهُ تمامُ الثمن. والقول في أحكام الرد في باب الخراج.
3112- وإن قطعَ أجنبيٌّ يدَ العبدِ المبيعِ، فهذا نفرعه على حكم إتلافهِ، فإن جعلنا إتلافَه بمثابةِ التلفِ بآفةٍ سماويةٍ، فمساقُ ذلك يقتضي لا محالةَ ثبوتَ الخيارِ للمشتري، كما لو عابَ المبيعُ بآفةٍ سماويةٍ. ثم إن فسخ استرد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بأرش اليد، وإن أجاز استقر الثمنُ عليه للبائع، وله مطالبة الأجنبي بأرش اليد.
وإن فرعنا على أن إتلافَه لا يكون كالتّلفِ بالآفةِ السماويةِ، فالخيارُ يثبت للمشتري أيضاًً؛ لأن المبيعَ في عُهدةِ البائع إلى أن يسلّم، والدليل عليه أنا في صورة إتلافِ الأجنبيِّ نُثبت الخيارَ للمشتري أيَضاً، لجريان التلفِ في عُهدةِ البائعِ. فإن أجاز المشتري العقدَ غرِم الأجنبيُّ أرشَ اليدِ. وإن فسخ استردَّ الثمنَ، وغَرَّمه البائعُ.
فيستوي التفريع على القولين في كل حكمٍ بسببين:
أحدهما: أن الذي جرى ليس تلفَ أجنبي يتطرق الاختلافُ إليه في الانفساخ، والعهدةُ مطردةٌ على البائع في كلِّ قولٍ، واجتماع هذين المعنيين يوجب تسويةً بين القولين.
3113- وإذا عابَ المبيعُ بفعل من جهة البائعِ، فإن جعلناه بمثابةِ الأجنبيّ، فقد مضى التفريعُ فيه، فيثبتُ له مطالبةُ البائعِ بأرش الجنايةِ، فسخَ أو أجازَ.
وإن جعلنا فعله كالآفة السماويةِ، فنقول على ذلك: إن فسخ، استردّ الثمن ليس له غيره، وإن أجاز، لم يطالِب البائعَ بأرشِ الجناية؛ لأنا نزلنا فعلَه منزلةَ آفةٍ سماوية.
فإن قيل: هلاّ سلكتُم هذا المسلكَ فيه إذا كان الجاني أجنبيّاً؟ قلنا: لا تعلّق للعقد به، وإنما يلتزم ما يلتزم بالجناية المحضة، فيستحيل أن نُحبط جنايتَه في جهةٍ من الجهات، نعم يجوز أن يختلف مستحِق الأرش، فأما أن يَبْرَأَ الجاني، فهذا محال. وإذا كان الجاني هو البائع، وجعلنا فعلَه كآفةٍ سماوية، فعهدةُ العقدِ متعلقةٌ به، فكفى إثباتُ حقّ الرد للمشتري، وهذا بمثابةِ إتلافهِ على قولنا: إنه كالتلف السماوي، فإنا لا نُلزمه القيمةَ.
والمرأةُ إذا ارتدت، فقد أفسدت على زوجها حقَّ المستمتعِ، ولا تنزل منزلةَ المرضعةِ تُفسدُ النكاح بالإرضاع.
وإن عاب المبيع بجنايةِ المشتري بأن قطع يدَ العبدِ المبيع، فلا شك أنه لا خيارَ له، وإن جرى القطعُ في استمرارِ يدِ البائع، ولكنا نجعله قابضاً لمقدارٍ من المبيع؛ فإن إحباطَ الجنايات لا سبيلَ إليها، والعيبُ في هذا المقام بمثابةِ جزء من المبيع.
ثم قال العلماء: إن ألزمنا الأجنبي أرشَ القطعِ، فجراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحرِّ من ديتِه على النَّصِّ. وفي المسألة قولٌ آخر خرّجَه ابنُ سُريج: إنه يتعلق بالجنايةِ نقصانُ القيمة، وسيأتي ذلك في كتاب الخراج.
