فصل: باب: بيع حَبل الحَبَلَةِ والملامسة والمنابذة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في تملك الكافر المسلم:

3349- وكفر الكافر لا ينافي ثبوتَ الملك له على العبد المسلم؛ فإنه لو ملك عبداً كافراً، فأسلم، لم ينقطع ملكه بإسلامه، بل هو مقَرٌّ على ملكه إلى أن يتفق بيعُه عليه. والكافر إذا كان في ملكه عبد مسلم على التقدير الذي ذكرناه، فإذا مات، ورثه وارثه الكافر، فلا يمتنع إذاً كونُ المسلمِ مملوكاً للكافر.
وإذا صادفنا ذلك، أمرناه بإزالةِ ملكه بهبةٍ أو ببيع أو عتقٍ، فإن أجاب، وإلا بعناه عليه بثمن المثل، فإن لم نجد راغباً يشتريه بثمنه في الحال، صبرنا إلى الوجود، وحُلنا بينه وبين السيد، ولا نبيعه بالغبن. ثم لا نعطّل منفعته في زمان التربص، بل نستكسبه. ونفقته واجبة على سيده الكافر.
ولو كاتبه كتابةً يصح مثلها، فهل يخرج عن عهدة المطالبة؟ فعلى وجهين:
أحدهما- أنه لا يخرج عن العهدة، لاستمرار ملكه على رقبة المكاتب، والمحذور دوامُ ملكه مع إمكان الإزالة، لا تسلطهُ بالاستخدام؛ إذْ لو كان المحذور ذلك، لأجبنا السيد الكافرَ إلى إبقاء ملكه عليه، مع إيقاع الحيلولة بينه وبينه.
والوجه الثاني- أنه يخرج بالكتابة عن عهدة المطالبة؛ لأن الكتابة تُثبت للعبد رتبة الاستقلال والانقطاعَ عن تحكم السيد. وهذا هو الغرض.
فإن اكتفينا بالكتابة، حكمنا بصحتها. وإن لم نكتف بالكتابة، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من أفسدها، وباع العبد، ومنهم من صححها وسلط الشرعَ على فسخها.
وكل ذلك إذا منعنا بيعَ المكاتَب. فإن جوزنا بيعَه كما سيأتي بيانُ ذلك، نفذنا الكتابة، وبعناه مكاتَباً. وتفصيل ذلك في الكتابة.
ولا خلاف أن الكافر لا يتخلص بالرهن والتزويج عن المطالبة.
هذا كلام في الملك الدائم للكافر على المسلم مع مطالبتهِ بإزالته.
3350- فأما إذا أراد الكافر أن يتملك عبداً مسلماً اختياراً بعقد يفيد الملك، مثل أن يشتري أو يتهب عبداً مسلماً، ففي صحة العقد وترتب ثبوت الملك عليه قولان مشهوران موجهان في الخلاف.
وإذا منعنا العقد وأفسدناه، فقد اختلف أصحابنا في مسائلَ نُرسلها، ثم ننظمها في ترتيب.
فإذا اشترى الكافرُ أباه المسلم أو ابنَه، والتفريع على فسادِ الابتياع، ففي ابتياع من يَعتِق عليه وجهان:
أحدهما: المنعُ، لاختيارِ الشراء. والعتق واقع بعد حصول الملك لو صححنا الشراء؛ فالوجه المنع ليطرد امتناع اختيار التملّك.
والثاني: يجوز توصّلاً إلى العتق. ومن صحح ذلك، زعم أن هذا العقدَ عقدُ عتاقة، وليس عقداً ينبغي به التملك والإنشاء، فالملك إذن يثبت ذريعة إلى العتق، لا مقصوداً. والدليل عليه أنه يصح من المسلم ابتياع والده، وإن كان لا يحل له إذلالُه. والردتى أعلى درجات الإذلال. فإذاً جاز على الجملة أن يشتري الولدُ والدَه باعتبار أن الرق غيرُ مقصودٍ فيه.
