فصل: باب: بَيع البَرَاءةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: بَيع البَرَاءةِ:

قال الشافعي: "وإذا باع الرجل شيئاً من الحيوانِ بالبراءة، فالذي ذهبَ إليهِ قضاءُ عُثمانَ أنه بريءٌ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمهُ... إلى آخره".
3199- نذكر في الباب تفصيلَ القول في بيع الحيوان بشرط البراءة، ثم نذكر شرطَ البَراءةِ في غير الحيوانِ.
فأما شرط البراءةِ في الحيوان، فظاهرُ نصِّ الشافعي في صدر البابِ اتباعُ قضاءِ عثمانَ رضي الله عنه، وقد قضى بان البائع مبرَّأٌ من كل عيبٍ، لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمه، ولم يُطلِع المشتري عليه. وقالَ في آخر الباب: "القياسُ لولا ما وصفناه-يعني قضاءَ عثمانَ- أنه لا يبرأ عن العيب الذي لم يره المشتري، أو يبرأ عن الجميع".
3200- وقد اختلف أصحابُنا على طريقين: فمنهم من قال: ما ذكرهُ الشافعيُ في أول الباب وآخرِه ترديد للأقوال، ففي المسألة ثلاثةُ أقوال: أحدها: أن البراءة باطلةٌ والمشتري على خياره، مهما اطلع ولا فرقَ بين ما علمه البائعُ وكتمهُ، وبين ما لم يعلمه.
والقول الثاني- أن البراءةَ صحيحةٌ عن جميع العيوب، من غير تفصيل.
والقول الثالث: الفصلُ بين ما علمه، وبين ما لم يعلمه. فما علمه لم يصحّ البراءةُ فيه؛ لأنه بكتمانِه، وتركِ ذِكره منتسِبٌ إلى التدليس، والتدليسُ محرَّمٌ، فلا يستحق صاحبُه حطَّ الخيارِ عنه.
والتوجيه مستقصى في الخلاف. ونحن نذكرُ منه ما يتعلّقُ بترتيبِ المذهب.
فأما من قال: إنّ البراءة لا تصح، فمعتمده شيئان:
أحدهما: أن خيارَ الردّ بالعيب يثبت شرعاً في مقتضى العقد، فشرطُ نفيهِ تغييرٌ لموجَب الشرع، والثاني: أن العيوبَ الممكنةَ مجهولة، فلئن كانت البراءة من المرافق، فلتكن معلومةً كخيار الشرط، والأجَل، والرهن، والكفيل.
ومن قالَ بصحة البراءة على العموم، فوجهه أن الشرط يتضمن إسقاطَ حقٍّ، وفي إسقاطه استفادةُ لزومِ العقد.
ومن فصَّل، استدَلَّ بمذهب عثمانَ، أولاً، وأشار إلى ما ذكرناه من الانتساب إلى التدليس في صورة العلم.
ثم من يسلك طريقةَ الأقوال يستدل بأن الشافعي أشار إلى الأثر والقياس، ومذهبُه في القديم اتباعُ الأثرِ، وتركُ القياس له. وهذا يخالف رأيَه في الجديد.
فإن قال قائل: لم يبد نكيراً على عثمانَ، فمذهبه في الجديدِ أنه لا يُنْسَب إلى ساكت قول.
ومن أصحابنا من قالَ: مذهب الشافعي هو التفصيل الموافق لمذهبِ عثمانَ، وقد صَرَّح بذلك في صدر الباب. وما ذكرهُ في آخر الباب إشارةٌ إلى وجهِ القياس، وليس مذهباً له.
والأشهرُ طريقة الأقوال. والأليقُ بكلام الشافعي القطعُ بما ذكرناه.
3201- ثم إنا نُلحقُ بما تقدم شيئين:
أحدهما: أنا علَّلنا القَولَ بفساد الشرط بشيئين:
أحدهما: أن البراءة تغييرُ وضعِ الشرع. والثاني- أنها تقتضي جهالةً.
3202- ثم الأصحاب فرضوا صورةً على هذا القول، وذكروا فيها اختلافاً مخرّجاً على المعنيين: وهي أنه لو شرط البراءةَ عن عيوبٍ معدودةٍ، وأعلم بالوصف أصنافَها، فإن علَّلنا شرطَ البراءةِ بتغييرِ مقتضى العقدِ، فالشرط فاسدٌ مع الإعلام، وإن علَّلنا فسادَ الشرط بالجهالة، فلا جهالةَ في الصورة التي ذكَرناها، فليصح الشرطُ.
وليس المعني بالإعلام أن يطّلع المشتري على العيوب، أو يرى من نفسه العلمَ بها، وإنما المراد البراءةُ من صفاتٍ لا يقطع الشارط بكونها، وإنما تقدَّرُ البراءة لو كانت، ولو حصل الاطلاع على العيب، فلا حاجة إلى شرطِ البراءة، فإن الخيار لا يثبت مع الاطلاع، وإن لم تجر البراءةُ.
ومن الاطلاع أن يقول البائع: هذه العيوب به فأبرئني منها، فاعتراف البائع بها بمثابة معاينةِ المشتري العيوبَ؛ فإن العقد مستند إلى قولِ العاقد، وعليه التعويلُ في الملكِ، وإن كان المشتَرى لحماً، فالاعتماد على قول البائع في كونهِ لحمَ ذكيّة.
فهذا أحد الأمرين.
