فصل: باب: المتعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الحكم في الدخول وإغلاق الباب وإرخاء الستر:

قال الشافعي: "وليس له الدخول بها حتى يعطيَها المال... إلى آخره".
8538- للمرأة حبسُ نفسها عن زوجها، حتى يتوفر الصداقُ عليها كَملاً، وقد ذكرنا في البيع نصوصاً وأقوالاً في أن البداية بالتسليم على من تجب من البائع والمشتري؟ فكان الحاصل أربعةَ أقوال: أحدها: إنه يجب على البائع البداية بتسليم المبيع أولاً.
والثاني: إن البداية تجب على المشتري.
والثالث: إنهما يُجبَران معاً.
والرابع- إنهما لا يُجبران، ولكن من بدأ منهما بتسليم ما عليه، أُجبر صاحبه على التسليم حينئذ.
والزوج في النكاح في مقام المشتري، والمرأة في مقام البائع، وتجري بينهما ثلاثة أقوال: أحدها: إنهما يجبران جميعاً إذا تنازعا البداية.
والثاني: إنهما لا يجبران، ولكن من بدأ منهما أُجبر صاحبه على تسليم ما عليه، فإن بدأت المرأة بتسليم نفسها، وجب على الزوج بعد تسليمها أن يسوق إليها صداقَها. فإن بدأ الزوج بتسليم الصداق، وجب عليها أن تسلم نفسها، إذا لم يكن بها عذر، كما سنصف المعاذير من بعدُ.
والقول الثالث: إنه يجب على الزوج البداية بتسليم الصداق، ولا يخرّج قولٌ: إنه يجب عليها البداية بتسليم النفس، وإن كنا ذكرنا قولاً في إيجاب البداية على البائع، فهي في مقام البائع ومحلِّه، والفارق أن المرأة إذا بدأت فسَلَّمت نفسها؛ كان في تسليمها تفويتُ منفعة البضع على وجهٍ لا يُفرض الرجوع إليها، وليس كذلك البائع؛ فإنه إذا سلَّم، فلم يَفِ المشتري بتسليم الثمن، أمكن فرضُ رجوعه إلى المبيع؛ فإنه لا يفوت عنه بالتسليم.
8539- ثم إذا لم نوجب على واحد منهما البداية، فَمِنْ حُكْمِ هذا القول أن المرأةَ لا تطالِبُ زوجها بالمهر، ولا يثبت لها حقُ المطالبةِ به ما لم تُسَلِّم نفسَها، فإنْ سلَّمت نفسَها، ووطئها الزوج، استقر المهر، وحقت الطَّلبة. وإن مكّنت، فامتنع الزوجُ، توجهت الطَّلبةُ بالمهر، وإنْ لم يتقرر المهرُ، فيكفيها تسليطُها على الطلب وإن لم يقرر المهر.
ومن لطيف الكلام أنها لو مكنت، ثم امتنعت وأخذت تطلب، لم يكن لها الطلب؛ فإنها عادت إلى منع البداية، والذي جرى منها لم يكن بداية تامة. فبين التقريرِ واستقرارِ الطلب بالمسيس، وبين تفويت حق الطلب مرتبةٌ يفهمها الفطن. ثم هذه المرتبةُ شرطُها أن تستمر المرأةُ على التمكين منها ولا تُبدي إباءً.
وإذا قلنا: إنهما يجبران، فتصوير ذلك: أن يؤخذ الصداقُ من الزوج ويوضعَ على يديْ عدل، ثم تُجبرُ هي على تسليم نفسِها، فإذا سلَّمت نفسها سُلِّمَ الصداقُ إليها.
والذي نراه في ذلك أنها إذا سلمت، فلم يأتها الزوج؛ فعلى العدل تسليم الصداق إليها على القاعدة المقدمة. ولو قدّرنا تسليم الصداق إليها في هذا المنتهى، فَهَمَّ الزوجُ بوطئها، فامتنعت، فالوجه استرداد الصداق منها.
وإذا قلنا: الزوج يجبر على البداية بتسليم الصداق، وتملك المرأةُ الابتداءَ بطلب الصداق، فذلك إذا كان يتأتى منها التمكين، فأما إذا كانت على حالةٍ لا يتأتى من الزوج قِربانها، فلا تملك مطالبةَ الزوج بالمهر؛ فإن تسليم الصداق يجب أن يكون واجباً حيث يتأتى منها استيفاءُ ما يقابل الصداق.
