فصل: باب: النهي عَن بيع الغُرورِ وثَمنِ عَسْبِ الفَحْلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: النهي عَن بيع الغُرورِ وثَمنِ عَسْبِ الفَحْلِ:

3324- ذكر الشافعي نَهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن عَسْبِ الفَحلِ، وذلك أن يستأجر فحلاً للضّرابِ بمال يبذله، فهو باطل، لأن المالَ إن بذل على مقابلة الماء، كان باطلاً؛ إذ لا قيمة له، وإن كان مبذولاً على مقابلة الضراب، فهو مجهول، وليس هو مما يقع على وجهٍ واحدٍ، وقد لا يقع، فكان في حكم ما يخرج عن مقدور تحصيله.
واستعارةُ الفحل للضراب مسوَّغةٌ، فإن الضراب والتسبب إليه ليس محرَّماً، والاستعارة لا تقتضي اجتنابَ الجهالة.
فصل:
3325- ذكر الشافعي نهي رسول الله عن بيع الغَرر، ثم عدَّ وجوهاً من الغَرر المفسدِ للبيع، ونحن نجري على ترتيبه فيها.
ومعنى الغَررِ ما ينطوي عن الإنسان عاقبتُه. ومنه أغرّ الثوب، فيقال: ردَّ الثوب إلى غَرِّه أي إلى طيّه الأول.
ثم لا يحرم كل غرر؛ إذ ما من عقدٍ إلا ويتطرَّق إليه نوع من الغرر وإن خفي.
وقد نص الشافعيُّ على الوجوه المؤثِّرة، فمما ذكره بيع الجمل الشارد، والعبد الآبق وهو باطل؛ فإن البيع يقتضي تسليمَ المعقود عليه، فينبغي أن يكون التسليم ممكناً، فإذا عُدَّ متعذّراً في العرف، قُضي ببطلان العقدِ، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وصفات العاقدين؛ فإذا أبقَ العبدُ وخفي مكانُه، فبيعه باطل، لما ذكرناه، ولا يشترط في الحكم بالبطلان اليأسُ من التسليم، بل يكتفَى بظهور التعذُر.
3326- وإذا باع عبداً مغصوباً، فهذا يختلف، فإن كان البائع يقدر على استرداده من الغاصب وتسليمه، صحّ البيعُ. وإن كان لا يقدر عليه لضعفه، واستظهار الغاصب بفضلِ قوته، فالبيع مردود.
ولو كان المشتري قادراً على أخذه من الغاصب، وكان البائع عاجزاً عنه، ففي صحَّة البيع خلاف بين الأصحاب: منهم من أفسده نظراً إلى عجز البائع؛ فإنه هو الذي يجب عليه التسليم، فإذا عجز عمَّا يجب عليه بحكم العقد، لم يصح، ومنهم من قال: يصح العقدُ، نظراً إلى قدرة المشتري على الوصول إلى حقه. وهذا هو الأصح.
ولكن إن علم المشتري حقيقةَ الحال، فلا خيارَ له، وإن جهل وظن أن المبيع في يد البائع، فله الخيار؛ فإن العقد لا يُلزمه تكلّفَ تحصيل المبيع.
ثم إذا شرع في العقد على علمٍ، وتوجَّه على البائع التسليمُ، فإذا عجز عنه، ولم يتمكن من تحصيله بنفسه، فيثبتُ الخيارُ أيضاً للمشتري، وإن شرع في العقد على علم. هذا هو الأصحّ.
فإن قيل: هذا يناقض ما ذكرتموه الآن من الفرق بين العلم والجهل؛ فإنكم أثبتم الخيار مع العلم أخيراً. قلنا: الفرق قائم؛ فإنه إذا كان جاهلاً، فعَلِم، تخيَّر، وإن لم يدخل وقتُ وجوبِ تسليم المبيع على التفصيل المقدم في أقوال البداية، وإذا شرع في العقد على علم، فلا خيارَ له ما لم يدخل وقتُ وجوب التسليم.
ويجوز تزويج الآبقة، وينفذ عتقُها؛ فإن التزويج والعتق لا يفتقران إلى تسليمٍ، حتى يُرعَى فيهما إمكان التسليم.
3327- ومما ذكره الشافعي من أنواع الغرر بيعُ الطائر في الهواء.
والتفصيل فيه أنه إذا لم يكن مملوكاً للبائع، فلا شكّ في فساد العقد، وإن كان مملوكاً للبائع، لكنه أفلت، وكان الوصول إليه متعذراً، فبيعُه فاسدٌ؛ لما قدمناه من فساد بيع ما لا يقدر على تسليمه.
وأما الحماماتُ التي تكون مملوكةً والتي تطير نهاراً وتأوِي إلى أوكارها ليلاً، فالمذهب صحة بيعها نهاراً؛ بناءً على عوْدِها الغالب، وهو كتصحيحنا بيعَ العبدِ الغائب الذي نرجو إيابه. وأبعد بعض أصحابنا، فمنع بيعها قبل أن تأوي؛ فإن عودها على حكم عادة والآفات كثيرةُ الطروق، ولا ثقة بما لا عقل له. والصحيح التصحيح.
ومما يذكر في ذلك، وبه تمام البيان أن الشيء الذي يتوصل إلى تسليمه، ولكن بعد تعذّرٍ وعُسرٍ ظاهرٍ، كالطَّائر في دار فيحاءَ متسعةِ الرقعة إذا لم يكن لها منفذ، فالوصول إليها مع تحمل العسر متصوّر، فإذا بيع ما وصفناه، ففي صحة البيع وجهان:
أحدهما: لا يصح، لتحقق التعذّر حالة العقد.