والثاني: أن الأئمة في قول التفصيل قالوا: لا تصح البراءةُ عمَّا عَلِمه البائع وكتمه، وتصح البراءةُ عما لم يعلمه، وألحق أربابُ التحقيق بهذه العيوبَ الظاهرةَ والباطنةَ، فقالوا: البراءةُ في العيوب الظاهرة باطلة وإن لم يكن البائع مطلعاً عليها، وجَعلوا التمكنَ من الاطلاع مع ترك البحث بمثابة الاطلاع على الخفيّات مع الكتمانِ، وقال هؤلاء في الترتيب: البراءةُ عن العيوب الباطنة منقسمةٌ، فما علمه البائع، لم تصح البراءة عنه، وما جهِله، فتصح البراءةُ عنه.
ومن أصحابنا من قال: لا ننظر إلى الظاهر والباطن، وإنما ننظر إلى العلمِ مع الكتمان، وإلى الجهل؛ فإن المبطلَ للشرط انتسابُه إلى التدليس، وهذا المعنى لا يتحقق في العيوب الظاهرة التي لم يعلمها البائع.
وقد نجز الكلامُ في الحيوان.
3203- فأمّا ما عداه، فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين: منهم من قال: شرط البراءة فيما عدا الحيوان باطلٌ كيف فُرض، وإنما تصح البراءةُ في الحيوان للضرورة لأنه يغتدي بالصحة والسقَمِ، وهو عرضةُ التغايير. ولو قيل لا يخلو حيوان عن آفةٍ باطنةٍ، لم يكن هذا الكلام مجازفةً، فلو لم يصح بيعُ الحيوان بشرط البراءة، لما استقرَّ على حيوانٍ بيعٌ. وهذا لا يتحقق في غير الحيوان. هذا مسلك.
ومن أصحابنا من قال: يجري في غير الحيوان الأقوالُ الثلاثة، وقال قائلون: لا يجري في غير الحيوان الفرق بين الظاهرِ والباطن؛ فإن ما سِوى الحيوانات عيوبُها ظاهرةٌ إن كانت، فجملةُ عيوبِها بمثابة العُيوب الظاهرة من الحيوان.
وقد ذكرنا التفصيلَ في العيوب الظاهرة من الحيوان.
فهذا هو التفصيل في شرط البراءة.
3204- فإذا جمع جامعٌ الحيوانَ إلى غيرهِ انتظم له أقوال: أحدها: الصحةُ في الجميع.
والثاني: الفسادُ كذلك، والثالث: الفرق بين الحيوان وبين غيره. والرابع- الفرق بين ما علمه البائع وكتمه، وبين ما لم يعلمه.
وقد ذكرنا التعرضَ للظاهر والباطن، فقد يجري من خلاف الأصحاب فيه قولٌ خامس.
فإن حكمنا بصحَّة الشرط، فلا كلام، وإن حكمنا بفساده، فهل يصح العقدُ؟ فعلى قولين: أظهرهما- أنهُ يصح، ويلغو الشرط؛ لأنَّ الشرط في وضعه ليس مخالفاًً لمقصود العقد ومقتضاه؛ من جهة أن الغرض من العقد النفوذ، والشرط في نفي الفسخ يتضمن تأكيدَ لزومه، والظاهر السلامةُ أيضاًً.
والقول الثاني- أن العقد يفسد لفساد الشرط المتعرض لمقصوده، ولو صح ما تمسك به القائل الأول، لوجب القضاء بصحة الشرطِ؛ من جهة موافقةِ مقصود العقد، فإذا فسد الشرطُ، وجب الحكم بفسادِ العقد.
ثم جمع المرتِّبون صحَّةَ الشرط وفسادَه، وصحةَ العقد وفسادَه، وقالوا: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدُها- أن الشرط والعقد يفسدان.
والثاني: أنهما يصحان.
والثالث: أنه يصح العقد، ويفسد الشرط.
وهذا كاختلاف الأقوال في شرط نفي خيار المجلس والرؤية إذا جوّزنا بيعَ الغائب، وفيهما الأقوال الثلاثة، كما وصفناهَا، وخيار الرد بالعيب خيارٌ شرعي يتضمنه مطلقُ العقد كخيار المجلس وخيار الرؤية.
3205- وممّا يتفرع في الباب أنا إذا صحَّحنا شرطَ البراءةِ؛ فلو قال: أنا بَريء من العيوب الكائنة، والعيوب التي ستحدث في يدي، فهل يصح شرط البراءةِ عما سيحدث، إذا ضَمَّ الشرطَ إلى ذِكر العيوب الكائنة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن ذلك لا يصح؛ فإن البراءة عن العيوب الكائنة في حكم إسقاط حق ثابت، وأما البراءة عما سيحدث، فتغيير لموجَب ضمان العقد وربط الشرط بما سيكون. وهذا يبعد احتماله.
والثاني: يصح تبعاً للعيوب الكائنة.
ولو خصّص الشرطَ بالبراءة عمّا سيحدث، ولم يتعرض للعيوب الكائنة، فالمذهب أن الشرط يبطل بخلاف ما ذكرناه في المسألة الأولى؛ فإن ما سيحدث ذُكر تابعاً للعيب الكائن القديم، فإن ثبتت البراءة، فسبيلها التبعيّةُ. وهذا لا يتحقق إذا أُفرد ما سيَحدث بالذكر والقصد.
وإذا ضممنا ما قدَّمناه تابعاً إلى ما أخّرناه مقصوداً، انتظمت أوجهٌ في العيوب التي ستحدث، على قولنا بصحةِ البراءةِ عن العيوب القديمة: أحدها: الصحةُ. والثاني- الفساد. والثالث: الفرق بين أن يذكر تابعاً أو مقصوداً.
فرع:
3206- إذا منعنا شرطَ البراءةِ، وقلنا: لابد من الاطلاع؛ فإن كان العيبُ مما لا يعايَن، فيكفي فيه اعترافُ البائع به، كاعتيادِ السرقة، والإباق، وغيرهما.