وإذا قلنا في البيع يبدأ المشتري بتسليم الثمن، فإنما يجب ذلك إذا كان البائع قادراً على تسليم المبيع. فلو كان أبِق العبد بعد البيع، فالمشتري لا يطالَب بالثمن؛ فإن الثمن لا يجب وجوبَ قِيم المتلفات، وإنما يجب عوضاً، ووضع العوض يقتضي-وإن وقع البداية به- أن يقابل معوّضه.
8545- ولو وفّر الزوج الصداق على المرأة، فالقول في ذلك ينقسم، فإن أوجبنا عليه البداية، فذلك حيث يتصور منها التمكين، فإذا امتنعت، استرد ما سَلَّم.
وإن لم نوجب عليه البداية، فتبرع وبدأ، فامتنعت عن التمكين، لم يسترد الزوج، بل أُجْبرت على التمكين. وإن تبرع بتسليم الصداق وهي معذورة، ثم بدا له في الاسترداد، فهل له أن يسترد؟ ذكر القاضي وجهين:
أحدهما: له الرجوع؛ لأنه سلَّمَ في وقت لا يلزمه التسليمُ فيه، والامتناع قائم، وهذا وجه ضعيف. والأصح: أنه لا ينتزع ما سلم إليها؛ لأنه تبرع بالتسليم، فالرجوع بعد التبرع لا وجه له.
وإذا كان يذكر وجهين في المعذورة، فيتجه ذكرهما أيضاًً في التي لا علة بها، بل تلك أَوْلى؛ من جهة أن تسليم الزوج يحمل على توقع تمكينها، وإن كان متبرعاً. وإذا سلم وهي معذورة، فهذا أبعدُ من الانتزاع؛ فإن التسليم جرى مع توطين النفس على امتناع الوطء.
ولو نظم ناظمٌ هذا على العكس، لاتجه. فيقول: إن كانت معذورة فسَلَّمَ مع العلم بعذرها؛ لم يرجع. وإن لم تكن معذورة وأراد الرجوع، فوجهان. وكل هذا خبط.
والوجه: القطع بأنَّ المتبرع بالتسليم لا يرجع. فهذا تمام البيان في هذا الفن.
8541- ثم إذا ساق الزوج الصداق، فعليها التسليم، فإذا استَمْهَلَت، أُمْهِلَت ريثما تستعد وتتهيأ، ثم ذكر الأصحاب أن منتهى المَهَل ثلاثة أيام؛ فإن الاستعداد ممكن في هذا القدر من الزمان. وهذا الذي ذكروه تقديرٌ، ولا سبيل إلى التقدير من غير توقيف.
والذي يجب التثبت فيه: أن معظم ما يعتقده الناس استعداداً لا حاجة إليه، وإنما المعنيّ بالاستعداد في الشرع أن تهيىّء بدنَها بتنظف لا يكاد يخفى، وما عداه لا اكتراث به، فعلى هذا يقرب الزمان، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص.
8542- ثم ذكر الشافعي أن الصغيرة التي لا تطيق الجماع لا تسلّم إلى زوجها، وكذلك لو كانت مريضة مرضاً يضرُّ بها الوقاعُ ضرراً بيّناً، فالأمر على ما ذكرناه.
وإن كان لا يضرّ بها الوقاع، وجب تسليمها إلى الزوج. ولو قال الزوج: سلموها إليَّ وإن كان بها مانع، وأنا أنكفّ عنها، لم تسلم إليه وإن كان موثوقاً به؛ فإنَّ نزقات النفس ونزغات الشيطان لا تؤمن، ولذلك حرم الله تعالى استخلاء الرجل بأجنبية، وإن كان أعدلَ البريّة وأتقاهم.
وإن كانت حائضاً، وجب تسليمها، فإنه ينتفع بها على وجوه. ولا خلاف أن الزوج إذا حاول من زوجته الحائض الاجتماع معها في شعار، وطلب ضمّاً والتزاماً، فليس لها أن تمتنع، ولو جاز لها أن تمتنع، لوجب على الزوج أن يمتنع، وهذا على ظهوره ليس بالهين، ويعارضه القول في المريضة، فإن الزوج قد يستمتع بها من وجوه، وقد يهوى لقاءها ثم لا يؤتمن عليها.
