فصل: باب: النفقة على الأقارب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: النفقة على الأقارب:

قال الشافعي: "في كتاب الله تعالى وسنة رسوله... إلى آخره".
10181- نفقة القرابة ثابتة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وروى أبو هريرة: "أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر. فقال: أنفقه على ولدك، فقال معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على خادمك، فقال: معي آخر، فقال: افعل ما شئت " قال أبو هريرة: "ولدك يقول: أنفق عليّ، إلى من تكلني؟ وزوجتك تقول: أنفق عليّ أو طلقني، ويقول خادمك: أنفق
عليّ أو بعني " ثم كان يقول: هذا من كَيْس أبي هريرة، وقال رسول الله صلى الله عليه لهندٍ: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
وأجمع المسلمون على ثبوت نفقة القرابة.
ثم القرابة المقتضية للنفقة عند توافي الشرائط المرعية في وجوب النفقة هي البعضية عندنا على القُرب والبعد، فتستوجب على الموسر-على ما سنصفه إن شاء الله- نفقةَ بعضه: دنا أو بَعُدَ، وتستوجب نفقةَ أهله: دنا أو بعد، ولا نظر مع قيام البعضية إلى اختلاف الدِّين، فيجب على الإنسان نفقة قريبه إذا كانت قرابتهما بعضية سواء كانا على دين واحد أو اختلف الدِّين بينهما، ولا يعتبر في استحقاق أصل القرابة الإرث، وإن كنا قد نرعاه في التفصيل وفي التقديم، على خلافٍ للأصحاب مشهور سيأتي، إن شاء الله: فتثبت نفقة أبي الأم، وبنت البنت مع انتفاء الإرث.
وأبو حنيفة جعل الاستحقاق باجتماع الرحم والمحرمية ولم يخصصه بالبعضية، ثم شرط في ثبوت النفقة بالقرابة التي ليست بعضية الاتفاق في الدين، ولم يشترط الاتفاق في الدين بين شخصين بينهما بعضية.
فهذا هو الأصل.
10182- ثم إذا أوجبنا نفقةَ الابن الصغير على الأب، فيشترط كونُ الابن معسراً، حتى لو كان في ملكه ما ينفق عليه، لم تجب نفقتُه على أبيه، ولا يشترط أن يكون عاجزاً عن الكسب، بل اتفق الأصحاب على أن استكسابه وإن كان يَرُدّ مقدارَ نفقته، فعلى الأب الإنفاقُ عليه.
وينشأ من هذا أصلٌ قد ينسلّ عن فكر الفقيه القيّاس، وبانسلال أمثالها تُظلِمُ أرجاء مسالك الفقه، وذلك أن الأب إليه استصلاحُ ولده، فلو رأى أن يحمله على الكسب، لم يبعد في النظر أن يجوز له، ولو جُوّز له ذلك، ففيه إسقاط النفقة معه، ولا ينتظم مع هذا إطلاقُ القول بأن النفقةَ تجب على الأب وإن كان الصبي المراهق كسوباً فكيف التصرف في هذا؟.
أولاً- لا خلاف أن الأب لو أراد أن يعلّمه بعض الحرف لاستصلاح معاشه والنظرِ في عاقبة أمره، فله ذلك، وإذا علّمه حرفة، فكيف ينتظم في النظر له تعطيلها؟ وقد ينساها إذا تركها؟ وإذا كان يتجه هذا الرأي وإعمالُه، فأيُّ معنى لإحباط منفعته؟ وإذا تجمع مما ذكرناه أنه يحمله على الاكتساب، فكيف يتسق مع هذا إيجاب النفقة على الأب للابن المحترف؟ ولو عمل، لرَدَّ بيومٍ قوت أيام.
هذا وجه التنبيه على غامضة يجب إنعام الفكر فيها، وقد رأيت لبعض الأصحاب أنه ليس للأب أن يجشم ولده الكسب، وهذا غفلة عظيمة. نعم، لا يمتنع في
هذا تفصيلٌ فيقال: إن كان يليق بذلك الولد حفظ المروءة ولو استكسبه الأب لغضَّ ذلك من قدره، وصارت عبرة لا تنسى على طول عمره، فليس من النظر له الاستكسابُ، ويجوز أن يقال: ليس من النظر لمثله أن يعلّمَ الحرفَ.