وإن كان مما يُعايَن كالبَرص وغيره، فإن اطلع المشتري عليهِ، كفى. وإن ذكرهُ البائع لم يكفِ؛ فإن المقصود يختلف بمقدار البرص وموضعه، فإن ذكر مقدارَه، ومحلّه، وصفتَهُ، كفى حينئذٍ.

.باب: الاستبراء في البيوع:

3207- الاستبراءُ بأصولهِ وفصُولهِ يأتي بعد كتاب العدّةِ إن شاء الله عز وجل، فلا خَوْضَ فيه، بل نقتصرُ على غرض الشافعي من مضمون الباب، وهو مسألتان: إحداهما- أن المشتري لو وفَّر الثمنَ على البائع، فامتنع البائع من تَسليمِها حتى يستبرىء، زاعماً أنه يحتاط بذلك لصون مائهِ، فليس له ذلك عندَنا. وقالَ مالكٌ: له منعُها من المشتري، ثم يعدَّلُ على يدِ امرأةٍ مؤتمنةٍ. فهذا غَرضُه من هذهِ المسألة.
ثم الذي يتصل بهذا الباب في هذا الغرض اختلافُ الأصحاب في أن الجارية لو حاضت في يد البائع، فهل يعتدّ بذلكَ استبراءً أم نقول: ينبغي أن يجري الاستبراءُ بعدَ انتقال الضمان إلى المشتري؟ فمنهم من قال: يعتدّ بما جرى في يد البائع؛ فإنها وإن كانت من ضمان البائع، فهي في ملكِ المشتري.
ومنهم من قال: لا يعتدُّ بما جرى استبراءً؛ فإن الملك ضعيفٌ قبل القبض متعرّض للارتداد إلى البائع.
فهذا أحدُ مقصودَي الباب.
3208-والمقصود الثاني- أن من اشترى متاعاً من رجل غريبٍ، فليس لهُ عندنا أن يطالبَه بمن يَعرفُه، ويتحملُ عنه ضمانَ الدَّرَك. وقالَ مالكٌ: له مطالبتُه بذلك. وعندنا لا يلزم ذلك إلا أن يشترط الضمان في العقد، فيكون كاشتراط الرهن، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل.

.باب: المُرابحةِ:

3209- صورة المرابحةِ أن يقول لمن يُخاطبُه: اشتريتُ هذا بكذا، وقد بعتكَهُ إياه بربح الواحد على كل عشرة، أو على العَشرة نصفُ درهم، على ما يقعُ الاتفاق عليه.
وحقيقةُ العقد بناؤه على العقد الأول، مع شرط مزيدِ الربح، أو حطيطةٍ مع التعويل على أمانةِ البائع، فإذا قال: بعتُك هذا بما اشتريتُ-وهو كذا- مرابحةً على كل عشرةٍ واحداً، أو اثنين، أو أقلَّ، أو أكثرَ على حسب التوافق، فالعقد يصح على هذا الوجه، ويثبتُ المزيد الذي أُثبتَ على صيغةِ الربح.
فإن ذكرا مبلغ الثمن والربح عليه، فالبيع صحيح.
وإن كان المشترِي جاهلاً بالمقدار، فقال البائع: بعتُك هذا العبدَ بما اشتريتُ، فالبيع فاسدٌ على الصحيح.
وحكى بعض الأئمة عن صاحب التقريب أنه قال: لو جرى هذا العقدُ، فلم يفترقا عن المجلس، حتى أعلم البائعُ المشتريَ مقدارَ الثمن، فالمذهب أن البيع فاسدٌ.
وفيه وجهٌ أن العقد ينقلب صحيحاً. وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنَّ المجلسَ فرعُ انعقادِ البيع، فإذا لم ينعقد البيعُ، فلا مجلس له.
وأبو حنيفة نفى خيار المجلس، وأثبتَ للمجلس أثراً في صحة العقد، بعد جريان الإيجاب والقبول على الفساد.
ومن أصحابنا من قال: يصح البيعُ في الأصل وإن كان المشتري جاهلاً برأس المال؛ فإن الإحاطةَ به ممكنة، والعقد الثاني مبنيٌّ على العقد الأول، وهو كالشفيع يطلب الشُّفعةَ قبل الإحاطة بمبلغِ الثمنِ. وليس هذا كما لو قال: بعتُك عبدي بما باع به فلانٌ عبدَه، وكانا جاهلين، أو أحدَهما بما وقع عليه بيعُ فلان، فالبيع باطلٌ؛ فإنه لا تعلق لذلك الثمن بعقدِهما. وهذا ضعيفٌ، والأصح الحكم بالفسادِ.
ثم إذا حكمنا بصحة هذا العقدِ، فقد اختلف أصحابُنا في أنه هل يشترط إعلامُه في مجلس العقد؟ فمنهم من قال: لا يُشترط هذا؛ لأن العقدَ إذا انعقد على الصحةِ تعويلاً على إمكان الإعلام، فهذا الإمكان يَطَّرد، وإنما تمسُّ الحاجةُ إلى الإعلام عند المطالبة بالثمنِ.
ومن أصحابنا من قال: وإن حكمنا بصحة العقد، فلابد من الإعلام في المجلسِ، حتى لا يتفرقا إلا على ثَبَتٍ، وهذا يناظر اشتراطَ التَّقابُضِ في عقود الربا.
ثم قال الأصحابُ: عقدُ المشتري مرابحة وإن ابتنى على عقدِ البائع، فلا حرج على البائع أن يزيد شيئاً من الثمن، ويقدّرَه من الأصلِ، ثم يذكرُ على صيغة المرابحة ما يقع التوافق عليه، وذلك بأن يقول: قد اشتريت هذا بعشرة وقد بعتكَه بعشرين، ورِبح ده يازده، فيصح العقد على هذا الوجه، وإن ضمَّ إلى رأس المال شيئاً، ثم قدّر الربحَ بعدهما.