وعن عائشة أنها قالت: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة فحضت، فانسللت، فقال: مالكِ، أَنُفستِ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: خذي ثياب حيضتكِ وعودي إلى مضجعك، ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار". وقد يدور في الخلد أن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة تقبيله نساءه وهو صائم. قالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل إحدانا وهو صائم، وكان أملككم لأرْبِه". بأبي هو وأمي، ولكن لا ينبغي أن يتمارى الفقيه في جواز استخلاء الزوج بزوجته وهي حائض.
فإن قيل: ما الفرق بين الحائض والمريضة؟ قلنا: المرعيُّ في حق المريضة خيفةُ الإضرار بها؛ فلها أن تمتنع، ولولي الصغيرة أن يمنعها، وتحريم وقاع الحائض يتعلق بحق الله تعالى، والوازع من الهجوم على المحرمات الوعيد، فإذا كان الحِلّ قائماً بالنكاح، وكان الوطء محرماً، وقع الاكتفاء بإيضاح التحريم.
ولو رضيت المريضة بأن يخلو بها زوجها، لم يحرم عليه أن يستمتع بها استمتاعاً لا يضر. ولو عرفت المرأة أن الزوج يغشاها في الحيض، ولا يراقب الله تعالى فيها لو استخلى بها، فهل لها أن تمتنع؟ هذا فيه تردد، وليس يبعد تجويز ذلك لها، أو إيجاب ذلك عليها، والعلم عند الله تعالى.
8543- ثم إذا ثبت أن للمرأة أن تمتنع عن الوطء حتى يتوفر عليها صداقها، فلو مكَّنت، فأتاها الزوج، ثم أرادت بعد جريان الوطء أن تمتنع حتى يتوفر عليها الصداق، لم يكن لها ذلك؛ فإنَّ الوطأة الواحدة بمثابة وَطْآت العمر في تقرير الصداق، فليس لها بعدها امتناع، خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنه جوَّز لها الامتناع بعد الوطأة الأولى.
ولو وطىء الزوج قهراً من غير مطاوعة، فمهرها يتقرر، فلو أرادت الامتناع، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لها ذلك؛ فإنها لم تطاوع، والامتناع ممكن.
والثاني: ليس لها ذلك؛ لأن مهرها قد تقرر، وانتهى إلى حالة لا يتعرض بعدها للسقوط، فصار كما لو طاوعت، واسترجاع ما جرى غير ممكن، وليس كما لو اغتصب المشتري المبيع-على قولنا: للبائع حق الحبس- فإن المبيع إن أمكن استردادُه، استرد ورُدّ إلى يد البائع حتى يتوفر الثمن عليه.
8544- ثم ذكر الشافعي بعد ذلك فصلين من كتابين:
أحدهما: النفقة، فإذا قالت المرأة لزوجها: مهما سقت إليَّ صداقي مكَّنتُكَ، ثبتت نفقتها. ولو سكتت ولم تتعرض لذلك، ففي ثبوت النفقة قولان.
ثم تعرض لاختلاف القول في نفقة الصغيرة، وكل ذلك يأتي على الاستقصاء في كتاب النفقات إن شاء الله عز وجل.
8545- والفصل الثاني في الإفضاء، فإذا أتى الزوج زوجته فأفضاها، فالقول في تصوير الإفضاء وفي موجبه يأتي في كتاب الديات-إن شاء الله عز وجل- وحظّ هذا الباب منه أن الزوج لا يُمَكَّن من غشيانها بعد ذلك ما لم يندمل مارِنُها، فإن زعمت أنها لم تستبلّ بعدُ، فلا رجوع إلا إليها وإن طال الزمان، فلا وجه إلا تصديقها مع يمينها، إلا أن يفرض إمكان الاطلاع. فإن كان كذلك، فللزوج أن يأمر أربعاً من النسوة الثقات حتى يطّلعن ويخبرن بحقيقة الحال، فإذا أخبرن بأنها قد بَرَأَت، مُكِّن الزوج من وطئها.
فصل:
قال: "وإن دخلت عليه، فلم يمسها حتى طلقها... إلى آخره".
8546- المقصود بالكلام خَلوة الرجل بامرأته، وأنها هل تقرر الصداق من غير مسيس؟ وهل توجب العدة؟ فالمنصوص عليه للشافعي في الجديد: أن الخَلوة لا تقرر ولا توجب العدة، ولا يتعلق بها حكم.