وإن جعلنا البائعَ كالأجنبي في الجناية، فقطع يدي العبدِ، ثم رجليه، واندملت الجراحات، فقد نُلزمه بسبب اليدين القيمة الكاملة وبسبب الرجلين قيمة عبدٍ أقطعَ اليدين، ثم نسلِّم العبدَ إلى المشتري إذا كان أجاز، ولا نلزمه إلا الثمن المسمَّى.
3114- وأما إذا كان الجاني هو المشتري، فقد قطع الأئمة بأن المرعيَّ في حقه النقصانُ لا المقدَّر، والسببُ فيه أنا لو اعتبرنا المقدّرَ، لجعلناه قابضاً للعبد حُكماً إذا قطع يديْه، مع بقاء العبد في يدِ البائع، وهذا محالٌ لا سبيل إليه؛ فكانت هذه الصورة مستثناةً من بين الصور في القطع، باعتبار النقصان؛ والسببُ فيه أن قطعَه ليس بجناية، وإنما هي قبض، والأرش يتقدّر في الجنايات.
ومن غصب عبداً فسقطت يداه بآفةٍ، لم يلزمه إلا النقصانُ، مع تحقق العدوان، لأنه لم يجنِ، فلا إشكالَ إذن في أن الأرشَ المقدرَ لا سبيل إلى اعتباره في حق المشتري، وليس ذلك معللاً بالضرورة، وإنما تنكر في الضرورة بتلك الصورة مستشهد بها للتقريب من فهم المسترشد. والتعليلُ ما ذكرناه، من أن ما صدر منه ليس جناية.
فهذا تفريعُ التلفِ والنقصانِ على أبلغ وجهٍ وأوجزِه.
فرع:
3115- إذا غصبَ المشتري المبيعَ من يد البائعِ، قبل توفيرِ الثمنِ عليه، فإن لم نُثبت للبائع حقَّ الحبس، فلا كلامَ. وإن أثبتنا له حقَّ الحبس، فلو أتلف البائعُ المبيعَ في يدِ المشتري وكان اغتصبه، فنقول: أوّلاً للبائع استردادُ المبيع منه لحقه في الحبس؛ فإن أتلفه البائعُ، فقد ذكر صاحبُ التقريب قولين:
أحدهما: أن البيعَ قد استقر بقبضه وإن ظَلَم فيه، فعلى البائع القيمةُ، ولا خيارَ للمشتري في فسخ البيعِ.
والقولُ الثاني- أن الخيارَ يثبت للمشتري؛ فإن إتلافَه على صورة إتلاف المشتري، والمشتري إذا أتلف كان قابضاً، فإذا أَتلفَ البائع، كان ذلك في معنى استراد العين من المشتري، ثم ردّد كلامَه على وجهٍ معناه ما نبديه: فيحتَملُ أن يقال: ينفسخ العقدُ بإتلافه، وكأنه ردّ المبيع إلى يدهِ، ثم أتلفه، ليخرج على الخلاف في إتلاف البائع المبيع. والظاهر أن البيعَ لا ينفسخُ، ولكن للمشتري الخيار في الفسخ والإجازة، ثم لا يخفى تخريجُ الحكمين وتفريعُهما. ولو تَلف المبيع في يد آخذه، وهو المشتري، كان من ضمانه ولا يستفيدُ التصرفَ فيه، لبقاء حق الحبس للبائع فيه.
فهذا تفصيلُ القول في ذلك.

.باب: بَيعْ المصرَّاة:

قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ للبيع، فمن ابتاعَها بعد ذلك، فهو بخيِّر النظرين بعدَ أن يحلبها ثلاثاً: إن رضيها، أمسكها، وإن سخِطَها ردَّها وصاعاً من تمر».