وهذا عندي تكلُّفٌ، فإن ذلك المضمومَ مع المذكور ربحاً ربحٌ في المعنى، ولا نرى في الباب لما يثبت بصيغة الربح مزيّةً وخاصّية على ما يقدَّر أصلاً مضموماً إلى رأس المال.
3210- ثم المرابحة تُفرض على وجهين:
أحدهما: أن يقع البيعُ بما اشتراه البائع مع ربحٍ يذكرانه.
والآخر- أن يقع البيعُ بما قام على البائع مع مزيدِ ربحٍ.
فإن قال: بعتُك بما اشتريت به وهو كذا بربح كذا. فالأصل هو الثمن، ولا تحسب أجرة الدلالِ والكيالِ، وغيرِهما من مؤن العقد؛ فإن التعويل على موجَب لفظهِ. فإذا قال: بعتك بما اشتريت أبه،، فالذي به الشراءُ هو الثمن.
فأما إذا أراد العقدَ بلفظةٍ تشتمل، فسبيله أن يَضُم مؤنةَ الدلالِ والكيالِ، والحمالِ، وأجرةَ البيت الذي جرى التربص فيهِ-إن كان البيت بكراءٍ- فيضُمُّ هذه المبالغَ إلى الثمن، ويَقُول: بعتُك بما قامَ علَيَّ، وهو كذا، مُرابحة على كذا. فإذا وقع العقد على هذه الصيغة، فالمؤن التي تُعدُّ من توابع التجارة تدخُل تحت قول البائع "بما قام علَيَّ".
3211- ثم قال الأصحاب: إذا اشترى دابَّه، وعلفها مدَّة، ثم باعها بما قامت عليه، فمؤنةُ العلفِ، لا تدخل تحت اللفظ.
وهذا محلُّ النظرِ؛ فإن العلفَ لاستبقاءِ الملكِ بعد ثبوته، والبيتُ الذي يحفظ فيه المتاع، في معنى العلف؛ فإنه ليس من توابع التجارةِ، بخلاف مؤنةِ الدلال وغيرهما، فمؤنةُ السكنى والنفقةُ متساويتان في تعلقهما بحاجة الاستبقاءِ والاستدامةِ إلى اتفاق البيع. ولكن أجمع الأصحابُ على أن النفقةَ غيرُ معتبرة، وكراء البيتِ المكترى محسوبٌ من جملة المؤن الداخلة تحت قول البائع "بما قام عليَّ".
وفي الفرق نوع عُسْر على الناظر.
وقد قال بعض الحُذَّاق: لو اشترى دابة وزَادَ على علفِها المعتاد زيادة يُبغى بمثلها السِّمَنُ، والازديادُ، فهذه الزيادة داخلة تحت لفظة القيام؛ فيرجع حاصلُ الجواب إلى أن الداخل تحت الصيغةِ التي فيها الكلام ما يُعدُّ من مُؤن التجارة أو يُبغَى به الاستنماء لطلب الربح.
3212- والآن سبيلُ الكلام على الكراء أن نقول: هذا الباب مسائلُه غيرُ موضوعةٍ على أمرٍ فقهيّ، وإنما مقصودُه في اتِّباعِ اللفظ: فإذا قال: بعتُ بما اشتريتُ، اقتضى ذلك التعرُّضُ للثمن؛ إذ به الشراءُ. وإذا قالَ: بعتُك بما قام عليَّ، فصيغة اللفظ شاملةٌ للمؤن. وإذا كان كذلك، فالوجه اتباع اللفظ.
ثم العرفُ في المعاملات غالبٌ جداً، محكَّمٌ على العقودِ. والعباراتُ منزَّلةٌ عليه نزولَ عباراتِ الحالفين على عُرف المتفاوضين. ويمكن أن يقال: حفظُ المتاع في البيت تربُّصٌ، وهو ركن في التجاير وانتظار الأسعار. هذا حكم العُرف.
وأما العلف، فهو قوامُ البقاءِ، وليس هو للاتجار، وهذا مع التكلّفِ مشكلٌ، والقياسُ إدخال الكراء والعلف، لا إخراجهما، لكن المذهب نقل.
ولا خلاف أنه لو ضم النفقةَ إلى مبلغ الثمنِ والمؤنِ، فقال: بعتُكَ بما قام عليّ، وبما أنفقتُهُ، وهو كذا، صحّ.
ولو كالَ بنفسه، كما جرى في باب المكايلة، وحمل بنفسه، وأراد أن يَعُدَّ أجرة نفسه من المؤن، وقد جَرى العقدُ بصيغَةِ القيام، لم يكن له ذلك وفاقاً.
وكذلكَ لو كان البيتُ الذي يحفظ المتاع فيه ملكَه، فأراد حَسْبَ أجرته من المؤن، لم يكن له ذلكَ. نعم لو صرّح بذكر هذه المقالةِ، وقالَ: بعتُك بما اشتريتُ وبأجرتي كذا، وأجرة البيت، والمبلغ كذا، صحَّ.
فالكلام يدور إذاً على اللَّفظِ، ومُستندُ اللفظ العرفُ.
ولا يفهم من لفظِ القيام تقديرُ أُجرةِ البائع، وتقديرُ أجرةِ بيته المملوكِ.
فقد لاح الغرض، ولم يبق استكمالٌ فقهي.
والذي ذكرناه من الفرقِ بين العلف وكراء البيت إشكالٌ يؤول إلى مقتضى لفظٍ.