وأما إذا كان يليق به وببنيته الاستكسابُ، فلا وجه لمنع الأب من استكسابه، وعلى الجملة لا يَخْرجُ الاستكساب في بعض الأشخاص والأحوال عن كونه وجهاً من وجوه النظر، ولكن يبقى ما اتفق الأصحاب عليه من وجوب نفقته على الأب مع كونه كسوباً.
وأثره يظهر فيما نصفه، وهو أن الصغير إذا عطّل الكسب يوماًً وغيب وجهه عن أبيه، أو لم يُطعه جمع تكليفه، ولما جاع، عاد طالباً للنفقة، فعلى الأب الموسر الإنفاقُ عليه، والابن البالغ قد يشترط في استحقاقه النففة ألا يكون كسوباً، حتى لو اقتدر على الكسب وعطله لم يستحق النفقة.
هذا طرف من الكلام في نفقة الصغير.
10183- وأما الابن البالغ، فيشترط في استحقاقه النفقة على أبيه كونُه فاقداً لما ينفقه، وهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يشترط ذلك، ويستحق النفقة على أبيه الموسر، وإن كان كسوباً، كما ذكرناه في المراهق، وجه هذا القول أن الغرض في إيجاب النفقة كفُّ الضرار، وتكلفُ الكسب وتحصيلُ القوت بالكدّ مضرٌّ مع اتساع مال الوالد، ومبنى الإنفاق على الإرفاق.
والقول الثاني- أنه لا يستحق النفقة إذا كان قادراً على كسبٍ يردّ قوتَه؛ فإنّ استحقاق النفقة يتعلق بالحاجة، كاستحقاق سهم المساكين في الزكاة، ثم كون الشخص كسوباً يخرجه عن استحقاق سهم المسكنة، فليخرجه عن استحقاق النفقة، وهذا القائل ينفصل عن المراهق، ويقول: إلزامه شرعاً ولا تعلق للتكليف به بعيد، ومعاقبتُه بقطع الإنفاق إذا لم يكتسب بعيدٌ، والبالغ العاقل معرض لتوجيه الأمر عليه أولاً، ومعاقبتُه بقطع النفقة عنه إذا لم يمتثل الأمر آخراً.
وللقائل الأول أن ينفصل عن سهم المسكنة، ويقول: ذلك مخصوص بذوي الحاجات الحاقة، ولو شاركهم في ذلك المكتسبون، لتقاعد سداد الحاجة عمن اشتدت حاجته.
التفريع:
10184- إن حكمنا بأن الكسوب يستحق النفقة على الموسر، فلا كلام.
وإن حكمنا بأن الكسوب لا يستحق، فهل يشترط أن يكون امتناع الكسب بزمانَةٍ أم لا يشترط ذلك؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نشترط الزمانة، وفي معناها المرض اللازم المعجز مع صحة الأعضاء، فإن الصحيح السليم لا يخلو عن التمكن من نوعٍ من الكسب.
ومن أصحابنا من لم يشرط الزمانة، واكتفى بألاّ يكون مستقلاً بتحصيل قوته، وقد ذكرنا مثلَ هذا التردد في استحقاقه سهمَ الفقراء، ثم انتهينا في التفريع على أحد الوجهين إلى اشتراط العمى، ولم ينته إلى اشتراطه أحد من الأصحاب في النفقة.
ومما يتعلق بتمام ذلك أنه لو كان يقدر على تحصيل مقدار من القوت، فذاك القدر لا يستحقه، ويستحق ما يعجز عنه، إذا اشترطنا ألا يكون كسوباً، فهذا مما يجب التنبه له، وكل ما ذكرناه في نفقة الولد على الوالد الموسر.
10185- فأما إذا كان الولد موسراً والأب معسراً، فهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنا لا نشترط ذلك في حق الأب قولاً واحداً؛ فإن إحالة الابن الموسر أباه الطاعن في السن على العمل في الطين، لا يليق بما أوجبه الله تعالى من احترام الآباء والإحسانِ إليهم، ولا يبعد عن الأب إحالة ابنه على الكسب، كما لا يبعد منه استخدامُه.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في جانب الأب المعسر، كما ذكرناه في الابن المعسر، وهذا وإن أمكن توجيه القياس فيه، فالمذهب المعتدُّ به القطعُ بأن ذلك ليس شرطاً في الأب.