والثاني: أن البيع يصح لتحقق الإمكان، وإن كان مع عسرٍ بيّن، وهذا بمثابة تصحيح بيع العبد الآبق الغائب الذي هو على مسافةٍ بعيدةٍ من المشتري.
فرجع حاصل القول إلى أن التعذر إذا تحقق حالةَ العقد، ولم يكن التمكن موثوقاً به، فالبيع فاسد قطعاً، وإن كان التسليم ممكناً مع أدنى عُسر محتمل في العادة، فالبيع صحيح. وإن تحقق التعذر، ولكن كان التمكن موثوقاً به مع معاناة عُسر، ففي المسألة وجهان.
ومما ذكره الأصحاب بيعُ البرجِ وفيه الحمامات المملوكة. أما القول في الحمامات، فعلى ما فصّلناه، وبيع البرج صحيح، والتسليم فيه التخليةُ، وهل يتم التسليم في الحمامات إذا أَوَتْ إلى البرج بالتخليةِ تبعاً للبرج، والتفريع على أن لا يكفي في تسليم المنقولاتِ التخليةُ؟ في المسألة وجهانِ. وقد تقدَّم نظيرُهما في بيع الدار مع أقمشةٍ فيها.
وبيع النحل في الكُوَارَة جائز. وإن كانت خارجةً من الكُوَارَة، ولكنها تَؤوبُ في العادة، فالقول فيها كالقول في الحمامات الهادية.
3328- ومما يُذكر في ذلك بيعُ السمك في الماء. والتفصيل فيه كالتفصيل في الطير في الهواء. فإن لم يكن مملوكاً، فلا خفاءَ بفساد بيعه، ولو كان مملوكاً، فسبيل التفصيل ما مضى من كونه مقدوراً، أو غير مقدور.
وقد يتصل بذلك أن السمكة إن كانت مرئيةً تحت الماء الصافي، فتفصيل القول ما تقدَّم. وإن كانت غير مرئيَّةٍ، فينضم إلى ما ذكرناه القولُ في بيع ما لم يره المشتري.
وذكر أصحابنا طرقاً من الكلام في أن السمكة كيف تملك، وما وجه ثبوت اليد عليها؟ والقول في ذلك يتعلق بكتاب الصيد، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
فرع:
3329- من اصطاد سمكةَّ فَخرج من بطنها دُرَّةٌ، فإن كانت مثقوبةً، فهي لُقطةٌ؛ لقَطْعِنا بأنه لا يثقب الدرّةَ إلا مالكٌ. وإن كانت غير مثقوبة، فهي للصياد؛ لأنها بمثابة أجزاء السمكة في أنها مصادَفةٌ موجودة وليس عليها علامةُ ملك مالكٍ.
وإن قدِّر فيها ملكٌ، لم يبعُد تقدير الملك في السمكة أيضاً، بأن تفرض مُفلِتةً بعد القبض عليها.
ولو باع واحد تلك السمكة، وفي بطنها الدرَّة، لم يملك المشتري تلك الدرة؛ لأن حكم البيع أن يَرِدَ على أجزاءِ ما قُصدَ بالبيع، وليست الدرة من أجزائها، ولا فضلة منفوضة منها بخلاف البيضة في جوف الدجاجة، واللبن في ضرع الشاة.
فصل:
قال: "ومما يدخل في هذا المعنى أن يبيع الرجل عبداً لرجل... إلى آخره".
3330- ألحق الشافعيُّ بيع الرجل مالَ غيرهِ بالغرر الذي يجب اجتنابه، وغرض الفصل الكلامُ في وقف العقود.
وهو ثلاثة أصنافٍ عندي: أحدها: أن يبيع الرجل مال غيره بغير إذنٍ منه ولا ولايةٍ. والمنصوص عليه للشافعي في الجديد أن البيع باطل. ونص في القديم على أنه منعقدٌ ونفوذه موقوف على إجازة المالك، وهو مذهبُ أبي حنيفة.
ثم من مذهبه أن العقدَ إنما يقف إذا كان له مجيزٌ حالة الإنشاء، فلو باع الرجل مالَ طفل، فبلغ الطفل وأجازه، لم ينفذ العقدُ. نعم، يقف بيع مال الطفل على إجازة الوصي والولي والوالي العام، على حسب مراتبهم، والوقوف على إجازة من يملك الإنشاء منهم.
ولو باع الرجل مال غيره، ثم ملكه بعد ذلك العقد، لم ينفذ عند أبي حنيفة؛ فإنه لم يكن حالة العقدِ مالكاً للإجازة.
قال شيخي: إذا فرعنا على القديم، لم نخالف أبا حنيفة في هذه التفاصيل.
ومما نذكره تفريعاً على القديم أن أبا حنيفة قال: من اشترى شيئاً وقصد به شخصاً، لم يقف الشراء على إجازته، بل ينفذ على الذي تعاطى الشراء، وزعم أن الشراء إذا أمكن تنفيذه على الذي قال: اشتريت، فلا حاجة إلى وقفه على إجازة غيرِه.
وذكر بعض المحققين من أصحابنا أنا إذا وقفنا بيعَ مال الغير على إجازته، فيقف الشراء أيضاً على إجازَةِ من قصده المشتري؛ فإن التوكيل يجري في شقي العقد. ومن قُصد بالشراء ممن يصح منه التوكيل في تلك الحالة، فلا فرقَ بين الشراء والبيع.
هذا فيه إذا اشترى في الذمّة شيئاً، فأما إذا اشترى شيئاً بمال غيره، فهو بيعُ مال الغير بغير إذنهِ، فلا نشكُّ أنه يُخرَّج على القولين.
وإن فرَّعنا على الجديد وأبطلنا بيعَ مال الغير، فمن اشترى شيئاً في الذمّةِ، وقصد به غيرَه، فلا شك في نفوذ العقد على الذي باشر الشراء.