3116- التصريّةُ: الجمعُ، وهو مصدر صَرِيَ يَصْرَى، ويقال للماء المجتمعِ في مستنقعه ماءٌ صَرَىً وصَري، ومعنى التصريةُ في مقصود الباب جمعُ اللبن، وسدُّ الأخلاف، وتركُ الحِلاب، حتى تتكاملَ الدَّرَّة وتتضاعفَ نُوبٌ منها، فينظر الناظر فيحسَبُ ما يشاهد درَّةَ نوبةٍ، فيعتقدُ غزارة اللبن، وقد تُسمَّى المصراةُ مَحَفَّلةً، والتحفيل الجمع أيضاًً. والخبر يرد باللفظين.
فنقول: من صَرى ناقةً أو بقرةً أو شاةً، وأوهمَ بالتصريةِ غزارةَ اللبن، ثم استبان المشتري أن لبنَ المشتراة بَكِيٌّ أو مقتصد، فله الخيار، وإن لم يَجْرِ شرطُ غزارةٍ لفظاً، والمعتمدُ في الباب الخبرُ الذي رواه الشافعي.
ثم الكلامُ يتعلق بفصلين: أحدهما في الخيار. والثاني فيما يردّه إذا ردَّ البهيمةَ في مقابلة اللبن.
الفصل الأول
3117- فأما القول في الخيار: فإذا جرت التصريةُ كما وصفناها، وتعلّق بها ظنُّ المشتري ثم أَخْلَفَ، ثبت الخيار. وقاعدةُ مذهب الشافعي تدل على أن ثبوت الخيار جارٍ على القياس. وبيان ذلك أن أئمة المذهب قضَوْا بأن كل تلبيسٍ حالٍّ محلَّ التصرية من البهيمة إذا فُرض إخلافٌ فيه، ثبت الخيارُ، فلو جعَّد الرجلُ شعرَ المملوك تجعيداً لا يتميز عن تجعيد الخِلقة، ثم زال ذلك، ثبت الخيار للمشتري، فنزلوا التجعيد منزلةَ اشتراطِ الجعودة، وقد طردتُ في هذا مسلكاً في (الأساليب) وإذا جرى الخُلفُ بشيء لا ظهورَ له، فلا مبالاة به، كما إذا كان على ثوب العبد نقطةٌ من مداد، فهذا لا يتنزل منزلةَ شرط كونه كاتباً، ولو كان وقْعُ المدادِ بحيث يعد من مثله أن صاحب الثوب ممن يتعاطى الكتابةَ، فإذا أخلفَ الظنُّ، ففي ثبوت الخيار وجهان. وإذا بني أمرٌ على ظهورِ شيء في العادة، فما تناهى ظهوره يتأصل في الباب، وما لا يظهر يخرجُ عنه، وما يتردد بين الطرفين يختلف الأصحاب فيه.
وهذه المراسمُ تكررت في هذا المجموع.
ومن صور الخلاف أن مالك الشاة إذا سعى في علفها على خلافِ العادة حتى ربا بطنُها، وكان يبغي بذلك أن يغلبَ على ظن الناظرِ أنها حامل، فإذا جرى ذلك، ففي ثبوتِ الخيارِ وجهان. وسببُ الاختلاف أن رَبْو البطن من العلفِ لا يكاد يلتبس بمخيلة الحمل وعلامته، فكان الاختلاف للتردد فيما ذكرناه.
وألحق الأئمةُ بصورة القطع حبسَ الماء في القناة وإرسالَها حالة البيع، أو حالةَ الإجارة، وقد يفرضُ ذلك في إجارة الطواحين.
وكل هذا مثبتٌ للخيار ملتحقٌ بصورة القطع.
3118- ومما يتصل بهذا أن من باع جارية ذاتَ لبنٍ، وكان صرّاها، فإذا بان خلافُ المظنون، ففي ثبوت الخيار وجهان:
أحدهما: يثبت الخيار كما يثبت في البهيمة المصراة.
والثاني: لا يثبت الخيار؛ فإن اللبن لا يقصدُ من الجارية إلا على ندور في الحضانة.