وقد يتصل بهذا الفصل النظر في تفاصيل الكسب؛ فإن الرجل ذا المروءة لو تكلف نقل القاذورات وشَيْل الكناسات، فقد يجتمع له ما يقوته، ولكن ذلك يحطّ من مروءته فكيف الطريق فيه؟ هذا عندنا يخرج على اشتراط الزمانة: فمَن شَرَطَها، فموجب مذهبه أن لا فرق بين كسب وكسب، إذا فُرض الاقتدارُ عليه، ومن لم يشترط الزمانة، فالرأي على التردد في رعاية ما أشرنا إليه من اعتبار المروءة والنظر إلى أقدار المناصب.
ولا خلاف أن عبد الرجل مبيعٌ في نفقته، وإن كان ذلك يلجئه إلى التبذل والتبسط بنفسه في الحاجات الدنيّة كاستقاء الماء وما يشبهه.
وقد تنجز أصلٌ من أصول القول في ذلك.
10186- ونحن نأخذ من هذا المنتهى في أصلٍ آخر، ونقول: لا خلاف أن نفقة القريب مبناها على الكفاية، وليست متقدَّرة، بخلاف نفقة الزوجية، فإن اكتفى في يومٍ ولم يحتج لعارضٍ، فلا نفقة له، وإن كان رغيباً، لزمت كفايته، وإن كان زهيداً، فعلى قدر حاجته.
ولا يضرّ أن نصرف الاهتمامَ إلى بيان الكفاية، فنقول: لا ينتهي الإنفاق إلى رد النهم والقَرَم وحَسْم الشهوة، ولكن الكفاية المطلقة ما يقي البدنَ ويدرأ عنه الضرار في الحال والمآل.
وبيان ذلك أنه إذا كان يغضُّ المقدارَ النزرَ من كفايته، فقد لا يظهر أثر هذا في يوم، ولكن لو فرض التمادي عليه، لظهر إضراره.
فالذي أراه أنه لو كان يسد جوعته ويستأصل نَهْمتَه، ثم أراد في بعض الأيام أن يقتصر على ما يقع به الإقلالُ في اليوم، ثم يتداركه في غده- أن هذا غيرُ سائغ؛ فإن هذا جزء من الضرر، والغدُ غيب.
ثم يجب أن يُطعَم ما يأتدم به؛ فإن الخبز القفار يحُلّ القوى، والمرعي في الأُدم الأصل الممهّد في نفقة الزوجات، غير أن المرعي في القوت الكفاية فالأُدْم على قدرها.
والكُسوة واجبة، وقد وَضَحَتْ في مؤن الزوجات، والمطلوب إزالة الضرر، والقيام بالكفاية.
ثم ما يبتني على الكفاية، فلا يشترط التمليك فيه، بل يكفيه أن يقول لقريبه الذي يستحق الإنفاق عليه: كُلْ معي.
10187- وإذا مضت أيام لم يتفق الإنفاق فيها، سقطت نفقتها، ولم تثبت ديناً بخلاف نفقات الزوجات، فإن ما لا يجب التمليك فيه، وابتنَى على الكفاية، استحال مصيره دَيْناً في الذمة.
هذا أصل المذهب وقاعدته.
ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين في أن نفقة الولد الصغير هل تسقط بمرور الزمان، أم تصير ديناً في ذمة الأب الموسر؟ أحدهما- أنها تسقط، وهذا القياس الحق، وتوجيهه ما أوضحناه من اعتبار الكفاية وسقوط التمليك.