وإن قال: اشتَريتُ هذا العبدَ لفلانٍ، والتفريع على الجديد، فلا شك أن الشراء لا يقف على إجازة ذلك المسمَّى. ولكن في نفوذه على هذا المشتري، وقد سمَّى غيرَه وجهان:
أحدهما: أنه ينفذ عليه، وتلغو تسميتُه الغيرَ. والوجه الثاني- أنه يفسد العقد، ولا ينفذ على الذي تعاطى، ولا يقف على إجازة الذي سمى.
هذا الذي ذكرناه صنف واحد من الأصناف الثلاثة في الوقف.
والعراقيون لم يعرفوا القول القديم في هذا القسم، وقطعوا بالبطلان.
3331- فأما الصنف الثاني- فهو كبيع الرجل مالاً يحسبه لأبيه، ثم يَبين أن أباه قد مات وانتقل المال إليه ميراثاً، ففي صحة البيع ولزومِه قولان مشهوران نقلهما العراقيون، كما نقلهما المراوزةُ.
أما وجه قول التصحيح فلائح. وأما وجه قول الإفساد، فهو أن هذا العقدَ وإن كان منجَّزاً في صيغته فمحلّه التعليق، والتقدير فيه: إن مات أبي، فقد بعتك هذا العبدَ. وللشافعي في الجديد مرامزُ إلى القولين في هذا النوع.
3332- والصنف الثالث: من الوقف يداني الصنف الأول في وضعه، ولكن يمتاز عنه بما نصفه.
فإذا غصب الرجل أموالاً وباعها، وتصرَّف في أثمانها، وأوردَ العقودَ على العقود، وعَسُرَ المستدرَكُ، ولو نفذ المالكُ تلك العقود، لسلمت له تلك الأثمان بأرباحها. ولو كلّف نفسه تتبعَ تلك العقودِ، لشق عليه التدارك، ففي جواز تنفيذها قولان، نص عليهما في كتاب الغصوب، على ما سيأتي ذكرهما، إن شاء الله.
وإنما تمتاز هذه الحالة على القسم الأول بعسر التدارك، وطلبِ مصلحة المالك.
فهذا جوامع القول في الوقف.
3333- ثم وقف العقود يطّرد في كل عقد يقبل الاستنابة، كالبياعاتِ، والإجارات، والهبات، والعتق، والطلاق، والنكاح، وغيرها. والضابط ما ذكرناه من قبول الاستنابةِ. ثم إذا صحَّحنا العقدَ في القديم، نجَّزْنا صحّتَه، بَيْدَ أن الملك لا يحصل إلا عند الإجازة.
ولو وهب وأقبضَ، لم يحصل الملك، فإذا أجاز المالك، استعقبت الإجازةُ حصولَ الملك، ولم يتقدم الملك عليها تبيناً واستناداً.
هذا ما أراه وليس يخرج في هذا القول الغريب في أن الهبة إذا تأكّدت بالقبض، فيتبين أن الملك استند إلى حالة العقد. كما سيأتي في الهبات.
فصل:
قال: "ولو اشترى مائةَ ذراع من دَارٍ لم يجز... إلى آخره".
3334- مضمون الفصل مسائلُ، منها: أن يقول: بعتُك ذراعاً من هذه العَرْصة، فإن كانت معلومةً الدُّرعان، صح البيع، وكان الذراع بالإضافة إلى الدُّرعان بمثابة جزءٍ شائعٍ كالعُشرِ ونحوه، إلا أن يَعني بالذراع معيناً، لا على تأويل الإشاعَةِ، فلا يصح العقد حينئذٍ.
ولو اختلف البائع والمشتري، فقال المشتري: أردت جزءاً شائعاً فيها. وقال البائع: بل أردتَ ذراعاً معيناً، لا على مذهب الإشاعَة، بل نحوتَ بذكر الدار نحو قول القائل: بعتُ شاةً من القطيع.
فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن يقال: الظاهرُ حملُه على الإشاعة، ولا يقبل من البائع العدول عنه. ويجوز أن يقال: يقبلُ قولُه؛ فإن اللفظ الصريح في الإشاعة الجزءُ المنسوبُ إلى الكل، كالنصف والربع، وما في معناهما.
ولو كانت العرصة مجهولة الدُّرعان، فقال: بعتك منها ذرَاعاً، فالبيع مردود.
وليس كما لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت الصبرة مجهولة الصيعان؛ فإن البيع صحيح على ظاهر المذهب. والفرق أن الصُّبرةَ متساوية الأجزاء، بخلاف ذرعان الأرض؛ فإنها متفاوتة الأجزاء.
3335- ولو وقف على طرفِ الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقف قدمي في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول. فهذا إعلامٌ. وقد اختلف أصحابنا في صحة البيع تعويلاً عليه: فذهب الأكثرون إلى الصحة، ووجهه بيّن. وقال قائلون: لا يصح البيع؛ فإنه لا يدرى منتهى القدر المبيع حتى يُذرعَ. وهذا ساقطٌ لا أصل له.
ولو وقف في وسط الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقفي في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول، ولم يشر إلى الجهة التي يقع المبيع فيها، وكان موقفه محفوفاً بالأرضِ من قدامه، وورائه، فلا شك في فساد العقد.
ولو رسمَ في وسط الأرض مقداراً منها يحيط به خطوط هي أضلاع له. أَوْ رَسَم مقداراً على شكل التدوير، يحتوي عليه محيط الدائرة، وباعه، فإن كان قطرٌ منه ْيُتاخم الشارَع أو يتصل بملك المشتري، فالبيع صحيح.