وقال في القديم: الخَلوة تقرر المهر، وتوجب العدّة، ثم اختلف الأئمة في تنزيل القول القديم، فقال قائلون: الخلوة في القديم تنزل منزلة الوطء في تقرير المهر وإيجاب العدة، وتوجيه القولين مذكور في طيول المسائل.
وكنت أود أن يختص جريان القولين بتقرير المهر؛ من قِبل أنَّ تمكُّن المستحق من حقه في المعاوضات إن كان ينزل منزلة استيفاء ذلك الإنسان حقَّه، فلا وجه مع هذا لإحلال الخَلْوة محل الوطء في إيجاب العدة المتعلقة بما يشغل الرَّحِم، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، بل من أجرى القولين أجراهما في التقرير وإيجاب العدة جميعاً.
ولما قال أبو حنيفة: الخَلوة تقرر المهر، قضى بأنها توجب العدة، غيرَ أنه قال: إذا فرض طلاق بعد الخَلوة، واستقبلت المرأة العدة، فليس للزوج حقُّ الرجعة، وقطع أئمتنا بثبوت الرجعة تفريعاً على القديم؛ فإن الرجعة عندنا لا تنقطع إلا باستيفاء العدة، أو استيفاء العدد، أو وقوع الفراق على عوض.
ثم قال أبو حنيفة: الخَلوة إنما تقرر المهر إذا لم يكن في المرأة مانع من الوطء شرعاً، كالحيض، والنفاس، والإحرام، وصوم الفرض. واختلفت الرواية في صوم التطوع.
ثم قالوا: الخَلوة بالرتقاء والقرناء تقرر المهر وإن كان الوطء ممتنعاً طبعاً بحيث لا يتصور وقوعه. فهذا بيان اضطراب مذهبه.
8547- وقد ذهب المحققون من أئمتنا إلى أن الخَلوة بالرتقاء لا تقرر المهر؛ فإنه لا معنى لها؛ فإن الخَلوة إن نزلت منزلة الوطء؛ من حيث إنها تشتمل على التمكين من الوطء، فهذا غير ممكن في الخَلوة بالرتقاء، ولا أثر للخَلوة بها، والكَوْنُ معها في الملأ كالكون معها في الاستخلاء، فأما الخَلوة بالحائض والنفساء؛ فمال القفال إلى مساعدة أصحاب أبي حنيفة في أن الخَلوة لا تقرر مع هذه الموانع الشرعية وإن كان الوطء ممكناً، هذه طريقة الأئمة في الخَلوة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الخلوةَ لا تقرر المهر، ولا توجب العدة، وزعم أن الشافعي تردد قوله في القديم في أن الخَلوة إذا جرت، وادعت المرأة الوطء فيها، وأنكر الزوج؛ فمن المصدَّق؟ فعلى قولين:
أحدهما: أن المصدَّق الزوج؛ فإن الأصل عدم الوطء.
والثاني: القول قول المرأة مع يمينها، فإن الظاهر جريان الوطء في الخَلوة، فإن أنكر منكر هذا، قلنا له: الخَلوة في ادعاء الوطء كاليد في ادعاء الملك. والعلم عند الله تعالى.

.باب: المتعة:

قال الشافعي: "جعل الله عز وجل المتعةَ للمطلقات... إلى آخره".
8548- المتعةُ اسم لمقدارٍ من المال يسلمه الزوج إلى زوجته إذا طلقها، وقد يسمَّى المتاع. وأمتع الحسنُ زوجةً طلقها اثني عشر ألف درهم، فقالت: "متاع قليل من حبيب مفارق". والأصل في الباب قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] وشهدت الأخبار وأجمعت الأمة على المتعة.
والكلام في ثلاثة فصول:
الفصل الأول
8549- في تفصيل المطلقات، وهن ثلاثة أقسام: مطلقة لم يفرض لها ولم يتّفق الدخول بها، فهي تستحق المتعة، ونصُّ القرآن شاهد فيه، قال تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] والإجماع منعقد على استحقاقها للمتعة في هذه الحالة.
والمطلقة الأخرى: هي التي فرض لها الصداق، وطلقت قبل المسيس، فلها نصف المفروض أو نصف المسمى في أصل العقد، ولا متعة لها في ظاهر المذهب.
وتقسيم القرآن أصدق شاهد فيه، فإنه تعالى لما ذكر المتعة في حق التي لم تُمس، ولم يفرض لها، قال في الآيات التي تلي هذه {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فدل فحوى الخطاب على أنَّ المتعة ونصف المفروض يتعاقبان على التبادل.