ومؤنةُ السائس فيها تردُّدٌ عندي، والأظهر إلحاقُها بالعلف، ولها شبهٌ بكراء البيت؛ فإن السياسةَ تؤثر في الحفظ أثرَ البيت ولها اتصالٌ بالعلف؛ من جهة أن السائسَ، هو الذي يرتِّب العلف والسقي في مظانهما.
فرع:
3213- إذا اشترى شيئاً بعشرةٍ، وباعه بخمسةَ عشرَ، ثم اشتراه بعشرةٍ، ثم أراد أن يبيعه مرابحةً، فإن عقدَ العقدَ بقولهِ: بعت بما اشتريتُ، فالاعتبارُ بثمنِ العقدِ الأخير، بلا خلافٍ على المذهب؛ فإنَّ قوله " بما اشتريتُ " لا يُحمل على العقود السابقة، وإنما يُحمل على العقدِ الذي يلي المرابحةَ.
ولو أرادَ العقدَ بقوله: بما قامَت عليَّ، فهل يُحسب ما استفاد قبل هذا العقدِ من ربحٍ؟ حتى يُقالَ: لما اشترى أول مرة بعَشرةٍ، ثم باع بخمسةَ عشرَ؛ فقد استفاد خمسةً، فإذا اشترى بعشرةٍ، فالسلعةُ قامت عليه بخمسة؟
اختلف أصحابنا في المسألةِ، فذهب ابن سُريجٍ إلى أنه إذا أراد العقدَ بصيغةِ القيام، فلا ينبغي أن يذكر إلا خمسةً. وهذا مذهبُ أبي حنيفة، ووَجهُه أن أهل العُرفِ يقولون في مثل هذه الصورة: هذه السلعةُ قائمةٌ على فلانٍ بالخمسة.
والأصح أنه يعتبر بثمن العقد الأخير، وهو العشرة، ولا التفات إلى ما تقدَّمَ من عقدٍ، واستفادةِ ربح، وإنما تبتني المرابحةُ على العقد الذي يليها، فإن عُقدت بصيغة القيام، فالمرادُ قيامُ السلعةِ بما بُذلَ في العقد الأخير. فأما الالتفاتُ على العقود السابقةِ، فمقتضاه تنزيلُ المرابحة على عقودٍ قبلَها. وهذا لا سبيل إليه.
ولو اشترى سلعةً بعشرةٍ، وباعها بخمسةٍ، ثم اشتراهَا بعشَرةٍ، فليس له أن يحسبَ الخُسرانَ ويَضم مبلغَه إلى ثمن العقد الأخير، ويقُول: بعتُك السلعةَ مرابحة بخمسة عشرَ التي قامت السلعة علىَّ بها.
هذا متَّفق عليه في الخُسران، فليكن الربحُ في معناه، وليقتصر على ما يجري في العقد الأخير من ثمنٍ ومؤنٍ، كما فصَّلناها.
فرع:
3214- يجوزُ بناءُ العقد الثاني على الأوّل محاطَّةً، كما يجوز بناؤه عليه مرابحةً.
وذلك بأن يقول: بعتُكَ السلعةَ بما اشتريتُها به، وهو مائة محاطَةً بوضيعة درهمٍ من كل عشرة، ينعقدُ البيع، ويُحَطّ على حسب ما اقتضاه اللفظُ.
ثم المحاطّة تعقد بالعبارتين المعهودتين في الباب: إحداهما أن يقول: بما اشتريتُ، والأخرى أن يقول: بما قامت علي.
ثم إن قال: بعتُكَ بما اشتَرَيْتُ، وهو مائةٌ بحطّ " دِهْ يَازْدِه"، فقد اختلف أصحابنا في المقدار المحطوط، فمنهم من قالَ: يُحط من كل عشرةٍ واحدٌ، كما يزاد في المرابحة بهذه اللفظة على كل عشرةٍ واحدٌ، لتكون المحاطَّةُ على مناقضةِ المرابحة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومحمدٍ.
ومنهم من قالَ: نَجعل كلَّ عشرة أحدَ عشَرَ جزءاً، ثم نحطُّ من هذه الأجزاء جزءاً، وهذا هو الصحيح؛ فإنا إذا حطَطْنا عن كل عشرة واحداً، فليس في هذا اعتبارُ نسبةٍ (الده يازده).
وذكر شيخي أبو محمد: أنا نحط من كل أحدَ عشرَ درهماً، درهماً. وهذا بيان الوجه الثاني.
والعبارة الأولى، والتي ذكرَها الشيخُ تؤدِّيان معنى واحداً. والغرض أن يكون كلُّ جزءٍ من المال مجزأً، بأحد عشر جزءاً، ثم يُحط منه جزءٌ من أحدَ عشر.
وهذا مذهبُ أبي يوسف وابنِ أبي ليلى.
وغَلِط العراقيون في تصوير المسألةِ، فوضعُوها في صُورةِ الوفاق، وحكَوْا الخلافَ فيها؛ فقالوا: إذا قالَ بعتُ منك هذا العبدَ بوضيعةِ درهم في كلِّ عشرة، فالمَوضُوعُ كم؟ فعلى وجهين. وهذا غلط؛ فإنّ الصيغَةَ مصرّحة بأنا نحط من كل عشرةٍ واحداً.
وإنما التردُّد في لفظ (ده يازده) ولست أرى في العربيّةِ صيغةً تنطبق على هذه اللفظة العجمية.
فصل:
قال: "وإذا باع مرابحة على العشرة واحداً... إلى آخره".