وإن كان لا يتصل ذلك المقدار المعين بشارعٍ، ولا بملك المشتري نُظر: فإن قال: بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، صح، وثبت للمشتري حقُّ الممرِّ. وإن أطلق البيعَ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن مطلقَ البيع يقتضي حقَّ الممرّ في الذي لم يبعه.
والثاني: لا يقتضي الإطلاقُ ذلك.
فإن حكمنا بأن الإطلاقَ يقتضي حقَّ الممر، فالبيع صحيح. وإن قلنا: لا يقتضيه، ففي البيع وجهان: أصحهما- البطلان؛ لأنه لا ينتفع ببقعةٍ لا ممرَّ لها.
وكذلك اختلف أصحابنا فيه إذا باع الرجل بيتاً من داره، ولم يتعرض لإدخال حق الممر في العقد، ففي صحة البيع التفصيلُ الذي ذكرناه، بناءً على أن الإطلاق هل يقتضي حقَّ الممر.
ومما يتم به البيان أنه إذا عيّن مقداراً مشكَّلاً من وسط الأرض. وِقلنا: يثبت للمشتري حقُّ المرور، وكان الممرّ يُفرض من الجوانب؛ فالوجه إثباته من جميع الجوانب؛ إذ ليس جانب أولى من جانب. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نُثبت للمشتري في تلك القطعة ما كان ثابتاً للبائع قبل البيع، من حق الممر.
ولو قال بعتك هذه القطعةَ بحقوقها، فحق الممر من الجوانب يدخل في استحقاق المشتري، فكذلك المطلق عند هذا القائل محمول على ما يقتضيه إطلاق شرط الحقوق.
وإن كان الشكل المقدّر متاخماً للشارع، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يثبت للمشتري حق طروق الملك بل ممرُّه إلى صوب الشارع؛ والسبب فيه تنزيل العقد على موجب العرف، وليس من موجبه أن يتردد المشتري فيما أبقاه البائع لنفسه إذا كان طرف من المبيع متصلاً بالشارع.
ولو كان يتصل طرف من المبيع بملكِ المشتري، فالظاهِر أنه لا يملك طروقَ ملك البائع، بل ينزل العقدُ على اكتفاء المشتري بأن يوسع بالمبيع رَبْعَه والممر من ملكه القديم إلى ما اشتراه الآن.
فلو قال البائع في هذه الصورة الأخيرة بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، فالوجه أن يستحق المشتري طروقَ ملك البائع. وإذا كان مُطلقاً، فالظاهِر ما ذكرته. وفيه احتمال. والعلم عند الله تعالى.
ولو قال بعتك هذه القطعةَ، وكانت محفوفةً بما أبقاه لنفسه، وشرط في البيع ألا يكون له إلا ممرٌ واحد، فإن عيّنه، جاز. وإن أبهمه، فالوجه الحكم ببطلان العقد؛ فإن الجهالة في الحقوق مؤثرةٌ في العرف تأثيرَ الجهالة في المعقود عليه، فإنا لو لم نفعل هذا، وصححنا العقد، لكان بعده نزاعٌ في صوب الممر، وكنا لا ندري من المتبع. والعلم عند الله تعالى.
هذا تفصيل القول في أطرافِ هذا الفصل.
فصل:
3336- إذا أشارَ الرجل إلى قطعةٍ من الأرض وقال: بعتك هذه القطعةَ على أن تكسيرها مائةُ ذراع، فخرجت القطعةُ مائةً وخمسين، أو نقصت فخرجت خمسين، فإذا أخلف المقدار المشروط بالزيادة أو بالنقصان، ففي صحة البيع في الصورتين قولان:
أحدهما: أنه يصح تعويلاً على الإشارة، وخُلف الشرط في المقدار يقرب عند هذا القائل من خُلف الشرط في الصفة. ولو قال: بعتك هذا العبدَ على أنه تركي، فإذا هو من جنسٍ آخر، فالبيع صحيح.
والقول الثاني- أن البيع باطل، نظراً إلى لفظ العقد. ومقتضاه أن المبيع مائة، فإذا كان زائداً، لم يكن المقدارُ الزائد معنياً بالبيع، فكأن الصفقة اشتملت-من جهة أن
الإشارة احتوت على جميع الأرض واللفظُ اختص بالبعض- على مبيع وغير مبيع.
3337- وهذه المسألة تلتفت إلى أصولٍ وتتردّد بين قواعدَ، ونحن ننبه عليها.
فمنها أن من أشار إلى شاة وقال: بعتك هذه البقرة، فاللفظ يتضمن جنساً مخالفاً للمشار إليه، والإشارة مغنيةٌ عن ذكر الجنس؛ فإنه لو قال: بعتك هذا كفى ذلك.
وقد ظهر خلاف الأصحاب في صحة البيع: فمن اعتمد على الإشارة، صحح.
ومن اعتمد العبارة أفسد.
ومن الأصول التي تستند هذه المسألة إليه تفريق الصفقة، ولا يتحقق التحاقُ هذه المسألةِ بقاعدة التفريق إلا بعد تمييزها عن الخُلف في الصفات المشروطة.
فإذا قال: بعتك هذا العبدَ على أنه كاتب، فالكتابة لا تجوز أن تعتقد مورداً للبيع.
والمقدار يجوز أن يفردَ بالبيع ويقدَّرَ مورداً له، كالعبدين أحدهما مملوك للبائع والثاني مغصوب. والصورة التي نحن فيها ممتازةٌ عن قاعدة التفريق؛ من جهة اشتمال الإشارة على استغراق القطعة المعيّنة بالبيع، وليس في صيغة البيع جمع بين موجود ومعدوم؛ فنشأ الخلافُ في صحة البيع من جهة التردد بين هذه الجهات.