والمطلقة الثالثة: هي التي استقر لها مهر بالمسيس، ثم طلقها زوجها، ففي وجوب المتعة لها قولان:
أحدهما: إنها لا تستحق المتعة، وهو المنصوص عليه في القديم، وبه قال أبو حنيفة. ووجهه أنه قد سلم لها المهر، ولا متعة مع المهر.
ونصف المسمى في مقابلة العقد، كتمام المسمى، أو كتمام مهر المثل بعد المسيس، فإذا كانت المتعة تَسقُط بسبب وجوب نصف المسمى أو المفروض قبل المسيس، فلأن تسقط إذا وجب جميع المهر على الاستقرار أولى.
والقول الثاني- وهو المنصوص عليه في الجديد: إنها تستحق المتعة؛ لأن ما سلّم لها من المهر في مقابلة منفعة البضع، لا في مقابلة العقد والطلاق.
وإذا جمعنا المطلقات وأردنا نظم الأقوال فيهن، انتظمت ثلاثة أقوال: أحدها: إنه لا متعة إلا للتي طُلِّقت قبل المسيس ولم يفرض لها، وهي المفوّضة.
والقول الثاني- إن لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم تُمس، فاستحقت نصف المهر عند الطلاق.
والقول الثالث: إن لكل مطلقة متعة من غير استثناء، وهذا القائل يلتزم إثبات المتعة للمطلقة قبل المسيس، وإن فرض لها واستحقت نصف المفروض، وهذا بعيد مخالف لظاهر التقسيم في المتعة والفرض.
الفصل الثاني
8550- يشتمل على الكلام فيما يوجب المتعة، وما لا يوجبها من أقسام الفُرَق، فنقول: أما الفُرقة الحاصلة بالموت؛ فإنها لا توجب المتعة وفاقاً، والميراث كافٍ، وكأنَّ المتعة أُثبتت لمستوحشةٍ بالطلاق، والتي مات عنها زوجها متفجعةٌ غيرُ مستوحشةٍ.
فأما ما يجري من الفراق في الحياة؛ فقد قال الأئمة: كل فُرقة تصدر عن جهتها، إمَّا بأن تُنشئَها، أو يصدرَ منها سببٌ يتعلق به ارتفاعُ النكاح، فلا تناط به المتعة.
وما يصدر من الزوج لمعنًى فيها، كالفسخ بالعيوب، فإنه لا يتعلق به المتعة.
وأما ما ينفرد به الزوج لا لمعنى فيها، فيتعلق به استحقاق المتعة، ومن جملة ذلك الطلاق، ومنها ارتداد الزوج وإسلامه.
وقد نص الشافعي على أن الإسلام من الزوج يوجب المتعةَ، ذَكَرهُ في آخر كتاب المشركات. والخلعُ، وإن كان يتعلق بها، فالأصل فيه الزوج. وإذا فوض الطلاقَ إليها، فهو كما لو طلقها بنفسه؛ فإن عبارتَها مستعارة، وكأنَّ الزوج هو المعبِّر، فالفراق المنوط باللعان يثبت المتعة، فإنه مما ينفرد الزوج به، ولا يتوقف حصول الفراق على لعانها.
وإذا وقع الفراق بفعل من غير الزوجين، مثل أن ترضع امرأتُه الزّوجةَ الرضيعة إرضاعاً مفسداً، فهذا يوجب المتعة.
8551- والضبط الجامعُ أن كل ما لو جرى قبل المسيس، لم يسقط به المهر المسمى، بل تَشَطَّر، فهو من موجبات المتعة، وكل ما يتضمن سقوطَ جميع المسمى لو جرى قبل المسيس، فلا تتعلق المتعة به. ثم إذا تعلقت المتعة بفُرقةٍ من الفُرق، فتجري فيها الأقسام الثلاثة المذكورة في الطلاق لا محالة، وعلينا في هذا القسم أن نُلحق كل فرقة من الفُرق بالطلاق، ثم فيها الأقسام الثلاثة والأقوال الثلاثة.
وما قطعناه عن مضاهاة الفُرق، فإنا نحكم فيه بأنه لا تتعلق المتعة به، كيف فُرض، وصُوِّر، وعلى أيةِ حاله قُدِّر.