والثاني: أنها تثبت في الذمة، وهذا الوجه على ضعفه موجّه عند الصائر إليه بأن نفقة المولود محمولةٌ على نفقة الزوجية، فإنها من أتباع النكاح، وإن كان المطلوب منها الكفاية، حتى يكون احتباسها مقابلاً بكفاية الزوج إياها لا يسقط بمرور الزمان، فلتكن نفقة المولود بهذه المثابة؛ إذ الولد المضاف إلى النكاح من آثار الاستمتاع، وأيضاً اهتمام المرأة بولدها من زوجها يقرب من اهتمامها بنفسها، فلو كانت نفقة المولود تسقط بتعطيل الزوج إياها، وهي لا تعطّل ولدَها، فيقرب تضررها بسقوط نفق مولودها من تضررها بسقوط نفقتها في نفسها.
وهذا الوجه ضعيف لا أصل له، ولا ينبغي أن يعتدّ به، ولولا علوّ قدر الحاكي، لما استجزت حكايته؛ لما حققته من أن نفي التمليك وإثباتَ الكفاية مع المصير إلى أنه يجب تداركُ ما مضى أمسِ كلامٌ متناقض؛ فإنه يستحيل أن يكْفى الإنسانُ أمرَ أمسه، والماضي لا مستدرك له. نعم، إذا أثبتنا النفقة للحامل البائنة، وقضينا بأن النفقة للحمل، فيترتب عليه أنا إن لم نوجب تعجيل النفقة، وقضينا بأن الزوج يُخرج نفقة زمان الحمل يومَ الوضع، فهذه نفقة منسوبة إلى القرابة، وليست ساقطةً بمضي الزمن.
وإن قلنا: يجب تعجيل النفقة، فلو لم يتفق تعجيلُها حتى وضعت المرأة الحملَ، فهل نقضي بسقوط نفقة أيام الحمل-والتفريع على أن النفقة للحمل-؟ فعلى وجهين معدودين من أصل المذهب، وإنما اتجه عدمُ سقوط النفقة بمضي الزمان لاتصالها باستحقاق الحامل؛ فإن انتفاعها بها سبق انتفاعَ الحمل، وإن أضيفت إلى الحمل، فالمرأة مستحقتُها، فكان انتظام الوجهين لهذا، وفيه يتجه ما أطلقناه من التبعية، ثم هذا في الحمل، أو في الولد الصغير على ما حكاه الشيخ.
فأما نفقةُ الولد البالغِ، ونفقةُ كل قريب يستحق النفقةَ سوى الولد الصغير تسقط بمرّ الزمان ولا تصير ديناً قط.
10188- وهذا نجاز هذا الأصل، ونأخذ بعده في أصل آخر، فنقول: الزوجة إذا كان لا يتوصل إليها نفق مولودها، وكان الأب حاضراً ممتنعاً، أو غائباً، والطفل فقير لا مال له، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن لها أن تأخذ نفقة ولدها من مال زوجها إذا كانت يدها تمتد إليه، واحتجوا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال عليه السلام ذلك، لما شكت إليه شُحَّ أبي سفيان وامتناعَه عن الإنفاق عليها وعلى ولدها.
وهذا خارج عن قياس الأصول؛ من جهة أن الأم لا تلي على الرأي الظاهر، ومن ولاّها من الأصحاب فذاك إذا لم يكن للمولود والد، وإثبات الولاية لها مع الأب ليس على قاعدة القياس، ولكن رأى الأصحابُ الاستمساك بالحديث وتقديمَه على القياس، وفيه مصلحة لائقة بالحال؛ فإنها لو كانت تحتاج إلى مراجعة القاضي في نفقة الولد، لعسر ذلك عليها، وإذا كانت تنفق من مال زوجها بالمعروف على ولدها، فقد تتزجّى الأيام وتنطوي عريةً عن نزاع وضرار.
وأبعد بعض الأصحاب، فلم يثبت لها ذلك، إلا أن يفوض القاضي إليها، ورأى هؤلاء قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم تسليطاً منه إياها على الأخذ بمثابة تسليط القاضي، ولم يَروْا ذلك حكماً ثابتاً شرعاً على وجه الفتوى، وهذا بعيدٌ.
ثم إذا جوزنا للأم أن تأخذ من مال الزوج من غير إذنه، فلو لم تجد لزوجها مالاً واستقرضت عليه، فإن قلنا: ليس لها أن تأخذ مالَ الزوج إذا وجدته، فليس لها أن تستقرض عليه، وإذا قلنا: لها أخذُ مال الزوج، فهل لها الاستقراض عليه من غير تفويض القاضي إليها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لها الاستقراض؛ لأن الشرع أثبت لها ولاية الاستقلال في نفقة المولود، ومن نتائج الولاية الاستقراضُ.