وإذا كنا نقول: الخُلف في الصفات في النكاح يوجب تخريج صحته على قولين؛ من جهة أن المقصود من النكاح على الجملة الصفاتُ، كما سيأتي، فالخُلف في المقدار في المبيع أَوْلى بالخلاف، والبيع أقبل للفساد بالشرط، والنكاح أبعد منه.
فالذي يقتضيه الترتيبُ بعد تمهيد ما ذكرناه ترتيبُ مسألتنا في الصحة والفساد على التفريق في الصفقة. وهذه المسألة أولى بالصحة.
وإن رتَّبناها على خُلف الصفاتِ في النكاح، فمسألتنا أولى بالفسادِ.
والذي به الفتوى صحةُّ البيع.
وذكر العراقيون هذه المسألةَ في الزيادة والنقصان، وحكموا بأن الساحة إذا نقصت عن المقدار المذكور، صح البيع قولاً واحداً. وإن زادت، ففي صحة البيع قولان.
ولا يكاد يظهر فرق بين النقصان والزيادة.
وطرد صَاحبُ التقريب وشيخي القولين في الصورتين.
وإذا ثبت أصلُ الكلام في الصّحة والفساد، فنحن نفرع صورة الزيادة، ثم نفرع صورة النقصان.
3338- فأما تفريع الزيادة: فإذا قال: بعتك هذه الأرضَ على أنها مائةُ ذراع، فخرجت عن المساحة مائةً وخمسين ذراعاً. فإن قلنا: بفسادِ العقد، فلا كلامَ. وإن قلنا: يصح العقدُ، لم يختلف الأصحاب في تخيّر البائع، ثم لا يخلو إما أن يفسخ، وإما أن يُجيز. فإن أجازَ العقدَ، فليس له مع الاختيارِ للإجازة مطالبةُ المشتري بشيء زائدٍ؛ فإنَّ قول التصحيح مأخوذ من اعتماد الإشارة والإشارة محيطةٌ بالأرض ولا سبيلَ إلى إلزام المشتري شيئاً لم يسمّ ثمناً. ولو أراد الفسخ، فله ذلك.
فلو قال المشتري: لا تفسخ العقدَ، حتى أزيدك ثمنَ الخمسين على نسبة الثمن المسمى. والمسألة مفروضة فيه إذا كانت الأرض لا تختلف قيمتها في تلك البقعة.
فلا سبيل إلى هذا. فإن ما يريدُ إثباته ثمناً في حُكم ملحقٍ بالعقد، والزيادة لا تلحق العقد عندنا في الثمن والمثمن.
ولو قال المشتري: لا تفسخ العقد، فإني أقنع من هذه الأرض بمقدار مائة ذراع، فقد ذكر صاحب التقريب قولين في المسألة:
أحدهما: أن الخيار يبطل، وينزل العقدُ على ذلك، ويجاب المشتري إلى ما يقول. وهذا هو الذي قطع به شيخي. والقول الثاني- أن البائع يبقى على تخيّره.
ووجه القول الأول زوالُ الغَبينَةِ عن البائع. ووجه القول الثاني أنه يقول: ثبوت حق المشتري على الشيوع يلحقَ ضرراً فيما يبقى لي. هذا ما ذكره صاحب التقريب.
والذي أراه أن تنزيلَ المبيع على مائةٍ شائعةٍ في المائة والخمسين لا وجه له، وهو مخالفٌ لموضوع العقد وصيغةِ اللفظ؛ فإن التعويل في التصحيح على الإشارة وموجبها الاحتواء. فإذا رددنا العقدَ إلى شائعٍ، فهذا في التحقيق تغيير لموجب العقد. ولو ساغ هذا النوع، لساغ أن يزيد المشتري في الثمن على حسب ما ذكرناه قبلُ؛ فلا وجه إذاً لهذا التغيير، وإن فرض الرضا به.
والوجه إفساد العقد، أو تصحيحه وإثبات الخيار للبائع؛ فإن فسخ، فذاك. وإن أجاز سلَّم جميع الأرض.
فإن قيل: هلا حققتم تنزيل العقد على بعض الأرض للمصلحة، والصفةُ بمثابة قسمةِ الأملاك المشتركة، مع العلم بأنه إذا أُفرزت حصة كل شريك، فليس ما يسلم لآحاد الشركاءِ على قياس الملك الذي كان قبلُ؟ قلنا: لهذا قُدِّرت القسمةُ بيعاً على الأصح. وبالجملة ليس ما نحن فيه من ذاك بسبيل. نعم إن كان يناظر شيئاً، فهو قريبُ الشبه مما مهدناه من غرامات الأروش القديمة والحادثة. ولكن كان يجب أن يجوزَ بذل مزيدٍ من الثمن على مقابلةِ الزيادة، ولم أرَ أحداً من الأصحاب يسوّغ ذلك.
فهذا وجهُ التنبيه على مجاري الكلام في المسألة نقلاً واحتمالاً.
وهذا كله إذا زادت الأرض.
3339- فأما إذا نقصت الأرضُ عن المقدار المذكور، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلامَ، وإن حكَمنا بصحته، فلا خيارَ للبائع، وللمشتري الخيارُ في فسخ البيع.
وتعليله بيّن. فلو قال البائع: لا تفسخ البيع، وأنا أحط عنك من الثمن مقدار النقصان، فلا يسقط خيار المشتري بهذا.
والدليل عليه أن الصفقة إذا جمعت عبداً مملوكاً وآخر مغصوباً، وحكمنا بالصحة، وأثبتنا الخيار للمشتري، فخياره ثابت، سواء قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك منهما بقسط من الثمن. أو قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك بتمام الثمن.