ومما ذُكر من هذا الجنس أن الكافر إذا قال لمسلم: أعتق عبدك هذا عني، فأعتقه عنه بعوضِ أو بغير عوض، ففي نفوذ العتق عن الكافر المستدعي خلافٌ، على مَنْعنا الكافرَ من شراء العبد المسلم، ووجه التجويز ما ذكرناه من أن العتق عنه وإن كان يفتقر إلى تقدير الملكِ له قبيل نفوذ العتق، فليس ذلك ملكَ قرار، ويتضح أن يقال: الممنوع اختيار الملك. والملك في هذا العقد، وفي الذي تقدم غير مختار، وإنما المقصود المختارُ العتقُ، فلم يكن الملكُ الحاصل في حكم الملكِ الدائم. وقد ذكرنا أنه غير ممتنع مع الكفر.
ومما ذكره الأصحاب أن الكافر لو قال: العبد الذي في يد فلانٍ المسلمِ قد أعتقه، فلو أن الكافر اشترى هذا العبدَ، فلو قدّرنا الصحةَ، لكان يعتِق عليه بحكم الإقرار السابق. فذكر الأصحاب وجهين في تصحيح ابتياعه، كما تقدم.
فهذا بيان المسائل، التي أطلقها الأصحاب. والوجه أن نرتبها.
3351- فنقول: أما شراؤه أباه المسلم، فعلى وجهين، وفي استدعائه إعتاقَ عبدٍ مسلم عنه وجهان، مرتبان على شراء الأب، وهذا أولى بالنفوذ من شراء الأب؛ فإن الملك لا يجري فيه إلا ضمناً مقدراً، وشراء الأب بيعٌ على حقيقة البياعاتِ، يُبطله التعليق بالإغرار، ويفسد بفساد العوض، حتى إذا فسد، فلا عتقَ. وهذا يشعر بأن الملك مقصودٌ فيه والعتقُ بعده، واستدعاء العتق يقبل التعليق. ولو ذكر عِوضٌ فاسد، نفذ العتق، ورجع إلى بدلٍ آخر، على قياسِ فساد البدلِ في الخلع، فاقتضى ذلك ترتيباً.
وأما مسألة الإقرار وبناء الشراء، فالأوجه فيها المنع؛ فإنه بيعٌ. والعتق إن حكم به فهو ظاهر، وليس كعتق الأب؛ فإنه واقعٌ تحقيقاً.
فهذا بيان هذه المسائل.
3352- ومما نفرعه على منع اختيار التملّك أن الكافر إذا باع عبداً مسلماً كان أسلم في يده أو ورثه، بثَوْبٍ، فلا شك في صحته. ولو وجد بالثوب الذي أخذه بدلاً عن العبد المسلم عيباً قديماً، فهل له ردُّه واسترداد العبد المسلم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: له ذلك؛ فإن الرد يَرِد على العقد، وارتداد العبد يترتب على انفساخ العقد، وله في رد الثوب غرضٌ سوى اختيار تملّك العبد، فلا يتجرد القصد إلى تملكه.
ومن الدليل على ذلك أن الفسوخ وإن تضمنت ترادّاً في العوضين، فإنها لا تنزل منزلة إنشاء العقود، بدليل أنه لا يترتب على الفسوخ حقُّ الشفعة، ولا يلحق الفسخ فسخٌ؛ إذ المقصود من الفسخ ردُّ الأمرِ إلى ما كان قبل العقد.
ومن أصحابنا من منع ذلك؛ فإنه يقتضي تملك العبد المسلم على سبيل الاختيار، وذلك ممتنعٌ.
هذا إذا أراد الكافر ردَّ عوض العبد المسلم.
فأما إذا وجد مشتري العبدِ المسلمِ به عيباً قديماً، فأراد ردّه، واسترداد الثمن، فقد قطع بعض المحققين بنفوذ الرد في هذا الطرف؛ من جهة أنه لا اختيارَ للكافر فيه، والعبد يرتد عليه من غير قصده.
وكان شيخي يطرد الخلافَ في الطرفين؛ فإنا كما نمنع الكافر من اختيار تملك عبد مسلم نمنع المسلم من اختيار تمليك كافرِ عبداً مسلماً؛ فليمتنع الرد على المسلم. ثم إذا امتنع الرد، فليكن رجوعه إلى أرش العيب القديم.