وهذا الخلاف ليس من النمط الذي ذكرناه قبيل هذا؛ فإن التلبيس بالتصرية في الجارية كالتلبيس بالتصرية في البهيمة، وإنما نشأ الاختلاف من أصلٍ آخر، وهو أن الأصل في خيار الخُلْف أن يترتب على الشرط، والفعلُ الموهم المدلّس أُلحق بالشرط، وهو دونه، ويقوى أثرُه فيما يظهر توجُّه القصدِ إليه، فأما ما لا يتوجه القصدُ إليه فلا يظهر التلبيسُ فيه. ويمكن أن يقال: هذا مع هذا التقريب يلتحق بما قدمناه من مواقع الخلاف؛ فإن الشيء إذا كان لا يقصد، فما يجري من تلبيسٍ فيه وفاقاً لا يوهم. ويمكن أن يقرَّب مما تقدم من وجهٍ آخر، وهو أن الضروعَ والأخلافَ يُعتاد معاينتها، ويدركُ الفرقُ فيها، وليس كذلك الثديُ في بنات آدم؛ فإن المشاهدةَ لا تتعلق به غالباً.
وغرضُنا تخريجُ الوِفاق والخلافِ على أصولٍ ضابطةٍ.
3119- وذكر العراقيون التصرية في الأتان. والمسلك المرضي ما نزيده فنقول: ظاهر المذهب أن لبن الأتان نجس، فإذا فرضنا التصريةَ، فاللبن لا يقابَل بشيء، ولكن لا يبعد ثبوت الخيار؛ إذ قد يُقصد غزارةُ لبنها لمكان الجحش، فيلتحق هذا الخيارُ بصور التردد. ومن أصحابنا من حكم بطهارة لبنها وحرّمه، فالقول كما مضى؛ فإن اللبن المحرمَ لا يتقوّم. ومن أصحابنا من حكم بحل لبنها تفريعاً على الطهارة، حكاه العراقيون عن الإصطخري.
وهذا عندي لا يلتحق بالمذهب، وهو من هفوات بعض الأئمة، فنقول: إن لم يُبح اللبن، فالنظر في الخيار. وإن فرعنا على الوجه الضعيف وأبحناه، فالقول في تصرية الأتان كالقول في تصرية الجارية. وسنذكر أن لبن الجارية هل يقابل بشيء في الفصل الثاني من الباب.
فرع:
3120- إذا تحفَّل اللبنُ بنفسه من غير قصدٍ من مُحفل، ثم جرى الظن والإخلافُ كما ذكرناه، ففي ثبوت الخيار وجهان. كان يذكرهما شيخي في الخلاف، وذكرهما غيره.
وعندي أن الخلافَ في ذلك يشير إلى تردد الأصحاب في مأخذ الخيار في الباب، وينقدح للخيار مأخذان:
أحدهما:تَنْزيلُ فعلِ الملبِّس منزلةَ قوله؛ فإنه بشرطه يُطمع المشتري في مقصودٍ، وقولُه بين الخُلْف والصدق. كذلك الفعل يُنَزَّلُ هذه المنزلةَ.
ومن أصحابنا من يبني الخيار في الباب على قاعدةِ خيارِ العيب، ويزعم أن من اشترى عبداً مطلقاًً، ولم يقع التعرضُ لشرط السلامة، فسبب الخيار إشعارُ ظاهرِ الحال بالسلامة، فإن بان ما يخالف الظاهر، ترتب عليه خيارُ الرد. وهذا يتحقق في المحفَّلة، فإن ظاهرَ الأمر يُشعر بغَزَر اللبن.
فإن أخذنا الخيار من تشبيه فعل الملبِّس بقوله، فلا خيار في التي تحفَّلت بنفسها، من غيرِ قصد. وإن أخذنا الخيار من تنزيل العقد على الظاهر، فهذا يقتضي ثبوتَ الخيار في التي تحفلت من غير تحفيل.