ثم المشتري لا يخلو: إما أن يجيز العقد وإما أن يفسخه. فإن فسخه، فلا كلام. وإن أجازه فبكم يجيزه؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يجيزه بتمام الثمن.
والثاني: أنه يجيزه بقسط من الثمن. والقولان في هذا مرتبان على نظيرهما في تفريق الصفقة.
والأوْلى في التفريق الإجازةُ في المملوك بالبعض. وهذه الصورة أوْلى بالإجازة بجميع الثمن؛ من جهةِ احتواء الإشارة، واستناد صحة العقد إليها، كما تقدم. وحق الفرع أن يُلاحَظ أصلُه. وأيضاً يكاد المقدار على قولي التصحيح مع تغليب الإشارة يضاهي صفة المبيع.
فهذا مجموع القول في ذلك تأصيلاً وتفريعاً.
فصل:
3340- إذا باع الرجل ذراعاً من كرباس، فهو كما لو باع ذراعاً من أرضٍ إن أرادَ الإشاعة، والتفصيل في عدد الذُّرعان إذا كانت مجهولة أو معلومة كما مضى في الأرض حرفاً حرفاً. وإن أراد ذراعاً لا على مذهب الإشاعة، فهو على الفساد، كما ذكرناه في الأرض.
وغرض هذا الفصل أنه لو اشترى ذراعاً معيّناً من أحد طرفي الثوب على أن يقطعه ويَفْصله، فالأصل المرجوع إليه في ذلك أن القطعَ إن كان يُحدث نقصاً فيما يبقى للبائع يُحتَفل بمثله، فالذي ذكره الأصحاب بطلان البيع في هذه الصورة، ولم يُشبِّب أحد بالخلاف وإن رضي البائع بالتزام النقص. ثم ذكروا لذلك صوراً:
منها- أن يشتري نصفاً من فصل على التعيين وشَرْطِ الفصلِ. ومنها أن يشتريَ ذراعاً من ثوب نفيسٍ يَنقُصه التفصيل والقطع.
وإن كان القطع لا يَنْقُص نقصاً يعتبر مثله أو يؤثر، كالكرباس الصفيق، ففي صحة البيع وجهان:
أحدهما: الصحة.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يخلو من تأثيرٍ، وتغييرٍ فيما ليس مبيعاً. وقيل: هذا اختيارُ صَاحب التلخيص.
وإذا باع جزءاً معيناً من خشبة على حكم التفصيل، فيختلف ذلك باختلافِ الصور. فإن كانت الخشبة تُعنى لطولها ولو قُطعت، ظهر نقصان القيمة، فهذا يلتحق بصور القطع بفساد البيع. وإن كانت لا تعنى لطولها ولا يظهر بسبب القطع نقصان قيمتها، فهذا يلتحق بصور الوجهين.
وفي القلب من القطع بفساد البيع في صورة التأثير البيّن شي. ولكن الممكن فيه، أنا لو صححنا العقد، وألزمنا البائع القطعَ، كان بعيداً؛ لأن هذا إلزامُ تنقيصٍ فيما ليس مبيعاً. وإن لم نُلزمه، فالحكم بصحة العقد-وليس على البائع الوفاءُ بالتسليم- محالٌ. فهذا تعليل الفساد على حسب الإمكان.
والصور التي لم أذكرها تخرّج على ما ذكرناها، وتنقسم انقسامها.
فصل:
قال: "ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، لأنه مجهول... إلى آخره "
3341- اتفق أئمتنا على منع بيع اللبن في الضرع، والعلّةُ السليمة أنّ اللبن يتزايد على ممر اللحظات، سيّما إذا أُخذ في احتلابه فلا يتأتى تسليم المبيع الكائن حالة العقد.
وتعرّض الشافعي لتعليل منع البيع بكونه مجهولاً، وهذا يهون تقريره؛ فإن الضروع مختلفةٌ: فمنها ضرع سمين مكتنزٌ ضيقُ المنافذ، يقل ما يحويه من اللبن.
ومنه ضرع متسع المنافذ، غير مكتنز، يكثر ما يحويه من اللبن، فَضِمْن الضرع مجهول. والمس من ظاهره لا يفيد علماً بمقدار اللبن وهذا تقريره هيِّن. ولكن يرد عليه أن يُخرَّج على بيع الغائب؛ فإنا على قول تجويزه نجوّز بيعَ الشيء في ظرفٍ مع الجهل بصفته وقدره، فالأولى أن تستعمل الجهالة في مقدار المبيع على معنى أنه لا يتأتى التسليم غير ممتزج، فاستعمال الجهالة على هذا منساغ؛ ولا يلزم تخريجُ المسألة على بيع الغائب.
وإن حلب قدراً من اللبن، فأبداه نموذجاً، وقال للطالب: بعتك من هذا اللبن الذي في الضرع، فقد ذكر الأئمةُ وجهين في أن هذا هل يكون سبيلاً يتوصّل به إلى تصحيح البيع.
وهذا يحتاج إلى فضل نظرٍ: فإن باع مقداراً لا يتأتى حلبه إلا ويتزايد اللبن مع حلبه، فلا ينفع إبداء النموذج؛ فإن المانع قائم. وذكْرُ الوجهين مطلقاً يشير إلى أن المحذور-حيث لا نموذج- عدمُ الرؤية أو عدمُ الإحاطة بالصفة. ومن سلك هذا المسلك يلزمه التخريج على بيع الغائب.
وكان شيخي يتأنق في التصوير، ويفرضُ بيعَ مقدارٍ إذا ابتدر حلبه واللبن على كمال دِرّته لم يظهر اختلاطُ شيء له قدرٌ به مبالاة. وإن فرض شيء على بُعدٍ، فمثله محتمل، كما إذا باع جِزةً من قُرْط.