3215- إذا قال بعتُك بما اشتريتُ وهو مائة، أو بما قامت عليّ السّلعةُ به، وهو مائة مرابحةً على العشرة واحداً، فحَكَمنا بالانعقاد على الظاهر، ثم بان أنَّ رأس المالِ كانِ تسعين، فنذكر التفصيل فيه إذا خان، واعتمدَ الكذبَ، ثم نذكرُ التفصيل إذا غلط.
فأما إذا خان، فالذي قطع به الأئمةُ أن البيع منعقدٌ، والكلام وراء ذلك في الحط والخيارِ.
وذكر صاحب التقريب قولاً غريباً: أن البيع لا ينعقد، وهذا يبتني على أن الحطَّ مستحَقٌ لو قُدرت الصحّةُ. فيؤدِّي مجموعُ الكلام إلى ورود العقد على جهالةٍ.
وهذا بعيد، ما أراه معتداً به، فلا عودَ إليه.
فإذا ثبتَ انعقادُ العقد، فهل يُحطُّ عن المشتري ما زداه البائعُ وحصتُه من الربح؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه لا يُحط؛ فإنه جزم العقدَ بالمائة، وكذبَ في قولهِ اشتريتُ بها، وثمن هذا العقدِ ما عَقَد به.
والقول الثاني- أنه يُحط؛ لأنه لم يقتصر على العقدِ بالمائةِ، بل ربطَه بثمنِ العقد الأول، أو بما قام الثوب به في العقد الأول. فإذا بان الخُلْف، لم يستقر العقد على المائة المذكورة.
فأحد القولين يعتمد المائةَ المذكورةَ. والقول الثاني يعتمد ذكرَ ما جرى في العقد الأول.
وذكر العراقيون في طريقهم أنا إذا فرَّعنا على الحَطّ، فمعناه أنه ينحط عن العقد، لا أنه ينشأ حطُّه.
3216- وإذا قلنا: نحط، معناه نحكم بالانحطاط، فيرجع حاصل القولين إلى أنا في قولٍ نحكم بأن المائة تثبت والعقد ينعقد عليها. وفي قولٍ نقول: لم ينعقد العقد إلا على تسعين، وليس هذا الحط بمثابة استرجاع أصل أرش العيب القديم؛ فإنَّ الأرشَ المسترجَع، وإن كان جزءاً من الثمن، فاسترجاعه نقصٌ في جُزءٍ من الثمن.
والدليل عليه أن البيعَ إذا ورد على معيب، فموجَبُ العيب الردّ، ولا نجوِّز الرجوعَ إلى الأرش مع القدرة على الرد، فكأنَّ الأرشَ بدلٌ عن الرد، إذا تعذر.
ولا ينتظم عندنا إلا هذا؛ فإنّ حملَ الحط على إنشاءِ إسقاطٍ على حكمِ التخيّر، لا معنى له، وما استحق حطُّه محطوطٌ؛ إذ معتمدُ قولِ الحط حَمْلُ العقدِ الثاني على ثمنِ العقدِ الأول. فإن رأى طالبٌ لبعض الأصحاب لفظةً تُشعر بإنشاء الحطِّ، فمعناها الحكمُ بالانحطاط. وهو كقول الفقيهِ في البيع الباطل: "إذا اشتمل البيعُ على الشرط الفاسد، أبطلناه".
فإن قيل: فالعقدُ إذاً منعقدٌ على ثمنٍ مجهول؛ فإن المشتري غيرُ عَالم حالةَ العقد بما انعقد عليه العقدُ في حكم الله تعالى. قلنا: هذا كلام واقعٌ في موقعه. وعلى هذا منشأُ القول الذي حكاه صاحب التقريب في بطلان العقد.
وسبيل الجواب أن العقدَ عقد على ظن العلم بالثمن، فاكتفَى الانعقاد بذلك، فإذا أُخلف، فطريقُ الاستدراك بالخيار، لا الحكمُ بالفساد. وهذا يناظر قولَنا: لا يزوجُ السيد أمتَه من مجبوب على علمٍ، ولو فعل، لم يصحّ. ولو زوّجها على ظن السلامة، انعقد العقدُ. وتخيَّرت الأمةُ.
3217- هذا منتهى النظرِ في ذلك التفريعِ على قولَي الحط، إن قلنا: لا يُحطّ عن المشتري شيء، فله الخيارُ؛ من جهة أنه خاض في العقد على شرط أنه ينزل على عوض العقد المتقدّم، فإذا لم يتفق ذلك، تخيَّر.
وإن قُلنا: يُحط الزيادةُ عنه، ففي ثبوت الخيار للمشتري مع انحطاطِ الزيادة قولان:
أحدهما: لا خيار له؛ فإن مقصوده قد حصل. والقول الثاني- له الخيار، وهو موجَّهٌ في ترتيب المذهب بمعنيين:
أحدهما: أنه إذا خانه مرةً، لم نثق به، ولم نأمن أنه خانه في مقدارٍ آخر. وإن الثمن كان ثمنين، أو أقلَّ، فهذا وجه.
والوجه الثاني أنه قد يُفرَضُ للمشتري غرضٌ في الابتياع بالمائة في تنفيذِ وصيَّة، أو وفاءٍ بنذر، أو تحلّةِ قسَمٍ. هذا إذا حكمنا بالانحطاط شرعاً. وإن قلنا: لا انحطاطَ والعقدُ ثابتٌ بالمائة، فقد ذكرنا أن المشتري يتخيّر؛ لمكان التلبيس. فلو قال البائع: لا تفسخ؛ فإني أحط عنك الزيادةَ، فإذا حطها هل يتخيّر المشتري؟ فعلَى وجهين.