فرع:
3121- إذا اشترى مصراة فكما حلبها اتفق درور لبنٍ على الحد المطلوب التي دلّت التصريةُ عليه، ثم استمر الأمر كذلك وفاقاً، فهل يثبت الخيار للمشتري؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون، وهما خارجان على قياسنا أيضاًً.
والخلاف في ذلك مُشبهٌ بأصلٍ سيأتي في الخراج، ويلتفت على أصلٍ في النكاح.
فأما ما يأتي في الخراج، فهو أن من اشترى عبداً، وكان به عيبٌ قديم، لم يتنبه له المشتري إلا بعد زواله، ففي ثبوت الخيار وجهان، ووجه الشبه بيّن.
وأما أصلُ النكاح: فإذا أُعتقت الأمةُ تحت زوجها الرقيق، فلم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، فهل يثبت لها الخيار الآن؟ فعلى اختلاف نصوصٍ وأقوال.
وذكر العراقيون أن من ابتاع شاةً وعلم أنها مصراةٌ، ثم تحقق الأمرُ كما علم، وقل اللبنُ، فهل يثبت الخيار؟ فعلى وجهين.
ولست أرى لقولِ من قال بثبوت الخيار هاهنا وجهاً، إلا أن يقول قائل: لعل المشتري يستبهم عليه من التحفيل قدرُ اللبن الأصلي، فإذا رجع إلى أصله، فقد يكون دون القدر المظنون. وهذا مزيف لا أصل له.
وقد انتهى القول في الخيار.
3122- وإذا تبين أصلُ الخيار، فالكلام بعد ذلك في أنه على الفور أم لا؟ وكيف السبيلُ فيه؟ فنقول: إذا لم يتبين للمشتري اختلاف ظنه إلا بعد يومٍ، أو يومين مثلاً، فلا يبطل خيارُه؛ فإن الكلام في الفور والتراخي يقع بعد الاطلاع على موجِب الخيارِ.
فلو حصل الاطلاع في اليوم الأول مثلاً، فالخيار يثبت على الفور أم يمتد إلى انقضاء ثلاثة أيام من وقت العقد؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنه على الفور، قياساً على خيار الخُلف والعيب، كما سيأتي حكمهما إن شاء الله عز وجل.
والوجه الثاني- أنه يمتد ثلاثةَ أيامٍ؛ فإنه صح في روايات حديث المصراة أنه عليه السلام قال: «فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً» فهذا خيارٌ شرعي مؤقت بما يتأقت به خيارُ الشرط، فاتُّبِع.
ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن ذكر الثلاثة في الحديث، وقال: الغالب أن التلبيس لا يبين إلا بعد تكميل الحَلْب، فجرى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلاً على العادة في الباب.
قال شيخي: من أثبت الخيارَ ثلاثةَ أيامٍ، يُلحقه بخيار الشرط في حكمه، ويعيد فيه الاختلافَ في أن هذا الخيارَ يحتسبُ من وقت العقد، أو من وقت انقضاء خيارِ المجلس، كما تقدم ذكره في خيار الشرط بالإضافة إلى خيار المجلس.
ولو حصل الاطلاع على خُلْف الظن آخرَ جزء من الأيام الثلاثة، فلا خلاف أنا لا نتعدى هذا، فلا يظنن ظان أنَّا نمدُّ الخيارَ من وقت الاطلاع ثلاثة أيام.
فإذا ظهر ذلك، فالمطلعُ في آخر الأيام خيارُه على الفور. ومأخذُ الفور على أحد الوجهين القياسُ على النظائر في خيار الخلف، والردَّ بالعيب.
وهو على الوجه الثاني من مصادفته آخر الوقت، لا من كونه في وضعه على البدار والفور.
وقد نجز القول في الخيار تأصيلاً وتفصيلاً.