والثاني: ليس لها ذلك؛ فإن الأخذ من مال الزوج مأخوذ من فحوى الحديث، على خلاف أصول القياس، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر من غير مزيد، وهذا مسلك الكلام في كل حكم تضمن الخبرُ إثباتَه على خلاف أصول القياس.
10189- ولو نفى الرجل نسب مولوده باللعان، واضطرت المرأة للإنفاق عليه، ثم إن الزوج أَكْذبَ نفسَه واستلحق النسبَ الذي نفاه، فهل ترجع المرأة على الزوج بما أنفقته من مال نفسها؟
هذا يستدعي تقديمَ مسألة أخرى ملتحقةٍ بما تقدم، وهي أن الزوجة لو لم تصادف مالَ الزوج، ولم تجد من يقرضُها على الزوج، فأنفقت من مال نفسها، فهل ترجع على الزوج؟ هذا يترتب على الاستقراض، فإن منعناه، فامتناع الرجوع على الزوج إذا أنفقت من مال نفسها أوْلى؛ فإنها تكون في مقام المقرضة لزوجها من غير استقراض منه، فكأنها المقترضة والمستقرضة، وهذا بعيد.
وانتظمت ثلاثُ مراتبَ: إحداها- أخذ مال الزوج من غير رضاه، والظاهر الجواز للخبر. والثانية- في الاستقراض على الزوج من غير تفويض من القاضي، وفيها الخلاف، والثالثة- في إنفاقها من مال نفسها، وطلبها الرجوعَ على الزوج.
ونقول بعد ذلك: إذا أنفقت المرأة على الولد المنفي باللعان، ثم اكذب الزوج نفسَه، ففي رجوعها وجهان مرتبان على الوجهين فيه، إذا أنفقت المرأة على الولد النسيب من مال نفسها، والصورة الأخيرة أولى بألاّ يثبت الرجوع فيها؛ لأنها فعلت ما فعلت بانيةً على ظاهر النفي، وهي موطّنةٌ نفسَها على الانفراد بالإنفاق من غير تقدير مرجع.
ومما يتم به البيان في هذه المسائل أنا إذا أثبتنا للمرأة الرجوعَ على زوجها إذا أنفقت من مال نفسها، فذاك فيه إذا لم تقصد التبرعَ، وأما إذا قصدت التبرعَ، فلا مرجع، ويجب أن يقال: إنما ترجع على أحد الوجهين إذا قصدت الرجوع.
10190- وممّا يتعلق بتتمة ذلك أنه أولاً إذا كان للمولود مال، وكانت نفقته من ماله، وله أب من أهل الولاية، فلا شك أن الأب هو الذي يلي مال الطفل، ولو أرادت الأم أن تنفق على الولد من مال الولد، فالوجه عندي أن يكون هذا أولى بالجواز من إنفاقها عليه من مال الزوج، فإذا تسلطت على إنفاق مال الزوج عليه، فلأن تتسلط على إنفاق مال الطفل عليه أولى.
ثم إذا كانت متمكنةً من طلب نفقة الولد من الزوج وتحصيلها من جهةٍ، فأرادت الاستبداد بالأخذ، فالوجه أن ذلك لا يجوز، وإنما يسوغ الأخذ من مال الزوج عند ظهور تعذر الاستيداء منه، ويشهد لذلك الحديث؛ فإن هنداً قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخبارها هذا ما قال. وقد استدل الشافعي في كتاب الدعاوى على أن لمن تعذر حقُّه أن يأخذ من مال مَنْ عليه الدين قدرَ حقه، بحديث هند، ثم ينتظم في هذا أنها تملك مطالبةَ الزوج بنفقة الولد، وكل هذا والولد طفل.
10191- ونحن نذكر بعد هذا تفصيلَ القول في الذين يستحقون النفقة بالبعضية في هذا الغرض الذي نحن فيه، ونقول: كل من يستحق النفقة على قريبه؛ فإنه يطالبه بها مطالبة الدُّيون، فإن امتنع ووجد مستحقُّ النفقة من جنس النفقة، أَخَذَ الكفايةَ مما وجده، وإن وجد من غير جنس النفقة، فعلى القولين في الظفر بغير جنس المال عند تعذر استيفاء الديون.