وما ذكرناه من الاختلاف في الرد في هذا الحكم يبتني على اختلافٍ في نظير ذلك: وهو أن من اشترى بعضاً ممن يعتق عليه، سرى عتقه إلى الباقي إذا كان موسراً. فلو فرض رد عوض واسترداد بعض من يعتق عليه في مقابلته، وهذا يفرض في المواريث بأن يرث الرجل عوض نصف أبيه، ويجد به عيباً، فإذا رده وارتد إليه نصف أبيه وعتق عليهِ، هل يسري العتق؟ فيه خلاف. وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى.
3353- ومما نفرعه على قول منع الشراء أن الكافر لو وكَّل مسلماً حتى يشتري له عبداً مسلماً، أو توكل عن مسلم حتى يشتري له عبداً مسلماً. فكيف السبيل؟
أما إذا وكَّل مسلماً حتى يشتري عبداً مسلماً، فلا يقع الملك للموكِّل قطعاً عندنا؛ فإن هذا مسلك لائح في قصد تملك العبد المسلم، وهو ممنوع منه، على القول الذي نفرع عليه. فالشراء ينفذ على الوكيل، ولا يتعداه إلى الموكِّل.
فأما إذا كان الكافرُ وكيلاً لمسلم في شراء عبد مسلم له، فإن سمى موكله، وصححنا البيع بصيغة السفارة، صح ذلك؛ فإن عُهدة العقد لا تتعلق بالسفير. فأما إذا أضاف العقدَ إلى نفسه، ونوى به موكِّلَه، ففي المسألة وجهان مبنيان على أن عهدة العقد تتعلق بالوكيل أم لا؟ على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الوكالة.
3354- وإذا اشترى الكافر عبداً مرتداً، ففي صحة الشراء على قولنا بمنع شراء المسلم وجهان، مبنيان على أن المرتد لو قتل ذمياً هل يُقتل به؟ وفيه خلاف سيأتي.
وأصل التردّدِ في ذلك مرتب على أن من الأصحاب من يرعى الكفر، ومنهم من يرعى تبقيةَ الإسلام في المرتد. وعليه يخرّج الخلاف في ولد المرتد من مرتدة، أو كافرة أصلية. فإن أثبتنا عُلقَةَ الإسلام في المرتد، حكمنا بإسلام ولده.
وسيأتي ذلك في أحكام المرتدين، إن شاء الله تعالى.
وإذا أسلمت أم ولد الكافر، فظاهر المذهب وهو المنصوص عليه أنه لا يجبر على إعتاقها، بل يحال بينه وبينها، وتستكسبُ، ويؤمر بالإنفاق عليها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجبر على إعتاقها. وهذا بعيد، ووجهه على بعده أنها مستحقة للعتاقة، فإذا طرأ الإسلام، أُمر بتحقيقه.
3355- وإذا اشترى الكافر عبداً كافراً، فأسلم في يد البائع، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ينفسخ البيع؛ لأن بطريان الإسلام يعسر القبض. وهذا بعيد؛ فإن الانفساخ يترتب على سبب لا يرجى زوالُه، كالتلف والضلال الذي لا يُرتقب بعده وجدان، وأُلحق به اختلاطُ المبيع بغير المبيع في قول، وزوال التعذر ممكن بفرض الإسلام من المشتري.
والوجه الثاني- أن البيع لا ينفسخ، ولكن اختلف أصحابنا على هذا الوجه.
فقال بعضهم: يقبضه المشتري، ثم يباع عليه، أو يبيعه بنفسه.
وقال آخرون: لا يقبضه كما لا يشتريه؛ فإن القبض أمر اختياري يؤثر في تأكيد الملك؛ فينبغي أن يمتنع. فالوجه أن يأمر القاضي من يقبضُ المبيعَ عنه، ثم يبيعه عليه.
ولا يخفى على هذا الوجه أن يتخير في فسخ البيع؛ فإن ما جرى من التعذر طارئاً لا ينقص عن إباق العبد قبل القبض. فهذا ما ذكره الأصحاب.
والمسألة تستدعي مزيد تفصيل عندنا: فإن كان البائع مسلماً، فالأمر كما ذكرناه.