الفصل الثاني
3123- وأما الفصل الثاني، فمضمونه الكلام فيما يرده المشتري في مقابلة اللبن، إذا ردَّ البهيمة المصرَّاة. وهذا الفصل معتمده الخبر في أصل المذهب، وليس كأصل الخيار؛ فإنه قد يستدّ فيه طرفٌ من القياس، كما نبهنا عليه، فالمعتمد إذاً في المردود قول النبي عليه السلام: «وإن سخطها ردّها، ورد معها صاعاً من تمر». واختلف طرق الأصحاب: فذهب بعضهم إلى اتباع الخبر ومحاذرةِ الميل عنه، فأوجبوا في مقابلة اللبن المحلوبِ صاعاً من تمر، قلَّ اللبنُ أو كثر. فإن قل قدرُ اللبن مرةً وأبرّت عليها قيمةُ الصاع، عارضَ ذلك الاكتفاءُ بصاعٍ من تمر وإن كثر اللبن. فهذا مسلك.
ومن أصحابنا من قال: يقلّ التمرُ بقلة اللبن، ويكثر بكثرته، فقد يوجب ردَّ آصعٍ، وقد يكتفى بردّ مُدٍّ، فما دونه، على ما يقتضيه تعديل القيم.
3124- ثم كما اختلف الأصحاب في المقدار: فصار صائرون إلى اتباع الصاع، من غير زيادة ولا نقصان، وذهب آخرون إلى اعتبار قيمة المبذول بقيمة اللبن. كذلك اختلفوا في الجنس، فذهب ذاهبون إلى أن الأصلَ التمرُ، فلا مَعْدِلَ عنه. وقال قائلون: يقوم مقام التمر الأقواتُ؛ اعتباراً بصدقةِ الفطر، ثم لا يعدِّي الأئمةُ في هذه الطريقة القوتَ إلى الأقطِ، كما يعدي بعضهم إليه في صدقة الفطر؛ فإن السبب الحامل على المصير إلى إجزاء الأقِط خبر فيه، وذلك الخبر لا يعدَّى به مورده.
وقد روى شيخي في بعض صيغ حديث المصراة التعرضَ للحنطة. وهذا هو الذي مهد لأصحاب القوت مذهبَهم، وإلا فالأصل الاتباع.
ثم من عدَّى إلى الأقوات، وانحصر فيها، فليس منسلاً بالكلية عن الاتباع.
وأما تنزيل المبذول على قيمة اللبن، فهو مسلكٌ في الجُبران. والضمانُ منقاسٌ.
وذكر شيخي مسلكاً غريباً زائداً على ما ذكرهُ الأصحاب في طرقهم، فقالَ: من أصحابنا من قالَ نَجري في اللبن على قياس المضمونات، فإن بقي عينُه، ولم يتغيَّر، ردّه، وليسَ عليه رَدّ غيرهِ. وإن تغير، ردَّ مثلَه؛ فإنّ اللبن من ذواتِ الأمثالِ؛ فإن أعوز المثلُ، فالرجوعُ إلى القيمة. وقد أومأ إليه صاحب التقريب، ولم يصرح به.
وهذا عندي غلط صريحٌ، وتركٌ لمذهب الشافعي، بل هو حيدٌ عن مأخذ مذهبه، ويبطل عليه مذهب الشافعي في مسألة المصراة، ولا يبقى إلا الخيار، فإن اعتمدنا فيه الخبر، لم يبعد من الخصم حمله على شرط الغزارة، مع تأكيد الشرط بالتحفيل.
فهذا إذن هفوةٌ غير معدودةٍ من المذهب ولا عودَ إليها.
التفريع على الوجهين المقدَّمين:
3125- من قال بالاتباع والانحصارِ على الصاع فلو بلغت قيمةُ الصاع قيمة الشاة، أو زادت، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما: أنا نوجب الصاع وإن بلغت قِيماً، ولا ننزل عن الاتباع.