ولا استثناء في شيء مما ذكرناه إلا في مسألة واحدة وهي: إذا اشترى الزوج زوجته، فالمذهب أن هذه الفُرقة تُشطِّر الصداق، ولا تتعلق بها المتعة؛ فإنَّ المتعة لو وجبت، لوجبت مع الفراق لمنْ يحصل الفراق في ملكه. فإذا اشترى زوجته، فقد ملك رقبتها، فلو وجبت المتعة لوجبت له، ويستحيل أن يجب له على نفسه شيء.
8552- ونقول على الاتصال بهذا، المتعة تجب بالفراق، ولا يتقدم وجوبها عليه، فلو زوّج السيدُ أَمَةً مفوِّضة، ثم باعها، فطُلقت في ملك المشتري، فالمتعة للمشتري؛ لأنَّ الطلاق هو الموجب للمتعة، وقد جرى في ملك المشتري، فهذا قاعدة المذهب في الفُرق التي تقتضي المتعة والتي لا تقتضيها.
8553- وقد نقل المزني أنها إذا فسخت النكاح بعيب العُنَّة لها المتعة، وقد أجمع الأصحابُ على تغليطه، وصادفوا هذه المسألةَ منصوصةً للشافعي على العكس مما نقل.
وغلط بعضُ المصنفين، فقال: لا متعة في الخلع لتعلق الفراق بها، وهذا خطأ، بدليل أن الخلع يشطّر الصداق، ونَقَل عن الأصحاب تردّدَهم فيه إذا ارتد الزوجان معاً، وتردَّدَهم فيما إذا اشترت الزوجة زوجَها المملوك. نعم، إن جعلنا الخلع فسخاً، فمن أصحابنا من تمارى في التشطير، فيليق بهذا القول ترديدُ الوجه في المتعة.
وغَلِطَ طوائفُ من الأصحاب في شراء الزوج زوجته، فحكَوْا أن المتعة تجب للبائع على المشتري، وقد رمز إليه الصيدلاني، وهذا عندي ليس من غلط الفقه، بل هو خللٌ في الفكر؛ فإن من صار إلى هذا بين أمرين كلاهما محال، إن قال: تجب المتعة قبل الفراق، كان رادّاً للإجماع. وإن قال: تجب مع الفراق، والفراق يحصل مع الملك، ثم المتعة تجب للبائع، فهذا مستحيل وإن وجبت متعة، على نفسه لنفسه كان هذا كلاماً متناقضاً. فهذه غلطات نبهنا عليها بعد طرد المذهب على السداد.
الفصل الثالث
في قدر المتعة
8554- ولا قدر عندنا لأقلها، ولا لأكثرها، وهي موكولة إلى اجتهاد الحاكم، ثم هي تختلف باختلاف الأحوال على ما سنصفه، ونذكر ما بلغنا من قول الأصحاب نقلاً، ثم نرجع، فنبحث.
ذكر العراقيون وجهين في تقدير المتعة:
أحدهما: أن أقل المتعة ما يتمول، فلو أمتعها الزوج بأقل ما يتمول، فقد خرج عما عليه.
وهذا القائل يقول: ما صح أن يكون صداقاً، صح أن يكون متعة في كل صورة.
والوجه الثاني-وهو الصحيح- أن تقديرها إلى الحاكم واجتهاده، وليس كالصداق؛ فإنَّ الصداق على التراضي، فكان كالأثمان، والمتعة أمر معتبر يفرض ثبوته في وقت التنازع، فيجب أن يكون له أصل يفرضُ الرجوع إليه، ونصُّ القرآن شاهد فيه، فإنه عز من قائل قال: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236].