وهذه الصورةُ في مقتضى الخيار أيضاًً تُضاهي التفريعَ على قولنا: إن الزيادة تنحط، غير أن الصورة الأخيرةَ أولى بالخيار؛ من جهة أن الخيارَ ثبت لصفةِ العقدِ؛ فإنه انعقد على التلبيس. فإذا أراد البائعُ الحطَّ، فهذا إبراءٌ، والعقد في وضعهِ انعقد على موجَب التلبيس. وإذا حكمنا بالانحطاطِ، فالعقد، لم ينعقد على موجَب التلبيس، ولكن بان كذب البائع.
وقد ذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرَّجاً في خيار المشتري، وذلك أنه قال: من أصحابنا من قال: إن ظهرت الخيانةُ بإقرار البائع، فلا خيارَ للمشتري، وإن ظهرت الخيانةُ ببيّنةٍ، فله الخيار؛ فإن الإقرارَ يبيّن تندُّمَه على ما تقدَّم منه، ويثبت ثقة بقوله، بخلاف البيّنة.
وهذا لا حاصل له.
والفقهُ المطلوب في هذا أنَ توقع خيانةٍ أخرى يجري في الإقرار وقيام البيّنة.
ولكن إن تحقق المشتري مبلغَ الثمن، وأمِنَ من تقدير خيانةٍ، وذلكَ بأن يتذكَّر بنفسه ما وقع ذلك العقدُ الأول عليه، وكان شهدهُ وشاهَدهُ، ثم نسيَهُ. فإن كان كذلكَ، فالخيارُ مع الحطِّ لا متعلَّق له إلا الأغراضُ البعيدة التي أشرنا إليها، في الأَيْمان والوصايا، ولا اختصاص لها بغرض العقد، ويتعذر إثبات الخيار لها، وإن لم يتيقن المشتري زوالَ إمكان خيانةٍ أخرى، فيتعلَّق الخيار بالمعنيين المذكورين.
3218- وتمامُ الكلام في ذلكَ أنا إن حططنا من المشتري، ولم نخيّره أو خيَّرناه، فما اختار الفسخَ، بل أجازَ العقدَ، فهل يثبت للبائع الخيارُ؛ من جهة أنه طمِعَ في المبلغ الذي سقاه ثمناً ثم أخلف ظنُّه؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: أنهُ لا خيار له؛ لأنهُ لم يفُتْه حق مستحق بالعقد، ويبعد أن يصير تلبيسُه أو غلطُه سبباً لثبوت الخيار له.
والوجه الثاني- أنه يثبت الخيار له؛ لأن ذلك أمّلَه بأن يسقم له ما سمَّاه، ثم خاب ظنُّه. وهذا يقرب من الخيار الذي ذكرناه في بَيع الصُّبرة بالصُّبرةِ مُكايلة، حيث قال الشافعي: وللمنتقَص صُبرتُه الخيارُ؛ فإنه على ظنّه باستحقاق الصُبرة، ثم اقتضت المكايلةُ خروج بعضها عن الاستحقاق.
وهذا نجاز الكلام في الخيانة.
3219- فأمّا إذا باع الشيءَ مرابحةً، ثم بان أن ثمنَ العقدِ الأولِ كان أقلَّ، ولكن لم يعتمد البائعُ ذلك خائناً، بل أخطأ، فترتيبُ الكلامِ في قواعدِ الخلافِ والوفاقِ في الحطِّ والخيارِ كما تقدَّم في الخيانةِ، غيرَ أن الخَطأ قد يترتبُ على الخيانةِ، كما سنصفُ ذلك.
ففي الحَط أولاً قولان كالقولين في الخيانَةِ، ولا فرق. فإن حَططنا، ففي ثبوتِ الخيارِ للمشتري قولان مرتبان على القولين في نظير ذلك في الخيانة. وهذه الصورة-يعني صورةَ الغلط- أولى بألا يثبتَ الخيار فيها.
وكيفيّةُ الترتيب أنا إن لم نثبت الخيارَ في الخيانةِ بعد الحط، فلأن لا يثبتَ في صورةِ الغلطِ أولى. وإن قُلنا: يثبتُ الخيارُ بالخيانةِ، ففي صورةِ الغَلط قولان مبنيان على المعنيين؛ فإن ربطنا الخيارَ في الخيانة بزوال الأمن وتوقُّعِ مثلِ ما وقعَ، فلا خيار في الغلط. وإن ربطنا الخيار ثَمَّ بالأغراض التي ذكرناها، فهذا يتحقق في الغَلط أيضاً.
ولا نص للشافعي في صورة الخيانة، فإنه فرضَ كلامَه في الخطأ، ونصَّ على القولين في الحط. ثم ذكر النقَلةُ عنه قولين في ثبوت الخيار للمُشتري، فروى حرملَةُ أن الخيار لا يثبت. ورَوى المزني ثبوت الخيار، فذكر الأصحاب وجهين في الخيانة لمَّا لم يجدوا في تلك الصورةِ نصوص صاحب المذهب، واعتقدوا أن صورةَ الخيانة أولى بالخيار.
فإن قيل: كما يتوقع خيانةٌ بعد الخيانة الأولى، فكذلك يُتوقَّع غلطٌ بعد ظهور الغلط الأوّل، فما وجه البناء على المعنيين؟ قلنا: لا سواء، فالخيانةُ إذا ظهرت حطَّت الثقةَ، وسلبت الأمنَ، والغلط لا يُثبت مزيداً في توقع الغلط مرةً أخرى، بل توقُّعُه ثانياً على حسب توقعه أول مرَّة، وتوقُّع الخطأ أوّلَ مرةِ لا يُثبت الخيارَ.
وكلُّ ما ذكرناه فيه إذا فُرض كون الثمنِ المذكورِ في عقد المرابحة أقل مما كان في العقد الذي عليه البناءُ.