فإذا قلّ مقدارُ المبيع وتُصوّر بالصورة التي ذكرناها، وفرض إبداءُ النموذج، فينقدح ذكر خلافٍ هاهنا؛ فإن هذا المقدارَ يُمثل ببيع جِزَّةٍ من قُرطٍ يبتدر جزها. وإذا كثر المقدار، كان مشبَّهاً ببيع ما يتزايد على شرط التبقية؛ فإن الحلب وإن ابتُدر إذا كثر القدرُ، ظهر التزايد؛ فإنّ سبيل تزايد اللبن من منافذه كسبيل بيع الماء من عيون البئر.
والجَمةُ إذا كملت لا تزيد، وإذا أخذ في نزحها، فارت العيون.
ومن حقيقة هذا الفصل أن الخلاف إذا رد إلى تعليل المقدار، فلا حاجة إلى ذكر النموذج في التخريج على الخلاف.
وحاصل القول: أنه إذا ظهر الزائد والاختلاطُ، امتنع البيع قولاً واحداً. وامتاز اللبن في الضرع في هذه الصورة عن قاعدة بيع الغائب بما ذكرناه من الاختلاط.
وإن قل المقدار وكان الاختلاط فيه غيرَ معتد به، فمن أصحابنا من يرى إلحاقَ هذا ببيع الغائب، وقد تقدم التفصيل فيه، والنموذج من أطرافِ تفريعه.
ومنهم من حسم الباب ورأى إلحاق القليل بالكثير؛ فإنه لا ضبط للقدر الذي يقال فيه: إنه مبيع خالصٌ غيرُ مختلطٍ؛ فالوجه حسم الباب بالمنع.
هذا تحقيق المذهبِ.
3342- وذكر بعض أصحابنا لمَّا جرى ذكرُ النموذج فصلاً فيه، لا اختصاص له باللبن. وهو أن من أبدى نموذجاً من لبنٍ، أو حنطة، أو غيرِهما وأراه الطالبَ، وقال: التزمت لك على هذه الصفة كذا رَطلاً، فقبله الطالبُ ونقدَ الثمنَ، فهل يكون هذا سلَماً صحيحاً؟ وهل يجري إبداء النموذج مجرى استقصاءِ الوصف؟ كان شيخي يقطع بأن هذا لا يصح، ويخرّجه على أن التعويلَ فيه على التعيين، والنموذج يُعرَّض للضياع، فقد يجرّ التعيينُ عليه خبالاً. وهذا ممتنع في السلم.
وقال طوائفُ من المحققين: لفظُ الأنموذج لا يكفي من غير تدبّر، وإن كان يُكتفَى باللحظ في بيع العِيان؛ فإن الملحوظ إذا كان هو المسلَم، لم يعد مجهولاً. وإن كان الملحوظُ عِبرةً لموصوفٍ في الذمةِ، ثم لم يتأمَّل، عُدَّ الثابتُ في الذمة مجهولاً. وإن تأمّل العاقدُ النموذجَ وضبط أوصافَه على وجهٍ لو فات، لاستقل بتلك الأوصاف.
قالوا: إن كان كذلك، انعقد، وكان ما جاء به وصفاً كافياً. وهذا حسن.
وامتنع شيخي منه، وقال: السلم يعتمد الأوصاف المذكورة، والإحاطةُ بالأوصاف لم يجر ذكرها.
فصل:
3343- منع الأصحاب بيعَ الصوف على ظهر الغنم؛ لأن مطلقَ البيع يتناول الصوفَ إلى الأصل المتصل بظاهِر الجلد. وتسليمُه على هذا الوجه ممتنع؛ فإن فيه إن قصده القاصد تعذيبَ الحيوان، على أنه مع الإيلام غيرُ ممكنٍ، ولا عادةَ في بيعِ الصوفِ على الغنم، حتى ينزل ذلك على المعتادِ في مثله.
فإن قيل: في الجزّ عادةٌ فلُينزَّل عليها البيعُ. قلنا: ليس في الجزِّ عادةٌ مضبوطة، بل الأمر يتفاوت. ومن يجز غنم نفسه لا يبالي بتفاوته. فإذا رُدّ الأمرُ إلى البيع، أثار ذلك تنافياً.
ولو أشار إلى كتلة من الصوف، وأعلم على موضعها، وباع ذلك المقدار، لم يمتنع بيعُها، وليس كالقصيل والفث؛ فإن استيعابه ممكن بالقطع.
فصل:
قال: "ولا يجوز بيعُ المسك في فأرة... إلى آخره".
3344- الفأرة تنفصل عن الظبية خِلقةً، وحشوها المسك. وهذا مخصوصٌ بذلك الجنس، وهي على موضع السرة منها. والرب تعالى يربّي في كل سنة فأرةً وينميها، وتُلفَى ملتحمةً ثم تستشعر أطرافها قشفاً، ويُبْساً، واحتكاكاً فتحتك الظبيةُ بالصرار، والمواضع الخشنة، فتسقط الفارةُ وحشوها المسك. وقد يقطرُ في احتكاكِهَا المسك أيضاً كالدم العبيط، فَيتبَع ويُلْقَط. هذه صورة الفأرة. ولا يكون فيها فتق إلا أن يلحقها خَرق، وقد تُفْتَق الفأرةُ، ويخرج مسكها، ويعاد مع أمثاله ويخاطُ موضع الفتق.
فإن كانت الفأرة على الفطرة الأصلية، فهي في الصورة، كالجوزة وحشوُها اللّب المقصود. وإن فُتقت وأعيد المسك إليها بعد الإخراج منها، فالفأرةُ على صورة الظرف.
هذا بيان الصورة.