ولو أراد الابن البالغُ المعسر أن يستقرض على أبيه الموسر مقدارَ نفقة نفسه، فليس له أن يستبد بهذا، وكذلك القول في الأب الفقير مع الابن الموسر، ولكن يرفع مستحقُّ النفقة أمرَه إلى الحاكم، وللحاكم أن يستقرض على من عليه النفقة، فإن فعل، فذاك، وإن أذن لمستحق النفقة أن يستقرض عليه، جاز.
وإن استقرض عليه بنفسه من غير مراجعة القاضي-مع القدرة عليها- لم يلزم ذلك القرضُ ذلك الإنسانَ، ولو عدِم مستحق النفقةِ الحاكمَ، ومست الحاجةُ، فاستقرض على من عليه النفقةُ، ففي المسألة وجهان مأخوذان من مسألة الجمّال، وقد سبقت مستقصاة.
10192- ومما يتعلق بهذا أن أبَ الطفل إذا غابَ وحضر الجدُّ، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يستبد الجدُّ بالاستقراض على الغائب من غير مراجعة القاضي مع القدرة عليها، ولست أرى لجواز الاستقراض عليه من غير مراجعة القاضي وجهاً أصلاً؛ فإن الجد لا يلي في غيبة الأب، وما أثبتناه في الأم، فمعتمدنا فيه الخبر، فلعل الشيخَ نزَّل الجد في الغيبة منزلة الأم، وليس هذا من مواضع القياس، بل القاضي يلي الطفل في غيبة الأب.
وقد انتهى هذا الغرض.
10193- ونحن نبتدىء مقصوداً آخر منعطفاً على ما تقدم، فنقول: من ملك عقاراً، فهو مبيع على قدر الحاجة في نفقة من يجب نفقته، وكل ما يباع في الديون، فهو مبيع في النفقات، وسنوضح في أثناء الكلام أن النفقة مقدمةٌ على الدين.
10194- فإذا لم يملك الرجل شيئاًً يباع في دين، ولكنه كان كسوباً قادراً على أن يحصّل قوتَ نفسه وقوتَ قريبه، فهل يجب عليه أن يكتسب، وكيف السبيل فيه؟ قال الأئمة: إذا قدر على الكسب، فهل له أن يتكفف ويسال الناس إلحافاً؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يجب عليه أن يكتسب، ويتركَ التعرّض للناس، وهذا يعتضد بقول المصطفى صلى الله عليه، إذ قال: "المسألة حرام إلا على ثلاثة الحديث " ولولا الحديث، لما كان ينقاس تحريم المسألة والتعرض للناس بالسؤال.
ومن أصحابنا من لم يحرّم السؤالَ-مع القدرة على الكسب، وحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكراهية، والحرام هو المحظور، والمحظور الممنوع، والمنع ينقسم إلى الكراهية وإلى التحريم المحقق، وكما ترد الكراهيةُ على إرادة التحريم، يرد التحريم على إرادة الكراهية.
هذا قولنا في حقه.
فأما إذا قدر على الكسب، فلم يكتسب، وعطل قريبَه، فهل له ذلك؟ هذا مما يجب الاهتمام به، فنقول أولاً: لا يجب على الإنسان أن يكتسب لأداء الديون المستقرة في ذمته، وهل يجب أن يكتسب لينفق على قريبه، فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجب ذلك، كما لا يجب لأداء الدّين.
والثاني: يجب؛ لأن النفقاتِ من الحاجات المتواصلة، والاكتساب على قدرها، ولعل السببَ في منع إيجاب الكسب للدين كونُه مستغرَقاً بالحاجات المتواصلة في غالب الأمر.
وفي وجوب الاكتساب للإنفاق على الزوجة وجهان مرتبان على الوجهين في نفقة القريب، ولأَنْ لا يجب الاكتساب لنفقة الزوجة أولى؛ لأنها مشابهة للديون، ومذهبنا الصحيح أنها تجد مخلصاً إذا أعسر الزوج بالنفقة وهذا لا يتحقق في القريب.