3220- فأما إذا قال البائع: قد غلطتُ إذ ذكرتُ المائةَ؛ فإني كنتُ اشتريتُ السلعةَ بمائةٍ وخمسين، فإن صدَّقه المشتري في ذلك، وثبت الغَلطُ بتوافُقِهما، فالذي ذكرهُ الجمهور من الأصحاب أنا نتبيّنُ فسخَ العقد من أصله. قالوا: وهذا يخالف بيانَ الغلط بالزيادة في الصورة المقدّمَة؛ فإن المذهب في تلك الصورة صحّةُ العقد، ولم يصر إلى فساده أحدٌ إلا صاحبُ التقريب؛ فإنه حكى قولاً غريبا كما مضى.
وكان شيخي يُنزل الغلطَ بالزيادةِ منزلةَ الغلط بالنقصان ويقول: كما أنَّ المائةَ ليست عبارةً عن تسعين، فليست عبارةً عن مائةٍ وخمسين، فإن كان التعويل على المسمَّى، فليصح في الموضعين. وإن كان التعويلُ على ما وقع عليه العقدُ الأول، فلا فرقَ بين الزيادة والنقصان.
وهذا قياسٌ متَّجهٌ. ولكن الذي ذكرهُ الأصحاب واتفق النقل فيهِ ما قدّمته.
والذي يمكن أن يقال في الفرق: أن الحطَّ من الثمن قد يُستَحق في بعض العقود إذا حُط الأرش، ولا يُتصوّرُ استحقاق زيادةٍ ملتحقةٍ بالعقدِ لم يجر لها ذكرٌ. نعم قد تفسد الأعواض في العقود التي لا تفسد بفساد أعواضها، فنحيدُ عن المسمّى رأساً، ونُثبتُ مهرَ المثل، وقيمةَ المثل. ثم قد يتفق ذلك زائداً أو ناقصاً.
وهذا فيه إذا اتفقا على الغلط بالنقصان.
3221- فأما إذا لم يعترف المشتري بما ادّعاه البائع، فقال البائع: قد كنت اشتريتُ بمائةٍ وخمسين، وغلطت بذكر المائة، فلا يُرجع إلى قول البائع. ولو أراد إقامَةَ البيّنةِ، لم تُسمَع بينتُه؛ فإن سماعَ البينةِ يترتبُ على صحة الدعوى. وقد ذكرنا أن دعواه مناقضةٌ لدعواه، فلا سبيل إلى تصحيحها. وإذا لم تصح، فسماع البينةِ يترتَّبُ على سماع الدعوى. فلو قال للمشتري: أنت تعلمُ أني غلطتُ، ونقصتُ الثمن، فاحلف أنك لا تعلم، فهل يحلف المشتري إذا استدعى ذلك البائعُ؟
ذكر صاحب التقريب وغيره وجهين مبنيّين على أصلٍ مشهورٍ في الدعاوى، وهو أن يمين الردِّ بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، أو تنزل منزلةَ البيّنة المقامة. وفيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي سيأتي ذكرُهما في كتاب الدعاوى.
قال: فإن قلنا يمين الرد ينزل منزلةَ البينة، فلا يحلف المشتري في الصورة التي ذكرناها؛ فإن غرضَهُ لا يتضح في تحليفه إلا بتقدير نكوله مع رد اليمين على البائع المستحلِف، وإلا فلا فائدةَ في تحليفه، فعلى هذا لا يحلف؛ لأنا جعلنا يمين الرد كالبيّنة، وقد ذكرنا أن بينته لا تسمع، فلا تحليفَ إذن.
وإن قلنا: يمينُ الرد بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، فاليمين معروضةٌ على المدعى عليه؛ فإن يمين الرد في عقباه كإقرار المدعَى عليه، ولو أقرّ المدعَى عليه، لثبت موجَبُ الغلط.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً فقال: إن باع بالمائة، ثم ادعى المائة والخمسين، وذكر الغلطَ مطلقاًً من غير ذكر سبب يقتضي الغلطَ، فدعواه مردودةٌ والمدعَى عليهِ لا يحلف. وإن ذكر سبباً لا يمتنع وقوعُ مثلهِ، مثل أن يقول: طالعتُ جريدتي، فغلطتُ من ثمنِ متاعٍ إلى ثمنِ آخر، وأخبرني من أثق به، فعوّلتُ على قوله، ثم تبينت خطأه، فما يقوله من هذه الأجناس ممكنٌ. وإن ذكر شيئاً منها، كان له تحليفَ المشتري، بخلاف ما إذا أطلقَ؛ فإن مطلقَ الدعوى مضادٌّ لصيغة البيع.
وإذا تَواردا على التضادّ، لم يُقبل أحدهما. وإذا ذكر عُذراً قَرُبَ قبولُ القولِ.
ثم لا خلاف أنا لا نقبل قول المدعي، بل فائدة ما ذكرناه تمكينُه من تحليف المشتري، وهذا الفصلُ اختيارُ أبي إسحاقَ المروزي.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من قطع القول بجواز تحليفه المشتري إذا ذكر السبب، وردَّ الوجهين إلى الإطلاق.
وهذا الآنَ فيه مزيدُ نظرٍ؛ فإنا إذا قطعنا القولَ بالتحليف، لزم أن تُسمع بيّنةُ المدعِي، فإنّ القطعَ بالتحليف يُثبت يمينَ الردَّ، ولا تثبتُ يمينُ الرد-مقطوعاً بها من غير خلاف- إلا حيث تُسمع البينةُ. وحيث ذكرنا خلافاً بنيناه على أن يمينَ الرَّدِّ كالبيِّنةِ أم هي كالإقرار. وفيه الخلافُ المقدَّم. وهذا بيّنٌ لمن تأَمَّله.