وأما الحكمُ، فنذكر المذهبَ في الفأرة التي لم تفتق، ثم نذكر التفصيل في المفتوق.
3345- فأمّا التي لم تفتق، فقد ذهب صاحب التقريب إلى أنها كالجوزة، فإذا بيعت مع قشرتها، نفذ البيع قولاً واحداً، نَفاذَ بيع الجوزة؛ فإن الفأرةَ صوانُ المسك، والحاجة إلى صوان المسك ماسة ظاهرة؛ فإن الهواء يخطَفُ ما يلقُط منها ويغيّر رائحتَها. وليس الصوان المخلوقُ كالمفتوق والمخيط. فإن كان في حشو الفأرة جهالة، فهي محتملة عند الحاجة؛ إذ يُفرض مثل ذلك في لب الجوز والرانج وغيرهما.
وقال طوائفُ من أئمتنا: الفأرة غيرُ المفتوقة ليست كالجوزة؛ فإن حشوَ الفأرة يختلف اختلافاً بيناً على نفاسته وعِظم خطره. وإذا أخرج المسكُ من فأرة، أمكن صونُه بالرد، أو بالظروف المصممة. وليس كاللبوب؛ فإنه لا يَسُدّ ظرفٌ في صونها مسدَّ قشورها. وإذا تبيَّن مفارقتُها للجوز وما في معناها. فقد قال بعض أصحابنا على هذه الطريقة: البيع فاسد لاستتارِ المبيع بما ليس من صلاحه.
والوجه عندنا تخريج البيع على بيع الغائب؛ فإن بيع المسك في فأرة مع فأرة لا يزيد على بيع الثوب في الكتم. فإن كان ما ذكره الأصحاب جواباً عن منع بيع الغائب، فصحيح. وإن كان قطعاً بفسادِ البيع والتزاماً للفرق بين هذا وبين بيع الغائب، فهذا لا سبيل إليه.
وهذا كله في الفأرة التي لم تفتق.
3346- وتمام بيان القول فيها يستدعي شرحَ شيءٍ آخر.
وهو أن الأكثرين من الأئمة ذهبوا إلى أن الفأرة طاهرة. وقال قائلون: إنها نجسة؛ فإنها بانت من حيٍّ، وما يبين من الحي، فهو ميت. وهذا وإن كان ظاهِراً، فلا حقيقة له لإطباق الخلق أولاً على خلاف ذلك. ثم ما ذكرناه من تصدير الفصل بالتصوير يبيِّن أن ما ينمو ويسقط يضاهي البيضةَ التي تنفصل من الدجاجة، فهي طاهرةُ العين، وإن كان نموها في الحيوان. وقد يقول من يحكم بنجاسة الفأرة: البيضةُ لا تتصل بالدجاجة قط اتصال التحام، إنما يخلقها الباري مودعة في البطن، والفأرة تكون ملتحمةً، ثم تسقط.
هذا سبب الخلاف.
فكأَنَّ ما يقطع من الحيوان أو يسقط على ندور يحكم بنجاسته. وما يُخلَق مودَعاً، وينفصلُ إذا تكامل خلقُه لا نحكم بنجاسته كالبيض. وما يخلق ملتحماً، وهو إلى السقوط، فليس عضواً أصلياً، فيتردَّدُ وجهُ الرأي فيه.
فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فبيعها صحيح، كما يصح بيعُ البيضة.
واختلافُ الأصحاب في نجاسةِ ظاهر البيضة أخذاً من ملاقاتها الرطوبةَ النجسة في داخل المنفذ لا يؤثر في منع البيع؛ فإن المانع من البيع نجاسةُ الأعيان، لا النجاسات المجاورة لها.
فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فالأمر في البيع كما مضى. وإن حكمنا بنجاستها، فالمسك في حشوها طاهرٌ وِفاقاً، وكان أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة: "طيبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحُرْمِه حين أحرم، فرأيتُ وبيص المسك في مفارقه بعد ثلاث".
فإذا باع الفأرة والمسك الذي فيها، فينتظم إلى ما ذكرناه من خبطِ الأصحاب في الجهالة، أن الصفقة جمعت نجساً لا يجوز بيعه وطاهراً، فيتولّج في المسألة تفاريعُ تفريق الصفقة.
3347- فأما إذا فتقت الفأرة ورُدّ المسكُ إليها، فلا كلام في بيع المسك فيها دونها ومعها، كالإعلام في بيع السمن في البُسْتوقة. وقد مضى ذلك مستقصىً.
وبيع اللبوب دون قشورها باطل وإن أجزنا بيع الغائب؛ فإنه لا يتوصل إلى تسليمها إلا بكسر القشور، وهو من باب تغيير عيْن المبيع لأجل تسليم المبيع. وقد ذكرنا تمهيد هذا الأصل في اقتضاء الفساد، وقد يخطر من طريق الاحتمال مع القطع في النقل أن صحة القشور ليست مطلوبة واللب للغير. ولكن الأمر على ما ذكرناه.
3348- وفي بيع بيض ما لا يؤكل لحمُه وجهان مخرجان على الطهارة والنجاسة.
والخلاف في طهارة بيض ما لا يؤكل لحمه يخرّج على الخلاف في منيّ الحيوان الطاهر العين، المحرَّمِ اللحم.
وفي بيع بِزْر دود القز وجهان؛ فإنه من الدود كالبيض من الطائر. و في بيع القز وفي أدراجه الدودُ الميتةُ تفصيل. فإنْ بيع جزافاً، جاز؛ تعويلاً على الإشارة.
وإن بيع وزناً، لم يجز؛ فإنّ الدّودَ لا يقصد بالوزن، والقزُّ المقصودُ بالوزن يكون مجهولاً بسبب الدود.