وإن كان كافراً، فلو حكمنا بانفساخ العقد، لقلبناه من كافر إلى كافر، فلا ينقدح وجهُ الانفساخ إلا على بعد. وهو أن الانفساخ يقع قهرياً، وقد ثبت للكافر ملكٌ قهري، على المسلم. وهذا كلامٌ مطلق؛ فإنا حيث نثبت الملك القهري على المسلم، فسببه ضروريٌّ؛ فإن العبد إذا أسلم في يد الكافر، فلا سبيل إلى تخيره، والقضاءِ بانبتات مِلكه. وكذلك إذا فرض إرث؛ فقَطْعُ التوريث مستحيل. فأمّا فيما نحن فيه، فالمطلوب من الانفساخ رعايةُ حرمة الإسلام. وهذا المعنى لا يزول بالانفساخ.
3356- ومما يفرع على قول المنعِ أن الكافر لو ألزم ذمة المسلم بطريق الاستئجار عملاً، جاز ذلك؛ فإن الاستحقاق لا يتعلق بعين المسلم، وله أن يحصله بغيره.
وهل يستأجر الكافر عينَ المسلم على منع الشراء؟ وجهان:
أحدهما: لا يجوز ذلك، كما لا يشتري مسلماً.
والثاني: يجوز؛ لأن الإجارة لا تفيد ملكاً في الرقبة، ولا يتحقق بها الذِّلة. ولو كان فيها ذلةٌ، لما جاز استئجارُ الحر المسلم. ثم للإجارة منتهى محدود بخلاف الشراء.
فإن قلنا: تصح الإجارة، فهل يؤاجر عليه كما يباع عليه عبده المسلم؟ فعلى وجهين: وتوجيههما يقربان من توجيه الإجارة في الأصل.
وللمسلم أن يعير عبده المسلم من كافرٍ، وله أن يودعه عنده. وذكر الأئمة وجهين في منع ارتهانِ الكافر عبداً مسلماً. وهما قريبان من الخلافِ في الاستئجار الوارد على العين.
3357- وأجرى الأئمة قولين في شراء الكافر المصحفَ والدفاترَ التي فيها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرأَوا ترتيبَ القولين على القولين في شراء العبد المسلم، وزعموا أن شراء المصحف والكتاب المحترم أولى بالفساد من شراء العبد المسلم؛ من قِبَل أن العبدَ لو أهانه مولاه، تمكن من الاستعانة، ثم تمكُّنُه من هذا يزع مولاه من الإقدام على الاستهانةِ، والمصحف لو جوّزنا شرَاءه وقبضَه، فقد يستهين به المشتري، ولا يُطلع عليه.
فرع:
3358- إذا اشترى المسلم عبداً، فخرج كافراً، نُظر: فإن اشتراه في بلاد الإسلام، فله ردّه؛ فإن الكفر في العبيد نادرٌ في هذه الديار.
وإن اشترى عبداً في دار الحرب، فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يرده؛ فإن الرد بالعيب يبنى على ظن البراءة منه فإذا أخلفَ الظنُّ، ثبت الخيارُ.
ولا يغلب على الظن إسلامُ العبد في دار الحرب.
وكان شيخي يقول: يثبت الخيار؛ لأن الكفر عيب، فمهما اتفق الاطلاع عليه ثبت الخيار.
فصل:
3359- لو اشترى قطيعاً من الغنم مشار إليه كل رأسِ بدرهم، جاز وإن لم يكن عددُ الرؤوس معلوماً عنده حال العقد إذا أحاطت الإشارة بالقطيع. ومنع أبو حنيفة ذلك.
ولو قال: بعتُك عشرة أرؤس من هذا القطيع، لا يجوز؛ فإنها مختلفة، وإيراد العقد على هذَا الوجه مجهول، وليس كما لو اشترى آصعاً من صُبرة، ففيها التفاصيل المقدمة ولا خفاء بالفرق.