ثم فرعوا على الوجهين، فقالوا: إن اكتفينا بأقلِّ ما يتموّل، فلا كلام، وإن أحلناه على اجتهاد الحاكم، فالحاكم يَعتبر ماذا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يعتبر حالَ الزوج لا غيرَ في اليسار والإعسار، ولا ينظر إلى حالها، فيقول: زوجٌ في حالِ زيدٍ ويسارِه، كم يكون أقل متعة منه في العادة؟ فيبني الأمرَ على هذا، قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
والوجه الثاني- أنه يعتبر حالها، فيقول: امرأة في مثل حال هذه بكم تُمَتَّع في العادة في أقل ما يُفرض؟ ولا يعتبر حال الرجل، وهذا الوجه مخالف لظاهر القرآن، فإنَّه تعالى قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال الإمام والدي: يعتبر في ذلك حالهما جميعاً، فيقال: مثل هذا الرجل ما أقلُّ ما يمتِّع به مثلَ هذه المرأة؟ 8556- هذا تردُّدُ الأصحاب، وليس فيما ذكروه تحويمٌ على المقصود، فضلاً عن الإخلال، وذلك أنه ما لم يبِنْ موقعُ المتعة ومنزلتُها لا يمكن أن يعتبرَ فيها ما ذكره الأئمة؛ فإنَّ الإنسان يختلف ما يبذله إذا اختلف جهاتُ المبذول، فما لم يَبِنْ محلُّ المتعة، أعِوضٌ هي أم مِنْحة؟ لا يظهر. وقد اتفق المحققون على أن المتعة لا يبلِّغها القاضي نصفَ المهر، وسبب هذا بينٌ؛ فإنها تجب حيث لا يجب نصف المهر، وكأنا نقنع بما يقلّ عن شَطر المهر إذا لم يحتمل الحالُ شَطْر المهر، فليتخذ الناظر هذا أصلَه.
قال القفال: لا تبلغ المتعةُ نصفَ المهر، كما لا يبلغ التعزيرُ الحدَّ، والرضخُ السهمَ، والحكومةُ الدِّيةَ.
وقال الشافعي في القديم: أستحب المتعةَ قدر ثلاثين درهماً، وإنما استحب ذلك لأثر ورد عن ابن عمر. وقال الشافعي في بعض كتبه: ينبغي أن يفرض القاضي فيها مِقْنعةً أو ثوباً أو خاتماً. وقال القاضي: أي شيء فرضه بعد ما كان متمولاً جاز.
8556- هذا ما بلغنا من كلام الأئمة.
والذي يلوح لنا فيه بعد بناء الأمر على حطّ المتعة عن نصف المهر أن المتعة كاسمها إمتاعٌ وإتحافٌ يسدّ ممّا تداخلها من الفراق مسداً، وليس في الإمتاع عادةٌ مطردةٌ في الناس، حتى نرجعَ إليها من غير قاضٍ رجوعَنا إلى العادات، في القبوض والأَحراز، وأمور في المعاملات، فهذا يتعلق بنظر القاضي، حتى يَفْرِض قدراً يراه لائقاً، ثم يختلف هذا بالإعسار واليسار، ثم لا ضبط للتقدير، في التعزير؛ فإن التقدير يختلف باختلاف أحوال الناس في عرامتهم وشراستهم، فرب صاحبِ عَبْرة يكفيه تبكيتٌ، ورب عَرمٍ خبيث، لا يردعه إلا الكثير من التعزير، ثم الحد مردٌّ لاعتبار التعزيزات؛ فإنها توقيفات الشرع.
فإن قال قائل: إذا كان المقصود من التعزير التأديب والردع، فمن وصفتموه لا يرتدع؟ قلنا: إن لم يرتدع، فسيعود، وإن عاد، عُدنا، والإمام أقدر على معاقبته، ويدُه على الرقاب، وهو تحت ضبط الإمام.
وما ذكره العراقيون من أن الزوج لو أمتعها بأقلِّ ما يتمول، جاز، خارجٌ عن القانون. وما ذكره القاضي من ذكر أقل ما يتمول مضافاً إلى اجتهاد الحاكم، محمول عندي على ما إذا كان حال الزوج تقتضي هذا، فلا نظن به على علو قدره أن يجوّز إثباتَ أقلِّ ما يتمول من غير رجوع إلى مستند، ثم يربط ذلك باجتهاد الحاكم.
هذا ما عندنا في ذلك، وقد مهدنا المطالب، والرأي فوضى.
8557- ومما أجريناه في الكلام، نصفُ المهر، وهو المعتمدُ الفقيه، فإن لم يكن في النكاح مسمى، فالمعتبر نصف مهر المثل، وإن كان في النكاح مسمى، وفرّعنا على أن المدخول بها تستحق المتعة؛ فننظر في المتعة ونصفِ مهر المثل، أو ننظر في المتعة وهو نصف المسمى، هذا محتملٌ: يجوز أن يكون الرجوع إلى نصف مهر المثل؛ فإن المسمى متعلقه التراضي، والأصل الذي لا تعلق له بالتراضي هو مهر المثل، ويكون رضاها بأقلَّ من مهر المثل عن مسامحة، هذا هو الأشبه، والعلم عند الله تعالى.