والوجه الثاني: أنا لا نرى ذلك؛ فإن النبي عليه السلام وإن نصَّ على الصاع من التمر، فقد أفهمنا أنهُ مبذولٌ في مقابلةِ شيءٍ فائت من المبيع يقعُ منه موقعَ التابع من المتبوع؛ فينبغي أن لا يتعدَّى على هذا المعنى حدَّ التوابع. والغلوّ في كلِّ شيءٍ مذموم، وقد يغلو المتبعُ للفظ الشارع، فيقع في مسلكِ أصحاب الظاهر.
التفريع على الوجهين:
3126- إن حكمنا بأن الصاعَ واجبٌ، فلا كلام، وإن لم نر إيجابَ الصاع في الصورة التي ذكرناها، اعتبرنا القيمة الوسط للتمر بالحجاز، واعتبرنا بحسَب ذلك قيمةَ مثلِ ذلك الحيوانِ اللبون بالحجاز، وإذا نحن فعلنا هذا، جَرى الأمرُ في المبذول على الحدّ المطلوب.
ثم قال العراقيون: إن زادت قيمةُ الصاع على نصف قيمة الشاة، فالوَجهان جاريان، وإن كانت قيمةُ الصاع مثلَ نصفِ قيمة الشاة، فيجب بذلُ الصاع، هكذا رواه.
وقطع صاحب التقريب جوابه باعتبار قيمة الوَسط من صورة الوجهين.
ومما يدور في الخلد أن اللبن إن كان شُرب أو ضاع، فالأمر على ما ذكرناه. وإن كان متغيراً، لم يُردَّ وقد حدث به عيبُ التغيير، ولكن وإن كان اللبنُ موجوداً حالة العقد ثم حُلبَ وتغيَّر، فلا نجعل الشاةَ مع اللبن بمثابةِ عبدين يشتريهما الرجل، ويقبضهما ويحدُث بأحدهما عيبٌ في يَدهِ، ويطَّلِع على عيبٍ قديم بالثاني، فهذا من فروع تفريق الصفقةِ آخراً، وفيه اختلافٌ سيأتي. وليس الأمر في اللبن معَ الشاةِ كذلك، وفيه نص النبي صلى الله عليه وسلم على إقامةِ الصاع مقامَ اللبن.
وإن فرض فارض بقاءَ اللبن الحليب من غير تغير، حتى يثبت الخيار، فهذا تكلُّفُ أمرٍ لا يتصوَّر؛ فإنَ خُلفَ الظن يَبينُ بالحلب في النوبةِ الأخرى، ويتغيَّر اللبن لا محالةَ في جميع الأَهْوية. ولَو صُوِّرَ ذلَك على بُعد، فردُّ عين اللبن عندي مع الاتباع ليس بعيداً عن الاحتمال، والخبر يكون محمولاً على غالب الحال. وهذا يشابهُ قولَ من يُثبت الخيار على الفور، ويحمل ذكرَ المدةِ في الحديث على غالب الأمر، فإن الخُلف لا يبين إلا في مُدَّةٍ.
فرع:
3127- لو بان التلبيس، ورضي المشتري بالبهيمة، ثم وجدَ بها عيباً قديماً، فأراد الردَّ، فله الردُّ بالعيبِ القديم.
ثم قالَ الأصحاب: يرُدّ مكان اللبن صاعاً من تمر، كما لو رَدّ بسبب التصرية، قطع الإمام وصاحبُ التقريب والصيدلاني أجوبتَهم بذلك، ونصّ الشافعي عليه في المختصر.