فصل:
3360- إذا وكَّل المسلم ذمياً بشراء خمر له، لم يصح، ولم تصر إذا اشتراها الذمي للمسلم بمثابة الخمرة المحترمة المتخذة لأجل الخل. وجوّز أبو حنيفة ذلك. وإن منعنا شراء الغائب، فوكَّل إنسان وكيلاً حتى يشهد شيئاً ويشتريه بعد المعاينة، صح الشراء للموكل؛ فإنه استعانَ بمعاينة الموكَّل، وأحلَّها محلَّ معاينة نفسه، وأجرى التوكيل فيها، فصح ذلك كما يصح التوكيل بأصل الشراء. وليس ذلك كالتوكيل بشراء الخمر؛ فإن الخمر ليست مالاً في اعتقاد الموكّل. والله أعلم.

.باب: بيع حَبل الحَبَلَةِ والملامسة والمنابذة:

3361- صدر الشافعي رحمة الله عليهِ البابَ بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع حَبَل الحبَلة".
وللحديث تأويلان:
أحدهما: أن يبيع الناقة بثمن مؤجل إلى نتاج نتاجها، ولا شك في فسادِ العقد، وسببه جهالة الأجلِ. والتأويل الثاني أن يبيع نتاجَ النتاج قبل أن يخلق. وهذا ممنوع، وهو المعتاد في العرب، وظاهر اللفظ أيضاً.
ومال الشافعي إلى التأويل الأول. واختار أبو عبيد التأويل الثاني. وقيل: فسر الراوي الخبر بمَا ذكره الشافعي وتفسير الراوي عنده مقدم.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين. فالملاقيح جمع الملقاح، وهو ما في أرحام الأمهاتِ، والمضامين ما في أصلاب الفحول.
3362- ومما ذكره الشافعي: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة " فأما الملامسة، فلها تأويلان:
أحدهما: أن يجعلا نفس اللمسِ بيعاً، فيقول صاحب الثوب لطالبه إذا لمست ثوبي، فهو مبيعٌ منك بكذا. هذا أحد التأويلين، ولا شك في فساد البيع عليه.
وقيل: الملامسة معناها أن يتبايعا سلعة في ظلمة الليل، وجعلا لمسها قاطعاً لخيار الرؤية، فيقيما اللمس مقامَ الرؤية. وهذا باطل؛ فإنا إن منعنا بيع مالم يره المشتري، فلا كلام. وإن صححنا بيع الغائب، فتعليق خيار الرؤية باللمسِ باطل. ويتطرق إلى هذا احتمال؛ من جهة أن من اشترى شيئاً على شرط قطع خيار الرؤية، ففي صحة العقد خلاف ذكرناه. فلا يمتنع تركُ هذا القول في الصورة التي ذكرناها.
3362/م- والمنابذة أن تنبذ الشيءَ إلى غيرك وينبذ الغيرُ إليك. ثم ينقدح لها التأويلان المذكوران في الملامسة. قال الأئمة: المنابذة في العوض والمعوّض مع القرينة الدالة على إرادة البيع هي المعاطاة بعينها.
فظاهر المذهب والنص أن المعاطاة لا تكون بيعاً، وإن اقترنت قرائن أحوال بها.
ولا بد من لفظٍ في العقد. وسأصف تفصيلاً في ألفاظ البيع في باب تجارة الوصي.
وقال أبو حنيفة: المعاطاة بيع من غير لفظ في المستحقراتِ، وذكر ابنُ سريج قولين في أن المعاطاة مع القرائن في إرادة البيع هل تكون بيعاً، وخرجهما على القولين في أن من ساق هدياً، فعطب في الطريق، فغمس نعله في دمه، وضرب به صفحة سنامه، فمن رأى تلك العلامةَ، هل يحل له الأكل منه؟ فعلى قولين. ولعلنا نعقد في قرائن الأحوال وآثارِها ومواقع الخلاف والوفاق فصلاً جامعاً، في آخر كتاب البيع إن شاء الله تعالى.
ومما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " بيع الحصاة". وله تأويلان:
أحدهما: أن يجعل رمي الحصاة بيعاً. وهذا فاسد. والآخر- أن يقول: بعتك ما يقع عليه حصاتك من هذه الأمتعة. وهذا فاسد. والثالث: أن يبيع من أرضٍ قدرَ ما يبلغه حصاة يرميها المشتري؛ فيكون المبيع من موقفه إلى منتهى الحصاة، وهذا فاسد أيضاً.
فصل:
قال: "ولا يجوز شراء الأعمى... إلى آخره".