فإذا تحقق ما نعتبره في حق من يُنفق، فكل ما يباع في نفقة القريب فإذا ملكه القريب بنفسه، لم يستحق النفقةَ معه، وينتظم بحسب هذا أنا إذا أوجبنا الاكتساب بنفقة القريب لا نوجب النفقة للقريب الكسوب، وإنما يجري ما قدمناه من الخلاف فيه إذا كان من له النفقة غيرَ كسوب، ومن فيه الكلام كسوباً.
هذا منتهى الغرض من ذلك.
10195- ومن الأحوال المنعطفة على ما تقدم أنا لا نوجب النفقةَ على البعيد مع القريب الموسر، وسيأتي فصلٌ في ترتيب من يستحق عليه النفقة، وهو غمرة هذه الأصول.
ومقدار غرضنا الآن أنه إذا كان للولد أبٌ موسر وجدٌّ: أبُ أبٍ موسرٌ، فلا شك أن النفقة على الأب، فلو فرضت غيبة الأب، ولم نجد مُضطرَباً، ولم نستمكن من الاستقراض على الغائب، فالطفل لا يُلحق بمحاويج المسلمين؛ حتى ينفق عليه من بيت المال مع حضور الجدّ الموسر، بل على الجدّ أن ينفق، فإن راجع القاضي حتى أذن له بالإنفاق على شرط الرجوع، أنفق ورجع، وإن لم يراجع القاضي مع القدرة، وأنفق، فهذا ما تقدم ذكره، والمذهب أنه لا يرجع.
وإن لم يجد قاضياً، فأنفق على قصد الرجوع، فهل يرجع على الغائب؟ فعلى الوجهين.
والمقصود مما ذكرناه أن الجد يلزمه القيام بهذا المهم، ثم الكلامُ في الرجوع على ما قدمناه، فإذا تمكن القاضي من التصرف والاستقراض على الغائب، فهو ولي الطفل في غيبة الأب، فليس له تركُ النظر مع القدرة عليه.
فإن لم يجد مُقرضاً، كان كما لو لم يكن قاضٍ، وكذلك إن لم يتفرغ إليه، وحاصل الكلام في هذا أن التصرف إلى القاضي، وليس له أن يلزم الجدَّ، كما ليس له أن يلزم آحاد الناس، فإن لم يكن قاضٍ، فالجد لا يعطِّل الطفلَ، ثم الكلام في كيفية الرجوع على ما قدمناه.
وقد انتجزت القواعد التي أردنا تقديمها في نفقة القريب.
فرع:
10196- إذا كان الأب كسوباًً وقلنا: يجب على الابن الموسر أن ينفق عليه-على وجهٍ لبعض الأصحاب- فهل يجب عليه أن يعفّه إذا كان لا يستمكن من التعفف بنفسه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أصحهما- أنه يجب على الابن ذلك، فإن الإعفاف من الحقوق الواجبة، وقد تحقق احتياج الأب إليه، وكسبه غير وافٍ به.
والوجه الثاني- أنه لا يجب عليه أن يعفه؛ فإن الإعفاف إنما يجب لمن تجب له النفقة، فإذا سقطت النققة، سقط الإعفاف.
وهذا ركيك لا اتجاه له.
فرع:
10197-كما يجب على الابن الإنفاقُ على أبيه يجب عليه الإنفاق على زوجة أبيه، فلو كان له زوجتان، لم يجب الإنفاق عليهما، وذكر العراقيون وجهين في هذا المنتهى:
أحدهما: أنه يسلم نفقةَ زوجةٍ إلى أبيه، ثم إنه يفضّ عليهما، وليس للابن أن يحتكم بتعيين واحدةٍ منهما.
والوجه الثاني- أنه لا يجب عليه الإنفاق أصلاً على واحدة من الزوجتين؛ لأن التعيين لا وجه له؛ إذ ليست إحداهما أولى من الأخرى، والإنفاق عليهما غيرُ واجب، فإذا عسر تفصيل المذهب، انتفى الأصل.
وهذا لا أصل له، والعراقيون يتولّعون بأمثال هذا في كثير من المسائل.