وهذا فيه إشكال من طريق القياس؛ فإن المعنى لا يُرشد إلى إثبات الصاع بدلاً عن اللبن، وإنما المتبع فيهِ الخبر، والخبر وردَ في التصرية، والقياسُ في هذا يقتضي أن ننزلَ البهيمةَ مع وجود اللبن في ضرعها، منزلةَ ما لو اشترى الرجل شجرةً مع ثمرتها، ثم تلفت الثمر فأرادَ رَدَّ الشجرةِ بعَيب قديم صادفَهُ بها، فيدخل هذا في تفريق الصفقة، هذا حكمُ القياس. ولكن الشافعي وجميعَ الأصحاب، حكموا بما ذكرناه. والسببُ فيهِ أن الردَّ بالعيب القديم في معنى الرد بالخُلف قطعاً. واللبن في الواقعتين على قضيةٍ واحدةٍ، فرأى الشافعيُ إلحاقَ الواقعةِ بالواقعةِ، كما رأى إلحاقَ الأمة بالعبد في قوله عليه السلام «من أعتق شِرْكاً له من عبدٍ قُوِّم عليه». وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: إن من أصحابنا من ردّ هذه المسألةَ إلى موجَب القياس، وخرَّجها على تفريقِ الصفقةِ. وقد ذكرنا طريق القياس.
فرع:
3128- إذا أثبتنا الخيارَ في الجارية المصرَّاة، فإذا رُدّت، فهل يجب ردُّ شيءٍ في مقابلةِ لبنها؟ اختلف أصحابنا في المسألة.
فمنهم من أوجب ردَّ الصاع، وقال: إذا نزّلنا الجارية منزلة البهيمة المحفّلةِ في أصلِ الخيارِ، وجب أن ننزِّلَها منزلتها في التفصيل.
والوجه الثاني-ذكره الصيدلاني وغيره- أنه لا يجب في مقابلة اللبنِ شيءٌ؛ فإنّ لبنَ الآدميات لا يباع في الغالب.
وهذا فيهِ فضل نظر، والوجه أن نقولَ: إن لم يكن لذلك القدرِ قيمةٌ، ونحن نرى تنزيلَ المبذول على قيمة اللبن، فلا يجب شيء، وإن اتبعنا الصاعَ، ولم ننزله على القلَّة والكثرة على قيمة اللبن، ففي المسألة وجهان:
أحدهما- أنه يجب الصاعُ، لتحقيق الاتباع، والثاني: لا يجبُ؛ لأن الصاع أُثبت بدلاً شرعياً، فليثبت له مبدل، وليكن المبدل متمولاً.
هذا إذا لم يكن اللبن متقوَّماً. فإن كان اللبن متقوَّماً، يجب البدل لا محالةَ، فإنَّ نفيَ البدل في هذا المقام لا يقتضيه خبرٌ ولا يوجبه قياس. نعم، الواجب فيه وجهان سبقَ ذكرهُما:
أحدهما: الصاعُ، والثاني: قدرُ قيمة اللبن من التمرِ، أو القوت.
فهذا كشف الغطاء في ذلك.
فرع:
3129- حكى العراقيون أنَّ محمدَ بنَ الحسن قال للشافعي: لو اشترى الرجل شاةً وحلبها، ولم تكن مصراةً، فوجد بها عيباً قديماً، فهل له الردُّ بالعيب؟
فقال الشافعي: يرُدُّها. قال: فهل يردُّ في مقابلة ما حلبَ شيئاً؟ فقال: لا يلزمُه شيء؛ فإن اللبن ليس يتحقق وجودُه في غير صُورةِ التصرية، فلا يقابَلُ بشيء، ويحمل على التجدّد بعد العقد. فهذا ما ذكروه.
وفيه نظر: وذلك أنا إن كنا نرددُ القولَ في أن الحمل هل يعلَم، فاللبن معلوم في الضَرع، وكيف لا، وقد تتكامل الدرَّةُ ويأخذ الضرعُ في التقطير. ولكن الوجه في ذلك أن نجعل اللبن كالحَمْلِ، وسيأتي قولان في أن الحمل هل يقابَل بقسطٍ من الثمن واللَّبن في معنى الحمل. فإن قلنا: لا يقابل بقسطٍ، فالجواب ما حكَوْه، وإن قلنا: إنهُ يقابلُ بقسط من الثمن، فالوجه أن يرد بسبب اللبن شيئاً.