3363- ما ذهب إليه جماهير الأصحابِ أن شراء الأعمى وبيعَه فاسدان.
وخرَّج بعضُ أصحابنا بيعه وشراءه على بيع ما لم يره البائع، وشراء ما لم يره المشتري. ثم من صحَّحه من الأعمى، فسبيل لزوم العقد عنده أن يوكّل من يرى له العينَ المشتراةَ، ثم إذا امتنع منه البيع والشراء، يجوز له أن يوكل في كل واحدٍ منهما بصيراً.
فإن كان بصيراً ورأى شيئاً، ثم كُفَّ بصره، فاشتراه، جاز ذلك إذا لم يتقادم الزمن، أو تقادم وكان الشيء ممّا يبعد تغيُّره، كالحديد والنحاس، وغيرهما.
وإذا اشترى شيئاً لم يره، ثم كُفَّ بصره قبل أن يراه. فمن أصحابنا من قال: ينفسخ البيع من قِبَل أنا أَيِسْنا من قرار العقد عند الرؤية.
وذكر الشيخ أبو علي ما هو أصلُ الفصل وبه يتبيّن مشكلُه، فقال: البصير إذا اشترى شيئاً لم يره، وصححنا العقد، فلو وكل وكيلاً وفوض الأمر إليه في الفسخ والإجازة عند الرؤية، قال: في صحة الوَكالة وجهان:
أحدهما: يصح، كتفويض الأمر في خيار العيب والخُلف.
والثاني: لا يصح؛ فإن الخيار ليس مربوطاً بغرضٍ، وإنما هو إلى إرادة من له الخيار، ولا تعقلُ النيابةُ إذا انتفى الغرضُ. قال: وهذا كما إذا أسلم كافر على عشر نسوة، وأسلمن، فإنه يختار أربعاً منهن. ولو وكل في هذا الاختيار، لم يجز.
ثم قال: إن صححنا التوكيلَ في خيار الرؤية فيبتنى عليه قياسُ شراء الأعمى على شراء الغائب من البصير. وإن لم نصحح التوكيلَ في خيار الرؤية من البصير، قطعنا بفساد شراء الأعمى؛ فإنه لو صح، لم يُفضِ إلى قرار.
وهذا الذي ذكره حسن. وفي التوكيل باختيار أربع نسوة أيضاً احتمال. ولكن حكى الوفاق.
وللأعمى أن يؤاجر نفسه، ويشتري نفسه من سيده للخلاص، كما له أن يقبل الكتابة إذا كاتبه مولاه.
3364- وأمّا عَقْدُ السلم، فقد استثناه الشافعي من شراء العين، وصححه من الأعمى التزاماً وإلزاماً.
قال المزني: ظني بلطف الشافعي أنه إنما يصحِّح السلم ممن كان بصيراً، وعاين ما لا تدرك حقيقته إلا بالعِيان كالألوانِ، وما في معانيها. فإذا طرأ العمى صَدَرَ وصفه عن علم.
فأما الأكمه، فلا علم معه بحقائق الأوصاف وإن كان يذكرها.
واختلف أصحابنا في التفصيل الذي ذكره المزني، فمنهم من وافقه ونزَّل نصَّ الشافعي عليه.
ومنهم من لم يفصل بين الأكمه ومن كان بصيراً عاقلاً ثم عمي، وصحح السلم مع العمى التزاماً وإلزاماً؛ فإن الأوصاف إذا كانت تجري من الأكمه على حد الإعلام، والإعلام هو المقصود، فعدم إحاطته بنفسه وقد جرى مسلكٌ في الإعلام غير ضائر.
وهو بمثابة توكيل الأعمى بصيراً وإقامتِه مقام نفسه.
3365- ومما يتعلق بحكم الأعمى أنه إذا أسلم وصححنا منه السَّلَم، وحان وقتُ القبض، فهل يصح منه القبض؟ قال معظم أئمتنا: قبضُه بمثابة شرائه عيناً؛ من جهة أنه يتعلق بمعيَّن، وهو لا يحيط به. وقد ذكرنا في شراء الأعمى تفصيلَ الأصحَاب.
ومن أصحابنا من رأى قبضَه بالصحة أولى. وفي المسألة احتمال.